لا يمكن أن نتركك وشأنك ،لا يمكن أن ندعك، ولهذا شرع الإسلام الحسبة تنشر خبثك في أوساطنا ،لتكون سبباً في إهلاك الجميع. قضية أنا حر ،هذه ليست في بلاد المسلمين ،إذا أردت الحرية المطلقة ،فابحث لك عن أرض غير إسلامية ،وافعل فيها ما تشاء ،أما في شرع الله عز وجل ،حتى الذي يلي أمر المسلمين ،حتى السلطان. لو أراد أن ينشر خبثه ،أوقف عند حده ،كما قال ذلك الرجل لعمر ،لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بالسيف. وقال الآخر: لا سمع لك ولا طاعة حتى تخبرنا من أين لك هذا الرداء الذي تلبسه.
وبغير هذا فالهلاك والدمار على الجميع ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدراراً وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين .
وقال عز وجل: وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإن أسباب هلاك الأمم كثيرة ،وما ذكرناه في الخطبة الأولى ما هو إلا سبب واحد ،ولعلنا نرجئ الأسباب الأخرى في مناسبات قادمة إن شاء الله تعالى.
إن واقع كثير من البلاد اليوم أيها الأخوة ،والله إنه لينذر بهلاكها ،فالتهور الخلقي قد بلغ منتهاه إضافة إلى انحرافات خطيرة في العقيدة ،مما ترتب عليه انحرافات كذلك في السلوك ،إلى مظاهر خليعة ووقاحة بالغة ،إلى مخامر ومراقص ومقابر في ديار المسلمين ،إلى انتشار الربا ومحاربة الله عز وجل علناً ،إلى فشو الزنا ،الزنا الذي أصبح من الأمور العادية السهلة جداً ،وكأن شيئاً لم يحصل ،إلى تفكك كامل من العفة والصيانة إلى كثرة الفتن بكل ألوانها وأوصافها ،إلى مصائب وويلات تهددنا وتهدد العالم أجمع بالخراب والدمار.
فحالتنا اليوم بحق تستحق العويل والرثاء ،لأن مجتمعنا المسلم الظاهر أصبح في جاهلية جهلاء ،فكل أنواع المعاصي والجرائم والفسوق والفجور ،بل والإلحاد والكفريات على اختلاف أشكالها وألوانها بادية بأحلى مظهر عرفته البشرية ،وذلك لاستيلاء سلطان الهوى على النفوس ،وتوغل الناس في الإنهماك في شهوات بطونهم وفروجهم ،مع اقتفائهم أثر أوربا والغربيين المجانين.
فنسأل الله عز وجل أن يتغمدنا برحمته وأن يأخذ بأيدينا ،وأن يدلنا عليه.
وما أقوله من كلام وأضرب لكم به هذه الأمثلة ليس تيئيساً وتخذيلاً ،وأنه لا فائدة ،ومادام الأمر كذلك فلنستسلم حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. بل إنه مع هذا الشر والخبث فإن الخير ولله الحمد موجود والصالحون غيورون ،لكنهم قليل في مقابل الشر القائم، فنقول مثل هذا الكلام لينتبه الناس وإلا ،فإنه لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.(96/3)
أسباب هلاك الأمم –2-
1341
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/2/1415
النور
ملخص الخطبة
1- من أسباب هلاك الأمم التنافس في الدنيا. 2- من أسباب هلاك الأمم ظهور الربا والزنا. 3- من أسباب هلاك الأمم الشح. 4- من أسباب هلاك الأمم الظلم والتهاون في إقامة الحدود.
الخطبة الأولى
أما بعد:
ومواصلة لما ذكر في الجمعة الماضية. من أن كثرة الخبث مما يهلك الأمم ويزيل الدول ويشقي المجتمعات.إليك أخي المسلم عدداً من هذه الأسباب جمعتها لك هذا الأسبوع.
تبييناً لها ،وتحذيراً من إتيان أسبابها ،ومحاولة لتركها والتوبة منها لو كنا واقعين فيها.
أيها الأحبة في الله:
وعندما نقول بأن هذه أسباب يُهلكَ اللهُ بها الأمم ،ويخرب بها الدول ،فإنا لا نأتي بهذه الأشياء من رؤوسنا ،أبداً.
إنما هو تتبع لنصوص الكتاب والسنة وذكر ما فيهما هذه الأمور تحذيراً للناس ،فمن أخذ بها فهو الناجي ،ومن خالف هذه النصوص فلا يلومنّ إلا نفسه.
وإليكم أيها الأحبة بقية الأسباب كما ذكرنا لكم في الجمعة الماضية ،بأن أسباب هلاك الأمم وخراب الدول وشقاء المجتمعات كثيرة ،وأن الله عز وجل لا يحابي ولا يجامل أحداً ،فأية أمة أتت وفعلت كل هذه الأسباب أو بعضها ،كان ذلك سبباً في هلاكها بأمر الله عز وجل.
وقد تكلمنا في الجمعة الماضية عن سبب واحد من أسباب دمار الدول وهو كثرة الخبث.
نواصل معكم ذكر بقية الأسباب:
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله تعالى عنه ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة عامر بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،انصرف ،فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم ثم قال: ((أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين ،فقالوا أجل يا رسول الله ،قال: فابشروا وأمّلوا ما يسركم ،فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم ،فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)).
إنه التنافس في الدنيا ،والرغبة فيها ،والمغالبة عليها ،وحب الانفراد بها من التكاثر والتفاخر ،إن التنافس في الدنيا ،سبب في هلاك الأمم ،هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ،ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. ((ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم ،فتنافسوها كما تنافسوها ،وتهلككم كما أهلكتهم)).
وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ،عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله ،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو غير ذلك تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون)).
فانظر أخي المسلم ،إلى ماذا يصل التنافس في الدنيا بالإنسان ،نعم يصل به إلى التحاسد ثم التدابر ثم التباغض ،وهذا قمة الدرك الأسفل من السقوط الخلقي ،فيقضي على كرامة الإنسان ،ويحلق دينه حلقاً ،كما ورد في الحديث ،لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين قال الله تعالى: ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير وقال سبحانه: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى .
وهناك صنف من الناس لهم نفوس طيبة صالحة ،ينتفعون بالمال والغنى ،ويكون لهم أعظم بُلغة وأكبر معين على الدين ،وفي هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن العاص الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح: ((نعم المال الصالح للرجل الصالح)).
وهناك صنف آخر من الناس ،همهم هو الدنيا ،حتى صاروا عبدة الدنيا والدرهم ،والبطون والفروج والملذات وهوى النفس ،وفي هؤلاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم ،تعس عبد القطيفة ،تعس عبد الخميلة ،تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش)).
فاتقوا الله أيها المسلمون في ديناكم ،لا يُوصلكم حب المال والجاه إلى حد التنافس غير المشروع ،فإن في ذلك سبب للهلاك ،ولقد هلكت أمم وسقطت دول ،وخربت مجتمعات بسبب التنافس على الدنيا.
ومن أسباب الهلاك العظيمة التي تخرب الديار وتهلك الأمم وتفسد المجتمعات وتقضي على الكرامة وترفع العفة وتخلط الأنساب وتهضم الحقوق وترفع العفة وتخلط الأنساب وتهضم الحقوق وتجلب الفوضى وتنشر الظلم وتخرم النظام في العالم ظهور الربا وانتشار الزنا.
عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ،عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل)) [رواه الإمام أحمد بسند صحيح].(97/1)
الربا مهلك المجتمعات ومورث الأحقاد والعداوات، الربا الذي لم تأتِ جريمة هدد الله فيها بمثل قوله: فأذنوا بحرب من الله ورسوله . أصبح الآن في بلاد المسلمين من الأمور العادية والعادية جداً. بل أصبحت أنظمتها مدعومة ،والجهر بها معلن ،وتعاطيه لا يوجب تعزيراً ولا توبيخا.
الربا الذي ضرب بأطنابه في أراضي المسلمين أكثر مما ضرب تحكيم كتاب الله عز وجل بين الناس أطنابه.
في الحقيقة لا ندري ماذا نقول عن الربا ،ومن أصلاً سيقتنع بكلامك وأنت تتكلم ،أو يسمع لك ،وبيوت الربا أبوابها مفتوحة ،وخدماتها ميسرة ،وإغراءاتها تأخذ بقلوب جميع الناس إلا من رحم الله عز وجل.
أيها الناس: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل)) وقبل هذا قال الله تعالى في كتابه وأخبر عن حال المرابين ،وعلى أي هيئة يقومون فقال عز من قائل: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم .
وقال جل علاه: يا أيها الذين آمنوا تقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله .
فأذنوا بحرب من الله ورسوله - من يستطيع أن يحارب الله عز وجل ،من الذي بإمكانه محاربة الله، إنها والله لداهية عظمى ،وطامة كبرى ،وخزي وذل وهوان وخسارة دائمة وشقاء مستمر، إنها محاربة الله ورسوله ،فما أعظمها من رزية، نعوذ بالله من موجبات سخطه وأليم عقابه، أما عن الزنا فلا تسأل عن انتشاره وكثرته:
الزنا. ذلك الخلق البشع ،والجريمة النكراء ،والأمر الفتاك الهدام ،الذي بسببه تخرب الديار وتشقى المجتمعات ،ويكثر انتشار المرضى بينهم.
تأملوا رحمكم الله في انتشار الزنا في ديار المسلمين ،شرقيها وغربيها ،أليس الحال منذر بالهلاك والدمار ،نسأل الله السلامة والعافية، من كان يتصور أن يأتي يوم على بعض البلاد الإسلامية ،أن يُفتح فيها بيوت الزنا ،كما تفتح المطاعم.
بل من يستطيع أن يتخيل أن أنظمة بعض الدول الإسلامية تحمي الزنا ،وتجعل له مواد مقننة ،فإذا بلغت الفتاة الثامنة عشرة من عمرها وزنت ،فلا عقوبة عليها ولا على من زنا بها ،ولا أحد من أهلها له الحق في المطالبة حتى ولا أبوها ،ومحاكمهم تحكم وتعمل بهذه القوانين.
فهل هناك ظهور وإعلان ،بل ورفع لأمر الزنا أكثر من هذا ،يصل ببعض الديار الإسلامية قلة الحياء والديوثية في ولاتها ومخالفة شرع الله عز وجل علناً ،إلى مساندة ودعم الزنا من خلال أنظمة البلاد ،الزنا الذي ،حتى بعض البهائم تستقبحه وتستنكره.
فلنتق الله أيها المسلمون: فإن لم تكن العودة إلى شرع الله عز وجل ،وتحكيمه ،ويكون الرجوع على مستوى الأمة بأكملها ،وإلا فما يحصل الآن في ديار وأراضي المسلمين أمور ،تُنذر بالهلاك والدمار والخراب على الجميع.
فنسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته ،وأن يُعجل لهذه الأمة فرجها.إنه ولي ذلك والقادر عليه.
سبب آخر من أسباب هلاك الأمم ،وهو ما جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما.أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا الظلم ،فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ،واتقوا الشح ،فإن الشح أهلك من كان قبلكم ،حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) رواه مسلم.
هل تعلمون أن الشح بالمال والبخل به من أسباب خراب الديار؟لماذا؟ وما السبب في ذلك؟لأن الشح بالمال ،يورث الاستبداد به ،ثم كنزة ثم منع حقوق الله تعالى.من الصدقات والزكوات ثم منع حقوق عباد الله ،فإن ذلك من أسباب خراب الشعوب وهلاكها ،ألا يوجد بيننا من منع إخراج زكاة ماله ،بسبب الشح ،ألا يوجد في مجتمعنا من يأكل حقوق غيره بسبب الشح ،كم سمعنا وكم نسمع أن بعض أصحاب الأعمال يظلمون موظفيهم ويبخسونهم حقوقهم ،ويؤخرون رواتبهم بسبب الشح ،ألا يوجد من يأكل حتى أموال بعض اليتامى ، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً .
إن الشح بالمال أيها الأخوة ،لابد أن يسبب الظلم ،إما ظلم النفس وإما ظلم الغير ،ولهذا ربط الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما في هذا الحديث فذكر الظلم في أوله والشح في آخره.
فاتقوا الله أيها المسلمون ،اتق الله يا عبد الله يا من لا تدفع زكاة مالك ،يا من تأكل حقوق غيرك ،يا من تشح بمالك حتى على أولادك لا تكن سبباً في إهلاك نفسك فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.
بارك الله لي ولكم. .
الخطبة الثانية
أما بعد:(97/2)
ومن الأسباب الخطيرة في إهلاك الله عز وجل للأمم وخراب الدول ،عدم المساواة في القصاص وإقامة الحدود بين أفراد الشعب وهضم حق الضعيف والتعدي عليه وإهانته ،ورفع وتقديس الشريف ذي الثروة والجاه والمكانة ،وغض الطرف عما يقترفه من آثام وإجرام ومخالفات.
عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت ،فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فكلمه أسامة ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ،وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ،وأيم الله ،لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) رواه البخاري.
نعم يا عباد الله إن عدم المساواة بين الناس من قبل ولاة الأمور في إقامة الحدود والتعزيرات سبب في خراب الدول وهلاك الأمم.
والحديث قد سمعتموه: ((إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ،وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد)).
والدلالة من الحديث ظاهرة ،حيث أن بعض الأقوام السابقين كانوا يتهاونون في إقامة الحدود ،فيتركون أهل الجاه والرياسة وينفذونها في الضعاف والمساكين ،ولا يساوون في تنفيذها بين سائر طبقات الناس.فأهلكهم الله تعالى وأضلهم ،وأوقع بهم أليم عذابه وأنواع نقمه ،لأن هذا ظلم ظاهر وخروج عن أحكام الله المنزلة على سائر أنبيائه ،فالناس بالنسبة للأحكام الشرعية سواء ،لا فرق بينهم ،لا فرق بين غني وفقير ،ولا شريف ووضيع، ولا عالم وجاهل، ولا صالح وطالح.
فهل هذا مطبق في ديار المسلمين ،هل الناس الآن سواسية فيما يطبق عليهم من أحكام وأنظمة، فليتق الله كل من ولى شيئاً من أمور المسلمين ولينفذوا أحكام الله ،ولا يحيفوا ويجوروا ،وليسووا بين الناس ،ولا يكونوا سبباً لجلب الوبال والهلاك على شعوبهم ،والله تعالى لا يُقدر أي أمة ولا يرفع من شأنها ولا ينصرها وهي لا تعطي حق الضعيف منها ،بل تظلمه وتهضم له حقه.
واسمعوا هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه وغيره: عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال :رجعت مهاجرة الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا تحدثوني بأعجب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ قال فتية منهم: يا رسول الله ،بينا نحن جلوس مرت علينا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قُلة من ماء. فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها على ركبتها فانكسرت قُلتها ،فلما ارتفعت التفتت إليه ثم قالت: ستعلم يا غُدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخرين ،وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون ،فسوف تعلم أمري وأمرك عنده غداً.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت ،صدقت ،كيف يقدس الله قوماً لا يُؤخذ لضعيفهم من شديدهم، كيف يقدس الله قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم)).
فاتقوا الله أيها المسلمون: كيف يطهر الله أمة وينصرهم ،ويرفع شأنهم ،وهم لا يأخذون حق ضعيفهم من قولهم ،كيف يوفق الله أمة وينصرهم ،وهم يحابون فيمن يقيمون الأنظمة عليهم من شعوبهم.كيف يريدون نصر الله لهم على أعدائهم ،وهم لا ينصرون العاجز إذا أكل حقه من ذويهم ،إما في أرض أو في عقار وهم قادرون على ذلك.
فما أعجب حالنا إن كنا نظن أننا مع تمادينا في ذلك ،سوف يرفع الله شأننا ،ويرفع أمرنا.
فلا شك أن من كان هذا حالهم في الظلم والتعدي وهضم حقوق الضعفاء ،وعدم تمكينهم من حاجاتهم كان مآلهم الهلاك المحقق والتأخر والانحطاط وانتصار أعدائهم عليهم.
الله إنا نسألك أن تعجل لهذه الأمة فرجها.(97/3)
أشباه الرجال ولا رجال
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، والصلاة والسلام على خير الأنام.
وبعد:
أيها الأحبة: إننا في زمن كثر فيه الفساد والانحراف، ورأينا مَن يتشبه بالنساء من الرجال، ومن تشبهت بالرجال من النساء، وقد لعن النبيُّ-صلى الله عليه وسلم-هؤلاء. حيث بوب الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت، وساق حديث ابن عباس قال: لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء، وقال: أخرجوهم من بيوتكم. 1
وأورده كذلك حديث أم سلمة في باب: ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة، ونصه: ( عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان عندها، وفي البيت مخنَّث فقال: المخنث لأخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية: إن فتح لكم الطائف غداً أدلك على ابنة غيلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبيُّ-صلى الله عليه وسلم-:(لا يدخلن هذا عليكم)2
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: المخنث بكسر النون وبفتحها: من يشبه خلقه النساء في حركاته وكلامه وغير ذلك، فإن كان من أصل الخلقة ليس عليه لوم، وعليه أن يتكلف إزالة ذلك، وإن كان بقصد منه وتكلف فهو المذموم، وإن لم تُعرفْ منه الفاحشة، مأخوذ من التكسر في المشي وغيره3.
والحديث رواه الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال: "لعن رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء"، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح4. قال شارح سنن الترمذي: "أي المتشبهين بالنساء في الزي واللباس والخضاب والصوت والصورة والتكلم وسائر الحركات والسكنات، من خنث يخنث كعلم يعلم إذا لان وتكسر، فهذا الفعل منهي عنه لأنه تغيير لخلق الله". وقال النووي: "المخنث ضربان أحدهما: من خلق كذلك، ولم يتكلف التخلق بأخلاق النساء وزيهن وكلامهن وحركاتهن، وهذا لا ذمَّ عليه، ولا إثم عليه ولا عيب ولا عقوبة؛ لأنه معذور. والثاني: من يتكلَّفُ أخلاق النساء وحركاتهن وسكناتهن وكلامهن وزيهن؛ فهذا هو المذموم الذي جاء في الحديثِ لعنُهُ"5.
أيها الأحبة: لقد أمر النبيُّ-صلى الله عليه وسلم-بإخراج ذاك المخنث– هيت وهو اسمه وقيل اسمه ماتع كان بمثابة الخادم يدخل إلى أبيات النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن معدوداً من أولي الإربة والرغبة في النساء من الرجال، فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منه ذلك التدقيق في وصف بادية بنت غيلان، وأنها إذا أقبلت أقبلت بأربع عكن من الأمام ( وهي ما تثنى من لحم البطن نتيجة السمنة)، وإذا أدبرت أدبرت بثمان ( أي أطراف تلك العكن الأربع تبدو من جوانبها وهي مدبرة )؛ أمر بإخراجه، ومنعه من الدخول إلى حجر نسائه، وذلك لما يأتي منه مفاسد والتي منها: أنه محتمل أن يصف النساء اللاتي يراهن للأجانب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها" فكيف إذا باشر الرجل المرأة ونعتها للرجال الأجانب، فذاك والله عين الفساد.
ومنها أيضاً أنه قد يتأثر به أهل البيت فيحصل للنساء تشبه بالرجال، أو للرجال تشبه بالنساء كالتكسر في المشي، والخنوع في الصوت، أو الوقوع في منكرات أبعد من ذلك، وكما قال الشاعر:
حنانيك من تجنى عليك وقد تٌعدى الصحاح مبارك الجرب
ولرب مأخوذ بذنب قريبه ونجا المقارف صاحب الذنب
ثم بعد هذا نتساءل ونحن نرى اليوم كثيراً من أشباه الرجال أو أشباه النساء من أبناء المسلمين أو من هؤلاء الخدم أو العمال الذين يستجلبون من بلاد الكفار إلى بيوت المسلمين وأسواقهم ومحلاتهم، نراهم ونحن نعلم يقيناً آثارهم السيئة على أبناءنا وبناتنا ونساءنا، حتى كثرت وتكاثرت في بلادنا جرثومة خبيثة ونبتة ملعونة تعرف بالجنس الثالث، و " لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال ... رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه
شباب يضعون أدوات الزينة، ويلبسون ملابس النساء، ويتطبعون بطابع النساء حتى لا يكاد يميزهم إلا من يعرفهم، فما أعظم الرزية، وأشد البلية بهم، ونحن أمة هي خير أمة أخرجت الناس، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله!!
إنا لله وإنا إليه راجعون.. إنا لله وإنا إليه راجعون..
________________________________________
1- رواه البخاري,كتاب اللباس,باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت,برقم (5436).
2 -البخاري مع الفتح(9/333)كتاب النكاح.
3 - فتح الباري (9/246).
4 -رواه الترمذي,كتاب الأدب عن رسول الله,باب ما جاء في المتشبهات بالرجال من النساء, برقم (2709).
5 - راجع : "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" (8 /70).(98/1)
... ... ...
أصحاب الأخدود ... ... ...
عبد الوهاب الطريري ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- قصة أصحاب الأخدود والعبر فيها. 2- انتقام الله من أعدائه قد يكون في الآخرة. 3- ضآلة الدنيا أمام الآخرة. 4- عقوبات الله في الدنيا متعددة الأنواع والصور. 5- وقفات وعبر في قصة أصحاب الأخدود. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
أيها الناس اتقوا الله حق التقوى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الاْخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:1-7].
إن هذه الآيات تحملُ قصةَ أصحابِ الأخدود، هؤلاء اللذين فتنوا في ديِنهم..
هؤلاء الذين أحرقوا في خنادقِ النارِ مع نسائهم وأطفالِهم.
وما نقموا منهم إلا أن يأمنوا بالله العزيز الحميد.
وكان نكالاً دنيوياً بالغَ القسوة وجريمةً نكراء عندما يقادُ أولئك المؤمنون الأطهارِ إلى خنادقَ وحفر أضرمت فيها النار، هم ونساؤهم وأطفالهم ليلقوا فيها لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله جل وعلا.
حتى تأتي المرأةُ معها طفلُها الرضيعُ تحملُه، حتى إذا أوقفت على شفيرِ الحفرةِ والنارُ تضطرمُ فيها تكعكعت، لا خوفاً من النار ولكن رحمةً بالطفل.
فيُنطقُ اللهُ الطفلَ الرضيع ليقولَ لها مؤيدا مثبتاً مصبراً: يا أمه اصبري فأنك على الحق.
فتتقحم المرأةُ الضعيفةُ والطفل الرضيع، تتقحمان هذه النار.
إنه مشهدُ مريعُ وجريمةُ عظيمةٌ يقصُ القرآنُ خبرها ويخبر بشأنها، فإذا هي قصةُ مليئةُ بالدروسُ، مشحونة بالعبر، فهل من مدكر؟
ولكنا نطوي عبرَها كلها ونعبرَها لنقف مع آيةٍ عظمى، آية عظمى تومض من خلال هذا العرض للقصة، إن هذه الآيات قد ذكرت تلك الفتنة العظيمةَ وذكرت تلك النهايةُ المروعةُ الأليمة لتلك الفئةُ المؤمنة، والتي ذهبت مع آلامها الفاجعة في تلك الحفرُ التي أضرمت فيها النار.
بينما لم يرد خبرُ في الآياتِ عن نهايةِ الظالمين اللذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات:
لم تذكرُ الآياتُ عقوبةُ دنيوية حلت بهم.لم تذكر أن الأرض خسفت بهم.
ولا أن قارعة من السماءِ نزلتَ عليهم.
انتهاء عرضُ القصةِ بذكرِ مصيرِ المؤمنين وهم يُلقونَ في الأخدود.
والإعراض عن نهاية الظالمين الذين قارفوا تلك الجريمة فلم تُذكر عقوبتهم الدنيوية ولا الانتقام الأرضي منهم. فلما أغفل مصيرُ الظالمينَ؟
أهكذا ينتهي الأمر، أهكذا تذهبُ الفئةُ المؤمنةُ مع آلامها واحتراقها بنسائِها وأطفالِها في حريق الأخدود؟
بينما تذهب الفئةُ الباغية الطاغية التي قارفت تلك الجريمة تذهبُ ناجية؟
هنا تبرزٌ الحقيقةُ العظمى التي طالما أفادت فيها آياتُ الكتاب وأعادت، وكررت وأكدت وهي:
أن ما يجري في هذا الكون لا يجري في غفلةٍ من اللهِ جل وعلا، وإنما يجري في ملكِه.
ولذا جاء التعقيبُ بالغ الشفافية:
وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ [البروج:7-8].
فهذا الذي جرى كلِه جرى في ملكِه ليس بعيداً عن سطوتِه، وليسَ بعيداً عن قدرتِه، إنما في ملكه: وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ [البروج:9].
فهذا الذي جرى لم يجري في غفلةٍ من الله ولا في سهو من الله.
كلا… ولكن جرى والله على كل شيء شهيد، شهيدُ على ذلك، مطلعُ عليه.
إذا فأين جزاء هؤلاء الظالمين؟
كيف يقترفون ما قارفوا، ويجترمون ما اجترموا ثم يفلتون من العقوبة؟ يأتي الجوابُ، كلا لم يفلتوا.
إن مجال الجزاء ليس الأرضَ وحدَها.
وليسَ الحياةَ الدنيا وحدها، إن الخاتمةَ الحقيقةَ لم تجئ بعد، وإن الجزاءَ الحقيقيُ لم يجئ بعد.
وإن الذي جرى على الأرض ليسَ إلا الشطر الصغير الزهيد اليسير من القصة.
أما الشطرُ الأوفى والخاتمةُ الحقيقةُ والجزاء الحقيقي فهناك:
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
هولا الذين أحرقوا المؤمنين في الأخدود سيحرقون ولكن أين؟
أين؟ في جهنم.
في جهنم، إن الذين أحرقوا المؤمنين في الدنيا سيحرقون ولكن في الآخرة.
وما أعظمَ الفرقَ بين حريقٍ وحريق!
أين حريقُ الدنيا بنارٍ يوقدُها الخلق، من حريقِِ الآخرةِ بنارٍ يوقدُها الخالق ؟
أين حريقُ الدنيا الذي ينتهي في لحظات، من حريقِِ الآخرةِ الذي يمتدُ إلى آبادٍ لا يعلمُها إلا الله؟
أين حريقُ الدنيا الذي عاقبتُه رضوانُ الله، من حريقِ الآخرةِ ومعهُ غضبُ الله؟
هذا المعنى الضخم الذي ينبغي أن تشخصَ الأبصارُ إليه وهو الارتباطُ بالجزاء الأخروي رهبة ورغبة.
أما الدنيا فلو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربةَ ماء.(99/1)
إن الدنيا هينةُ على الله جل وعلا، مر النبيُ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه معه، مروا في طريقهم فإذا سباطة قوم، تلقى عليها النفايات، الفضلات، الجيف.
فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ينفردُ عن أصحابه ويتجه صوب سباطة هؤلاء القوم ليأخذَ من القمامة الملاقاة عليها جيفة تيس مشوهِ الخلقةِ قد مات، مشوه الخلقة، صغير الأذن قد انكمشت أذنه.
فأمسك النبيُ صلى الله عليه وسلم بهذا التيس الميتَ فرفعه.
ثم أقام مزاداً علنياً ينادي على هذه الجيفة الميتة، فيقول مخاطباً أصحابه: ((أيكم يحبُ أن يكونَ هذا له بدرهم ؟)) من يشتري هذا التيس المشوه بدرهم؟
وعجب الصحابة من هذا المزاد على سلعة قيمتها الشرائية صفر.ليس لها قيمة شرائية ولذا ألقيت مع الفضلات.
قالوا يا رسولَ الله، والله لقد هانَ هذا التيس على أهلهِ حتى ألقوه على هذه السباطة، لو كان حياً لما ساوى درهماً. لأنه مشوه. فكيف وهو ميت؟
لقد هان على أهله حتى ألقوه هنا، فكيف يزاد عليه بدرهم؟
فألقاهُ النبي صلى الله عليه وسلم، وهوت الجيفة على السباطة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((للدنيا أهونُ على الله من هذا على أحدِكم)).
إن الدنيا هينةُ على الله، ومن هوانها أنها أهونُ من هذه الجيفةُ التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهمٍ يسير. فقيمتها الشرائية صفر، ليس لها قيمة.
وإذا كانتِ الدنيا هينةُ على اللهِ هذا الهوان، فإن اللهَ جلا جلاله لم يرضها جزاءً لأوليائِه.
وأيضاً لم يجعلَ العذابُ فيها والعقوبة فيها هي الجزاءُ الوحيدُ لأعدائه.
كلا إن الدنيا أهونُ على الله، بل لولا أن يفتن الناس، لولا أن تصيبهم فتنة لجعل الله هذه الدنيا بحذافيرها وزينتها وبهجتها ومتاعها جعلها كلها للكافرين.
استمع إلى هذه الآيات: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].
أما الدنيا فأهون على الله من أن يجعلها للمتقين جزاء، أو يجعل العذاب فيها فقط جزاء الكافرين.
كلا.. لولا أن تفتن قلوب الناس لأعطى الدنيا للكافرين، كل ذلك قليلُ وحقير وتافه: وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحياةِ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35].
ولكن قلةَ هذا المتاع وضآلته وتفاهته لا تظهرُ إلا إذا قورن بالعمرِ الأبديِ الخالدِ في الآخرة.
هناك تظهرُ قلةَ هذا المتاع.
ولذا لما ذكر اللهُ زهو الكافرين ومظاهر القوة التي يتمتعون بها، وتقلبَهم في البلاد واستيلاءهم عليها، ذكر ذلك وعبر عنه بقوله جل وعل: متاع قليل [آل عمران:179].
لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ [آل عمران:196].
قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر:8].
نعم قليلاً، تمتع بكفرك قليلاً، قد يكون هذا القليل ستون سنة.
قد يكون سبعون، قد يكون مائة، ولكن كم تساوي هذه الومضة في عمر الخلود الأبدي في الآخرة؟
كم تساوي هذه الومضة في عمر أبدي خالد في دار الجزاء.
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادّينَ [المؤمنون:12-13].
قالوا يوماً..ثم تكاثروا اليوم، فرجعوا: أو بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادّينَ .
قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [المؤمنون:14].
كان هذا القليل عشرات السنين، ولكنها أصبحت في عمر الخلود الأبدي في الآخرة يوماً، كلا فاليوم كثير، بعض يوم، بعض يوم وهم مستيقنون أنه بعض يوم فاسأل العادين.
قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:14].
هناك يأتي الجزاءُ الحقيقي.
ولذا كانت آياتُ القرآنِ تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تخاطبه وتلفتُ أنظارَ المؤمنين معه إلى أن القِصاص الحقيقي، والعقوبةَ الحقيقةَ والجزاء الذي ينتظرُ الظالمين والمتكبرين والمتجبرين من الكفار والفجرة والظلمة هناك:
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26].
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ [يونس:46].
قد ترى شيئاً من عقوبتهم، وقد يتوفاك قبل ذلك.
ولكن العبرةُ بالمرجع إلينا، وهناك سيلقون رباً كان شهيداً على فعلهم كلِه، كلِ الذي فعلُوه لم يكن خافياً على الله، كان مطلعاً عليه:
فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ [الزخرف:83].
حينها كيف سيكون حالهم؟(99/2)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:43-44].
وطالما نظرت أبصارهم بجرائه.
وطالما اشمخرت أنوفهم بكبرياء.
أما اليوم فأبصارهم خاشعة، وكبرياؤهم ذليلة، لماذا ؟…. ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:44].
لأنهم في يوم الموعد، لقد وعدوا ذلك اليومَ.
وعدوا به في الدنيا ولكن استهانوا واستخفوا، فما بالوا وما اكترثوا ولا استعدوا فما أسرعَ ما لقوه.
وما أسرع ما شاهدوه.
وما أسرع ما أحاطَ بهم أمره، ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:44]. هنا أيها المؤمنون بلقاء الله جل وعلا تأثرُ هذه الحقيقةُ العظمى في نفسِ المؤمنِ ووجدانِه.
فيعلم أن من اجترأ على الله وإن عاش كما يعيشُ الناس.
بل ومات كما يموت الناس فإن الجزاء الحقيقيَ ينتظر هناك.
إن الدنيا ليست دارُ جزاء ولكن دارُ عمل، وأما الآخرةُ فهي دارُ جزاء، ولا عمل.
نعم قد يعجلُ اللهُ العقوبة لبعضِ المتمردين لحكمةٍ يعلمها.
فأهلك قومَ نوحٍ، وقوم هود وقوم صالح، أهلك أمماً، وأهلك أفراداً.
أهلك فرعون وقارون وهامان وأبا جهل وأبي بن خلف.
ولكن هذا تعجيل لبعض العقوبة، وقد يتخلف هذا التعجيل فتدخر العقوبةُ كلُها ليوفى المجرم يوم القيامة فإذا عقوبته كاملة لم يعجل له منها شيء.
ولكن كل ما قارفَه في الدنيا، وإن عاش في الدنيا كما يعيش الناس، وتمتع في الدنيا كما يتمتع الناس، ثم مات ميتة طبيعية كما يموت الناس فإن كل ما فعله لم يكن يتم في غفلة من الله:
وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم:42-43].
هنا نعلم أنه ليس بالحتم أن تحلَ العقوبةُ بالظالمينَ في الدنيا.
ليس بالحتم أن يعجلوا بالعقوبة.
ولكن الذي نحن منه على يقين أن ظلمَهم واجتراءهم على الله، وانتهاكَهم لحرماتِ الله،لم يجرِ في غفلةٍ من الله.
ثم ليست كلُ عقوبةٍ لابد أن تكون ماثلةً للعيان، فهناك عقوباتُ تدبُ وتسري إلى المعاقبينَ بخفية، تسري فيهم وتمضي منهم وتتمكن من هؤلاء وهم - لمكر الله بهم - لا يشعرون.
قد يملي اللهُ لظالمِ ولكن ليزدادَ من الإثمِ وليحيطَ به الظلمُ، ثم يوافي اللهَ بآثامه كلِها وجرائمهِ كلِها، ليوافي حينئذٍ جزاءه عند ربٍ كان في الدنيا مطلعاً عليه، شهيداً عليه، رقيباً عليه.
وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178].
ليزدادوا إثماً، وانظر إلى عقوبة أخرى:
وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ [التوبة:75-76]. فماذا كانت العقوبة؟
هل احترقت أموالهم؟
هل قصمت أعمارهم؟
هل نزلت عليهم قارعة من السماء؟
هل ابتلعتهم الأرض؟
ماذا كانت العقوبة التي حلت بهم؟
استمع إلى العقوبة:
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [التوبة:77].
كان الجزاء أن أعقبهم الله نفاقاً مستحكماً في القلوب إلى يوم يلقونه، فهو حكم عليهم بسوء الخاتمة.
كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155].
هذه عقوبات تتسرب إلى القلوب في غفلة من الناس ومن الظالمِ نفسه، ولكنها عقوبات بالغة الخطورة.
ولكن العبرة بالمصير، بالمصير، يوم يفضي هذا الظالم إلى الله جل جلاله فيوافي عقوبة لا يستطيع أحد من البشر، من الخلق الذين كانوا في الدنيا يحبونه، ويوالونه وينصرونه، لا يستطيع أحد منهم أن ينصره أو يكفيه أو يتحمل عنه شيئاً من العذاب.
كانوا في الدنيا يقولون له: نحن فداك، نحن نكفيك.
لكن في الآخرة لا فداء لأن الفداء نار تلظى، لأن الفداء نار شديدة محرقة وخلود فيها، فمن الذي يفدي؟
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى الأرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14].
يود ذلك! لكن يأتي الجواب ..كلا:
كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لّلشَّوَى تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى [المعارج:15-17].
فمن الذي عنده استعداد للفداء.
أمة الإسلام، أيها المؤمنون بالله ولقائه نفضي من هذا كله إلى وقفات سريعة:(99/3)
الوقفة الأولى:
أنا إذا رأينا إملاء اللهِ للظالمين وتمكينه للمجرمين فينبغي أن نعلم باليقين وإلا فنحن نعلم بالإيمان أن الجزاءَ مدخرٌ هناك، ولذا فلا دعي للبحث عن كوارث دنيوية تحل بهم.
إنك تشفق على بعض الطيبين عندما تراهم يجهدون أنفسهم في البحث عن عقوبة دنيوية حلت بهذا الظالم أو ذاك المجرم، حتى إذا لم يجدوا شيئاً قالوا الموت هو العقوبة.. كلا.
لقد مات الأطهار والأبرار والرسل الكرام، ولكن العبرة هناك في دار الجزاء.
الوقفة الثانية:
أن لا يغترَ أحدُ بأي مظهرٍ من مظاهر القوةِ أُتيها، فمظاهرُ القوةِ في الدنيا نسبية، ولكنها كلها على تفاوتها تتعطل حينما يوقفُ العبدُ بين يدي اللهَ جل جلاله.
إن الرجل يتمتع بقوة نسبية على المرأة تلك التي لا تملك إلا الدموع تستنصر بها.
لكن عليه أن يتذكر أنه إن ظلمها فلم تستطع أن تنتصر منه في الدنيا ومشى أمام الناس بطوله ورجولته فهناك موعد تذهب فيه قوته وقوامته ويتم القِصاص منه للمظلوم ولو كان ضعيفاً.
يتذكر شرطي المرور أو الدوريات:
أنه عندما يأمر بمسكين إلى التوقيف، ثم يوقف ذلك المسكين دون أن يساءل هو، وإن سئل فهو المصدق، ثم يذهب هو إلى بيته ويجلس إلى أهله ويتناول طعامه.
وذاك في التوقيف يحاول الاتصال بأهله هاتفياً وقد لا يستطيع.
ليتذكر أن هذه القوة الدنيوية ستنمحي، ستنمحي، وسيوقف هو وهذا الذي ظلمه فلم يجد في الدنيا من ينتصر له، سيوقف هو وإياه بين يدي من ينتصر له.
ليتذكر الكفيل غربة العامل وحاجة العامل:
فيجور عليه ويكلفه بما ليس من عمله ويماطله في حقه، ليتذكر أن هذه الفوارق ستنتهي.
وهذه القوة الجزئية التي يتمتع بها ستنمحي.
وهذا الضعف الذي يهيمن على هذا العامل الآن سيذهب.
وسيوقفان جميعاً بين يدي رب لا يظلم أحداً، وليس أمامه تمايز في القوى.
إن القوة التي تستمدها من جنسيتك أو بلدك ستذهب لأنك ستحشر ولكن ليس في بلدك، وستوقف أمام الله وليست معك جنسيتك، ولكن بين يدي رب لا يظلم أحداً.
ليتذكر المسؤول الإداري مهما كانت منزلته، مهما كانت مسئوليته أنه عندما يجور على موظف بنقل تعسفي أو جور إداري وهو مطمئن إلى أن هذا الموظف لا يستطيع أن ينتصف منه في الدنيا، وأن المسؤول الأعلى مصدق له مكذب للموظف المسكين.
ليتذكر أن هذا يدور في أرض لا يعزب عن الله فيها شيء، وأن هذا التفاوت في القوة سينتهي وينمحي وستوقف أنت وإياه بين يدي رب لا يظلم أحداً.
قد لا تفضي إليك العقوبة في الدنيا، قد تنال ترقياتك كاملة ورواتبك موفاة وتنال تقاعدك أو تأمينك بانتظام، بل وتموت من غير عاهة مستعصية، ولكن كل ذلك لا يعني أنك قد أفلت من العقوبة.
التاجر الذي يستغل ذكاءه التجاري فيدلس على محتاج أتى إلى سلعة:
ويستغل عبارة ركيكة مكتوبة في آخر الوصفة (البضاعة التي تشترى لا ترد ولا تستبدل).
ينبغي أن يتذكر أن هناك موقفاً لا تجديه فيه هذه الورقة، ولا ينفعه فيه الذكاء التجاري لأنه موقف بين يدي علام الغيوب المطلع على السر وأخفى.
ليتذكر كل من يتمتع بأي مظهر من مظاهر هذه القوة أن هذه القوة وإن كثرت وقويت فهي تنتهي سريعاً وتمضي جميعاً.
والعبرة بالمثول بين يدي رب تنتهي كل موازين القوى أمامه جل وتقدس وتعالى.
أما أنت أيها المظلوم فتذكر أن الله ناصرك لا محالةَ لأنك في ملكِ من حرم الظلمَ على نفسه، وحرمَه بين عباده، وسينتهي بك المصيرُ إلى يومٍ يقتصُ اللهُ فيه للشاة الجماء من الشاة القرناء، فكيف بك أنت!
لن يفوت شيء من حقك في الآخرة وإن فات في الدنيا.
الوقفة الثالثة:
أن هذا المعنى وهو انتظار الجزاء الأخروي كما هو دافع رهبة فهو دافع رغبة.
توفي زين العابدين على بن الحسين، فلما وضع على لوح الغسل وجد المغسلون في أكتافه ندوباً سوداء، فتفكروا ! مم أتت هذه الندوب في ظهر هذا الرجل الصالح؟
واكتشف الأمر بعد، لقد كان هذا العابد يستتر بظلمة الليل وحلكة الظلام ينقل أكياس الطعام إلى أسر فقيرة لا يدرون من الذي كان يأتيهم بها، عرفوا بعدما مات فانقطعت تلك الصلة من الطعام.
ما الذي يحمل زين العابدين على أن يتوارى بعمل الخير ويستتر به؟
إن الذي يحمله على ذلك انتظار الجزاء الأخروي، يريد أن يوافي ربه بأجره موفوراً.
وكذا كل منا عليه أن يجعل بينه وبين ربه معاملة خاصة، سر بينه وبين الله يجهد جهده أن لا يطلع عليه أحد من الخلق حتى يوافي ربه بعمل يستوفي جزاءه منه.
الوقفة الأخيرة:
وما هي بأخيرة: أن في استحضار هذا الأمر مدد للسائرين في طريق العمل للدين والدعوة إلى الله.
إن الذي يشخص ببصره إلى الجزاء الأخروي ينظر إلى العوائق فإذا هي يسيرة.
وإلى الصعوبات فإذا هي هينة.
وإلى الضيق فإذا هو سعة لأنه ينتظر جزاء أتم وأوفى.(99/4)
قتل مصعب بن عمير، وقتل حمزة بن عبد المطلب فلم يوجد ما يوارى به أحدهم إلا بردة، إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت بها رجلاه بدا رأسه، فأمر نبيك صلى الله عليه وسلم أن تغطى رؤوسهما وأن يوضع على أرجلهما من ورق الشجر.
هكذا انتهت حياة العمل للدين من غير أن يُتعجل شيء من أجورهم أو يروا شيئاً من جزائهم.
ولكن عند الله الموعد وعنده الجزاء الأوفى.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، وأعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل وعلا:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(99/5)
أصحاب السبت
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى ورسوله المجتبى.
وبعد: قال اللَّه تعالى في كتابه الكريم مخاطبًا يهود المدينة: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65) فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين [البقرة: 65، 66].
وقال تعالى في سورة الأعراف: واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163) وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون (164) فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون (165) فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [الأعراف: 163- 166].
هذه الآيات الكريمة جاءت في موضوع واحد وقصة واحدة وجاءت آيات سورة الأعراف تفصيلاً لما تقدم في آيات سورة البقرة، والقرية هي (أيلة) وهي التي يدعونها اليوم «إيلات»، والسؤال هنا المقصود به سؤال توبيخ وتقريع على عصيانهم لعلهم يتوبون أو يرجعون إلى الحق، ولا يعرضون أنفسهم لعقوبات اللَّه التي نزلت بأسلافهم السابقين، فهذا تقرير للحق الذي أنكره اليهود المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم وتحذير لهم من كتمان الحق فيلحقهم من العقوبة ما نزل بإخوانهم الذين اعتدوا في السبت من قبل، وفي هذه القصة دليل من أدلة صدق النبي «محمد» الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكنهم كتموا نبوته، كما كتموا هذه القصة لما فيها من عار وشنار لما حلّ بأسلافهم من سوء أعمالهم.
قال الإمام ابن كثير رحمه اللَّه: «أي واسأل- يا محمد - هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر اللَّه ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم، وهذه القرية هي (أيلة) وهي على شاطئ بحر القلزم». اهـ.
وقال الإمام القرطبي رحمه اللَّه: «وهذا سؤال توبيخ وتقرير وكان كذلك علامة صدق النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ أطلق اللَّه تلك الأمور التي لا سبيل إلى معرفتها بغير الوحي، وكانوا يقولون: نحن أبناء اللَّه وأحباؤه؛ لأنا من سبط إسرائيل ومن سبط موسى كليم اللَّه ومن سبط ولده عزير فنحن أولادهم، فقال اللَّه لنبيه سلهم - يا محمد - عن القرية، أَمَا عذبتهم بذنوبهم عندما غيروا فروع الشريعة؟». اهـ.
[تفسير القرطبي مع تصرف يسير]
وقال أيضًا في موضع آخر: «ورُوي في قصص هذه الآية أنها كانت في زمن داود عليه السلام وأن إبليس أوحى إليهم، فقال: إنما نهيتم عن أخذ الحيتان يوم السبت واتخذوا الحياض فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت فتبقى فيها فلا يمكنها الخروج فيأخذونها يوم الأحد». اهـ. تفسير القرطبي.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم اللَّه تعالى به وحرَّم عليهم الصيد فيه وأمرهم بتعظيمه فإذا كان يوم السبت شرعت لهم حيتانهم ينظرون إليها فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل، وذلك بلاءٌ ابتلاهم اللَّه به فذلك معنى قوله تعالى: ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، وخلاصة ما تقدَّم أن اللَّه سبحانه ابتلى أهل هذه القرية تمحيصًا لهم واختبارًا فكانت الأسماك تأتيهم يوم السبت من كل نوع وتشرع لهم برؤسها، وفي الأيام الأخرى لا يجدون في البحر أي نوع من السمك فاشتد الأمر عليهم، وكانت حياتهم تقوم على الصيد بسبب موقع القرية من شاطئ البحر الأحمر وهم في الأصل قد اختاروا يوم السبت وحرموا على أنفسهم العمل فيه فابتلاهم اللَّه باختبارهم بما سبق.
موقف أهل القرية من هذا الابتلاء:
1- فرقة اعتدت واحتالت وفسقت وكانت هذه الأغلبية، فكانوا يحتالون بوضع شباك يوم الجمعة ليحبس فيها السمك ثم يأخذونه يوم الأحد أو يصنعون حياضًا أو أي حيلة أخرى.
2- جماعة أخرى وهم الناجون أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصحوا هؤلاء وبينوا لهم سوء فعلهم وحذروهم من عاقبته وقاطعوهم في كل شيء بعدما وجدوا منهم إصرارًا.
3- جماعة ثالثة يئست من النصح ومن إصلاح المعتدين، بل قالوا للناصحين كما حكى القرآن عنهم: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا.
وقد ردّ الناصحون ردًّا فيه حكمة وعلم قالوا: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون يعني دعونا نستفيد فائدتين الأولى: نؤدي ما أمرنا اللَّه به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أعذرنا بذلك.
الثانية: لعل الموعظة تأتي بنتيجة مع واحد أو أكثر، والله أعلم.
ماذا كانت النتيجة ؟(100/1)
جاءت النتيجة كما أخبر اللَّه - سبحانه وتعالى-: فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون (165) فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين، هذه كانت النتيجة نجاة أهل الأمر بالمعروف، وعذب اللَّه الظالمين المعتدين بعذاب بئيس ثم مسخهم قردة خاسئين.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه اللَّه: قال اللَّه لهم قولاً قدريًا (كونيًا): كونوا قردة لأن القرد أشبه ما يكون بالإنسان، وفعلهم الخبيث أشبه بالحلال؛ لأنه حيلة فالذي يراهم ظاهريًا يقول ما صادوا يوم السبت فالصورة تخالف الحقيقة فصارت العقوبة مناسبة تمامًا للعمل، هذا موقف الطائفة الناجية، والأخرى الهالكة.
موقف الطائفة الثالثة:
يرى بعض المفسرين: أنها لم تنج لأنها لم تنه عن المنكر فضلاً عن أنها لامت الناصحين لغيرهم.
ويرى جمهور المفسرين أنها نجت، لأنها كانت كارهة لما فعله العادون يوم السبت، ولم ترتكب شيئًا مما ارتكبوه، ويرى جماعة أخرى من العلماء أن الواجب السكوت عنهم كما سكت عنهم القرآن ومنهم الشيخ ابن عثيمين حيث قال رحمه اللَّه: «فاختلف العلماء: هل الطائفة الساكتة أُخذت بالعذاب أم أنها نجت ؟ والذي ينبغي أن نسكت كما سكت اللَّه ويسعنا ما في كتاب اللَّه عز وجل». اهـ.
أخي القارئ الكريم: هذا عرض مجمل لأحداث هذه القصة وما زلنا في حاجة إلى صلى الله عليه وسلم أخرى معها نتأمل أحداثها جيدًا ونستخلص الدروس.
إن المتأمل للآيات الست السابقة يجدها تسجل وتكرر على اليهود أوصاف (الظلم، والتبديل، والاعتداء، والفسق، والتناسي، والاستهانة بالحق، والاستخفاف بنذر العذاب الشديد. وأخيرًا (العُتُوّ).
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.(100/2)
أصداء الانتصار للنبي المختار
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أصداء الانتصار للنبي المختار صلى الله عليه وسلم موضوع حديثنا لأنه موضوع ساعتنا وحديث مجالسنا { آلم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء } .
لا شك أن لهذه الأصداء أثراً مفرحاً في النفوس ، وأن لها - كذلك - أثراً في رفع الهمة والحماسة لنصرة الدين، وذلك لوجوه كثيرة يضيق مقامنا هذا عن حصرها، وعندما سبقت خطبة لي عن الانتصار للنبي المختار ، وردت إلي رسالة من أحد المصلين المحبين ، قال فيها خطبة قوية في أولها ضعيفة في آخرها !
وكثيراً ما يسعدني وينفعني أن أستمع إلى الملحوظات وهذا أمر جميل أن يكون الضعف في آحادنا لكن القوة في مجموعنا، وأن يكون الضعف محصوراً في ما يتعلق بأشخاصنا وذواتنا لكن القوة مذخورة مكنوزة مضاعفة فيما يتصل بسيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
أشار بقوله ذاك إلى أنه لم يكن في آخر الحديث شيء من إلهاب المشاعر ولا تحديد بعض الخطوات، وقد كنت قلت مراراً في كثير من الأمور التي تحتاج إلى عمل، إن من يسأل كيف أعمل في كثير من الأحوال ليس عنده إجابة للسؤال الذي قبله: هل أريد أن أعمل؟ لأن من يريد أن يعمل لن يعدم الحيلة ولا الوسيلة، ولن يعدم الطريقة ولا أن يسأل عنها هنا أو هناك !
ومن هنا رأينا - بفضل الله عز وجل - أن تلك الحادثة وما تلاها من التعقيبات لم يعد صداها محصورا في مسجد كهذا، ولا في مدينة ولا في دولة بل عمت أصداءها شرق الأرض وغربها، حتى ما من وسيلة إعلامية ولا نشرة إخبارية ولا تفاعل دبلوماسي ولا حدث اقتصادي إلا وكان محوره خلال المدة الماضية تلك الإساءة البذيئة الشنيعة التي عرضت لرسولنا صلى الله عليه وسلم وما كان من أصداءها.
وهنا وقفات سريعة فلا يتيح لنا المقام والوقت استيعاب كل ما نريد .
في هذه الأصداء سمات كثيرة من أولها الشمول والتنوع، إنها لم تقتصر على رجال دون نساء ولا صغار دون كبار، ولا تجار دون مستهلكين ولا قادة دون شعوب أو رعية .. بل كادت أن تشمل في تفاعلها وفي ردود أفعالها وفي مبادراتها سائر أفراد وأنواع أمة الإسلام وفي سائر مجالات الحياة المختلفة: سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وذلك من أبرز صور الحيوية والايجابية التي تجلت في أمتنا الإسلامية من خلال هذه الأحداث.
أما الوجه الآخر الذي يمكن أن ننظر إليه فهو أن هذه الأصداء كانت لها جذور وتطلعات، لم تكن منبته عن أصولها - أي الإيمانية العقدية- ولا منقطعة عن جذورها - أي التاريخية - ولا كذلك منبتة أو واقفة عند حدودها، بل هي مستشرفة متطلعة للمستقبل.
وإليكم بعض ما سرني كثيرا ولم يخطر ببالي أن أراه في العناوين الكبرى في بعض الصحف السائرة الدارجة :
عنوان كبير يقول : [ المسلمون يجددون بيعة الرضوان لرسولهم صلى الله عليه وسلم ] ، جميل أن نعود وأن نرتبط بما سبق أن أسلفته في الخطبة السابقة بمواقف الأصحاب رضوان الله عليهم، بأنوار السيرة النبوية التي تضيء القلوب والنفوس والعقول ، كما تضيء العالم والمنهج والسير والمقصد .
بيعة الرضوان روى خبرها سلمة بن الأكوع وغيره، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً غدرت وقتلت رسوله عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان النبي يؤثر في تلك الرحلة العظيمة السلم والموادعة، وقال : ( لا تدعوني قريش إلى خطة يعظمون فيها البيت إلا أجبتهم إليها ) ولم يأتي إلا بالسيوف في قرابها، لم يكن كما يدعي المدعون من الأفاكين، لم يكن دموياً صلى الله عليه وسلم، لم يكن دينه يمثل ما يقولونه من ادعاء الإرهاب والدموية وغيرها، لكنه عندما جاء الأمر إلى العدوان والإساءة وتجاوز الحدود والأعراف والقيم والمبادئ حينئذ تغير الموقف فدعا النبي أصحابه إلى البيعة، - على ما بايعتم يا سلمة بن الأكوع- في الروايات الصحيحة قال: "بايعنا على الموت"، وفي رواية عند مسلم قال: "بايعنا على أن لا نفر".
كم الذين كانوا معه صلى الله عليه وسلم، كما في كتب السيرة أربعة عشرة مائة – أي ألف وأربعمائة- كم الذين بايعوا كم كانت النسبة تسعين بالمائة سبعين بالمائة تسعة وتسعين فاصلة تسعة بالمائة كما هو الرقم المعروف في كثير من أحوالنا السياسية، كلهم بايعوا إلا واحداً ، الجد بن قيس كان ملتصقا ببطن دابته خوفا وفرقاً، تصنيفه ما جاء في السيرة أنه من المنافقين، ما تخلف عن هذه البيعة للنصرة وللفداء وللموت ولإعلاء الدين وللانتصار للاعتقاد لا منافق نسأل الله عز وجل السلامة.
وأعجبني كذلك قول لرجل من رجالات التعليم في بلادنا يوم قال: "لقد وحّد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة حيا وميتا" وذلك من عظمة رسولنا صلى الله عليه وسلم.(101/1)
هل رأيتم قضية اجتمع عليها المسلمون كمثل هذه القضية ؟ هل رأيتم كيف تكلم التجار عملياً ؟ وكيف انتفض المحامون قانونياً ؟ وكيف تحرّك كل الناس شعبياً ؟ وكيف نطقت الإذاعات ؟ وكيف بثت القنوات ؟ وكيف كتبت الصحف ؟ وكيف تحدّث الناس في مجالسهم كأن شيئا لم يكن عندهم فيه اهتمام ولا رعاية ولا عناية إلا هذا الأمر المتصل بأعظم شيء في ديننا ، بأعظم إنسان في حياتنا .. وهو رسولنا صلى الله عليه وسلم .. صورة جميلة أن تمتد إلى تلك الجذور.
وهنا مع هذه الجذور رأينا صوراً أخرى كذلك مشرقة :
كم هي الآيات التي تداولها الناس مما لم تكن تجري على ألسنتهم ولا يتحدثون بها كثيرا، سل اليوم الناس ستجد أن من أكثر الآيات دروجاً على ألسنهم عندما يتحدثون عن هذه الحادثة قول الله جل وعلا: {إنا كفيناك المستهزئين}
القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، كتاب الأبد والأجل إلى قيام الساعة، ما من حوادث مستجدة إلا ولنا فيها شيء نعود فيه إلى كتاب الله عز وجل، قال السعدي في تفسيره :
"{إن كفيناك المستهزئين} أي بك وبما جئت به وهذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، ألا يضره المستهزئون وأن يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة " .
وقال ابن كثير رحمه الله : " فإن الله كافيك إياهم وحافظك منهم " .
سخر الله كل هذه الجموع وكل هذه الأعمال لتكون جزءا يسيرا من نصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن محدود وفي حادثة معينة ؛ لأن ما وراء ذلك أعظم وهو أن أمة الإسلام سائرة خلف رسولها مسترشدة بهديه مستمسكة بسنته ذائذة عنه وعن سنته وعن سيرته عليه الصلاة والسلام.
ومما قاله الشنقيطي في تفسيره ما يبين سعة الأمر واتساعه فإنه قال:
{إنا كفيناك المستهزئين} قال: "وهم من قوم قريش وقد ذكر أهل التفسير خمسة بأسمائهم ورد ذكرهم في سبب نزول هذه الآية، وذكرت السير ما الذي انتهى إليه أمرهم من شر قتلة لما كان لم من أذى واستهزاء واجتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: "ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر في موضع آخر أنه كفاه غيرهم من أهل الكتاب كما في قوله تعالى: {فسيكفيكهم الله} وكذلك في قوله جل وعلا: {أليس الله بكاف عبده}" .
فالنصرة لرسول الله والحماية له مقررة في كتابنا.
وكثيرا ما جاء أيضا في حديثنا في هذه الأيام الاستشهاد بقول الله جل وعلا : {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } .
وهذه الآية في تفسيرها أحاديث كثيرة، منها ما ورد في الصحيحين من أحاديث أم المؤمنين عائشة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الليل وكان يقضاً يتقلب، قالت: مالك يا رسول الله، قال: وددت لو أن أحدا يحرسني - لأن المدينة كانت في حال من الإحاطة بالأعداء ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخاف على نفسه ولكنه يخاف على أمته ودينه- قالت: فسمعت صوت سلاح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا، قال: سعد بن مالك، قال: ما الذي جاء بك، قال: جئت أحرسك يا رسول الله - بمجرد أن تلفظ الرسول بأمنيته ساق الله له ذاك- قالت فنام حتى سمعت غطيطه في نومه "
ولما نزلت هذه الآية { والله يعصمك من الناس } رفع النبي صلى الله عليه وسلم ستر غرفته ثم قال لبعض أصحابه الذين كانوا يحيطون به ويحرسونه، قال:
(انصرفوا فإن الله قد عصمني)
وكان ذلك عصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصمته في دنياه وكذلك فيما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
كثيرة هي الجوانب التي يمكن أن نتحدث عنها، لكنني أقف وقفات سريعة مرة أخرى مع بعض الدروس والفوائد التي نراها فيما مضى من هذه النصرة العظيمة لرسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم:
أولاً: إظهار الإيمان والمحبة والتعظيم الحقيقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب ونفوس المؤمنين، وذلك في صورة ظهرت قوية مؤثرة في المسلمين أنفسهم وظهرت غريبة مدهشة لغير المسلمين، في نظرهم أولئك ألأجل رسومات عابرة تقوم الدنيا ولا تقعد ألأجل مقالة في صحيفة في بلد يبعد تلك الأميال، يقاطعون البضائع ويسحبون السفراء ويتحركون بالمطالبات المختلفة، الأمر بالنسبة لهم غير متصور، وذلك ما سأذكره لاحقا.
أمر ثان من هذه الفوائد المهمة التي نحتاج إليها وينبغي أن نحرص عليها:
ظهور صورة من توحد وتكاتف الأمة المسلمة، وما من شك أن الملمات لها أثر مفيد وأن الأزمات لها توجيه رشيد للأمة في معظم الأوقات.(101/2)
ولعلنا إن وقفنا في ومضة سريعة من السيرة ؛ فإننا نقف أمام حادثة الأحزاب التي تكتلت فيها قوى الأرض المحيطة بالرسول عليه الصلاة والسلام والمسلمين في المدينة تكتلاً لم يكن له مثيل قبله ولا بعده في سيرته عليه الصلاة والسلام، وأشتد البرد والجوع والخوف حتى كان أحدهم لا يستطيع أن يذهب فيقضي حاجته، وحتى ربط النبي صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرين من شدة الجوع .. كرب! لكن ذلك الكرب جعل الصحابة معلقين ثقتهم بالله، واقفين وثابتين ومرابطين مع سيدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما الذي انتهى إليه الأمر، هذه القوة الضاربة من عشرة آلاف من الأحزاب، ربما كان عددهم مثل عدد أهل المدينة كلهم رجالا ونساء وأطفالاً .. {ورد الله الذين كفروا بغيضهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال} .
جاءت الريح أطفأت النيران أكفأت القدور، قلعت الخيام، جند من جند الله عز وجل سُلّط لينصر رسوله ودينه وأمته، وتفرّق الأحزاب بكل قوتهم وبكل الأسباب التي جمعتهم، وسيتفرقوا مرة أخرى في كل زمن نعتصم بالله ونكون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ستأتي ريح أخرى ليس بالضرورة كتلك الريح لا تبقي عدوا إلا وترده على وجه خائباً، يوم نكون كما كان أصحاب الأحزاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم حفروا الخندق معه، يوم جاعوا معه يوم عاشوا الخوف معه، يوم كانوا ثابتين معه، يوم جاء غدر اليهود في بني قريظة فكبر صلى الله عليه وسلم وقال: ( الله أكبر .. الله أكبر ، أبشروا أبشروا ) .
بشّر بأي شيء والعداء مستحكم ، والحصار من كل جانب والعدو عظيم ! بشّر لأنه رأى قلوباً مؤمنة ، وصفوفاً متحدة ، وريادة وقيادة واحدة ، فعلم كما وعده الله عز وجل أن النصر آت ، كيف ؟ لا يدري في أي وقت ! ليس بالضرورة أن يكون معلوماً، لكنه يقيناً { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } .
لكنه يقيناً : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } .
لكنه يقينا : {وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين } .
وتلك وعود ربانية قاطعة لا تتخلف متى وجد شرطها وتحقق متطلبها .
فائدة ثالثة: قوة الشعوب وقدرتها على العطاء.
دائما كنا نقول أين دور الحكومات وأين دور العلماء، نعم كل عليه دور ومسئولية، لكنك تنتظر وتترقب، وتقول لا أستطيع أن أفعل حتى يفعلوا، على أقل تقدير ظهر أنك تستطيع أن تقول كلمة وأن تمتنع من شراء وأن يسري ذلك هنا وهناك، وأن تصبح أو أن تظهر لنا هذه الصورة القوية المؤثرة المعبرة التي رأيناها بحمد الله سبحانه وتعالى.
نقطة مهمة تظهر كذلك وهي أهمية قوتنا الاقتصادية والصناعية، يوم نقاطع تلك البضائع فنشعر أنه ليس من إنتاجنا ما هو مثلها ولا من إنتاج بعض بلادنا الإسلامية فيظهر لنا أهمية الاستقلال الاقتصادي وأهمية التكامل الاقتصادي.
عندما نلغي الآن هذه البضاعة وتلك البضاعة سنبحث عن غيرها، فهل سنذهب مرة أخرى لنبحث عن غيرها عند أمم نعلم أيضا أنها في كثير من صورها تستبطن العداء وتمارسه وهي بقواتها وأسلحتها قد وطأت أرض المسلمين وقد قتلت منهم وأزهقت الأرواح وخربت الديار وسلبت الأموال أم نبحث عن بلد أو عن منتج من بلد مسلم ليكن هذا في ذهنك أخي المسلم، إن كان الله عز وجل قد من علينا أن قاطعنا لهذه الأحداث والأسباب المتصلة برسولنا صلى الله عليه وسلم والتي تظهر لنا عظمته وأثره وبركته عليه الصلاة والسلام فإنه لا ينبغي أن نتحول من حفرة إلى أخرى، ينبغي أن يكون تحولنا إلى بناءنا الذاتي ليكن شعارنا في كل بلد إسلامي نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع، حتى لا تكون لأحد علينا يد ولا تكون لأحد علينا قوة يستطيع أو يظن أنه يستطيع أن يلوي بها ذراعنا، أو يغير بها مواقفنا أو أن يشتري بها ديننا بدنيانا كما يتوهمون.
وتلك مسألة مهمة سيما في تكامل الأمة الاقتصادي لأننا كأمة إسلامية لدينا دول كثيرة ولدينا بحمد الله عز وجل دول متقدمة وتستطيع في تبادل فيما بينها من التجارات وأسباب الاقتصاد والصناعة أن تكون قوة ضاربة تفرض هيمنتها الاقتصادية في زمن لا يتكلم إلا بلغة الدرهم والدينار أو اليورو والدولار كما يقولون.
نحن نستطيع أن نكون أقوى ونحن أقوى بحمد الله في ديننا واعتقادنا وقيمنا وأخلاقنا فلنضف إلى قوتنا أسباب القوة المادية بأنواعها المختلفة وذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، عندما جعل مع قوة الإيمان قوة الوحدة والأخوة ثم جعل بعد ذلك قوة الساعد والسلاح والاقتصاد وغير ذلك من الأسباب التي كانت لها أهميتها.
من الأمور والفوائد المهمة:
إبراز دور الإعلام وأثره الإيجابي إذا تحرك في المسار الصحيح.
كم قضية شغلنا بها من قبل وكانت قضية تافهة، وكم قضية سلط الإعلام عليها الضوء وكانت قضية ساقطة، كم شغل الشباب بالتصويت وما أدراك ما التصويت، لينجح مغن أو ليفوز راقص، ولا تزال في هذا اليوم وفي هذه الجمعة ترون في كل الصفحات إعلانا للتصويت ليفوز مغن ويرفع رأسنا مرة أخرى.(101/3)
كتب أحدهم كتابة أعجبتني تدل على أن للإعلام أثرا يقول: "جئت إلى بيتي فحاصرني أبنائي الصغار يسألون هل قاطعت المنتجات الدنمركية هل فعلت كذا، هل قرأت كذا، قال: فعجبت أن يتحدثوا في الشئون العامة والقضايا السياسية، لماذا؟ يقول هو في هذا التعبير الذي أقول إنه يمثل لنا صورة حية لهذا التأثير هذه الأحداث الجسام هي التي تشكل وعي أبناءنا وهي التي تجعلهم يهتمون بشأن الأمة العربية والإسلامية بعد أن عمدت معظم القنوات الفضائية إلى تهميش اهتماماتهم وتستطيح قضاياهم من خلال بث وتركيز متعمد على حياة المشاهير من المطربين والمطربات ونجوم الرياضة من اللاعبين حتى بات معظم الشباب من الجنسين على دراية تامة بأدق تفاصيل تلك الشخصيات التي أقل ما يقال عنها: إنها لم تضع لبنة واحدة في بناء المجتمع وتقدمه ولحاقه بركب الحضارة والتطور التكنولوجي.
آن لأبنائنا وبناتنا وشبابنا وشاباتنا أن ينظروا إلى القضايا المهمة وأن يعيشوا هموم الأمة وأن يرتبطوا بدينهم وأن يلتصقوا بتاريخهم، وأن يعرفوا من هم وأتباع من هم وما هو تاريخهم، أن يرفعوا رؤوسهم بإيمانهم، أن يعتزوا بانتسابهم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، أن يعرفوا أنهم أمة الإسلام التي أكمل لها الدين وأتم عليها النعمة، أن يعرفوا ما قاله ربعي بن عامر: "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " وذلك ما نريد أن نجعله رسالة للأعلام.
ومن اللطيف أيضا، ما سأذكره لكم لنرى أن بعض الصور ليست بالضرورة أن تكون حقيقية لكنها ما دامت قد جاءت في تيار عارم فإنها تضطر إليه، إحدى القنوات الغنائية الشهيرة، اتصل بي أحد من طرفهم وذكر اسمه وهو اسم من دلالته ليس مسلما، وقال: إننا سنقدم برنامجا على الهواء لقضية الإساءة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قناة غنائية تبث الغناء والرقص أربعاً وعشرين ساعة في كل يوم، ويتحدث رجل غير مسلم ليقول إنه يدعو للمشاركة لحلقة للإساءة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أدري ما صحة هذه النسبة لكن أعجبني في آخر الأمر أن هذه القنوات وجدت نفسها مضطرة أن تغير شيئا من سياستها أو قليلا من برامجها وأن تعيش همّ الأمة لأنها إن لم تكن كذلك، فإنها كما يقولون ستكون خارج التيار، ومن هنا وإن كان ذلك كنت أريده متأخرا، أقول من هنا، إن المقاطعة التي رأينا أثرها نحتاج إلى تعميمها، ولا أقول تعميمها في البضائع، إن قاطعت لأجل الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقاطع كل ما يخالف هديه وسنته، وكل ما يصرف الناس عن الاقتداء به والتخلق بخلقه والاستمساك بدينه والاعتصام بشريعته صلى الله عليه وسلم .. قاطع القنوات الماجنة، ألست تدفع أموالا في الاشتراك، كما تشتري تلك الزبدة أو ذلك الحليب، امتنعت عن المال لأنه قلت إنه ربما بطريق غير مباشر يعد عدم التفات واقتراف لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إعانة على العدوان والإساءة إليه، فما ظنك بمن يحارب الخلق والفضيلة والالتزام يأتي في الأقوال والكلمات بأمور مخالفة لدين ولهدي ولحياء خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أليست هذه كهذه أيها الأخوة، لنكن صرحاء إننا في حاجة إلى أن نلتفت أن لا يكون انتصارنا أو غيرتنا الدينية عبارة عن مساحة معينة أتيحت فيها الفرصة أو جاءت لها الأسباب ثم بعد ذلك نغض الطرف وننام كأن شيئا لم يكن في أمور أخرى كثيرة ولذلك قلت إن قاطعنا اليوم، فلا ينبغي أن نتحول إلى ما هو أشد، في عدائنا وهجومه على إسلامنا من أمم كثيرة لا يحتاج المقام إلى سردها أو ذكرها، وكلنا يعلم على أقل تقدير عدوان الصهاينة في أرض الإسراء والمعراج في أرض فلسطين، كل ما يتصل بهم وكل ما يعينهم وكل ما يقويهم ينبغي أن يكون موضع مقاطعتنا اقتصادية وفكرية وثقافية.
وهنا نعود مرة أخرى ونقول أيها الأخوة من يكره من، كما كتب أحد الكتاب، من الذي يثير العنصريات والكراهيات هل هم المسلمون وهل رأيتم مسلماً واحداً تكلم يوماً على نبي من الأنبياء بالانتقاص أو الازدراء كلا ؛ لأننا نقرأ في كتابنا {لا نفرق بين أحد منهم}
ولأن رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وخاتم الأنبياء وأفضلهم يقول: ( لا تفضلوني على غيري من الأنبياء ) تواضعا منه صلى الله عليه وسلم ، ( لا تفضلوني على يونس بن متى ) كما ورد في الحديث الصحيح.(101/4)
إذاً نحن نقول هنا ما يذكرونه وشنعوا عليه القول من الولاء والبراء هو قضية فطرية طبعية ؛ فضلاً عن كونها عقدية دينية وليست تعني عدوانا ولا هجوما ولكنها تعني أن من أساء إلي وأن من يناصبني العداء وأن من يفكر ويخطط ليل نهار، من نفذ عدوانه على أرضي وبلدي واحتلها واغتصبها وشرد أهلها كيف يمكن أن أكن له المودة والمحبة، كيف أصافحه بيدي وأعانقه وأحتضنه، وتظهرني الشاشات وأنا أبتسم معه، بل وأتفقد حاله وأسأل عن صحته، بل وأرى أنه شريكا إلى غير ذلك مما سمعناه.
إن القضية في جزئها السياسي ينبغي أن تكون غير خادعة للمسلمين، نعرف الواقع نعرف الضغوط، لكننا ينبغي أن نسلك المسلك الصحيح في منهجية كاملة شاملة ينبغي أن نحرص عليها وأن نلتفت إليها بإذن الله عز وجل.
ولذلك أقول علينا أن نلتفت إلى معنى الإساءة والعدوان ونطبقه في كل المجالات ونعرف كيف نتعامل معه، لا ينبغي أن يكون هذا محصورا في جانب واحد وكذلك أن ننظر إلى المزية الكبرى التي ظهرت لنا في هذا المعنى وهو أننا نقدم ديننا على كل شيء، وأننا نقدم محبتنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم على مصالحنا الذاتية، كانت مواقف مشرقة من أولئك التجار الذين بدؤوا وبادروا وأعلنوا مقاطعتهم وأخرجوا البضائع، وتبعهم غيرهم، وكانت مبادرة أيضا جميلة أن الشركات كلها يعلن براءته وأنه لا صلة له بالدنمرك أو بغيرها .. لماذا ؟
لنقول إننا جميعا نستطيع أن نقول وأن نحرك وأن نغير في واقع أمتنا كما نغير كذلك في واقع ما هو محيط بنا سواء كان من أعداءنا أو كان من المحايدين معنا، ولا شك أنني هنا أقول ليس بالضرورة أن نعمم ذلك على كل الشعوب، بل من الآثار ما دل على غيره، ليست الشعوب الغربية كلها كأفراد كارهة ومبغضة للإسلام بل يعمها جهل عميم، بل عند كثير من أبنائها وأفرادها سلامة نية وجهل يمكن أن يكون سببا للدعوة.
ومن هنا كتب أحدهم في الصحافة الدنمركية قال: "لا بد أن لا نسمح لفئة قليلة أن تسيء إلينا نحن الدنمركيين بأن تقدمنا على أننا أعداء للإسلام أو أعداء للديانات، ودعا إلى أن تكون هناك حملة للتبرعات من الدنمركيين يشارك فيها الشعب دون الحكومة لبناء مسجد للمسلمين للتعبير عن حسن النية وأنه كشعب لا يرضون بذلك " .
وتجاوب عمدة العاصمة وعلق على ذلك، وقال نحن نوافق على هذه الفكرة وسوف نخصص أرضاً من قبل أمانة العاصمة لهذا المشروع وندعوا إلى التكامل فيه.
لا شك أننا نحتاج أن نميز لا شك أننا نحتاج أن نشكر من أحسن أو من أنكر حتى من غير أهل ملتنا وديننا، ليس القوم كلهم على شأن واحد.
والنبي صلى الله عليه وسلم الذي ننتصر له كان قمة السماحة وقمة البراءة من أن يكون عليه الصلاة السلام مبغضا لكل أحد ومعاديا لكل أحد، كلا! لكن من عادانا نعاديه.
وهذا الضغط العام مطلوب لأنه هو الذي أثر هو الذي أسمع الناس، ومن هنا فالفرصة واسعة اليوم لكي نملأ هذا الفراغ للجهل الذي عندهم جهلا بعلم نعرفهم بإسلامنا برسولنا صلى الله عليه وسلم، بقيمنا ومبادئنا، بمواقفنا الحقيقة الإسلامية تجاه غيرنا، ولسنا في ذلك نزايد أو نقول وندعي وفقاً للأحداث المعاصرة بل نحن راجعون إلى ديننا.
نسأل الله عز وجل السلامة أن يردنا إلى ديننا رداً جميلا، وأن يقوينا بإيماننا ، وأن يقوينا بوحدتنا وترابطنا ، وأن يقوينا بالتزامنا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وانتصارنا له ولسمعته ولمكانه ومقامه وقدره عليه الصلاة والسلام.
أقول هذا القول واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون
ولعلي أسأل سؤالا هنا فيه غرابة لأنتقل منه إلى أمر مهم نحتاج إلى معرفته، هل سمعتم يوما أن مسجداً يباع؟ أو مسجدا يغلق ويتحول باختيار المسلمين إلى شيء آخر؟ أظن إجابتكم ليس هناك مثل هذا.
لكن الكثيرين منكم سواء قرؤوا أو سمعوا أو ربما رأوا ذلك في البلاد التي زاروها أو عاشوا فيها فترة من الزمن، سمعتم كثيرا أن كنائس تباع وأن كنائس تغلق وأن كنائس تحول إلى أشياء استثمارية لمصلحة الكنيسة ما الذي أريد أن أقوله بذلك، نحن نصف واقعا، نحن لا نحتقر أحدا ولا نزدري أحدا لكن القوم في تلك الديار لم تعد لهم صلة بدينهم قوية ولا معرفة به، حتى تلك الديار قد صار فيهم استفتاءات من قبل ووجد أن الغالبية العظمى من أهلها يصنفون بأنهم لا دينيين، ليس لهم دين، لا يرتبطون بكنيسة ولا يذهبون إليها، ولذلك نفهم حينئذ ما يقولونه، عندما يقول أحدهم : إننا سبق أن تهكمنا أو كتبنا عن المسيح عليه السلام ولم يحصل شيء من ذلك، لماذا أنتم المسلمون تفعلون هذه الأفاعيل؟
أقول : فهمهم أن دينهم بعيد عن حياتهم وارتباطهم ومعرفتهم بأصول دينهم على ما نحن نعتقده من وجود التحريف فيه ليس بقدر كاف، ولذلك لا يعنيهم الأمر.(101/5)
ثم لماذا يريدون أن نكون مثلهم ؟ نحن أمة نعتز بديننا ، ونعتز برسولنا صلى الله عليه وسلم ونؤدي صلاتنا في مساجدنا كل يوم خمس مرات وجمعنا تجمع الآلاف والملايين في كل جمعة في كل أصقاع الأرض، نحن أمة دين أمة عبادة، إن تركتم دينكم وعبادتكم فذلك شأنكم، لكنه ليس من الإنصاف ولا من العقل أن تجعلوا الناس مثلكم، يقولون لنا اجعلوا الدين جانبا، وعيشوا في الحياة كغيركم في شأن الدين وفي شأن الاعتقاد .
لذلك هم لا يفهمون ولا يستطيعون أن يستوعبوا ويندهشون ويستغربون ؛ لأنهم ليس عندهم مثل ما عندنا، وهذا موضع قوة وانتصار لنا، وموضع حمد وشكر لله عز وجل أننا أمة دين وأمة اعتقاد لا يعيش الإنسان في هذه الحياة ليكون عبدا لشهوته وفرجه وطعامه وشرابه ثم يموت كالبهيمة - نسأل الله عز وجل السلامة - بل يعيش لعقيدة ومبدأ وغاية ورسالة ويكون صاحب مبدأ عظيم يهون لأجله كل شيء من عرض الدنيا، وهذا مبدأ مهم، فإن فهم الغربيين في كثير من الأحوال لارتباط المسلمين بدينهم فهم مغلوط غير واضح مشوش ؛ لأنهم ليس عندهم أشياء تربطهم بدينهم في واقع حياتهم في الجملة وفي الغالب الأعم، ولذلك لا يفقهون كثيرا من هذه المعاني.
ومن هنا يقولون إنها حرية تعبير ويقولون إنهم يستطيعون أن يستهزئوا أو أن يفعلوا شيئا من ذلك والعياذ بالله ونحن نقول لو أنهم قرؤوا ما عندنا عن المسيح عليه السلام وليس ما عندهم، وعن موسى عليه السلام، لرأوا أن تعظيمنا لموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أعظم من تعظيمهم حتى في أصول كتبهم لما فيها من التحريف لأننا نعلم أن التحريف نال من مقام الله وذات الله عز وجل، فضلا عن مقام الرسل والأنبياء.
ولذلك نسأل عن حرية التعبير، هل تستطيعون أن تنتقدوا اليهود أو الشخصية اليهودية؟ وتعادون السامية كما يقولون، لقد أجابوا بصراحة لا لا، لماذا لا هنا ونعم هناك؟ أمر غني عن الإجابة، بقي أن أقول إنه مرة أخرى قد يقول لي قائل آخر الخطبة ضعيف أقول إنه من المطلوب منا مزيد من العمل، لا لأجل هذه الحادثة أو تلك الرسومات وقد انتشرت أو نشت في كثير من الدول الغربية مرة أخرى سواء كان بقصد الاستهزاء أو بقصد المتابعة الإخبارية لا يهمنا.
أولاً: ركزوا على المقاطعة الدنمركية أو النرويجية لئلا نتشتت فيذهب أثر القوة الذي ننشده.
وثانيا: لا للاعتذار ولا فائدة منه لأننا نريد أن نبقى على قوة ووحدة ويستمر هذا العمل ليكون ذا أثر حقيقي ونغير، فإذا قاطعت اليوم ورجعوا عن اعتذارهم الرجوع بهذا الاعتذار إذا كان عن ضغط وقهر لم يغير المواقف لم يغير الإساءة لم يغير قصد الإهانة لم يغير كثيرا من الأحوال.
وأنا قد استغنيت عن هذا فترة من الزمن ما استغنيت عنه أستطيع أن أستغني عنه طول العمر وأغير وأبدل ويكون لي موقف له أثر إيجابي تربوي بغض النظر عن هذه الدولة أو تلك الدولة.
أمر مهم وهو في نظري من أهم الأمور : كيف نواصل نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم ؟
ليس بالرد بل بالمبادرة ، نريد أن نعرف بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وفضائله وحضارته وقيمه لكل الناس في كل اللغات .. أليس جدير بنا أن يكون هذا الحدث منبه لنا أننا لم نخدم سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم نخدم ديننا كما ينبغي ولم نوصله إلى الناس كما ينبغي !
ولذلك ننظر أيضا إلى هذه النصرة في واقعنا، هل نحن متمثلون بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم هل نحن متمسكون بسنته ؟ هل نحن سائرون على هديه ؟ هل نقف مواقفه ؟ هل نقول مقالاته ؟ هل نتأسى به – فعلاً - في صغير الأمور وكبيرها، لو كان الأمر كذلك؟ لحلّت جميع مشكلاتنا ..
لم لا نراجع هذا الأمر أيضا، لم لا نجعل المقاطعة هي مقاطعة لكل مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نقاطع كل ما يكون من ذلك .
وهنا أيضا أقف وقفة مهمة لأرى أن هذا الحدث كان له فائدة في بيان المواقف.
كتب أحدهم يقول بمعنى الكلام : قامت الدنيا ولم تقعد . ويقول: لو أننا سكتنا وغضضنا الطرف لمر الحادث يسيرا ولما حصل شيء من هذه الأمور التي لا نفع فيها ولا جدوى.
هكذا كتب في صحيفة من صحفنا المحلية.
وكتب آخر يقول في شأن المقاطعة لماذا تقاطعون؟ وهل كل الناس رسموا الرسوم {ولا تزر وازرة وزر أخرى}(101/6)
ونحن نقول كيف سنوصل رسالتنا ، وكيف سنعبر عن إرادتنا بمثل هذه المعاني، والعجيب أن صحيفة فرنسية أعادت نشر هذه الرسوم والذي علق عليها كاتب اسمه عربي مسلم، وقال في كتابته إنه يرى في هذه الصور شيئاً مريباً لكنه ينبغي أن يدافع عن حرية التعبير، وأنه لا يمكن أن نقيد الناس، كما قال بعض الغربيين كيف تقيدوننا بأحكام دينكم كيف تحكمونا بأحكام دينكم ونحن هناك قلنا لا نحكمكم بديننا ولكننا نقول افعلوا ما شئتم أنتم تبيحون الخمور وتبيحون الزنا في دياركم ، لم نحكمكم يوم نحكمكم يكون لنا شأن آخر، لكنكم إذا جئتم لتسيئوا إلينا نقول إنكم دخلتم علينا، جئتم إلينا فلا بد أن نأتي إليكم وأن نرد عليكم، وليست القضية بالمناسبة أمرا نريد به إثارة العداوات والبغضاء كما هو التشنيع العام أو كما هو الخروج عن حدود الأمر المشروع، نحن اليوم انتصرنا لأننا كما يقولون بلسانهم عبرنا تعبيرا حضاريا، من يستطيع أن يقول لا بد أن تشتري أنا لا أريد.
إذاً لا أحد يستطيع أن يقول إنني أمارس بمفهومهم بغضا أو عنصرية أو حقدا أنا أمارس اختياراً حرّاً لي ليس لأحد علي فيه شيء، ولذلك عندما أعرف بالنبي صلى الله عليه وسلم عندما أقول إننا معاشر المسلمين نعظم الأنبياء جميعا ونؤمن بهم جميعا لا نفرق بين أحد منهم، ونحن أيضا نؤمن بالرسالات والديانات في أصولها التي أنزلها الله عز وجل عليها، ونعلم أنها من هداية الله للخلق والبشر حتى نقول حينئذ، ما موقفكم أنتم، هل تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته وبعثته وأنه خاتم الأنبياء هل تؤمنون بأن هذا دين من الأديان السماوية، على افتراض أننا نجعلكم على هذا المستوى، أقول سنجد أننا في كل فضاء حر نكسب لأن الحق معنا ولأن الحق في ذات ما أنزله الله في كتابه وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولعل هذه الأحداث تجعل بيانا للحواجز التي أزيلت، أستطيع اليوم أن أخاطب أي إنسان في الدنمرك أو في النرويج أو في غيرها من خلال وسائل الاتصال الحديثة، فهبوا في صورة عملية لنصرة نبيكم.
وقد كان لنا عمل بفضل الله عز وجل مع جمع من الأخوة ويستمر هذا العمل، ومن أراد أن يجعل له حضا ونصيبا فالفرصة متاحة والأبواب مشرعة ، وفي مسجدنا هذا عمل وفي غيره كذلك شيء كثير .
نسأل الله عز وجل أن يسخرنا لنصرة دينه وأن يسخرنا للانتصار لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته وأن يؤلّف بين قلوبنا ويوحد بين صفوفنا.(101/7)
أصداء الحوار مع شباب الصحوة
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المقدمة
وهذا العنوان ينبئ بارتباط موضوع اليوم بالدرس الذي سلف بعنوان [حوار هادئ مع شباب الصحوة ]، فدرس اليوم رجع الصدى لذلك القول ، والمسائل التي ذكرناها فيما مضى ، وقد كانت هناك مشاركات عدة، حاولت تلخيصها ، وضم المتشابه منها بعضه مع بعض ، حتى تنتظم في جملة قضايا ومسائل ، يمكن عند معالجتها وذكرها أن نلمّ بما أشار إليه الأخوة وما سألوا عنه، وما طلبوا من ذكر القول والتفصيل في المسائل التي عرضوا لها، وقبل أن أذكر تفصيلاً للقضايا أحب أن أؤكد على أمور مهمة .
أولاً : أن ما مضى من الموضوع الذي سبق وهذا وغيره أيضاً، إنما الباعث عليه - بعون الله تعالى - النصح وإخلاصه ، والغرض هو تقويم المسيرة ، ونحن كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( الدين النصيحة ) نحتاج بالفعل دائماً إلى أن نقوِّم بعضنا بعضاً ، وأن ننصح بعضنا بعضاً ، وليس في ذلك غضاضة، بل هو من واجب المسلم تجاه المسلم، ومن نفسية المسلم أن يتقبل النصح من إخوانه، بل ربما سعى إلى طلب النصيحة ، وهذه سير سلف الأمة ، وأعلام الأئمة ، الذين كانوا يقبلون النصح ، بل يطلبونه من غيرهم .
ثانياً : أن المسائل التي ذكرت إنما هي أمثلة للتوضيح، لم يكن المراد منها الحصر ، ولا أنها تشمل كل القضايا المهمة ، والتي يحتاج إليها الشباب ، أو تدور في أوساطهم .
ثالثاً : أن القضايا التي تم اختيارها ، أو ذكرها، كان الاجتهاد فيها أنها من باب الأهم قبل المهم، وأنها من الأولويات والموضوعات الأكثر ذكراً ووروداً ، وأخذاً ورداً بين كثير من الشباب، ولذلك يعتبر هذا الموضوع تتمة، وقد قسمت ما جاء فيه إلى عناوين رئيسة، وتحتها بعض هذه المسائل .
البند الأول : قضايا جديدة
يعني أن هناك مشاركات وكتابات لبعض الأخوة ، تعرضت لقضايا لم نذكرها فيما مضى، ومنها العمل الدعوي الجماعي ، ووسائل ثبات الصحوة، وبين علم الشرع وعلم الواقع، وبين الوسائل والغايات .
البند الثاني : مخاطر ومخاوف
وفيه قضايا مهمة
1 ـ التكفير والتبديع .
2 ـ التنازع والخلاف .
3 ـ الإسقاط والمصادرة .
4 ـ الحيرة والاضطراب .
5 ـ التعصب والحسد .
6 ـ التزكية والعصمة .
البند الثالث : مطالبات وتوجيهات
ينتظم في جملة مسائل
المسألة الأولى : التعامل والدعوة مع العامة .
المسألة الثانية : الدعوة والاهتمام بالأهل .
المسألة الثالثة : التفاعل والبذل في سبيل الدعوة .
البند الرابع : تساؤلات ومقترحات .
وردت تساؤلات عن قضايا محددة فيما مضى ، وبعض المقترحات نذكرها ، ونختم بها - إن شاء الله - .
في الحقيقة هذه المسائل كلها لها أهميتها ، وفيها كثير من القول ، وسأذكر بعض المشاركات بنصها عند الحاجة إلى ذلك ، أو لبيان خلاصة ما كان من قول ومشاركة الأخوة - جزاهم الله خيراًَ - .
البند الأول : قضايا جديدة
القضية الأولى : العمل الدعوي الجماعي
فقد كانت كثير من المشاركات تتحدث عن الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى - في إطار الجمعيات الإسلامية ، وفي ظل التعاون على البر والتقوى، ومحاولة الاستفادة من الجهود ، وضم بعضها إلى بعض ، والحرص على الانتفاع بتجربة الآخرين، وإعانة الأخ لأخيه وتقويته له في هذا السبيل، وكانت كثير من المشاركات تذكر إما مدحاً وثناءً على هذا الجانب ، أو قدحاً وذماً له، وكأن غاية الأمر إرادة معرفة قول أهل العلم في مثل هذا، ولذا اجتهدت في جمع بعض فتاوى علمائنا ومشائخنا وأهل العلم أيضاً من غيرهم، لنسلط الضوء على مثل هذا الأمر، لعل في ذلك ما يكشف جلية الأمر ، ويزيل بعض الحيرة والاضطراب، وكذلك أتممه بنوع من الفوائد اللاحقة بذلك .(102/1)
هاهنا جملة أذكر بعضها قراءةً ونصاً ، وأحيل إلى بعضها ربما في مراجعها، وهذه بعض الفتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء والدعوة والإرشاد، وبعضها متفرق في أزمنة مختلفة ، أذكرها بأرقامها وتواريخها أيضاً، هذه فتوى برقم 7831 في 3/12/1404 هـ، كان السؤال يستفتي المفتي وهذه نصها " هل الأحزاب السياسية مباح تأسيسها وعضويتها ، أم مندوبٌ إليها ومستحب تأييدها، أم حرام تأسيسها ومناصرتها ؟ "، وأشارت الفتوى إلى فتوى سابقة نصها " الإسلام يدعوا إلى الوحدة ، وأن يكون المسلمون على قلب رجل واحد، يعتصمون بحبل الله ، ويهتدون بهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً وعملاً ؛ فإن ذلك أقوى لهم ، وأنكى لعدوهم ، قال الله - عز وجل- : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } وقال تعالى :{ وأطيعوا الله ورسوله ولا تفرقوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } . لكن الاختلاف ظاهرة كونية ، ذلك بأن عقول الناس وأفكارهم قد تباينت ، وأن عواطفهم وميولهم قد اختلفت، وأن الأهواء المرذولة والعصبيات الممقوتة ، قد تسلطت عليهم، وتمكنت من نفوسهم ، فمزقتهم شر ممزق ، فكان اختلافهم سنة كونية ، لا مناص منها إلا بحول من الله ، فمن كان اختلافهم عن اجتهاد سائغ ، وتأويل مقبول ، ولم يمنعهم من التفاهم والتآخي بينهم ، فأولئك هم أهدى سبيلا ، وأقوم قيلاً ، ومن كان اختلافهم عن هوى مضل ، أو عصبية جاهلية، فأولئك شر مكاناً ، وأضل سبيلاً .
ويجب على المسلم أن يتعاون مع كل الجماعات الإسلامية ، فيما لديها من حق وصواب ، وأن يجتنبها فيما وقعت فيه من خطأ و انحراف ، وأن يجتهد في إرشادها ، وبيان الحق لها بالحكمة والموعظة الحسنة ، عسى الله أن يهديها على يديه سواء السبيل، ومن أراد أن يلتزم جماعة معينة منها ، فليلتزم أسعدها بالحق ، وأتبعها لكتاب الله وهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم - رضي الله عنهم أجمعين - ، مع مخالفتهم فيما علم أنه مخالف للحق ، والنصح لهم في ذلك وبالله التوفيق " . فهذا القوس نجد أن مضمونه متكرر في هذه الفتاوى التي سأذكر مزيداً منها ، إذ القول يرجع الحكم في مثل هذا إلى ما هو مجتمع عليه؛ فإن كان الاجتماع على الحق والخير ، والتعاون على البر والتقوى ؛ فإن ذلك محمودٌ لا لذاته ، بل لكونه محمود في أصل الشرع لأمر الله - سبحانه وتعالى - ولهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إن المرء إنما يتعبَّده الله - عز وجل – بكتابه ، وبسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا بقول أحد كائن من كان، ولا بفرقة كائنة من كانت، وإنما ما كان مبنياً على اجتهاد سائغ مقبول ، في أمر من أمور الخير، وبذل في سبيل الدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى - ؛ فإن الإنسان يسعى ويحرص إلى متابعة الأوفق للحق ، والأقرب إلى الصواب ، والأسعد باتباع كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولا تمنعنّه الموافقة والمتابعة في هذا الخير الكثير، أن يخالف إذا وجد مخالفة لأصل الشرع ، وأن يكون همه وحرصه أن ينصح وأن يبذل النصح لمن وافقهم في أصل الخير، حتى يكون في هذا التناصح تكميلاً للخير وحيازة له .(102/2)
ثم أيضاً سؤال واستفسار ورد لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وأجاب عنه وهذا نصه: " سائل يسأل ، وهو في بلد غير هذه البلاد، يقول : في الجامعة جماعتان هما جماعة اتحاد طلبة المسلمين ، وجماعة التبليغ ، وأيّتهما الجماعة التي يريدها الإسلام، هذا مع العلم بأني أرى أن بعضهم أنشط في الدعوة وأسبق فيها، فقال فضيلته : " العصمة من الخطأ ، ومن الانحراف عن الصواب ، إنما هي لكتاب الله ، ولسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه، ولإجماع الأمة " هذا هو الذي فيه العصمة، الكتاب والسنة وإجماع الأمة الذي انعقد عليه إجماع أهل الحل والعقد من علمائها وأئمتها، قال " أما كل فرد من أفراد الأمة ، وكل جماعة على حدتها من جماعات الأمة كجماعة التبليغ ، أو جماعة اتحاد طلبة المسلمين ، أو جماعة الإخوان المسلمين ، أو جماعة الشبان المسلمين ، أو جماعة أنصار السنة المحمدية ، أو الجمعية الشرعية لإحياء الكتاب ، والسنة المحمدية إلى آخر ذلك، فكل منها ليست معصومة بل تخطأ وتصيب، ولها محاسن ومساوئ في الأحكام التي تدعوا إليها أو تنشرها، وفي طريقة دعوتها إلى ما تعتقده وتعمل به وتتبنى إرشاد الناس إليه ، وحملهم عليه، وعلى كل جماعة من الجماعات الإسلامية أن تتعاون مع الأخرى فيما اتفقوا عليه من الحق، وأن تتفاهم معها فيما اختلفوا على ضوء الكتاب والسنة، عملاً بقوله - عز وجل – { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ، عسى الله أن يهدي الجميع إلى سواء السبيل، وعلى كل طائفة من هذه الجماعات أن تنصح للأخرى ، فتثني عليها بما فيها من خير، وترشدها إلى ما فيها من خطأ في الأحكام، أو انحراف في العقيدة والأخلاق ، أو تقصير في العلم والبلاغ بالتي هي أحسن، قصداً للإصلاح ، وطلباً لاستدراك ما فات ، لا ذماً لها وتعييراً، عسى أن تستجيب لما دعيت إليه فتستكمل نقصها ، وتصلح شأنها ، وتجتمع القلوب على الحق ، وتنهض بنصرته ".
والمتأمل في هذا القول يرى عليه نورانية الوحي ، ويرى فيه فقه الدعوة، ويرى فيه أيضاً العلم بمقاصد الشرع، من ضرورة الائتلاف ، والحرص على وحدة الأمة ، مع إقامة النصح لله ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم، مع الحرص على أنه لا اتباع ولا انقياد بلا تردد وبلا سؤال ، وبلا أية مراجعة إلا لكتاب الله ولسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولإجماع الأمة المنعقد والثابت، فهذا باتباع مثل هذه الفتوى وغيرها من فتاوى أهل العلم ، يظهر أن الأمر مداره على اتباع الشرع ، وعلى تحصيل الخير، وعلى جلب المصالح ، ودرء المفاسد ، وعلى أن الكمال المطلق لا يوجد ولا يتصور وجوده أصلاً إلا في كتاب الله ، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأيضاً فيه تعليم وتربية على أهم مقاصد هذا الدين ، وهو ألفة القلوب ، ووجوب تضافر المودة والمحبة ، وأخوة الإيمان في قوله - جل وعلا - :{ إنما المؤمنون إخوة } ، والله - سبحانه وتعالى - قد سمى الفئة الباغية أنها فرقة من المسلمين ، وأنهم إخوان لبقية المسلمين - وإن كانوا قد بغوا عليهم -، ولذا قال - جل وعلا : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } فسمى كلتا الطائفتان مؤمنة، وإنما إحداهما خالفت وبغت، أو اجتهدت وأخطأت أو تنكبت سواء الصراط ، لذا من رأى أن وجود الخطأ كافٍ للمقاطعة ، بل والمنازعة ، بل والمحاربة؛ فإنه ما فقه أصل هذا الدين في عصمة دم المسلم ، وعرضه ، وماله، وما فقه أصل هذا الدين في وجوب الاعتصام والتآلف والأخوة ، وما فقه هذا الدين في وجوب التناصح والتكامل ، وأن المسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى ، وأن المسلم للمسلم كالمرآة ينظر إلى أخيه ، فيرى في أخيه عيب نفسه، ويبصر خطأه من تقويم أخيه، وهذا كثير فيما سيأتي أيضاً من الفتاوى والأسئلة، وأيضاً هنا فتوى وسؤال لسماحة الوالد سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وسوف أختصرها لأنها موجزة وواضحة ، في هذا الباب، السؤال " هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية لاحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام، من إيجابيات هذا العصر ؟ " .
قال سماحته : " وجود هذه الجماعات خير ، لكن عليها أن تجتهد في إفصاح الحق مع دليله ، وألا تتنافر مع بعضها، وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها، وان تحب إحداها الأخرى ، وتنصح لها ، وتنشر محاسنها ، وتحرص على ترك ما يشوش بينها، ولا مانع أن تكون هناك جماعات لأنها كلها إن شاء الله تدعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - "
ثم قال السائل " وبم تنصح الشباب داخل هذه الجماعات ؟ ".
قال " أن يترسموا طريق الحق ، وأن يطلبوه ، وأن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم ، وأن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين بالأدلة الشرعية ، لا بالعنف ولا بالسخرية بالكلمة والأسلوب الحسن، وأن يكون الصالحين قدوتهم ودليلهم، وهذا كما أشرت فيه ما فيه من الفطنة والفقه بهذا الدين .(102/3)
وهنا أيضاً مقالة لفضيلة الشيخ صالح الفوزان في هذا الباب ، ضمن أسئلة وردت له ، ونص السؤال يقول " ما رأي الشرع فيما بعض المسميات مثل السلف ، التكفير ، والهجرة ، وأنصار السنة المحمدية ، والجمعية الشرعية ، والجهاد "
فقال فضيلته " قال الله تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وقال تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } ثم قال هذه الآيات وغيرها كثير في القرآن الكريم ، وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي جاءت بمعناها كلها تحث على اجتماع الكلمة ، وأن يكون المسلمون في أمة واحدة، وفي جماعة واحدة ، وفي مسمى واحد وهو أهل السنة والجماعة، أو مسمى المسلمين والمؤمنين، ولا يتحقق هذا إلا بالرجوع إلى كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يسير المسلمون في دعوتهم على منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي سار عليه وعلّمه لأمته، فالواجب على المسلمين أن ينهجوا نهجه ، وأن يسيروا على خطواته، ويعتصموا بكتاب ربهم ، وسنة نبيهم ، وعند ذلك لا يحصل الاختلاف ، ولا توجد مسميات متعددة ، فإن هذا مما فرّق كلمة المسلمين وشتت شملهم، وأضعف جهدهم ، وأوقع بينهم التخاذل والتناحر، والأسماء ليس لها دخل ، إنما العبرة بالحقائق، ولو تسمّت جماعة بالسلفيين أو بأي مسمى من المسميات التي ذكرتها ، فالعبرة بالحقائق والمنهج الذي تسير عليه، إن كان مخالفاً لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم ليسوا سلفيين ، وليسوا إخواناً مسلمين ، وليسوا جماعة شرعية، أما إذا كانت الحقائق صحيحة ، والمنهج مستقيم فالاسم أمره سهل ، وهذا أيضا فيه فطنة، إن التقويم إنما هو في حكم الشرع فالإنسان عندنا في الحكم عليه أمور ثلاثة ( الأقوال والأفعال والنيات ) فالنية والتي محلها القلب ، علمها عند الله - سبحانه وتعالى -، ليس لأحد أن يجترئ فيقول إن فلاناً نيته كذا وكذا، وأن قصده كذا وكذا، وأن يجرِّمه أو يأثِّمه بما لم يظهر قطعاً ويقيناً من أن هذا مقصده، فبقي عندنا الأقوال والأفعال، والأقوال والأفعال لها في حكم الله - سبحانه وتعالى - وشرعه تفصيل كامل : { ما فرطنا في الكتاب من شيء }
فكل إنسان عمل عملاً أو قال قولاً أرجعه لحكم الشرع ، فإن وافق حكم الشرع ، صح فعله وعمله ، ولا ضير إن كان هذا العمل قد أخذ له اسماً معيناً، أو ربما صورة معينة ، بل العبرة بالمسميات لا بالأسماء وهذا الأمر مهم جداً، لأن كثيراً من الأشياء التي تجدُّ في حياة الناس قد تكون لها أسماء معينة، لكن ينبغي التفطن إلى حقيقتها ، وأن التقويم بميزان الشرع عائد إلى الأقوال والأفعال .
وأيضاً أذكر هنا من الكتاب الذي ألِّف عن حياة الشيخ الألباني أيضاً فيه كلام وسؤال عن هذا الأمر، يقول السائل له " يقال إن فضيلتكم يرفض أن يتعاون مع الجماعات الإسلامية كلها ، إلا إذا انصاعت لمعتقداته الكلامية والفقهية فما مدى صحة هذا القول " .
فيقول فضيلة الشيخ " أبداً فأقول : إن هذا الكلام زور وبهتان، فقد سبق أن سجّلنا ثلاثة أشرطة وضّحت فيها هذا الأمر بصراحة، وكان مما قلته : إنني أؤيد قيام الجماعات الإسلامية ، وأؤيد تخصيص كل جماعة منها بدور اختصاصي، سواء كان سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعيا،ً ولكنني اشترطت أن تكون دائرة الإسلام هي التي تجمع هذه الجماعات كلها، وذكرت أننا نحن معشر السلفيين لا نعمل إلا في سبيل أهم ما نزل به كتاب الله - عز وجل -، وبعث من أجله رسله ألا وهو التوحيد " ثم بعد ذلك أيضاً قال : " أعود ثانياً فأدعو المسلمين جميعاً إلى أن يرجعوا إلى دينهم الصحيح، وإلى الاعتماد في ذلك على كتاب الله أولاً ، وعلى السنة الصحيحة ثانياً، وأصر على هذه الدعوة " ويقول : " ولن نتراجع عنها مهما كانت الادِّعاءات والافتراءات ، أقول هذا وأنا أتذكر السنوات الطوال التي عشتها، وكان يحضر دروسي خلالها أعضاء من الإخوان ، ومن التبليغ والتحرير ، والمذهبيين، وفي هؤلاء من يعترف بتتلمذه عليّ ، ويقر بالفضل، وكيف نتهم بعد ذلك بمحاربة الجماعات الإسلامية " ويقول " كل ما نخالف به تلك الجماعات إنما هو الخروج عن الكتاب والسنة في تربية أعضاء تلك الجماعات " .
فإذاً أيضاً التقويم هو أن ننظر في الأفعال والأقوال ، ومدى انطباقها مع موافقة شرع الله - سبحانه وتعالى - .(102/4)
وللشيخ عبد الرحمن عبد الخالق باع واسع في هذا ، وله تفصيلات في هذا، اذكر منها نقولاً مستجدة في هذا الباب، لعلها من أحسن ما قيل ، باعتبار انه أفاض وأطنب في هذا الجانب، حتى جمع ما كتبه في بعض الكتب مثل : مشروعية العمل الجماعي، والإمام ابن تيمية والعمل الجماعي، فيقول هنا - في مسألة عدم التصور الصحيح لمثل هذه الجماعات ، أو الجمعيات الداعية إلى الإسلام ، والباذلة جهداً في سبيل نصرة هذا الدين ، ودعوة أبنائه إليه -، يقول " ولأن كثيراً من الناس تختلط في أذهانهم الأمور ، فيجعلون الحكم واحداً في الفِرَق والأحزاب والجماعات ، والهيئات ، ولا يُمَيِّزون بين تجمع مشروع ، وتجمع مبتدع ، وتجمع ضال ، وتجمع منحرف، ولا يميزون كذلك بين الظروف والملابسات ، وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان " .
ومن أجل ذلك لخّص بأن هناك أربعة أقسام في الفرق والجماعات
أصناف الفرق والجماعات
1 ـ جماعة ضالة ؛ اجتمعت على بدعة مكفرة ، وشذت عن إجماع المسلمين ، وعن كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فهذه أمرها واضح بيّن .
2 ـ جماعة من أهل الإسلام اجتمعت على شيخ أو إمام ، أو عمل من الأعمال الصالحة، ولكنهم في اجتماعهم هذا أخذوا من الإسلام وتركوا، وقدموا اجتهاد إمامهم وشيخهم على غيره ، كأتباع المذاهب المعروفة، أو كان منهم نوع تعصب لرأيهم ومنهجهم، أو بعض أمور مبتدعة لا تُخرج من الدين ، أو خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فلا شك أن جماعتهم مشروعة، وفيهم من الحق بحسب ما التزموه ، ومن الباطل بحسب ما أخذوه، ولا شك أن مثل هذه الجماعة مشروعة ، لأن أصلها التعاون على البر والتقوى والدين ، والله يقول : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } وذكر أن الخطأ الواقع يرد بموجب حكم الله ، وبحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
3 ـ جماعة مهتدية قائمة بالحق ، على هدي الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة ، ومنهج السلف، لا يتحركون إلا وفق أحكام الدين ، ولا يجاهدون إلا على بصيرة ، كما كان شأن الجماعات الإسلامية العاملة المجاهدة على مدار تاريخ الإسلام ، - وذكر أمثلة من جهود شيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم - والخلاصة أن أي جماعة تجتمع على مقتضى الكتاب والسنة ، والالتزام بإجماع الأمة - كما ذكر الشيخ ابن باز الكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة ؛ هو الذي فيه العصمة - ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم ، هي جماعة مهتدية راشدة ما دام أن إجتماعها وفق هذه الأصول ، ووفق قوله - سبحانه وتعالى - : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } " ثم ذكر مثالاً جيداً ، فقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبقى للأنصار اسمهم ، وللمهاجرين اسمهم ، بل مُيِّز بعض الصحابة بما كان لهم من عمل سابق فسمِّي البدريين ، وسمي مسلمة الفتح ، وقال : إن هذا لم يكن فيه تفكك أوتحزب، بل كان فيه معنى الاجتماع على الخير، والأنصار كانوا وحدة ، وكانوا يتنافسون مع المهاجرين في الخير، وكان لهم تجمعهم الذي يستجيبون فيه لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ذكر أنه قد وقع بسبب ذلك بعض من الخطأ ، حينما تعصب بعضهم .(102/5)
ذكر في التنافس في الخير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد للخزرج قتل كعب بن الأشرف ، فأراد الأوس أن يكون لهم منقبة أخرى ، فعهد إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل علم آخر من أعلام اليهود، ثم ذكر في قصة عائشة - رضي الله عنها - ، وحادثة الإفك، لمّا كان المتكلم من الخزرج، وردّ الأوس وكان في ردهم نوعٌ من الشدة، حتى قام سعد بن عبادة - وكان رجلاً صالحاً ولكن أخذته الحمية -، فقال : كذبت لعمر الله لا تقتله ، ولا تقدر على قتله، لأن المتكلم قام للنبي - صلى الله عليه وسلم – وقال : إن شئت يا رسول الله قتلناه، فسعد وهو على إسلامه ، وهذا من الأوس وهذا من الخزرج، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخالفة الشرعية ، وأبقى أصل ما فيه الخير، والشاهد هنا أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لم ينه عن هذه التجمعات التي يمكن أن تؤدي فيها العصبية لمثل هذا، بل بقي للأوس اجتماعهم ورئاستهم ، وللخزرج كذلك، وكانوا متعاونين في أكثر أمورهم على البر والتقوى، متنافسين في خدمة الدين ، وأحياناً يقع منهم التعصب والإخلال في أصل الموالاة ، ومع ذلك لم يكن هذا أن يلقي اجتماعهم ، ويلغي جماعتهم ، فإن قضية وجود الخطأ في الأصل المشروع لا ينفي مشروعية الأصل، بل يُثْبَت خطأ الفعل، وهذه مسألة مهمة جداً ، وقع الخلط بسببها عند كثير من الناس ، فتجد أن مجرد وقوع خطأ معين في عمل معيّن ، يجعل بعض الناس يفتي بعدم مشروعية العمل كله، وهذا لا شك أنها نظرة غير صحيحة، فالأصل في الحكم إنما هو الدليل من الكتاب والسنة ، فإذا ثبتت المشروعية فإن ما يلحق بهذا الأمر المشروع من أخطاء في التطبيق، أو من خطأ يقع من فرد ، أو من مفتي أو من مجتهد، لا يمنع أصل ثبوت المشروعية لذلك العمل ، بل نقول : الأصل أن هذا الأصل مشروع ، وهذا الفعل خطأ، لا يصح أن يكتسب المشروعية بانتسابه إلى ذلك الأصل، فإن قلنا أن العمل للدعوة إلى الله - سبحانه وتعالى - ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر واجب، فإذا جاء الذي يأمر وينهى فأخطأ في الأسلوب فلا نقول : أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح محظوراً أو محرَّماً، بل نقول : أن المشروعية باقية على أصلها، وهذا الفعل منه خطأ ، وهو غير مشروع ، ولو كان يقول : إنه يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر، ولذلك الآن قد يحتج بعض الناس ، فيطالبون بإلغاء الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لخطأ قد يَخطأه فرد من أفراد الهيئة، فهذا بغيٌ واعتساف في الحكم لا يصحُّ مطلقاً، ولذلك حتى ما يقال ـ وهذا الذي أريد أن اختم به ـ من وجود الخطأ أو بعض السلبيات في مثل هذه الأعمال الدعوية التي تهدف أصلاً إلى التعاون على البر والتقوى ، وتقصد الخير، فإنه قد يقترن بها كما يقترن بأي عمل ، يقترن بها الخطأ ويقترن بها بعض المضار ، لكن الجملة هي المقصودة بمعنى أن الإنسان ينظر إلى العموم، أي أمر غلب خيره على شره ، وكانت المصلحة الناتجة عنه أكثر من المفسدة المترتبة عليه، فإنه يوهب قليل خطأه لكثير صوابه، وكذلك نقول لمثل هذا القائل أليس أيضاً هذه الأخطاء والأخطار موجودة وإن لم توجد هذه الأعمال والجمعيات ؟، هل الحل لإزالة مثلاً الفرقة - كما يقال - أو التعصب أو وجود التنافر ؟، هل الحل هو توجيه ونصح هذه الجمعيات ، والقائمين عليها وأفرادها ، بحيث يلغون هذه السلبيات ويبقون على الإيجابيات، أم الحل أن ينفرط العقد ، وإذا انفرط عقد الناس أليست هذه الأمور موجودة في المسلمين بانفرادهم، أليس المسلمون وهم منفردون يقع منهم التعصب ، ويقع منهم التحزب ، ويقع منهم الحسد ، ويقع منهم البغي ، ويقع منهم أحياناً المعاداة، وتقع منهم الأخطاء الشرعية، فليست وجود هذه الجمعيات هي الأصل في وجود هذه الأخطاء، الأخطاء موجودة ، وليس وجودها ناشئ عن هذا التجمع ، أو عن هذا العمل، ولكن ينبغي لنا أن ننقي العمل من الشوائب ، وأن نكمل فيه الإيجابيات التي ينبغي الحرص عليها وتكثيرها، أما أن يقال ، أو أن ينسب كل خطأ ، وكل معضلة ، وكل مشكلة ، وكل سلبية في الأمة تنسب إلى هذا العمل الدعوي، وكأن كل السلبيات تنزّه منها المسلمون وهم أفراد، وتنزهوا منها وهم يتبعون أحياناً المذاهب الفكرية المنحلة، أو وهم متلبِّسون بالمعاصي ، أو وهم متقاعسون عن أمر الله - سبحانه وتعالى -، فبعض الناس ربما غلبت نظرته لهذه الأخطاء ، أو لهذه الآثار السلبية فجعلت الصورة عنده سوداء ، لا بياض فيها مطلقاً، بل جعل كل ما في الأمة من بلاء عبر هذه القرون الطويلة ، إنما هو ناشئ عن هذه الجمعيات الداعية إلى الله - سبحانه وتعالى -، وهذا لا شك أنه أمر غير متصور حتى بالعقل، كيف يكون الذين يلتزمون بالإسلام ، ويرتادون المساجد ، ويطلبون العلم في حلق العلم ، ويسعون إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويبذلون من أموالهم ، ويسعون في هذا الخير أن يكونوا هم سبب كل بلاء وكل علة في هذه الأمة، فأحدهم(102/6)
يقول - وأنا أنقل نصه من كتابه - " أين تجد جذوة الخلاف، أين تجد أمراض النفوس، أين تجد المنافسة المقيتة، أين تجد النظرات الحادة ، أين تجد الفُرقة الظاهرة، أين تجد البسمات الصفراوية، أين تجد التبرير والتغرير، أين تجد التحذير والتنفير، أين تجد القيل والقال، أين تجد التعسف والتأويل، أين تجد الإشاعات الباطلة، أين تجد الدعايات الفاشلة " ثم يقول خلاصة كلامه " إنك تجد هذا في الجمعيات والجماعات التي تدعوا إلى الإسلام " لا شك أن هذا شططاً من القول ، واعتسافاً للرأي ، ولا شك أيضاً أن هذا بعدٌ عن الفقه، ما الفائدة من مثل هذا، هل الحل - كما أشرت - هو أن يزول أصل الداء بالمنهج الشرعي ، وهي أن هذه الأخطاء إنما هي ناشئة من الأفراد ، وناشئة ربما من عدم الفهم الصحيح لهذا الدين، وليس الحل هو إصلاح الجوانب العارضة ، ولذلك ذكرت هذه الجملة من الفتاوى وغيرها كثير .
وأختم بفتاوى موجودة في مجلدات اللجنة الدائمة للدعوة والإفتاء والإرشاد لأن بعضاً منها موجز، يقول السائل : " في هذا الزمان عديد من الجماعات ، وكل منها يدعي الانضواء تحت الفرقة الناجية ، ولا ندري أيهم على الحق فنتبعه "
والجواب " كل من هذه الجماعات تدخل في الفرقة الناجية، إلا من أتى منها بمكفر يخرج عن أصل الأيمان، لكنهم تتفاوت درجاتهم قوةً وضعفاً بقدر إصابتهم الحق ، وعملهم به، فاعرف منهم وجهة نظرهم، وكن مع أتبعهم للحق ولا تبخس الآخرين أخوتهم في الإسلام ، فترد عليهم ما أصابوا فيه من الحق، بل اتبع الحق حيث ما كان، ولو ظهر على لسان من يخالفك، فالحق رائد المؤمن .
هذه الوقفة الأولى وإن كان الموضوع في الحقيقة ربما يحتاج إلى إفاضة وتطويل، لكن هذا ربما يغني بعض الأخوة الذين سألوا وكان في بعض أسئلتهم حيرة واضطراب، وهي شبيهة بهذه الأسئلة ولذا حرصت على أن أجمع مثل هذه الأسئلة وإجابات أهل العلم عليها ، وأذكر بعض هذه المشاركات أو الأسئلة حتى نختم هذه النقطة .
أحدهم يقول : " التشتت على كل الأحوال مذموم، والتوحد ورص الصفوف هو المطلوب، ولماذا لا يكون هذا الحوار أيضاً بين قادة الجماعات ، لإيجاد قيادة واحدة، وأحد الأخوة يقول منتقداً للمنتقدين ، وبعض الناس يلقي بالكلام جزافاً ، ويتحدث عن الجماعات الإسلامية ومناهجها وينقدها نقداً لاذعاً ، ويذكر أيضاً بعض الكتب، وأيضاً يسأل الأخ : ما حكم وجود الجماعات الإسلامية في العهد الحديث خاصة بعد سقوط الخلافة، حيث أن لهذه الجماعات خير كثير من دعوة العامة ، والرد على مفتريات العلمانيين والمستشرقين، فهذه وغيرها أوردنا الإجابة عليها وأوضحنا الأمر فيها بمثل هذه النقول التي أظن أن فيها غنية وكفاية .
وأنهي هذه المسألة بنقاط ثلاث مهمة،
أولاً : أنه ليس في جمعية إسلامية ، ولا لجماعة دعوية أن تعتبر نفسها جماعة المسلمين ، فإنها كلها - أي هذه الجمعيات - من جماعة المسلمين، وهذا أمر مهم فيما أعلم أن أكثرها لا يرى ذلك لنفسه ، بل كلهم يعلم أنه جزء من هذه الأمة ، قائم ببعض الأمر ، وببعض الواجب .
ثانياً : أن يكون أصل الولاء والبراء يكون لله ولرسوله ، ووفق شرع الله - عز وجل -، لا يكون مبذولاً لأجل الموالاة ، و الموافقة للجمعية أو الجماعة أو نحو ذلك، فإن الأصل ينبغي أن يكون مرتبطاً بشرع الله - عز وجل - .
ثالثاً : أن يكون التقديم والتأخير ، والتفضيل والمدح والذم إنما يكون بمصطلح الشرع، لا برسوم وأنظمة تكون هي الأولى والمقدَّمة على ميزان الشرع، فلا مدح إلا لما مدحه الشارع، ولا ذم إلا لذلك، وهذه الأمور وغيرها أيضاً لكن هذه أهمها بمثابة الضوابط المهمة والأساسية التي تقي من بعض المشكلات والسلبيات، التي ربما يأتي ذكرها في البند الثاني .
القضية الثانية : وسائل ثبات الصحوة
بعض الأخوة أشار إلى أننا ذكرنا في المرة الماضية، بعض وجوه النقد ، وبعض الأخطاء، فهو يقول : ما هي الوسائل التي يمكن أن تثبت شباب الصحوة على المنهج الصحيح، حتى لا يحصل ما يقع الآن ، فإن بعض الناس يمضي في الطريق قليلاً ثم ينتكس ، أو يمضي في الطريق ثم يشذ إلى انحراف غير مشروع، فأذكر في ذلك نقاطاً موجزة : وأقول هذه النقاط في موجَز لا يتسع المجال لتفصيله، من هذه الوسائل وأهمها :
1 ـ صفاء المعتقد وضوح التصور .
2 ـ الارتباط بالقدوة من العلماء والدعاة والإصدار عنهم والرجوع إليهم .
3 ـ التحصن بالعلم ومعرفة الشبهات .
4 ـ وجود المحضن التربوي الذي يزكِّي النفوس ، ويطهِّر القلوب ، ويعوِّد على التزام الشرع والخوف من الله - سبحانه وتعالى - والتقوى له .
5 ـ العناية بفقه الأولويات والاهتمامات . فإن كثيراً مما ورد من الأخطاء،إنما يقع من أن الإنسان يقدم ما حقه التأخير أو يؤخر ما حقه التقديم .
6 ـ دراسة التاريخ واستنباط العظات والعبر ، والاستفادة من تجارب السابقين ، وسير الأئمة والصالحين .(102/7)
7 ـ حسن التعامل مع الآخرين بما هو في شرع الله - سبحانه وتعالى - .
8 ـ فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى لا يقع الخطأ والخلل في مثل هذا .
القضية الثالثة : بين علم الشرع وعلم الواقع .
ذكر بعض الأخوة أن الاعتناء بمعرفة الأخبار ، وشؤون السياسة ونحو ذلك، أنه ليس من الدين، وأنه ينبغي لطالب العلم أن ينظر فقط في كتب العلم ، في العقيدة والفقه والحديث ، ولا شأن له بما وراء ذلك، ويذكر الأخ في سؤاله أليس هذا هو عين قول العلمانيين ، الذين يريدون أن يكون المسلم منشغلاً أو مرتبطاً فقط بالأحكام الفقهية ، ولا يرتبط بواقع الحياة ، ونقول : نعم هذه هي تلك، لا فرق بين هذه وهذه إلا أن الأخيرة أخطر، أي إن كان هذا القول من قائل مسلم أو من طالب علم أو من موجِّه، فإن العلماني أو المستغرِب لا يقبل منه الناس، لكن يقبلون من الخطيب أو الإمام أو الداعي ، فإن جاء مثل هذا القول من هؤلاء كان أشد خطورة في مثل هذا الأمر، وأحب أن أوجز القول في هذا، فإن علم الشرع مطلوب ، ومعلوم أن هناك واجبات عينيه على المسلم أن يتعلمها من فرائض الله - سبحانه وتعالى -، بدءاً من المعرفة بالله - سبحانه وتعالى - ، ومعرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وما يتعلق بأركان الإيمان ، ثم بعد ذلك معرفة الفروض العينية من أداء الصلوات ، وأحكام الطهارة ، ثم ما يلزمه في وقته كالحج لمن أراده ، أو الزكاة لمن وجبت عليه ، ثم بعد ذلك فرض الكفاية من الزيادة في العلم ، لمن أراد أن يتصدَّى للتعليم أو الفتوى أو غير ذلك، لكن علم الواقع أيضاً أمر مهم جداً، فيه رعاية اختلاف ظروف الزمان والمكان والأشخاص، وقد راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فكان السائل يسأله نفس السؤال ، وتتعدد إجاباته - صلى الله عليه وسلم -، وما اختلفت إلا باعتبار اختلاف حال السائل، فذاك يسأله ، فيقول : أوصني فيقول: ( لا تغضب )، وآخر يقول : أوصني ، فيقول : ( لا يزال لسانك رطباً بذكر الله )، وقد صح في مسند الإمام أحمد - كما صححه الشيخ أحمد شاكر - أن سائلاً جاء يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القبلة في الصيام ، فأفتاه بمنعها، وجاء سائل آخر فأفتاه بجوازها، ثم سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فقال : ( ذاك شاب لا يملك أربه، وذاك شيخ فان ليس له في النساء مأرب )، فاختلف الجواب باختلاف حال السائل ، وكذلك اختلاف حال الأمة وظروفها ، لمّا جاء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار في بيعة العقبة فقالوا للرسول - صلى الله عليه وسلم - : لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلة واحدة لفعلنا، قال : ( لا فإنّا لم نؤمر بذلك )، حقاًَ إنه - صلى الله عليه وسلم - يوحى إليه، هو مشرّع لكنه في هذا الأمر يتصرف تصرف الواقع الذي يقتبس منه التشريع والاستنباط لمن جاء بعده - عليه الصلاة والسلام، وكذلك - عليه الصلاة والسلام - كان يعرف أحوال القبائل وعاداتها وتقاليدها، ولذا كان يحرص على إسلام زعماء القبائل ، لأنه كان يعلم أن الناس تبعٌ لقادتهم ، وكان يعرف ما عليه أهل كل قوم ، أهل كل قبيلة ، من بعض العادات ، ومن بعض الرسوم والأمور التي يحرصون عليها، فكان يعرف كل هذا ويراعيه، بل جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر حتى مقتبساً من غير المسلمين ، فقد ورد في الصحيح عند الإمام مسلم وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( كنت قد نهيتكم عن الغِيلة ، وإني رأيت بني الأصفر يغيلون ولا يضرهم ) والغيلة المقصود بها الجماع في وقت الرضاع فإنه يضر بالرضاع لكن النبي صلى الله عليه وسلم رأى واقع الناس ورأى ظروف الحال، ورأى أن مثل هذا لا حرج فيه، فلم يأمرهم به - عليه الصلاة والسلام -، وكذلك لما ذكر في شأن تأبير النحل قال ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم ) فمثل هذا ، وتتبع أحوال المسلمين ، ومعرفة أحوالهم ، ومعرفة مكائد الأعداء، لا شك أنه من أكثر ما يدفع به الضرر عن المسلمين ، وتجلب به المصالح لهم، والإعراض عن مثل هذا لا شك أنه شطط في القول ، وأنه مغايرة ومنافرة لطبيعة الواقع، فإن الإنسان في طبيعة حياته المعتادة ، في تجاربه ، في وظيفته ، في عمله، ألا يرتبط بالواقع ، ألا يسأل عن الأحوال ، ألا يسأل عن الأسعار ، ألا يسأل عن الوظائف ، ألا يسأل عن الترقيات، ألا يسأل عن النظم واللوائح، لماذا ؟ ليعرف ما يتجنَّبه وليعرف ما يأخذ به لينتفع به، فيبقى في حال الدين ، وفي حال حيازة مصلحة الإسلام والمسلمين ، يبقى لا يفطن إلى هذا ، ولا ينظر إليه، لا شك أن مثل هذا خطأ .
القضية الرابعة : بين الوسائل والغايات(102/8)
وهنا أوجز القول أيضاً فإن الناس يغيب عنهم أمر مهم ؛ وهو أن الوسيلة لا تراد لذاتها ، وإنما تراد لغيرها - أي للمطلب الذي تؤدي إليه -، وأضرب مثلاً أبين فيه المقصود في هذا، منكر من المنكرات موجود ويراه اثنان ، غايتهما واتفاقهما أن هذا منكر ، وهما متفقان أنه يجب تغييره، لكن تختلف الوسيلة ، فهذا يرى التعجل في إنكار المنكر ، وذاك يرى التأنّي، هذا يرى أنه يمكن أن يكون التغيير باليد، أما الآخر فإنه يرى أنه يكفي الوعظ لما يعلم من حال هذا، فإذا اتفقا في الغاية ، وفي أصل الحكم الشرعي، ينبغي أن لا يكون اختلاف الوسيلة مثار نزاع ، بل أحياناً مثار اهتمام . فيقول : إن هذا يرضى بالمنكر، وإن هذا يقر المنكر ، وإن هذا يساعد على المنكر، لماذا ؟ لأنه لم ينكر بالطريقة التي يتصورها هو ، أو التي يريدها هو، إن لم تفعل مثلما كان يتصور ، ومثلما يرى أنه الأصلح ، وأنه الأكمل، فإنك إذاً لست بمنكر للمنكر ، ولست برائد للخير، فهذا لا شك أنه خطأ ، فإن بعض الناس يرى أموراً من الحكمة ، ودقائق من مسائل العلم ، ومعرفة بحال المنكر ، أو بحال الواقع في المنكر، ويريد أن يأخذ أسلوباً آخر، فلماذا يكون هذا الشطط والنزاع ، مع أن الاتفاق في الغاية حاصل، وكثير من المشكلات تقع بسبب هذا لا بسبب غيره، فهذه جملة من القضايا التي لم نتعرض لها فيما مضى، ذكرت في بعض ما جاء من هذه المشاركات .
البند الثاني : مخاطر ومخاوف
في الحقيقة إن ما ذكره الأخوة في كتاباتهم ينبئ عن شعور طيب ، وعن حرص أكيد على خير هذه الأمة ، وخير شبابها ، وخير هذه الصحوة وخير ما فيها، فإن كثير من الكتابات كانت تشير إلى بعض الظواهر الخطرة ، خوفاً على هذه الصحوة وعلى هذا الخير، وأذكر منها كما أشرت في العناوين السابقة .
الخطر الأول : التكفير والتبديع
وهذا لا شك أنه أكثرها شراً وضرراً وخطراً ، لأن فيه استباحة الدماء، ولأن فيه إخراج عن الملة، ولأن فيه اجتراء خطير ينبغي أن لا يقدم عليه الإنسان من غير تثَبُّت وتبيُّن وحرص ودقة وترو وحَيْطة شديدة، ولذلك وقفتي فقط أريد أن أبين أن هذه القضية في غاية الخطورة، والكلام في هذا موضوع مستقل، وسأذكر فيما يأتي أن بعض المشاركات نجعل لها - إن شاء الله - مواضيع أخرى مستقلة بذاتها .
في الحديث عند الشيخين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) فليست القضية سهلة ، إما أن يكون الذي اُتِّهِمَ بالكفر مستحقٌ لهذه التهمة، وإما أن تكون - والعياذ بالله - هذه الكلمة ، وهذه الوصمة تعود على قائلها، ومعلوم أيضاً حديث في صحيح مسلم : ( أنها تحار حتى إذا لم تقع على صاحبها رجعت إلى قائلها ) والعياذ بالله، ولذلك قال ابن حجر- رحمة الله عليه- : " والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم أن يقول ذلك لأخيه المسلم وقيل الراجع هو التكفير لا الكفر " أي أن التكفير يعود إليه ليس أصل الكفر، ولذلك قال ابن حجر الهيتمي من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله ، وليس كذلك إلا حار عليه أي رجع عليه هذا الوصف، ولذلك ينبغي أن نعلم أنه لا بد كما اخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إلا أن ترَوْا كفراً بواحاً لكم عليه من الله برهان ) . وينبغي أن نعرف أن هناك أموراً ثلاثة يُدْفع بها كثير من الأمور، ومن أهمها التكفير، ينبغي أن لا يجترأ فيها إلا عند النظر فيها، التأول والجهل والإكراه، فقد يكون قال قولاً كفرياً ، لكنه فيه متأولاً ، يحتاج إلى بيان وإلى استيضاح، والأمر الثاني الجهل فقد يكون يقول قولاً كفرياً أو يفعل فعلاً كفرياً وهو جاهل به غير عالم به، والأمر الثالث الإكراه { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } فلا بد من وجود الشروط وانتفاء الموانع وليست القضية سهلة، ولذلك الأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته حتى يتحقق زوال ذلك بدليل شرعي، ولا يجوز التساهل في التكفير أو التبديع أو التفسيق لأن في ذلك محاذير كثيرة .
محاذير التكفير والتبديع
أولاً : افتراء الكذب على الله عز وجل
في الحكم وعلى المحكوم عليه في الوصف أيضاً، والثاني أنه يقع عليه ما يتهم به غيره إن لم يكن كذلك، ولذلك لا بد من النظر في دلالة الكتاب والسنة، وانطباق القول على هذا القائل المعين، فإن القول قد يكون كفراً ولا يكفر قائله، لأنه عنده بعض الأعذار التي تصرف عنه مثل هذا الأمر، والمسألة في مثل هذا طويلة .(102/9)
يقول الشيخ الشنقيطي - رحمة الله عليه - في تفسيره، - وهو قول نفيس في مسألة عدم الحرص على تكفير المعيَّن والتنفير منه - يقول : اعلم أنّك إن متّ ولم تقل في فرعون شيئاً ، لم يؤاخذك الله بذلك يوم القيامة، ليس مطلوباً منك أصلاً أن تحكم على عباد الله ، وأن تعطيهم درجات ومنازل، ـ والعياذ بالله ـ في جهنم ، هذا في الدرك الأسفل من النار متهماً له بالنفاق، وهذا مخلد تتهمه بالكفر، وذاك مبتدع يستحق من الله - عز وجل - وعيداً وكذا وكذا، هذا الأصل أنك لست مطالباً به، لكنه يكون مهماً في أحيان كثيرة لئلا تتميع الأمور ، ولئلا يلتبس الحق بالباطل على الناس، فإن من أشهر كفره ومن قال مقالة الكفر ، ينبغي أن يبين أن هذا القول كفر ، وأن المعتقد له مع وجود الشروط وانتفاء الموانع كافر، لكن التكفير المعين هذا أمر آخر، حذَّر منه أهل العلم وغالب أهل السنة على أنهم لا يقولون بالتكفير المعين، ولذلك قال شارح الطحاوية " ولا ننزل أحدا منهم أي من المسلمين جنة ولا ناراً " فقال الشارح : في هذا، إننا لا نقول عن أحد من أهل القبلة إنه من أهل الجنة، أو من أهل النار، إلا من أخبر الصادق المصدوق أنه من أهل الجنة أو من أهل النار، و قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ثم حكم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة ـ أحياناً في الشخص المعيّن قد يقول قولاً فيه كفر لكن حكم الوعيد يلغى في حقه ـ أو حسنة ماحية ، أو مصائب مكفرة ، أو شفاعة مقبولة، والتكفير هو من الوعيد فإنه وإن كان القول تكذيباً لما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة ، ومثل هذا لا يكفر بجَحْد ما يجحده ، حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطئاً، وكنت دائماً أذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال : إذا أنا متّ فاحرقوني ثم ذُرُّوني في البر والبحر ، فوالله لإن قدر الله عليّ ليعذبني.
هذا الأثر ذكره ابن تيمية في فتاواه في ثلاثة مواضع بتفصيل وتطويل واسع ، يذكر فيه أنه لا بد أن لا يكون هناك تعجل في التكفير، إذ قد يكون استحق من بعض قوله ، أومن بعض فعله التكفير لكن صرفه عنه صارف، ولذا هو يقول : وإني من أعظم الناس نهياً عن أن يُنْسب معيَّن إلى تكفير وتفسيق ومعصية، إلا إذا قامت عليه الحجة الرسالية، التي من خالفها كان كافراً تارة ، وفاسقاً تارة ، وعاصيا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها ، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية ، والمسائل العملية، وهذا أمر يطول الحديث فيه .
الخطر الثاني : التنازع والاختلاف
وهي قريبة من هذا لكن هذه أخف، وهو عدم الفقه في مثل هذه الأمور، فهناك أمور لا يمكن اجتماع الأمة فيها على قول واحد، بل إن الله - عز وجل - قضى وقضاءه فيه عدل و حكمه ورحمة.
إن أموراً كثيرة يظل فيها اختلاف، ومن ذلك الاختلاف في المسائل الفقهية والفرعية ، وما ليس معلوماً من الدين بالضرورة، وبعض المسائل الدقيقة التي كما قال ابن تيمية ليست أدلتها جلية واضحة، هذه يقع فيها الاختلاف ، ووقع في سلف الأمة، ويقع في حاضرها ، وسيقع في مستقبل الأمة أيضاً، فلماذا يكون الاختلاف والتنازع فيما هو سائغ فيه الاجتهاد .
الذي فيه تنازع واختلاف والذي فيه نبز هو الذي يخرج عن المعلوم من الدين بالضرورة، أو يخالف صريح القرآن والسنة النبوية المطهرة، هذا أو الذي يأتي ببدعة مكفرة واضحة بيِّنة ، ويبيَّن له ثم لا يرتدع، وهذا أمره واضح بيِّن لا أظنه يلتبس، ولكن كثيراً من النزاع والخلاف إنما هو فيما دون ذلك، - وللأسف - أنه يقع بمثل هذا التنازع والاختلاف التشهير والتعيير مع أن الأمر لا ينبغي أن يكون كذلك، وإنك تجد من أثر هذا أن يشهّر أو يعيّر بأهل الخير ، لمجرد اختلاف في الاجتهاد، وهذا ولا شك انه انتكاس وانعكاس في الموازين كما قال أبو العلاء
إذا عيرّ الطائي بالبخل ماجر **** وعيّر قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت ضئيلة **** وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة **** وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
لأن كثير من الأمور أحياناً يقع فيها مثل هذا الأمر .
الخطر الثالث : الإسقاط والمصادرة(102/10)
وهذه أعلى درجات الاختلاف والتنازع دون التكفير، وهو أنه مجرد أن يكون بينه وبين آخر اختلاف، ينبغي أن يسقطه ، وأن يصادر قوله بالكلية، بما فيه من حق وصواب، بما فيه من حسن وإساءة ، وهذا لا شك أنه من البغي والعدوان ، وقد سبق في درس الحوار أن ذكرت نصاً لشيخ الإسلام ابن تيمية فيما يتعلق بمثل هذا الأمر ، فإنه قد يكون في عمل الإنسان الصائب بعض الخطأ فيدفع الآخر الذي ينكر هذا الخطأ يُخطئ خطأً أكبر حينما يرد العمل كله، بصوابه وخطأه، وهناك بعض الناس أحياناً يجترئ ويتعسف في الخصومة ، فإذا كان خصماً أو مفارقاً أو مخالفاً لشخص آخر، فإنه ينظر أي السبل أسرع في إسقاطه، وأي الطرق أنجع في مصادرة قوله وإبطال إلتفاف الناس حوله، أو إبطال سماع الناس له، ينظر يختلف باختلاف الناس ، فإذا كان من يهمه إسقاطه عنده يقول له هذا لا يحب العلم، هل أنت ممن مثلاً يتحرز أو ترى أن بعض الأمور ليست مطابقة للأولى أو مخالفة لما ينبغي أن يكون فيأتيك من هذا المدخل، ويرى ما هو المدخل الذي يناسبك ليصرفك عن فلان أو عن الكتاب الفلاني أو كذا، وينظر أيسر الطرق دون أن ينظر أو يراقب الله - سبحانه وتعالى - في ذكر الخير والحسنات ، وذكر الصواب، والإشارة إلى ما يحصل به للمنصوح الفائدة، فإن الذي استنصحك قد استأمنك ، وألقى في عنقك أمانة من الله- عز وجل - أن تؤدي له القول خالصاً لله ، فلا تغشنَّه في نصيحتك، وتأتي له بهذا النوع من الأساليب التي لا يستخدمها إلا من لا خلاق له، ولا إيمان عنده ولا ورع من أهل الدنيا ، ومن أهل المناصب ، ومن أهل السياسة المحضة، الذين همهم أن يغنموا وأن يكسبوا ، ولو كان ذلك على حساب غيرهم ، ولو كان ذلك بغياً وعدواناً ، ولو كان ذلك كذباً وافتراءً، ولو كان ذلك تدليساً وتوهيماً للناس ، فإن مثل هذا لا شك أنه من أكبر الخطأ والخطر، وكثير من الأمور تلتبس على الشباب من مثل هذه الأمور ، فإنه يرى خيراً ويسمع خيراً ، ثم يأتيه من يستل من بين هذا الخير أمراً معيناً يجعله أساساً وركيزة، ويوهم سامعه أو مستنصحه أن هذا الخير في طياته ما لا يظهر لك، ولا يغرنك هذا الخير، ولا تغرنك هذه الكثرة ، ولا تغرنّك هذه الإيجابيات، فإنها كلها غير مؤسسة على أمر صحيح ، ولا بد أن تبتعد عنها ، وأن تنأى بنفسك عنها، فهذا لا شك أنه خطر عظيم ينبغي أن يتوقّاه الإنسان .
الخطر الرابع : الحيرة والاضطراب
نشأ عن ذلك عند كثير من الشباب حيرة واضطراب، حتى أن بعض الدعاة ، أو بعض أهل العلم يذكر في بعضهم البعض قولاً، ونقول من رحمة الله بهذه الأمة أن جعل لها كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وجعل لها إجماع الأمة، وجعل لها من الأئمة من في أقوالهم كثير الصواب الذي يقل ويدِقُّ معه الخطأ، وأيضاً جعل للإنسان الدعاء الذي يستعين به على معرفة الحق من الباطل، وعلى أن يثبتَّه الله - سبحانه وتعالى - على الصواب، وكذلك ينبغي للإنسان أن لا يكون متسرعاً ، بمعنى أن لا يأخذ الحكم سريعاً، وينبغي أيضاً أن لا يكون متبرماً ضيق النفس ، يريد أن يصل إلى حل مشكلة خطيرة في ثوان معدودة، وكذلك أيضاً ينبغي له أن يتجرد من ضعف الشخصية التي تجعله تبعاً لغيره، يقول له يمين ، يقول له اليمين صحيح، وإذا قيل له شمال ، قال الحكمة في الشمال، وإذا قيل له أعلى ، قال ليس هناك أفضل من مثل هذا، لا يكون أحدكم إمَّعة لا تُقَلِّد دينك للناس، بل ينبغي أن تكون مع توقيرك ومحبتك لمن تثق به أن تكون صاحب نظر ، وصاحب بصر، والإنسان عنده من نفسه ، وبإيمانه ما يكون كاشفاً أحياناً لغلظة القول ، أو لما يكشف له ما يكون من القول ناشئا ً عن حسد، أو عن اختلاف فيعرف من مثل هذا ويكشف، والإنسان كما قال معاذ - رضي الله عنه - : " إن على قول الحق نوراً يدل عليه ". فليس كل قول ينبغي أن يأخذ به الإنسان ويتبعه، بل الحرص في ذلك ينبغي أن يكون موفوراً ومذخوراً للإنسان، والحيرة والاضطراب تزول بالرجوع إلى كتاب الله ، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وإلى العلماء الذين يستنبطون الأحكام من الشرع ، ويبينون مثل ما هذه الفتاوى التي صدّرنا بها الدرس، وإن كثيراً من الحيرة والاضطراب تنشأ من أن الإنسان يجعل دينه هبة لكل أحد ، فهو يمكن أن يسأل عند الإشارة أي أحد، أو من كان أسبق منه بيوم في الاهتداء، أو زميله في المدرسة ، أو أي أحد ثم يتبلبل من مثل هذا، فينبغي أن يرجع إلى الراسخين في العلم؛ الذين إذا قالوا كان عندهم أمران مهمان ؛ غزارة في علم ، وعمق تقوى لله -عز وجل - ، تلك تعصِم من الخطأ في الصواب، وتلك تعصم من الانجراف وراء الأهواء العصبيات، ولا بد أن يجتمع الأمران، ونسأل الله أن يزيل عنا أسباب الحيرة بما في نور القرآن الكريم ، ونور هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الخطر الخامس : التعصب والحسد(102/11)
وهو أيضاً أحد هذه الآفات التي تقع من الناس أفراداً وجماعات، وغالباً ما يكون أساسها أو أساس الخلط والوقوع فيها أيضاً أمران :
الأول : عدم الفقه والفهم
الثاني الانسياق وراء الهوى ، ومقتضيات الانتصار للنفس .
فإن الإنسان إذا أحب شيئاً تعصب له ، وكرّس جهده لنصرته، وللدفاع عنه ضد كل ما يناوئه، والله - عز وجل - جعل لنا من مثل هذا الأمر عصمة، لأنه لا محبة مطلقة ، ولا ولاء دائم إلا لما هو مرتبط بكتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمن يُحَب لما فيه من الخير، وقد يُكره أيضاً مع محبتك له لبعض ما فيه من المعصية ، فلا تكون المعصية التي فيه داعية إلى بغضه بالكلية، بل إن الفاسق والعاصي يجتمع فيه الحب والبغض ، بحسب قربه من موافقة الحق أو بغضه ومعارضته له، والذي يتعصب يفوته فقه كثير من مقاصد هذا الدين، ومن أهمها أن الأمة لا بد أن تكون أمة واحدة ، وأن الأخوة الإسلامية أصل أصيل في هذا الدين ، وأن أمر التعاون ينبغي أن يكون بين المسلمين ضد أعدائهم، وبين من هو أقل ضرراً وانحرافاً ضد من هو أكثر ضرراً وانحرافاً، وهذا كان دأب علماء الأمة ، وفقهاءها الذين أحسنوا معرفة مقاصد الشريعة، فلا يقودون مثل هذا التعصب ، إلى مثل هذه الأمور ومثله النقطة التي بعدها .
الخطر السادس : التزكية والعصمة(102/12)
فبعض الناس كما ورد ـ وضاق الوقت أن نذكر نصوص من مشاركات بعض الأخوة، وننقل الآن مما يتعلق بهذه النقطة، يقول أحد الأخوة في كلامه : نسمع أحدهم يقول فلان لا نزكيه على الله ، ثم يطنب في مدحه وفي حقيقة الأمر أنه لا يرد له قولاً ، ويوافقه على كل شيء، ولا يسمع إلا منه، ولا يقبل إلا منه، لا شك أن التزكية بالأمر الظاهر المشروع مطلوبة، ومعرفة قدْر العالم أو الداعية أو صاحب الخير مهمة، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المعصوم ، وغيره كل يؤخذ من قوله ويرد، وينبغي أن لا يكون هذا الأمر مجحفاً ، ولا أيضاً فيه نوع من المبالغة في مثل هذا الأمر ، لأن هذا كأنه نوع من تقليد المرء دينه للرجال ، كل ما قاله هذا فهو صحيح، وأيضاً أشرت في الدرس الماضي أن من الأخطاء المبالغات التي تجعل الناس في حيرة واضطراب ، أو التي تجعلهم عند المقارنة والتمحيص ، لا يجدون هذا التطابق بين القول المبالغ فيه ، وبين الحقيقة الواقعة، فلا بد أن ننتبه لمثل هذا وعند مسألة التعصب أو التزكية المطلقة أيضاً وقفات سريعة ومهمة ؛ وهي بعض الأساليب التي يقع فيها الناس ، ويلبس عليهم فيها أن فيها مسوغات شرعية، فإذا أراد أن يقدح قال : فلان هداه الله ، ثم يحط عليه حطاً منكراً أو فلان جزاه الله خيراً وبارك فيه، ثم بعد ذلك يذمه ويشينه، كأنه يرى أنه بمثل هذا القول مسوغ للذي بعده، وهذا لا شك أنه من الخطأ الكبير، وأيضاً يتلبس على الناس بمسألة إحقاق الحق، وأن الحق أحقُّ أن يتبع، فيستبيح لمثل هذا أعراض الآخرين، ويتعصب ضدهم وينبزهم بما ليس فيهم أو بما هو فيهم، لكنه ما اتخذ الطريق المشروع لإزالته أو إبلاغه إياه، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمة الله عليه - : " فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره " وقد ذكر بعض الأخوة عين هذه المسألة فقال إن بعض الشباب في مجالسهم يجتمعون ليس لهم هم إلا أن ينتقدوا الآخرين ، سواء من أقرانهم أو من الدعاة أو من العلماء بل حتى تناولوا علماء من علماء الأمة الذين قد أفضوا إلى ما قدّموا، وأبلوا في نصح الأمة بلاء حسناً، وذكر السائل أمثال النووي وابن حجر - رحمة الله عليهم -، فتجد بعض الناس مجالسهم تفكه بأعراض المسلمين والعياذ بالله، ودوام النقد الذي لا يلتفت إلى خير ، ولا يبني ولا يوجه إلى العمل ، هو نوع من الأسباب المفضية إلى قسوة القلب ، وإلى انطماس نور البصيرة ، وإلى قلة الفقه في الدين ، وإلى ذهاب الورع والتقوى والخشية لله - عز وجل -، ولذا أشرت في الدرس الذي مضى ما ذكره ابن القيم في فوائده لمّا قال : إن أعلى الهمم همة طلب علم كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن أخسّ الهمم في طلب العلم ، تتبع شواذ المسائل والمسائل المختلف فيها، قال : وقلّ أن يفلح من أخذ بهذا السبيل ، وقوله في العيان وفي الواقع ظاهر والدليل عليه واضح في كثير من الحالات، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب برئ مما يقولون فيه أو فيه بعض ما يقولون ، لكنه يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس ، واستثقله أهل المجلس ، ونفروا عنه، فيرى أن هذه الموافقة فيها من حسن المعاشرة ، وطيب المصاحبة، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم، ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول : ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب ، وإنما أخبركم بأحواله، ويقول : والله إنه مسكين ، أو رجل جيد، ولكن فيه كيت وكيت، وربما يقول : دعونا منه الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه ، وهضمٌ لجنابه، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقاً، وقد رأينا منهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه ، ومنهم من يرفع غيره رياءً فيرفع نفسه، فيقول لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان لما بلغني عنه كيت وكيت، ليرفع نفسه ، ويضع غيره عند من يعتقده، ويقول فلان بليد الذهن قليل الفهم قصده مدح نفسه وإثبات معرفته وأنه أفضل منه، فتسأل عن فلان فيقول : نعم ليس عنده كذا وكذا ، ليبين أن عنده غير الذي عند غيره ، ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة ، فيجمع بين أمرين قبيحين الغيبة والحسد، وإذا أثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح ، أو في قالب حسد وفجور وقدح ، ليُصرف ذلك عنه ، ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تسخر ولعب ، ليذهب غيظه باستهزائه ومحاكاته، واستصغار المستهزئ به، ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تعجب وهذا كثير، يقول : تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت ؟، ويقول : فلان كيف وقع منه كيت وكيت ؟، وهنا تعجب وما قال خطأ ولا صواب، لكن صيغة هذا الكلام يدل على مثل هذا القدح، وأفاض شيخ الإسلام في مثل هذه الصور التي نحن مبتلون بكثير منها ، نسأل الله - سبحانه وتعالى - العافية .(102/13)
ومن الأخطاء المهمة في هذه القضايا - سواء في التعصب أو التنازع أو التكفير أو التفسيق - بعض الأمور المهمة، ذكرنا بعضاً منها في درس [هذا بيان للناس ] تعليقاً على بيان سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز، ومن ذلك أمور أنبه عليها أيضاً .
آفات في طريق التنازع
أولاً : التعميم في الحكم
فلا يقول فلان وفلان، بل يقول أهل البلد الفلاني كذا، أهل الجماعة الفلانية كذا، أهل المسجد الفلاني فيهم كذا وكذا، من قال أن الناس كلهم على قول ورأي واحد، ما يصح التعميم في الحكم، لو قيل مثلاً أن أهل هذا المسجد كلهم فيهم خصلة ابتداع ، لا يمكن أن يكون كل الناس لهم وصف واحد، ولا يصح التعميم في مثل هذه الأحكام، سواء كان في الأفراد أو كان في الفرد الواحد، فتقول فلان فيه جلافة لمجرد موقف واحد ، كان فيه ربما كان في وقته غليظاً أو فظّاً ، أو كان غاضباً ، فعممت موقفاً واحداً على سائر حياته ، أو فلان لا يعرف ولا يعلم جاهل، لماذا ؟ لأنه سئل في مسألة فقال : لا أعلم .
إذاً هذا التعميم من الأخطاء الشائعة- وللأسف - . وكذلك النظر إلى مرحلة من مراحل الحياة، قد يكون الإنسان في مرحلة من مراحل حياته كان مسرفاً على نفسه بالمعاصي ثم تاب، فنقول فلان فاسق باعتبار أول حاله، ولو تاب ولو أتى بألف دليل ودليل لا يقبل منه، وهذا لا شك أنه مخالف لشرع الله - سبحانه وتعالى - ولمقتضى حتى العقول .
ثانياً : قلة الإنصاف
وهي التركيز على السلبيات دون الإيجابيات، والله - سبحانه وتعالى - أمرنا بالعدل حتى مع الأعداء ، وأمرنا بالمعاملة الحسنى حتى مع أهل الكتاب { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } فكيف لا يكون ذلك لإخواننا في الإسلام .
ثالثاً : عدم التثبت
وهي الآفة الكبرى، وهي أن يجعل أذنه لاقطة لكل خبر، مُسلَّم التصديق ، ويحق في بعض الناس قول الله - عز وجل - :{ إذ تلقونه بألسنتكم } وهذا تعبير قرآني فريد، التلقي بالأذن لكنه لما أسرعوا من نقله من آذانهم إلى ألسنتهم، قال تلقونه بألسنتكم، ليس هناك وقت ولا فاصل بين التلقي والإرسال، مباشرة يرسل من غير ما ترويّ ولا تثبت، وينسى قول الله - سبحانه وتعالى -: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } وأيضاً هناك أسباب كثيرة ينبغي أن يتنزه الإنسان منها؛ منها إتباع الهوى ، ومنها الجهل ، ومنها سوء الظن بالآخرين ، ومنها الموافقة للأصدقاء وأصحاب الأهواء، ومنها أمور أخرى يقع بسببها في كثير من هذه القضايا التي أشرنا إليها.
والوقفة قبل الأخيرة .
مطالبات وتوجيهات
المسألة الأولى : التعامل والدعوة مع العامة
فأوصي الأخوة أن يحسنوا الدعوة ، والتعامل مع العامة، فبعضهم ممن كان لهم مطالب ، يذكر أن كثيراً من الشباب إذا رأوا منكراً ، أو رأوا تاركاً ، أو متخلفاً عن الصلاة ، أو رأوا أمراً لا ينبعثون له، ولا يقومون بأدنى الواجب فيه، لأنهم منغلقين على أنفسهم ، حريصين على دروس العلم ، وعلى حفظ القرآن ، لا يوجهون أحداً إلا بعضهم بعضاً ، وربما يستنكف الواحد منهم أن يخاطب العامي ، ويراه دون ذلك أو أحياناً يرى أن غيره أولى ، نقول نعم قد يكون غيره أولى بالتعليم، لكن تقديم هذا لا يعني إغفال هذا بالكلية، ولذلك الدعوة لعامة الناس ، والإصلاح للمنكرات العامة ، والمظاهر العامة، لا شك أنه من أعظم أسباب بقاء الصلاح ، واستصلاح الناس من بعد، فإنك إن تركت هذه الأمور والمنكرات ، والناس على جهلهم لتعلم طلبتك فحسب ، أو لتربي تلاميذك فحسب، فبعد ذلك ماذا سيكون ؟ انحراف في المجتمع قد يؤثر عليهم ، ويفسد ما تربوا عليه من الخير والصلاح ، ولن تجد بعدهم من يكون مؤهلاً لأن ينتفع بالعلم ، ويستفيد من التربية .
المسألة الثانية : الدعوة والاهتمام بالأهل(102/14)
وهي مسألة طويلة الأمد ، كثيرة الشكوى منها، وهي تعامل الشباب مع أهلهم وأسرهم وذويهم، فإن خير كثير من الشباب مبثوث وموهوب خارج بيوتهم ، وخارج أهليهم والله - سبحانه وتعالى - قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: { وأنذر عشيرتك الأقربين } وكما يقولون : " الأقربون أولى بالمعروف " ، وكثير من هؤلاء الشباب لا يقيم في بيته درساً ، تراه حافظاً للقرآن، مجوِّداً له على حظ من العلم ، وعلى فصاحة في اللسان ، وعلى طلاقة في البيان، أما في بيته لا يقدم لأهله أدنى الواجب، وهذا لا شك أنه من أكبر الخلل ، وأكبر الاضطراب والتصور، وكما أشرت هو أمر تكثر الشكوى منه ، ولعل من المناسب أن هذه الشكوى جاءت من نفس الشباب الذين ذكروا مثل هذه العلة وهذا النقص، وهذا الذي يقع به نوع من الخلل من وجه آخر، وهو أن الآباء والأسر يرون في هذا الالتزام وهذا الصلاح بنظرة غير محمودة، ويكونون معترضين على مثل هذا، وبحكم أنهم قد لا يكونوا عندهم موازين شرعية في التقويم، فيعتبرون كل عمله ليس فيه خير، ويقولون : كنا قبل ذلك نرى منك بعض الخير أو بعض الشر، أما حينما أخذت في هذا المسلك ما رأينا منك خيراً قط، وهذا لا شك أنه يلحق ضرره ويعتبر من آثار عمل العبد، فأنت أوجبت أو كنت سبباً في إيجاد هذا الفهم ، وهذا القول الخاطئ لأهلك، لأنك كنت سبباً في هذا التصور ، وهذا القول ، لذلك ينبغي أن يفقه الإنسان - وخاصة الشاب - أن أولى الناس ببرِّه وبخيره وبعلمه وبصلاحه هم أهله، لماذا ؟ لأن كل الناس يمكنهم أن يخالطهم في فترة ، ويتركهم في فترة إلا أهله، لأنه لا يوجد إنسان يستطيع أن ينفصل عن أهله ، عن أبيه ، عن أمه ، عن زوجته ،عن أبنائه، قد يكون مع زملائه في الدراسة أو زملاءه في العمل ثم تتفرق بهم السبل، أما هؤلاء فإذا ما أصلح الدار فإن سيبقى دائماً في شقاق ونزاع ، لا شك أنه من أعظم البر، من أعظم إسداء المعروف للأهل .
المسألة الثالثة : التفاعل والبذل في سبيل الدعوة
وأذكر للإيجاز المشاركة التي جاءت في ذلك، ربما لأنها غنية عن التعليق يقول الأخ يذكر هنا : " شباب الصحوة يجب أن يعايشوا صحوتهم ، ويبذلوا جهدهم في نشرها غير منتظرين المثوبة من أحد ، ولكن المثوبة من الله - عز وجل -، وعلامة صدق الباطن الانفعال الفعلي للدعوة وللصحوة، ومن أخلص لشيء أعطاه كل ما يملكه، فماله ووقته وجهده وفكره وكل إمكاناته هي في خدمة الصحوة والدعوة، وتحت تصرفها فهو يقدم صحوته على طعامه وشرابه، ويؤثرها على زوجته وأولاده، ويتصورها في يقظته ومنامه، ويبذل لها ماله ليكسب لها الانتشار، ويتألف بها الأعوان، ويتعب جسمه ليبلغ بها أبعد الأسباب في النجاح ، ويعيش ليحمل هذا الأمر ، لا ليكون هو محمولاً، عندها يصدق ظاهراً وباطناً " فكثير من الشباب يتحدثون في هذه الأمور، ولكنهم لا يتحركون في أعماق قلوبهم ولا يتحركون كثيراً في واقع حياتهم، ونحن - للأسف - ربما هذا من أثر الواقع العام في المجتمعات العربية كما يقولون، نحن قوم نجيد الكلام ، ولا نحسن العمل، وهذه تنعكس آثارها علينا .
وأخير وجدت بعض التساؤلات عن بعض القضايا التي ذكرت فيما مضى، من ذلك استشهاد عائشة بقول لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم **** وبقيت في زمن كجلد الأجرب
يقول السائل : أليس هذا قولاً محذوراً فيه نوع من النقد ، والتذمر من الزمان، نقول : ليس هذا داخل في مثل هذا، بل هو نوع من ذكر فضيلة الزمن السابق ، وما وقع من الخلل والخطأ في الزمن اللاحق ، وليس فيه لا تمنيٍ للموت ولا سب للدهر، وإنما هو وصف للحال، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح عند البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - أنه قال : ( ما من زمان يأتي إلا والذي بعده شر منه ) فوصف زمان بالشر ، أو بوقوع الفساد فيه ليس محذوراً بل هو من التنبيه على ما وقع من خطأ وفساد، وأيضاً سائل سأل عن مسألة بعينها في النص الذي نقلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية من اقتضاء الصراط المستقيم، فيما يتعلق بمسألة المولد النبوي، وقال لعله يفهم من النص أنه إقرار وإباحة! وقد قلت فيما مضى وفي نص كلام الشيخ أنه ليس له أصل مشروع وهو مبتدع، لكن كان الاستدلال من كلام الشيخ أنه قد يكون فيه خير وفيه بدعة، وكان الكلام أنه لا بد إزالة البدعة وإحلال السنة، فإن لم يستطع فإزالة البدعة وإخلاءها من غيرها، بحيث يبقى الأصل من السنة والخير عامراً، أما إن اقتضى زوال الابتداع اليسير إذا كان يسيراً وفات فيه الخير الكثير فهذا غير صحيح في مراعاة المصالح والمفاسد، أما المولد في ذاته غير مشروع وليس له أصل من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته - رضوان الله عليهم - ولا سلف الأمة ولا أعلام الأمة المعروفين والمعتبرة أقوالهم .(102/15)
أصول البدع
مراد القدسي
... ...
1521
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
1- البدعة في اللغة والاصطلاح. 2- تمام الشريعة. 3- أسباب الابتداع. 4- حكم الابتداع. 5- وجوب معرفة البدعة والتحذير منها. 6- الاجتهاد في البدعة. 7- كيف تميز البدعة. 8- البدعة والنوايا الحسنة. 9- كل بدعة ضلالة. 10- أضرار الابتداع.
الأصل الأول :تعريف البدعة:
لغة: أصل هذه الكلمة من الاختراع، وهو الشيء يحدث من غير أصل سبق ولا مثال احتذي ولا أُلف مثله.قال تعالى: بديع السموات والأرض. قال الشوكاني: هو الذي ابتدأ خلقهما على غير مثال سابق وقوله: قل ما كنت بدعاً من الرسل، قال الشوكاني: أي ما أنا بأول رسول، قد بعث الله قبلي كثيراً من الرسل.
ومن هذا الاختراع: إحداث شيء جديد في الدين، وقد غلب لفظ البدعة على هذا.
اصطلاحاً: عرفها الشاطبي (الاعتصام 1/37): عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه.
شرح التعريف:
طريقة في الدين: أي طريق وسبيل وسنن.
في الدين: أي تضاف للدين.
مخترعة: والطرائق في الدين منه ماله أصل ومنه ما ليس له أصل خص من ذلك بالتعريف: القسم المخترع. أي تخرج عما رسمه الشرع.
تضاهي الشرعية: تشابه الطريقة الشرعية من التزام: 1- كيفية معينة. 2- أو هيئة أو عبادة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة.
يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله: وهذا هو تمام تعريف البدعة.
الأصل الثاني:الشريعة كاملة:
قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.
روى البخاري ومسلم من حديث طارق بن شهاب قال: (قالت اليهود لعمر إنكم تقرؤن آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً قال: وأي آية؟ قالوا: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، قال: عمر: والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله فيه، والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله عشية يوم عرفة في يوم جمعة).
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم)).
وروى الطبراني من حديث أبي ذر: تركنا رسول الله وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علماً، فقال رسول الله: ((ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بين لكم)).
روى أبو خثيمة عن ابن مسعود: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة).
قال مالك: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة لأن الله يقول: اليوم أكملت لكم دينكم فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً.
قال الشوكاني: فإذا كان قد أكمل دينه قبل أن يقبض نبيه ، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه.
إن كان من الدين في اعتقادهم فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم، وهذا فيه رد للقرآن، وإن لم يكن من الدين فأي فائدة في الاشتغال بما ليس من الدين.
قال الذهبي: "كل ما أحدث بعد نزل هذه الآية فهو فضلة وزيادة وبدعة".
الأصل الثالث: أسباب البدع:
1) الجهل بمصادر الأحكام وبوسائل فهمها:
مصادر الأحكام: الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح.
القرآن: قد يسيء فهمه من قبل البعض فيقعون في البدعة.
السنة: قد تجهل الأحاديث الصحيحة وتهدر الأحكام المتعلقة بها.
أو الأخذ بالأحاديث الضعيفة وبناء الأحكام عليها.
الإجماع: قد يجهل مواضع الإجماع، أو قد يقال بإجماع بعض الأمة ولم يؤخذ بها مما يؤدي إلى البدع.
القياس: القياس لا يرجع إليه في أحكام العبادات لأنه يدخل في الأحكام المعقولة المعنى. والعبادات ليست كذلك.
أو قد يستخدم في مقابلة نص.
2) متابعة الهوى في الأحكام:
ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.
وبمتابعة الهوى: تكتسح الأديان ويقتل كل خير.
3) تحسين النطق بالعقل في الشرعيات:
فالعقل قد جعل له حدٌ ينتهي في الإدراك إليه، ولم يجعل لها سبيلاً إلى إدراك كل شيء.
قال الشافعي: من استحسن فقد شرع.
الأصل الرابع: حكم البدع:
1- البدعة مردودة على فاعلها، والعمل المبتدع ليس له أجر فيه.
روى مسلم من حديث عائشة: قالت: قال ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)).
وفي رواية: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
قال ابن رجب: فهذا الحديث يدل بمنطوقه على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود)) [الجامع 1/177].
قال ابن حجر: (وهذا الحديث معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده، فإن معناه من اخترع من الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه) [الفتح].
قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك. [شرح مسلم 12/16].(103/1)
قال الألباني: وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه فإنه صريح في رد وإبطال كل البدع والمحدثات. [الإرواء رقم 88].
وقال ابن رجب: وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها كما أن حديث: ((الأعمال بالنيات)) ميزان للأعمال في باطنها، فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله، وكل من أحدث في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله فليس من الدين في شيء.
الأصل الخامس: وجوب معرفة البدعة والتحذير منها.
معرفة البدعة واجب من أجل أن يتوقاها المسلم ولا يقع فيها.
في الحديث المتفق عليه عن حذيفة بن اليمان: (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فأقع فيه).
قال الشاعر:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه
ومعرفة الأشياء بأضرارها مسلك قرآني عظيم:
فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم.
وقد جاءت أدلة في السنة تحذر من الوقوع في البدع:
وفي حديث أبي داود والترمذي في حديث العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة)).
قال ابن رجب: فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة، والدين برئ منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة. [الجامع 2/128].
وكان يقول في خطبته: ((إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها)).
ومن كلام السلف:
قال يحي بن معاذ الرازي: اختلاف الناس كلّهم يرجع إلى ثلاثة أصول، فلكل واحد منها ضد فمن سقط عنه وقع في ضده: التوحيد وضده الشرك، والسنة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية.
قال أبو شامة المقدسي:(وقد حذر النبي وأصحابه – فمن بعدهم – أهل زمانهم من البدع ومحدثات الأمور وأمروهم بالاتباع الذي فيه النجاة من كل محذور، وجاء في كتاب الله من الأمر بالاتباع بما لا يرتفع معه الترك، قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله. وقال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.
قال مجاهد: ولا تتبعوا السُبُل: البدع والشهوات.
والعز بن عبد السلام يقول: طوبى لمن تولى شيئاً من أمور المسلمين فأعان على إماتة البدعة وإحياء السنن.
وقال أيضاً: يجب إنكار البدع المضلة وإقامة الحجة على إبطالها سواء قبلها قائلها أوردها.
وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله ترى للرجل أن يشتغل بالصوم والصلاة ويسكت عن الكلام في أهل البدع؟ فكلح في وجهه وقال: إذا هو صام وصلى واعتزل الناس أليس إنما هو لنفسه؟ قلت: بلى، قال: فإذا تكلم كان له ولغيره، يتكلم أفضل.
وقال قتادة: إن الرجل إذا ابتدع بدعة ينبغي لها أن تذكر حتى تُحذر.
الأصل السادس: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة.
هذه الكلمة وردت عن كثير من الصحابة منهم أبو الدرداء وابن مسعود.
وعن أبيّ بن كعب: وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً أو اقتصاداً أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنتهم صلوات الله عليهم.
وهذه الكلمة جاء معناها في السنة:روى النسائي وابن ماجة وأحمد أنه قال : ((إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)).
وروى الشيخان من حديث عائشة: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)).
وقال : ((إن لكل عمل شرة ثم فترة فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضل، ومن كانت فترته إلى السنة فقد اهتدى)).
وورد هذا المعنى عن جمع من السلف:
سلام بن سُليم أبو الأحوص كان يقول: يا سلام نم على سُنَّة خير من أن تقوم على بدعة.
والنخعي قال: لو أن أصحاب محمد مسحوا على ظفر لما غسلته التماس الفضل في اتباعهم.
وابن كثير يقول: ومن لم تسعه طريقة الرسول وطريقة المؤمنين السابقين فلا وسع الله عليه.
الأصل السابع: من الذي يميّز البدع؟
لابد لمن أراد تميز البدع أن يعرف أمرين مهمين:
1- سيرة الرسول وسنته، فهي كالقاعدة للتمييز بين السنن والبدع.
2- علم أصول البدع، ليسهل عليه معرفة البدعة وأقسامها وحكمها ويقعِّد تخريج الفروع على هذه الأصل.
وقد تنكر بعض الأشياء على أنها بدع، ولكن المعهود والصحيح أنه ليس فيها شيء من ذلك:
1- ما أنكر السيوطي: "من تشييد البنيان بالجص والأجر وأنه بدعة"، وهو من العادات وليست من العبادات.(103/2)
2- أنكر سعد بن أبي وقاص على رجل لبى بقوله: لبيك ذا المعارج فقال له: إن الله ذو المعارج ولكن لم نقول ذلك مع نبينا .
ولكن ثبت تقريراً في السنة جوزا هذه التلبية.
روى أبو داود وأحمد عن جابر: ((والناس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبي يسمع فلا يقول لهم شيئاً)).
3- روى مسلم عن عائشة: أنها ومعها نساء النبي طلبن من النساء أن يأتوا بسعد بعد موته للصلاة عليه، فقيل: هذه بدعة ما كانت الجنائز يدخل بها إلى المسجد. فبلغ ذلك عائشة. فقالت: "ما أسرع الناس إلى أن يصيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد، والله ما صلى رسول الله على سهيل بن بيضاء وأخيه إلا في جوف المسجد".
الأصل الثامن: البدع والنوايا الحسنة:
قال ابن القيم: قال بعض السلف: ما من فعلة – وإن صغرت – إلا ينشر لها ديوانانِ: لِمَ؟ وكيف؟ أي لم فعلت؟ وكيف فعلت؟
لم فعلت: ومحل هذا السؤال أنه: هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك، أم فعلته لحظك وهواك.
والثاني كيف فعلتَ: أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي.
قال ابن كثير: فإن للعمل المتقبل شرطين أحدهما: أن يكون خالصاً لله وحده، والثاني: أن يكون صواباً موافقاً للشريعة فمتى كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل.
ومن أدلة هذا الأصل:
روى النسائي ما جاء في حديث ابن عباس: أن رجلاً قال للنبي: ما شاء الله وشئت، فقال: ((أجعلتني لله نداً بل ما شاء الله وحده)).
الأصل التاسع: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال : ((كل بدعة ضلالة)).
قال الشاطبي: محمول عند العلماء على عمومه لا يستثني منه شيء البته وليس فيها ما هو حسن أصلاً.
روى اللالكائي وابن بطة قول ابن عمر: (كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة).
وفي حديث الدارمي عن ابن مسعود: عندما وجد قوماً جلوساً يعدون تسبيحهم، فقال: عدوا سيئاتكم فإنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء، ويحكم يا أمة محمد ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مقتحمو باب ضلالة.
قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه.
قال الشيخ ملا أحمد رومي الحنفي: "فمن أحدث شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى من قول أو فعل فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، فعُلم أن كل بدعة من العبادات الدينية لا تكون إلا سيئة".
وقال ابن كثير: "والبدعة على قسمين: تارة تكون بدعة شرعية كقوله: ((فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة))، وتارة تكون بدعة لغوية كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعمت البدعة هذه".
((كل ضلالة في النار)): أي يستحق النار إن لم يغفر له أو يخلد فيها أو إن استحل وادعي أنه يتم الشريعة.
الأصل العاشر: آثار البدع ونتائجه:
1- البدعة أصل كل شر:
أ - قال ابن وضاح: "كل بدعة عليها زينة وبهجة". فيها تزيين الباطل في صورة الحق.
ب - قال ابن القيم: "العمل المبتدع مستلزم إما الاعتقاد هو ضلال في الدين، أو عمل دين لغير الله، والتدين بالاعتقادات الفاسدة أو التدين لغير الله: لا يجوز".
ت - ثم قال: "ثم هذا الاعتقاد يتبعه أحوال في القلب من التعظيم والإجلال، وتلك الأحوال أيضاً ليست من دين الله".
ث - ثم قال: "فعل هذه البدع تناقض الاعتقادات الواجبة وتنازع الرسل ما جاءوا به عن الله، وإنها تورث القلب نفاقاً ولو كان نفاقاً خفيفاً".
2- في البدع رفع للسنن:
قال ابن عباس: ما يأتي على الناس من عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن.
وقال حسان بن عطية: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لا يعيدها عليهم إلى يوم القيامة.
وقال ابن سيرين: ما أحدث رجل بدعة فراجع سنة.
3- سبل أصحاب البدع: كالعقارب ويؤولون النصوص بحسب أهوائهم.
قال العليمي: "فأصحاب البدع مثل العقارب يدفنون رؤوسهم وأيديهم في التراب ويخرجون أذنابهم فإذا تمكنوا لدغوا، وكذلك أهل البدع مختفون بين الناس فإذا تمكنوا بلغوا ما أرادوا.
قال ابن أبي العز: كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته وما ظنه معقولاً فما وافقه قال: إنه محكم وقبله واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه ثم رده.
وطريق أهل السنة: أن لا يعدلوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوه بمعقول ولا قول فلان.
قال الأوزاعي: من ستر علينا بدعته لم تخف علينا ألفته.
4- اتباع طريقهم وطرقهم سبب الفرقة:
قال البغوي: قد أخبر النبي عن افتراق هذه الأمة وظهور الأهواء والبدع فيهم، وحكم بالنجاة لمن اتبع سنته وسنة أصحابه .
وقال: وقد مضت الصحابة والتابعين وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم.
قال أبو داود: باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم.
وقال المنذري: الترهيب من حب الأشرار وأهل البدع، لأن المرء مع من أحب.(103/3)
وقال النووي في الأذكار: باب التبري من أهل البدع والمعاصي.
وقال البيهقي في الاعتقاد: باب النهي عن مجالسة أهل البدع.
وقال القاضي أبو يعلى: أجمع الصحابة والتابعون على مقاطعة المبتدعة.
وقال الفضيل: من جلس مع صاحب بدعة فاحذره، ومن جلس مع صاحب البدعة لم يعط الحكمة، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب بدعة حصن من حديد.
وقال يحي بن أبي كثير: إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ من غيره.
قال مالك: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوّضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
قال الذهبي: فاتباع السنن حياة القلوب وغذاؤها، فمتى تعودت القلوب البدع وألفتها لم يبق فيها فضل للسنن.
قال ابن مسعود: وإياكم وما يحدث الناس من البدع، فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرة ولكن الشيطان يحدث له بدعاً حتى يخرج الإيمان من قلبه، ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله فرضه في الصلاة والصيام والحلال والحرام ويتكلمون في ربهم عز وجل فمن أدرك ذلك الزمان فليهرب.
قيل: يا أبا عبد الرحمن إلى أين قال: إلى لا أين، يهرب بقلبه ودينه ولا يجالس أحداً من أهل البدع. أهـ.
عدم مناظرة أهل البدع:
قال الحسن البصري: لا تمكن أذنيك من صاحب هوى فيمرض قلبك.
قال الأوزاعي: لا تمكنوا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنته ارتياباً.
وفي رواية الدارمي عن سعيد بن عامر قال: قال سمعت جدتي تحدث قالت: دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث قال: لا، قال: فنقرأ عليك آية من كتاب الله، قال: لا، لتقومان عني أو لأقومن.
قال الثوري: من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنه صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه.
5- الرد على أهل البدع:
الرد عليهم من إزالة المنكر وبيان الحق وتعرية الباطل.
6- طريق الخلاص من البدع:
((تركت فيكم أمرين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)) وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.
· ثم اتباع منهج السلف الصالح.(103/4)
أصول التعامل مع غير المسلمين
أولاً: أصناف غير المسلمين:
1- المحاربون.
2- أهل الذمة.
3- أهل العهد.
4- أهل الأمان.
ثانيًا: أحكام فقهية متعلقة بغير المسلمين:
1- التجارة.
2- دخول الكافر المسجد.
3- استئجار المسلم الكافر.
4- استئجار الكافر المسلم.
5- التبايع.
ثالثًا:أصول في التعامل مع غير المسلمين عموما:
1- العدل.
2- الدعوة إلى الحقّ.
3- البراءة منهم، وعدم موالاتِهم.
4- النهي عن مشابَهتهم، والأمر بمخالفتهم.
5- الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة.
رابعًا:أصول في التعامل خاصّة بكل صنِّف:
1- أهل الحرب:
أ- الشدة في قتالهم وعدم اللين معهم.
ب- عدم الغدر والخيانة بِهم، إذا وقع الصلح والهدنة معهم.
ج- عدم قتل من لا يقاتل غالبًا منهم، كالمرأة، والصبيان، والشيخ الفانِي، والأجير، والعابد في صومعته.
د- حِلُّ الدم و المال.
2- أهل الذمّة:
أ- إلزامهم بدفع الجزية.
ب- وجوب حمايتهم.
ج- حرمة دمائهم وأموالهم.
د- النكاح بأهل الكتاب منهم.
3- أهل العهد:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم مثل ردّه عن أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم حال العهد.
4- أهل الأمان:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم، مثل ردّه عن أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم. (انظر: حرمة أموالهم ودمائهم في حقوق أهل الذمة).
خامسًا: المسلمون في ديار الكفر:
1- حكم الإقامة في بلاد الكفّار.
2- النكاح بأهل الكتاب اليوم في ديارهم.
أولاً: أصناف غير المسلمين:
الكفار غير المسلمين من حيث موقفهم من الإسلام وأهله أصناف، قال ابن القيّم: "الكفار: إمّا أهل حربٍ، وإمّا أهل عهدٍ. وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمّة، وأهل هُدنة، وأهل أمانٍ"، وذلك لأنّ لفظ الذمّة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل.
قال: "ولكن صار في اصطلاح كثيرٍ من الفقهاء (أهل الذمّة) عبارة عمّن يؤدي الجزيّة".
1- أهل الحرب:
هو الكافر الذي بين المسلمين وبين دولته حالة حربٍ، ولا ذمّة له ولا عهد.
قال الشوكانِيُّ: "الحربي الذي لا ذمة له ولا عهد".
2- أهل الذمة:
الكفَّار المقيمون تحت ذمَّة المسلمين بدفع الجزيَّة.
قال ابن القيّم: "أجمع الفقهاء على أنّ الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس".
ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.
وحكم أهل الذمّة المعاهدين الذين يساكنون المسلمين في ديارهم ويدفعون الجزية أنّهم يخضعون للأحكام الإسلاميّة في غير ما أُقروا عليه من أحكام العقائد والعبادات والزواج والطلاق والمطعومات والملبوسات. ولهم على المسلمين الكفّ عنهم وحمايتُهم.
قال الماورديّ: "ويلتزم - أي الإمام - لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين".
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم".
والغرض من عقد الذمّة مع الكتابِي والمجوسي: أن يترك القتال، مع احتمال دخوله الإسلام عن طريق مخالطته للمسلمين، ووقوفه على محاسن الدين، فكان عقد الذمّة للدعوة إلى الإسلام، لا للرغبة في المال.
3- أهل العهد:
المعاهَد: هو الكافر الذي بينه وبين المسلمين عهد مهادنة.
قال ابن بطال: "والمعاهَد: الذي بينه وبين الإمام عهد وهدنة".
وإذا دخل ديار المسلمين سُمِّي مستأمنًا.
4- أهل الأمان:
المستأمن: هو الحربِي المقيم إقامة مؤقتة في ديار الإسلام.
والفرق بين أمان الذمِّي وبين المستأمن هو أنّ أمان الذمِّي مؤبد، وأمان المعاهد والمستأمن مؤقت بمدة إقامته التي يصير بتجاوزها من أهل الذمّة، وتضرب عليه الجزية.
قال ابن نجيم الحنفي: "وإذا دخل الحربِي إلينا مستأمنًا لم يُمكَّن أن يقيم في دارنا سنة، ويقول له الإمام: إن أقمت تمام السنة وضعتُ عليك الجزية".
وينقلب الذمِّي أو المعاهد أو المستأمِن حربيًا بأن يلحق باختياره بدار الحرب مقيمًا فيها، أو إذا نقض عهد ذمّته؛ فيحل دمه وماله، قال تعالى: ?وإن نكثوا أيمانَهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون? (التوبة: 12).
قال ابن عباس: نزلت في أبِي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة ابن أبي جهل وسائر رؤساء قريش، الذين نقضوا العهد؛ حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله، فأُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إليهم، فينصر خزاعة.
قال القرطبيُّ: "إذا حارب الذمي نقضَ عهدَه، وكان ماله وولده فيئا معه".(104/1)
وقد حارب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وأنزلهم على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما رجع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل؛ أتاه جبريل عليه السلام، فقال: قد وضعت السلاح؟! والله ما وضعناه، فاخرج إليهم. قال: ((فإلى أين؟)). قال: ها هنا. وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم.
وعن ابن عمر أنّ يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، وأقرَّ قريظة، ومَنَّ عليهم؛ حتى حاربت قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلاَّ أنَّ بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم، وأسلموا، وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم؛ بني قينقاع - وهم قوم عبد الله بن سلام - ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة.
قال النوويُّ: "في هذا: أنّ المعاهد والذميَّ إذا نقض العهد صار حربيًا، وجرت عليه أحكام أهل الحرب، وللإمام سبي من أراد منهم، وله المَنُّ على من أراد. وفيه: أنّه إذا مَنَّ عليه ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده، وإنّما ينفع المَنُّ فيما مضى، لا فيما يستقبل، وكانت قريظة في أمان، ثم حاربوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد، وظاهروا قريشًا على قتال النبيِّ صلى الله عليه وسلم".
أحكام أهل الذمة (2/475).
أحكام أهل الذمّة (2/475).
السيل الجرار (4/441).
الدرّ النقي (289).
أحكام أهل الذمة (1/1).
البخاري في الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب (3157).
الأحكام السلطانية (143).
انظر: مغني المحتاج (4/253).
جامع الأصول لابن الأثير (7/466).
نظم المستعذب (1/157،156).
الهداية شرح البداية للمرغيناني (1/221)، والبحر الرائق لابن نجيم (7/95)، والمدونة الكبرى لسحنون (3/24)، والأم للشافعي (4/283)، والفروع لابن مفلح (2/367).
انظر: بدائع الصنائع (7/106).
البحر الرائق (5/109).
انظر: زاد المسير لابن الجوزي (3/404).
الجامع لأحكام القرآن (8/83).
البخاري في المغازي، باب مرجع النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الأحزاب (4117)، ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد (1769).
البخاري في المغازي، باب حديث بني النضير (2048)، ومسلم في الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود من الحجاز
(1766)، واللفظ له.
شرح مسلم (12/91).
ثانيا: أحكام فقهية متعلقة بغير المسلمين:
1- التجارة:
تدل عبارات الفقهاء على جواز الاتجار مع الحربيين، فللمسلم دخول دار الحرب بأمان التجارة، وللحربي دخول دار الإسلام للتجارة.
قال المرغينانِي: "وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا؛ فلا يحل له أن يتعرض لشيءٍ من أموالهم، ولا من دمائهم".
وقال السرخسي: "وإذا دخل المسلم أو الذميّ دار الحرب تاجرًا بأمان؛ فأصاب هناك مالاً ودورًا ثم ظهر المسلمون على ذلك كله فهو له كله".
وقال الشافعيّ: "لو أنَّ حربيًا دخل إلينا بأمان وكان معه مال لنفسه ومال لغيره من أهل الحرب لم نعرض له في ماله".
وقال أبو إسحاق الشيرازي: "ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير الإقامة؛ لأنّ عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجرا في مقام ثلاثة أيام".
وقال ابن تيميّة: "وإذا سافر الرَّجل إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا، كما دلّ عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، وهي حينذاك دار حرب، وغير ذلك من الأحاديث".
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: هل يجوز للمسلم أن يكون شريكًا للنصراني في تربية الأغنام أو تجارتِها أو أيِّ تجارة أخرى, أفيدونا أفادكم الله؟
فأجاب رحمه الله: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بِهداه.
أمَّا بعد: فإنّ اشتراك مسلم مع نصراني أو غيره من الكفرة في المواشي أو في الزراعة أو في أي شيء آخر، الأصل في ذلك جوازه إذا لم يكن هناك موالاة، وإنّما تعاون في شيء من المال كالزراعة أو الماشية أو نحو ذلك، وقال جماعة من أهل العلم: بشرط أن يتولى ذلك المسلم، أي: أن يتولى العمل في الزراعة، أو في الماشية المسلم، ولا يتولى ذلك الكافر لأنه لا يُؤْمَن.
وهذا فيه تفصيل: فإن كانت هذه الشركة تجر إلى موالاة، أو لفعل ما حرم الله، أو ترك ما أوجب الله حرمت هذه الشركة لما تفضي إليه من الفساد، أما إن كانت لا تفضي لشيء من ذلك، والمسلم هو الذي يباشرها وهو الذي يعتني بِها حتى لا يخدع فلا حرج في ذلك.(104/2)
ولكن بكل حال فالأولى به السلامة من هذه الشركة، وأن يشترك مع إخوانه المسلمين دون غيرهم، حتى يأمن على دينه ويأمن على ماله، فالاشتراك مع عدو له في الدين فيه خطر على خلقه ودينه وماله، فالأولى بالمؤمن في كل حال أن يبتعد عن هذا الأمر؛ حفظًا لدينه؛ وحفظًا لعرضه؛ وحفظًا لماله؛ وحذرًا من خيانة عدوه في الدين، إلاَّ عند الضرورة والحاجة التي قد تدعو إلى ذلك، فإنَّه لا حرج عليه بشرط مراعاة ما تقدم، أي: بشرط ألا يكون في ذلك مضرة على دينه أو عرضه أو ماله، وبشرط أن يتولى ذلك بنفسه فإنَّه أحوط له، فلا يتولاه الكافر بل يتولى الشركة والأعمال فيها المسلم، أو مسلم ينوب عنهما جميعًا".
2- دخول الكافر المسجد:
يجوز للمشرك أن يدخل المسجد، فعن أبِي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجدٍ، فجاءت برجلٍ من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتى كان الغد، ثم قال له: ((ما عندك يا ثمامة؟)) قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي ما قلت لك. فقال: ((أطلقوا ثمامة)). فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله.
قال ابن حجر: "وفي قصة ثمامة من الفوائد: ربط الكافر في المسجد".
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم دخول الكافر المساجد فأجاب: "أمّا المسجد الحرام؛ فلا يجوز دخوله لجميع الكفرة؛ اليهود، والنصارى وعباد الأوثان، والشيوعيين، فجميع الكفرة لا يجوز لهم دخول المسجد الحرام؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? [التوبة: 28]، فمنع سبحانه من دخولهم المسجد الحرام، والمشركون يدخل فيهم اليهود والنصارى عند الإطلاق، فلا يجوز دخول أي مشرك المسجد الحرام، لا يهودي، ولا نصراني، ولا غيرهما، بل هذا خاص بالمسلمين. وأمَّا بقية المساجد فلا بأس من دخولهم للحاجة والمصلحة، ومن ذلك المدينة، وإن كانت المدينة لها خصوصية، لكنها في هذه المسألة كغيرها من المساجد، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ربط فيها الكافر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرَّ وفد ثقيف حين دخلوا المسجد قبل أن يسلموا، وهكذا وفد النصارى دخلوا مسجده عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أنه يجوز دخول المسجد النبوي للمشرك, وهكذا بقية المساجد من باب أولى إذا كان لحاجة، إما لسؤال، أو لحاجة أخرى، أو لسماع درس ليستفيد، أو ليسلم ويعلن إسلامه، أو ما أشبه ذلك.
والحاصل: أنَّه يجوز دخوله إذا كان هناك مصلحة، أمَّا إذا لم يكن هناك مصلحة؛ فلا حاجة إلى دخوله المسجد، أو أن يخشى من دخوله العبث في أثاث المسجد، أو النجاسة فيمنع".
3- استئجار المسلم الكافر:
عن عائشة رضي الله عنها: استأجر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل، ثم من بني عبد بن عدي، هاديًا خريتًا - الخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأمِناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي، فأخذ بِهم أسفل مكة، وهو طريق الساحل.
قال ابن حجر: "وفي الحديث: استئجارُ المسلمِ الكافرَ على هداية الطريق إذا أمن إليه".
قال ابن بطال: "عامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها لما في ذلك من المذلة لهم، وإنّما الممتنع أن يؤاجر المسلم نفسه من المشرك، لما فيه من إذلال المسلم".
4- استئجار الكافر المسلم:
قال المهلب: "كره أهل العلم ذلك إلاّ لضرروة بشرطين: أحدهما: أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله، والآخر: أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين".
وقال ابن المنيّر: "استقرت المذاهب على أنّ الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمَّة، ولا يعد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منْزله، وبطريق التبعية له، والله أعلم".
وقال الشربيني: "يصح من الكافر استئجار المسلم إجارة ذمة".
5- التبايع:
يجوز البيع والشراء مع غير المسلمين، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ بثلاثين صاعًا من شعيرٍ.(104/3)
وعن عبد الرحمن بن أبِي بكر رضي الله عنهما، قال: كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((هل مع أحد منكم طعام؟)). فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن، ثم جاء رجل مشركٌ مشعانٌ طويلٌ بغنم يسوقها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((بيعًا أم عطيةً؟))، أو قال: ((أم هبة؟)) قال: لا، بل بيع. فاشترى منه شاة، فصنعت، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثلاثين والمائة إلاَّ قد حزَّ النبي صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاها إياه، وإن كان غائبًا خبأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون، وشبعنا ففضلت القصعتان، فحملناه على البعير، أو كما قال.
قال ابن بطال: "معاملة الكفَّار جائزة، إلاّ بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين".
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز: هناك أصحاب مهن كالحلاقة والخياطة وعمال في المطاعم أو غير ذلك وهم غير مسلمين؛ إما مسيحيون أو لا دينيون، فما حكم تعامل المسلم معهم؟
فأجاب رحمه الله: "ما داموا في البلاد يتعاطون هذه الأمور فلا مانع من الشراء منهم، وقضاء الحاجة، والبيع عليهم، فقد اشترى الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود، واشترى من بعض المشركين، فلا بأس، ولكن لا يحبهم، ولا يواليهم، بل يبغضهم في الله، ولا يتخذهم أصدقاء ولا أحبابا، والأفضل أن يستخدم المسلمون والمسلمات دون الكفار في كل الأعمال.
لكن إذا كان العمل في الجزيرة العربية حرم استقدام الكفار إليها واستخدامهم فيها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بإخراجهم من هذه الجزيرة العربية وقال: ((لا يجتمع فيها دينان))، لكن إذا قدموا لتجارة ثم يعودون أو بيع حاجات على المسلمين أو قدموا إلى ولي الأمر برسالة من رؤسائهم فلا حرج في ذلك؛ لأن رسل الكفار كانوا يقدمون على النبي في المدينة عليه الصلاة والسلام، وكان بعض الكفار من أهل الشام يقدمون على المدينة لبيع بعض ما لديهم من طعام وغيره".
ولكن لا يجوز بيعهم السلاح الذي يتقوون به على المسلمين، قال السرخسي: "ولا يمنع التجار من حمل التجارات إليهم إلا الكراع والسلاح والحديد؛ لأنّهم أهل حرب، وإن كانوا موادعين؛ ألا ترى أنّهم بعد مضي المدة يعودون حربًا للمسلمين، ولا يمنع التجار من دخول دار الحرب بالتجارات، ما خلا الكراع والسلاح؛ فإنّهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين، فيمنعون من حمله إليهم، وكذلك الحديد؛ فإنه أصل السلاح، قال الله تعالى: ?وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ? (الحديد: 25)".
بل وأيُّ شيءٍ يتحقق منه أنّه يقويهم على المسلمين، وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: "الكافر الحربي لا يُمَكَّن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال، ونحوه، والدواب والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به".
بداية المنتهي (ص: 118).
المبسوط (10/67).
الأم (4/247).
المهذب (2/258).
اقتضاء الصراط المستقيم (2/15).
عن الموقع الرسمي للشيخ رحمه الله، رقم السؤال (173).
فتح الباري (8/88).
عن الموقع الرسمي للشيخ، رقم السؤال (175).
البخاري في الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة (2263).
فتح الباري (4/442).
انظر: فتح الباري (4/442).
انظر: فتح الباري (4/452).
انظر: فتح الباري (4/452).
الإقناع (2/349).
البخاري في الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبيِّ صلى الله عليه وسلم (2916).
البخاري في الهبة، باب قبول هدية المشركين (2618).
انظر: فتح الباري (4/410).
مالك في الموطأ (2/892)، والبيهقيّ في الكبرى (6/115)، بلفظ: ((لا يجتمع في جزيرة العرب دينان))، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4617).
عن موقع الرسمي للشيخ، سؤال رقم (172).
المبسوط (10/88-89).
الدرر السنية (8/340).
ثالثًا: أصول في التعامل مع غير المسلمين عموما:
1- العدل:
قال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إنّ الله خبيرٌ بما تعملون? (المائدة: 8).
قال البيضاويُّ: "لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيًا مما في قلوبكم. ?اعدلوا هو أقرب للتقوى? أي: العدل أقرب للتقوى، صرَّح لهم بالأمر بالعدل، وبيَّن أنَّه بمكانٍ من التقوى بعدما نَهاهم عن الجور، وبيَّن أنَّه مقتضى الهوى، وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين".(104/4)
وقال ابن كثير: "ومن هذا - أي ومن العمل بِهذه الآية - قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بِهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبِّي إيّاه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بِهذا قامت السموات والأرض".
عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم دِنيَةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)).
ودخل ذمِّيٌّ من أهل حمص أبيض الرأس واللحية على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله. قال عمر: ما ذاك؟ قال: العبّاس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. وكان عددٌ من رؤوس النّاس، وفيهم العباس بمجلس عمر، فسأله: يا عبّاس ما تقول؟ قال: نعم، أقطعنيها أبِي أمير المؤمنين، وكتب لي بِها سجلاً. فقال عمر: ما تقول يا ذمّيّ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله تعالى. فقال عمر: نعم، كتاب الله أحقّ أن يتبع من كتاب الوليد. قم؛ فاردد عليه ضيعته يا عبّاس.
2- الدعوة إلى الحقّ:
قال الله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ? (سبأ:28).
قال البيضاويُّ: "إلا إرسالة عامة لهم من الكف، أنَّها إذا عمتهم قد كفَّتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو إلاَّ جامعًا لهم في الإبلاغ".
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بِي أحد من هذه الأمّة؛ يهوديّ ولا نصرانِيّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلاَّ كان من أصحاب النار)).
قال النوويُّ: "فيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم".
3- البراءة منهم، وعدم موالاتِهم:
البراء: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار، وهي ضد الولاء.
قال ابن تيمية: "الولاية: ضد العداوة. وأصل الولاية: المحبّة والقرب. وأصل العداوة: البغض والبعد".
قال تعالى: ? وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ? (التوبة: 3).
قال ابن كثير: "وإعلام من الله ورسوله وتقدم إنذار إلى الناس يوم الحج الأكبر - وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعًا - أنّ الله بريء من المشركين ورسوله: أي بريء منهم أيضًا".
فيجب على المسلمين أن يتبرؤوا ممّن برئ منه الله ورسوله، وعن ابن أبي ملكية، قال: قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من يقرئني ممّا أُنزِل على محمد صلى الله عليه وسلم. قال: فأقرأه رجلٌ براءة، فقال: ?إنّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِه? بالجر. فقال الأعرابي: أَوَقد برئ الله من رسوله؟! فإن يكن اللهُ برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالة الأعرابي، فدعاه، فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأنِي هذا سورة براءة، فقال: ?إنّ الله بريء من المشركين ورسولِه?، فقلتُ: أَوَقد بريء الله من رسوله؟! إن يكن الله برئ من رسوله؛ فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي. قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ?إنّ الله بريء من المشركين ورسولُه?. فقال الأعرابِي: وأنا والله أبرأ ممَّا برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يقرئ الناس إلاَّ عالم باللغة.
فأهل الإيمان يتبرؤون من الكفرة جملة وتفصيلاً، قال تعالى: ?لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? (المجادلة: 22).
وقد مدح الله نبيَّه إبراهيم عليه السلام في براءته لأهل الكفر والشرك، وأمر بالاقتداء به، فقال: ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لأَبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْء رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ? (الممتحنة: 4).(104/5)
قال الطبريُّ: "قد كانت لكم ـ يا أمّة محمّد ـ أسوة حسنة في فعل إبراهيم والذين معه في هذه الأمور من مباينة الكفار، ومعاداتِهم، وترك موالاتِهم إلاّ في قول إبراهيم: ?لأستغفرنّ لك?، فإنّه لا أسوة لكم فيه في ذلك؛ لأنّ ذلك كان من إبراهيم ?عن موعدةٍٍ وعدها إيّاه? قبل أن يتبيَّن ?أنّه عدوٌ لله فلمّا تبيّن أنّه عدو لله تبرأ منه?، فتبرؤوا من أعداء الله، ولا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا بالله وحده، ويتبرؤوا من عبادة ما سواه، وأظهروا العداوة والبغضاء".
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بما نصه: يسكن معي شخص مسيحي، وهو يقول لي: يا أخي، ونحن إخوة، ويأكل معنا ويشرب فهل يجوز هذا العمل أم لا؟
فأجاب رحمه الله: "الكافر ليس أخًا للمسلم، والله يقول: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ? (الحجرات: 10)، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم))، فليس الكافر - يهوديًا أو نصرانيًا أو وثنيًا أو مجوسيًا أو شيوعيًا أو غيرهم - ليس أخًا للمسلم، ولا يجوز اتخاذه صاحبًا وصديقًا، لكن إذا أكل معكم بعض الأحيان من غير أن تتخذوه صاحبًا وصديقًا، وإنّما يصادف أن يأكل معكم، أو في وليمة عامة فلا بأس.
أمَّا اتخاذه صاحبًا وصديقًا وجليسًا وأكيلاً؛ فلا يجوز؛ لأنّ الله قطع بيننا وبينهم المحبة والموالاة، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ? (الممتحنة: 4)، وقال سبحانه: ?لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ? يعني يحبون ?وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? (المجادلة: 22).
فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله، ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم ولا يتعدى عليهم بغير حق، لكن لا يتخذهم أصحابًا ولا أخدانًا، ومتى صادف أن أكل معهم في وليمة عامة أو طعام عارض من غير صحبة ولا ولاية ولا مودة فلا بأس".
4- النهي عن مشابَهتهم، والأمر بمخالفتهم:
نَهى الشرع الحنيف عن مشابَهة الكفار؛ لأنّه يخلق في النفوس ميلاً إليهم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
قال ابن تيمية: "المشابَهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابَهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي".
المشابَهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أنّ المحبة في الباطن؛ تورث المشابَهة في الظاهر. وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة؛ حتى إنّ الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين، وذلك لأنّ الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابَهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر ممّا بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضًا ما لا يألفون غيرهم؛ حتى إنّ ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة".
5- الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة:
قال الله تعالى: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين? (الممتحنة: 8).
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت عليَّ أمي، وهي مشركة في عهد قريشٍ إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُدتِهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنّ أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: ((نعم، صليها)).
قال ابن عيينة: "فأنزل الله تعالى فيها: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين?".
وعن ابن عمر أنّ عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما يلبس هذه مَن لا خلاق له في الآخرة))، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حللٌ، فأعطى عمر منها حلة. فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها، وقد قلتَ في حلة عطارد ما قلت؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّي لم أكسكها لتلبسها)) فكساها عمر أخًا له مشركًا بمكة.
قال النوويّ: "وفيه: صلة الأقارب والمعارف، وإن كانوا كفارًا"، والمشركون بمكة كانوا أهل حربٍ.
ومن الإحسان: الإحسان إلى الحربِي الأسير:(104/6)
قال تعالى: ?ويطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا? (الإنسان: 8-9).
قال قتادة: "لقد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك".
وقال الحسن: "ما كان أسراهم إلاَّ المشركين".
وقال الطبريّ: "هو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرًا بالغلبة، أو من أهل القبلة يؤخذ فيحبس بحقّ".
أنوار التنْزيل (2/303).
تفسير القرآن العظيم (1/566).
أبو داود في الخراج والإمارة، باب في تعشير أهل الذمّة (3052)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود
(2626).
انظر: صفة الصفوة (2/115).
أنوار التنْزيل (1/344).
مسلم في الإيان، باب وجوب الإيمان برسالة نبيِّنا محمّد صلى الله عليه وسلم (153).
شرح مسلم (2/188).
انظر: الولاء والبراء، د. محمد سعيد القحطاني (ص: 90).
مجموع الفتاوى (5/510).
تفسير القرآن العظيم (2/333).
انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/24).
جامع البيان (28/62).
عن موقع الرسمي للشيخ، رقم السؤال (166).
أبو داود في اللباس، باب لباس الشهرة (4031)، وصححه الألباني في الإرواء (1269).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).
البخاري في الجزية، باب إثم من عاهد ثم غدر (3182)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة على الأقربين والزوج (1003).
البخاري في الأدب، باب صلة الوالد المشرك (5979).
مسلم في اللباس والزينة، باب تحريم استعمال الذهب والفضة على الرجال (2068).
شرح مسلم (14/38).
رواه الطبري في جامع البيان (29/209).
رواه الطبري في جامع البيان (29/210).
جامع البيان (29/209).
رابعًا: أصول في التعامل خاصّة بكل صنف:
1- أهل الحرب:
أ- الشدة في قتالهم وعدم اللين معهم:
قال تعالى: ?فإمّا تثقفنَّهم في الحرب فشرد بِهم من خلفهم لعلهم يذَّكرون? (الأنفال: 57).
قال ابن كثير: "معناه: غلِّظ عقوبتهم، وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة".
وقال تعالى: ?يا أيّها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتقين? (التوبة: 123).
قال القرطبيُّ: "أي: شدة وقوة".
وقال ابن كثير: "أي: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإنّ المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقًا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر".
وقال الله تعالى: ?يا أيها النبيّ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير? (التحريم: 9).
قال القرطبيُّ: "أمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله، والمنافقين بالغلظة وإقامة الحجة وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين".
ب- عدم الغدر والخيانة بِهم إذا وقع الصلح والهدنة معهم:
الوفاء بالعهود والمواثيق وتحريم الغدر والخيانة في الظاهر والباطن من أحكام الإسلام القطعيّة النافذة على الأفراد والجماعات، وليس مجرد مبدأ خلقي يستعمل حينًا، ويهمل حينًا آخر.
قال تعالى: ?وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ? (الأنفال:72).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به، يقال: هذه غدرة فلان)).
وقد ردّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بصير للمشركين، وأبَى أن يقبله بعد أن عاد إليه وفاءً بالعهد الذي بينه وبين المشركين.
وإذا خشي المسلمون من المشركين نقضًا للعهد فعليهم أن يردوا إليهم عهدهم: ?وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين? (الأنفال: 58).
قال الطبريّ: "يقول تعالى ذكره: وإمّا تخافنّ ـ يا محمد ـ من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقض عقده ويغدر بك، وذلك هو الخيانة والغدر، ?فانبذ إليهم على سواء? يقول: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إيّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور آثار الغدر والخيانة منهم؛ حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر. ?إنّ الله لا يحب الخائنين? الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به، فيحاربه قبل إعلامه إيّاه أنّه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد".
وعن سليم بن عامر، قال: كان بين معاوية وبين أهل الروم عهد، وكان يسير في بلادهم؛ حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم، فإذا رجل على دابة أو على فرس، وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر. وإذا هو عمرو بن عبسة، فسأله معاوية عن ذلك، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان بينه وبين قوم عهد؛ فلا يحلنَّ عهدًا، ولا يشدنَّه؛ حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء)). قال: فرجع معاوية بالناس.(104/7)
قال البغويُّ: "ويشبه أن يكون إنّما كره عمرو بن عبسة ذلك؛ لأنّه إذا هادنَهم إلى مدة، وهو مقيم في وطنه، فقد صارت مدة مسيره بعد انقضاء المدة المضروبة كالمشروط مع المدة في أن لا يغزوهم فيها، فإذا صار إليهم في أيام الهدنة كان إيقاعه قبل الوقت الذي يتوقعونه، فعدَّ ذلك عمرو غدرًا، والله أعلم. وإن نقض أهل الهدنة عهدهم له أن يسير إليهم على غفلة منهم، كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأهل مكة. وإن ظهرت منهم خيانة بأهل الإسلام نبذ إليهم العهد، قال تعالى: ?وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانة فانبذ إليهم على سواء? (الأنفال: 58). ومن دخل إلينا رسولاً؛ فله الأمان حتى يؤدي الرسالة، ويرجع إلى مأمنه، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابن النواحة: ((لولا أنّك رسولٌ لضربتُ عنقك))".
قال ابن القيّم: "ولمّا أسرت قريش حذيفة وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خارجين إلى بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم))".
ج- عدم قتل من لا يقاتل غالبًا منهم، كالمرأة والصبيان والشيخ الفانِي والأجير والعابد في صومعته:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وُجِدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
وعن رباح بن ربيع، قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ، فرأى النَّاس مجتمعين على شيءٍ، فبعث رجلاً، فقال: ((انظر علام اجتمع هؤلاء)). فجاء، فقال: على امرأةٍ قتيلٍ. فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل)). قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً، فقال: ((قل لخالد: لا يقتلنَّ امرأةً ولا عسيفًا)).
والمراد بالعسيف هو من يكون عمله بعيد الصلة بالأعمال القتالية، قال الشوكانِيّ: "وأمّا العبد؛ فلم يَرد ما يدلّ على عدم جواز قتله... ولا يصحّ قياسه على العسيف؛ لأنّ العسيف لا يقاتل، وإنّما هو لحفظ المتاع والدواب، وإن قاتل جاز قتله".
د- حِلُّ دمائهم وأموالهم:
قال تعالى: ?وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضًا لم تطؤوها وكان الله على كل شيءٍ قديرًا? (الأحزاب: 27).
قال الطبري: "وملككم بعد مهلكهم ?أرضهم? يعني: مزارعهم ومغارسهم، ?وديارهم? يقول: ومساكنهم، ?وأموالهم? يعني: سائر الأموال غير الأرض والدور".
قال ابن كثير: "أي: جعلها لكم مِن قتلكم لهم".
2- أهل الذمّة:
أ- إلزامهم بدفع الجزية:
الجزية: المال الذي يلتزم أهل الذمّة بأدائه إلى الدولة الإسلاميّة كل عامٍ.
قال ابن قدامة: "هي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام".
قال الشربيني: "تطلق على العقد، وعلى المال الملتزم به".
وصورتُها أن يقول الإمام أو من ينوب عنه: "أقرُّكم بدار الإسلام أو أذنتُ في إقامتكم بِها على أن تبذلوا جزية، وتنقادوا إلى حكم الإسلام".
ب- وجوب حمايتهم:
قال الماورديّ: "ويلتزم لهم - أي الإمام - ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين".
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم".
ج- حرمة دمائهم وأموالهم:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإنّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا)).
قال ابن حجر: "المراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم".
قال القرطبيُّ: "الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه".
د- النكاح بأهل الكتاب منهم:
يحل نكاح الكتابية صراحةً، ويدخل في ذلك الذمِّيات منهن، كما تدخل الحربيات الكتابيات لا فرق بين الصنفين، قال تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ? (المائدة: 5).
قال البيضاويُّ: "وإن كنَّ حربيات".(104/8)
قال الجصاص: "لم يفرق فيه بين الحربيات والذميات وغير جائز تخصيصه بغير دلالة، وقوله تعالى: ?قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر? لا تعلق له بجواز النكاح ولا فساده، ولو كان وجوب القتال علة لفساد النكاح لوجب أن لا يجوز نكاح نساء الخوارج وأهل البغي؛ لقوله تعالى: ?فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله?. فبان بما وصفنا أنّه لا تأثير لوجوب القتال في إفساد النكاح، وإنما كرهه أصحابنا لقوله تعالى: ?لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم?، والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى: ?وجعل بينكم مودة ورحمة?، فلما أخبر أنّ النكاح سبب المودة والرحمة، ونَهانا عن موادّة أهل الحرب؛ كرهوا ذلك".
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم نكاح نساء أهل الكتاب، فأجاب: "حكم ذلك الحل والإباحة عند جمهور أهل العلم؛ لقول الله سبحانه في الآية السابقة من سورة المائدة: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ? (المائدة: 5)، والمحصنة: هي الحرة العفيفة في أصح أقوال علماء التفسير، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: (وقوله: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ? أي: وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فقيل: أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما في الرواية الأخرى عنه وهو قول الجمهور ههنا وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل (حشف وسوء كيل).
والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنى كما قال تعالى في الآية الأخرى: ?مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ? ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ? هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة، حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي، وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ? الآية، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى وقد قال الله تعالى: ?وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال: نزلت هذه الآية ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة ?وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?، إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ?، وكقوله: ?وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ? الآية) انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله.(104/9)
وقال أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي رحمه الله في كتابه المغني ما نصه: (ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حل حرائر نساء أهل الكتاب، وممن روي عنه ذلك عمر وعثمان وطلحة صلى الله عليه وسلم وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم، قال ابن المنذر ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وروى الخلال بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوجوا نساء من أهل الكتاب وبه قال سائر أهل العلم، وحرمته الإمامية تمسكا بقوله تعالى: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?، ?وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ?، ولنا قول الله تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ?، إلى قوله: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ?، وإجماع الصحابة، فأما قوله سبحانه: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ? فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نسخت بالآية التي في سورة المائدة وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى؛ لأنهما متقدمتان والآية التي في المائدة متأخرة عنهما، وقال آخرون ليس هذا نسخا فإن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب بدليل قوله سبحانه: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ?، وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ?، وقوله عز وجل: ?لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا?، وقوله تعالى: ?مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ?، وسائر آي القرآن يفصل بينهما، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب، وهذا معنى قول سعيد بن جبير وقتادة؛ ولأن ما احتجوا به عام في كل كافرة، وأيتنا خاصة في حل نساء أهل الكتاب والخاص يجب تقديمه، إذا ثبت هذا فالأولى أن لا يتزوج كتابية؛ لأن عمر رضي الله عنه قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: طلِّقوهن، فطلَّقوهنّ إلاّ حذيفة، فقال له عمر: طلِّقها، قال: تشهد أنّها حرام؟! قال: هي خمرة طلِّقها. قال: تشهد أنّها حرام؟! قال: هي خمرة، قال: قد علمت أنها خمرة ولكنها لي حلال، فلما كان بعد طلقها فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمرا لا ينبغي لي، ولأنه ربما مال إليها قلبه فتفتنه، وربما كان بينهما ولد فيميل إليها) انتهى كلام صاحب المغني رحمه الله.
والخلاصة مما ذكره الحافظ ابن كثير وصاحب المغني رحمة الله عليهما أنه لا تعارض بين قوله سبحانه في سورة البقرة: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? الآية، وبين قوله عز وجل في سورة المائدة: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ? الآية، لوجهين: أحدهما: أن أهل الكتاب غير داخلين في المشركين عند الإطلاق. لأن الله سبحانه فصل بينهم في آيات كثيرات مثل قوله عز وجل: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ? الآية، وقوله سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا? الآية، وقوله عز وجل: ?مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ? الآية، إلى غير ذلك من الآيات المفرقة بين أهل الكتاب والمشركين، وعلى هذا الوجه لا تكون المحصنات من أهل الكتاب داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن في سورة البقرة، فلا يبقى بين الآيتين تعارض، وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في المشركين والمشركات عند الإطلاق رجالهم ونساؤهم؛ لأنهم كفار مشركون بلا شك، ولهذا يصنعون من دخول المسجد الحرام لقوله عز وجل: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? الآية، ولو كان أهل الكتاب لا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق لم تشملهم هذه الآية، ولما ذكر سبحانه عقيدة اليهود والنصارى في سورة براءة قال بعد ذلك: "?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ? فوصفهم جميعًا بالشرك. لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ولأنهم جميعا اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وهذا كله من أقبح الشرك والآيات في هذا المعنى كثيرة.(104/10)
والوجه الثاني: أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة، والخاص يقضي على العام ويقدم عليه كما هو معروف في الأصول وهو مجمع عليه في الجملة، وهذا هو الصواب، وبذلك يتضح أن المحصنات من أهل الكتاب حل للمسلمين غير داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن عند جمهور أهل العلم بل هو كالإجماع منهم لما تقدم في كلام صاحب المغني، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل لما جاء في ذلك عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وابنه عبد الله وجماعة من السلف الصالح رضي الله عنهم، ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر ولا سيما في هذا العصر الذي استحكمت فيه غربة الإسلام وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين وكثر فيه الميل إلى النساء والسمع والطاعة لهن في كل شيء إلا ما شاء الله، فيخشى على الزوج أن تجره زوجته الكتابية إلى دينها وأخلاقها كما يخشى على أولاده منها من ذلك والله المستعان.
فإن قيل: فما وجه الحكمة في إباحة المحصنات من أهل الكتاب للمسلمين وعدم إباحة المسلمات للرجال من أهل الكتاب، فالجواب عن ذلك- والله أعلم- أن يقال: إن المسلمين لما آمنوا بالله وبرسله وما أنزل عليهم ومن جملتهم موسى بن عمران وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ومن جملة ما أنزل على الرسل التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى، لما آمن المسلمون بهذا كله أباح الله لهم نساء أهل الكتاب المحصنات فضلا منه عليهم وإكمالا لإحسانه إليهم، ولما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من الكتاب العظيم وهو القرآن حرم الله عليهم نساء المسلمين حتى يؤمنوا بنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فإذا آمنوا به حل لهم نساؤنا وصار لهم ما لنا وعليهم ما علينا والله سبحانه هو الحكم العدل البصير بأحوال عباده العليم بما يصلحهم الحكيم في كل شيء تعالى وتقدس وتنزه عن قول الضالين والكافرين وسائر المشركين.
وهناك حكمة أخرى وهي: أن المرأة ضعيفة سريعة الانقياد للزوج فلو أبيحت المسلمة لرجال أهل الكتاب لأفضى بها ذلك غالبا إلى دين زوجها فاقتضت حكمة الله سبحانه تحريم ذلك".
3- أهل العهد:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم مثل ردّه عن أهل الذمّة:
المعاهدون مستأمنون بمقتضى معاهدة السلام مع دولهم، وما داموا قد دخلوا دار الإسلام بموجب تلك المعاهدة القاضية بذلك فهم تحت ولاية الإمام، وعليه حمايتهم والدفاع عنهم.
جاء في السير وشرحه: "قد بيَّنا أنّ المستأمنين فينا إذا لم يكونوا أهل منعة فحالهم كحالِ أهل الذمّة في وجوب نصرتِهم على أمير المسلمين، ودفع الظلم عنهم؛ لأنّهم تحت ولايته. ألا ترى أنّه كان يجب على الإمام والمسلمين اتّباعهم لاستنقاذهم من أيدي المشركين الذين قهروهم ما لم يدخلوا حصونَهم ومدائنهم، كما يجب عليهم ذلك إذا وقع الظهور على المسلمين، أو على أهل الذمّة؟ وكذلك لو أنّ هؤلاء المستأمنين كانوا من أهل دار الموادعة، دخلوا إلينا بتلك الموادعة"().
ب- حرمة أموالهم ودمائهم حال العهد:
قال المرغينانِي: "وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا؛ فلا يحل له أن يتعرض لشيءٍ من أموالهم، ولا من دمائهم؛ لأنّه ضمن أن لا يتعرض لهم بالاستئمان، فالتعرض بعد ذلك يكون غدرًا، والغدر حرام، إلاَّ إذا غدر بِه ملكهم، فأخذ أمواله أو حبسه، أو فعل ذلك غيرُه بعلم الملك ولم يمنعه؛ لأنّهم هم الذين نقضوا العهد، بخلاف الأسير؛ لأنّه غير مستأمن، فيباح له التعرض للمال والدم، وإن أطلقوه طوعًا".
4- أهل الأمان:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم، مثل ردّه عن أهل الذمّة:
يعامل المستأمِنون ما داموا في أرض الإسلام معاملة أهل الذمّة في وجوب الدفاع عنهم، لأنّهم وهم في دار الإسلام يكونون تحت ولاية الإمام، فعليه الدفاع عن جميع من كان تحت ولايته.
جاء في السير الكبير وشرحه: "الأصل أنّه يجب على إمام المسلمين أن ينصر المستأمنين ما داموا في دارنا؛ لأنّهم تحت ولايته، ما داموا في دار الإسلام، فكان حكمهم كحكم أهل الذمّة".
ولو أنّ قومًا من أهل الحرب لهم منعة دخلوا دارنا بأمانٍ فشرطوا علينا أن نمنعهم ممّا نمنع منه المسلمين وأهل الذمّة؛ فعلينا الوفاء بشرطهم.
ولو كان المستأمنون في دارنا قومًا لا منعة لهم... فعلى الإمام أن يدفع عنهم من الظلم ما يدفعه عن أهل الذمّة.
ولو كان الذين ظهروا عليهم من أهل الحرب... مرّوا بِهم على منعةٍ للمسلمين في دار الحرب كان عليهم القيام بنصرتِهم، وتخليصهم من أيديهم، كما في حقّ أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم:
انظر: حرمة أموال ودماء أهل الذمة.
تفسير القرآن العظيم (2/321).
الجامع لأحكام القرآن (9/352).
تفسير القرآن العظيم (2/403).
الجامع لأحكام القرآن (18/201).
البخاري في الجزية، باب إثم الغادر للبر والفاجر (3187)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحريم الغدر (1736)، واللفظ له.(104/11)
انظر: البخاري في الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة في الحرب (2734).
جامع البيان (10/26-27).
أبو داود في الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه (2759)، والترمذي في السير، باب ما جاء في الغدر (1580) واللفظ له، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1285).
أحمد (1/384)، وأبو داود في الجهاد، باب في الرسل (2762)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2400).
شرح السنة (11/166-167).
مسلم في الجهاد، باب الوفاء بالعهد (1787).
زاد المعاد (3/88).
البخاري في الجهاد والسير، باب قتل النساء والصبيان (3015)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان (1744).
أبو داود في الجهاد، باب في قتل النساء (2669)، وصححه الألبانيُّ في صحيح سنن أبي داود (2324). قال الزمخشريّ: "العسيف: الأجير" (الفائق 2/7).
السيل الجرار (4/532).
جامع البيان (12/155).
تفسير القرآن العظيم (3/479).
المغني (10/567).
مغني المحتاج (4/242).
انظر: مغني المحتاج (4/242).
الأحكام السلطانية (143).
انظر: مغني المحتاج (4/253).
البخاري في الجزية، باب إثم من قتل معاهدًا (3166).
فتح الباري (12/259).
الجامع لأحكام القرآن (2/246).
أنوار التنْزيل (2/297).
أحكام القرآن (2/18).
عن موقع الشيخ الرسمي http://www.binbaz.org.sa/last_resault.asp?hID=1229.
السير الكبير وشرحه (5/1892،1891).
بداية المنتهي (ص: 118)، وانظر حرمة دمائهم وأموالهم في معاملة أهل الذمة.
السير الكبير وشرحه (5/1853).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1857).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1858).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1859).
خامسًا: المسلمون في ديار الكفر:
1- حكم الإقامة في بلاد الكفّار:
الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام يختلف حكمها باختلاف حالات المقيمين بديار الكفر:
أ. فتكون واجبة، وذلك في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو إقامة واجبات دينه في ديار الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:97].
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءى ناراهما))، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، ولأن القيام بواجبات دينه واجب، والهجرة من ضرورة الواجبات وتتمتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب. وتسقط عمن يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف كالنساء والولدان وشبههم، فالعاجز لا هجرة عليه لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً % فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:98-99].
ج. وتستحب في حق من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامة واجباته في دار الكفر، فهذا تستحب في حقه ليتمكن من جهادهم، ولتكثير المسلمين ومعونتهم، والتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ومشاهدة المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكانه إقامة واجبات دينه بدون الهجرة.
وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة قبل فتحها مع إسلامه.
فإن قيل: ما ضابط إظهار الدين؟
فالجواب: ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "إظهاره دينَه ليس مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا وغير ذلك، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال".
ويرى بعض العلماء أنه قد يستحب للمسلم أن يقيم في دار الكفر وذلك إذا كان يرجو ظهور الإسلام بإقامته أو إذا ترتب على بقائه بدار الكفر مصلحة للمسلمين، فقد نقل صاحب مغني المحتاج أن إسلام العباس رضي الله عنه كان قبل بدر وكان يكتمه ويكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم: ((إن مقامك بمكة خير))، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة.
ولا شك أن هذا ليس لكل أحد، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في هذا الزمان الذي غلب فيه أهل الكفر، ونحن نرى ولوع كثير من المسلمين بتقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام فكيف الحال بمن هو مقيم بين أظهرهم، لا شك أن الفتنة أعظم والخطر أكبر، وأحكام الشريعة مبنية على الغالب الكثير لا على ما شذّ وندر.
2- النكاح بأهل الكتاب اليوم في ديارهم:(104/12)
يترتب في الوقت الراهن من الزواج بالكتابية في ديارها وإن لم تكن دار حربٍ مفاسد شتى، من أعظمها أنّ الولد يتبع أمّه في دينها، ولا سلطة للأب المسلم على ذلك.
ولأجل ذلك كره من كره من أهل العلم الزواج بالحربيّة؛ لخشية ضياع الولد، قال القرطبيُّ: "وكره مالك تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير".
وقال ابن مفلح: "وعلل الإمام المنع في دار الحرب من أجل الولد لئلا يستعبد الرجعة على دينهم".
وقد أشار الشيخ عبد العزيز بن باز في الفتوى المتقدمة في حكم نكاح الكتابية إلى هذه العلّة في كراهية التزوج بالكتابيّة في بلدها في الوقت الحالي.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
أخرجه أبو داود [2645] والترمذي [1604] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع [1461].
انظر: المغني لابن قدامة (13/151).
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91-92)
مغني المحتاج (4/239) وانظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمد خير هيكل (1/687-692).
الجامع لأحكام القرآن (3/69).
المبدع (7/71).
انظر: النكاح بأهل الكتاب منهم.(104/13)
أصول التعامل مع غير المسلمين
أولاً: أصناف غير المسلمين:
1- المحاربون.
2- أهل الذمة.
3- أهل العهد.
4- أهل الأمان.
ثانيًا: أحكام فقهية متعلقة بغير المسلمين:
1- التجارة.
2- دخول الكافر المسجد.
3- استئجار المسلم الكافر.
4- استئجار الكافر المسلم.
5- التبايع.
ثالثًا:أصول في التعامل مع غير المسلمين عموما:
1- العدل.
2- الدعوة إلى الحقّ.
3- البراءة منهم، وعدم موالاتِهم.
4- النهي عن مشابَهتهم، والأمر بمخالفتهم.
5- الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة.
رابعًا:أصول في التعامل خاصّة بكل صنِّف:
1- أهل الحرب:
أ- الشدة في قتالهم وعدم اللين معهم.
ب- عدم الغدر والخيانة بِهم، إذا وقع الصلح والهدنة معهم.
ج- عدم قتل من لا يقاتل غالبًا منهم، كالمرأة، والصبيان، والشيخ الفانِي، والأجير، والعابد في صومعته.
د- حِلُّ الدم و المال.
2- أهل الذمّة:
أ- إلزامهم بدفع الجزية.
ب- وجوب حمايتهم.
ج- حرمة دمائهم وأموالهم.
د- النكاح بأهل الكتاب منهم.
3- أهل العهد:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم مثل ردّه عن أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم حال العهد.
4- أهل الأمان:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم، مثل ردّه عن أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم. (انظر: حرمة أموالهم ودمائهم في حقوق أهل الذمة).
خامسًا: المسلمون في ديار الكفر:
1- حكم الإقامة في بلاد الكفّار.
2- النكاح بأهل الكتاب اليوم في ديارهم.
أولاً: أصناف غير المسلمين:
الكفار غير المسلمين من حيث موقفهم من الإسلام وأهله أصناف، قال ابن القيّم: "الكفار: إمّا أهل حربٍ، وإمّا أهل عهدٍ. وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل ذمّة، وأهل هُدنة، وأهل أمانٍ"، وذلك لأنّ لفظ الذمّة والعهد يتناول هؤلاء كلهم في الأصل.
قال: "ولكن صار في اصطلاح كثيرٍ من الفقهاء (أهل الذمّة) عبارة عمّن يؤدي الجزيّة".
1- أهل الحرب:
هو الكافر الذي بين المسلمين وبين دولته حالة حربٍ، ولا ذمّة له ولا عهد.
قال الشوكانِيُّ: "الحربي الذي لا ذمة له ولا عهد".
2- أهل الذمة:
الكفَّار المقيمون تحت ذمَّة المسلمين بدفع الجزيَّة.
قال ابن القيّم: "أجمع الفقهاء على أنّ الجزية تؤخذ من أهل الكتاب ومن المجوس".
ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر.
وحكم أهل الذمّة المعاهدين الذين يساكنون المسلمين في ديارهم ويدفعون الجزية أنّهم يخضعون للأحكام الإسلاميّة في غير ما أُقروا عليه من أحكام العقائد والعبادات والزواج والطلاق والمطعومات والملبوسات. ولهم على المسلمين الكفّ عنهم وحمايتُهم.
قال الماورديّ: "ويلتزم - أي الإمام - لهم ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين".
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم".
والغرض من عقد الذمّة مع الكتابِي والمجوسي: أن يترك القتال، مع احتمال دخوله الإسلام عن طريق مخالطته للمسلمين، ووقوفه على محاسن الدين، فكان عقد الذمّة للدعوة إلى الإسلام، لا للرغبة في المال.
3- أهل العهد:
المعاهَد: هو الكافر الذي بينه وبين المسلمين عهد مهادنة.
قال ابن بطال: "والمعاهَد: الذي بينه وبين الإمام عهد وهدنة".
وإذا دخل ديار المسلمين سُمِّي مستأمنًا.
4- أهل الأمان:
المستأمن: هو الحربِي المقيم إقامة مؤقتة في ديار الإسلام.
والفرق بين أمان الذمِّي وبين المستأمن هو أنّ أمان الذمِّي مؤبد، وأمان المعاهد والمستأمن مؤقت بمدة إقامته التي يصير بتجاوزها من أهل الذمّة، وتضرب عليه الجزية.
قال ابن نجيم الحنفي: "وإذا دخل الحربِي إلينا مستأمنًا لم يُمكَّن أن يقيم في دارنا سنة، ويقول له الإمام: إن أقمت تمام السنة وضعتُ عليك الجزية".
وينقلب الذمِّي أو المعاهد أو المستأمِن حربيًا بأن يلحق باختياره بدار الحرب مقيمًا فيها، أو إذا نقض عهد ذمّته؛ فيحل دمه وماله، قال تعالى: ?وإن نكثوا أيمانَهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون? (التوبة: 12).
قال ابن عباس: نزلت في أبِي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعكرمة ابن أبي جهل وسائر رؤساء قريش، الذين نقضوا العهد؛ حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله، فأُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يسير إليهم، فينصر خزاعة.
قال القرطبيُّ: "إذا حارب الذمي نقضَ عهدَه، وكان ماله وولده فيئا معه".(105/1)
وقد حارب النبيُّ صلى الله عليه وسلم بني قريظة، وأنزلهم على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما رجع النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الخندق، ووضع السلاح واغتسل؛ أتاه جبريل عليه السلام، فقال: قد وضعت السلاح؟! والله ما وضعناه، فاخرج إليهم. قال: ((فإلى أين؟)). قال: ها هنا. وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم.
وعن ابن عمر أنّ يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، وأقرَّ قريظة، ومَنَّ عليهم؛ حتى حاربت قريظة بعد ذلك، فقتل رجالهم، وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين، إلاَّ أنَّ بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فآمنهم، وأسلموا، وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم؛ بني قينقاع - وهم قوم عبد الله بن سلام - ويهود بني حارثة، وكل يهودي كان بالمدينة.
قال النوويُّ: "في هذا: أنّ المعاهد والذميَّ إذا نقض العهد صار حربيًا، وجرت عليه أحكام أهل الحرب، وللإمام سبي من أراد منهم، وله المَنُّ على من أراد. وفيه: أنّه إذا مَنَّ عليه ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده، وإنّما ينفع المَنُّ فيما مضى، لا فيما يستقبل، وكانت قريظة في أمان، ثم حاربوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد، وظاهروا قريشًا على قتال النبيِّ صلى الله عليه وسلم".
أحكام أهل الذمة (2/475).
أحكام أهل الذمّة (2/475).
السيل الجرار (4/441).
الدرّ النقي (289).
أحكام أهل الذمة (1/1).
البخاري في الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب (3157).
الأحكام السلطانية (143).
انظر: مغني المحتاج (4/253).
جامع الأصول لابن الأثير (7/466).
نظم المستعذب (1/157،156).
الهداية شرح البداية للمرغيناني (1/221)، والبحر الرائق لابن نجيم (7/95)، والمدونة الكبرى لسحنون (3/24)، والأم للشافعي (4/283)، والفروع لابن مفلح (2/367).
انظر: بدائع الصنائع (7/106).
البحر الرائق (5/109).
انظر: زاد المسير لابن الجوزي (3/404).
الجامع لأحكام القرآن (8/83).
البخاري في المغازي، باب مرجع النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الأحزاب (4117)، ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد (1769).
البخاري في المغازي، باب حديث بني النضير (2048)، ومسلم في الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود من الحجاز
(1766)، واللفظ له.
شرح مسلم (12/91).
ثانيا: أحكام فقهية متعلقة بغير المسلمين:
1- التجارة:
تدل عبارات الفقهاء على جواز الاتجار مع الحربيين، فللمسلم دخول دار الحرب بأمان التجارة، وللحربي دخول دار الإسلام للتجارة.
قال المرغينانِي: "وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا؛ فلا يحل له أن يتعرض لشيءٍ من أموالهم، ولا من دمائهم".
وقال السرخسي: "وإذا دخل المسلم أو الذميّ دار الحرب تاجرًا بأمان؛ فأصاب هناك مالاً ودورًا ثم ظهر المسلمون على ذلك كله فهو له كله".
وقال الشافعيّ: "لو أنَّ حربيًا دخل إلينا بأمان وكان معه مال لنفسه ومال لغيره من أهل الحرب لم نعرض له في ماله".
وقال أبو إسحاق الشيرازي: "ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير الإقامة؛ لأنّ عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل منهم تاجرا في مقام ثلاثة أيام".
وقال ابن تيميّة: "وإذا سافر الرَّجل إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا، كما دلّ عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، وهي حينذاك دار حرب، وغير ذلك من الأحاديث".
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: هل يجوز للمسلم أن يكون شريكًا للنصراني في تربية الأغنام أو تجارتِها أو أيِّ تجارة أخرى, أفيدونا أفادكم الله؟
فأجاب رحمه الله: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بِهداه.
أمَّا بعد: فإنّ اشتراك مسلم مع نصراني أو غيره من الكفرة في المواشي أو في الزراعة أو في أي شيء آخر، الأصل في ذلك جوازه إذا لم يكن هناك موالاة، وإنّما تعاون في شيء من المال كالزراعة أو الماشية أو نحو ذلك، وقال جماعة من أهل العلم: بشرط أن يتولى ذلك المسلم، أي: أن يتولى العمل في الزراعة، أو في الماشية المسلم، ولا يتولى ذلك الكافر لأنه لا يُؤْمَن.
وهذا فيه تفصيل: فإن كانت هذه الشركة تجر إلى موالاة، أو لفعل ما حرم الله، أو ترك ما أوجب الله حرمت هذه الشركة لما تفضي إليه من الفساد، أما إن كانت لا تفضي لشيء من ذلك، والمسلم هو الذي يباشرها وهو الذي يعتني بِها حتى لا يخدع فلا حرج في ذلك.(105/2)
ولكن بكل حال فالأولى به السلامة من هذه الشركة، وأن يشترك مع إخوانه المسلمين دون غيرهم، حتى يأمن على دينه ويأمن على ماله، فالاشتراك مع عدو له في الدين فيه خطر على خلقه ودينه وماله، فالأولى بالمؤمن في كل حال أن يبتعد عن هذا الأمر؛ حفظًا لدينه؛ وحفظًا لعرضه؛ وحفظًا لماله؛ وحذرًا من خيانة عدوه في الدين، إلاَّ عند الضرورة والحاجة التي قد تدعو إلى ذلك، فإنَّه لا حرج عليه بشرط مراعاة ما تقدم، أي: بشرط ألا يكون في ذلك مضرة على دينه أو عرضه أو ماله، وبشرط أن يتولى ذلك بنفسه فإنَّه أحوط له، فلا يتولاه الكافر بل يتولى الشركة والأعمال فيها المسلم، أو مسلم ينوب عنهما جميعًا".
2- دخول الكافر المسجد:
يجوز للمشرك أن يدخل المسجد، فعن أبِي هريرة رضي الله عنه، قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم خيلاً قِبَل نجدٍ، فجاءت برجلٍ من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتى كان الغد، ثم قال له: ((ما عندك يا ثمامة؟)) قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي ما قلت لك. فقال: ((أطلقوا ثمامة)). فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله.
قال ابن حجر: "وفي قصة ثمامة من الفوائد: ربط الكافر في المسجد".
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم دخول الكافر المساجد فأجاب: "أمّا المسجد الحرام؛ فلا يجوز دخوله لجميع الكفرة؛ اليهود، والنصارى وعباد الأوثان، والشيوعيين، فجميع الكفرة لا يجوز لهم دخول المسجد الحرام؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? [التوبة: 28]، فمنع سبحانه من دخولهم المسجد الحرام، والمشركون يدخل فيهم اليهود والنصارى عند الإطلاق، فلا يجوز دخول أي مشرك المسجد الحرام، لا يهودي، ولا نصراني، ولا غيرهما، بل هذا خاص بالمسلمين. وأمَّا بقية المساجد فلا بأس من دخولهم للحاجة والمصلحة، ومن ذلك المدينة، وإن كانت المدينة لها خصوصية، لكنها في هذه المسألة كغيرها من المساجد، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ربط فيها الكافر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرَّ وفد ثقيف حين دخلوا المسجد قبل أن يسلموا، وهكذا وفد النصارى دخلوا مسجده عليه الصلاة والسلام، فدلَّ ذلك على أنه يجوز دخول المسجد النبوي للمشرك, وهكذا بقية المساجد من باب أولى إذا كان لحاجة، إما لسؤال، أو لحاجة أخرى، أو لسماع درس ليستفيد، أو ليسلم ويعلن إسلامه، أو ما أشبه ذلك.
والحاصل: أنَّه يجوز دخوله إذا كان هناك مصلحة، أمَّا إذا لم يكن هناك مصلحة؛ فلا حاجة إلى دخوله المسجد، أو أن يخشى من دخوله العبث في أثاث المسجد، أو النجاسة فيمنع".
3- استئجار المسلم الكافر:
عن عائشة رضي الله عنها: استأجر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل، ثم من بني عبد بن عدي، هاديًا خريتًا - الخريت الماهر بالهداية - قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأمِناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي، فأخذ بِهم أسفل مكة، وهو طريق الساحل.
قال ابن حجر: "وفي الحديث: استئجارُ المسلمِ الكافرَ على هداية الطريق إذا أمن إليه".
قال ابن بطال: "عامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها لما في ذلك من المذلة لهم، وإنّما الممتنع أن يؤاجر المسلم نفسه من المشرك، لما فيه من إذلال المسلم".
4- استئجار الكافر المسلم:
قال المهلب: "كره أهل العلم ذلك إلاّ لضرروة بشرطين: أحدهما: أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله، والآخر: أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين".
وقال ابن المنيّر: "استقرت المذاهب على أنّ الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمَّة، ولا يعد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منْزله، وبطريق التبعية له، والله أعلم".
وقال الشربيني: "يصح من الكافر استئجار المسلم إجارة ذمة".
5- التبايع:
يجوز البيع والشراء مع غير المسلمين، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ بثلاثين صاعًا من شعيرٍ.(105/3)
وعن عبد الرحمن بن أبِي بكر رضي الله عنهما، قال: كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثين ومائة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((هل مع أحد منكم طعام؟)). فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن، ثم جاء رجل مشركٌ مشعانٌ طويلٌ بغنم يسوقها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((بيعًا أم عطيةً؟))، أو قال: ((أم هبة؟)) قال: لا، بل بيع. فاشترى منه شاة، فصنعت، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثلاثين والمائة إلاَّ قد حزَّ النبي صلى الله عليه وسلم له حزة من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاها إياه، وإن كان غائبًا خبأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون، وشبعنا ففضلت القصعتان، فحملناه على البعير، أو كما قال.
قال ابن بطال: "معاملة الكفَّار جائزة، إلاّ بيع ما يستعين به أهل الحرب على المسلمين".
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز: هناك أصحاب مهن كالحلاقة والخياطة وعمال في المطاعم أو غير ذلك وهم غير مسلمين؛ إما مسيحيون أو لا دينيون، فما حكم تعامل المسلم معهم؟
فأجاب رحمه الله: "ما داموا في البلاد يتعاطون هذه الأمور فلا مانع من الشراء منهم، وقضاء الحاجة، والبيع عليهم، فقد اشترى الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود، واشترى من بعض المشركين، فلا بأس، ولكن لا يحبهم، ولا يواليهم، بل يبغضهم في الله، ولا يتخذهم أصدقاء ولا أحبابا، والأفضل أن يستخدم المسلمون والمسلمات دون الكفار في كل الأعمال.
لكن إذا كان العمل في الجزيرة العربية حرم استقدام الكفار إليها واستخدامهم فيها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بإخراجهم من هذه الجزيرة العربية وقال: ((لا يجتمع فيها دينان))، لكن إذا قدموا لتجارة ثم يعودون أو بيع حاجات على المسلمين أو قدموا إلى ولي الأمر برسالة من رؤسائهم فلا حرج في ذلك؛ لأن رسل الكفار كانوا يقدمون على النبي في المدينة عليه الصلاة والسلام، وكان بعض الكفار من أهل الشام يقدمون على المدينة لبيع بعض ما لديهم من طعام وغيره".
ولكن لا يجوز بيعهم السلاح الذي يتقوون به على المسلمين، قال السرخسي: "ولا يمنع التجار من حمل التجارات إليهم إلا الكراع والسلاح والحديد؛ لأنّهم أهل حرب، وإن كانوا موادعين؛ ألا ترى أنّهم بعد مضي المدة يعودون حربًا للمسلمين، ولا يمنع التجار من دخول دار الحرب بالتجارات، ما خلا الكراع والسلاح؛ فإنّهم يتقوون بذلك على قتال المسلمين، فيمنعون من حمله إليهم، وكذلك الحديد؛ فإنه أصل السلاح، قال الله تعالى: ?وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ? (الحديد: 25)".
بل وأيُّ شيءٍ يتحقق منه أنّه يقويهم على المسلمين، وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: "الكافر الحربي لا يُمَكَّن مما يعينه على حرب أهل الإسلام ولو بالميرة والمال، ونحوه، والدواب والرواحل، حتى قال بعضهم بتحريق ما لا يتمكن المسلمون من نقله في دار الحرب من أثاثهم وأمتعتهم، ومنعهم من الانتفاع به".
بداية المنتهي (ص: 118).
المبسوط (10/67).
الأم (4/247).
المهذب (2/258).
اقتضاء الصراط المستقيم (2/15).
عن الموقع الرسمي للشيخ رحمه الله، رقم السؤال (173).
فتح الباري (8/88).
عن الموقع الرسمي للشيخ، رقم السؤال (175).
البخاري في الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة (2263).
فتح الباري (4/442).
انظر: فتح الباري (4/442).
انظر: فتح الباري (4/452).
انظر: فتح الباري (4/452).
الإقناع (2/349).
البخاري في الجهاد والسير، باب ما قيل في درع النبيِّ صلى الله عليه وسلم (2916).
البخاري في الهبة، باب قبول هدية المشركين (2618).
انظر: فتح الباري (4/410).
مالك في الموطأ (2/892)، والبيهقيّ في الكبرى (6/115)، بلفظ: ((لا يجتمع في جزيرة العرب دينان))، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4617).
عن موقع الرسمي للشيخ، سؤال رقم (172).
المبسوط (10/88-89).
الدرر السنية (8/340).
ثالثًا: أصول في التعامل مع غير المسلمين عموما:
1- العدل:
قال تعالى: ?يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إنّ الله خبيرٌ بما تعملون? (المائدة: 8).
قال البيضاويُّ: "لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمثلة وقذف وقتل نساء وصبية ونقض عهد تشفيًا مما في قلوبكم. ?اعدلوا هو أقرب للتقوى? أي: العدل أقرب للتقوى، صرَّح لهم بالأمر بالعدل، وبيَّن أنَّه بمكانٍ من التقوى بعدما نَهاهم عن الجور، وبيَّن أنَّه مقتضى الهوى، وإذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين".(105/4)
وقال ابن كثير: "ومن هذا - أي ومن العمل بِهذه الآية - قول عبد الله بن رواحة لما بعثه النبيّ صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بِهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحبِّ الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبِّي إيّاه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بِهذا قامت السموات والأرض".
عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم دِنيَةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة)).
ودخل ذمِّيٌّ من أهل حمص أبيض الرأس واللحية على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله. قال عمر: ما ذاك؟ قال: العبّاس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. وكان عددٌ من رؤوس النّاس، وفيهم العباس بمجلس عمر، فسأله: يا عبّاس ما تقول؟ قال: نعم، أقطعنيها أبِي أمير المؤمنين، وكتب لي بِها سجلاً. فقال عمر: ما تقول يا ذمّيّ؟ قال: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله تعالى. فقال عمر: نعم، كتاب الله أحقّ أن يتبع من كتاب الوليد. قم؛ فاردد عليه ضيعته يا عبّاس.
2- الدعوة إلى الحقّ:
قال الله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ? (سبأ:28).
قال البيضاويُّ: "إلا إرسالة عامة لهم من الكف، أنَّها إذا عمتهم قد كفَّتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو إلاَّ جامعًا لهم في الإبلاغ".
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: ((والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بِي أحد من هذه الأمّة؛ يهوديّ ولا نصرانِيّ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به؛ إلاَّ كان من أصحاب النار)).
قال النوويُّ: "فيه نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم".
3- البراءة منهم، وعدم موالاتِهم:
البراء: هو البعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار، وهي ضد الولاء.
قال ابن تيمية: "الولاية: ضد العداوة. وأصل الولاية: المحبّة والقرب. وأصل العداوة: البغض والبعد".
قال تعالى: ? وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىء مّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ? (التوبة: 3).
قال ابن كثير: "وإعلام من الله ورسوله وتقدم إنذار إلى الناس يوم الحج الأكبر - وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعًا - أنّ الله بريء من المشركين ورسوله: أي بريء منهم أيضًا".
فيجب على المسلمين أن يتبرؤوا ممّن برئ منه الله ورسوله، وعن ابن أبي ملكية، قال: قدم أعرابي في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من يقرئني ممّا أُنزِل على محمد صلى الله عليه وسلم. قال: فأقرأه رجلٌ براءة، فقال: ?إنّ اللهَ بريءٌ من المشركين ورسولِه? بالجر. فقال الأعرابي: أَوَقد برئ الله من رسوله؟! فإن يكن اللهُ برئ من رسوله، فأنا أبرأ منه. فبلغ عمر مقالة الأعرابي، فدعاه، فقال: يا أعرابي، أتبرأ من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّي قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت من يقرئني، فأقرأنِي هذا سورة براءة، فقال: ?إنّ الله بريء من المشركين ورسولِه?، فقلتُ: أَوَقد بريء الله من رسوله؟! إن يكن الله برئ من رسوله؛ فأنا أبرأ منه. فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابي. قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال: ?إنّ الله بريء من المشركين ورسولُه?. فقال الأعرابِي: وأنا والله أبرأ ممَّا برئ الله ورسوله منه. فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا يقرئ الناس إلاَّ عالم باللغة.
فأهل الإيمان يتبرؤون من الكفرة جملة وتفصيلاً، قال تعالى: ?لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? (المجادلة: 22).
وقد مدح الله نبيَّه إبراهيم عليه السلام في براءته لأهل الكفر والشرك، وأمر بالاقتداء به، فقال: ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لأَبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْء رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ? (الممتحنة: 4).(105/5)
قال الطبريُّ: "قد كانت لكم ـ يا أمّة محمّد ـ أسوة حسنة في فعل إبراهيم والذين معه في هذه الأمور من مباينة الكفار، ومعاداتِهم، وترك موالاتِهم إلاّ في قول إبراهيم: ?لأستغفرنّ لك?، فإنّه لا أسوة لكم فيه في ذلك؛ لأنّ ذلك كان من إبراهيم ?عن موعدةٍٍ وعدها إيّاه? قبل أن يتبيَّن ?أنّه عدوٌ لله فلمّا تبيّن أنّه عدو لله تبرأ منه?، فتبرؤوا من أعداء الله، ولا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا بالله وحده، ويتبرؤوا من عبادة ما سواه، وأظهروا العداوة والبغضاء".
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بما نصه: يسكن معي شخص مسيحي، وهو يقول لي: يا أخي، ونحن إخوة، ويأكل معنا ويشرب فهل يجوز هذا العمل أم لا؟
فأجاب رحمه الله: "الكافر ليس أخًا للمسلم، والله يقول: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ? (الحجرات: 10)، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم))، فليس الكافر - يهوديًا أو نصرانيًا أو وثنيًا أو مجوسيًا أو شيوعيًا أو غيرهم - ليس أخًا للمسلم، ولا يجوز اتخاذه صاحبًا وصديقًا، لكن إذا أكل معكم بعض الأحيان من غير أن تتخذوه صاحبًا وصديقًا، وإنّما يصادف أن يأكل معكم، أو في وليمة عامة فلا بأس.
أمَّا اتخاذه صاحبًا وصديقًا وجليسًا وأكيلاً؛ فلا يجوز؛ لأنّ الله قطع بيننا وبينهم المحبة والموالاة، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: ?قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ? (الممتحنة: 4)، وقال سبحانه: ?لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ? يعني يحبون ?وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? (المجادلة: 22).
فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله، ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم ولا يتعدى عليهم بغير حق، لكن لا يتخذهم أصحابًا ولا أخدانًا، ومتى صادف أن أكل معهم في وليمة عامة أو طعام عارض من غير صحبة ولا ولاية ولا مودة فلا بأس".
4- النهي عن مشابَهتهم، والأمر بمخالفتهم:
نَهى الشرع الحنيف عن مشابَهة الكفار؛ لأنّه يخلق في النفوس ميلاً إليهم، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
قال ابن تيمية: "المشابَهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابَهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي".
المشابَهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أنّ المحبة في الباطن؛ تورث المشابَهة في الظاهر. وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة؛ حتى إنّ الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين، وذلك لأنّ الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابَهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر ممّا بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضًا ما لا يألفون غيرهم؛ حتى إنّ ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة".
5- الإحسان إلى المحتاج منهم بالصدقة والصلة:
قال الله تعالى: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين? (الممتحنة: 8).
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: قدمت عليَّ أمي، وهي مشركة في عهد قريشٍ إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومُدتِهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إنّ أمي قدمت عليَّ وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: ((نعم، صليها)).
قال ابن عيينة: "فأنزل الله تعالى فيها: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين?".
وعن ابن عمر أنّ عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد، فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها للناس يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما يلبس هذه مَن لا خلاق له في الآخرة))، ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حللٌ، فأعطى عمر منها حلة. فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها، وقد قلتَ في حلة عطارد ما قلت؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنّي لم أكسكها لتلبسها)) فكساها عمر أخًا له مشركًا بمكة.
قال النوويّ: "وفيه: صلة الأقارب والمعارف، وإن كانوا كفارًا"، والمشركون بمكة كانوا أهل حربٍ.
ومن الإحسان: الإحسان إلى الحربِي الأسير:(105/6)
قال تعالى: ?ويطعمون الطعام على حبّه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا? (الإنسان: 8-9).
قال قتادة: "لقد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك".
وقال الحسن: "ما كان أسراهم إلاَّ المشركين".
وقال الطبريّ: "هو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرًا بالغلبة، أو من أهل القبلة يؤخذ فيحبس بحقّ".
أنوار التنْزيل (2/303).
تفسير القرآن العظيم (1/566).
أبو داود في الخراج والإمارة، باب في تعشير أهل الذمّة (3052)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود
(2626).
انظر: صفة الصفوة (2/115).
أنوار التنْزيل (1/344).
مسلم في الإيان، باب وجوب الإيمان برسالة نبيِّنا محمّد صلى الله عليه وسلم (153).
شرح مسلم (2/188).
انظر: الولاء والبراء، د. محمد سعيد القحطاني (ص: 90).
مجموع الفتاوى (5/510).
تفسير القرآن العظيم (2/333).
انظر: الجامع لأحكام القرآن (1/24).
جامع البيان (28/62).
عن موقع الرسمي للشيخ، رقم السؤال (166).
أبو داود في اللباس، باب لباس الشهرة (4031)، وصححه الألباني في الإرواء (1269).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).
اقتضاء الصراط المستقيم (1/488).
البخاري في الجزية، باب إثم من عاهد ثم غدر (3182)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة على الأقربين والزوج (1003).
البخاري في الأدب، باب صلة الوالد المشرك (5979).
مسلم في اللباس والزينة، باب تحريم استعمال الذهب والفضة على الرجال (2068).
شرح مسلم (14/38).
رواه الطبري في جامع البيان (29/209).
رواه الطبري في جامع البيان (29/210).
جامع البيان (29/209).
رابعًا: أصول في التعامل خاصّة بكل صنف:
1- أهل الحرب:
أ- الشدة في قتالهم وعدم اللين معهم:
قال تعالى: ?فإمّا تثقفنَّهم في الحرب فشرد بِهم من خلفهم لعلهم يذَّكرون? (الأنفال: 57).
قال ابن كثير: "معناه: غلِّظ عقوبتهم، وأثخنهم قتلاً؛ ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم، ويصيروا لهم عبرة".
وقال تعالى: ?يا أيّها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أنّ الله مع المتقين? (التوبة: 123).
قال القرطبيُّ: "أي: شدة وقوة".
وقال ابن كثير: "أي: وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم، فإنّ المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقًا لأخيه المؤمن، غليظًا على عدوه الكافر".
وقال الله تعالى: ?يا أيها النبيّ جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير? (التحريم: 9).
قال القرطبيُّ: "أمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله، والمنافقين بالغلظة وإقامة الحجة وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين".
ب- عدم الغدر والخيانة بِهم إذا وقع الصلح والهدنة معهم:
الوفاء بالعهود والمواثيق وتحريم الغدر والخيانة في الظاهر والباطن من أحكام الإسلام القطعيّة النافذة على الأفراد والجماعات، وليس مجرد مبدأ خلقي يستعمل حينًا، ويهمل حينًا آخر.
قال تعالى: ?وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ? (الأنفال:72).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به، يقال: هذه غدرة فلان)).
وقد ردّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بصير للمشركين، وأبَى أن يقبله بعد أن عاد إليه وفاءً بالعهد الذي بينه وبين المشركين.
وإذا خشي المسلمون من المشركين نقضًا للعهد فعليهم أن يردوا إليهم عهدهم: ?وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواء إنّ الله لا يحبّ الخائنين? (الأنفال: 58).
قال الطبريّ: "يقول تعالى ذكره: وإمّا تخافنّ ـ يا محمد ـ من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد أن ينكث عهده وينقض عقده ويغدر بك، وذلك هو الخيانة والغدر، ?فانبذ إليهم على سواء? يقول: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إيّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور آثار الغدر والخيانة منهم؛ حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر. ?إنّ الله لا يحب الخائنين? الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به، فيحاربه قبل إعلامه إيّاه أنّه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد".
وعن سليم بن عامر، قال: كان بين معاوية وبين أهل الروم عهد، وكان يسير في بلادهم؛ حتى إذا انقضى العهد أغار عليهم، فإذا رجل على دابة أو على فرس، وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر. وإذا هو عمرو بن عبسة، فسأله معاوية عن ذلك، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان بينه وبين قوم عهد؛ فلا يحلنَّ عهدًا، ولا يشدنَّه؛ حتى يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء)). قال: فرجع معاوية بالناس.(105/7)
قال البغويُّ: "ويشبه أن يكون إنّما كره عمرو بن عبسة ذلك؛ لأنّه إذا هادنَهم إلى مدة، وهو مقيم في وطنه، فقد صارت مدة مسيره بعد انقضاء المدة المضروبة كالمشروط مع المدة في أن لا يغزوهم فيها، فإذا صار إليهم في أيام الهدنة كان إيقاعه قبل الوقت الذي يتوقعونه، فعدَّ ذلك عمرو غدرًا، والله أعلم. وإن نقض أهل الهدنة عهدهم له أن يسير إليهم على غفلة منهم، كما فعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأهل مكة. وإن ظهرت منهم خيانة بأهل الإسلام نبذ إليهم العهد، قال تعالى: ?وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانة فانبذ إليهم على سواء? (الأنفال: 58). ومن دخل إلينا رسولاً؛ فله الأمان حتى يؤدي الرسالة، ويرجع إلى مأمنه، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابن النواحة: ((لولا أنّك رسولٌ لضربتُ عنقك))".
قال ابن القيّم: "ولمّا أسرت قريش حذيفة وأباه أطلقوهما، وعاهدوهما أن لا يقاتلاهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خارجين إلى بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم))".
ج- عدم قتل من لا يقاتل غالبًا منهم، كالمرأة والصبيان والشيخ الفانِي والأجير والعابد في صومعته:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وُجِدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان.
وعن رباح بن ربيع، قال: كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوةٍ، فرأى النَّاس مجتمعين على شيءٍ، فبعث رجلاً، فقال: ((انظر علام اجتمع هؤلاء)). فجاء، فقال: على امرأةٍ قتيلٍ. فقال: ((ما كانت هذه لتقاتل)). قال: وعلى المقدمة خالد بن الوليد، فبعث رجلاً، فقال: ((قل لخالد: لا يقتلنَّ امرأةً ولا عسيفًا)).
والمراد بالعسيف هو من يكون عمله بعيد الصلة بالأعمال القتالية، قال الشوكانِيّ: "وأمّا العبد؛ فلم يَرد ما يدلّ على عدم جواز قتله... ولا يصحّ قياسه على العسيف؛ لأنّ العسيف لا يقاتل، وإنّما هو لحفظ المتاع والدواب، وإن قاتل جاز قتله".
د- حِلُّ دمائهم وأموالهم:
قال تعالى: ?وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضًا لم تطؤوها وكان الله على كل شيءٍ قديرًا? (الأحزاب: 27).
قال الطبري: "وملككم بعد مهلكهم ?أرضهم? يعني: مزارعهم ومغارسهم، ?وديارهم? يقول: ومساكنهم، ?وأموالهم? يعني: سائر الأموال غير الأرض والدور".
قال ابن كثير: "أي: جعلها لكم مِن قتلكم لهم".
2- أهل الذمّة:
أ- إلزامهم بدفع الجزية:
الجزية: المال الذي يلتزم أهل الذمّة بأدائه إلى الدولة الإسلاميّة كل عامٍ.
قال ابن قدامة: "هي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام".
قال الشربيني: "تطلق على العقد، وعلى المال الملتزم به".
وصورتُها أن يقول الإمام أو من ينوب عنه: "أقرُّكم بدار الإسلام أو أذنتُ في إقامتكم بِها على أن تبذلوا جزية، وتنقادوا إلى حكم الإسلام".
ب- وجوب حمايتهم:
قال الماورديّ: "ويلتزم لهم - أي الإمام - ببذل حقَّين: أحدهما: الكفُّ عنهم. والثانِي: الحماية لهم، ليكونوا بالكفِّ آمنين، وبالحماية محروسين".
وقال النوويّ: "ويلزمنا الكفُّ عنهم، وضمان ما نُتلفه عليهم، نفسًا ومالاً، ودفعُ أهلِ الحرب عنهم".
ج- حرمة دمائهم وأموالهم:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإنّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا)).
قال ابن حجر: "المراد به من له عهد مع المسلمين سواء كان بعقد جزية أو هدنة من سلطان أو أمان من مسلم".
قال القرطبيُّ: "الذمي محقون الدم على التأبيد والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أنّ المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه، إذ المال إنّما يحرم بحرمة مالكه".
د- النكاح بأهل الكتاب منهم:
يحل نكاح الكتابية صراحةً، ويدخل في ذلك الذمِّيات منهن، كما تدخل الحربيات الكتابيات لا فرق بين الصنفين، قال تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ? (المائدة: 5).
قال البيضاويُّ: "وإن كنَّ حربيات".(105/8)
قال الجصاص: "لم يفرق فيه بين الحربيات والذميات وغير جائز تخصيصه بغير دلالة، وقوله تعالى: ?قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر? لا تعلق له بجواز النكاح ولا فساده، ولو كان وجوب القتال علة لفساد النكاح لوجب أن لا يجوز نكاح نساء الخوارج وأهل البغي؛ لقوله تعالى: ?فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله?. فبان بما وصفنا أنّه لا تأثير لوجوب القتال في إفساد النكاح، وإنما كرهه أصحابنا لقوله تعالى: ?لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم?، والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى: ?وجعل بينكم مودة ورحمة?، فلما أخبر أنّ النكاح سبب المودة والرحمة، ونَهانا عن موادّة أهل الحرب؛ كرهوا ذلك".
وقد سئل الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم نكاح نساء أهل الكتاب، فأجاب: "حكم ذلك الحل والإباحة عند جمهور أهل العلم؛ لقول الله سبحانه في الآية السابقة من سورة المائدة: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ? (المائدة: 5)، والمحصنة: هي الحرة العفيفة في أصح أقوال علماء التفسير، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: (وقوله: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ? أي: وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فقيل: أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء، حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة كما في الرواية الأخرى عنه وهو قول الجمهور ههنا وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل (حشف وسوء كيل).
والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنى كما قال تعالى في الآية الأخرى: ?مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ? ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ? هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة، حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة، وقيل المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي، وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ? الآية، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى وقد قال الله تعالى: ?وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني حدثنا إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال: نزلت هذه الآية ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فنكح الناس نساء أهل الكتاب، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ?، فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة ?وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?، إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ?، وكقوله: ?وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا ? الآية) انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله.(105/9)
وقال أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي رحمه الله في كتابه المغني ما نصه: (ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حل حرائر نساء أهل الكتاب، وممن روي عنه ذلك عمر وعثمان وطلحة صلى الله عليه وسلم وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم، قال ابن المنذر ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وروى الخلال بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوجوا نساء من أهل الكتاب وبه قال سائر أهل العلم، وحرمته الإمامية تمسكا بقوله تعالى: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ?، ?وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ?، ولنا قول الله تعالى: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ?، إلى قوله: ?وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ?، وإجماع الصحابة، فأما قوله سبحانه: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ? فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نسخت بالآية التي في سورة المائدة وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى؛ لأنهما متقدمتان والآية التي في المائدة متأخرة عنهما، وقال آخرون ليس هذا نسخا فإن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب بدليل قوله سبحانه: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ?، وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ?، وقوله عز وجل: ?لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا?، وقوله تعالى: ?مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ?، وسائر آي القرآن يفصل بينهما، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب، وهذا معنى قول سعيد بن جبير وقتادة؛ ولأن ما احتجوا به عام في كل كافرة، وأيتنا خاصة في حل نساء أهل الكتاب والخاص يجب تقديمه، إذا ثبت هذا فالأولى أن لا يتزوج كتابية؛ لأن عمر رضي الله عنه قال للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: طلِّقوهن، فطلَّقوهنّ إلاّ حذيفة، فقال له عمر: طلِّقها، قال: تشهد أنّها حرام؟! قال: هي خمرة طلِّقها. قال: تشهد أنّها حرام؟! قال: هي خمرة، قال: قد علمت أنها خمرة ولكنها لي حلال، فلما كان بعد طلقها فقيل له: ألا طلقتها حين أمرك عمر؟ قال: كرهت أن يرى الناس أني ركبت أمرا لا ينبغي لي، ولأنه ربما مال إليها قلبه فتفتنه، وربما كان بينهما ولد فيميل إليها) انتهى كلام صاحب المغني رحمه الله.
والخلاصة مما ذكره الحافظ ابن كثير وصاحب المغني رحمة الله عليهما أنه لا تعارض بين قوله سبحانه في سورة البقرة: ?وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ? الآية، وبين قوله عز وجل في سورة المائدة: ?الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ? الآية، لوجهين: أحدهما: أن أهل الكتاب غير داخلين في المشركين عند الإطلاق. لأن الله سبحانه فصل بينهم في آيات كثيرات مثل قوله عز وجل: ?لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ? الآية، وقوله سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا? الآية، وقوله عز وجل: ?مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ? الآية، إلى غير ذلك من الآيات المفرقة بين أهل الكتاب والمشركين، وعلى هذا الوجه لا تكون المحصنات من أهل الكتاب داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن في سورة البقرة، فلا يبقى بين الآيتين تعارض، وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن أهل الكتاب داخلون في المشركين والمشركات عند الإطلاق رجالهم ونساؤهم؛ لأنهم كفار مشركون بلا شك، ولهذا يصنعون من دخول المسجد الحرام لقوله عز وجل: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? الآية، ولو كان أهل الكتاب لا يدخلون في اسم المشركين عند الإطلاق لم تشملهم هذه الآية، ولما ذكر سبحانه عقيدة اليهود والنصارى في سورة براءة قال بعد ذلك: "?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ? فوصفهم جميعًا بالشرك. لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، ولأنهم جميعا اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وهذا كله من أقبح الشرك والآيات في هذا المعنى كثيرة.(105/10)
والوجه الثاني: أن آية المائدة مخصصة لآية البقرة، والخاص يقضي على العام ويقدم عليه كما هو معروف في الأصول وهو مجمع عليه في الجملة، وهذا هو الصواب، وبذلك يتضح أن المحصنات من أهل الكتاب حل للمسلمين غير داخلات في المشركات المنهي عن نكاحهن عند جمهور أهل العلم بل هو كالإجماع منهم لما تقدم في كلام صاحب المغني، ولكن ترك نكاحهن والاستغناء عنهن بالمحصنات من المؤمنات أولى وأفضل لما جاء في ذلك عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وابنه عبد الله وجماعة من السلف الصالح رضي الله عنهم، ولأن نكاح نساء أهل الكتاب فيه خطر ولا سيما في هذا العصر الذي استحكمت فيه غربة الإسلام وقل فيه الرجال الصالحون الفقهاء في الدين وكثر فيه الميل إلى النساء والسمع والطاعة لهن في كل شيء إلا ما شاء الله، فيخشى على الزوج أن تجره زوجته الكتابية إلى دينها وأخلاقها كما يخشى على أولاده منها من ذلك والله المستعان.
فإن قيل: فما وجه الحكمة في إباحة المحصنات من أهل الكتاب للمسلمين وعدم إباحة المسلمات للرجال من أهل الكتاب، فالجواب عن ذلك- والله أعلم- أن يقال: إن المسلمين لما آمنوا بالله وبرسله وما أنزل عليهم ومن جملتهم موسى بن عمران وعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ومن جملة ما أنزل على الرسل التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على عيسى، لما آمن المسلمون بهذا كله أباح الله لهم نساء أهل الكتاب المحصنات فضلا منه عليهم وإكمالا لإحسانه إليهم، ولما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من الكتاب العظيم وهو القرآن حرم الله عليهم نساء المسلمين حتى يؤمنوا بنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فإذا آمنوا به حل لهم نساؤنا وصار لهم ما لنا وعليهم ما علينا والله سبحانه هو الحكم العدل البصير بأحوال عباده العليم بما يصلحهم الحكيم في كل شيء تعالى وتقدس وتنزه عن قول الضالين والكافرين وسائر المشركين.
وهناك حكمة أخرى وهي: أن المرأة ضعيفة سريعة الانقياد للزوج فلو أبيحت المسلمة لرجال أهل الكتاب لأفضى بها ذلك غالبا إلى دين زوجها فاقتضت حكمة الله سبحانه تحريم ذلك".
3- أهل العهد:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم مثل ردّه عن أهل الذمّة:
المعاهدون مستأمنون بمقتضى معاهدة السلام مع دولهم، وما داموا قد دخلوا دار الإسلام بموجب تلك المعاهدة القاضية بذلك فهم تحت ولاية الإمام، وعليه حمايتهم والدفاع عنهم.
جاء في السير وشرحه: "قد بيَّنا أنّ المستأمنين فينا إذا لم يكونوا أهل منعة فحالهم كحالِ أهل الذمّة في وجوب نصرتِهم على أمير المسلمين، ودفع الظلم عنهم؛ لأنّهم تحت ولايته. ألا ترى أنّه كان يجب على الإمام والمسلمين اتّباعهم لاستنقاذهم من أيدي المشركين الذين قهروهم ما لم يدخلوا حصونَهم ومدائنهم، كما يجب عليهم ذلك إذا وقع الظهور على المسلمين، أو على أهل الذمّة؟ وكذلك لو أنّ هؤلاء المستأمنين كانوا من أهل دار الموادعة، دخلوا إلينا بتلك الموادعة"().
ب- حرمة أموالهم ودمائهم حال العهد:
قال المرغينانِي: "وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجرًا؛ فلا يحل له أن يتعرض لشيءٍ من أموالهم، ولا من دمائهم؛ لأنّه ضمن أن لا يتعرض لهم بالاستئمان، فالتعرض بعد ذلك يكون غدرًا، والغدر حرام، إلاَّ إذا غدر بِه ملكهم، فأخذ أمواله أو حبسه، أو فعل ذلك غيرُه بعلم الملك ولم يمنعه؛ لأنّهم هم الذين نقضوا العهد، بخلاف الأسير؛ لأنّه غير مستأمن، فيباح له التعرض للمال والدم، وإن أطلقوه طوعًا".
4- أهل الأمان:
أ- ردّ العدوان عليهم وعلى أموالهم، مثل ردّه عن أهل الذمّة:
يعامل المستأمِنون ما داموا في أرض الإسلام معاملة أهل الذمّة في وجوب الدفاع عنهم، لأنّهم وهم في دار الإسلام يكونون تحت ولاية الإمام، فعليه الدفاع عن جميع من كان تحت ولايته.
جاء في السير الكبير وشرحه: "الأصل أنّه يجب على إمام المسلمين أن ينصر المستأمنين ما داموا في دارنا؛ لأنّهم تحت ولايته، ما داموا في دار الإسلام، فكان حكمهم كحكم أهل الذمّة".
ولو أنّ قومًا من أهل الحرب لهم منعة دخلوا دارنا بأمانٍ فشرطوا علينا أن نمنعهم ممّا نمنع منه المسلمين وأهل الذمّة؛ فعلينا الوفاء بشرطهم.
ولو كان المستأمنون في دارنا قومًا لا منعة لهم... فعلى الإمام أن يدفع عنهم من الظلم ما يدفعه عن أهل الذمّة.
ولو كان الذين ظهروا عليهم من أهل الحرب... مرّوا بِهم على منعةٍ للمسلمين في دار الحرب كان عليهم القيام بنصرتِهم، وتخليصهم من أيديهم، كما في حقّ أهل الذمّة.
ب- حرمة أموالهم ودمائهم:
انظر: حرمة أموال ودماء أهل الذمة.
تفسير القرآن العظيم (2/321).
الجامع لأحكام القرآن (9/352).
تفسير القرآن العظيم (2/403).
الجامع لأحكام القرآن (18/201).
البخاري في الجزية، باب إثم الغادر للبر والفاجر (3187)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحريم الغدر (1736)، واللفظ له.(105/11)
انظر: البخاري في الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة في الحرب (2734).
جامع البيان (10/26-27).
أبو داود في الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه (2759)، والترمذي في السير، باب ما جاء في الغدر (1580) واللفظ له، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1285).
أحمد (1/384)، وأبو داود في الجهاد، باب في الرسل (2762)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2400).
شرح السنة (11/166-167).
مسلم في الجهاد، باب الوفاء بالعهد (1787).
زاد المعاد (3/88).
البخاري في الجهاد والسير، باب قتل النساء والصبيان (3015)، ومسلم في الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان (1744).
أبو داود في الجهاد، باب في قتل النساء (2669)، وصححه الألبانيُّ في صحيح سنن أبي داود (2324). قال الزمخشريّ: "العسيف: الأجير" (الفائق 2/7).
السيل الجرار (4/532).
جامع البيان (12/155).
تفسير القرآن العظيم (3/479).
المغني (10/567).
مغني المحتاج (4/242).
انظر: مغني المحتاج (4/242).
الأحكام السلطانية (143).
انظر: مغني المحتاج (4/253).
البخاري في الجزية، باب إثم من قتل معاهدًا (3166).
فتح الباري (12/259).
الجامع لأحكام القرآن (2/246).
أنوار التنْزيل (2/297).
أحكام القرآن (2/18).
عن موقع الشيخ الرسمي http://www.binbaz.org.sa/last_resault.asp?hID=1229.
السير الكبير وشرحه (5/1892،1891).
بداية المنتهي (ص: 118)، وانظر حرمة دمائهم وأموالهم في معاملة أهل الذمة.
السير الكبير وشرحه (5/1853).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1857).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1858).
شرح السير الكبير للسرخسي (5/1859).
خامسًا: المسلمون في ديار الكفر:
1- حكم الإقامة في بلاد الكفّار:
الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام يختلف حكمها باختلاف حالات المقيمين بديار الكفر:
أ. فتكون واجبة، وذلك في حق من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه أو إقامة واجبات دينه في ديار الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:97].
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءى ناراهما))، ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت، ولأن القيام بواجبات دينه واجب، والهجرة من ضرورة الواجبات وتتمتها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب. وتسقط عمن يعجز عنها إما لمرض أو إكراه على الإقامة أو ضعف كالنساء والولدان وشبههم، فالعاجز لا هجرة عليه لقوله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً % فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:98-99].
ج. وتستحب في حق من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه وإقامة واجباته في دار الكفر، فهذا تستحب في حقه ليتمكن من جهادهم، ولتكثير المسلمين ومعونتهم، والتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ومشاهدة المنكر بينهم، ولا تجب عليه لإمكانه إقامة واجبات دينه بدون الهجرة.
وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة قبل فتحها مع إسلامه.
فإن قيل: ما ضابط إظهار الدين؟
فالجواب: ما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: "إظهاره دينَه ليس مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا وغير ذلك، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال".
ويرى بعض العلماء أنه قد يستحب للمسلم أن يقيم في دار الكفر وذلك إذا كان يرجو ظهور الإسلام بإقامته أو إذا ترتب على بقائه بدار الكفر مصلحة للمسلمين، فقد نقل صاحب مغني المحتاج أن إسلام العباس رضي الله عنه كان قبل بدر وكان يكتمه ويكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار المشركين وكان المسلمون يتقوون به بمكة، وكان يحب القدوم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه صلى الله عليه وسلم: ((إن مقامك بمكة خير))، ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة.
ولا شك أن هذا ليس لكل أحد، وأغلب الناس سريع التأثر بما عليه الكفار، وخاصة في هذا الزمان الذي غلب فيه أهل الكفر، ونحن نرى ولوع كثير من المسلمين بتقليد الكفار واتباعهم وهم في ديار الإسلام فكيف الحال بمن هو مقيم بين أظهرهم، لا شك أن الفتنة أعظم والخطر أكبر، وأحكام الشريعة مبنية على الغالب الكثير لا على ما شذّ وندر.
2- النكاح بأهل الكتاب اليوم في ديارهم:(105/12)
يترتب في الوقت الراهن من الزواج بالكتابية في ديارها وإن لم تكن دار حربٍ مفاسد شتى، من أعظمها أنّ الولد يتبع أمّه في دينها، ولا سلطة للأب المسلم على ذلك.
ولأجل ذلك كره من كره من أهل العلم الزواج بالحربيّة؛ لخشية ضياع الولد، قال القرطبيُّ: "وكره مالك تزوج الحربيات لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير".
وقال ابن مفلح: "وعلل الإمام المنع في دار الحرب من أجل الولد لئلا يستعبد الرجعة على دينهم".
وقد أشار الشيخ عبد العزيز بن باز في الفتوى المتقدمة في حكم نكاح الكتابية إلى هذه العلّة في كراهية التزوج بالكتابيّة في بلدها في الوقت الحالي.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،
أخرجه أبو داود [2645] والترمذي [1604] من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع [1461].
انظر: المغني لابن قدامة (13/151).
فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (1/91-92)
مغني المحتاج (4/239) وانظر: الجهاد والقتال في السياسة الشرعية للدكتور محمد خير هيكل (1/687-692).
الجامع لأحكام القرآن (3/69).
المبدع (7/71).
انظر: النكاح بأهل الكتاب منهم.(105/13)
أصولنا في الإصلاح
د. بدر ملك د. لطيفة الكندري
يعتقد الكاتبان أهمية بيان وتطبيق الأصول التالية على كافة الأصعدة لتحقيق تنمية مستديمة شاملة:
1. التربية هي القضية الكبرى دون إهمال القضايا الأخرى.
2. تشجيع القراءة الواعية ركيزة كل نهضة راسخة.
3. الكتابة أصل من أصول التربية الإسلامية والتعليقة (مذكرة الطالب والمتعلم) من الآليات الناجحة في بناء الحضارة الإسلامية ويمكن تحديد وتجديد فلسفتها التربوية.
4. لا بد من تربية المرأة تربية عادلة تحرر طاقاتها، وتنور عقلها من أجل القيام برسالتها الحضارية أسريا ومجتمعيا بعيدا عن جمود الشرق وجحود الغرب. والرجال شقائق النساء وبينهما علاقة تكامل لا تفاضل.
5. الأسرة أساس الإصلاح والكل فيها معلم ومتعلم بلا حدود.
6. غرس المهارات الحياتية بصورة منهجية ضرورة عصرية. يركز التعليم على اكتساب المهارات النافعة لا تكديس المعلومات الجامدة.
7. كل طفل يستحق ويستطيع أن يحقق التقدم وله طرائق مختلفة في التعلم.
8. الإيمان بالتعددية والتسامح وتوسيع نطاق الحريات ومساحات الاختيار أساس التعامل مع الآخرين.
9. تنمية الفكر الناقد لإدراك التحديات واستنباط الحلول في دائرة الاجتهاد الحر.
10. تراثنا التربوي ننطلق منه ولا ننغلق فيه.
بعض الإصدارات الفكرية للمؤلفَين
التعليم الديني: تصورات لتحسين المخرجات.
تراثنا التربوي: ننطلق منه ولا ننغلق فيه.
مهارات الحياة للصف الأول والثاني والرابع والخامس الابتدائي .
تشجيع القراءة (د. لطيفة الكندري). إصدار مركز الطفولة والأمومة.
مختصر كتاب تراثنا التربوي.
سلسلة تربية الأبناء (الصندوق الوقفي للتنمية العلمية والاجتماعية).
قصص رواها الرسول صلى الله عليه وسلم (د. بدر ملك).
الأبحاث العلمية المحكمة
تربية المرأة من منظور الشيخ محمد الغزالي.
- Application of al-ghazali’s principles from al-tibr al-masbuk fi nasihat al-muluk [ingots of gold for the advice of kings] to contemporary educational policy and leadership.
- Al-Gazali on the education of women: An investigation in terms of conflict theory, functional theory, and institution theory.
صورة المرأة في كتب اللغة العربية في المرحلة الابتدائية في دولة الكويت.
Education and Ecology From Al-Ghazaly's Perspectives.
الفكر التربوي عند القناعي (تحت الطبع).(106/1)
أضرار المعاصي على الأفراد والمجتمعات
2924
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
حسين آل الشيخ
المدينة المنورة
30/10/1423
المسجد النبوي
ملخص الخطبة
1- الذنوب والمعاصي من أعظم الأضرار. 2- من أضرار الذنوب والمعاصي. 3- من آثار الذنوب والمعاصي. 4- من عقوبات الذنوب والمعاصي. 5- ضرر المعاصي لا يقتصر على أصحابها.
الخطبة الأولى
إخوة الإسلام، إن الله جل وعلا لا يأمر إلا بما يتضمَّن كلَّ خير للعباد، وما يحقِّق المصالحَ في المعاش والمعاد. ومن هنا فالذنوبُ والمعاصي من أعظم الأضرار على العباد والبلاد، بل كلّ شرٍّ في الدنيا والآخرة فأساسُه ارتكابُ القبائح والموبقات، وسببُه اجتراحُ المعاصي والسيئات.
الذنوبُ والمعاصي كم أزالت من نعمة، وكم جلبت من نقمة، وكم أحلَّت من مذلّة وبَلية.
معاشرَ المسلمين، للمعاصي من الآثار القبيحة المذمومة ما يعود على الفرد والجماعة، وما يصيب القلبَ والبدن، وما يعمّ الدنيا والآخرة، ما لا يعلمه إلاّ الله جل وعلا. وإن من أضرار الذنوب والآثار السيئة للمعاصي يعود على الناس كافة، ويضرّ بالمجتمعَ عامة.
فمن تلك الأضرار البالغةِ والآثار السيئة أن المعاصي سببٌ لحرمان الأرزاق، وسببٌ لفشوّ الفقر وحرمان البركة فيما أُعطي العباد، جاء في المسند عن النبي : ((إن الرجل ليُحرَم الرزقَ بالذنب يصيبُه))[1]، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إنّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسَعة في الرزق، وقوَّة في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبُغضاً في قلوب الخلق)[2].
المعاصي والذنوبُ متى تفشَّت في المجتمع تعسَّرت عليه أمورُه، وانغلقت أمامَه السبل، فيجدُ أفرادُه حينئذ أبوابَ الخير والمصالح مسدودةً أمامهم، وطرقَها معسَّرة عليهم، ولا غرو فالله جل وعلا يقول: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].
المعاصي سببٌ لهوان العبد على ربّه وسقوطه من عينه، قال الحسن البصري رحمه الله "هانوا عليه فعصوه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم"[3]. ومتى هان العبدُ على الله جل وعلا لم يُكرمْه أحد كما قال سبحانه: وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18].
وإن المجتمعَ المسلم متى فشت فيه المعاصي والموبقاتُ وعمّت بين أبنائه الذنوبُ والسيئات كان ذلك سبباً في ذلته وصغاره أمام المخلوقات جميعهاً، ففي مسند أحمد عن النبي : ((وجُعلت الذلة والصغارُ على من خالف أمري))[4]، فالعزَّة إنما هي في تحقيق طاعة الله وطاعة رسوله ، مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر:10].
لما فُتحت قُبرص بَكى أبو الدرداء رضي الله عنه فقيل له: ما يبكيك في يوم أعزَّ الله فيه الإسلامَ وأهله؟ فقال: (ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملكُ تركوا أمرَ الله فصاروا إلى ما ترى)[5].
جاء في المسند عن النبي أنه قال: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كلِّ أفق، كما تتداعى الأكلةُ على قصعتها))، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة يومئذ؟ قال: ((لا، وأنتم كثير ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، تنزَع المهابة من قلوب عدوّكم، ويُجعل في قلوبكم الوهن))، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حبُّ الدنيا، وكراهة الموت))[6]، وفي المسند أيضاً وسنن أبي داود بسند حسن عن النبي أنه قال: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهادَ سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم))[7]، وفي روايةٍ: ((أنزل الله عليكم من السماء بلاءً، فلا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم))[8]. ولذا كان من دعاء بعض السلف: "اللهم أعزَّني بطاعتك، ولا تذلَّني بمعصيتك"[9].
إخوة الإسلام، من آثار الذنوب والمعاصي على البلاد والعباد أنها تُحدث في الأرض أنواعاً من الفساد في الماء والهواء والزروع والثمار والمساكن وغيرها، قال جل وعلا: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. والمراد بالفساد في الآية النقصُ والشرور والآلام التي تحدث في الأرض عند معاصي العباد، فكلَّما أحدثوا ذنباً أحدث الله لهم عقوبة، قال بعض السلف: "كلّما أحدثتم ذنباً أحدث الله لكم من سلطانه عقوبةً"، قال مجاهد: "إذا ولي الظالمُ وسعى بالظلم والفساد فيحبس الله بذلك القطرَ، حتى يهلك الحرثُ والنسل"، ثم قرأ هذه الآية ثم قال: "أما والله، ما هو ببحركم هذا، ولكن كلّ قرية على ماءٍ جارٍ فهو بحر"[10]، وبمثله قال غيره من المفسرين.(107/1)
جاء في سنن ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال : ((يا معشر المهاجرين، خمسُ خصالٍ أعوذ بالله أن تدْركوهن: ما ظهرتِ الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلاّ ابتُلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قومٌ المكيالَ والميزان إلا ابتُلوا بالسنين وشدَّة المؤنة وجَور السلطان، وما منع قومٌ زكاةَ أموالهم إلاّ مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا، ولا خفَر قومٌ العهدَ إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تعملْ أئمتُهم بما أنزل الله جل وعلا في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم))[11]، وفي المسند من حديث أم سلمة: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم الله بعذاب من عنده))[12].
إخوة الإيمان، ومن آثار المعاصي على العباد تسلّطُ الأعداء وتمكّن الأشرار من الأخيار، جاء عن النبي أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعثَ عليكم عذاباً من عنده، ثم تدعونَه فلا يُستجاب لكم)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن"، وحسنه المنذري وغيره[13].
معاشر المسلمين، من عقوبات الذنوب والمعاصي أنها تزيل النعم، وتحلّ النقم، وتقلب الأمنَ مخاوف، والسعادةَ شقاءً والصلاح فساداً، وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، قال علي رضي الله عنه: (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة)[14]. فمتى غيَّر العبادُ طاعةَ الله جل وعلا بمعصيته، وغيَّروا شكرَه بكفره وأسبابَ رضاه بأسبابِ سخطه غُيِّرت عليهم النعمُ التي هم فيها، ومتى غيَّروا المعاصي بالطاعة غيَّر الله عليهم العقوبة بالعافية والذلَّ بالعز والشقاءَ بالسعادة والراحة والطمأنينة، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11]، ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
أيها المسلمون، من عقوبات المعاصي والآثام انتشارُ الأمراض النفسيّة بين أفراد المجتمع، وحلولُ المخاوف والقلق، وحصولُ الهمّ والضجر. ذلكم أن الذنوبَ تَصرِف القلوبَ عن صحّتها واستقامتها إلى مرضها وانحرافها، فلا يزال القلبُ مريضاً معلولاً لا ينتفع بالأغذية التي بها حياتُه وصلاحُه، فتأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض في الأبدان، بل الذنوبُ أمراضُ القلوب وداؤها، ولا دواء لها إلا بتركها.
قال جل وعلا: إِنَّ الأبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ [الانفطار:13، 14]، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "ولا تحسبنَّ أنّ النعيم في هذه الآية مقصورٌ على نعيم الآخرة وجحيمها فقط، بل في دورهم الثلاثة هم كذلك، أعني: دار الدنيا ودار البرزخ ودارَ القرار. فهؤلاء ـ أي: أصحاب الطاعة ـ في نعيم، وهؤلاء ـ أصحابُ العصيان ـ في جحيم، وهل النعيم إلاَّ نعيمُ القلب؟! وهل العذاب إلا عذاب القلب؟! وأيّ عذابٍ أشدّ من الخوف والهمّ والحزن وضيق الصدر؟!" انتهى كلامه رحمه الله[15].
ولذا ـ عباد الله ـ فأهلُ الطاعة والتقوى في مأمن من الهموم والغموم، وفي بعد عن الضجر والقلق، ذلك بأنهم حقّقوا طاعةّ الله، واجتنبوا معاصيَه، فربنا جل وعلا يقول: فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام:48]، ويقول عز من قائل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:12].
فاتقوا الله عباد الله، وحقِّقوا طاعتَه تفلحوا، واجتنبوا معاصيَه تسعَدوا، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:71].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/277)، وابن ماجه في الفتن (4022)، والطبراني في الكبير (2/100)، والبيهقي في الشعب (10233) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (872)، والحاكم (1814)، وحسنه العراقي كما في مصباح الزجاجة (1/15)، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (1473، 1478).
[2] انظر: الاستقامة (1/351)، ومدارج المسالكين (1/424).
[3] انظر: جامع العلوم والحكم (ص188).(107/2)
[4] جزء من حديث علقه البخاري بصيغة التمريض في الجهاد، باب: ما قيل في الرماح، ووصله أحمد (2/50) بتمامه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرج أبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031) جزءا منه، قال ابن تيمية كما في المجموع (25/331): "هذا حديث جيد"، وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح"، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/271)، وصححه الألباني في حجاب المرأة المسلمة (ص104).
[5] أخرجه الطبري في تاريخه (2/602)، وأبو نعيم في الحلية (1/217)، وابن الجوزي في المنتظم (4/364).
[6] رواه الإمام أحمد (5/278)، وأبو داود في الملاحم (4297) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (958).
[7] أخرجه أحمد (2/42، 84)، وأبو داود في البيوع (3462) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقوّاه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
[8] أخرجه أحمد (2/28) بنحوه.
[9] روي هذا من دعاء جعفر بن محمد، أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/196).
[10] أخرجه ابن جرير في تفسيره (21/49).
[11] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4019)، والبيهقي في الشعب (3/197)، وصححه الحاكم (4/540)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[12] أخرجه أحمد (6/304)، والطبراني في الكبير (23/325)، وقال الهيثمي في المجمع (7/268): "رواه أحمد بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح".
[13] أخرجه الترمذي في الفتن (2169) من حديث حذيفة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/388، 391)، والبيهقي في الشعب (7558)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1762).
[14] انظر: طريق الهجرتين (ص415). وروي من كلام العباس في دعائه لما طلب منه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يستسقي لهم، عزاه الحافظ في الفتح (2/497) للزبير بن بكار في الأنساب وسكت عنه. وروي من كلام عمر بن عبد العزيز، انظر: مجموع الفتاوى (8/163).
[15] الجواب الكافي (ص51).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً لا ينفد، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الفرد الصمد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل من تعبّد، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بوصية الله جل وعلا للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ [النساء:131].
إخوة الإيمان، الذنوبُ والمعاصي تمحقُ بركةَ الدنيا والدين، تمحقُ بركةَ العمر والرزق، وبركة العلم والعمل وغيرها، بل ما مُحقت البركةُ من الأرض إلاّ بمعاصي الخلق، والله جل وعلا يقول: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ وَلَاكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، والله جل وعلا يقول: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً [الجن:16].
ولذا فيا عباد الله، إن معصيةَ العاصي تعود على غيره بشؤم هذا الذنب، فيحصل الضرر حينئذ على الجميع، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (إن الحُبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم)[1]، ويقول غير واحد من أهل السلف: "إنّ البهائم تلعن عصاةَ بني آدم إذا اشتدَّت السنة وأمسك المطر، تقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم"[2].
الذنوبُ والمعاصي تجرِّئ على العبد ما لم يكن يجترئْ عليه من أصناف المخلوقات، فتجترِئ عليه الشياطينُ بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتحزين وإنسائه ما به مصلحتُه في ذكره ومضرّته في نسيانه، ويجترِئ عليه حينئذ شياطينُ الإنس بما تقدر عليه من أذاه في غيبته وحضوره، بل ويجترِئ عليه أهلُه وخدمه وأولادُه وجيرانه، قال بعض السلف: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خُلق دابّتي وامرأتي"[3]، ذلكم أن اللهَ يدفع عن المؤمنين الطائعين شرورَ وأضرارَ الدنيا والآخرة، فالله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38].
عباد الله، إن الله أمرنا بأمر عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وارض الله عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه ابن جرير في جامع البيان (14/126)، والبيهقي في الشعب (7479).
[2] أخرجه سعيد بن منصور (236)، وابن جرير في جامع البيان (2/54، 55) عن مجاهد بنحوه.
[3] روي من كلام الفضيل بن عياض، أخرجه عنه أبو نعيم في الحلية (8/109)، وانظر: صفة الصفوة (2/238)، وجامع العلوم والحكم (ص187).(107/3)
أضرار المعاصي
1351
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/11/1420
النور
ملخص الخطبة
1- الخطأ والزلل من جبلة البشر وطبيعتهم. 2- كلنا يخطئ ولكن منا من يحب المعصية ومن يبغضها. 3- المعاصي سبب المصائب والشقاء والعذاب. 4- المعاصي محق للبركة والرزق والجاه. 5- خطورة احتقار المعاصي والتهاون فيها.
الخطبة الأولى
أما بعد:
لقد خلق الله تعالى الإنسان وكرمه واصطفاه، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا، وأودع في النفس البشرية خلالاً وصفاتٍ، وسجايا وطبيعاتٍ، ومن تلك السجايا والصفات التي فُطرت عليها النفس البشرية: طبيعة التقصير والخطأ، والإنحراف والهوى، فالمعصية طبعٌ جبلّي وخلق بشري، متى ما كان الوقوع فيها بدافع الشهوة والشبهة، دون محبةٍ أو رغبة، مع كره القلب لها، ونفور النفس منها.
وقد اقتضت حكمة الله تعالى واتصافه بصفات المغفرة والرحمة أن يقع العباد في الذنوب والآثام، ثم يرجعون إلى الله مقبلين تائبين فيغفر لهم ويتجاوز عنهم بمنّه وكرمه، ولو شاء الله لآمن من في الأرض أجمعين ولهدى الناس كلهم، لكن حكمته اقتضت أن يملأ الجنة والنار من خلقه.
ما للعباد عليه حقٌ واجب كلا ولا سعيٌ لديه ضائع
إن عُذّبوا فبعدله أو نُعّموا فبفضله وهو الكريم الواسع
عباد الله: من ذا الذي لم تصدر منه زلّة؟ ومن الذي لم يقع منه هفوة؟ ومن لم يقع في معصية؟ وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) [رواه مسلم في صحيحه].
وروى الترمذي وابن ماجة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((كل بني آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون)). فأيّ نفس يا عباد الله غير نفوس الأنبياء المعصومة ترتقي إلى درجةٍ ومنزلةٍ لا تدركها كبوة، ولا تغلبها شهوة. ولكن المؤمن الصادق في إيمانه مع ذلك كله يدرك خطورة المعصية وشناعتها وأنها جرأةٌ على مولاه، فإذا وقع فيها تحت ضعف بشري واقعها مواقعة ذليل خائف يتمنى ذلك اليوم الذي يفارق فيه الذنب ويتخلص من شؤم المعصية.
أيها المسلمون: إن الواقعون في المعاصي أحد رجلين:
إما رجلٌ يقع في المعصية حباً لها وشغفاً بها، تتحكم المعصية في قلبه وتسطو على تفكيره، حتى يسعى بكل جوارحه للوقوع فيها، وقد يبذل مالاً أو جاهاً حتى يقع فيها، فإذا حال بينه وبين الوقوع فيها حائل أخذته الحسرات وعصره الندم على أنه لم يتمكن من فعلها، كل ذلك دون رادعٍ من دين أو خلق أو ضمير، فلا يفكر بالتوبة ولا يقيم لها وزناً، فهذا وأمثاله لا تزال خطواته تقوده من معصية إلى أخرى ومن صغيرة إلى كبيرة حتى تكبّه على وجهه في النار عياذاً بالله. هذا هو الرجل الأول.
وأما الآخر فهو يبغض المعصية ويُقبل على الطاعة، لكنه تأخذه في لحظةٍ من اللحظات حالة ضعف بشري، فيواقع المعصية أياً كانت، وما إن يفارقها حتى يلتهب فؤاده ندماً وحسرةً وخوفاً ووجلاً من الله تعالى، فيحتقر نفسه ويمقتها ثم يتجه إلى الله طارقاً بابه راجياً عفوه وغفرانه، فهذا وأمثاله ممن قال الله فيهم والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلى الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . ولقد صوّر ابن مسعود رضي الله عنه حال المؤمن مع المعصية تصويراً بليغاً دقيقاً فقال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مرّ على أنفه فقال به بيده فطار). قال المحب الطبري رحمه الله تعالى: (وإنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته وسخطه، لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة بالله، فلذلك قلّ خوفه من الله واستهان بالمعصية).
أيها المسلمون: المعاصي سببُ كل عناء، وطريق كل تعاسة وشقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله تعالى أمة إلا بذنب، وما نجى من نجى وفاز من فاز إلا بتوبة وطاعة، فإن ما أصاب الناس من ضُرّ وضيق في كل مجال من المجالات فردياً كان أو جماعياً إنما بسبب معاصيهم وإهمالهم لأوامر الله عز وجل، ونسيانهم شريعته.
وصدق الله سبحانه إذ يقول: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وقال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون .
وكتاب الله تعالى خير شاهد، فقد عمّ قوم نوح الغرق، وأهلكت عاداً الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقُلبت قرى قوم لوط عليهم فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .(108/1)
أيها المسلمون: وحين طغت على كثير من الناس النظرة المادية فضعف عندهم ربط الأسباب بمسبباتها وغفلوا عن إدراك سنن الله الكونية وآياته الظاهرة، يؤازر ذلك ويساعده تتابع الفتن والشهوات على الناس، صُدّوا عن السبيل، ووقعوا في المعاصي دون أدنى رقيب أو محاسبة.
نعم عباد الله! لقد انتشرت الفواحش، وعمّت المنكرات، واستبيحت المحرمات، ووقع الناس في الذنوب والموبقات، لمّا غاب عنهم الرقيب وضعف في نفوسهم الإيمان، فهانوا على الله فلم يبال بهم في أيّ أوديته هلكوا. ذُكر للحسن البصري رحمه الله أن قوماً وقعوا في المعاصي فقال: "هانوا على الله فعصوه ولو عزّوا عليه لعصمهم".
نعم أيها الإخوة! لقد وقع الناس في المعاصي والذنوب لمّا استحكمت الغفلة من القلوب، وران حب الدنيا على النفوس فأمنت مكر الله.
عباد الله: المعاصي مزيلة للنعم، جالبة للنقم، مؤدية إلى الهلاك والدمار، فقد روى ابن ماجة وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)).
أيها المسلمون: إن أضرار المعاصي وشؤم الذنوب عظيمٌ وخطير، فهي موجبةٌ للذل والحرمان، جالبة للصد عن سبيل الرحمن، تفسد القلوب، وتورث الهوان، وتوجب اللعنة من الله ومن رسوله، تزيل النعم، وتجلب النقم، وتلقي الرعب والخوف في القلوب، تعمي البصيرة، وتسقط الكرامة، توجب القطيعة وتمحق البركة، ما لم يتب العبد منها ويرجع إلى الله تعالى خائفاً وجلاً تائباً طائعاً، قال ابن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
قال مجاهد رحمه الله: "إن البهائم لتلعن العصاة من بني آدم إذا اشتدت السنة وأمسك المطر تقول: هذا بشؤم معصية بني آدم".
اعلموا رحمني الله وإياكم أن للمعصية ظلمة يجدها العاصي في قلبه لا يبددها ويجلوها إلا التوبة إلى الله تعالى والتقرب إليه بالأعمال الصالحة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق وقوة في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق". قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)). رواه الإمام أحمد.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إني لأعصي الله تعالى فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي".
إن للمعاصي أيها المسلمون من الآثار القبيحة المذمومة المضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمها إلا الله، من حرمان للرزق، ووحشة يجدها العاصي بينه وبين الناس وبينه وبين الله، ومِن تعسّر الأمور عليه، وحرمان التوفيق والظلمة في القلب، وحرمان الطاعة، ونقص في العمر، ومحق للبركة، وأعز من ذلك كله نقص العلم وحرمانه، قال الشافعي رحمه الله:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم: بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
وكذا هوان العبد على ربه، وسقوطه من عينيه ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء . ووقوع العاصي في الذل والمهانة، لأن العز كله في طاعة الله. قال الحسن البصري رحمه الله: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون .
بارك الله لي . .
الخطبة الثانية
أما بعد:
فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أن المعاصي إنما تُحارب بطاعة الله تعالى ومراقبته والخوف منه، واستعظام الذنوب والتوبة منها عند الوقوع فيها قال الله تعالى: وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون .
عباد الله: إن استعظام الذنب يتولد منه لدى صاحبه استغفار وندم وتوبة وإلحاحٌ على الله عز وجل بالدعاء وسؤاله سبحانه أن يخلصه من شؤمه ووباله، وما يلبث ذلك أن يولد لدى الانسان دافعاً قوياً يمكّنه من الانتصار على الشهوات والسيطرة على الهوى.(108/2)
أما أولئك الذين يحتقرون الذنوب فقد يشعر أحدهم بالندم ويعزم على التوبة، لكنها عزيمة باردة ضعيفة سرعان ما تنهار مرةً أخرى أمام دواعي المعصية.
قال بعض السلف: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت". روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنّا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات". وروى ابن أبي عاصم عن حذيفة رضي الله عنه قال: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في المجلس الواحد أربع مرات".
إن المسلم ليقف أمام هذه الآثار متسائلاً: ماذا عسى خير القرون أن تقول أو تفعل من أفعال تعدّ من الموبقات إذا ما قورنت بما نقع فيه يا عباد الله من الجرائم العظام والذنوب الكبار التي لا نبالي بها والله المستعان.
إن احتقار الذنوب معاشر الإخوة والتهاون بها أمر خطير، فقد روى الإمام أحمد والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((إياكم ومحقرات الذنوب فإنهنّ يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لهنّ مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سواداً وأججوا ناراً وأنضجوا ما قذفوا فيها)). وهذا تشبيه بليغ من أفصح الناس صلى الله عليه وسلم لشؤم المعصية وخطرها على العبد وهو لا يبالي بها، فالعود لا يصنع شيئاً، والثاني كذلك لكنها حين تجتمع تصبح حطباً يُشعل النار ويأكل الحسنات.
ورحم الله ابن المعتز حين قال:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرنّ كبيرةً إن الجبال من الحصى
أيها المسلمون: وبقدر ما يصغر الذنب عند العاصي بقدر ما يعظُم عند الله، وبقدر ما يعظم عند العاصي يصغر عند الله. فكم يا عباد الله من كلمة لا نلقي لها بالاً يهوي بها الواحد منا في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، سخريةً بمسلم أو همزٍ له أو وقوع في عرضه أو كلمة غير صادقة، وكم من تقصير في واجبٍ لا نعبأ به وارتكاب لمحرم لا نتورع عنه، وهكذا تتراكم علينا الذنوب وبعد ذلك نسأل! لماذا تقسو القلوب؟ ولماذا تُظلم النفوس وتضيق الصدور؟ ولماذا ندعو فلا يستجاب لنا ونسألُ فلا نعطى ونستغفر فلا يغفر لنا؟
نحن ندعو الإله في كلّ كربٍ ثم ننساه عند كشف الكروبِ
كيف نرجو إجابةً لدعاءٍ قد سددنا طريقه بالذنوبِ
وأخيراً: إياك ثم إياك يا عبدالله إن وقع منك شيء بالمجاهرة بالمعصية فبتّ وقد سترك الله، فتصبح تكشف ستر الله عليك، فهذا أيها الأحبة إثمه أعظم من إثم المعصية وخطره أكبر وعقابه أشد، قال صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي معافى إلاّ المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره الله ويصبح يكشف ستر الله عنه)) [رواه البخاري ومسلم].
فاتقوا الله عباد الله واحذروا المعاصي صغيرها وكبيرها، وعليكم بملازمة الاستغفار والتوبة فإن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، وبعدها لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات. .
أيها المسلمون: سيقوم مركز الدعوة والإرشاد بالجمع في هذه الجمعة لصالح شعبة الجاليات التابعة لمحافظة الخبر. وفق الله الجميع.
اللهم صلي على محمد. .(108/3)
أطب مطعمك
علي بن محمد الدهامي
دار القاسم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
لا يخفى أننا في زمن فتحت فيه الدنيا على الناس، وكثرت تجاراتهم، وتعددت مكاسبهم، وكثرت صور البيوع التي حيرت الناس ولبست عليهم، وقد أخبر النبي وصحبه لا يتأثر بما يتأثر به الناس، ولا يتابعهم فيما يخالفون فيه هدي رسول الله : { لا تستبطئوا الرزق، فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغ آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال، وترك الحرام } [ السلسلة الصحيحة:2607]، وقد قال يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=" [ المائدة:27]، ولهذا كانت هذه الآية يشتد منها خوف السلف على نفوسهم، فخافوا أن لا يكونوا من المتقين الذين يتقبل منهم، وسئل أحمد عن معنى (المتقين) فيها فقال: (يتقي الأشياء فلا يقع فيما لا يحل له). وقال أبو عبدالله النباجي الزاهد رحمه الله: ( خمس خصال بها تمام العمل: الإيمان بمعرفة الله عز وجل، ومعرفة الحق، واخلاص العمل لله، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرتفع العمل، وذلك أنك إذا عرفت الله عز وجل ولم تعرف الحق لم تنتفع، وإن عرفت الحق ولم تعرف الله لم تنتفع، وان عرفت الله وعرفت الحق ولم تخلص العمل لم تنتفع، وان عرفت الله وعرفت الحق وأخلصت العمل ولم يكن على السنة لم تنتفع، وإن تمت الأربع ولم يكن الأكل منا حلال لم تنتفع).
وقال وهيب بن الورد: (لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أم حرام).
ويقول ميمون بن مهران: (لا يكون الرجل تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه وحتى يعلم من أين ملبسه، ومطعمه، ومشربه).
ويقول حذيفة المرعشي: (جماع الخير في حرفين: حل الكسرة، وإخلاص العمل لله).
ويقولى أبو حفص النيسابوري: (أحسن ما يتوسل به العبد إلى مولاه الافتقار إليه، وملازمة السنة، وطلب القوت من حله).
وقال يوسف بن أسباط: (إذا تعبد الشاب يقول إبليس: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعمه مطعم سوء قال: دعوه لا تشتغلوا به، دعوه يجتهد وينصب، فقد كفاكم نفسه).
وقال سهل بن عبدالله: (من نظر في مطعمه دخل عليه الزهد من غير دعوى).
وسأل رجل سفيان الثوري عن فضل الصف الأول فقال: (انظر كسرتك التي تأكلها من أين تأكلها؟ وقم في الصف الأخير، وكأنه رحمه الله رأى من الرجل استهانة بهذا الأمر، فأحب أن ينبهه إليه؟ لأنه أهتم مما سأل عنه).
وقال إبراهيم بن أدهم: (ما أدرك من أدرك إلا من كان يعقل ما يدخل جوفه).
وقال يحيى بن معاذ: (الطاعة خزانة من خزائن الله إلا أن مفتاحها الدعاء، وأسنانه لقم الحلال). وقال ابن المبارك: (رد درهم من شبهة أحب إلي من أن أتصدق. بمائة ألف درهم ومائة ألف ومائة ألف حتى بلغ ستمائة ألف) وكان يحيى بن معين ينشد:
المال يذهب حله وحرامه *** يوما وتبقئ في غد آثامه
ليس التقي بمتق لألهه *** حتى يطيب شرابه وطعامه
ويطيب ما يحوي وتكسب كفه *** ويكون في حسن الحديث كلامه
نطق النبي لنا به عن ربه *** فعلى النبي صلاته وسلامه
لقد كانوا رحمة الله عليهم يؤكدون على هذا المعنى كثيرا حتى أن الفضيل رحمه الله لما أراد أن يعرف أهل السنة قال: (أهل السنة من عرف ما يدخل بطنه من حلال).
عن عائشة رضي الله عنها قالت: { كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوما بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه }.
فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك.
وصلى الله وسلم وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=118 ...(109/1)
أطفالنا ومعاني الرجولة
محمد بن صالح المنجد
دار الوطن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
فإنّ مما يعاني منه كثير من الناس ظهور الميوعة وآثار التّرف في شخصيات أولادهم، ولمعرفة حلّ هذه المشكلة لابد من الإجابة على السّؤال التالي: كيف ننمي عوامل الرّجولة في شخصيات أطفالنا؟
إن موضوع هذا السؤال هو من المشكلات التّربوية الكبيرة في هذا العصر، وهناك عدّة حلول إسلامية وعوامل شرعية لتنمية الرّجولة في شخصية الطّفل، ومن ذلك ما يلي:
التكنية
مناداة الصغير بأبي فلان أو الصغيرة بأمّ فلان ينمّي الإحساس بالمسئولية، ويُشعر الطّفل بأنّه أكبر من سنّه فيزداد نضجه، ويرتقي بشعوره عن مستوى الطفولة المعتاد، ويحسّ بمشابهته للكبار، وقد كان النبي قَالَ: { كَانَ النَّبِيُّ بثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ صَغِيرَةٌ ( الخميصة ثوب من حرير ) فَقَالَ: مَنْ تَرَوْنَ أَنْ نَكْسُوَ هَذِهِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، قَالَ: ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ. فَأُتِيَ بِهَا تُحْمَلُ ( وفيه إشارة إلى صغر سنّها ) فَأَخَذَ الْخَمِيصَةَ بِيَدِهِ فَأَلْبَسَهَا وَقَالَ: أَبْلِي وَأَخْلِقِي، وَكَانَ فِيهَا عَلَمٌ أَخْضَرُ أَوْ أَصْفَرُ فَقَالَ: يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَاه، وَسَنَاه بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنٌ } [رواه البخاري: 5375].
وفي رواية للبخاري أيضاً: { فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ وَيَقُولُ: يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَا، وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ الْحَسَنُ } [رواه البخاري: 5397].
أخذه للمجامع العامة وإجلاسه مع الكبار
وهذا مما يلقّح فهمه ويزيد في عقله، ويحمله على محاكاة الكبار، ويرفعه عن الاستغراق في اللهو واللعب، وكذا كان الصحابة يصحبون أولادهم إلى مجلس النبي إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.. الحديث } [رواه النسائي وصححه الألباني في أحكام الجنائز].
تحديثهم عن بطولات السابقين واللاحقين والمعارك ا لإسلامية وانتصار ات المسلمين
لتعظم الشجاعة في نفوسهم، وهي من أهم صفات الرجولة، وكان للزبير بن العوام قَالُوا لِلزُّبَيْرِ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ: أَلا تَشُدُّ فَنَشُدَّ مَعَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي إِنْ شَدَدْتُ كَذَبْتُمْ. فَقَالُوا: لا نَفْعَلُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ ( أي على الروم ) حَتَّى شَقَّ صُفُوفَهُمْ فَجَاوَزَهُمْ وَمَا مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ رَجَعَ مُقْبِلاً فَأَخَذُوا ( أي الروم ) بِلِجَامِهِ ( أي لجام الفرس ) فَضَرَبُوهُ ضَرْبَتَيْنِ عَلَى عَاتِقِهِ بَيْنَهُمَا ضَرْبَةٌ ضُرِبَهَا يَوْمَ بَدْر، قَالَ عُرْوَةُ: كُنْتُ أُدْخِلُ أَصَابِعِي فِي تِلْكَ الضَّرَبَاتِ أَلْعَبُ وَأَنَا صَغِيرٌ. قَالَ عُرْوَةُ: وَكَانَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ فَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ وَوَكَّلَ بِهِ رَجُلاً } [رواه البخاري: 3678].
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: وكأن الزبير آنس من ولده عبد الله شجاعة وفروسية فأركبه الفرس وخشي عليه أن يهجم بتلك الفرس على ما لا يطيقه، فجعل معه رجلاً ليأمن عليه من كيد العدو إذا اشتغل هو عنه بالقتال. وروى ابن المبارك في الجهاد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير "أنه كان مع أبيه يوم اليرموك , فلما انهزم المشركون حمل فجعل يجهز على جرحاهم" وقوله: " يُجهز " أي يُكمل قتل من وجده مجروحاً, وهذا مما يدل على قوة قلبه وشجاعته من صغره.
تعليمه الأدب مع الكبار
ومن جملة ذلك ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارهِ فَقَالَ: يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ قَالَ: مَا كُنْتُ لأوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ } [رواه البخاري: 2180].
تعليمهم الرياضات الرجولية
كالرماية والسباحة وركوب الخيل وجاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ قَالَ: { كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ } [رواه الإمام أحمد في أول مسند عمر بن الخطاب].
تجنيبه أسباب الميوعة والتخنث(110/1)
فيمنعه وليّه من رقص كرقص النساء، وتمايل كتمايلهن، ومشطة كمشطتهن، ويمنعه من لبس الحرير والذّهب. وقال مالك رحمه الله. "وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ يَلْبَسَ الْغِلْمَانُ شَيْئًا مِنْ الذَّهَبِ لأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَحَدًا } [رواه مسلم: 4533].
وفي رواية عن أَنَسٍ قال: { انْتَهَى إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ خَلْفِي مُقْبِلاً فَقُلْتُ: مَا جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ } [رواه الإمام أحمد في مسند بني هاشم].
وهناك وسائل أخرى لتنمية الرجولة لدى الأطفال منها:
(1) تعليمه الجرأة في مواضعها ويدخل في ذلك تدريبه على الخطابة.
(2) الاهتمام بالحشمة في ملابسه وتجنيبه الميوعة في الأزياء وقصّات الشّعر والحركات والمشي، وتجنيبه لبس الحرير الذي هو من طبائع النساء.
(3) إبعاده عن التّرف وحياة الدّعة والكسل والرّاحة والبطالة،وقد قال عمر: اخشوشنوا فإنّ النِّعَم لا تدوم.
(4) تجنيبه مجالس اللهو والباطل والغناء والموسيقى؛ فإنها منافية للرّجولة ومناقضة لصفة الجِدّ.
هذه طائفة من الوسائل والسّبل التي تزيد الرّجولة وتنميها في نفوس الأطفال، والله الموفّق للصواب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=9 ...(110/2)
أعطيت خمساً
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، وأغنى وأقنى، وجعلنا من خير أمة تأمر وتنهى، والصلاة والسلام على خير الورى، وما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى.
أما بعد..
لقد اختص الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من بين سائر الأنبياء بخصائص عديدة، ومزايا فريدة، وفضائل كثيرة، منها كانت له في حياته، ومنها ما هي له بعد مماته، وذلك يدل على علو قدره ورفعة منزلته عند ربه.
وقد جاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية بإثبات تلك الخصائص والفضائل للنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك سنتناول أحد تلك النصوص الحديثية بالشرح و الإيضاح والتبين فنقول وبالله وحده نستعين:
نص الحديث:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ويبعث إلى الناس عامة"1.
المعنى الإجمالي:
يخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الله أختصه عن سائر الأنبياء بخصائص خمس، وهذا لا يعني أنه حصر الخصائص بخمس، وإنما له خصائص كثيرة جداً؛ منها ما جاء في رواية مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "فضلت على الأنبياء بست" فلا يعني حصر الخصائص بذلك العدد، وإنما هو مفهوم عدد، ومفهوم العدد ليس بحجة عند بعض العلماء، وذهب البعض إلى القول بأنه : لعله صلى الله عليه وسلم أطلع أولاً على بعض ما اختص به ثم اطلع على الباقي2.
ثم بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بذكر تلك الخمس وهي : أنه نصر بالرعب على عدوه مسيرة شهر؛ وذلك لأنه لم يكن بينه وبين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده بغير عسكر3.
وجعلت له الأرض مسجد وطهوراً فليصل في أي مكان من الأرض، بخلاف فأيما رجل منهم صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة، ولم يجد المسجد المخصص للصلاة، أو وجد المسجد ولم يجد ما يتطهر به للصلاة، أو فقد كلابهما فليتمم وليصل حيث أدركه وقت الصلاة.
وأحلت له صلى الله عليه وسلم المغانم ولم تحل لأحد من الأنبياء قبله، وهي كذلك حلال لأمته من بعده، بل هي من أشرف أنواع الكسب كما قاله بعض العلماء.
وأعطى الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود في إراحة الناس من هول ذلك الموقف الرهيب في عرصات القيامة.
وبعث صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة، جنهم وأنسهم، عربهم وعجمهم، ذكرهم وأنثاهم، بدليل ما جاء في رواية أبي هريرة – رضي الله عنه- عند مسلم: " وأرسلت إلى الخلق كافة " وكان الأنبياء من قبله يبعث كل نبي إلى قومه خاصة.
فلله الحمد والمنة أن جعلنا من أتباع هذا النبي الكريم، واختصنا بخصائص عن بقية الأمم، وجزى الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما جزى كل نبي عن أمته.
بعض خصائصه صلى الله عليه وسلم :
كما قلت في المقدمة أن الله - تعالى- قد اختص نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بخصائص كثيرة جداً، ومن الصعب حصرها وعدها، ولكن حسبنا أن نشير إلى ما ذكر في الحديث من الخصائص- إن شاء الله-.
أولاً: النصر بالرعب:
قوله صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب مسيرة شهر".
أختص الله نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه نصره بالرعب، وهو الفزع والخوف، فكان الله – سبحانه - يلقي في قلوب أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم الفزع والخوف، فإذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر أو شهرين هابوه وفزعوا منه، فلا يقدمون على لقائه 4.
وقال ابن حجر - رحمه الله-: وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال 5.
قلت: احتمال حصول الخوف والفزع لأمة محمد من بعده على عدوها أظهر، وشاهد ذلك ما نراه في الواقع، حيث أننا نجد بعض الدول العظمى تخاف وتفزع من طائفة - فرقة- ظاهرة على الحق، بل وسخرت تلك الدول كثير من الأموال لمحاربة تلك الطائفة - الفرقة- خوفاً منها، وخوف وفزع تلك الدول الكافرة من تلك الطائفة - الفرقة- ليس لقوتها المادية فقط؛ بل إن تلك الطائفة معدمة فقيرة، ولكن خوف وفزع الدول الكافرة منها حاصل؛ لما تحمله تلك الطائفة من عقيدة وأفكار لا تقبل بالالتقاء مع الكفار، أو المداهنة على حساب عقيدتها ومبادئها وقيمها.
بل لقد تبنت تلك الدول ما يسمى بالحرب الإستباقية خوفاً وفزعاً من تلك الطائفة المنصورة -بإذن الله-.
وقد جاءت أحاديث كثيرة في بيان أن النبي نصر على عدوه بالرعب، فعن السائب بن يزيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " فضلت على الأنبياء بخمس: بعثت إلى الناس كافة، واد خرت شفاعتي لأمتي، ونصرت بالرعب شهراً أمامي، وشهراً خلفي، وجعلت لي الأرض مسجداً وظهوراً، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لي قبلي" 6.
الأرض مسجداً وطهوراً:(111/1)
قوله صلى الله عليه وسلم : " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل"
اختص الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وهي خصيصة لأمته من بين سائر الأمم بأن جعل لها الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من هذه الأمة أدركنه الصلاة، ولم يجد الماء ولا المسجد، فطهوره الصعيد، وهو كل ما على وجه الأرض، ومسجده مكانه الذي أدركته الصلاة وهو فيها، بشرط أن يكون نظيفاً، بخلاف بقية الأمم؛ فإن الصلاة لم تبح لهم إلا في أماكن مخصوصة كالصوامع والبيع.
فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم : " لقد أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي" وفيه: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم" 7.
ثالثاً: حل الغنائم:
قوله: " وأحلت لي المغانم" أمتن الله على هذه الأمة بأن أحل لها المغانم ، وذلك لشرف نبيها وأفضليته عند ربه، وقد كانت الأمم كما يقول الإمام الخطابي: على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم غنائم، ومنهم من أذن له فيه لكن كانوا إذا غنموا شيئاً لم يحل لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته8.
وقد قال الله – تعالى-: { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}سورة الأنفال(68-69).
قال جمهور المفسرين: إن المراد في قوله تعالى: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ }يعني في أم الكتاب الأول إن الغنائم حلال لهذه الأمة 9.
رابعاً: الشفاعة العظمى:
قوله: "وأعطيت الشفاعة" لقد اختص الله - سبحانه - خليله محمد صلى الله عليه وسلم بإعطائه إياه الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول ذلك الموقف الرهيب، الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومن ثم تدنوا الشمس منهم حتى ما يكون بينها وبينهما إلا قدر ميل.
فيبلغ الناس من هول وفزع ذلك اليوم مبلغاً رهيباً، ويلجمهم العرق إلجاماً، وذلك اليوم مقداره خمسين ألف سنة، وفي تلك المدة كلها والناس قياماً، شاخصة أبصارهم، فزعة قلوبهم، لا يقدرون على الكلام، ولا أحد يخلصهم من هول ذلك الموقف العصيب، حتى إذا بلغ الكرب منهم مبلغه، فيلهمهم الله في طلب الأنبياء في الشفاعة لهم بالتخليص من هول ذلك الموقف، فياتون نوحاً، ثم من بعده من الأنبياء، وكلهم يقول : " نفسي نفسي " اذهبوا إلى غيري، حتى يتنهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فينطلق صلى الله عليه وسلم فيأتي تحت العرش فيقع ساجداً لله عز وجل، ثم يفتح الله عليه من محامده، وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبله، ثم يقال له: " يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع" 10.
وهذه الشفاعة العظمى هي المقام المحمود التي حمد فيه محمد من قبل الخالق - جل وعلا – ومن قبل الخلق من بعد ذلك، وهو المذكور في قوله تعالى: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا } سورة الإسراء(79).
وأكثر أهل التفسير أن المراد بالمقام المحمود هو الشفاعة، قال ابن جرير الطبري : قال أكثر أهل العلم ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم11.
ونقل ابن حجر- رحمه الله-: عن ابن بطال قوله: والجمهور على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، وبالغ الواحدي فنقل فيه الإجماع12.
وعن عبد الله بن عمر أيضاً - رضي الله عنهم- : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الشمس تدنوا يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبيناهم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى، ثم بمحمد فشفع ليقضي بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمد أهل الجمع كلهم" 13.
بل لقد جاء التصريح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أن المقام المحمود هو الشفاعة، فعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة" 14.
إضافة إلى هذه الشفاعة العظمى فإن لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى خاصة به دون غيره من الأنبياء، منها:
1. شفاعته في استفتاح باب الجنة.
2. شفاعته في تقديم من لا حساب عليهم ولا عقاب في دخول الجنة.
3. شفاعته فيمن استحق دخول النار من الموحدين أن لا يدخلها.
4. شفاعته في إخراج عصاة الموحدين من النار.
5. شفاعته في رفع درجات ناس في الجنة .(111/2)
6. شفاعته في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب .
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " آتي باب الجنة يوم القيامة، فاستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك"15.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة الطويل وفيه "... يا محمد رفع رأسك ، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقول : يا محمد، أدخل من أمتك من لاحساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب"16.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: " نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" 17.
رسالة عامة:
قوله : " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " كان كل نبي ورسول يبعث إلى قومه خاصة؛ كما قال تعالى عن نوح: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}سورة الأعراف(59).
وقال تعالى عن شعيب: { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ }سورة الأعراف(85).
وأما نبينا فقد اختصه عن بقية الأنبياء والرسل بأن جعل رسالته عامة لجميع الخلق عربهم وعجمهم، جنهم وإنسهم، قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام - رحمه الله - : ومن خصائصه : أن الله – تعالى- أرسل كل نبي إلى قومه خاصة، وأرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس ، ولكل نبي من الأنبياء ثواب تبليغه إلى أمته، ولنبينا صلى الله عليه وسلم ثواب التبليغ إلى كل من أرسل إليه، تارة لمباشرة البلاغ، وتارة بالنسبة إليه، ولذلك تمنن عليه بقوله تعالى {: وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا }سورة الفرقان(51) ووجه التمنن: أنه لو بعث في كل قرية نذيراً لما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أجر إنذاره لأهل قريته 18.
وقد جاء ت النصوص من الكتاب والسنة على إثبات هذه الخصوصية، قال الله – تعالى-: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } سورة سبأ (28).
وقال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} سورة الأعراف(158).
وقال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا }سورة الفرقان(1).
وقال تعالى: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ}سورة الأقحاف(29).
وحديث جابر الذي ذكرناه سابقاً دليل على ذلك، وقد جاء في رواية:" كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود" 19.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" 20.
بعض فوائد الحديث:
1. إثبات أفضيلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء، حيث أن الله أختصه وأكرمه من بين سائر الأنبياء بخصائص كثيرة أوصلها بعض أهل العلم إلى ستين خصلة؛ كما ذكر ذلك أبو سعيد النيسابوري المتوفي سنة 406هـ في كتابه شرف المصطفى21.
2. أن الله نصر نبيه صلى الله عليه وسلم بالخوف والفزع، حتى ولو كان لوحده؛ فإن أعدائه يهابونه وهم بعيد عنهم مسيرة شهر من أمامه، ومسيرة شهر من خلفه.
3. أن الله رفع عنه وعن أمته الحرج والمشقة فقد جعل الأرض لهم مسجداً وطهوراً، فأيما رجل منهم أدركته الصلاة، فمسجده حيث أدركته الصلاة، وطهوره كل ما على وجه الأرض.
4. أهمية المحافظة على الصلاة في وقتها؛ كما قال الله – تعالى-: { إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا } سورة النساء (103).
وكما جاء في حديث جابر بن عبد الله- رضي الله عنه- قال قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- :" فأيما رجل أدركته - وقت الصلاة- الصلاة فليصل" ولا يجوز له تأخير الصلاة بأي حال من الأحوال.-
5- أن قوله: " أيما رجل " لا يراد به جنس الرجال وحده، وإنما يراد أمثاله من النساء أيضا، لأن النساء شقائق الرجال، وإنما يخص النساء بشيء إلا بدليل.(111/3)
6- أن التيمم يرفع الحديث كالماء لا شتراكهما في هذا الوصف المذكور في الحديث.
7- أن التيمم جائز بجميع ما على وجه الأرض؛ لأن النبي يعين في هذا الحديث تراباً بعينه، وأما أشبه ذلك، بل جعل الأمر على إطلاقه.
وقد جاء ذلك مصرحاً به في قوله تعالى: { فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا } سورة المائدة 8- والصعيد كما يقول العلماء هو كل ما علا على وجه الأرض.
وجاء في رواية أبي أمامة قوله صلى الله عليه وسلم :" وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً ".
9- إثبات الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم والتي نفاها بعض أهل البدعة؛ بل هي كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم وأحاديث إثباتها متواترة كما قال بعضهم:
مما تواتر حديث من كذب ... ** ... ومن بنى لله واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ... ** ... ومسح خفين وهذا بعض
10- أن شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع السابقة؛ لأن الله أرسله على الناس كافة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ما يسمع به يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن به إلا كان من أهل النار.
11- مشروعية التحدث بنعم الله على العبد؛ وتعديدها كما في قوله تعالى: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} سورة الضحى (11) .وكما في قوله صلى الله عليه وسلم :" أعطيت خمساً"..وإن التحدث بها وتعديده على وجه الشكر لله، وذكر آلائه يعد عبادة لله.
12- إلقاء العلم قبل السؤال.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وأله وسلم.
________________________________________
1 - رواه البخاري- الفتح رقم (353). ومسلم رقم (521).
2 - انظر فتح الباري لابن حجر العسقلاني (1/520) ط: دار الريان للتراث.
3 - فتح الباري (1/521.).
4 - جامع الأصول( 8/531) بتصرف.
5 - الفتح (1/521).
6 - رواه الطبري في الكبير رقم (6674)، وصححه الألباني بشواهده كما في صحيح الجامع الصغير برقم (4097).
7 - رواه أحمد رقم( 677).
8 - فتح الباري ( 1/552.).
9 - انظر تفسير ابن جرير (10/32-33)، وتفسير ابن كثير (2/339.).
10 - انظر حديث الشفاعة بطوله أخرجه البخاري - الفتح (8/4712)، ومسلم رقم (194).
11 - انظر تفسير ابن جرير (15/97.).
12 - فتح الباري (11/434).
13 - رواه البخاري - الفتح (3/1475).
14 - رواه البخاري - الفتح (8/4719).
15 - رواه مسلم برقم( 197).
16 - رواه البخاري- الفتح 8/4712، ومسلم رقم (194).
17 - مسلم رقم(209).
18 - بداية السول في تفضيل الرسول( 46- 47).
19 - رواه مسلم رقم (521).
20 - رواه مسلم رقم (153).
21 - انظر فتح الباري لابن حجر( 1/524)..(111/4)
أعمال إذا اجتمعت في امرئ دخل الجنة
عبد العظيم بدوي الخلفي
1085
ملخص المادة العلمية
1- فضل الصيام ومكانته في الإسلام. 2- الأيام التي حث الشارع على صومها تطوعاً. 3- فضل اتباع الجنائز وكيف يكون. 4- فضل إطعام المساكين وذم البخل بذلك. 5- فضل عيادة المريض وآدابها. 6- بعض مناقب أبو بكر الصديق.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر أنا، فقال رسول الله : ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)).
تضمّن الحديث أربع أعمال من أعمال البر والخير التي يحبها الله عز وجل، أخبر النبي : ((أنهن ما اجتمعن في عبد إلا دخل الجنة)).
أولها: الصيام، ومعلوم أن المراد به صيام التطوع.
إن الله تعالى فرض علينا صيام رمضان، وسن لنا النبي صيام أيام طوال العام ليظل المسلم متلبّسا بهذه العبادة، موصولا بها، لأنها من أحب العبادات إلى الله عز وجل، بل هي العبادة التي اختصّها الله لنفسه، كما قال النبي : ((قلل الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)).
ولذا أخبر النبي أن: ((كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف)).
قال الله تعالى: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزئ به، يدع شهوته وطعامه من أجلي)).
ومعنى ذلك أن ثواب الصيام يضاعف أكثر من سبعمائة ضعف كثرة لا يعلمه إلا الله الكريم الذي عنده خزائن كل شيء: وما كان عطاء ربك محظورا [الإسراء:20].
وقد كثرت الأحاديث عن النبي في فضل صيام التطوع، منها: قوله : ((ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا)).
وقوله : ((إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)).
وعن أبي أمامة قال: ((أتيت النبي فقلت: مرني بعمل يدخلني الجنة، قال: عليك بالصوم فإنه لا عدل له، ثم أتيته الثانية فقال: عليك بالصيام)).
ولقد رغّب في صيام أيام بعينها: منها: الإثنين والخميس.
وقال فيهما: ((تعرض الأعمال يوم الإثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم)).
ومنها: ثلاثة أيام من كل شهر.
وقال فيها: ((صيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر)).
وأرشد أن تكون أيام البيض، فقال لأبي ذر : ((إذا صمت من الشهر ثلاثا فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة)).
ومنها: صيام يوم عرفة، وسئل عنه فقال: ((يكفر ذنوب سنتين: الماضية والباقية)).
ومنها: عشر ذي الحجة: فقد كان يصومها.
ومنها: يوم عاشوراء.
فقد صامه وأمر بصيامه، وسئل عنه فقال: ((يكفّر ذنوب السنة الماضية)).
ويستحب أن يكون معه تاسوعاء، لأنه عزم على صيامه فتوفي قبل أن يدركه.
ومنها: الإكثار من الصيام في شعبان، فقد كان يفعله، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ((كان يصوم شعبان إلا قليلا)).
الثاني من الأعمال: اتباع الجنائز، وقد جعله النبي حقا من حقوق المسلم على المسلم، فقال : ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)).
وقال : ((عودوا المريض، واتبعوا الجنائز تذكركم الآخرة)).
واتباع الجنائز على مرتبتين:
الأولى: اتباعها من عند أهلها حتى الصلاة عليها.
والثانية: اتباعها من عند أهلها حتى يفرغ من دفنها.
ومما لا شك فيه أن المرتبة الثانية أفضل من الأولى، لقوله : ((من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان)). قيل: وما القيراطان؟ قال: ((مثل الجبلين العظيمين)).
ومما لا شك فيه أن هذا الفضل العظيم في اتباع الجنائز إنما هو لمن شهدها لله لا لغيره،، كما جاء في رواية أخرى: ((من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا وكان معها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط)).
كما أن هذا الفضل إنما هو للرجال دون النساء، لأن النساء منهيات نهى تنزيه عن اتباع الجنائز، كما قالت أم عطية رضي الله عنها: ((نهانا النبي عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)).
ومتّبع الجنازة بالخيار في المشي أمامها وخلفها، وعن جنبيها، لكن المشي خلفها أفضل من المشي أمامها لأنه مقتضى قوله : ((اتبعوا الجنائز)).
ويؤيده قول علي : (المشي خلفها أفضل من المشي أمامها كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذّا).
ومما ينبغي التنبي عليه أن النبي نهى عن اتباع الجنائز برفع الصوت بالبكاء، واتباعها بالبخور، فقال : ((لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار)).(112/1)
ويلحق بذلك رفع الصوت بالذكر ونحوه، كما قال الإمام النووي، رحمه الله تعالى: واعلم أن الصواب والمختار ما كان عليه السلف رضي الله عنهم من السكوت في حال السير مع الجنازة، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك.
والحكمة فيه ظاهرة، وهي أنه أسكن لخاطره وأجمع لفكرة فيما يتعلق بالجنازة، وهو المطلوب في هذا الحال.
الثالث من الأعمال: إطعام مسكين، وهو من الأعمال التي أمر الله بها وحض عليها، وجعلها من أسباب النجاة، قال تعالى: فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة [البلد:11-16].
ومدح الله تعالى المطعمين فقال: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [الإنسان:8-9].
وذم أهل البخل الذين لا يطعمون المسكين، وبين أنهم أصحاب الجحيم، فقال تعالى: كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين [المدثر:38-44].
بل ذم الله ترك الحض على طعام المسكين، فقال تعالى: أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين [الماعون:1-3].
وقال تعالى في حق صاحب الشمال: خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعا سبعون ذراعا فاسلكوه إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين [الحاقة:30-34].
فالواجب على من عنده فضل مال أن يعود به على من لا فضل عنده، والواجب على من عنده فضل طعام أن يعود به على من لا فضل عنده، فقد قال : ((يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول))، فإذا استطعمت فأطعم، وإلا فإنك ملام، فقد جاء في الحديث عن رب العزة سبحانه أنه يقول للعبد يوم القيامة: ((يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، فيقول: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي)).
وقد بين سبحانه أن عدم إطعام المساكين يذهب بالنعمة، فقال تعالى: إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم [القلم:17-20].
فإياكم عباد الله والبخل، لا تحسبوه خيرا لكم بل هو شر لكم. قال تعالى: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير [آل عمران:180].
أنفقوا وتصدقوا أطعموا، فـ ((إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدّها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام)).
الرابع من الأعمال: عيادة المريض، وهي من حق المسلم على المسلم كما سبق في الحديث.
فعودوا المريض فإن الله يلوم على تركها، ففي الحديث عن النبي : ((أن الله يقول للعبد يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني! فيقول: كيف أعودك يا رب وأنت رب العالمين؟ فيقول: مرض عبدي فلان فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده)).
وقد جاء في فضل العيادة أحاديث كثيرة، منها:
قوله : ((من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع)).
والخرفة: ما يخترف منها، والمعنى: أنه يمشي في طريق مفضية إلى الجنة، كأنه يمشي في طريق وسط الجنة يجني من ثمارها ما شاء.
وقوله : ((من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا)).
وقوله : ((ما من رجل يعود مريضا ممسيا إلا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة، ومن أتاه مصبحا خرج معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى يمسي، وكان له خريف في الجنة)).
وقوله : ((خمس من فعل واحدة منهن كان ضامنا على الله (يعني أن يدخله الجنة ). من عاد مريضا، أو خرج غازيا، أو دخل على إمامه يريد تعزيره وتوقيره، أو قعد في بيته فسلم الناس منه، وسلم من الناس)).
ويستحب للعائد أن يدعو للمريض بالشفاء والعافية، وأن يوصيه بالصبر والاحتمال وأن يقول له الكلمات الطيبة التي تطيّب نفسه وتقوي روحه.
كما يستحب تخفيف العيادة وتقليلها ما أمكن حتى لا يشق طول الجلوس عنده عليه، إلا إذا رغب المريض في ذلك، أو علم الزائر أن المريض يحب زيارته وطول الجلوس عنده.
ومن الأدعية المشروعة: قراءة الفاتحة، والإخلاص والمعوذتين.
((اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما. ثلاثا)).
((أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ثلاثا، أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، سبعا)).(112/2)
ومن أهم ما ينبغي للعائد تذكير المريض به ما يجب عليه من المحافظة على الصلاة مهما كانت حاله، وأنه يجب عليه أن يتوضأ، فإن لم يستطع تيمم، فإن لم يستطع صلى بغير وضوء ولا تيمم، كما يجب عليه أن يصلي قائما، فإن لم يستطع فقاعدا، فإن لم يستطع فعلى جنب.
ولا يغره عدم طهارة ثوبه أو بدنه أو فراشه، وإن عجز عن استقبال القبلة: فأينما تولوا فثم وجه الله ، نسأل الله لجميع مرضى المسلمين الشفاء والعافية.
وبعد:
فإن في هذا الحديث منقبة عظيمة لأبي بكر ، حيث أنه الذي اجتمعت فيه هذه الخصال الأربع في يوم واحد دون غيره.
ومناقبه كثيرة، فلنذكر منها نبذة، فنقول: أبو بكر: هو عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التميمي، كنيته أبو بكر، وكنية أبيه أبو قحافة، ولقبه الصديق لكثرة تصديقه للنبي .
ولد بعد الفيل بثلاث سنين. وقيل قبله بثلاث سنين، ولد بمنى، ونشأ بمكة، وهو أول من أسلم من الرجال، وأسلم بإسلامه خلق كثير، ومنهم: عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله.
صحب النبي قبل البعثة، واستمر معه طول إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة وكان ثاني اثنين في الغار. وشهد مع النبي المشاهد كلها إلى أن مات. وكانت الراية معه يوم تبوك، وحج بالناس في حياة النبي سنة تسع، واستخلف بعد وفاة النبي ، ولقبه المسلمون خليفة رسول الله .
قال ابن إسحاق: كان أبو بكر رجلا مؤلفا لقوله محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلمهم بما كان منها من خير أو شر، وكان تاجرا ذا خلق ومعروف وكانوا يألفونه لعلمه وتجاربه وحسن مجالسته.
عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: أسلم أبو بكر وله أربعون ألف درهم، قال عروة: وأخبرتني عائشة أنه مات وما ترك دينارا ولا درهما، أنفقها كلها في سبيل الله، وأعتق سبعة كلهم كان يعذب في الله.
وكان أحب الرجال إلى الرسول ، وقال فيه رسول الله : ((إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)).
وكانت بين أبي بكر وعمر محاورة، فأغضب أبو بكر عمرا، فانصرف عمر مغضبا، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له فلم يفعل، حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى النبي ، قال أبو الدرداء: ونحن عنده، فقال : ((أما صاحبكم فقد غامر))، قال: وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي فقص عليه الخبر، فغضب رسول الله ، وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول لأنا كنت أظلم فقال رسول الله : هل أنتم تاركوا لي صاحبي ؟ مرتين. إني قلت: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت. ومناقبه كثيرة جدا، وقد أفردها جماعة بالتصنيف، ومن أعظم مناقبه التي لا يشاركه فيها غيره قول الله تعالى: إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا . وعن سائر الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين لهم بإحسان أجمعين.(112/3)
أعمال تلحقك بعد الموت
عبد العظيم بدوي الخلفي
ملخص المادة العلمية
1- آية وشرحها. 2- فضل طلب العلم والعمل به وتعليمه. 3- انتفاع الأب بابنه الصالح بعد موت الأب. 4- فضل شراء المصاحف والكتب العلمية الشرعية. 5- فضل بناء المساجد والمدارس والدور للمحتاجين من المسلمين. 6- فضل إجراء الأنهار لسقيا المسلمين. 7- الأعمال التي ينتفع الميت بها ويصله ثوابها من فعل الأحياء.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته)).
يقول الله تعالى: إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين [يس:12].
فذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أشياء: أنه يحي الموتى. وأنه يكتب ما قدّموا في دار الدنيا. وأنه يكتب آثارهم، وأنه أحصى كل شيء في إمام مبين أي كتاب بيّن واضح.
أما الأول: وهو كونه يحي الموتى بالبعث فقد جاء في آيات كثيرة، وأقسم عليه الله بربوبيته لمحمد ، وأمر نبيه أن يقسم عليه: قال تعالى: ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم [مريم:66-68].
وقال تعالى: زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن. . [التغابن:7].
وقال تعالى: وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم. . [سبأ:3].
وقال تعالى: ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق. . [يونس:53].
وأما الثاني: وهو كونه سبحانه يكتب ما قدموا في دار الدنيا، فقد جاء في آيات كثيرة: قال تعالى: أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [الزخرف:79-80].
وقال تعالى: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [الجاثية:29].
وأما الثالث: وهو كونه سبحانه يكتب آثارهم: فالآثار تشمل الحسية وهي الخطى، والمعنوية، وهي ما يتركونه في الناس من أثر خير أو شر. وكلها تكتب.
أما الدليل على كتابة الآثار الحسية فقوله تعالى في حق الغزاة: ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم [التوبة:121].
فهذا يستلزم أن تكتب لهم خطاهم التي قطعوا بها الوادي في غزوهم.
ويدل عليه أيضا قوله لبني سلمة وقد بلغه أنهم يريدون أن ينتقلوا قرب المسجد، فقال لهم: ((دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم)) أي ألزموا دياركم البعيدة تكتب آثاركم أي خطاكم إلى المسجد، كل خطوة ترفع الماشي درجة، وتحط عنه خطيئة.
وأما الدليل على كتابة الآثار المعنوية فقوله تعالى: ليحلموا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم [النحل:25].
وقوله : ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء)).
وأما الرابع: وهو كونه سبحانه أحصى كل شيء في كتاب بين واضح فقد دل عليه قوله تعالى: وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر [القمر:52-53].
وقوله تعالى: ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [الكهف:49].
وهكذا أفادت هذه الآية أن الله سبحانه يحصي على العباد ما باشروه بأنفسهم من أعمال حال حياتهم، وما تركوه في الناس من أثر خير أو شر بعد مماتهم، وأنه سبحانه يسجّل ذلك في كتاب مكنون، ثم يجزي كل عامل بعمله يوم يلقاه.
والنبي وهو الرؤوف الرحيم بأمته يرشدهم في هذا الحديث إلى أنواع من وجوه البر والخير التي يلحقهم أجرها بعد موتهم.
وأول هذه الأنواع: علم علّمه ونشره:
إن الإسلام حث على العلم ورغّب فيه، وجعل طلبه فرضا على التعيين أو الكفاية، وهذا يقتضي أن يكون هناك علماء يعلمون، وطلاب علم يتعلمون.
وقد أخذ الله الميثاق على العلماء أن يعلّموا العلم ولا يكتموه، قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه [آل عمران:187].
وتوعّد الذين يكتمون فقال: إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم [البقرة:159-160].
ولقد أرشد الله تعالى العلماء إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه، فقال سبحانه: ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [آل عمران:79].
والرباني هو من تعلم العلم، وعمل به في نفسه، وعلّمه غيره، فمن تعلّم وعمل وعلّم فذلك العالم الرباني الذي يدعي في ملكوت السموات عظيما.(113/1)
ومن تعلّم العلم ولم يعمل به في نفسه، ولم يعلّمه غيره، فذلك مثل السوء الذي قال الله فيه: واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث [الأعراف:175-176].
ولقد كان يرغب في نشر العلم وتعليمه، فكان يقول: ((بلغوا عني ولو آية))، ((نضّر الله أمرا سمع منا شيئا فبلغه كما سمعه، فرب مبلّغ أوعى من سامع )). ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)).
((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالما أو متعلما)).
((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على معلّمي الناس والخير)).
فيا شباب الإسلام، تعلّموا وعلّموا، فإن هذا والله جهاد عظيم، قال الله تعالى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [التوبة:122].
وقال معاذ بن جبل : تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة.
والله – يا طالب العلم – ((لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم))، وهنيئا لك تموت ويظلّ أجر ما قدّمت من التعليم، وما أخرت من العلم، يأتيك إلى يوم القيامة.
النوع الثاني: ولد صالح تركه، وهذا الإطلاق يفيد انتفاع الوالد بولده الصالح سواء دعا له أم لا. كمن غرس شجرة فأكل منها الناس، فإنه يحصل له بنفس الأكل ثواب، سواء دعا له من أكل أم لم يدع. فالوالد ينتفع بصلاح ولده مطلقا، وكل عمل صالح يعمله الولد فلأبويه من الأجر مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيء، لأن الولد من سعي أبيه وكسبه، كما قال النبي : ((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه))، والله عز وجل يقول: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [النجم:39].
وهذا يوجب على الآباء أن يجتهدوا في تربية أبنائهم، وإصلاح أحوالهم، حتى ينتفعوا بصلاحهم، وإلا فمجرد وجود الولد بعد الوالد لا ينفعه في آخرته، فإن لم يكن الولد صالحا لم ينفع أباه ولم يضره، لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، لكن إن صلح انتفع أبوه بصلاحه، وذلك فضل الله، والأول عدله.
فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم، واتقوا الله في أولادكم: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم:6].
و((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع))، وتوجهوا إلى الله بالدعاء أن يصلحكم ويصلح لكم أولادكم، وقولوا: ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما [الفرقان:74].
النوع الثالث: مصحف ورثّه: فمن اشترى مصحفا ووضعه في البيت ليقرأ فيه أولاده أو وضعه في المسجد ووقفه لله تعالى، فإنه يأتيه من ثواب ذلك المصحف بعد موته ويلحق بالمصحف كتب العلم الشرعي، ككتب العقيدة الصحيحة، والتفسير، والحديث، والفقه، ونحوه ذلك من العلوم الشرعية، إذا اشترى الرجل كتبا منها ووضعها في بيته ليقرأ فيها أولاده، أو وضعها في المسجد ووقفها لله تعالى، فإنه لا يزال يأتيه من ثواب هذه الكتب إلى يوم القيامة.
فاحرصوا – رحمكم الله – على إنشاء مكتبات في بيوتكم وفي مساجدكم، وساهموا فيها بشراء المصاحف والكتب، فإنها مما ينفعكم بعد موتكم.
النوع الرابع: مسجد بناه، إن الله تعالى اتخذ في الأرض بيوتا لعبادته:
يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [النور:36-37].
وقد جعل الله تعالى عمارة المساجد عنوان الإيمان، فقال سبحانه: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله [التوبة:18].
ولقد كان النبي يرغّب في بناء المساجد فيقول: ((من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)).
فجودوا – رحمكم الله – على بيوت الله ولا تبخلوا، فما تضعونه في بيوت الله من أموالكم يأتيكم ثوابه بعد موتكم، وتجدون بره وثوابه يوم الدين: يوم لا ينفع مال ولا بنون [الشعراء:88].
ويلحق بالمساجد المدارس ونحوها مما يعود نفعه على المسلمين.
النوع الخامس: بيت لابن السبيل بناه، فمن بنى بيتا ووقفه على ابن السبيل يأوي إليه وينزل فيه في سفره فإنه يأتيه من ثواب ذلك بعد موته.
ومعنى ذلك أن الإسلام يرغب في بناء بيوت المسافرين – التي تعرف بالفنادق – تطوعا، لينزل فيها المسافرون مجانا، لأن الغالب على المسافرين الحاجة وقلة المال، ولذا كثر في القرآن الكريم الوصية بابن السبيل.(113/2)
النوع السادس: نهر أجراه، إن قيمة الماء في الحياة لا تخفى على أحد، فقد جعل الله من الماء كل شيء حي.
والإسلام يرغب في العمل على توفير الماء للمحتاجين فمن أجرى نهرا يشرب منه الناس ويستقوا، فإن له الجنة، كما في الحديث عن النبي أنه قال: ((من حفر رومة فله الجنة)). ولما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكان لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بمد، فقال له النبي : ((تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال: يا رسول الله! ليس لي ولا لعيالي غيرها. فبلغ ذلك عثمان بن عفان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم ثم أتى النبي فقال: أتجعل لي فيه ما جعلته له؟ فقال: نعم، قلل: قد جعلتها في المسلمين)).
فمن استطاع منكم أن يجري نهرا، أو يحفر بئرا – ولا سيما في الصحراء – ويجعلها للمسلمين فليفعل وله مثل ذلك في الجنة.
النوع السابع: صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، حالة كونه يخشى الفقر ويأمل الغنى، فإن هذه الصدقة يأتيه من ثوابها بعد موته.
هذه سبعة أنواع من أعمال الخير التي ينتفع بها الميت.
وقد يسأل سائل: عن الصلاة عن الميت والصوم عنه والحج، وقراءة القرآن وإهداء ثوابها إليه.
والجواب: أنه لا يصلي أحد عن أحد، فمن مات وعليه صلاة لا يجزئه أن يصليها عنه غيره، لأن الصلاة من الفروض العينية التي لا يقوم أحد مقام أحد فيها، وكذلك صوم رمضان، لا يصوم أحد عن أحد، فمن مات وعليه صوم من رمضان أطعم عنه عن كل يوم مسكينا، ولا يجوز أن يصوموا عنه. لكن إن مات وعليه صوم نذر فالنذر دين، ولما كان أهل الميت يقضون دينه فدين الله أحق بالقضاء، فمن مات وعليه صوم نذر صام عنه وليّه. أما الحج فيجوز أن يحج الولد عن أبيه بعد أن يحج عن نفسه. أما قراءة القرآن وإهداء ثوابها للأموات فإن ذلك لا ينفعهم، لأنه ليس من سعيهم، والله تعالى يقول: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى لكن الوالد ينتفع بقراءة ولده من غير أن يهديه ثوابها ولا يهبه له، لأنه كما سبق الولد من سعي أبيه، فكل عمل صالح يعمله الولد فلأبويه من الأجر مثل أجره، من غير أن ينقص من أجره شيء. والله تعالى أعلم.(113/3)
أعمال القلوب
الإخلاص
المقدمة:
الحمد لله عالم الخفيات، ومحيي العظام وهي رفات، والمتجاوز عن الخطايا والسيئات، بديع الأرض والسماوات، ومفرج الكر بات، والصلاة والسلام على الشفيع في العرصات، والمتعبد لربه في الخلوات والجلوات، خاتم الرسل والرسالات، وعلى آله الأطهار، وصحابته النجباء الأخيار، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم القرار.
أما بعد:
فإن الله - سبحانه وتعالى -لم يخلق خلقه سدى وهملاً، بل جعلهم مورداً للتكليف، ومحلاً للأمر والنهي، وألزمهم فهم ما أرشدهم إليه مجملاً ومفصلاً، وقسمهم إلى شقي وسعيد، وجعل لكل واحد من الفريقين منزلاً، وأعطاهم موارد العلم والعمل من القلب والسمع والبصر والجوارح، نعمة منه وتفضلاً، فمن استعمل ذلك في طاعته، وسلك به طريق معرفته على ما أرشد إليه ولم يبغ عنه عدولاً، فقد قام بشكر ما أوتيه من ذلك، ومن سلك به إلى مضارة الله سبيلاً، ومن استعمله في إرادته وشهوته ولم يرع حق خالقه فيه تحسر إذا سئل عن ذلك، ويحزن حزناً طويلاً، فإنه لا بد من الحساب على حق الأعضاء ؛ لقوله - سبحانه وتعالى-:{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}سورة الإسراء(36).
ولما كان القلب لهذه الأعضاء كالملك المتصرف في الجنود، الذي تصدر كلها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلها تحت عبوديته وقهره، وتكتسب منه الاستقامة والزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحيله ، قال - صلى الله عليه وسلم-: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله"[1] فهو ملكها، وهي المنفذة لما يأمرها به، القابلة لما يأتيها من هديته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى يصدر عن قصده ونيته، وهو المسؤول عنها كلها؛ لأن كل راع مسؤول عن رعيته لذلك كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون.
ولما علم عدو الله إبليس أن المدار على القلب والاعتماد عليه، أجلب عليه بالوسواس وأقبل بوجوه الشهوات إليه، وزين له من الأحوال والأعمال ما يصده به عن الطريق وأمده من أسباب الغي بما يقطعه عن أسباب التوفيق، ونصب له المصايد والحبائل ما إن يسلم من الوقوع فيها لم يسلم من أن يحصل له بها التعويق، فلا نجاة من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله، والتعرض لأسباب مرضاته، والتجاء القلب إليه في حركاته وسكناته، والتحقق بذل العبودية الذي هو أولى ما تلبس به الإنسان ليحصل له الدخول في ضمان:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }سورة الحجر (42). فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشيطان، وحصولها بسبب تحقيق مقام العبودية لرب العالمين، وإشعار القلب، إخلاصه العمل، ودوام اليقين، فإذا أشرب القلب العبودية والإخلاص صار عند الله - سبحانه وتعالى- من المقربين، وشمله استثناء :{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} سورة الحجر(40) .
ولما منّ الله الكريم بلطفه بالاطلاع على ما اطلع عليه من أمراض القلوب وأدوائها، وما يعرض لها من وساوس الشياطين أعدائها، وما تثمرها تلك الوساوس من الأعمال، وما يكسب القلب بعدهما من الأحوال، فإن العمل السيء مصدره عن فساد قصد القلب، ثم يعرض للقلب من فساد العمل قسوة، فيزداد على مرضه حتى يموت، ويبقى لا حياة فيه ولا نور له[2].
أهمية الموضوع:
تكمن أهمية هذا الموضوع في عدة نقاط رئيسية هي:
1. أن الله أمر بتطهير القلب، فقال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} سورة المدثر (4) والمقصود بالثياب القلب كما هو قول جمهور العلماء.
2. غفلة كثير من المسلمين عن قلوبهم؛ مع الاهتمام الزائد بالأعمال الظاهرة مع أن القلب هو الأساس والمنطلق.
3. أن سلامة القلب وخلوصه سبب للسعادة في الدنيا والآخرة.
4. أن كثيراً من المشاكل بين الناس سببها من القلوب وليس لها أي اعتبار شرعي ظاهر.
5. مكانة القلب في الدنيا والآخرة، قال عز وجل:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} سورة الشعراء} (88- 89). وقال تعالى:{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} سورة ق(33).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قوله - صلى الله عليه وسلم-: " إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" وأشار إلى صدره[3].
وفي حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه- قوله - صلى الله عليه وسلم- : " إلا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد كله ألا وهي القلب"[4].
6. أن من تعريف الإيمان :وتصديق بالجنان. وفي تعريف آخر: عمل الجوارح وعمل القلب.(114/1)
فلا إيمان إلا بتصديق القلب وعمله، والمنافقون لم تصدق قلوبهم وعملوا بجوارحهم، ولكنهم لم تنفعهم أعمالهم، بل إنهم في الدرك الأسفل من النار، قال تعالى"{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} سورة النساء(145) .
ولكن قليلاً منا من يقف أمام قلبه فهو يقضي جل وقته في عمله الظاهر، والقلب يمتحن ففي الحديث: "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تعود القلوب على قلبين، قلب أسود وقلب أبيض...!!"[5] وليس الامتحان الابتلاء بالشيء الظاهر كالسجن، أو الفصل من العمل، أو الإيذاء، ولكن الامتحان الأصعب هو امتحان القلوب، وفي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} سورة الأنفال(24) معنى الامتحان.
والقلب كالبحر لاحتوائه على أسرار عجيبة وغموض كبيرة، وأحوال متقلبة، سواءً كانت منكرة؛ كالغفلة – الزيغ – الأقفال- القسوة – الرياء – الحسد – النفاق- العجب- الكبر ... والنتيجة الطبع والختم والموت... وصفته أسود.
أو كانت تلك الأحوال والأعمال محمودة؛ كاللين – الإخبات – الخشوع – الإخلاص – المتابعة – الحب – التقوى – الثبات – الخوف – الرجاء- الخشية – التوكل- الرضا - الصبر ... والنتيجة السلامة والحياة والإيمان... وصفته أبيض، فالقلب عالم مستقل.
وبما أن القلب عالم مستقل فسنفرد له حلقات عدة للحديث عن بعض أعماله وأحواله، فنقول وبالله وحده نستعين:
أولاً: الإخلاص:
تعريفه:
لغة: الإخلاص لله في الطاعة بترك الرياء.
واصطلاحاً: هو تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك.
وقيل: أن يخلص قلبه لله فلا يبقى فيه شرك لغير الله، فيكون الله محبوب قلبه، ومعبود قلبه، ومقصود قلبه فقط.
وقيل: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيراً من باطنه.
وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.
أهميته:
إن مما يدل على أهمية الإخلاص ما ورد في الكتاب والسنة من كثرة ذكره، والتحذير من التفريط فيه ، وبيان أنه شرط من شروط قبول العمل الصالح عند الله، قال الله:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} سورة البينة(5). وقال تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّين أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} سورة الزمرَ (2- 3). وقال تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي فاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ } سورة الزمر (15- 14).
فالإخلاص لله شرط لقبول العمل، والله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، ولهذا قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} سورة الفرقان))(23) وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصاً وعلى الشرعية المرضية فهو باطل.
وقد جمع هذين الشرطين الإمام حافظ حكمي -رحمه الله- في سلم الوصول فقال:
شرط قبول السعي أن يجتمعا فيه إصابة وإخلاص معاً
لله رب العرش لا سواه موافق الشرع الذي ارتضاه
وكل ما خالف للوحيين فإنه رد بغير مين
وترك الإخلاص هو مما خالف الوحيين الكتاب والسنة؛ فإنهما قد جاءا بإثبات هذين الشرطين، وجعلهما شرطين في قبول الأعمال.
وقال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} سورة الملك(2) قال الفضيل بن عياض - رحمه الله- أخلصه وأصوبه. قالو: ما أخلصته وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة؛ ثم قرأ قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} سورة الكهف(110). وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} سورة النساء)(125) وإسلام الوجه هو: إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه متابعة رسوله - صلى الله عليه وسلم- وسننه.(114/2)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكن قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار"[6].
وفي الحديث الإلهي يقول الله –تعالى-: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري، فهو للذي أشرك به. وأنا منه بريء"[7]. ولا شك أن الإخلاص من أعمال القلوب بل هو من أهمها وأعظمها.
وفي الحديث الصحيح: " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم".[8]
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: " ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تكون من ورائهم".[9]
فيا إخوتاه! من وجد الله فماذا فقد!! ومن فقد الله فماذا وجد!!
متى صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب.
إذا اطلع الخبير البصير على الضمير فلم يجد في الضمير غير الخبير، جعل فيه سراجاً منيراً.
ويرحم الله الفضيل بن عياض: أدركنا الناس وهم يراءون بما يعملون، فصار الآن يراءون بما لا يعملون.
يا إخوتاه! أعربنا في القول، ولحنا في العمل، وإخلاصنا يحتاج إلى إخلاص.
إخوتاه! الإخلاص مسك القلب، وماء حياته، ومدار الفلاح كله عليه.
سئل الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله- عن الصدق والإخلاص؟ فقال: بهذا ارتفع القوم.
نعم بضاعة الآخرة لا يرتفع فيها إلا مخلص صادق! .
إنما تحفظ هذه الأمة وتنصر إلا بإخلاص رجالها![10]
نماذج من إخلاص السلف:
إن خير وسيلة لاستغلال العزائم، وإذكاء الهمم، وتقويم الأخلاق، والتسامي إلى معالي الأمور، والترفع عن سفسافها، والا ئتساء بالأسلاف الأجلاء .. هو قراءة سيرة النبغاء الصلحاء، والاقتراب من العلماء النبهاء العالمين المجدين ذوي المجد الرفيع، واغتنام الباقيات الصالحات، وإخلاص النيات!![11] .
وهذه نقطة من بحار السلف.. وعجائبهم.. فارعها قلبك، وإن كانت غريبة في عالمنا.. وأي شيء عندهم لا يكون اليوم غريباً، ولسان حالهم يقول:
تركنا البحار الزاخرات ورائنا فمن أين يدري الناس أنا توجهنا.
* هذا السليم الأسلم المذكور بالسواد الأعظم الطوسي محمد بن أٍسلم:
قال خادمه أبو عبد الله: صحبت محمد بن أسلم نيفاً وعشرين سنة لم أره يصلي حيث أراه من التطوع إلا يوم الجمعة، ولا يسبح ولا يقرأ حيث أراه، ولم يكن أحد أعلم بسره وعلانيته مني، وسمعته يحلف كذا وكذا مرة، أن ول قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت، ولكن لا أستطيع ذلك؛ خوفاً من الرياء.
* وهذا سيد الفتيان أيوب بن كيسان المشهور بالسختياني:
يقوم الليل كله، فيخفي ذلك، فإذا كان عند الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة.
* وقال عمرو بن ثابت:[ لما مات علي بن الحسين فغسلوه؛ جعلوا ينظرن إلى آثار سواد بظهره، فقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جرب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة.
* وعن محمد بن إسحاق: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به في الليل.
* وهذا داوود بن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله ولا أحد، وكان خزازاً يحمل معه غداءه من عندهم، فيتصدق به في الطريق، ويرجع عشياً فيفطر معهم، فيظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، ويظن أهله أنه قد أكل في السوق.
* وعمرو بن قيس الملائي أقام عشرين سنة صائماً، ما يعلم به أهله، يأخذ غداءه ويغدوا إلى الحانوت، فيتصدق بغدائه ويصوم، وأهله لا يدرون.
وكان إذا حضرته الرقة، يحول وجهه إلى الحائط، ويقول لجلسائه: ما أشد الزكام.
• وقالت سُرّية الربيع بن خثيم: كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه.
• وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل يقول عنه تلميذه أبوبكر المروزي: كنت مع أبي عبد الله نحواً من أربعة أشهر، بالعسكر، وكان لا يدع قيام الليل، وقراءات النهار، فما علمت بختمة ختمها، وكان يُسر بذلك.
• وقال محمد بن واسع: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به.(114/3)
ويقول: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة، قد بل ما تحت خده من دموعه، لا تشعر به امرأته، ولقد أدركت رجالاً، يقوم أحدهم في الصف، فتسيل دموعه على خده، ولا يشعر به الذي جنبه.
* وقال الشافعي: وددت أن الخلق تعلموا هذه – يقصد علمه- على أن لا ينسب إلى حرف منه.
* وقال ابن الجوزي في المدهش صـ 415: اشتهر ابن أدهم ببلد، فقيل: هو في البستان الفلاني، فدخل الناس يطوفون ويقولون: أين إبراهيم بن أدهم؟ فجعل يطوف معهم، ويقول: أين إبراهيم بن أدهم؟!.
فهذا غيض من فيض إخبارهم، ونقطة من بحار عجائبهم، وأعمالهم، وأحوالهم سقتها لعل فيها تذكيراً للغافلين، وشحذاً لهمم الصالحين، وأسوة للمقتدين[12]، وإلى حلقة قادمة - بمشيئة الله تعالى- مع عمل آخر من أعمال القلوب، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
[1] - روا ه البخاري ومسلم.
[2] - انظر إغاثة اللهفان لابن القيم.
[3] - رواه مسلم.
[4] - رواه البخاري ومسلم.
[5] - رواه مسلم.
[6] - رواه مسلم.
[7] - رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم(3387).
[8] - رواه مسلم.
[9] - جزء من حيث رواه ابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الن ماجة برقم(2480). والظلال(1085).
[10] - انظر صلاح الأمة.
[11] - صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل لأبي غدة صـ17-18 بتصرف. نقلاً عن صلاح الأمة لسيد عفاني.
[12] - نقلا عن صلاح الأمة لسيد عفاني.(114/4)
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن أمر القلوب أمر عجيب؛ فبينما ترى الأمور واضحة جليَّة في الدلالة على أمر ما، بحيث يتفق على دلالتها كل من يشاهدها، تجد في المقابل آخرين قد سُدَّت عليهم منافذ العلم والمعرفة ـ بما كسبت أيديهم وما ربك بظلام للعبيد ـ فيروا عكس ما يراه الناس، ويستنبطوا منها ما لا يستنبطه أحد غيرهم، انظر إلى الآيات البينات، والدلائل الواضحات، والمعجزات الخارقات، التي أيد الله ـ تعالى ـ بها رسله إلى خلقه، كيف عميت عنها أبصار الكفار وقلوبهم، فلم يروا منها إلا أنها أساطير الأولين، وسحر الساحرين، وكهانة الكهان، وجنون المجانين؟
لقد أظهر الله ـ تعالى ـ على يد موسى ـ عليه السلام ـ من الأمور العجيبة جدّاً؛ والتي لا يقدر على الإتيان بها إلا نبي مرسل من عند الله ـ تعالى ـ، ورغم هذا الأمر البيِّن لم يؤمن فرعون ـ لعنه الله ـ. لقد تحدى فرعونُ موسى ـ عليه السلام ـ وخسر فرعون التحدي؛ بل خسر ما هو أكبر من ذلك، حيث خسر القوم الذين كان يتحدى بهم موسى ـ عليه السلام ـ؛ إذ ظنّ أنَّ ما يأتي به موسى ـ عليه السلام ـ هو من السحر، فجمع السحرة ووعدهم بالقرب منه والأعطيات الجزيلة إن هم تغلبوا على موسى، وهذا الاحتياج منه إلى غيره في منازلة موسى ـ عليه السلام ـ يبطل دعوى ربوبيته وألوهيته التي كان يدَّعيها، وقد كان يكفيه هذا ليعَلمَ ضعفه وعدم قدرته وقلة حيلته التي تنافي دعوته، وقد كان في هذا ما يكفي له أن يؤمن لو كان له قلب، وبعد ذلك تغلبت آيات الله على سحر السحرة فآمن السحرة بالله رب العالمين، وقد كان في هذا ـ أيضاً ـ ما يكفي لفرعون أن يؤمن؛ لكن تلك القلوب المقفلة المحجوبة عن إبصار الحق ورؤيته، والتي لا تنفذ إليها بينات الحق ودلائل الهدى، من أين لها أن تدرك ذلك؟
لقد ابتلى الله ـ تعالى ـ فرعون وقومه بالآيات المفصَّلات كما قال ـ تعالى ـ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ} ومع ذلك لم يؤمنوا بل: {فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: 133]، وقد كانت هذه الآيات كافية في أن يعلموا صدق موسى ـ عليه السلام ـ وكَذِبَ فرعون فيما يدَّعيه، ثم بعد ذلك حدث أمران مهمَّان يبيِّنان حقيقة الأقفال التي تكون على القلوب، حتى تحجبها حَجْباً كاملاً عن المعرفة والعلم والانقياد لمدلولهما، فقد أرسل الله ـ تعالى ـ عليهم العذاب، ولم يجدوا مخرجاً من ذلك إلا باللجوء إلى موسى ليدعو لهم الله ـ تعالى ـ، قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الأعراف: 134]، وقد كشف الله ـ تعالى ـ عنهم الرجز بدعوة موسى ـ عليه السلام ـ، أفلم يكن ذلك كافياً لهم ليعلموا أن موسى ـ عليه السلام ـ مرسل من ربه، وأن فرعون عبد مربوب ليس رباً ولا إلهاً؟ لكن القفل الذي يسدُّ على القلب منافذ الخير كلها يفعل ما هو أكثر من ذلك، ثم جاءت الحادثة الثانية والتي فاقت في دلالتها كل دلالة، فعندما طارد فرعونُ ـ لعنه الله ـ موسى ـ عليه السلام ـ وأتباعه، خرج موسى ومن معه وضاقت عليهم السبل، حتى كانوا في وضع صعب فالبحر أمامهم وفرعون وجنده خلفهم، ولا سبيل غير ذلك، وفي هذا الوضع الصعب، أعطى الله موسى آية من أعظم الآيات؛ حيث شق لهم البحر، وجعل فيه طريقاً يَبَساً يمشون عليه، هذا البحر العظيم الذي تغوص في لججه السفن العظام يجعل الله فيه بضربة عصا من موسى طريقاً يبساً، وانفلق البحر حتى كان كل فرق كالجبل العظيم، ألم يكن في هذا ما يكفي لفرعون أن يرعوي، أو حتى أن يكفَّ عن مطاردة موسى، ويعلم أنه ليس ثَمَّ سبيل إلى النيل منه؟ لكن القلب العجيب الذي كان يملكه فرعون قاده إلى أن يسلك على الطريق اليبس نفسه، فسبحان الله! إذا كان الله ـ تعالى ـ قد جعل لموسى وأصحابه هذا الطريق الخارق لكل قدرات البشر؛ لكي يفلت من فرعون وجنده، أيقوم في عقل عاقل أنه يمكن أن يستخدمه في ملاحقة موسى ـ عليه السلام ـ والتمكن منه؟ لكن القلوب التي أُغلِقَتْ عليها الأقفال لا تتصرف إلا بهذا السبيل.(115/1)
وقد أُقفِلت على اليهود قلوبهم من الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد كانوا يعرفونه كما يعرف أحدهم ابنه، ومع ذلك لم يؤمنوا قال الله ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] ، وتروي السيدة صفية ـ رضي الله تعالى عنها ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتقول: «لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قباء ـ قرية بني عمرو بن عوف ـ غدا إليه أبي وعمي (أبو ياسر بن أخطب) مُغْلِسَين، فوالله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاتِرَيْن كسلانَيْن ساقطَيْن يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما نظر إليَّ واحد منهما، فسمعت عمي (أبا ياسر) يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله، قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت»(1).
وقد يتعجب الإنسان من ذلك أشد التعجب، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- هو المُبَشّرُ به والذي يجدونه عندهم في التوراة والإنجيل، ويرونه، ويعرفونه بصفته، ويتأكدون، ويقسمون بالله على ذلك، ومع ذلك تغلق قلوبهم عن الإيمان به ومتابعته! بل الأغرب من ذلك أن الكفار الذين يدخلون جهنَّم ـ أعاذنا الله منها ـ بعدما عاينوا من عقاب الله الأليم العظيم المهين، يطلبون من الله أن يردّهم إلى الدنيا ولا يعودون لشركهم أبداً! ولكن الله ـ تعالى ـ يقول عنهم: {بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، وقد بيَّن القرآن السبب الكامن وراء ذلك كله وهو قوله ـ تعالى ـ: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، فالقلوب عليها أقفالها التي تمنع من وصول الهدى لهم، وقد جاءت الأقفال في اللفظ القرآني مضافة هاء الضمير الراجع إلى القلوب؛ وكأن القفل مخصوص بها أو أن لكل قلب قفلاً يخصه.
أخرج الطبري بسنده من حديث هشام بن عروة، عن أبيه قال: «تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}؛ فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله ـ عزّ وجلّ ـ يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حتى ولي فاستعان به»(2).
واليوم يعيد التاريخ نفسه، وتتكرر دورته؛ فهاهم أعداء الله ودينه لم تتفتَّح قلوبهم، وما زالوا يأملون في القضاء على الإسلام وأهله، وكأنهم ما دروا أن هذا دين الله، وأن الله ـ تعالى ـ قد جعله الرسالة الخاتمة، وأنه قد تكفل بحفظه، وأنه سخَّر من عباده من يقوم بمهمة الحفظ، كما أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، قال: فينزل عيسى بن مريم -صلى الله عليه وسلم-، فيقول أميرهم: تعال صلِّ لنا. فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة»، وها هي أمريكا قد جاءت بخيلها ورَجْلِها وكبريائها وجبروتها، تأمل تغيير الدين، فشنَّت على أهله حرباً ظالمة، وقد كان لها عبرة ـ لو كان لها قلب يعقل ـ فيما كان يسمَّى بالاتحاد السوفييتي وما فعل الله به وكيف مزقه تمزيقاً، لكن القوم على قلوبهم أقفالها، وسيأتيها من الله ـ تعالى ـ ما يأتي الأمم التي تحاربه وتحارب دينه وأولياءه لو كانوا يعلمون.
أما نحن ـ معاشر المسلمين ـ فعلينا اللجوء إلى الله ـ تعالى ـ في أن يصلح قلوبنا حتى لا يطبع الله علينا بسبب معاصينا ومخالفاتنا، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه؛ ألا وهي القلب»، وكان كثيراً ما يدعو ويقول: «ثبت قلبي على دينك»؛ فعن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُكثِر أن يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فقلت يا رسول الله: آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين أُصبُعين من أصابع الله يقلِّبها كيف يشاء». وعن عبد الله بن عمر قال: «أكثر ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحلف: لا ومقلِّب القلوب».
فاللهم يا مقلب القلوب بعدلك وحكمتك، ثبت برحمتك قلوبنا على دينك، وأقمها على الحق، ولا تزغها بسوء أعمالنا بعد إذ مننت علينا وهديتنا إلى الإسلام، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران: 8].(115/2)
أقصد البحر وخل القنوات
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرَّف بحكمته وقدر، وابتعث محمدًا إلى كافة أهل البدو والحضر، فأحلَّ وحرَّم، وأباح وحظر. لا يغيب عن بصره وسمعه دبيب النمل في الليل إذا سرى، يعلم السرَّ وأَخفى، ويسمع أنين المضطَّر ويرى، لا يَعزُب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأَرض ولا في السَّماء، اصطفى آدم ثم تاب عليه وهدى، وابتعث نوحًا فبنى الفلك وسرى، ونَجَّى الخليل من النار فصار حرُّها سرى، ثمَّ ابتلاه بذبحِ ولده فأدهش بصبره الورى، أَحْمده ما قُطِع نهار بسير وليل بسُرى. أحمده حمدًا يدوم ما هبَّت جنوب وصَبَا. وأصلِّي وأُسلِّم على رسول الله محمد، أشرف الخلق عَجمًا وعَربًا، المبعوث في أم القُرى، صلوات الله عليه وسلامه ما تحركت الأَلْسن والشِّفا، وعلى [أبي بكرٍ] الذي أنفق المال وبذل النفس وصاحبه في الدار والغار بلا مِرَا (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا) وعلى [عمر] الذي من هيبته ولَّى الشَّيطان وهرب، من أغَصَّ [كسري] [وقيصر] بالرِّيق وما وَنَى، وعلى [عثمان] مجهز جيش العُسْرة زوجُ ابنتيه ما كان حديثًا يفتري، حيَّته الشهادة فقال: مرحبا، وعلى [عليٍّ] أَسد الشرى، ما فُلَّ سيف شجاعته قط ولا نبا، وعلى جميع الأَهل والآل والأصحاب والأتباع ما تعاقب صبح ومساء.
صلَّى الإلهُ ومنْ يَحُف بِعْرشه *** والطَّيبُون على المُبَارك أحمَدا
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أحبتي في الله: إنَّ الإسلام عقيدة استعلاء، تبعث في روح المسلم إحساس العزة من غير كِبْر، ورُوح الثِّقة في غير اغترار، وشعور الاطمئنان في غير تَوَاكل، عقيدة تبعث فيه روح الاستهانة بالمظاهر الجوفاء، والاهتمام بالحقائق الناصعة البيضاء، عقيدة تبعث فيه روح الاستهانة بالمظاهر الجوفاء، والاهتمام بالحقائق الناصعة البيضاء، عقيدةٌ تعلمه كيف يتغلب على شهوات النفس، ومألوفات الحياة في سبيل الله، تُعلمه نِسيان حظوظ النَّفس في سبيل إعلاء دين الله، تُعلمه كيف يستقبل الشدائد في سبيل الله بثغرٍ باسمٍ، ونفسٍ هانِئة مطمئنة، عقيدة تُشعر المؤمن بالتَبِعة المُلقاة على كاهله، تبعة الدعوة للبشرية الضَّالة، لانتشالها من الضَّلالة إلى الهداية، وإخراجها من الظُّلمات إلى النور (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فسبحان من قدَّمنا على الناس، وسقانا من القرآن أروى كاس، وجعل نبينا أفضل نبي رعى وساس، وأنعم علينا بعلو الهمة وقال لنا: (كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) مَنْ تأمل وتدبر ونظر وجد الأمة قد مرت بها فترات خَيْرِيه، كانت فيها هادية الناس إلى باريها، قائدة رائدة.
كتيبةٌ زيَّنها مَولاها *** لا كَهْلها هُدَّ ولا فَتَاها
وفي العُصور المُتأَخرة: تمرُّ بالأمة فترة عصيبة كادت تفقد فيها هويتها؛ لتصبح تابعةً مسخًا إمَّعة، فإذا المسلم يُجِيل نظره في رُقعة العالم الفسيح، فيرتَّد بصره خاسئًا وهو حَسِير، يوم يرى جموعًا تسير في دروب متشابكة متعرجة في ليل بهيم، تَسِير وتَسِير، ويُضْنيها المسير، ثم لا تصل إلى البحر الذي تريد، تُحدِّد أهدافًا، وتقصد غاياتٍ، ولمَّا تظن أنْها قاربت أهدافها، تُفاجأ بأن الأهداف سراب خادع، ويُطمئنك أنه في وسط تلك الدروب ترى طريقا واحدا مستقيما لا ينحرف يمينا ولا شمالا، تهب عليه الأَعاصير، تكاد معالمه تَنْدثر، فإذا بأقوام يقومون بكشف الرِّمال عنه من جديد، يُوضحون معالمه، ويجددون رسومه، يقلون على هذا الطريق ويكثرون، لكنه لا يكاد يخلو من سائر يُقيضه الله بمَنِّه وكرمه؛ ليرد على الأمة في ذاك الطريق إيمانها بدينها، ويصحح مسارها، ويُعِيد لها ثِقَتها بطريقها، لتفهم رسالتها. من مُصْلحين وأَئِمة يتعاقبون فيها إلى يومنا هذا؛ [كابن عبد الوهاب] -رحمة الله- وغيره ممن يريدون العزيز الوهاب، يُثْبتون أن الأمة كالمطر لا يُدرى أوله خير أم أخره، ولذا صَوَّت حادي المصلحين في ظلام الليل البهيم على ذاك الطريق .
إنَّ هذا العصرَ ليلٌ فأَنِر *** أيُّها المسلمُ ليلَ الحائرين
وسَفِين الحقِ في لُجِّ الهَوى *** لا يُرى غيرُك ربَّان السَّفِين(116/1)
وتجاوبت بالصَّدى الأرجاء، وأقبل الناس على دين الله من كل حَدْب وصَوب على ذاك الطريق، والحمد لله -رب الأرض والسماء- فما من أرض إلا وقد وصلتها الصحوة المباركة، رغم الكبت والتضليل والحصار، فالهُتاف يملأ الأنحاء، ويشق عنان السَّماء، أنَّا لا نريد غير الإسلام عقيدةً وشريعةً ومنهجًا، وهاتف الكل: أن الله غايتنا، فنحن لا نبتغي جاهًا وسلطانًا، وإنما نبتغي للنَّاس قاطبةً خيرٌ ومنفعةٌ دومًا وإحسانًا، هُتاف يستحث كل مسلم غيور، أو مُتَبلدٍ يُذَكِّره بأن مسئوليته ضخمةٌ، وأنه يملك بصيرةً تجعله جديرًا أن يكون له نصيب من التوجيه والتربية والحُداء للركب السائر على ذاك الطريق. هُتافٌ يصرخ: الزَّمن يُسرع، ولا انتظار لبطيءٍ أو متثاقلٍ أو قاعدٍ، ومَنْ يَنْفر مع بزوغ الفجر فسيسبق من توقظه الشمس؛ لأن الطريق سيزدحم.
وبدأت الصحوة تُؤتي ثِمَارها والحمد لله –رب العالمين- لكنه نظرًا للفتور والتقاعس والتباطؤ في التوجيه والتربية، والقيام بالمسؤولية وغيرها من العوامل تجاه هذه الجموع، ظهر في الأُفُقِ سَحَاب تخاذلٍ وضَعف، أو غُلُوٍ وتنطع على نفس الطريق، وبعبارةٍ أدق:
ظهر تعلق بالأطراف والشواطئ والقنوات، وهُجِرت لُجة البحر والعمق والخِضَم، فإذا أنت ترى من تعلق بطرف أعلى يكاد يسقط فتُدق عنقه، وما هو أعز من عنقه، جاوز الحد هلك ثم هلك. وآخَرُ في الطرف الأدنى يحتضر لا يكاد يعرف هويته، يحمل اسم الإسلام ويجهل كُنْهه، قد ربط الوهم أقدامه المسرعة، وطوى أشرعته المبسوطة، وثُقِلت به أجنحته المُرفرفة، يَنْدب حظه وكفي. وآخَرُ راكب متجه نحو هدفه، فلمَّا رأى السَّراب أراق ماءه؛ ظنًا منه أنه بلغ هدفه، فلما جاءه لم يجده شيئًا، ثم ندم حيث لم ينفعه الندم. وآَخرُ اتَّخذ الوسائل غاياتٍ؛ فبقى في القنوات وهجر لُجَّة البحر. وآخر اكتفى بالكلام، وركل العطاء والعمل. وآخر هجر الكيف واهتم بالكم، عمل غير النَّافع، وترك النافع، عمل غير المُهم، وترك المهم والأهم، ما حاله إلا كمن صنع ساقية ، لكنِّها لا تسقى الزرع، بل تأخذ الماء من النهر فترده في النهر، تَعَجَّب النَّاس من فعله الأحمق، قالوا: ما هذا السَّفه؟ تعمل ولا نتيجة لعملك، تأخذ الماء من النهر وتعيده إلى النهر؟! قال: يكفيني من السَّاقية نَعِيْرُها. يكفيه صوتها. وآخر رضيَ بالزرع، واتبع أذناب البقر، وترك الجهاد، وَرَهَقَه الذُّل، ومع ذلك لم يَجْنِ من الزرع الثمر، ولم يأخذ من البقر اللبن، بل بقيَ عالة يتكفَّف، ويسأل، ويُنشد مع ذلك:
أَرى ماءً وبي عطشٌ شديد *** ولكنْ لا سبيلَ إلى الوُرودِ
وآخر اتَّضح طريقه، وحُددت غايته، وهُيأت وسيلته، وأصابه في وسط الطريق همٌ دوَّخه، غبشٌ جاءه في وسط الطريق استولى عليه، فهو أحوج ما يكون لحادٍ يحدوه إلى البحر، لهذا كله كان لِزامًا على كل مسلم يملك أدنى صوت للتوجيه أن يرفع الأذان ليخرق الآذان، علَّه يصل إلى الجنان، ليرد ذلك المتجاوز، ويُحيي ويوقظ ذاك الرِّمة الغافل، ويُطلق الأقدام، ويبسط الأشرعة، ومعه تُرفرف الأجنحة ليُهتم بالنافع الأهم، ويهجر الكم. من هذا المنطلق كانت هذه الكلمات بعنوان اقُصد البحر وخلِ القنوات اقُصد البحر وخلِ القنوات.
هي دعوة للعمل بشرع الله وله، من غير ما زيادة ولا نقصان، مع هجرٍ لقنوات التَّفلت والتَّميع والتَّجاوز، بل وسطية اتزان. أوجهها لنفسي أولا، وللمسلمين ثانيًا؛ علَّها تُحرك القلوب إلى علام الغيوب، وتحدو النفوس للعمل لما يرضي الملك القدوس، هي مع ذلك صرخةٌ وحدا. صرخة تهتف: أن اغلق باب الدعة والسكون والراحة، وافتح على المصراعين باب العمل بهمة وطُموح في اتزان وبصيرةٍ، وانْزِل السَّاحة، والأهم فالأهم تكن الراحة. أن اغلق باب الكرى، وافتح باب النَّصب والعمل، رقيًا مشروعًا مع أولي النُّهى، أَمِط عن رأسك قناع الغافلين، ولا تتجاوز الحد في المشروع تكن مع الهالكين، سِر بخُطى ثابتة في الميدان، ولا تَغربَنَّ عليك الشمس وأنت لازلت في تواكل أو توان. سَدِّد وقارب، فما النَّاس وأنا وأنت منهم إلا كإبل مائة هُزَال مترنحة مسترخية، ولا تكاد تجد فيها راحلة.
يثْقلون الأرضَ من كثرتهم *** ثمَّ لا يُغْنون في أمرٍ جَلل
ومُختار القليل أقل منه! غريب يا أيُّها الأحبة، غريب
أتُختار الحياض وماؤها غُثاء *** وبحر الدين تصفو مناهله؟
فِرَّ في اعتدال إلى الله، واصبر على اللأواء والموعد الله.
لا لؤلؤ البحرِ ولا أصدافه *** إلا وراء الهَوْل مِنْ عُبابه
وهي كذلك؛ أعني هذه الكلمات. حُداء سريع لجميع الأطراف، أطوِّف فيه تطوافًا حثيثًا كأشواط الرّمْل في طواف القدوم أُرَدد فيها:
أيُّها الساعي لكحْل المُقَلِ *** غافلا عمَّا به من كَحَلِ
اسْمعْ وعِ لا تَغْفلنْ *** وسَببًا لا تُهْمِلَنْ
وأخْلِصْ اتْبَع تَنْجُون *** مَع الدَّليل تَجْرِيَن
واثْبُت ودفعًا للثَّمن *** ميِّز برفقٍ أَجِبن
وحقِ ذي حقٍ أَعْطِين *** وفاضلَ الأَمر اقْصِدن(116/2)
وخَيْر خَيْرين اتَّبَعن *** وشَر شَرَّين ادْفَعَن
وكنْ ذكيًا واتَّزِن *** بِكثْرةٍ لا تَعْجبنْ
وبعد هذا البحر فاقْصدْ *** وقناةً خَلِيِنْ
ذلك -يعلم الله مني- جهد المقل، وقوة الضعيف الذي لا يكاد يمضي حتى يَكِل، وما أنا وهذا الأمر وأينما أقع منه -إي والله- إن أنا إلا رجل يقرأ ليجمع، ويكتب ليقرأ، ما وسعه أن يتفرج ويندب، فإن أصاب فلكم ولا همّ، وإن أخطأ فعليه وخلاكم ذمٌّ. أعوذ بالله من فتنة القول وزوره، وخَطَل الرَّأي وغروره. اللهم تجاوز عن زلاتي وجرأتي، ولا تجعل حظِّي من ديني لفظي، وارْزقني الصِّدق في نيَّتِي وقولي وعملي.
اللهم إنِّي أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذُّل إلا لك، ومن الخوف إلا منك. اللهم إني أعوذ بك أن أقول زورًا، أو أغشى فجورًا، أو أن أكون بك مغرورًا. اللهم إني أبرأ إليك من حولي وقوتي، وألجأ إلى حولك وقوتك، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. "اللهمَّ لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلا".
فتى الإسلام: اقصد البحر بأسباب، وخض هول العُباب، إيَّاك والتواكل؛ فإنه التخاذل وليس بالتوكل، لكل شيءٍ سبب قدره المقتدر، المالك المنفرد، فاطرق بحزم سببًا، وابذر بجد حبًا، وثَمرًا لا تنتظر، نتيجةً لا تملكن؛ فالأمر للإله الواحد القهار. لا تكن أخي كمن يريد يزرع اليوم ولا أرض، ليحصد غدًا، ويغرس في الصباح ولا بذر، ليجني في المساء، ذاك محال وخلاف سنة الله -رب الأرض والسماء-.
أتَطمعُ أنْ تَرى غَرْسًا وتَهْفُو *** إلى ثَمَراته قَبْل الغِرَاس
محال؛ إن الله –عز وجل- كان قادرًا أن ينصر نوحًا –صلوات الله وسلامه عليه- ومن معه من أول الأمر، لكنه تركه يأخذ بالسبب، يدعو ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا، ألف سنة إلا خمسين عامًا، ثم نجَّاه الله بسفينة صنعها بيديه، ولم تنزل له من السماء، سُنة الله، ولن تجد لسنه الله تبديلا.
فمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بالتَّمنِّي *** ولَكنْ القِ دَلوَك فِي الدِّلاءِ
أحبتي، إن طالب علم يريد حفظ كتاب الله، ولمَّا ينتظم في حلقة تحفيظ، ولم يفتح المصحف، إنما يطلب المحال، ويسخر مع ذلك من نفسه. إن طالبًا يريد العلم، ولم يثنِ ركبته عند عالم، ولم يفتح كتابًا، ولم يجعل للعلم وقتا فرضًا، لا يمكن أن يحوى علما، أو أن ينتظم في سلك طلاب العلم طالبا، إنما مثله كرجل له بستان مثمر مورق، يجاور نهرًا، بينه وبين النهر كف من تراب، وذبل البستان، وجفت الثمار، وسقطت الأوراق؛ كل ذلك من الظمأ، فقام الرجل بدلا من أن يزيل الكف من التراب؛ ليصل ماء النهر إلى البستان، قام ليتوضأ من النهر، ويصلى صلاة الاستسقاء، ويدعو الله أن يغيث بستانه. تواكل وخَور وعجز وضعف. هل يطير طائر بلا ريش؟ هل السماء بالذهب تمطر؟ لا، كل شيء بسبب، ومن برز بلا سبب قعد دون الرجال حسيرًا مغمورا، وقعد عن نيل المعالي ملومًا محسورا، وإذا أدركته المنية مضى، وكأن لم يكن شيئًا مذكورا.
لو كَان هَذَا العِلمُ يَحصلُ بالمُنَى *** مَا كَان يَبقَى في البَرِيَّةِ جَاهِل
فاعقل، توكل، بادر، وانهض إلى المعالي، واطلب ولا تبالي، واحذر من التواني، والعيش في الأماني، واقصد البحر بأسباب ودع عنك سراب القنوات.
يا فتى الإسلام:
إنْ كُنتَ تَطلبُ لُجَّة الأعمَاقِ *** أَخلصْ أصِب حلِّق بغيرِ تَوانٍ
جناحان لا ينفكان؛ إخلاص لله، واتباع لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- لا تحليق بواحد منهما (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) منْ عمل بدونهما فهو من المنقطعين الهالكين، ومن عمل بهما وصال، لم ترد صولته. ومن تكلم بهما، علت على الخصوم كلمته. هما روح الأعمال، ومحك الأحوال في أيام الفتن والمحن، ولا يثبت إلا أصحابهما المخلصون العاملون المتبعون، يُشرَّفون بنصر الله وتمكينه لهم في الأرض، ليجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين؛ ولذا سئِل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم: ما حجم ذاك الكلام؟ فقال: والله ما فهمت منه شيئًا، إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل. فوالله ما مُنح العبد منحة أفضل من منحة القول الصادق الثابت. تقول بعض الروايات: أن أحد الجواسيس الفرنجة، توغل داخل بلاد المسلمين في الأندلس، فرأى طفلا تحت شجرة يبكي، فسأله: ما يبكيك يا بني؟ قال: لأنني لم استطع إصابة الهدف الذي حُدِّد لي؛ وهو صيد العصفور فوق الشجرة. فقال الجاسوس: هوِّن عليك، وعاود الكرَّة أخري. فقال الطفل المسلم: إن الذي يبكيني أعمق من صيد العصفور؛ يبكيني أن قلت في نفسي: إن لم أستطع صيد العصفور بسهم واحد، فكيف أستطيع أن أقتل عدوي وعدو الله غدا؟ دُهش الجاسوس، وبلَّغ الواقعة إلى ملك الفرنجة، فقال ملكهم: الرأي عندي ألا تعترضوهم؛ فإنهم كالسيل، يحمل من يُصادره، ولهم نيَّات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، وواحد كألف. وصدق وهو كذوب.
فَكَمْ زكِمتْ أُنوفُ الفِسقِ دَومًا *** بعِطرِ القَولِ مِن فَمِ صَادقِينَا(116/3)
يا طالب العلم، ويا قاصد بحره: انصب وجهك لله، واملأ قلبك بحب الله وخشية الله، اجعل همك مرضاة الله، لا مرضاة عباد الله؛ فإنك قد تُضطر إلى إغضاب عباد الله في سبيل مرضاة الله، ولا ضير أن تفعل ذلك، يكفيك الله مؤونة الخلق، زِن عملك بميزان مرضاة الله، فما رجحت به كفة الميزان، فاقبله وارتضه، وما شالت به الكفة فأعرض عنه واجفه. عندها تستقيم المقاييس، ويتضح أمام العين الطريق القصد، والسبيل القويم في خوض لجج البحر، فلن تقع بعدها بإذن الله في تلك المتناقضات المضحكة السخيفة، كأن تُرى تطيع الله في أمر، وتعصيه في آخر، إذ أنه لا مجال للتناقضات، ما دامت المنطلقات صحيحة، والمنهج بينا، والمقاييس ثابتة، مرضاة الله أولا في اتباع وآخر.
لا لَكَ الدُّنيَا ولا أنْتَ لَها *** فَاجعَل الهمَّينِ همًّا وَاحِدَا
إني لأربأ بك وتربأ بنفسك يا قاصد البحر، أن تُرى في المسجد مصليًا خاشعا، ثم تُرى في السوق مرابِيًا، أو ترى في المسجد خاشعًا، ثم تُرى في البيت والشارع والمدرسة والمنتدى غير مُحكِّم لشرع الله في نفسك أو أهلك أو ولدك ومن تعول. كيف يليق بقاصد البحر أن ينظم مركبه وبيته والحياة من حوله، ثم يترك الفوضى في قلبه ويقصد لُجج البحر؟
تَرجُو النَّجاةَ ولمْ تسلُكْ مَسالِكَها *** إنَّ السفينةَ لا تجرِي على اليَبَسِ
"إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". وأيم الله لو مرضت قلوبكم، وصحت أجسامكم، لكنتم أهون على الله من الجعلان.
فكَيف يَصنعُ مَنْ أقصاه خَالقَه *** لا لَيسَ ينفعُه طِبُّ الأطبَّاءُ
مَنْ غَصَّ دَاوَى بشُربِ المَاء غُصَّتَه *** فَكيفَ يَصنَعُ مَنْ قَد غَصَّ بالمَاءِ
إنَّ الفيصل استقامة السر. متى استقام باطنك استقامت لك الأمور، وصدَّق عندها الفعل القول، والعلانية السر، والمشهد المغيب، فإذا أنت بسَّام بالنهار، بكَّاء بالليل، كاللؤلؤة أينما كانت فحسنها معها، أو كسبيكة الذهب إن نفخت عليها النار احمرت، وإن وزنتها لم تنقص. الحال ينطق: دع الذي يفنى لما هو باقٍ.
يا قاصد البحر: إني أُعيذك بالله أن تكون في نفسك عظيمًا، وعند الله وضيعًا حقيرًا، وأن تتزين في طريقك إلى البحر بما ليس فيك، ثم أعيذك أخرى أن تتصور أن تجمع في قلبك الإخلاص مع حب المدح والثناء؛ فإنهما ضدان لا يجتمعان أبدًا. اسمع إلى [ابن القيم] –رحمه الله- يوم يقول: لا يجتمع الإخلاص في القلب مع حب المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت. فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع، فاذبحه بسكين اليأس، واقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الآخرة للدنيا. فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء، سَهُل عليك الإخلاص، فإن قلت: وما الذي يُسهل علىّ ذبح الطمع والزهد في الثناء؟ قلت: -يعني [ابن القيم]- أما ذبح الطمع، فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس شيئًا يُطمع فيه إلا وبيد الله خزائنه، لا يملكها غيره، وصدق [ابن القيم] –رحمه الله-. فالقناعة بما يكفى وترك التطلع إلى الفضول أصل الأصول، والعز ألذُّ من كل لذة، والخروج عن رقَّة المِنن ولو بسفِّ التراب أفضل، وهل عِزٌّ أعز من القناعة؟ سُئل أحدهم عن سر قوة الإمام [الحسن البصري] -رحمه الله-: فقال في صراحة: احتجنا إلى دينه، واستغنى عن دنيانا.
مُرُّ الحياةِ لمَن يريدُ كَرامَةً *** حُلوٌ، ويُفلَحُ مَن يريدُ فَلاحًا
أما الزهد في الثناء؛ فيسهله عليك علمك أن ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين، إلا الله وحده. فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن تقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين، كنت كمن أراد السفر في البحر من غير مركب.
يا قاصد البحر: حلِّق، ثم خُض لُجة اليم بقلب مخلص كالجبل لا يتزحزح أبدًا، أو بقلب كالنخلة أصلها ثابت، وتهزها الريح. وإياك أن يكون قلبك الثالث كالريشة، أينما الريح تميِّلها تَمِل، وجاهد فبالمجاهدة تُوفَّق وتُسدد
وَإذَا الأَرضُ أَجدَبتْ ذَاتَ يَومٍ *** فَهْيَ تَبغِي مِن زَارِعِيها اجْتِهَادا(116/4)
يقول [مالك بن دينار]: إن الصدق يبدو في القلب ضعيفًا كما يبدو نبات النخلة، يبدو غصنًا واحدًا، فتُسقى فينتشر، ثم تُسقى فينتشر، حتى يكون لها أصل أصيل عظيم يوطأ، فظل يُستظل به، وثمرة يؤكل منها. كذلك الصدق مع الله، يبدو في القلب ضعيفا، فيتفقَّده صاحبه ويزيده الله، ويتفقده ويزيده الله، حتى يجعله الله بركة على نفسه، فيكون كلامه دواء للخاطئين، ليحيي الله به الفئام من الناس وصاحبه لا يعلم بذلك . يروى أن قاصًا كان بقرب [محمد بن واسع] - رحمة الله عليه- وقد كان يقول القاص: ما لي لا أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر؟ فقال ابن واسع: ما أرى القوم أوتوا إلا من قِبلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب. يكفيك أن أقوامًا تحي القلوب بذكرهم، ناهيك عن كلامهم، وإن أقوامًا أحياء تقسوا القلوب بل تموت بذكرهم، ناهيك عن كلامهم. نعم –والله- يا من قصدت البحر، كم من كلمات ولدت ميتة، ومن ثَمَّ جُعلت هباء مع أصحابها، لتكون من أصحاب القبور. وكم من كلمات ولدت حية، وبقيت فيها الحياة مع حياة أصحابها وبعد مماتهم، أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
بَينَ الجَوَانِحِ فِي الأَعمَاقِ سُكنَاهَا *** فَكيفَ تُنَسى؟ ومَن فِي النَّاسِ يَنسَاهَا؟
الأُذْنُ سَامِعَةٌ وَالعَينُ دَامِعَةٌ *** وَالرُّوحُ خَاشِعَةٌ والقَلبُ يَهوَاهَا
والسر؛ إنه الإخلاص والصدق يمنح الكلمات روحًا، فتبقى فيها الحياة أبدًا سرمدًا، أو ينعدم الصدق والإخلاص ويضمحل، فإذا بالكلمات لا تهز أحياءً، ولا تنفع موتي، نَوحُ مستأجر بلا روح، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة.
لا يعرف الشَّوق إلا مَنْ يُكَابده *** ولا الصَّبابة إلا مَنْ يُعانِيها
أخي طالب العلم: اقصد البحر وحلق، ثم خُض، وكن صحيحًا سليمًا في سرك، تكن فصيحًا في علانيتك، فإنما صلاح العمل بصلاح القلب، وصلاح القلب بصلاح النية، ومن صَفَّى صُفِّي له، ومن خلَّط حُلِّط عليه، وإنما يُكال للعبد كما كال، ومن صحت بدايته صحت نهايته، وقد يبلغ الرجل بنيته ما لم يبلغ بعمله، ثم اعلم أن الإخلاص لا يعني الانقطاع عن العمل خشية الرياء كما يفهم البعض، لكن الإخلاص أن تعرف لله قدره، فلا تصرف العمل إلا له وحده لا شريك له -سبحانه وبحمده- ثم اعلم بعد ذلك أن ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما، وعلامته أن تكون في الخَلوة كالجَلوة، بل خير من ذلك، ضحك في الملا ، وبكاء في الخلا. فاعقد مع الله عقدا لا يكون للشيطان فيه نصيب، على صلاح النية والاتباع، وانوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير، وعامل الله؛ فما خاب من عامله، واتقِ الله واقصد من ينفعك قصده، ولا تتشاغل بمدح من لا ينفعك مدحه، وأحسب أن عينك عين موفق، عين فرس يرى في الظلمة كما يرى في النور، والصدق منار، ومن لا يخلص في عِثَار، والعاقبة العار والنار.
فكيف يبلغ في دُنياه غايَته *** مَنْ تَسْتوي عنده الظلماءُ والنورُ
لا لا يا قيود الأرض. صفقة غبن لمن قصد البحر أن يرضى بمدح أو ثناء عن الفردوس الأعلى، لا يُحصَّل عظيم خطير كالإخلاص إلا بخطر، والدرّ في عُقر اليم، والراحة عند أول قدم توضع في الجنة، ومن أراد أن يعلم ما له عند الله، فليعلم ولينظر ما لله عنده، ومن لم تبكِ عليه الدنيا لم تضحك له الآخرة.
وصلاحُ الأَجْساد سهلٌ ولكن *** في صَلاح القلوبِ يعيا الطبيبُ
والمجاهدة توفيق (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) فاقصد البحر بإخلاص وصواب، وخلِّ القنوات
يا فتى الإسلام: أما وقد أخذت بالسبب، وحلقت بجناحي الإخلاص والمتابعة تقصد البحر، فألحقْ ذلك بهمَّةٍ عالية؛ فإن الهمة طريق إلى القمة، بادر ولا تعجل، أسرع ولا تضجر، أقبل ولا إلى الخلف تنظر، إن الطريق إلى الله واضحة مستقيمة، ما يتردد ولا يتلكأ فيها إلا الذي لا يعرفها، أو يعرفها ويتقى متاعبها، والطرق شتى، طريق الحق واحدة، والسالكون طريق الحق أفذاذ.
فبادر وسر إلى الله بهمِّة الحازم، فإنما هو شبر بذارع، وذراع بباع، ومشي بهرولة. كما في الحديث القدسي الصحيح" وإن تقرب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعًا ، وأن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا ، وإن أتاني يمشى أتيته هرولة". همٌ بالحسنة حسنة، وهم بالسيئة بلا عمل لها حسنة . حسنة بعشر وسيئة بمثلها وفي الحديث القدسي الصحيح: " ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ ني لأعيذنه" . لا يهلك إلا هالك، ولا يُحرم إلا محروم.
إذا كنتَ في الدُنيا عن الخيرِ عاجزًا *** فما أنت في يوم القيامةِ صانعُ
أين المبادرون؟ أين أصحاب الهمم؟ إنما هي خمس أو عشر سنين فحسب.(116/5)
يا نفس ما هو إلا صبرُ أيامِ *** كأن مدَّتها أضْغاثُ أحلامِ
إن عاش الرجل ستين سنة، نام الليل فذهب نصفها ثلاثون سنة نومًا، ونام ثلث النهار راحة وقيلولة، فذهب ثلثاها؛ أربعون سنة نومًا، وبقى عشرون سنة، منها خمسة عشر سنة قبل البلوغ والتكليف، فبقى العمر الحقيقي لابن الستين، خمس أو عشر سنوات، لله ما أقلها! ذاك لابن الستين، فكيف لابن الثلاثين والعشرين؟!
يا نفسُ قومِي فقد نام الوَرى *** إن تصنعي الخيرَ فَذو العَرْش يَرى
وأَنتِ يا عينُ دَعِي عنك الكَرى *** عند الصباح يَحْمد القومُ السري
النَفْس. ما النَفْس؟ إذا عودتها البَطالة اعتادت، وإنْ عودَّتها العمل والجد والسهر سهرت وجدَّت وعملت.
وقل مَنْ جَدَّ في أمر فطَّلبه *** واستصحب الصَّبر إلا فاز بالظَّفرِ
ولله الهمم. ما أعجب شأنها! ما أعجبه لمتأمل! وما أشد تفاوتها! همة متعلقة بالعرش، وهمة حائمة حول الأمتان والحُش، وبتفاوت الهمم تتفاوت الأعمال والدرجات.
ومَا كلُّ من جَر العَبَاءةِ سيدًا *** يُخْشى ولا كلُّ المَظاهر تبهرُ
إني لأسأل: أين تعب عالم دَرَّس العلم خمسين سنة؟ ذهب التعب وحصل العلم، وأين لذة البطال خمسين سنة؟ ذهبت الراحة وبقى الندم، اتباع الهوى، وما اتباع الهوى؟! يُغْلق على العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان (وأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) وأما من أطاع الهوى فوالله لقد هوى، ولا يزال الهوى يُمسك بتلابيب النفس، ويملك عليها أقطارها، حتى يصير لها إلها، تعطيه معنى الطاعة والعبادة، وتصير له عبدا تعطيه ما هو أكثر من الطاعة (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ)
أحبتي في الله: النَّفْس خلق عجيب، آية من آيات الله، بطبيعتها تميل إلى الأسهل وإلى الأدنى، كالماء الجاري، يهبط الأودية والشعاب والمنخفضات، ورفعه يحتاج لهمة وكلفة وصبر وعناء ومشقة ومجاهدة؛ كذلك النفس تحتاج لذلك كله؛ لترقَ وتسمُ وتحلِّق، والبحر تقصد، يقول [ابن الجوزي] -عليه رحمة الله-: لو أُمر الناس بالصبر على الجوع لصبروا، ولو نُهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه، يقولون: ما مُنعنا منه إلا لشيء، والواقع يشهد، وأحَبُ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنع. لماذا؟ لأن النفس محصورة مسجونة في البدن، فلا تحب أن تسجن وتحصر أخرى؛ بالتكاليف، في الأوامر والنواهي، يا نفس افعلي، ويا نفس لا تفعلي، هذا حرام وهذا حلال، وهكذا؛ ولذلك لو قعد الإنسان في بيته شهرًا باختياره ما صَعُب عليه ذلك، لكن لو قال له أبوه: لا تخرج هذا اليوم من بيتك، وقفل عليه باب غرفته لثقل عليه ذلك اليوم، وكأنه شهر، لماذا؟ لأن النفس تحب التحرر من القيود، والانطلاق والتفلت، فتراها تستلذ الحرام والشهوات، همها هواها، لكن صاحب الهمة العاقل الحازم يمنعها هواها، ويداريها، فيأخذها تارة بالعزائم، وتارة بالرخص، ويستعيذ بالله من شرها، ويدعو بتزكيتها، لتزكو وتتربى، وتسمو وتترقى. هي من خلق الله –عز وجل- والله أعلم بخلقه –سبحانه وبحمده-. يُقْسم الله في كتابه أحد عشر قسمًا متتالية، قسمًا يتلوه قسم، والله يُقْسم بما شاء من مخلوقاته –سبحانه وبحمده- يُقْسم على فلاح من زكاها، وخيبة من دساها، فيقول سبحانه: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا). أين جواب القسم؟ ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) وتزكيتها لا تقوم إلا بهمة عالية، يعقبها عمل خالص صالح صواب.(116/6)
فيا من قصد البحر بهمةٍ: زَكِّها؛ قد أفلح من زكاها. أبواب الخير المشروعة مُشرعة لك لتدخلها بهمة حازم، وأول هذه الأبواب: الفرائض. فما تقرب متقرب إلى الله بأحب من الفرائض، وهذه الأبواب نفعها قاصر، ونوع آخر نفعه متعد للغير، وما كان متعديًا فهو أولى، فخض لُجْة البحر بهمة، وادخل مع كل باب، واضرب في كل غنيمة بسهم، وعش مع كل طائفة على أحسن ما فيها، وخلِّ القنوات. من هذه الأبواب بلا ترتيب: حفظ كتاب الله، وتدبره، والوقوف عند حدوده، والائتمار بأمره، والانتهاء عن نهيه، تحكيمه والرضا به، فمالك إن تركت هذا الباب؟ اسمع لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت في صحيح الجامع: "لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النار، لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النار، يجئ القرآن يوم القيامة شفيعًا لصاحبه، فيقول: يا رب حّلْهْ، فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول القرآن: يا رب زده، فيُلبس حلة الكرامة، فيقول: يا رب ارض عنه. فيرضى الله عنه، فيقول القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر أية تقرؤها" حرف منه بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ألم بثلاثين ويا خيبة البطالين!.
الحرفُ منه مُضَاعفٌ وميسرُ *** شَقي الذي عن حُكمهِ قدْ أعْرض
هُبُّوا إليه لحِفْظِه وتَأهبُوا *** وارجوا رِضَا الرحمنِ صُبْحا والمَسَا
ويقول -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح الجامع:" لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس خير لي من أن أعتق أربع رقاب، ومن أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه حتى فَرْجِه بفرجه" . يا للغنيمة الباردة! والله لا تتحقق اليوم إلا لأهل تحفيظ القرآن، أهل حلقات التحفيظ. هنيئًا لهم، ثم هنيئًا.
يا فَتى التَّحفيظ
كنْ رَابطَ الجَأشِ وارْفَع رايةَ الأملِ *** وَسِر إلى الله في جِدٍ بلا هَزَلِ
وإن شَعرتَ بنْقصٍ فيك تَعْرفهُ *** فَغَذِّ رُوحَك بالقرآنِ واكْتَمِلِ
وحَارِب النفسَ وامْنَعْها غِوَايَتَها *** فالنَّفسُ تَهوَى الذي يَدعُو إلى الذَّللِ
" بشر المشَّائين في الظُّلَمِ إلى المساجد، بالنور التام يوم القيامة " " من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نُزُلاً ، كلما غدا أو راح" كيف لو أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين يوما؟ ثبت في صحيح الجامع أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال:" من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتب له براءتان؛ براءة من النفاق، وبراءة من النار". هلا حاولت وجاهدت نفسك لهذا الفضل العظيم؟ قد تدركها ثلاثين يومًا، وقد تدركها تسعة وثلاثين يومًا، وقد تدركها أربعين يومًا إلا فرضًا واحدًا، ثم تنخرم القاعدة، لكن عُد من جديد، وجاهد نفسك، وستجد -بإذن الله- لذة المجاهدة على هذا الفضل ماثلة ظاهرة.
والشيءُ صَعبٌ عَلى مَن لا يُجِرِّبه، لكن من جَدَّ وَجَد.
مَا كُنتُ أَرجُوهُ إذ كُنتُ ابْنَ عِشرِينَا *** مَلَكْتُهُ بَعدَ أَنْ جُزتُ الثَّمَانِينَا
إن [سعيد بن المسيِّب] -رحمه الله- يتحدث بنعمة الله عليه في آخر حياته فيقول لابنته: والله ما فاتني تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين سنة، وما رأيت ظهر مُصلٍّ في الصلاة أبدًا. بمعني؛ أنه في الصف الأول دائمًا، وما يُلقَّاها إلا من صبر، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يُؤخرون . عيادة المريض. ما العيادة؟ ما عيادة المريض؟ ثبت في الصحيح عن [عليّ] –رضى الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح". وفي حديث ثوبان: "ولم يزل في خُرْقة الجنة حتى يرجع" ومع ذلك المنادي ينادي: "طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا". إنها الغنيمة يا أهل الغنيمة، فأين صاحب الهمة المشمر؟
فَمَا العُمرُ إلا صَفحةٌ سَوفَ تَنطوِي *** ومَا المَرءُ إلا زَهرةٌ سَوفَ تَذبلُ
الطواف بالبيت يا أهل البيت الحرام. ثبت في صحيح الجامع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من طاف بالبيت أسبوعًا -يعني سبعة أشواط- كان كعتق رقبة، ولا يضع قدما ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة". لأهل السوق ما هو خير من كل ربح يربحونه.(116/7)
ثبت -أيضًا- في صحيح الجامع، "أن من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتًا في الجنة ". فهل تذكَّرنا ذلك عند دخول الأسواق؟ ما أعظم الأجر، وأيسر الأمر! والله لحسنة من هذه خير من الدنيا وحُطامها وزخارفها ولذَّاتها. "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثل دينه صدقة فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثل دينه مرتين صدقة." فضل من الله ونعمة. وثبت في صحيح الجامع: " أن فيك يا ابن أدم ثلاثمائة وستين عظمة –أو مفصلا- على كل مفصل في كل يوم صدقة". تحتاج إلى ثلاثمائة وستين صدقة، على كل مفصل صدقة "والكلمة الطيبة صدقة، عون الرجل أخاه صدقة، الشربة من الماء تسقيها صدقة، تبسمك في وجه أخيك صدقة، أمر بالمعروف ونهي عن منكر صدقة، إرشاد الرجل في أرض الضلال صدقة، بصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، إماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق صدقة، إفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة، في كل كبد رطب صدقة، تسبيحة صدقة، تهليلة، تكبيرة صدقة من علم أية من كتاب الله –عز وجل- كان له ثوابها ما تُليت، ومن علمَّ علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل شيء" الشفاعة في غير حدود الله صدقة، اشفعوا تؤجروا، والبخيل من بخل بجاهه، ذَبُّكَ عن عرض أخيك قربة من أعظم القُرب، يَذُبُّ بها الله –عز وجل- النار عن وجهك. عدل بين اثنين صدقة، تعين الرجل ليُحمل على دابته صدقة، ترفع متاعه على دابته صدقة، كل خطوة إلى الصلاة صدقة، كل ما تصنع لأهلك من معروف صدقة، كل قرض صدقة، كشف الشر عن الناس صدقة، كل معروف تقدمه لغني أو فقير صدقة، إسماع الأصم صدقة، البيان عن الأعجم صدقة، من نفس عن مَدينِه أو عفا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة، من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدار الآخرة، من ستر مسلمًا ستره الله في الدار الآخرة. من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله به طريقًا إلى الجنة. إنقاذ الناس من الضلالة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور أفضل قربة، فلأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير لك من حُمر النِّعم. وكلما كان نفع العمل متعديًا إلى الغير، كان أعظم أجرا. ولك أن تتصور هذه الأمة اليوم، كل مسبِّح ومهلِّل وذاكر ومستغفر ومجاهد ومتصدق وحاج وصائم، كل أعمالهم لنبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- مثلها؛ لأنه السبب في هذه الهداية، ولأنه هو الذي حمل الخير إلى الأمة. فمن يستطيع أن يأتي بأعمال تضاهي عمل رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ يوم يأتي بعمله هو، وعمل أمة محمد –صلى الله عليه وسلم- كلها في ميزانه (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فنسأل الله من فضله. ثبت في صحيح الجامع أنه –صلى الله عليه وسلم- قال: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله –عز وجل- سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا". ثم يقول –صلى الله عليه وسلم- "ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا؛ يعني مسجده -صلى الله عليه وسلم- ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظًا لو شاء أن يُمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله قدمه يوم تذل الأقدام". وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يُفسد الخل العسل.
إذا الرَّوضُ أمسَى مُجدِبًا في ربِيعهِ *** ففِي أيِّ حِينٍّ يَستنِيرُ ويُخصِب
أخي صاحب الهمة وقاصد البحر: لا تنس أن قيام الليل وتلاوة القرآن زاد يومي، لا غنى للمسلم عنه في مواجهة تكاليف الحياة وأعبائها، والدعوة إلى الله خاصة، وما ذكرته ما هو إلا أمثلة، وإلا فأبواب الخير لا حصر لها أبدًا.
تَناوَلْ مِن الأَغصَانِ مَا تَستَطِيعهُ *** وَجاهِد عَلى الغُصنِ الذي لا تُطَاوِلُهْ
آنَ لكَ أن تقولَ بملءِ فيكَ: مضى عهد النوم يا مرتاد القمم.
بادر واغتنم، فإنما هي خمس أو عشر سنوات، انتهز الفرصة في وقتها، وخذ الثمرة في كمال نضجها، ولا تعجل فتطلب الشيء قبل وقته فلا تدركه، وتقطف الثمرة قبل نضجها فلا تنتفع بها، فمن طلب المعالي استقبل العوالي، ومن لزم الرقاد فاته المراد، وإن لم يُثمر العود، فقطع العود أولى به.
والعَاجزُ الرأيِ مِضيَاعٌ لِفرصَتِهِ *** حَّتى إذَا فَاتَ أَمرٌ عَاتَبَ القَدَرَ
فمن طلب المعالي استقبل العوالي، ومن لزم الرقاد فاته المراد، وإن لم يُثمر العود، فقطع العود أولى به.
والعَاجزُ الرأيِ مِضيَاعٌ لِفرصَتِهِ *** حَّتى إذَا فَاتَ أَمرٌ عَاتَبَ القَدَرَ
والراضي بالدون دنيء.
وَلَم أَرَ فِي عُيوبِ الناسِ عَيبًا *** كَنقصِ القَادِرينَ علَى التَّمَامِ(116/8)
يا من قصد البحر بهمَّة: لا تستوحش إن قل السالكون، فقد سبقك السابقون، ولعلك تزيد من همتك بالوقوف على بعض مواقفهم، فإليهم إليهم بلا اختيار، قد صوَّت حاديهم بك:
مَنازلَ مَن تَهوَى رُوَيدَكَ فَانزِلِ
هاهو المحدث الفقيه الأديب [إبراهيم الحربي]، يعتلُّ في آخر حياته، حتى يصبح صفر اليدين من متاع الدنيا؛ فليس في بيته إلا الخبز الجاف والملح، ولا غرو.
قَد يَنالُ العُصفُورُ وَفْرًا وَيبقَى *** فِي سِجلِّ الخُمولِ تِلكَ الصُّقورُ
ويبعث له الخليفة بألف دينار، فيرفض أن يأخذها، فينصرف رسول الخليفة إلى الخليفة، ويخبره، فيقول الخليفة: ليفرقها في جيرانه. فرجع رسول الخليفة إلى [إبراهيم] وقال: إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرقها في جيرانك. فقال: عافاك الله، هذا مال لم نشغل أنفسنا بجمعه، فلا نشغلها بتفريقه، قُلْ لأمير المؤمنين: إن لم يتركنا تحولنا عن جواره. سمعت ابنته هذا الحوار، فغضبت وآلمها أن يرفض أبوها المال، وهم في أمسِّ الحاجة له، وجاء عمها لزيارتهم، فقالت: يا عم: نحن في أمر عظيم، لا في الدنيا نحن ولا في الآخرة الشهر والدهر، ما لنا من طعام إلا كِسرْ يابسة وملح، وربما عَدمنا الكسر، وربما عدمنا الملح، وقد أرسل الخليفة بألف دينار فلم يأخذها، وأرسل فلان فلم يأخذ منه، وهو عليل كما ترى يا عماه. فنظر عمها إلى أبيها؛ يريد أن يجيبها، فالتفت إبراهيم إلى ابنته وتبسم وقال لها: يا بُنية أو إنما تخافين الفقر؟ قالت: نعم، قال: انظري إلى تلك الزاوية. فنظرت في زاوية البيت، فإذا كتب بعضها فوق بعض، قالت: أبتاه: ماذا تغني هذه عنا؟ فقال: هذه اثنا عشر ألف جزء في الحديث والفقه واللغة، كتبتها بيميني، إذا أنا مِت، فبيعي كل جزء منها بدرهم، أو يفتقر من يملك اثني عشر ألف درهم؟ حاله: طعام دون طعام، ولباس دون لباس، جوع قليل، وعُريٌ قليل، وبرد قليل، وذل قليل، وصبر قليل، وإلى الله المصير.
لَيسَ السَّعِيدُ الذي دُنيَاهُ تُسعدُهُ *** إنَّ السَّعيدَ الذي يَنجُو مِن النَّارِ
إنها الهمم، تجعل في قلب صاحبها نار تتقد، كنار تتقد في قلب من يجد ابنه مريضًا لا يملك له شيئا، أو من لا يجد في بيته شيئًا يَسُدُّ به رمق أولاده وهم يتضاغون عند قدميه، يقلق ويضطر إلى بذل الجهد والسعي. إنها اثنا عشر ألف جزء، وبيمينه خطها، والإمكانات غير متوفرة، فلله الهمم ما أعلاها وأسماها،
وَالعَبدُ عَبْدُ النَّفسِ فِي شَهوَاتِهَا *** وَالحُرُّ يَشبَعُ مَرَّةً وَيَجُوعُ
يقول [أبو العباس ثعلب]: ما فقدت [إبراهيم الحربي] من مجلس لغةٍ ولا فقه منذ خمسين سنة.
لَهُ هِمَّةٌ تَعلُو علَى كلِّ هِمَّةٍ *** كمَا قَد عَلا البَدرُ النُّجومَ الدَّرَارِيَا
[ابن عباس] ينام على عتبة [زيد بن ثابت] يطلب العلم -رضى الله عنه وأرضاه- والإمام [عيسى بن موسى] يقول: مكثت ثلاثين سنة أشتهي الهريسة، ولا أقدر على شرائها؛ لأن وقت بيعها في السوق هو وقت سماعي الحديث.
شَتَّانَ بَينَ النَّاسِ فِي أَهدَافِهِم *** شَتَّانَ بَينَ عَصًا وَحُسَامِ
وأحد السلف في سكرات الموت يقول: أجلسوني لأصلي ركعتين. فيقولون: عافاك الله أفي مثل هذه الحال؟ قال: نعم، الآن تُطوى صحيفتي، وأريد أن أختمها بركعتين، علّ الله أن يرحمني.
َفَنالُوا المُرادَ وفَازُوا بِهِ *** فَطُوبَى لَهُم ثُمَّ طُوبَى لَهُم
ليست الهمة في الرجال فحسب، بل إنها في النساء، وفي الصبيان، في الصغار. فاسمع: في معركة أحد، روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ردَّ مجموعة من الفتيان لم يبلغوا، وكان منهم [رافع] و[سمُرة] ولشوقهما للجهاد في سبيل الله لم يستسلما للأمر، قام كل منهم يستعرض ما لديه من قدرات، يثبت كفاءته للقتال، يرفع نفسه، يمشى على أطراف أصابعه؛ ليبين أنه بلغ مبلغ الرجال. فقيل لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-: إن [رافعًا] رام الخامسة عشر. فأجازه –صلى الله عليه وسلم- فقال [سُمرة]: يا رسول الله: أجزت هذا ورددتني، ولو صارعته لصرعته. قال –صلى الله عليه وسلم-: دونكه –يعنى صارعه-. فتصارعا، فصرعه [سُمرة]، فأجازه –صلى الله عليه وسلم-. فيا لله! شباب امتلأت قلوبهم بالإيمان، واختلطت بحيوية الشباب وقوة البدن، فسخروها فيما يرضي الله، فرضي الله عنهم وأرضاهم. فهل من مقتدٍ بهم يا شباب الأمة؟
أَوَ مَن يُفكرُ فِي الصُّعُودِ *** كَمَنْ يُفَكِّرُ فِي النُّزُولْ
مَنْ يَبتَغِي هَدَفًا بِغَير *** الحَقِّ يَعيَا بِالوُصُولْ(116/9)
وهاهو [سفيان بن عُيينة] -رحمه الله- يقول: كان أبي صيرفيًّا بالكوفة، فركبه الدَّيْن، فحملنا إلى مكة، وأنا يومئذ صبي –سفيان لا زال صبيًا- يقول: وسرنا إلى المسجد لصلاة الظهر، ولما كنت على باب المسجد، إذا شيخ على حمار، هيئته هيئة صاحب حديث، فقال لي: يا غلام؛ أمسك عليّ هذا الحمار حتى أدخل المسجد، فأركع. قلت: ما أنا بفاعل حتى تحدثني. قال: وما تصنع أنت بالحديث؟ واستصغرني وردني، فقلت: حدثني أو لا أمسك لك الحمار. قال: فسرد علي ثمانية أحاديث بأسانيدها، فأمسكت حماره، وجعلت أكرر ما حدثني به، فلما خرج من المسجد، قال: ما نفعك ما حدثتك به يا غلام؟ قد حبستني عن الصلاة، فقلت: حدثتني بكذا وكذا وكذا. وسردت عليه جميع ما حدثني به، فقال: بارك الله فيك، تعال غدًا إلى مجلسي. فإذا هو [عمرو بن دينار] المحدث المعروف. اسمع بعدها [لنصر الهلالي] يوم يقول: كنت في مجلس [سفيان بن عُيينة]، إذ دخل علينا صبي صغير ذلك المجلس، فكأن أهل الحديث تهاونوا به لصغر سنه، فقال سفيان مغضبًا من أهل الحديث: كذلك كنتم من قبل، فمنَّ الله عليكم. ثم قال سفيان: يا نصر -ويتكلم الآن عن نفسه سفيان وهو صغير- يا نصر: لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، وجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، أكمامي قصار، ذيلي بمقدار، نعلي كأذان الفار، أختلف إلى علماء الأنصار؛ [كعمرو بن دينار]، [والزهري] وأمثالهم من علماء الأنصار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتيِ كالجوزه، ومُقلتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا لي: أوسعوا للشيخ الصغير. لو رأيتني يا نصر حين ذاك لَمَا احتقرتَ ما رأيتَ
مَن يَجعَل الرَّحمنَ مَقصِدَ قَلبِهِ *** يَبقَى شَريفًا فِي الحَياةِ نَزِيهَا
ويذكر [الخطيب البغدادي] -رحمه الله- عن [علي بن عاصٍ]، قال: دفع إليَّ أبي مائة ألف درهم، وقال: اذهب فلا أرى لك وجهًا إلا بمائة ألف حديث -هكذا تكون الولاية- فهجر الوطن والأهل، وضحى بماله ووقته وجهده، وحصل على أكثر مما طُلب منه، فصار يُحدث ويُسمع منه. وهذه أهديها لأولياء الأمور، وأقول لهم:
إنْ كُنتَ تَرجُو أنْ تُصيبَ رَميَّةً *** فَاثقِفْ سِهَامَكَ قَبلَ أنْ تَرمِيهَا
كَذاكَ الفَخرُ يَا هِمَمَ الرِّجَالِ *** تَعالَيْ فَانظُرِي كَيفَ التَّعَالِي
يا طالب العلم، ويا داعية الإسلام: كن على جادتهم وإن أبطأ بك المسير، فإن قدوة القوم يرعى القافلة، أنت لا تملك نفسك، حتى يسوغ لك أن تمنحها إجازة. يا من أنت الآن في إجازة، إنما أنت وَقْف لله، فإذا لمع لك فجر الأجر، فليهُن ظلام التكليف. إذا ضاقت عليك قناة أو طريق، فشُق إلى البحر ألف طريق. إذا أغلق عليك باب دون البحر، فافتح لك ألف باب، ولن تعدم وسيلة. اعمل ولو ساعة، وللحقوق -ومنها التعلم- بقية الساعات، إذا بزغ لك نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، فأردفه بقمر العزيمة؛ لتُشرق الأرض بنور ربها. إنما أنت همة علية، ونفس تضيء، وهمة تتوقد. أنت لا تعيش لنفسك، ويجب أن تقنع نفسك أنك لا تعيش لها، جِد تجد، ليس كمن سهر كمن رقد، هذا دبيب الليالي يُسارقك أنفاسك، وسلع المعالي غاليات الثمن، فانظر لنفسك، واغتنم وقتك، فالثواء قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والخطر عظيم، والعقبة كؤود، والناقد بصير. يا من قصد البحر بهمة: ائتِ الديار البكر، وارتد كل يوم منزل فضل، وخض ميدان التنافس، وائتِ بجديد، فإن قال لك البطالون الكُسالى: لو تفرغت لنا، فاقرع أسماعهم بصوت عمر عبد العزيز: وأين الفراغ؟ ذهب الفراغ، لا فراغ. والله لا مُستراح للمؤمن إلا تحت شجرة طوبى. أحبتي في الله: إن النفس الإنسانية لابد أن تتحرك، فإذا هي كفت عن الشر، ولن تتحرك للخير، بقى فيها فراغ وخواء، قد يردها إلى الفساد، فالعبد سائر لا واقف، فإذا سار؛ فإما إلى فوق، وإما إلى تحت، وإما إلى الإمام، وإما إلى الوراء، ليس هناك وقوف البتة، إنما هي مراحل تُطوى إلى الجنة، مُسرع ومُبطئ ومُتقدم ومتأخر. (لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)
كُلُّ نَفسٍ سَوفَ تَلقَى فِعلَهَا *** وَيحَ نَفسٍ بِهَواهَا شُغِلَتْ
والله لا تتم حقيقة الإيمان في القلب حتى يتعرض القلب للمجاهدة في هذا الدين، بدءًا من كراهية الباطل، إلى السعي في الإصلاح، إلى نقل الناس من الغواية إلى الهدى. إنها باختصار الدعوة إلى الله، التي تغير ماهية الشيء، فتجعل من الرجل غير الرجل، ومن القلب غير القلب، تجعل صاحبها كالنحلة؛ لا تأكل إلا طيبا، ولا تُخرج إلا طيبًا، وإن وقفتْ على عود نخر لم تكسره، بل مثل النخلة؛ ما أخذت منها من شيء نفعك. ونتيقن ونجزم أيها الأحبة، أن في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا، ولا يعرف قدر الرجال إلا الرجال، والهمم المَنُوطة بالرجال عظام.
وعَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتِي العَزَائِمُ *** وَتَأتِي عَلى قَدرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ(116/10)
وَتَعظُمُ فِي عَينِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا *** وَتَصغُرُ فِي عَينِ العَظِيمِ العَظَائِمُ
كأني بكم تقولون: ماذا يُراد منا؟ ونقول: يراد منكم الكثير. نريد من الأُسَر أن تحمل هم دينها، أن تدخر من قوتها كل شهر ثمنًا لكتاب قيم، يهدى لمن ينتفع به، ومبلغًا لمسلم محتاج، وشريطًا نافعًا للدعوة بالقول والعمل؛ لأننا نفترض في الأسر أنها صلحت ونريدها مصلحة بناءة، نريد من طالب المدرسة أن يعمل بما علم، أن يدخر في الشهر ولو ريالاً واحدًا يُسهم به في الدعوة إلى الله، نريد تمعُرًا من الوجوه لانتهاك حدود الله، يعقبه تغيير أو إنكار. نريد من التاجر أن يدعو بماله؛ يقتطع مبلغًا شهريا يجعله في مصالح المسلمين، يطبع كتابا ينفع الله به المسلمين، ينذر معسرًا، ينفس كربًا، يقضى دينًا، يطرد جوعا. نريد من المربين والمربيات، من المعلمين والمعلمات، أن يقوموا بدورهم في غرس الإيمان في قلوب أبناء الأمة، فو الله إنهم لمسؤولون عن أبناء الأمة، نريد أقلامًا قوية بليغة، عندها المقدرة البيانية، والطلاوة الأدبية، وحلاوة التعبير الذي تنفذ الدعوة بها إلى عقول الناس وقلوبهم، نريد قلوبًا تعرف الخشوع، ونريد عيونًا تعرف الدموع.
مَن ذَا يُعيرُكَ عَينَهُ تَبكِي بِهَا *** أَرأَيتَ عَينًا لِلدُّموعِ تُعَارُ؟
نريد تربية كتربية أبي بكر وعمر وصحبهم –رضى الله عنهم-، لا نريد أن تربَّي فراخ الصقور تربية بُغاث الطير، فهذا جور، ولا أن تربَّي الأسد تربية الخراف، فهذا ميل وظلم. نريد أن تميز بين الصحيح والزائف، فليس كل لين حريرًا، نريد كل جهد مهما ضؤُل حجمه، وصغرت مساحته، وقلّ عدده، فعند الله لا يضيع مثقال ذرة. نريد مضاعفة الجهد وتكثيف العطاء، ونريد ترجمة الكلام إلى عمل، نريد أن نتحرر من تلك الآفة التي غدت ظاهرة عامة بين المسلمين، تعوق خطانا عن السير؛ ألا وهي كثرة النواح وقلة العمل. والنواح لا يحيي ما مات، ولا يرد ما فات.
آفتنا كثرة الشاكين المتوجعين، وقلة المداوين، كثرة من يسبون الظلام، وقلة من يوقدون الشموع . نعم يا قاصد البحر كثرت الشكوى من الأدواء والمآسي، ولعلك ترى ذلك وتلمسه، لم يعد هناك أحد إلا ويشكو، فمن المشكو منه إذا ؟! كلنا شاكٍ ومشكو منه. ذكر صاحب أين الخَلل ما نصه حّدثوا: أن واعظًا بليغًا وعظ الناس يوما، حتى بكوا من تأثير الموعظة، وكان معه كتاب، ثم بحث عن كتابه بعد الموعظة، فوجده قد سُرق، نظر إلى الحاضرين، عله يلمح بينهم وجها تلوح عليه أثار الجريمة، لكنه وجه الجميع متأثرين يبكون، فقال لهم: كلكم يبكي، فمن سرق الكتاب؟! كلكم يبكي فعلاً، فمن سرق الكتاب؟! نعم، كلنا نشكو، فمن المشكو منه؟! إن علينا أن ننتقل من دائرة الشكوى إلى دائرة العمل المتواصل الدءوب، العمل للحاضر والمستقبل، وإن لم نشكُ، فلا نريد أن نكون من المتفرجين، وممن ينتظر العمل من الآخرين. بل يعمل الجميع، وكلٌ على قدر جهده وطاقته. وعودًا على بدء؛ للرجل دوره، وللمرأة دورها، وللصبي والكبير والغني والفقير دوره، المهم أن يعمل الجميع، وأن يضع كلٌ منا نفسه في المكان الملائم، من استطاع أن يُميط شوكة عن طريق فليُمطها، ومن أمكنه أن يبذر حبة في الأرض فليبذرها، نريد باختصار حمل هَمِّ الدعوة من كل واحد منا، أينما حلَّ وأينما رحل، كلٌّ وفق تخصصه، وينفق مما لديه (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا أتَاهَا) إنْ كان عنده علم دعا به، مالٌ دعا به، ولا مبرر للقعود أبدا؛ فالمسئولية على الجميع مشتركة وتتفاوت؛ فمسؤولية العالم أكبر من مسؤولية الجاهل، ومسؤولية صاحب السلطة أكبر من مسؤولية من لا سلطة له، ومسؤولية صاحب المال أكبر من مسؤولية من لا مال له، وإن كان الكل مسؤولا. كل مسلم رجل يعمل لدينه، والأمة كلها مسؤولة عن فرائض الله، وأحكام الله، وشرائع الله. ذُكر أن أحد المستمعين قال لأحد الدُعاة يومًا، بعد محاضرة ألقاها ذاك الداعية: قد مضى لكم ثلاثون سنة وأنتم تتكلمون، فماذا صنعتم؟. وكان جواب الداعية مفاجئًا له حين قال: وأنتم مضى لكم ثلاثون سنة صامتون تستمعون، فماذا صنعتم؟. هذا حق. على المستمع، كما على المتكلم مسؤولية تحويل الكلام إلى عمل، والأفكار إلى وقائع، وإن اختلفت درجة المسؤولية. المسلم مطالب بالعمل إلى آخر رمق، حتى لو قامت الساعة وفي يديه فسيلة فليغرسها إن أمكنه.
فَلينطَلِقْ كُلُّ فَردٍ حَسْبَ طَاقَتِهِ *** يَدعُو إلَى اللهِ إخفَاءً وَإعلانًا
ولْنَترُك الَّلومَ لا نَجعلْهُ عُدَّتَنَا *** وَلْنَجعَل الفِعلَ بَعدَ اليَوم مِيزَانَا(116/11)
نريد أن نكون كتلة كالمطر، لا يُدرَي أوله خير أم آخره؟ كتلة فيها الكفاية في كل ناحية، كتلة هي في غِنى عن العالم، وليس العالم في غِنى عنها، تملأ كل ثغر، وتسد كل عِوَز وعجز. فإنه –والله- لا عمل أبقى وأنفع للمسلم من عمل يقضيه في الدعوة إلى الله؛ بيانًا باللسان، وجهادًا باليد، ونفقة من العلم والمال والوقت، وكل مسلم على ثغرة من ثغور الإسلام، وعليه أن يسدها، أيًا كان تخصصه ومستواه وموقعه. إن كان في الحراسة، ففي الحراسة. وإن كان في الساقة، في الساقة. همة أداء الواجب والمشاركة والقيام بالمسؤولية، وفق ما لديه من استطاعة. (لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)
يا قاصد البحر لعلها لك آفاق وشحنت همتك فحدد أهدافك وسر وحلق مع الهمم العالية وإياك والنظر إلى الخلف لئلا تضعف فتأكل فالقلب كالطائر كلما علا بعد عن الآفات وكلما هبط احتوجته الآفات وما المرء إلا حيث يجعل نفسه خذ من الأسباب ما يقوي همتك من مجاهدة ودعاء صادق أن يعلي الله همتك وقراءة لسير سلفك أهل الهمم ومصاحبة لأهل الهمم والأهم والأهم فإن العمر يعجز عن تحصيل الكل.
إن لم تكن للحق فمن يكون *** والناس في محراب الدنايا عاكفون
فكن رجل رجله في الثرى *** وهامة همته في الثريا
واقصد البحر بإخلاص وصواب وهمة وخل القنوات.
فتى الإسلام يا من قصد البحر بإخلاص وصواب وهمة اعلم أن سنة الله التي لا تتبدل ألا ينال ما يرجى ويؤمل إلا بثمن ليس هناك شيء بالمجان وكلما كانت السلعة نفيسة كان الثمن أنفس وأغلى وهذا ما أدركه القائل يوم قال
فسرت بالراحة الكبرى فلم أرها *** تنال إلا على جسر من التعب
قلما نجد ثمرة إلا ومعها زنبور ولا لذة إلا وإلى جانبها شيء محدور ولن يبقى أحد بمطالبة شفعى مهما كد وسعى بل مرعى بلا ماء وماء بلا مرعى ونحلة مع الشهد وشوكة مع الورد وأرض بها عشب زاك وليس بها ماء وأخرى بها ماء بلا عشب كيف ينال الفضل والجسم خامل وادع وكيف يؤتى المجد والوفر وافر أي مضروب فينا من غير مشقة أي مرغوب لم تبعد على طالبه الشقة المال لا يحصل إلا بالتعب والعلم لا يدرك إلا بالنصب واسم الجواد لا يناله بخيل ولقب الشجاع لا يحصل إلا طويل
لولا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يفقر والإقدام قتال
من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل سلعة الله أغلى وأعلى سلعة الله الجنة قد يكون الثمن جهدا ووقتا وقد يكون مالا وامتحانا وقد يكون دما مراقا وبلاء لا ضير مادامت السلعة تستحق
فإن المر حين يسر حلو *** وإن الحلو حين يضر مر
فكن مر تصادف منه نفعا *** ولا تعجل إلى حلو يضر
ادفع الثمن وسابق واقصد البحر وخل القنوات.(116/12)
فتى الإسلام يا من قصد البحر بإخلاص وصواب وهمة وعلم الثمن اترك الثبات وسل الله الثبات فإن الثبات عزيز إذا عشقت طريق اليمن فلا تتجه إلى الشام وأعني باليمن اليمين وبالشام الشمال وليكن لسان حالك ومقالك أنا أحب السير مصاعدا ولا البرق إلا أن يكون يمانيا الطريق واضح والمبادئ بينة وأحب أنك مستيقن بالحق الذي عندك لا تشك فيه أبدا تكره أن تعود بالكفر كما تكره أن تلقى في النار ترتضي أن تجود بالروح وأن تحرق بالنار وتنشر بالمنشار أو تقطع بالسيوف على أن تترك ذاك الطريق أليس كذلك أحسب أن الجواب بلي لماذا؟ لأني أحسبك مطمئنا لمبدئك اطمئنان يثمر للانتفاع بطريق في اليمن بعمل دؤوب متواصل إلى نهاية الأجل غير آبه ولا منتبه إلى طريق الشام وأحسب أنه لم تكثر الأشياء الكثيرة بنفسك يوم ما لأنها نفس مطمئنة في حين تعلم وترى بأم عينك رؤوسا اضطربت بأطماعها وشهواتها فباعت بعرض دينها لأنها مبتلاة بهموم كثرة خيالية مثلها في الهمم كطفيل يحزن لأنه لا يأكل في بطنين أما أنت فأحس أنك ربيت نفسك على أن تعطي في هذه الدنيا ولا تأخذ شيئا قد علقت نفسك بالآخرة حيث الأجر والثواب فكنت لله فلم يكن لك شيء لو كادت السماوات والأرض والجبال لكفاك الله وجعل لك منها فرجا ومخرجا ألم يأتك نبأ [الإمام أحمد] رحمه الله يوم امتحن على القول بخلق القرآن فثبت على الحق ثبوت الجبال حتى أنه كان إذا أريد على ذلك تدور حماليق عينيه كالمجنون يؤتى بالسياط للمعتصم وبجلادين غلاظ القلوب قساة الأفئدة ليأمر كل واحد منهم أن يتقدم ليضرب الإمام بكل ما لديه من قوة سوطين وفى والمعتصم يقول للضارب شد قطع الله يدك ثم يقول المعتصم يا أحمد علام تقتل نفسك إني والله عليك لشفيق ويقول آخر أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم ويقول بعض بطانته الخبيثة التي هي أخبث من بطانة فرعون يقول يا أمير المؤمنين اقتله ودمه في عنقي فيقول المعتصم ويحك يا أحمد ما تقول فيقول أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقل به ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا فيغضب ثم يقول للجلاد تقدم أوجعه قطع الله يدك فيضرب الإمام والمعتصم يقول أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي فيقول أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقل به فيأمر الجميع بضربه ويقول شدوا قطع الله أيديكم حتى ذهب عقل الإمام وأغمى عليه داسوه بالأقدام كفوه على وجهه طرحوه على ظهره ثم يفيق ودماؤه تسيل خلعت أكتافه وهو ثابت كالطود الأشم هنا ينتقلون إلى أسلوب المناظرة فيتقدم أحدهم يناظر ويقول أولست تحسن كتاب الله يا أحمد إن الله يقول (ألم نجعل الأرض مهادا) أي خلقناها مهادا ويقول (إنا جعلناه قرآنا عربيا) أي خلقناه قرآنا عربيا فقال الإمام أحمد في هدوء المؤمن والله تعالى يقول (فجعلهم كعصف مأكول) أهي بمعنى خلقهم كعصف مأكول فألجم وسكت وتقدم آخر فقال الله يقول (الله خالق كل شيء) أو ليس القرآن شيئا فقال الإمام والله يقول (تدمر كل شيء بأمر ربها) فهل دمرت كل شيء أم دمرت ما أراد ربها فبهت وسكت ولا غرو من ذا يساوي بين تغريد البلابل والنعيق.
يقول أحدهم مغضبا وأنت لا تقول إلا كتاب سنة كتاب سنة فكان حال الإمام ينطق (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم)
لسنا وإن عزبت أحلامنا وخوت *** منا الرؤوس بقول الزور ننبهر
وثبت الإمام أحمد عليه رحمة الله ونصر الله به السنة وكان بحق إمام هذه الأمة في علمه وثباته وتواضعه يقول أحدهم جزاك الله خيرا عن الإسلام يا إمام فيقول بل جزى الله الإسلام عني خيرا من أنا وما أنا رحمه الله من قدوة ماثلة إلى الآن.
قاد الهوى الفجار فأبقى دونه *** وأبت عليه مقادة الأبرار
وبالعهد نفسه يراد[ أبو يعقوب البويطي ]على القول بخلق القرآن فيمتنع فيحبس في بغداد حتى مات في الحبس يقول قبل موته والذي لا إله إلا هو لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم (أحسب الناس أن يتركوا)
ومن لاذ بالله في دربه كفاه المهيمن من كل شر
سيد رحمه الله يحكم عليه بالإعدام وتأتي أخته فتقول اعتذر لعله يخفف عنك قال أأعتذر عن العمل مع الله والله لو كان التعامل مع غير الله لاعتذرت ولكنه مع الله حاله
إن بقي شيء في الأجل فلن يقدم وإن لم يبق شيء فلن يؤخر
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما أكتب
أخي سالك طريق اليمن رب نفسك ويزمجر بحرك: الله غايتنا وهل من غاية أسمى وأغلى من رضى الرحمن أعدها للبيع على الله عز وجل فإنه يوشك من أهمل نفسه أن ينهزم قلبه وتخونه نفسه عند أول اختبار وبادرة هزة فيتراءى لك أنه حي يرزق ولكنه في الحقيقة ميت.
غمد محلا بلا سيف وجدول غير ثابت
إن طريق العقيدة الصحيحة والدعوة إليها طريق الأنبياء شاب تتقاصر دونه الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة وتجزع دونه الأرواح الهزيلة والقلوب الخاوية(116/13)
طريق الحق محفوف بشوك *** ومحتاج إلى طول المراس
إن العقيدة والله لا تحتاجنا بيد أنا نحتاجها لنتزوق طعم الحياة بها فاسلك طريق الإيمان وتدبر القرآن وتعرف في الرخاء على الرحمن واستيقن أن الرزق مقسوم والأجل محدود وقف على أخبار من ثبت تطمئن وتسكن فإذا حصل اطمئنانك إلى أن ما تفعله حق وأنه لله واستعنت بالله فليكن حداؤك ودعاؤك يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ثم اسلك طريق اليمن قاصدا البحر ولا تلتفت لطريق الشام وخل القنوات.
فتى الإسلام بل يا قاصد البحر التميز التميز إذ هو في حياتك عمدة وضرورة خاصة في عصور طغيان الحياة المادية على الحياة تميز في المسلم يتمثل في تمسكه وقبضه على دينه لقاء عقيدة وعبادة وسلوك بمعنى أن لا يتميع في دينه وينصهر مع المتفلتين منه تحت وطأة الفساد وضغط الواقع ومسايرة المجتمع كما يقال نعم إنه لا يعرف بإصراره على دينه والغيرة على محارم الله أن تنتهك وأي دين وأي خير وأي تميز لمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضيع ودينه يترك وسنة رسوله يرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس ما بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ومشاربهم فلا مبالاة بما يجري على الدين لقد بلوا بأعظم بلية ألا وهي موت القلب وهم لا يشعرون عافانا الله وإياكم تميز المسلم بصحة معتقده عند مسائل الاتصال بالتزام السنة عند نشوء البدعة بصدق الإيمان عند نشوب النفاق بعبادته للناس يلهون بأخلاقه إذا أهدرت القيم بالصدق في المعاملة إذا فشى الغش بصمته إذا كثر الخلط بمحاسبته نفسه إذا أهملها الغير بدعوته بجهاده إذا أقبلت الدنيا على أهلها فغيره غاب في لجتها بالإنصاف حتى مع الشنآن لا يخجل من انتمائه لدينه لا يخجل من نهاره لشريعته لا يخجل من أن يتحدث بروايته رواية القرآن ولا يخجل من لباسه الذي يخالف به الكفار التميز ضرورة للسائرين على الدرب ليقدم منهجه للعالمين عمليا قوليا.
يذكر [أبو الحسن الندوي] حفظه الله ورحمه أنه وقع نزاع بين الهندوك والمسلمين على أرض يقول الهندوك أنها معبد لهم ويقول المسلمون أنها لهم مسجد وتحاكموا إلى الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت سمع حجة الفريقين وتحاجوا ولم يطمئن إلى نتيجة معينة في محاكمته فسأل الهندوك هل يوجد في القرية مسلم تثقون في صدقه وأمانته لأحكم على رأيه قالوا نعم فلان وسموا شيخا من صالح المسلمين وعلمائهم تميز حتى بين الكافرين فأرسل الحاكم في طلبه إلى المحكمة فقال قال قد حلفت ألا أرى وجه إفرنجي ما حييت فأخبروا الحاكم بمقالة العالم فقال لا بأس يحضر ويدلي برأيه في القضية ولا يلزم أن يراني فحضر الشيخ متميزا قد ولى دبره إلى الحاكم وقال الحق في هذه القضية مع الهندوك والأرض أرضهم ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا فقضى الحاكم بذلك وخسر المسلمون القضية ولا ربما غضب بعضهم ولكنهم كسبوا قلوب أولئك فأسلم منهم جمعا أرأيت كيف يكون التميز إن العلم عارية ووديعة من الله لا تباع كسلعة في السوق لا يتعاون به على إثم آثم أو عدوان معتد أو ظلم ظالم فيا طلاب العلم ميزوا الأنفس عن رفق الهوى وإلى الإسلام سيروا تبعا ومن كمال التميز يا قاصد البحر أن تضع في حسابك أمورا وأنت تخالط الناس وتشاهدهم وتأكل وتشرب معهم وتزول وتزار أن تحرص على أن تظهر بمظهر الدقة والنظام والحفاظ على حقوق الآخرين أنت قدوة ينظر إليه أكثر من الاغتيال أيام الحر لا تكثر من التمخط بصوت عال لا تظهر التجشأ كما يفعل البعض لا تأكل ثوما ولا تصنع لغيرك طعاما فيه ثوم فإن ذلك من التميز ولا تتكلف كثيرا لضيفك لئلا تحرجه وإن كنت ضيفا على أحد فكل أكلك المعتاد لأن صاحب المائدة الكريم يحب أن يأكل الضيف في الزيارة لا تزر وقت قيلولة أو راحة أو منتصف ليل واستأذن قبلها بالهاتف إن أمكن واطرق الباب برفق ثلاثا وإلا فارجع هو أزكى لك وقف إلى جانب الباب لا أمامه إذ ربما تفتح امرأة ثم لا تطل وقت الزيارة فالوقت أنفاس لا تعد لا تصافح أخاك بيد مرتخية ولا بأخرى حديدية وكن وسطا لا تنادي أخاك بمزمار السيارة كما يفعل الطائشون في الهاتف لا تطل الكلام ولا ترفع صوتك واترك اسمك لمن تكلمه مباشرة إن خدمك خادم أو عمل لك عامل فأجزل له الأجرة ولا تماطله في الكلام لا تسابق وأنصت حتى يبرأ مخاطبك في التعزية لا تبادر إلى تعزية مسافر فلعله لا يعلم ما حدث واحذر ثم احذر مما يوجب الخجل وإياك وما يعتذر منه ويسلب المروءة فإن [الشافعي] قد طبق هذا المعنى فقال والله لو علمت أن الماء البارد يسلب مروءتي ما شربته إلا حارا تميز عام حتى في اللعب حتى في الرائحة في كل الأمور فإن العرض يعرض والقول يعرف بلحنه والصبح لا يتمارى بإشعاره ولا يتسع إلى دليل على إشراق أنواره وما كل من قال القريض بشاعر وما كل من عاشر الهوى بمتيم فاقصد البحر وخل القنوات.(116/14)
يا فتى الإسلام اقصد البحر معتدلا متزنا في حكمك وبغضك وولائك وعدواتك واحمل معك ميزان السنة الذي ذكره شيخ الإسلام [ابن تيميه] رحمه الله يوم يقول في فتاواه إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وبر وسفور وطاعة ومعصية وسيئة وبدعة استحقت من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ومن العداوة والعقاب بقدر ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص موجبات الإكرام والإهانة ثم اتبع ذلك بقول [الخطيب البغدادي] فليس من شريد ولا عالم غير الأنبياء إلا وفيه عيب ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه فمتى كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله ولذا نقل [ابن القيم] رحمه الله عن شيخ الإسلام قوله انظر [لموسى] صلوات الله وسلامه عليه رمى الألواح التي فيها كلام الله فكسرها وجر بلحية نبي مثله وهو [هارون] عليه السلام ولطم أعين ملك الموت ففقأها وربه تعالى يحتمل له كل ذلك ويحبه ويكرمه لأنه قام لله تعالى تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدي عدو له فرعون وصدع بأمر الله وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة وأمتان كهذه الأمم معالجتها شديدة أليمة يعبدون بقرة ثم يتوقفون في ذبح بقرة ثم يعبرون البحر فيقولون اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فكانت هذه الأمور كلها كالشعرات في البحر لا غرو إذا بلغ الماء كل شيء لم يحمل الخبث ومن قل خطؤه وكثر صوابه فهو على خير والعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية فيا قاصد البحر لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا فإن من الناس من إذا أحب كلف كما يكلف الصبي فلا يستغني عن محبوبه طرفة عين وإذا أبغض أحب لصاحبه التلف إن الذي لا عيب فيه غير الأنبياء لم يخلق بعد والكمال لصاحب الكمال وتعني بالمرء جبنا أن تعد معايبه فاربأ بنفسك وأنا أربأ بك أن تكون ممن تستفذه كلمة لم سمعها قاموس التآخري ويجرد أصحابه من كل فضل كأن لم تكن بينه وبينهم مودة
ولقد رأيتم معاشر الجمحة بله تلك الطبيعة نحو كل سياري
تهوى نفوسهم أذى إخوانهم شغلا بكل دناءة وصغار
تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى منه الهوان بأهله محذار
صحح الأخطاء واعدل ولا تمس المشاعر وامدح على قليل الصواب يقطر من الممدوح الصواب.
عرف نفسك قدرها وانهج بها نهج بكر بن عبد الله يوم يقول إن رأيت من هو أكبر مني سنا قلت سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني وإن رأيت من هو أصغر مني فأقول سبقته إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني وإن أكرمني اخوتي قلت تفضلوا علي فجزاهم ربي خيرا إن أهانني اخوتي قلت ذاك لذنب أصبته وعهد بيني وبين الله ضيعته ورحم الله امرئ عرف قدر نفسه فاقصد البحر وخل القنوات.
فتى الإسلام: خذهم بالرُقى؛ إن المَهَارى يهيِّجها على السير الحُداء. لين القول أدعى للقبول، بالتي هي أحسن، بالموعظة الحسنة، وقولوا للناس حُسنًا (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ) "فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه"، "وإن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"،" ومن يُحرم الرفق يحرم الخير كله"، لا مُداهنة ولا نفاق، بل نصح في أسلوب دمث مؤثر، يفتح القلوب، ويشرح الصدور. في الحديث الصحيح" أن النبي –صلى الله عليه وسلم لما أراد المسير إلى <حنين> بعث إلى [صفوان بن أمية] –وهو كافر- ليطلب منه أن يعيره مائة درع، وما يُصلحها من عدتها وعتادها، فقال صفوان: أغصبًا يا محمد، فقال –صلى الله عليه وسلم- لا، بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، فأعار النبي –صلى الله عليه وسلم- الدروع، وأمره النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يحملها إلى <حنين> فحملها، ولما عاد النبي –صلى الله عليه وسلم- غانمًا من حنين، وقد تلفت بعض الدروع في الحرب، قال لصفوان: إن شئت غرمتها لك يا صفوان، فقال صفوان: لا وجعل ينظر إلى شعب ملئ بنعم وشاة ورعاء ويديم النظر إلى ذلك النعم، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- يرمقه، ثم قال –صلى الله عليه وسلم- أبا وهب: أيعجبك هذا؟ قال: نعم، قال: فهو لك، فقال صفوان: مه، والله ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا لله، وأنك رسول الله، ودخل في دين الله" خذهم بالرفق؛ إن المهارى يهيِّجهم على السير الحُداء.(116/15)
وثبت من مستدرك [الحاكم] أن [زيد بن ثُعنة]؛ أحد أحبار اليهود اشترى تمرًا معلومًا من النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى أجل معلوم، وقبل الموعد بأيام جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- وقد فرغ من صلاة الجنازة على أحد المسلمين، ودنا إلى جدار ليجلس متعبًا –صلى الله عليه وسلم- فيتقدم زيد فيأخذ بمجامع قميصه وردائه، وينظر إليه بوجه غليظ متجهم، ويقول: يا محمد ألا تقضني حقي؟ والله إنكم لمطل يا بني عبد المطلب، عند ذلك نظر إليه عمر وعيناه تدوران في وجهه من الغضب، ثم قال: يا عدو الله؛ أتقول لرسول الله ما أسمع، وتصنع ما أري؟ والذي بعثه بالحق، لولا ما أُحاذر من لومه لضربت بسيفي هذا رأسك، فيرتعد ويخاف ويضطرب إذ الكلام من عمر، وما أدراك ما عمر؟! وينظر إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فينظر إلى عمر –صلى الله عليه وسلم- ويبتسم في سكون وتؤده، ثم يقول: يا عمر؛ أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك؛ أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب، اذهب يا عمر فأعطه حقه، وزده عشرين صاعًا جزاء ما روعته. انطلق عمر وأعطى الرجل حقه، وزاده عشرين صاعًا، فقال زيد: ما هذه الزيادة يا عمر؟ قال: أمرني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن أزيدك جزاء ما روعتك، فتلألأ وجه زيد بالبشر، قال: ألا تعرفني يا عمر، قال: لا، قال: أنا زيد؛ حبر اليهود، لم يكن من علامات النبوة شيء إلا عرفته في وجه رسول الله إلا علامتين؛ أنه يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، وقد عرفتهما الآن، فأشهدك يا عمر أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًا، وأشهدك يا عمر فوق ذلك أن شطر مالي صدقه على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- بالله شدة وعنف تقابل من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بحلم عظيم تجعل ذلك ينضم لهذا الدين، ويبذل له نصف ماله في أول لحظات إسلامه! (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)
فيا قاصد البحر ويا أيها الداعي إلى الله: تذكر أن الكلمة القاسية الجافة، لها كلمة طيبة مرادفة تؤدي نفس المعنى بلا أذى، وفي المثل: إنَّ نقطة العسل تصيد من الذباب ما لا يصيده برميل علقم فبالعوراء لا تنطق، ولكن بما يرضى الإله من الكلام. يمر أحد الصالحين بقرية يدعوهم فيها إلى الهدى، فيسبونه ويشتمونه، فيدعو لهم بالصلاح والهداية، فقال أصحابه: تدعو لهم وهم يريدون بك شرًا، وترد عليهم خيرًا! قال في سُمُو خلق، ورقة نفس، وسعة صدر: كلٌ ينفق مما عنده.
إن كريم الأصلَ كالغصنِ كُلما *** ازداد من خيرٍ تواضعَ وانحنى
فخذهم بالرقى؛ إن المهارى يهيجها على السير الحداء. فاقصد البحر برفق وخل القنوات.
أخيرا يا من قصد البحر بسبب وصحبة إخلاص وصدق وصواب وهمة مقرونة بها يعقبه عمل وقد نقد الثمن بثبات وتميز واتزان اعلم أنك مسئول (فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) فليتق الله قاصد البحر في كل كلمة يقولها وكل حركة أو سكون فإن الله سائله. ذكر عن بعض العلماء رحمهم الله أنه ولي القضاء فحكم على رجل تاجر سفيه طائش فقال له والله ما أردت بحكمك هذا وجه الله ولقد ظلمتني فقال العالم أو تقول ذاك قال نعم وأقسم عليه قال العالم -واسمعوا لما قال- قال والذي لا إله إلا هو ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاما إلا وأعددت لها جوابا بين يدي الله عز وجل! فيا قاصد البحر" لن تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به" فماذا عسى يكون الجواب أعد للسؤال جوابا وللجواب صوابا واقصد البحر بإعداد وخل القنوات أخي قاصد البحر ولعل الكل قاصد بقي أمور لابد لي من سردها نظرا للضيق أعط كل ذي حق حقه وقدم فاضل الأعمال على مفضولها واعرف خير الخيرين لتتبع وشر الشرين فادفع وسع الدليل تدور ولا تغتر بالكثرة والبر البر تفلح والقصد واعلم أن الكلام في الموضوع يطول وما قلته سوى وميض حداء على الطريق اكتفيت فيه من القلادة بما أحاط من عنقي عجزا في يق وقت فما وجدت من صواب وحق فاقبله ولا تزد في نقائبه وما وجدت من خطأ في علم لم آل لترك الصواب ويأبى الله إلا أن يتفرد بالكمال والنقص في أصل الطبيعة كائن وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوما جهولا
لكن إن تجد عيبا فسد الخللا *** جل من لا عيب فيه وعلا
واقصد البحر وخل القنوات(116/16)
أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا وعملا، اللهم كن لنا، وامكر لنا، وانصرنا وأعنا، واهدنا واهد بنا، ويسِّر الهدى لنا. اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين، اللهم اجبر كسرهم، وتولَّ أمرهم، اللهم أزل عنهم العناء، واكشف عنهم الضر والبلاء، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وكلمة أخيرة رسالة جاءتني من مدير مؤسسة الحرمين يدعوكم فيها لأن تتبرعوا لإخوانكم وأنا أشد على يده إخوانكم أحوج ما يكونون إليكم والمؤمنون جسد واحد إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وصلى اللهم على نبينا محمد ومعذرة للإطالة.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(116/17)
أكثر من 90 مسألة في الزكاة )
الحمد لله الذي أنعم علينا بالمال وجعله من مقومات الحياة , الحمد لله الذي جعل في المال حقا للفقير والمسكين وسائر المحتاجين , فمن أنفق ماله كتب له الثواب الجزيل ، ومن منع ماله أصابه العذاب الشديد يوم الوعيد 0
أيها الأحبة:
إن من أركان الإسلام ومن أسسه العظام " أداء الزكاة " ذلك العمل الجليل الذي قُرن بالصلاة في كتاب ربنا في أكثر من (24) موضعا 0
وأخبر الله أن رحمته كُتبت للذين يؤتون الزكاة (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة )0الأعراف(156)
وجعل إسلام الكافر لا تتحقق له الأخوة الدينية إلا بعد إيتاءه للزكاة ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين )التوبة ( 11 )0
وأخبر أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يوصون بها , فهذا عيسى عليه السلام يقول ( وأوصاني بالصلاة والزكاة ) مريم ( 31 )0 وأثنى على نبيه إسماعيل بأنه ( وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ) 0 مريم ( 55 ).
وجعل الزكاة من أسباب فلاح المؤمن ( قد أفلح المؤمنون .... والذين هم للزكاة فاعلون ) المؤمنون( 4 )0 وقال تعالى ( قد افلح من تزكى )الأعلى( 14 ) 0
وأثنى على طائفة من عباده بقوله ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) النور ( 37 )0
وأمر نساء نبيه بذلك ( وأقمن الصلاة وآتين الزكاة )0الأحزاب ( 33 )
حكم الزكاة
إن الزكاة فريضة عظيمة من فرائض الإسلام ووجوبها قد أجمع عليه علماء الإسلام , وقد قل في هذا الزمان من يحرص على أدائها حتى إن بعضاً من الناس يظن أنها من باب المستحبات من شاء فعلها ومن شاء تركها ، ولا شك أن هذا جهل عظيم ، وهناك طائفة أخرى من الناس يجهلون أحكام الزكاة ولا يعرفون متى يؤدونها؟ وكيف ؟ ومن يعطونها؟ وهذا أيضا تفريط عظيم بركن عظيم .
مسألة : أين ومتى فرضت الزكاة ؟
الصحيح أن فرضها كان في مكة , أما تفصيل الأنصبة وبيانها فقد كان في المدينة وقد فرضت في السنة الثانية, انظر الشرح الممتع لابن عثيمين (6/15)
وعيد تاركي الزكاة
أقول لأولئك الذين لا يخرجون الزكاة : اتقوا الله تعالى واحذروا من الوعيد الشديد قال تعالى : ( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليه في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) التوبة (35).وتأملوا ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم : من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه , ثم يأخذ بهلزمتية _ يعني شدقيه, ثم يقول أنا مالك أنا كنزك. رواه البخاري ( 1315) قال ابن حجر: وفائدة قوله ( أنا مالك ) الحسرة والزيادة في التعذيب , حيث لا ينفعه الندم , وفيه نوع من التهكم .
وإلى الذين يمنعون زكاة الأنعام : تأملوا هذا الحديث , قال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ما من رجل تكون له إبل أوبقر أو غنم لايؤدي حقها ( زكاتها ) إلا أتي بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها , كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس . رواه البخاري (1367) ومسلم (1652) فتخيل نفسك يا مانع الزكاة في أرض المحشر وقد جيئ بالإبل والبقر والغنم تطأؤك أمام الناس وقبل ذلك أمام رب الناس إنه منظر مخيف , فأخرج زكاتك الآن قبل أن تكون عبرة للآخرين .
حكم تارك الزكاة
اعلم رحمك الله : أن من ترك الزكاة جاحدا لوجوبها يبين له حكمها , فإن أصر كفر ولا يصلى عليه, أما إن تركها بخلا بها فهو عاص وفاسق بذلك ولكن لا يكفر والدليل على أنه لا يكفر حديث أبي هريرة في ذكر عقوبة تارك الزكاة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار ) والحديث رواه مسلم ( 987) فلو كان كافرا لما قال فيرى سبيله إلى الجنة , لأن الكافر لا سبيل له إلى الجنة.انظر فتاوى اللجنة(6147). ولكن تؤخذ منه بالقوة ويعزر على ترك إعطاءها . انظر السلسبيل(1/307).
ولو تأملت حال أبي بكر وإرادته لقتال مانعي الزكاة لعرفت عظيم مكانة الزكاة وتحريم التهاون فيها . انظر البخاري (1312) ومسلم (39).
من أسرار الزكاة
اعلم رعاك الله أن في تشريع الزكاة حِكما عظيمة ، وأسرار عجيبة من عرفها تبينت له الحكمة الإلهية في أمره ونهيه ، وأن الله حكيم عليم0
فتأمل أخي الحبيب بعض الفوائد الإيمانية والاجتماعية التي تُجنى من أداء الزكاة :
الزكاة دليل على صحة إيمان المزكي وعلامة على تصديقه بأحكام الله ,قال صلى الله عليه وسلم"والصدقة برهان " رواه مسلم ( 223 ) وفي رواية للنسائي : والزكاة برهان (2394) أي دليل على صحة إيمان العبد0
والزكاة تُزكي صاحبها من دنس الأخلاق كالبخل والشح.
وهي سبب لرفعة الدرجات ومحو السيئات ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) التوبة(103)0(117/1)
وهي سبب عظيم في قضاء الحوائج وتفريج الكربات " ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" رواه مسلم (2699 ).
أنها سبب للحصول على طعم الأيمان , قال صلى الله عليه وسلم ( ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الأيمان : من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا هو, وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه وافدة عليه كل عام ) رواه أبو داود(1349).
وهي أيضا تسد حاجة الفقراء والمساكين وتحفظهم من ذُلَّ السؤال وهذا من الإحسان ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )0البقرة (195)
ومن فوائد الزكاة : نشر المودة والألفة والمحبة بين المجتمع ، فعندما يشعر الفقير والمسكين بأن الغني يُعطيه شيء من المال ويواسيه في فقره وحاجته فعند ذلك يطمئن قلب ذلك المسكين ويشعر بسعادة لا يعلمها إلا الله ، والغني عندما يُعطي المسكين يشعر بحلاوة الصدقة ولذة الإحسان إلى المساكين ،وقد ذكر ابن القيم في زاد المعاد (2/25) أن الكرم والجود من أسباب انشراح الصدر.
أنها من أسباب دخول الجنة , فقد جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم , وقال: دلني على عملا أعمله يدنيني من الجنة ويباعدني من النار , فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة, وتصل ذا رحمك , فلما أدبر الرجل , قال الرسول : إن تمسك بما أمر دخل الجنة. رواه مسلم (15) ومما يدل على ذلك أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الجنة ( لمن أطاب الكلام وأفشى السلام , وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام ) صحيح الجامع(2123)
أنها تمنع الجرائم والسرقات , لأن الفقراء إذا لم يجدوا ما يأتيهم ويسد حاجتهم , فسوف يتجهون إلى أي طريق لكي يسدوا حاجتهم.
أنها تمنع من حر النار يوم القيامة كما في الحديث ( كل امرء في ظل صدقته يوم القيامة) صحيح الجامع(4510)
أنها تزكي المال وتنميه , وتكون سببا في البركة في المال كما في الحديث ( ما نقصت صدقة من مال ) رواه مسلم (2588)
أنها سبب لنزول الخيرات كما في الحديث (ما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء) صحيح الجامع ( 3240 )
( أن الصدقة تطفي غضب الرب وتدفع ميتة السوء ) كما ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم , ( صحيح الجامع ( 3760 ).
الصدقات المستحبة
ينبغي على المسلم أن يكثر من الصدقات المستحبة وذلك لأن فيها تكميل لما ينقص من القيام بالزكاة المفروضة , قال صلى الله عليه وسلم : أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة الصلاة , فإن كان أكملها , كتبت كاملة , وإن لم يكن أكملها قال الله للملائكة : انظروا هل لعبدي من تطوع فأكملوا بها ما ضيع من فريضة , ثم الزكاة , ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك ) رواه أحمد
( 16342) وابو داود (733).
إليك أخي المسلم بعضا من أحكام الزكاة
.... يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم أحكام الزكاة ....
الزكاة عبادة فيجب على المزكي أن ينوي الزكاة عند دفعها .لحديث ( إنما الأعمال بالنيات ) رواه البخاري (1) ومسلم (1970).
· تجب الزكاة في 1- الأموال ، 2- والماشية من الأنعام ، 3- والذهب والفضة ،4- والخارج من الأرض كالحبوب 0
· شروط وجوب الزكاة : 1- الإسلام ,2- واستقرار الملكية أي يكون مالكا لما تجب فيه الزكاة ,3- وبلوغ النصاب فلا تجب الزكاة فيما دون النصاب, 4- ومرور الحول. _ (الملخص الفقهي 1/223)
· إذا مرت سنة وكان ما تجب فيه الزكاة قد بلغ نصابه ، وجب إخراج زكاته لحديث ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول )رواه ابن ماجه , قال الألباني في الإرواء (3/254): صحيح0
زكاة الأنعام
· من كان عنده غنم أو إبل أو بقر وكانت ترعى من الأرض ففيها الزكاة أما إن كانت لا ترعى بل موضوعة في مكان وصاحبها هو الذي يأتي لها بالطعام فلا زكاة فيها. قاله ابن تيمية (25/48,35) , إلا إذا أعدت للتجارة0وإذا كانت مُتخذة للبيع والشراء فيقومها أي يحسب ثمنها وقت إخراج الزكاة ثم يخرج ربع العشر ---- فتاوى اللجنة(4862) وهناك تفصيل واسع في مقدار زكاة هذه الأنعام , من أراده فليراجع ( الملخص الفقهي 1/225) أو غيره من كتب الفقه, والمال يُخرج زكاته مالا ، والبر والأرز ونحوهما يُخرج من جنسه 0 وكذلك زكاة بهيمة الأنعام من جنسها 0 لا يُعدل عن ذلك بالقيمة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حددها بذلك , إلا إذا كان هناك مصلحة أو حاجة , كما إذا وجبت عليه زكاة الإبل وليس عنده شاة فيجوز له أن يخرج قيمتها.--- مجموع الفتاوى (25/82,79,46) فتاوى اللجنة(12563).
· الخيل لا زكاة فيها إلا إذا أعدت للتجارة. قاله ابن القيم وهكذا الحكم في سائر الدواب مما سوى بهيمة الأنعام . (انظر زاد المعاد( 1/149) وانظر تهذيب السنن (2/192) وانظر فتاوى اللجنة (7276).
زكاة الحبوب والثمار(117/2)
· تجب الزكاة في الحبوب والثمار إذا كانت تبلغ النصاب, والنصاب في الحبوب(5 أوسق ) والوسق (60) صاعاً، أي ( 300) صاع نبوي,فيجب العشر فيما سقي بغير مؤنة كالغيث والسيول , وإن كان يسقى بكلفة ففيه نصف العشر فإن كان يسقى نصف السنة بهذا ونصفها بهذا ففيه ثلاثة أرباع العشر وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر الأكثر (فتاوى اللجنة2262) أما الخضروات فلا زكاة فيها ( فقه العبادات ص 196).
· إذا كان عنده أنواع متعددة ينتظمها جنس واحد ولم يبلغ كل نوع منها نصابا فإنه يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب , فيضم القمح للشعير , والمعز إلى الشياه , وهكذا( انظر ابن تيمية الفتاوى 25/24,15,13).
· النخيل الذي في بيوت الناس إذا كان ما فيه من الثمار يبلغ النصاب ففيه الزكاة و إلا فلا . وكثير من الناس يغفلون عن هذا . ( الفتاوى لابن عثيمين ص59).
· العسل المنتج بواسطة النحل لا زكاة فيه وإنما تجب في قيمته إذا أعده للبيع وحال عليه الحول وبلغت قيمته النصاب وفيه ربع العشر.انظر فتاوى اللجنة(4195).
زكاة الذهب والفضة
· والذهب والفضة تجب فيهما الزكاة إذا بلغ النصاب ومرَّت عليه سنة ، ونصاب الذهب (85) جرام 0 والفضة ( 595) جرام 0 والواجب هو ربع العشر فمن كان عند زوجته ذهب وزنه (90) جرام ومرَّت عليه سنة فليخرج ربع العشر , وتحديد المقدار بربع العشر ثابت بالإجماع . نقله البليهي في السلسبيل (1/293).( فقه العبادات لابن عثيمين ص 193).
· وجميع الذهب الذي عند النساء سواء ً كان للاستعمال أو لغيره ، ففيه الزكاة على الصحيح — فتاوى اللجنة(1797)
وتكون القيمة المعتبرة للذهب قيمته بعد مرور الحول لا قيمته عند الشراء.فتاوى اللجنة(3020).
· والزكاة على مالكة الحلي وإذا أداها زوجها أو غيره عنها بإذنها فلا بأس.قاله ابن باز(كتاب الدعوة 1/101).
· وإخراج زكاة الذهب يجوز إخراجها بالنقد, ولا يجب إخراجها من الذهب لأن مصلحة الزكاة في إخراجها من القيمة0 قاله ابن عثيمين( الفتاوى1/450).
· إذا كان عند امرأة حلي لا يبلغ النصاب وعندها بنات كل بنت حليها لا يبلغ النصاب , فإن حلي البنات ليس فيه زكاة لأن حلي كل بنت ملك لها وهو لا يبلغ النصاب أي لا نجمع حلي البنات بعضه إلى بعض.قاله ابن عثيمين ( الفتاوى 1/452).
هل يضم الذهب للفضة؟ قال ابن عثيمين : لا , لأن الذهب والفضة جنسان مختلفان . ( فقه
العبادات ص 194)
· لو استعمل الذهب في استعمال محرم كالأواني والقلم وغير ذلك فتجب الزكاة إذا كانت تبلغ النصاب بنفسها أو بذهب آخر لدى مالكها, ويأثم لاستعماله.قاله ابن باز(كتاب الدعوة 1/101) السلسبيل(1/297).
· والحلي من غير الذهب والفضة الذي تستعمله المرأة لا زكاة فيه بلا خلاف. ــ كالألماس ونحوه - انظر فتاوى الفوزان (3/107) و( الفتاوى لابن عثيمين ص97).
· ما يلبسه الرجال من الفضة المباح لبسه كالخاتم وحلية السيف فلا زكاة فيه , وأما ما يحرم اتخاذه كالأواني ففيه الزكاة ,وأما حلية الفرس كالسرج واللجام فهذا فيه الزكاة عند جمهور العلماء . قاله ابن تيمية الفتاوى (25/17).
· إذا باعت المرأة ذهبها بذهب جديد فهل انقطع الحول بذلك أي هل تبدأ حول جديد ؟ لا , بل تكمل ما تبقى من الحول لأنها استبدلت الذهب بذهب من جنسه . ( الفتاوى لابن عثيمين ص 45).
زكاة المال المدخر
· إذا كان عند الشخص مال يبلغ النصاب ومر عليه حول وجبت عليه الزكاة , سواء كان ذلك المال قد جمعه للزواج أو لبناء بيت أو غير ذلك.قاله ابن باز ( كتاب الدعوة1/103).
· أجمع العلماء على أنه يجوز للرجل التصرف في ماله قبل حلول الحول بالبيع أو الهبة إذا لم ينو الفرار من الزكاة. ( الجامع لأحكام القرآن للقرطبي) ( 1/302).وعلى هذا فليحذر المرء من التصرف في المال قبل تمام الحول لكي يفر من الزكاة , لأن الله عليم بما في القلوب , ولاشك أن هذا من خطوات الشيطان , الذي يريد إيقاع العبد في الآثام والمخالفات.
· المبلغ الذي يعطى للموظف عند نهاية الخدمة ليس فيه زكاة إلا إذا حال عليه الحول من تاريخ تسليمه. فتاوى اللجنة (7472).
· زكاة الرواتب قال الشيخ ابن عثيمين: أحسن شيء في هذا أنه إذا تم حول أول راتب استلمه فإنه يؤدي زكاة ما عنده فما تم حوله فقد أخرجت زكاته , وما لم يتم حوله فقد عجلت زكاته وتعجيل الزكاة لاشيء فيه , وهذا أسهل عليه من كونه يراعي كل شهر على حدة لكن إن كان ينفق راتب كل شهر قبل أن يأتي راتب الشهر الثاني فلا زكاة عليه لأن من شروط وجوب الزكاة في المال أن يتم عليه الحول. ( الفتاوى ص22).
· زكاة الأسهم , ينظر في قيمة السهم في نهاية كل حول ويخرج زكاته . (انظر الفتاوى لابن عثيمين ص 197).
زكاة عروض التجارة(117/3)
· تجب الزكاة في عروض التجارة وهي السلع المُعدَّة للبيع والربح والكسب سواءً عقاراً، أو سيارات ، أو حيوانات ، أو مواد غذائية أو أقمشة أو غير ذلك,ونقل الإجماع على ذلك ابن المنذر , والأصل في ذلك قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم )البقرة(267) يعني بالتجارة قاله مجاهد , وقال البيضاوي: أنفقوا من طيبات ما كسبتم أي الزكاة المفروضة. وقال تعالى (والذين في أموالهم حق معلوم ) المعارج (24) والتجارة داخلة في عموم الأموال وتجب الزكاة فيها إذا حال الحول والواجب ربع العشر , فينبغي لأصحاب التجارة أن يحددوا لهم موعدا لإخراج الزكاة كرمضان مثلا ، ويقومون بضائعهم بما تساوي في ذلك الوقت سواءً كان أكثر أو أقل من سعر شرائها ، ثم يخرجون ربع العشر---- الفتاوى لابن تيمية ( 25/15) فتاوى اللجنة(2262)0
· ما يؤجره الشخص من شقق أو منزل أو غير ذلك ، فليس فيها زكاة ، لأنها بالأجرة وليست للبيع ، ولكن لو جمع منها مالا ومر عليه سنة وبلغ النصاب ففيه ربع العشر .
· إذا ملك مادون النصاب , ثم ملك ما يتم به النصاب فإن الحول يبدأ من يوم امتلاكه ما يتمم النصاب. ( ابن تيمية الفتاوى 25/14).
· إذا باع الرجل أرض للتجارة قبل تمام الحول بأشهر أو أيام فنقول : إذا بقي المال معه فيجب أن يزكيه , أما لو تصرف في هذا المال كشراء أرض ونحوه فلا زكاة عليه . ( الفتاوى لابن عثيمين ص239).
زكاة الأراضي
· إذا اشترى شخص أرضا بنية التجارة ومضى عليها الحول وجبت فيها الزكاة إذا بلغت قيمتها نصابا والعبرة بقيمتها عند إخراج الزكاة لا وقت الشراء . انظر فتاوى اللجنة (890)0
· إذا اشترى أرض للسكن وبعد سنة أراد أن يعرضها للبيع فالزكاة تجب من بداية الوقت الذي غير فيه نيته وذلك بعد مرور سنة من ذلك الوقت. فتاوى ابن عثيمين (433).
زكاة الدين:
· زكاة الدين : إذا كان لك دين على أحد فإن كان غنيا يستطيع السداد فإنه يجب عليك أداء زكاة هذا الدين إذا مرت سنة ,وأنت مخير إما أن تخرج زكاة الدين مع زكاة مالك وإما أن تخرجها لوحدها , أما إذا كان مماطلا أو معسرا فلا يجب عليك زكاته لكل سنة, ولكن إذا قبضته , فمن أهل العلم من يقول يستقبل به حولا من جديد, ومنهم من يقول : يزكي لسنة واحدة , وإذا دارت السنة يزكيه وهذا أحوط .- فتاوى ابن عثيمين (ص424) الممتع(6/31)0
· إذا كان له دين على حي أو ميت فلا يجوز له أن يحتسب الدين من الزكاة.إلا إذا كان من عنده الدين معسرا وهو من أهل الزكاة.فيجوز أن يسقط عنه قدر زكاة ذلك الدين لأن الزكاة مبنية على المواساة. ( ابن تيمية _ الفتاوى 25/89,84,80)
· الميت إذا كان عليه دين ولم يترك مال , فهل يقضى دينه من الزكاة ؟ الأقرب : لا يقضى دينه من الزكاة لأنه انتقل إلى الآخرة, ويقال: إن كان الميت أخذ أموال الناس يريد أدائها فإن الله يؤديها عنه , وإن كان يريد إتلافها فهو الذي جنى على نفسه. فتاوى ابن عثيمين (ص425) .
إخراج الزكاة وتأخيرها
· الأصل إخراج الزكاة في الوقت الذي وجبت فيه, ولايجوز تأخيرها عن وقتها إلا لحاجه , فيجوز تأخيرها لمصلحة , كأن يؤخرها من أجل البحث عن المستحقين , ولكن بشرط : أن يبرزها عن ماله أو يكتب وثيقة فيها بيان أن زكاته تحل في رمضان ولكنه أخرها إلى وقت آخر لمصلحة . ( ابن عثيمين ) الممتع (6/189).
· من أخر الزكاة لعدة سنيين فهو آثم في ذلك ويجب عليه إخراج الزكاة عن كل السنيين الماضية.— فتاوى ابن عثيمين (ص 427)
· يجوز إعطاء الزكاة كلها لصنف واحد من المستحقين والدليل : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذ إلى اليمن قال : اعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " فلم يذكر إلا الفقراء فدل على أنه يجوز إعطاء الزكاة لصنف واحد من المستحقين. ( الملخص الفقهي 1/254) و فتاوى اللجنة(10/20).
· يجوز تعجيل الزكاة وذلك بدفعها قبل تمام الحول .والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم تعجل الزكاة من عمه العباس صدقة سنتين.رواه أبو داود , قال في الإرواء (3/346) : (حسن).
· وهناك أناس يؤخرون الزكاة عن وقتها وهذا من الأخطاء لأن الزكاة كسائر العبادات لها وقت محدد يجب إخراجها فيه , وبعض الناس تجب عليه في رجب مثلا , فيؤخرها إلى رمضان , وهذا محرم . ( الفتاوى لابن عثيمين ص 295).
· الأولى أن يتولى صاحب الزكاة توزيع الزكاة ليكون على يقين من وصولها إلى مستحقيها , وله أن يوكل من يخرجها عنه . (الملخص الفقهي 1/247).
· و الأصل أن يُعطى فقراء البلد من الزكاة ولا تعطى لمن هم خارج البلاد ، إلا في أحوال خاصة وهو اختيار ابن تيمية _ الفتاوى (25/85), فتاوى ابن عثيمين( ص 436).
أهل الزكاة المستحقين لها :-
لقد جاء تحديدهم في كتاب ربنا عز وجل ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل )التوبة (60).(117/4)
والفقير : هو الذي لا يجد ما يكفيه من الطعام واللباس وسائر الحاجات 0
المسكين : هو الذي يجد بعض ما يكفيه 0
العاملين عليها : هم الذين يأخذون الزكاة من الناس وهم السُعاة ولا يشترط أن يكونوا فقراء. (انظر ابن عثيمين - الممتع 6/224).
والمؤلفة قلوبهم : وهم أنواع :
1) الكافر الذي يرجى إسلامه فيعطى من الزكاة .
2) أن يرجى كف شره عن المسلمين فيعطى ليكف شره.
3) المسلم الذي يرجى بعطيته قوة إيمانه. ( انظر الشرح الممتع لابن عثيمين( 6/226)
· وفي الرقاب : هو المسلم الذي يريد عتق رقبته, ويدخل في ذلك فك الأسرى . انظر فتاوى اللجنة(10/6) .
· الغارمين : هو من استدان لأجل الإصلاح بين الناس أو لنفسه في غير معصية ، وليس عنده سداد لدينه, وهذا إذا كان الدين لأمر مضطر إليه , أما إذا كان الدين الذي عليه لأجل أرض أو سيارة لكي يمتلكها ليكون من أهل الترف , فلا يستحق أن يعطى من الزكاة فتاوى اللجنة (10/8). ولكن لابد أن يثبت صاحب الدين ما يدل على صدقه في هذا الدين حتى لا يكون هناك تساهل في دفع الزكاة لغير مستحقيها .
· وفي سبيل الله : هم المجاهدون والمرابطون في سبيل الله 0
· وابن السبيل : المسافر الذي انقطعت به الأسباب عن بلده وماله , فيعطى ما يحتاجه من الزكاة حتى يصل إلى بلده ولو كان غنيا في بلده. فتاوى اللجنة(10/7).
قال ابن تيمية: لا يعطى من الزكاة من كان قادرا على تأمين كفايته من كسبه ولكنه لا يفعل. انظر الفتاوى (28/569).
وقال أيضا : ينبغي أن يتحرى في دفع الزكاة لأهل الدين المتبعين للشريعة , فمن أظهر بدعة أو فجور , فإنه يستحق العقوبة بالهجر وغيره والاستتابة فكيف يعان على ذلك؟؟ انظر الفتاوى (25/87).
هل يعطى المبتدع من الزكاة ؟ إن كانت بدعته مكفرة , كمن يستغيث بالصالحين وأهل القبور , فلا يعطى , أما إن كانت بدعته دون ذلك فيعطى إن كان من أهل الزكاة . ( انظر الفتاوى لابن عثيمين ص 432).
إعطاء الأقارب من الزكاة
· يجوز إعطاء الأخ والأخت من الزكاة إذا كانا من المستحقين , لأنها في حقهم صدقة وصلة , قاله ابن عثيمين الفتاوى(ص446)0
· لا يجوز إعطاء الوالدين من الزكاة لأن النفقة تجب عليهم , إلا إذا كانوا غارمين, أو فقراء والابن عاجز عن نفقتهم, فيجوز له إعطائهم , قاله ابن تيمية _ الفتاوى (25/90) ويجوز أن يعطي والده لقضاء دين عليه . وانظر فتاوى ابن عثيمين (ص443) .
· وإذا كان الابن عليه دين ولا يملك مال لسداد دينه فيجوز لأبيه أن يعطيه من الزكاة, وكذلك إذا كان محتاجا للنفقة وليس لأبيه ما ينفق عليه فيجوز له أن يأخذ من زكاة أبيه. قاله ابن تيمية _ الفتاوى (25/92).
· ولا يجوز صرف الزكاة من الزوج لزوجته لأن النفقة تجب لها , ونقل ابن المنذر الإجماع على ذلك0( منار السبيل 1/185)فتاوى اللجنة(10/63).
· ويجوز للمرأة دفع الزكاة لزوجها إذا كان من أهل الزكاة ( ابن عثيمين _ الممتع 6/266).
· يجوز أعطاء الأم من الرضاعة من الزكاة إذا كانت مستحقة للزكاة ,لأنه لا تجب عليها النفقة. ( انظر الفتاوى لابن عثيمين ص 417).
أحكام متفرقة
· الميت إذا كان في ذمته الزكاة فإن الوارث لا يستحق شيء من التركة إلا بعد أداء الزكاة والدليل حديث ( اقضوا الله فالله أحق بالوفاء) رواه البخاري(2/217) والزكاة مقدمة على الوصية والإرث . ( ابن عثيمين – الممتع(6/48).
· أموال المؤسسات الخيرية التي تكون للمشاريع الدعوية لا زكاة فيها وحكمها كحكم الوقف. فتاوى اللجنة (4460).
· ما أعد للاستعمال كالبيت ، السيارة ، الملابس ، فلا زكاة فيها والدليل قوله صلى الله عليه وسلم " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " رواه البخاري ( 1464) فتاوى اللجنة (9253).
· المال المغصوب أو الضائع , قال الإمام مالك : ليس فيه زكاة حتى يقبضه , فيزكيه لعام واحد . فتاوى ابن تيمية (25/18).
· ويجوز إعطاء طالب العلم من الزكاة . فتاوى اللجنة(10/17)وانظر فتاوى ابن عثيمين (ص440).
· ويجوز إعطاء من يريد الزواج من الزكاة إذا كان لا يملك ما يغنيه 0انظر الفتاوى لابن عثيمين (ص440).
· ولا يجوز إعطاء الكافر من الزكاة ولا صدقة الفطر, لأنه ليس من أهلها ونقل بعضهم الإجماع على ذلك ( انظر منار السبيل 1/185) ، ولكن يجوز إعطاء الفقير الكافر من الصدقات المستحبة ,( انظر أحكام أهل الذمة 2/419). وفتاوى اللجنة (10/29).
· لا يجوز صرف الزكاة في بناء المساجد أو المستشفيات أو المؤسسات الخيرية . انظر فتاوى اللجنة(10/41) وفتاوى ابن عثيمين ( ص 431).
· تجب الزكاة في مال الصغير والمجنون على الصحيح (فتاوى ابن عثيمين (ص 423).
· يجوز إعطاء المستحق الزكاة عن طريق شيك . انظر فتاوى الفوزان (3118).
· الذي هوايته جمع الفلوس من مختلف العملات يجب عليه أن يؤدي زكاتها إذا بلغت النصاب . قاله ابن باز ( كتاب الدعوة 1/102).(117/5)
· بعض الناس يكون عندهم صندوق تعاوني يجمعون فيه المال بقصد إعانة من يحتاج للمال , فهذا لا زكاة فيه . قاله ابن باز( كتاب الدعوة 1/108).
· إذا مات صاحب المال قبل تمام الحول فلا زكاة عليه , فلا تخرج من تركته , أما إذا مات بعد تمام الحول فتخرج من تركته .( فتاوى الزكاة لابن عثيمين ص 17 - 46).
· إذا كان للزوجة مهر مؤخر على زوجها فيجب عليها أن تزكيه كل عام لأنه كالدين هذا إذا كان زوجها غنيا أما إن كان فقيرا فلا زكاة فيه كما سبق في مسألة زكاة الدين . ( الفتاوى لابن عثيمين ص 30)
هذا ما تيسر جمعه من المسائل المتعلقة بالزكاة , وقد حرصت على عزو كل مسألة إلى مرجعها ليطمئن القارئ إلى صحة المسألة , وقد تكون بعض المسائل التي يريدها القارئ لم يجدها هنا , فليرجع إلى كتب الفقه وليسأل أهل العلم الراسخين .
وأسأل لي ولك التوفيق والصواب في الأقوال والأعمال .
........
محبكم في الله : أبو جهاد سلطان العمري
http://www.deen.ws(117/6)
ألف باء في مواجهة الأعداء
د. علي بن عمر بادحدح
المحتويات :
• المقدمة .
• الجانب الأول: الجانب الفكري .
• الجانب الثاني: الجانب العملي .
• الجانب الثالث : الجانب العملي .
• الجانب الرابع : جانب إصلاح المجتمعات .
• الجانب الخامس : مواجهة الأعداء مباشرة .
ألف باء في مواجهة الأعداء
المقدمة :
فهذا لقاء نصل به دروس سابقة يحيط بالأمة من مخاطر عظيمة ، ومن بلايا ورزايا في ميادين شتى ومن جهات مختلفة ، وقد كانت الأحداث القريبة موضع اهتمام وتفاعل وتعلق ، ثم عندما انقضى من هذه الأحداث ما هو مباشر في العدوان رأينا أن كثيراً من الناس ربما انصرف عن مثل هذه القضية فكرهم ، ولم يعد لنفوسهم تأثر أو تعلق ، وربما مضوا إلى حياتهم كأن لم يكن شيئاً ، ومن هنا نجد أنه من الواجب ألا يكون مثل هذا هو الغالب على أحوالنا .. ردود أفعال مؤقتة وانفعالات نفسية عارضة ، وحيرة وتردد ، وهدوء ورجوع بعد كل حدث ، وبعد كل قضية ، وهذه خواطر وبعض الخطوات العملية التي لابد أن نأخذ بها ، ولعلي قبل الشروع في ذكرها أود أن أبيّن مدى وحدود هذه الخطوات التي نتحدث عنها وفائدتها ، فأقول مستعينا بالله جل وعلا:
أولا: ما أتحدث به يخصنا نحن فهو يتعلق بي وبك وبهذا وذاك ، بعيداً عن الدوائر التي لا نملك الآن أن يكون لنا التغيير الفاعل فيها ، وبعيداً عن الجهات التي عليها مسئوليتها وعليها واجباتها ، وليس من مهمتنا أن نوزع التهم ، وأن نصف التقصير هنا وهناك ، ثم لا ننظر إلى أنفسنا ، ولا نعرف تقصيرنا ، نحن ندرك أن هناك خلل وقصور عند الحكام والأمراء ، وأن هناك ضعفاً وقلةً في أداء المهمات كما ينبغي عند الدعاة والعلماء ، ولكن بدلاً من أن نقول هؤلاء قصروا ، وهؤلاء فرطوا ، ثم نقعد بدون عمل إما بإحباط ويأس ، وإما بعدم مبالاة واكتراث ، ومما لعدم استشعار للمسؤولية ومعرفة للدور ، فمن هنا لابد أن يكون هناك مصارحة ومناصحة واضحة تخصنا مباشرة ، وتتوجه إلينا بعيدا عما قد نتعلل بأننا لا نستطيعه أو لا نحسنه .
الأمر الثاني: التنبيه على أن الانتفاع بالأحداث ، والاستفادة من المصائب والمشكلات ، لا ينبغي أن يكون مؤقتاً غير دائم ، فلا ينبغي أن يكون ظاهرياً غير راجع إلى الأصول والثوابت والمرتكزات والمنطلقات .
والأمر الثالث: هو أن كثيراً من الناس ربما ينظر إلى الأمور الكبيرة ، ويرى أنه لا قبل له بها ولا يوجه إلى أمور يستطيع أن يأخذ بها وأن يعملها فلعلنا بهذا الحديث أن نسد مثل هذه الثغرة بعون الله سبحانه وتعالى .
النقطة الرابعة: ألف باء وألف باء كما تعرفون هي حروف الهجاء والمقصود أننا نريد أن نبتدئ بالأصول بالأشياء والقواعد والأركان الأساسية حتى لا يقول قائل: عندما نتحدث الآن لم نتحدث في هذا ونحن نعرفه؟ فأقول إن كنا نعرفه فهل نحن قائمون به؟ وهل نحن مداومون عليه؟ وهل نحن متواصون فيما بيننا بالحفاظ عليه؟ كثيرة هي الثغرات وأوجه القصور التي نقوم بها ونقع فيها ليس تجاه أمور من النوافل أو التطوعات أو الزيادات ، بل كثيراً ما تكون في الفرائض والأركان والواجبات ، ونشرع بعون الله - سبحانه وتعالى - مستعينين به ، سائلينه التوفيق والسداد في ذكر بعض هذه الجوانب وما ينبغي الأخذ به فيها.
الجانب الأول: الجانب الفكري
ونحن نعني بذلك جانب التصور والاعتقاد والمعرفة للحقائق والمبادئ ، وصورة ما يحيط بنا في هذه الحياة كيف نزن الأمور كيف نقوم الأشخاص كيف نتخذ المواقف كيف تتضح لنا الرؤية كيف نعرف أن نأخذ بما هو واجب ولازم ونافع ومفيد في مواجهة ما يحل بنا من الخطوب والأحدث فنقول : لابد لنا من أمور كثيرة منها :
أ- وضوح الرؤية وقوة العصمة
ونعني بذلك أن نكون على بصيرة من ديننا ، وبينّة من أمرنا ، وقوة في اعتقادنا ، ورسوخ في يقيننا .. ليس عندنا شك من أمرنا .. ليس عندنا حيرة في ثوابتنا .. ليس عندنا تذبذب في أصولنا ، ووراء ذلك كله أننا حينئذ نعرف كل ما يحيط بنا وكيف نتعامل معه ولعلنا لا نريد أن نطيل فالنقاط كثيرة حسبنا في كل واحدة إيضاحها ، وذكر بعض الشواهد والأدلة عليها ، يقول الحق - سبحانه وتعالى - في بيان شافٍ وفي آيات متواليةٍ توضح لنا هذه الحقيقة ، يقول سبحانه وتعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } ، [ يونس:104،105،106] . ثم يأتي النداء من بعد :(118/1)
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } [ يونس:108،109 ].
وهذه الآيات العظيمة فيها بيان هذه الحقيقة المهمة:
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي } [ يونس: من الآية104 ].
إن شكك الناس في ثوابتنا وعقائدنا وتصوراتنا .. إن كان عند بعضهم حيرة .. إن كان غير المسلمين يعارضونها ويخالفونها .. إن كانت الأمم والمجتمعات لا تعرفها ولا تدري ماهيتها ولا تعتقد بصحتها ..كل ذلك لا يعنينا :{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ يونس:104].
وتثبيت وزيادة توضيح:
{ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ يونس:105].
ثم زيادة في هذا التثبيت والتوضيح:
{ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ } [ يونس: من الآية106].
أي في كل الأحوال ، والاضطرابات ، والمخالفات ، والمعارضات ، ما تزال على نهجك القويم ، وتصورك الصحيح ، واعتقادك السليم ، ويقينك الجازم دون أدنى شيء من هذا التردد .
ومن هنا يأتي هذا الوضوح ليكوّن هو الفيصل الفارق بين المؤمن المعتقد اعتقاد الحق وبين غيره:
{ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [ الأنفال: من الآية42 ].
وتكون الرؤية واضحة لنا بأن العاقبة للمتقين ، وأن الدائرة على الكافرين ولو بعد حين لا يتغير ذلك ، ولا يتبدل بما تتغير به الأحوال والظروف المحيطة ، بل نوقن بهذا يقيناً جازماً :
{ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } [ الأنعام:57 ] .
فلئن أصيبت الأمة في مرحلة من الزمان بنكبات وهزائم ، فلا يعني ذلك أن هذا نهاية المطاف ، بل نوقن من خلال هذه الرؤية الواضحة ، والقوة الإيمانية الحازمة ، أنها إنما هي مراحل وابتلاءات ، وأن وراءها بعد ذلك ما يحقق الله به وعده ، وينجز لعباده نصره إذا هم أخذوا بالمهم من إتباع الأوامر واجتناب النواهي ، وتغيير الأحوال على وفق مراد الله ، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك ليست هناك جولة واحدة ، ولا ميدان واحد إذا كسرنا فيه أو هزمنا فيه فقد انتهى الأمر ، كما رأينا من أحوال بعض الناس ، وما في نفوسهم من إحباط ويأس ، أو في ما لهم من انشغال وانصراف عن مهمات الأمور وعن الانشغال بأحوال المسلمين .
ومن هنا نعبّر دائماً بهذا المعنى ، ونقول مع القائل في تعبيره عن استمرارية هذه المواجهات ، وأنها ليست في مرحلة ولا في ميدان واحد:
قطفوا الزهرة قالت **** من ورائي برعم سوف يثور
قطفوا البرعم قالت **** غيره ينبني في رحم الجذور
قلعوا الجذر من التربة قالت **** إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور
كامن ثأري بأعماق الثرى **** وغدا سوف يرى كل الورى
كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور **** تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور.
أي أنه لابد من اليقين بمواصلة المواجهة بين الحق والباطل ، وأنه لابد أن تكون النفوس مهيأة لذلك ، وعالمة به من خلال وضح رؤيتها وفق نهجها واعتقادها :
إن اغتصاب الأرض لا يخيفنا **** فالريش قد يسقط من أجنحة النسور
والعطش الطويل لا يخيفنا **** فالماء يبقى دائما بباطن الصخور
هزمتم الجيوش إلا أنكم لم تهزموا الشعوب ... قطعتم الأشجار من رؤوسها وظلت الجذور.
تظل الجذور إذا بقيت العقائد والمبادئ والتصورات ، ومن هنا لابد لنا من إحياء هذه المعاني والتواصي بها .
ثانيا: معرفة الخلل وطريق العمل
أساس فكري لابد من توضيحه .. كثيرة هي الأسئلة التي دارت بخواطر الناس ما الذي يجري بنا ؟ ولماذا حلّ بنا ما حلّ بنا ؟ وما هي الأسباب ونحن أمة الإسلام ؟ ولم حلّ ذلك ونحن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم ؟
لابد أن نوقن بمعرفة هذه الأمور من خلال وفي ضوء كواشف آيات القرآن ، وتوضيحات سنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .. { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الروم:41] .(118/2)
هذا تحليل ووصف وتعليل قرآني لابد من التسليم به ، ومعرفة أن ما جرى وما يجري إنما هو من أثر فساد الناس ، وكثرة الذنوب ، ولما وقع ما وقع في يوم أحد ، وكان ثقيلاً على النفوس ، شديداً على القلوب ، وفي الناس النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيهم الصفوة المختارة من أصحابه ، فقالوا مقالتهم كما جاء في قوله عز وجل:
{ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران: من الآية165 ] .
لو أننا أخذنا هذا المبدأ بكل قوة ووضوح ، وبكل صراحة ومواجهة لكان لنا من إصلاح أحوالنا أثر كبير ، وتغيير ظاهر ، ولذلك يكفينا على سبيل المثال أن نذكر بعض أقوال علمائنا في بيان الآثار المتولدة عن بعض الذنوب والمعاصي من بعض الأفراد ، فكيف إذا تعاظم ذلك وكثر ، وعمّ وساد وانتشر وفشا في الأمة إلا من رحم الله .
من كلام ابن القيم في آثار المعاصي والذنوب قال : قلة التوفيق ، وفساد الرأي ، وخفاء الحق وفساد القلب وخمول الذكر ، وإضاعة الحق ، ونفرة الخلق ، والوحشة بين العبد وبين ربه ، ومنع إجابة الدعاء ، وقسوة القلب ، ومحق البركة في الرزق والعمر ، وحرمان العلم ، ولباس الذلّ ، وإهانة العدو وضيق الصدر والابتلاء وطول الهم والغم بقرناء السوء وضنك المعيشة وكسف البال ، كل ذلك يقول : " وهذا تتولد عن المعصية والغفلة من ذكر الله كما يتولد الزرع من الماء " .
فإذا كان هذا في هذا الباب فكيف بنا لا نلتفت إلى ما نحن فيه من غفلة عظيمة ، ومن معاصٍ كثيرة ، والله جل وعلا قال : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد: من الآية11 ] .
لو رجعنا إلى أسلافنا لرأينا كيف كان الشعور عندهم بأثر المعاصي في دقيق الأمور وجليلها ، كما روى ابن مسعود يروى مرفوعا ويروى موقوفا: { إن العبد ليحرم العلم بالذنب يصيبه } ، كانوا يقيسون كل شيء يحصل من الخلل فيرجعونه إلى خللهم فيما نسوا من أمر الله أو فيما اجترءوا عليه من حدود الله وكان من مقالات السلف: إن أحدنا ليجد أثر الذنب في خلق زوجته ودابته، ورأينا ونعلم كثيرا من تعليلهم ، وتحليلهم لأسباب ما يحلّ بهم بأثر ذنوبهم ، وذلك أمر مهم بيّن .
الجانب الثاني: الجانب العملي
وكما أشرت في مقدمة الحديث ، نحن نتحدث في ألف باء في الأصول والأسس ؛ لأن هذه الأصول والأسس قد اعتراها الضعف ، وجرى فيها النقص ، وكثرت وعظمت فيها الغفلة ، فحن في حاجة إلى مراجعتها ، ونقول في الجانب العملي والمقصود به توجيهات وتذكير بأعمال لابد من الأخذ بها.
وأولها: كثرة الطاعات
ونحن نعلم أن استنزال النصر إنما يكون بحسن الصلة بالله والتقرب إليه ، وإعلان البراء من معاصيه ومخالفة أمره سبحانه وتعالى وهذا أمر مهم ومن هنا نبدأ بهذه الأصول ونذكر المهم والأساسي مما نحتاج إليه فنقول بنداء نوجه إلى أنفسنا جميعا: حافظوا على أداء الصلوات وعلى وجه الخصوص فرائض الصلوات:
{ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } [ البقرة:238].
والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله ) رواه مسلم.
ونعرف هذا ولكنني أقول: هل كل الناس يؤدي هذا ؟ ألسنا نعرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن من آخر ما يحل من عرى هذا الدين الصلاة؟ ألسنا نعرف أن من شبابنا ومن شيبنا من يترك الصلاة فلا يؤديها مطلقاً؟ أو يؤخرها ويجمعها أو لا يلتفت إليها ويجعلها آخر موضع في اهتماماته ؟ وأولئك منا وفينا ومن بيننا ثم لا ننظر إلى أثر ذلك ولا نلتفت إلى أن به وبحصوله يقع كثير مما يجري به قدر الله - عز وجل - من البلاء والفتنة نسأل الله عز وجل السلامة .
ونقول من بعد: احرص على شهود الجماعات تلك المساجد التي تشكو إلى الله قلة المصلين في كثير من الأوقات والأحوال ، بل وفي كثير من البلاد ما هو أعظم وأكثر مما في بيئتنا ومجتمعاتنا:
{ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ } [ إبراهيم: من الآية31 ].
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } [البقرة: من الآية43].
{ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ } [البقرة: من الآية3].
{ وَالْمُقِيمِي الصَّلاة } [الحج: من الآية35].(118/3)
كله خطاب فيه صيغة الجمع ، وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث الذي تعرفونه في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفرد ، وحديث ابن مسعود من بعد هو الذي نلفت أنظار الجميع إليه في حديثه عند مسلم أنه قال - رضي الله عنه وأرضاه -: " من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن ؛ فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم " . وقال رضي الله عنه : " ولقد رأيتنا - يعني صحابة النبي صلى الله عليه وسلم - وما يتخلف عنها - أي الجماعة - إلا رجل معلوم النفاق " .
لو طبقنا هذه القاعدة التي كانت سارية المفعول عند الصحابة ،كم منا في مجتمعاتنا سيصدق عليه وصف النفاق ؟ كم هم المتخلفون عن الصلوات في الجماعات ؟ والسادرون في الغي واللهو والشهوات ؟ كم هم الذين لم يلتفت نظرهم إلى حديث أبي هريرة عند البخاري في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة في الجماعة فآمر برجل فيؤم الناس ثم أخالف إلى أقوام لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم ) .
وهذه أمور موجودة لا نحتاج إلى إفاضة القول فيها ، ولئن خصصنا ؛ فإننا نخصص الفجر ، تلك الفريضة التي رحم الله من يؤديها اليوم تصبح الشهادة له بأنه أعظم الناس إيماناً ، وأكثرهم صلاحاً ، وأجلّهم فضلاً ، وأعظمهم مرتبة ، كأنما صار الحفاظ عليها - وهي من الفرائض التي لابد لكل مسلم أن يحافظ عليها - كأنما هو فرقان بين إيمان وكفر ، أو بين إسلام والتزام وبين تفريط وتضييع .. { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء:78 ] . أي تشهده الملائكة .
وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح : ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون عند صلاة الفجر والعصر وترفع الملائكة شهادتها لمن يشهدون الصلاة ) ، فكم من مسلم لا يحظى بتلك الشهادة ؟ ولا يكتب في تلك الصحائف ولا يدرج اسمه في تلك التقارير المرفوعة إلى علام الغيوب سبحانه وتعالى ؟ ثم من بعد نقول ما الذي جرى ؟ وما الذي حصل ؟ وهذا أمر - كما قلت - أيضاً فيه كثير من الأمور المعلومة ، ونقول في كثرة الطاعات زد من الصيام والتقرب إلى الله عز وجل لذلك ؛ فإنه ضرب من العبادة ولون من التربية والتزكية ، وسبيل من أسباب القوة والإرادة والعزيمة فضلاً عن قوة الطاعة والاستجابة ومغالبة النفس وأهوائها ، ونحن نعلم فضائل الصيام وآثاره وما ينبني عليه من أثر في أجر الدنيا وفي ثواب الآخرة ، والأمر في هذا - كما قلنا - واضح جليّ ، ونقول من بعد أكثر من الإنفاق في سبيل الله عز وجل ؛ فإن ذلك من نصر الدين ، وإنه من تقوية المسلمين ، وإنه من مواجهة المعتدين ، وإذا كنا عاجزين أن تسخو نفوسنا بالإنفاق في سبيل الله ، ونصرة دين الله ، فكيف نظن أو نزعم أنه يمكن أن نجود بأنفسنا ، ونحن نعلم أن الجهاد الأعظم بالنفس لابد أن تكون النفوس مهيأة له بكثير وكثير من الأسباب والأحوال ، فمن لم يستطع مجاهدة نفسه بالقيام بالطاعات وأداء الفرائض ، ومن لم يغالب نفسه في شهوتها في هذا المال وتعلقها به كيف يكون قوياً بذلك ؟ ونحن نعرف الآيات الكثيرة التي تقرن جهاد النفس بالمال ، بل وتقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس ، وفي سنن أبي داوود عن النبي صلى الله عليه وسلم : (جاهدوا المشركين بألسنتكم وأموالكم ) وكذلك أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا في غير ما موقف ، والله - سبحانه وتعالى – يقول : { هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } [ محمد: من الآية38 ] .
وفي حديث لأبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع ) ، وهي سمات نعرف أننا مقصرون ومفرطون فيها . إذا دعينا في الملمات ، وعند حصول الكوارث ، وعند نزول البلايا تحركنا وأنفقنا شيئاً من أثر العاطفة المتأججة المؤقتة العارضة ، ثم من بعد تركنا الأمور إلى ما نحن فيه ، ونحن نقول : خاطبوا أنفسكم وحاسبوها اليوم .. كم من المال ننفق باستمرار ودوام ؟ فإن مواجهتنا مع الأعداء ليست عارضة ولا عابرة ، وإنما قد ننفقه في مقابل ما ينفقونه للأسف الشديد مقارنته محزنة ومؤسفة .(118/4)
إذا جئنا إلى التنصير الذي يسمونه التبشير ؛ فإننا نعلم من الإحصاءات الموثقة أن هناك نحواً من أربعة آلاف وستمائة قناة وإذاعة للقيام بنشر هذه النصرانية ، وتبث بلغات أكثر من أن تحصر وأن تحصى ،ويطبع من الإنجيل رغم ما فيه من التحريف الذي نوقن به ونعتقده لا أقول الملايين ولا عشرات الملايين بل مئات وآلاف الملايين وقد طبع بأكثر من ستمائة لهجة ولغة وأما ما ينفق في كل عام فكثير نحن نوقن بقول الله عز وجل:
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } [الأنفال: من الآية36 ].
لكن كيف نواجه أعداءنا ونحن لا ننفق مثلهم ، ونبخل أكثر مما قد ينفقون ؟ وهذا صورة من صور ضعفنا ، وصورة من أسباب هزيمتنا ، ومن أسباب بلائنا ؛ لأننا لا نصنع كما صنع الصحب الأوائل - رضوان الله عليهم - وكما مر في تاريخنا ، لم تكن هناك ملمّة بل وفي غير الملمات كان الإنفاق أمراً فوق الزكاة وفوق الواجب صدقة لا تنقطع دائماً وأبداً ، حتى عند من لم يجد كان يسعى إلى أن يجد ما يتصدق به كما ورد في الصحيح عن بعض الصحابة من الفقراء : كان أحدنا لا يجد ما يتصدق به وهو معذور بذلك لكنه ماذا يصنع ؟ قال: فكان أحدنا يتحمل الحمالة لا يريد بها إلا أن يجد ما ينفق في سبيل الله - أي حتى لا يحرم من الأجر والثواب - وكانوا يتسابقون لأنهم يعلمون أن ذلك من أسباب القوة والمواجهة في دين الله سبحانه وتعالى ولأعدائه سبحانه وتعالى .
ثانيها : الاستدامة في الدعوات
فنحن سمعنا الدعاء يتكرر في المحاريب عند وقوع الكارثة وعند حلول المصيبة ، ثم الآن كأنما الألسن قد عجمت عن الدعاء ، وكأنه لا يكون الدعاء إلا إذا كان في الصلاة ، وإذا كان في القنوت ، وإذا كان وراء الإمام هل نحن ندعو الآن بمثل ما كنا ندعو أو بما ينبغي أن ندعو به من نصر الإسلام والمسلمين ، ومن تثبيت إخواننا المسلمين ، وهل انتهت قضية المسلمين في العراق ؟ وهل انتهت من قبل قضيتهم في أفغانستان ؟ وهل انتهت من قبل أكثر من نصف قرن في فلسطين وفي كشمير ؟ وهل توقفت المواجهات في الشيشان ؟ وهل .. وهل ؟ نحن كأنما نشتغل بهذه الأمور المواجهة والمباشرة ؛ فإن جاءت تحركنا بقدرها واستيقظنا بحسبها ، ثم عدنا إلى نومنا وغفلتنا وإعراضنا عن تعليق قلوبنا بربنا ، ورفع أكفنا إليه ، ودوام استمدادنا منه ، وعظمة تضرعنا وذلنا وخضوعنا بين يديه سبحانه وتعالى ، ولاشك أننا نعلم ونوقن أن السلاح البتار الفتاك عند أهل الإيمان والاعتقاد الجازم هو الدعاء الخالص لله سبحانه وتعالى ، ولا ينبغي أن نغفل عن قوة هذا السلاح وأثره ، ولقد كان يوم كان الناس أهل إيمان وأهل صدق وحسن صلة بالله كان سلاحاً يظهر أثره مباشرة ، وكلنا يعلم أن سعداً كان مجاب الدعوة ، وجاء رجل وتكلّم بين يديه في طلحة والزبير فنهاه فلم ينته فدعا عليه ، قال الراوي : فجاء جمل كأنما يشمّ الناس حتى عمد إلى هذا الرجل فبطش به وقتله بدعوة سعد رضي الله عنه .
وسعيد بن زيد - وهو من العشرة المبشرين بالجنة - جاءت امرأة وادعت زوراً وبهتانا أنه أخذ شيئا من أرضها فلما ووجه بذلك قال : كيف تقول هذا وأنا أعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (من اقتطع قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة ) ، ثم دعا وقال : " اللهم إن كانت كاذبة - وهي تعلم أنها كاذبة - فاعم بصرها واقتلها في دارها " ، ووقع الأمر كما كان وكما دعا رضي الله عنه وأرضاه .
وكانت في قصص المواجهات والقتال أيضا أحوال وسير عظيمة منها :
دعاء البراء بن عازب الذي قال له الصحابة في يوم اليمامة بعد أن اشتد وطال الحصار الذي ضربوه على مسيلمة وأصحابه ، قالوا: أنت من قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ) فادع الله لنا ، فدعا وقال: " اللهم امنحنا أكتافهم وانصرنا عليهم الغداة " فما انتهى اليوم إلا بنصر عظيم للإسلام وأهله ، والأمر في هذا كذلك معلوم وتعرفون أحواله وكثير من قصصه .
الجانب الثالث : الجانب العملي
أصلحوا أنفسكم وربوا أبناءكم وادعوا مجتمعاتكم ، وفي كل واحدة من الثلاث ثلاث نقاط نذكرها بإيجاز حتى نوجه الأمر إلى أنفسنا ونبدأ بالأخذ بهذه الخطوات العملية ؛ فإنها مقدمة لما بعدها ، ومن كان فيها عاجزاً فهو عن سواها أعجز ميدان النفس لابد أن يكون فيه هذه العناية بالإصلاح ، وهو أمر مهم وأساس متين وبداية أساسية .
أ - إصلاح النفس من الجهل إلى العلم(118/5)
أمة الإسلام اليوم كثير من أبنائها لا يعرف دينه .. لا يقرأ قرآنه .. لا يطالع حديث وسنة وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم ، بل كثير من أبناء الإسلام اليوم يعرف عن سقطة الناس وسفلتهم أكثر مما يعرف من أحداث سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولذلك لا ينبغي أن نستعجب ونستغرب مما يحصل إذا رأينا كيف أصبحت النفوس ضعيفة من كثرة جهلها بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونحن نعرف - كما ذكر شيخ الإسلام - أن النفس بطبيعتها يغلبها الهوى ، وينبغي لكل أحد كما قال أن يعرف أن النفس جاهلة ظالمة ، وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح ، وقال بعد ذلك كيف يكون العلاج لابد من علاج الجهل بالعلم النافع الذي يخرجها عن وصف الجهل والعمل الصالح الذي يخرجها عن وصف الظلم وفي قوله - عز وجل - على لسان موسى عليه السلام : { قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ البقرة: من الآية67 ] .
وكل الأنبياء استعاذوا من الجهل ، وأن ليس المقصود بالجهل مجرد عدم العلم بل هو عدم الالتزام والعمل بهذا العلم كما هو معلوم ، ولذا ننادي أنفسنا أن نعظم ونزيد ونواصل الصلة بكتاب الله مداومة على تلاوته ، وإحساناً لترتيله ، وتأملاً وتدبراً في معانيه ، واجتهاداً في الأخذ بأحكامه والتحلي بآدابه ، وحرصاً على نشره وتعليمه والدعوة إليه ، وذلك فيه من الأثر والخير ما فيه .
ب - الانتقال من الغفلة إلى الذكر
فالنفوس غلب عليها الران والقلوب اشتدت فيها القسوة ، وأظلمت النفوس من كثرة ما تركت من الطاعات والواجبات ، ولابد في إصلاح النفس من هذا التذكر ؛ فإنه نجد في أحوالنا ما يدعو إلى لفت النظر ؛ فإن نفوسنا اليوم كأنما هي في نوم بلا يقظة وتسويف .. بلا حزم وابتلاء .. بلا اعتبار كأن القلوب قد عميت ، وكأن النفوس قد رتعت ، وكأننا في عقول سادرة ، وألسن لاغية ، وآذان للباطل مصغية ، فلا الآيات تتلى ، ولا الأحاديث تروى ، بل ربما تتلى وتروى ، ولكنها لا تجد آذاناً صاغية ، ولا قلوباً واعية ، ولا أنفساً متقبلة ، ولذا لابد أن ننتبه ، كما قال ابن كثير - رحمه الله - في قوله عز وجل : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [الذريات:55] .
قال في بيان ذلك : " لا توضع الموعظة في غير أهلها أي ممن لا يعتبرون ويتذكرون بها " والله - سبحانه وتعالى - قد وصف وصفاً ينبغي أن يكون الحذر منه يخلع قلب كل مسلم ، ويجعله ينتبه ويرتاع حتى لا يكون من أهل هذا الوصف .. { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف:179].
فهل يرضى أحدنا أن يكون كالأنعام ؟ وأن يكون وصفه كأن لا قلب ولا عين ولا أذن له ؛ لأنه لم يعتبر .. لأنه لم يتذكر .. لأنه مازال غافلاً .. لأنه مازال في الغي سادراً .. لأنه مازال بالشهوات منشغلاً .. لأنه مازال في الملذات منغمساً .. هذه صورة - للأسف الشديد - أنها تعمنا إلا من رحم الله ، وإذا تذكرنا تذكرنا بقدر الحادث الذي مرّ وبقدر النكبة التي حلّت ، ثم عدنا من بعد ذلك إلى غفلتنا نستمر في نومنا وغينا ، دون أن نجعل من هذه الأحداث محطات تغيير ، وأسباب تحوّل حقيقي دائم نحو ما ينبغي أن تكون عليه أحوالنا ، وهذه مسألة مهمة لابد أن نعتبر بها ، ولقد كان أسلافنا من أصحاب القلوب الحيّة والنفوس ذات التأثر العظيم ، ولذلك نسمع من أقوالهم ونعرف من أحوالهم إذا قرأنا سيرهم ما يلفت نظرنا إلى هذا المعنى ، فذلك الذي يقول عندما رأى بعض الناس الخوف في وجهه ما لك ؟ قال: ذكرت ليلة صبحها يوم القيامة .
وكما قال قائلهم: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا .
أديموا المحاسبة .. حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، اعتبروا بالأحداث الجارية .. { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [الحديد: من الآية16].
هذه صفة قد ذمّ الله بها أولئك القوم من أهل الكتاب الذين انحرفوا عن نهجه - سبحانه وتعالى - فما بالنا نجعل ذلك في صفاتنا وخلالنا ، نسأل الله - عز وجل – السلامة .
ج - التحول من الكسل إلى العمل(118/6)
كثيرون منا أخلدوا إلى الراحة ، وأصبحوا يستثقلون أدنى درجات الحركة والنشاط فيما هو من الفرائض والواجبات - كما قلنا - فضلاً عما هو فوق ذلك من السعي في مصالح المسلمين ، والعمل على الإصلاح والتغيير ، والتنادي إلى البر والتعاون على البر والتقوى ، وهذا - وللأسف الشديد - نجده بينما نجد كدحاً وجداً وسبقاً وحثاً في مجال حياتنا الدنيوية ، وكسبنا المادي ، وطلبنا للترقي المعنوي ، وغير ذلك مما نرى الناس يبذلون فيه عامة وقتهم ، ومعظم جهدهم ، وخالص فكرهم ، دون أن يكون له في ذلك في إسلامهم وإيمانهم وأحوال أمتهم مثل هذا الاعتناء والاعتبار ، والأخذ بالأسباب المهمة ، والله - عز وجل - عندما دعانا دعانا للعمل بجد وبعزم وبحزم ، وجعل العمل هو المناط :
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } [ التوبة: من الآية105].
وعندما دعينا دعينا بصيغ عظيمة كما قال الله عز وجل :
{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم } [آل عمران: من الآية133].
{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم } [الحديد: من الآية21].
{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات } [ البقرة: من الآية148].
{ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: من الآية26].
{ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [الصافات:61].
هذه كلها صيغ تدلنا على أن الكسل والخمول لا موقع له ، ولا مكان له في صفة المسلم الحق ، فكيف إذا كان المسلم في زمن ضعفت فيه الأمة ، وذهبت هيبتها ، وضاعت قيمتها وتسلط عليها أعداؤها .. إن الكسل حينئذ يكون جريمة عظمى ، ويكون صورة من صور موات القلوب والنفوس ، نسأل الله - عز وجل – السلامة .
ونقول من بعد ذلك: في الجانب الثاني ربوا أبناءكم ، ونحن نعرف أن الخلل الواقع في شبابنا وشاباتنا ، إنما هو بتفريط الآباء والأمهات من هؤلاء الشباب ومن أولئك الشابات ؟ إنهم أبناء لهذا أو لتلك إنهم إخوان لأولئك وهؤلاء إنهم في آخر الأمر لهم من فرط في حقهم ، ولم يقم بأداء الواجب تجاههم ، وذلك نعرفه من قوله جل وعلا :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم: من الآية6].
ونعرف ذلك من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ) هل قمت بواجبك ؟ هل أدبت أبناءك وربيتهم ؟ استمع لما ذكر بعض أهل التفسير في هذه الآية :
{ قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة } [التحريم: من الآية6].
قال مجاهد: " اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله " ، وقال قتادة : " تأمرهم بطاعة الله ، وتنهاهم عن معصية الله ، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه " ، وقال الضحاك: " حق على المسلم أن يعلم أهله وقرابته وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه " .
وذلك ما ينبغي أن نكون عليه ونقول في هذا في إيجاز شديد في وصايا ثلاثة :
الأولى: اقتربوا منهم وكونوا قدوة لهم
إن أعظم فساد الأبناء من فساد قدوات الآباء والأمهات ، كيف تريده أن يصلي الفجر وأنت لا تصليها إلا وقد أشرقت الشمس ؟ كيف تريده أن يكون من جيل القرآن وأنت لا تكاد تتلوا القرآن ، ولا تمس المصحف إلا من عام إلى عام ؟ كيف تريد الأم أن تكون ابنتها محجبة مصونة عفيفة وهي لا تكون كذلك ؟ كم في أحوالنا ما هو سبب في فساد أبنائنا ؟ أفليس ذلك جدير بنا أن نصدق مع الله ، وأن نتحمل الأمانة والمسؤولية التي جعلها الله في أعناقنا ؟
ثانياً: علموهم ورغبوهم في العمل الصالح
لابد من التعليم إن لم تكن أنت فارغاً فهيأ له من يعلمه القرآن هيأ له من يذكره ويتلوا عليه ويسرد عليه السيرة .. اجعل لأبنائك من الاهتمام بتعلم الدين أعظم من الاهتمام الذي نراه من أحوال الناس في تعليم الأبناء اللغة الإنجليزية والفيزياء والرياضيات .. يأتون لهم بالمدرسة والمدرس ، وينفقون المال تلو المال ، ثم ما وراء ذلك ليس مهما وليس موضع اعتبار ، وليس موضع مسؤولية وهذه قضية خطيرة .
ثالثاً: تابعوهم وقوموهم في المسير
لابد من مثل هذا أيضا حتى يكون هنالك التعاون والتكامل.
الجانب الرابع : جانب إصلاح المجتمعات
ليس في إسلامنا أنا والطوفان من بعدي ليس في إسلامنا فهم خاطئ ، قد حذر منه الصحابة الكرام منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي بكر رضي الله عنه : أيها الناس: إنكم تقرؤون هذه الآية :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: من الآية105].(118/7)
أراد أن يقول لا تفهموا الآية فهماً خاطئاً فتظنوا أن قيامكم بأمر أنفسكم - بمعنى أدائكم لفرائضكم - قد انتهيتم فلا تأمروا أحداً ، ولا تنهوا أحدا بل أردف هذه الآية بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : (والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ، ثم لتأطرنه على الحق أطراً ، أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم ) ، ينبغي أن ندرك خطورة ترك إصلاح المجتمع إن المنكرات فاشية وظاهرة ، وكأن الألسن قد خرست ، والعيون قد عميت ، والأيدي قد شلت ، وهذه قضية خطيرة .. ما بال القلوب لا تتأثر ؟ ما بال الوجوه لا تتمعر ؟ ما بال الألسن لا تحذر وتنذر ؟ ما بالنا وقد أصبح في أحوالنا ما قد يكون بلغ مرتبة خطيرة بتحول المعروف منكراً والمنكر معروفاً ؟ أو ربما نجد صاحب المعروف يستتر بمعروفه ولا يكاد يرفع به رأسه وصاحب المنكر معلن به ومجاهر ، والناس يستحيون أن يقولوا له كلمة أو أن يذكروه بموعظة ، أو أن يبينوا خطأه وظلمه وفساده ، وهذه قضية خطيرة والله - سبحانه وتعالى - قد بيّن مغبتها وحذر منها ، ولابد أن ننتبه إلى العقوبات الناجمة عن ذلك كما قال جل وعلا :
{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّة } [الأنفال: من الآية25].
وفي قراءة: { لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }.
وقال ابن تيمية : " القراءتان صحيحتان ومعناهما ليس فيه تعارض ، فالظالم المرتكب للمنكر وغير المرتكب غير ظالم من وجه ، ويمكن أن يكون ظالماً إذا ترك الواجب في الإنكار على المنكر كما قال تعالى " .
ومنه منع إجابة الدعاء ، ومنه كثير من محق البركة ، ومنه كثير مما تقع به البلايا والرزايا ، ومن هنا نقول : لابد من التركيز على الجوانب المهمة التي نحتاج إليها في إصلاح مجتمعاتنا:
أولاً: تغيير الفرقة إلى ألفة
أعظم بلايا أمتنا فرقة صفوفها ، وتباعد آرائها ، واختلافها في أمرها ، وما حلّ بنا من تمكن أراذل الناس وشراذمهم من اليهود عليهم لعائن الله إلا من هذه الفرقة والنزاع والشقاق التي تسلط بها علينا أعداؤنا ، وهذا ميدان جهاد عظيم ، قال السعدي رحمه الله : الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام الألفة واتفاق الكلمة مهم ، قال تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [ آل عمران: من الآية103 ] .
وقال سبحانه وتعالى :
{ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } [الأنفال: من الآية: 62،63] .
ثم قال فإن من أعظم الجهاد السعي في تحقيق هذا الأصل في تأليف قلوب المسلمين ، واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية في جميع أفرادهم وشعوبهم ، وفي ربط الصداقات والمعاهدات بين حكوماتهم بكل وسيلة .
ومن أنفع الأمور: أن يتصدى لهذا جميع طبقات المسلمين من العلماء والأمراء والكبراء ، وجميع الأفراد ، وهذا أمره مهم .
والثاني من المجالات: تحويل الفساد إلى إصلاح
كل فساد ومنكر لابد أن نقول به وأن نذكر والقضية ليست في الأمور المشتبهة بل نحن نتحدث عن أمور صريحة واضحة أحكامها قاطعة يعلمها أكثر المسلمين من الدين بالضرورة : (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات) .
نحن نريد أن نأمر بالحلال البيّن ، وننهى عن الحرام البيّن ، أفليس الربا حراماً بيناً ، هل يحتاج أحد فيه إلى فتوى لهيئة من كبار العلماء أو لمجمع فقهي ؟ أ لسنا نعرف الوعيد الشديد والذي لم يرد مثيل له ؟
{ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِه}[البقرة: من الآية279].
وكما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الربا وأنه سبعين باباً وأدناه مثل أن يزني الرجل بأمه والعياذ بالله ، و أ ليس ما نراه من التبرج والسفور والاختلاط مما هو معلوم أيضاً وأحكامه جلية واضحة دون أن يكون هناك هذا التوجه للتغيير والتذكير كما قال الله عز وجل :
{ فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ } [هود: من الآية116].
قلة إن بقيت تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر يحفظ الله بها كثيراً من الخير ، ويديم بها كثيرا من المعروف ، وينقل بها الصلاح والخير جيلاً بعد جيل بإذنه سبحانه وتعالى .
قال السعدي في هذه الآية: وفي هذا حث للأمة أن يكون فيهم بقايا مصلحون لما أفسد الناس قائمون بدين الله ، يحيون به الموتى ، ويصبرون منهم على الأذى ، ويبصرونهم من العمى ، والله - سبحانه وتعالى - قد بين ذلك .
وأخيرا: تحويل الإعراض إلى إقبال(118/8)
الإعراض عن الله وأوامره لابد أن نذكر بأن يتحول إلى هذا الإقبال على طاعة الله ، والقيام بفرائضه ، والأداء لواجباته ، والسعي إلى الاستكثار من هذه الخيرات ، والإقبال على الطاعات والتطوعات ، ولابد من تذكير ؛ فإن الحث يعين ، وإن التذكير يحصل به من الاعتبار ، والتعلق بالأجور والثواب المذكور في النصوص ما يعين على مثل هذا فكيف بنا ونحن نغفل عنه ؟
الجانب الخامس : مواجهة الأعداء مباشرة
ولعلنا نختم هذه الخطوات وهذه المسائل بمسألة مهمة ، وهي مواجهة الأعداء مباشرة
ولسنا نعني بذلك القتال والجهاد ؛ فإنه ماضٍ إلى يوم القيامة ، وحكمه معروف ، وليس ذلك إعراضاً عن أهميته ، أو عن أثره العظيم ، ولكننا نعلم أننا مقصرون فيما هو قبله ، فنذكر بذلك ونذكّر به ، ونقول هاهنا جملة من الأمور والتوصيات المهمة التي لابد لنا منها :
أولا: العزة والدعوة عزة وهداية لا ذلة وغواية
نعني بذلك أن نحافظ في مواجهة أعدائنا على عزة نفوسنا ، وإن كسرنا أو هزمنا في ميدان مادي أو في بلد بعينه أو في زمن بعينه أو نحو ذلك ؛ فإن الإنسان المؤمن لا يهزم في عزته ، وفي قوة إيمانه ، وفي عزيمته الماضية ، كما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه - رضوان الله عليهم - فيما جاء ووقع من بعد أحد .
وربعي بن عامر مثل حيّ قويّ في هذا المعنى يوم دخل إلى أبهة الملك عند الفرس ، فلم يشغله ذلك ، ولم يبهره ذلك ، ولم يوقع في نفسه شيئاً من الضعف أو الانبهار أو الاستعظام لأعدائه ، بل قال قولته الشهيرة عندما سئل: ما الذي جاء بكم؟ قال: " جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا الآخرة " .
لم يكن في ذلك الموقف إلا وهو يعلن هذا فيكون أولاً قادراً على المواجهة والثبات ، وثانياً يغزو بذلك عقول القوم وقلوبهم ؛ فإن أولئك الأعداء الذين نعرفهم اليوم إنما هم في ضلال وضياع وحيرة وشك ، وكثير منهم على فساد وظلم وفجور وعهر وفسق ، وكثير من الشعوب التي وراء هذه القيادات الظالمة الجائرة المجرمة يحتاجون منا أن ندعو إلى الله عز وجل .. يحتاجون أولا أن نتمثل الإسلام ونعتزّ به ، والذي لا يعتزّ بدينه لا يعزونه ، والذي لا يحترم مبدأه لا يحترمونه ، ونحن نرى بعض المسلمين وقد أصبحت ذلة نفوسهم ، كأنما هم أقزام أمام أعدائهم ، وكأنما هم منبهرون بهم ، بل ربما بعضهم قد يعظمهم تعظيماً يوحي لك أنه يرى أن الحق والخير والصواب والهدى ، إنما هو عندهم ، وهذه قضية خطيرة لابد من الالتفات لها ، ومعرفة أنها من أعظم الأسباب التي لابد من أخذها ، ولعلنا نقف وقفات من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الصحابة لنعرف أهمية هذا الجانب:
في أعقاب أحد ، وبعد انجلاء غبار المعركة بقليل .. يوم جاء أبو سفيان منتشياً مفتخراً ، وهو يسأل: هل فيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ هل فيكم أبو بكر ؟ هل فيكم عمر ؟ فسكتوا عنه حتى أجاب عمر لكنه من بعد أراد أن يبين أن انتصاره العسكري أو المادي هو انتصار عقدي مبدأي أخلاقي حضاري ، فقال: اعل هبل ، فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا تجيبونه؟ ) قالوا: ما نقول يا رسول الله ؟ قال: ( قولوا : الله أعلى وأجل ) ، ثم قال: العزى لنا ولا عزى لكم ، فجاء الجواب : ( الله مولانا ولا مولى لكم ) ثم جاء قول أبي سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال ، وجاء الجواب: لا سواء قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة ، نعم في ذلك الوقت كان المسلمون في كسرة وشبه هزيمة في تلك الجولة ، وكان منهم من قد استشهد ، وكانت الحيرة قد ضربت أطنابها في صفوفهم ، لكنه لا يمكن أن يمال ذلك من عزتهم ومن شموخهم بدينهم ، حتى يستطيعوا أن يقفوا ويثبتوا ، وأن يبينوا ويوضحوا ما يغيّر أفكار الآخرين ، ويبدل آراءهم ، ويلفت أنظارهم ؛ لأن الناس تلتفت : كيف هذا ضعيف وقد هزم ثم ما يزال مستعلياً وما يزال مفتخراً ؟
إن هذا يلفت الأنظار ، ويجعل الآخرين يفكرون في أن هناك سراً ، وأن هذا الدين أو أن هؤلاء الناس عندهم مبدأ قوي أصيل ، ونحن نعرف أن هؤلاء يحتاجون إلى دعوة ، وبعض المسلمين يقيمون في بلاد الكفر ، وفي بلاد الأعداء هؤلاء من أمريكا وغيرها ، وتجد بعضهم وخاصة مع هذه الأحداث ربما أصبح يتوارى بدينه ، ويريد ألا يظهر إسلامه ، وليس هذا من باب المداراة المطلوبة في كثير من الأحوال التي لها صور شرعية ، بل بعضهم قد بلغ به الأمر مبلغاً أخطر من ذلك .(118/9)
نذكر فيه بما وقع للصحابة - رضوان الله عليهم - عندما هاجروا إلى الحبشة ، وكانوا غرباء بعداء ، وجاء عمرو بن العاص ومن معه يريدون أن يؤلبوا النجاشي عليهم ، فجاء بهم النجاشي يسمع منهم ، فأي شيء قالوا ؟ هل قالوا: نحن قلة قليلة .. دعونا نعطيهم من القول ما يريدون .. غيّروا وكونوا دبلوماسيين ، وأعطوا صورة تنم عن الحضارة واعترفوا كما يقولون بالرأي الآخر أم ماذا قال جعفر رضي الله عنه ؟ لقد قالها كلمات فيها العزة ، وفيها الدعوة والهداية ، فكان من قوله رضي الله عنه : " كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف ، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعانا لنعبد الله وحده سبحانه وتعالى " ، ثم قال : " وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم ، ونهانا عن الفواحش .. " إلى آخر ما قال ، ثم جاء عمرو بن العاص - الداهية المحنك - في اليوم التالي قال : لآتينهم بما يبيد خضراء هم ، فجاء إلى النجاشي وقال: إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً - عيسى عندهم وقد دخل التحريف إلى ديانتهم أنه الله أو ابن الله وعند المسلمين غير ذلك - فجيء بهم ليقولوا ماذا عندهم في هذا؟ وهي قضية فاصلة: إن قالوا ما يخالف قد يكون وراء ذلك مهالك ، فأي شيء قالوا عندما سئل جعفر عن ذلك ؟ قال: نقول فيه ما قاله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه ، فقال النجاشي: ما عدا ما قلت عودي هذا ، حتى نخرت البطارقة لموافقة النجاشي ، قال: وإن نخرتم ، وإن نخرتم .
انظروا إلى هذا الموقف كيف كانت فيه العزة ؟ وكيف كان فيه نشر أنوار الهداية والدعوة ؟ ولو أن المسلمين اعتزوا بإسلامهم لكان أعظم مواجهة لأعدائهم .
الثاني: معرفة وحذر لا جهل وخدر
لا يزال بعض الناس اليوم يصدقون مقالات الأعداء ، ويروجونها بيننا بألسنة تنطق بلغتنا ، ونحن نعرف أن كثيراً من المسلمين أيضا ليس عندهم من الوعي والإدراك ما يبين حقيقة وخطورة الأعداء ، وبعضهم يظن أن العداء إنما هو في هذه الصورة فحسب ، أو أنه في هذا الميدان وحده أو أنه في تلك البلاد وحدها ، ولا يعرف الحقائق القرآنية ، والكواشف النبوية التي تبين هذه الصورة الحقيقية للأعداء : { إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ } [الممتحنة: 2].
{ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } [ التوبة:10].
والآيات في هذا كثيرة كما أخبر الله - سبحانه وتعالى - بها ، وكما بيّنها - جل وعلا - في مواقف كثيرة ، مما جاء سرده ووصفه في كتاب الله سبحانه وتعالى ، وبيّن الحق - عز وجل - كل الصور التي تختلف من قول اللسان ، وإضمار القلب ، وخاصة كشف أهل النفاق الذين يرددون مقالات الأعداء ، ويجوسون في صفوف الأمة بما يريدونه منها ، وما يسعون إلى النيل منها بواسطة هؤلاء ، والله - عز وجل - قد بيّن كيف يكون لأولئك من أثر سلبي ، فبيّن الحق - سبحانه وتعالى - في شأن ووصف المنافقين ما هو ظاهر في قوله :
{ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } [آل عمران: من الآية118] .
وما بينه سبحانه وتعالى :
{ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } [المنافقون: من الآية4].
والله - سبحانه وتعالى - بيّن في آخر هذه الآيات حتى ندرك الوقت قبل الصلاة قال:
{ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ } [ المنافقون: من الآية4].
والحذر واجب ، والانتباه والالتفات إلى هذه الحقيقة مهمّاً ولابد لنا منها ؛ حتى ندرك هذه المخاطر ، وقال القرطبي رحمه الله : في هذا الحذر وجهان : أحدهما احذر أن تثق بقولهم أو تميل إلى كلامهم ، والثاني : فاحذرهم مما يقومون لأعدائك ، وتخذيلهم لأصحابك ، وهذه قضية مهمة .
وأخيراً: إعداد ومواجهة لا إخلال ومداهنة
الله عز وجل يقول:
{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } (لأنفال: من الآية60).(118/10)
والإعداد شامل لكل أنواع الإعداد من إعداد النفوس والأجسام ، وإعداد العدة والعتاد ، وإعداد الأمة توحيداً لصفوفها ، وجمعاً لكلمتها ، وإصلاحاً لأحوالها ، والله - سبحانه وتعالى - قد بيّن لنا ما ينبغي أن نكون عليه ؛ حتى لا نكون مداهنين لأعدائنا ، خوفاً منهم ، أو رغبة فيما عندهم ، والناظر اليوم يرى أحوالاً عجيبة ، سواءً كان ذلك على مستوى الأفراد أو المجتمعات والدول ؛ فإن بعضاً منها تعلن أنها لا تعد ، وأنها لا تواجه ، بل إنها تسعى إلى مداهنة ومجاملة ، وإلى شيء مما تظن أنها ترضي بها أولئك الأعداء ، ولم تفقه بعد رغم كل ما جرى ، ويجري أنه لا يرضي أولئك إلا انسلاخ تام من الدين ، وانقطاع كامل عن الأمة ، وانبتات تام عن تاريخها.
إنهم يريدون أن يهيمنوا ويسيطروا بكل ما تعنيه هذه الكلمة في كل ما تشمله الهيمنة في اقتصاد أو سياسة أو غير ذلك ، ونحن نقول لابد للأمة أن تأخذ بأسباب هذا الإعداد ، وربما يقول الناس إنها كلمة مطلقة ، ونحن نقول : نعم إنها واسعة المدى ما الذي فعلته فيما تملكه بيدك ؟ لم تكون أنت مستقبلاً للأضرار والمفاسد والمخاطر التي يقدمونها لنا ؟ لماذا ينتجون الأفلام المفسدة الفاسدة ونحن نشتريها بأموالنا ؟ ونشاهدها ونعرضها على أبنائنا وفي قنواتنا ؟ أ ليس بإمكاننا أن نقطع هذا ونمنعه ؟ لماذا يصنعون ونشتري دون أن نجتهد في أن نصنع وأن نكتفي بذواتنا ؟
إن هذه القضايا الأولية مبدئية من جهة ، وهي بداية لمثل هذا الإعداد ، إن كان أحدنا لا يريد أن يتخلى عن نوع بعينّة من شراب أو طعام دون أن يستشعر أن هذا يعود ماله لأولئك اليهود ، أو لأولئك الصهاينة ، أو لأولئك الصليبين ، أو غير ذلك ، ثم يقول من بعد ذلك إنه يريد أن يكون مواجهاً لأعداء الله ، ونحن نقول لابد للأمة أن تأخذ بكل الأسباب في الاكتفاء الاقتصادي ، والاستقلال السياسي .
ومما يعين على هذا : التكامل فيما بين الأمة عموماً ، وحتى نحن نستطيع أن نحقق تكاملاً جزئياً فيما بيننا.
ولا شك – أيضاً - أن من هذه الصور في الإعداد: ترك الترف والسرف واللهو والعبث ؛ لأن هذا ليس من الإعداد ، إن الأمة اليوم ينبغي أن تكون أمة جدّ واجتهاد ، وأمة حزم وعزم ، وأمة قوة وشدة لا مجال للرخاء والارتخاء .. لا مجال لكثرة الملهيات والمغريات ، مازلنا إلى اليوم وقد عادت ، كل وسائل الإعلام إلى ما كانت عليه وربما أشد ، مازلنا نرى الرقص والغناء والطرب والكرة المستديرة هي الشاغل الأكبر والمقصود الأعظم ، كأنما ليس للأمة من اهتمام أو فائدة أو شيء تنشغل به إلا مثل هذه الأمور .
كيف يمكن أن تكون أمة في مواجهة عدو أو في مرحلة مواجهة ، ثم إذا بها تعطي هذه المساحات العريضة الواسعة ، والعناية والاهتمام الذي نراه في أي ميدان من الميادين ، وكأنما - كما قلت من قبل - قد اختصر المجد والتقدم في رنة نغم ، وركلة قدم ، وجرّة قلم ، دون أن تكون هناك صور البناء والجد الحقيقية .
لماذا تغيرت بعض هذه الأحوال قليلاً ثم عادت كأن شيئا لم يكن ؟ إن الأمة إن لم تستيقظ رغم كل هذه الكوارث والنكبات التي مازالت قائمة ، بل هي متوالية ، بل ربما هي اليوم مشتدة أكثر فأكثر ، والناظر في الأحوال يعلم ذلك ، وما يجري في فلسطين وما يجري في غير فلسطين من أثر حرب العراق وما تلاها واضح بيّن ، كيف تفرض الأمور وكيف تُغيّر ؟ وكيف تدار بما تدور رحاه على الإسلام والمسلمين وعلى الثابتين على دينهم القائمين على مواجهة أعدائهم ؟
ومع كل هذا نحن مازلنا نقول : إننا في مراحل وكأنما هي قد انتهت مخاطرها أو خفت حدتها ، أو أصبحت نوعا من الأمور المعتادة التي لا نحتاج فيها إلى تذكر وانتباه .
لعلنا نقول بمجمل مثل هذه القضايا التي قلناها ، نجد أنفسنا ملزمين بها ، ونجدها أمانة في أعناقنا وواجباً على كواهلنا ؛ فإن نحن قصّرنا فيه كنّا من أسباب ضعف الأمة ، وكنّا من أسباب حلول البلاء ، وكنّا من أسباب ارتفاع الرحمة ، وكنّا من أسباب ابتعاد النصر ؛ فإن كل ذلك مربوط بسنة الله - عز وجل - ، وسنته لا تحابي أحداً ، ولذلك ينبغي أن نجتهد في كل هذه المعاني التي ذكرناها ، ومن وراء ذلك يخاطب كل الناس وكل أفراد الأمة من العلماء والأمراء وأصحاب الأمر والنهي بواجباتهم ويذكرون بها ؛ فإن لم يقوموا بذلك فليس ذلك عذراً لك ؛ فإن الحجة قائمة عليك وإن المسؤولية بين يدي الله فردية وإن الله سائلك عن كل ما استرعاك من رعية ، وكل ما أعطاك من إمكانية ، وكل ما فسح لك من العمر ، وكل ما أعطاك من الطاقات والإمكانات ما فعلت بها ؟(118/11)
ونحن نعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ) لن يسألك الله عز وجل عن حاكم وإن قصر إلا في دائرة ما تستطيع به الإصلاح ولا عن عالم وإن غفل إلا فيما تستطيع به أن تقوم بواجبك ، لكن السؤال الأعظم هو لك ولي فيما هو تحت يدك في الفريضة التي تركتها في الواجبات التي قصرت فيها ..في الملهيات التي انشغلت بها .. في المنكرات التي ارتكبتها .. في الأمانات التي ضيعتها .. في المسؤوليات التي لم تقم بها.
هذه هي البداية .. هذا هو ألف وباء ، حتى نصل إلى الياء لا تقفزوا المراحل ؛ فإن كثيراً منها بعضه مترتب على بعض ، ومن وراء ذلك وقبله وبعده ومعه لن يغيّر أحد شرعاً من شرع الله ، ولا حكماً من أحكام الله ، ولن يبطل أحد كائناً من كان شريعة الجهاد الماضية بحديث النبي - عليه الصلاة والسلام - إلى يوم القيامة ، ولكننا نقول : سيروا على الطريق من أوله إلى آخره ، وخذوا بالأسباب من جميع جوانبها ، واحرصوا على التعرض الصحيح لنصر الله سبحانه وتعالى ، حتى يأذن الله - جل وعلا - بصلاح قلوبنا ، وتغيّر أحوالنا ، ووحدة صفوفنا ، وقدرتنا على مواجهة أعدائنا وهزيمتهم بإذن الله - سبحانه وتعالى - عاجلا غير آجل ، إنه - سبحانه وتعالى - ولي ذلك والقادر عليه ، والحمد لله رب العالمين ، وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(118/12)
ألفاظ الغناء والمغنيين
257
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
منصور الغامدي
الطائف
24/11/1419
أبو بكر الصديق
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
- حكم الغناء في القرآن والسنة – خطورة الغناء وأثره – نماذج عما تحتويه بعض الأغاني من شرك وكفر , والاعتداء على الرسل , والقضاء والقدر , وغير ذلك من الانحرافات
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها الاخوة الكرام: مر معنا في الخطبة الماضية حديث عن حكم الغناء وأنه حرام وأن الله سماه (لهو الحديث)، وقال الله: واستفزز من استطعت منهم بصوتك [الإسراء 64] ذكر المفسرون في صوت الشيطان أن منه الغناء، وكذلك سماه الله: سمودا وهو الغناء بلغة أهل اليمن، وقد تأفف منها أصحاب النبي ، فحينما مر عمر بقوم يغنون في الحج قال: لا سمع الله لكم، وسد الصحابي أذنه لما مر بزمار راع، احتياطا منها وأخبر أن هذه الأمة ستستحل الحرَ والحرير والخمر والمعازف واستحلال الحر يعني: الزنا وكذلك الخمر، والمعازف هي أدوات الموسيقي المنتشرة في كل مكان تقريبا، ومر معنا كلام الأئمة الأربعة وأنهم يقولون بتحريم الغناء، ويشتد التحريم إذا كان بصوت امرأة، ويشتد إذا رافقه معازف وموسيقى، ولم يخالف قوم الجمهور من أهل العلم إلا ثلاثة، معاند أو إنسان في قلبه مرض الشهوات، أو شخص لا يعتد برأيه .
أيها الاخوة الكرام: ولخطورة الغناء، وأنه سبب من أسباب فتنة الناس وإفسادهم وخاصة الشباب منهم، ولأن الغناء هو السم الناقع، أحببت أن أصحبكم في جولة سريعة على بعض ما في كلمات الأغاني من المحادة لله ولرسوله ومن الشرك الأكبر والأصغر، ومن التعدي على رسل الله الكرام، ومن تمييع للمعاني السامية والمثل الرفيعة، ومن الاعتراض على رب العالمين والاعتداء عليه وعلى ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ وغير ذلك مما يردده الجيل صباحا ومساء، فيصحو الشاب وينام على أنغامه بل أصبح الكثير لا غنى له عن الغناء وسماعه .
وقد جمع أحد الفضلاء بعض هذه المخالفات الشرعية التي يسمعها الملايين من المسلمين وإني استسمحكم واستعذركم في ذكر بعض هذه الكلمات على منبر خطبة الجمعة، لأن الموضوع فيه أشياء عجيبة مما ذكرت لكم.
أخي الكريم: لقد لحنوا الكفر الصريح والردة المعلنة عن دين الله بما غنوه من قصيدة الشاعر النصراني :
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
كيف أبصرت طريقي لست أدري
لقد غنوا هذه الكلمات التي تبين أنهم لا يعرفون سبب وجودهم في هذه الدنيا، وأنهم لا يعرفون ماذا بعد الموت، أبعث ونشور أم إهمال وترك، يقولون هذا، والله يقول وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [الذاريات 56] قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام 162-163].
وكاتب الكلمات، والملحن والمغني هم شركاء في الإثم والوزر، وقال : ((من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا )) وتقول قائلتهم : لست ثوب العيش ولم أستشره، ويقول الآخر: لو كنت أعلم خاتمتي ما كنت بدأت.
عجيب: هل هم يحيون ويموتون كما يشاءون، ويفعلون ما يشتهون، يريدون أن يستشاروا في الحياة، من الذي سيستشيركم، وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون [القصص 68].
كما أنهم يصرحون بعبادة المحبوب ولأجله يعيشون في الدنيا، بل يقولون إنهم ما خلقوا في هذه الدنيا إلا من أجله، قال قائلهم، أو قائلتهم، فض الله أفوههم: عشت لك وعلشانك، والله يقول قل إن صلاتي ونسكي ومحيياي ومماتي لله رب العالمين [الأنعام 162].
ويصرح بعضهم بصرف أنواع من العبادة إلى المحبوب أو المحبوبة، وهو التوبة يقول: أتوب إلى ربي وإني لمرة يسامحني ربي إليك أتوب، ورأيت أنك كنت لي ذنبا، سألت الله ألا يغفره فغفرته. هذا الذي يقولونه من صرف التوبة إلى غير الله.
فهم يعبدون المحبوب، يتوبون إليه، يطلبون منه المغفرة، والله وحده هو الذي يغفر: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله [آل عمران 135]. وقال سبحانه: وإليه متاب [الرعد 30]، وتقديم حرف الجر هنا (إليه) يفيد الحصر يعني إليه التوبة لا إلى غيره.
وتجد منهم يقول تصريحا بعبادة المحبوب يقول قائلهم :أعشق حبيبي وأعبد حبيبي. ويقول آخر: قلت المحبة عندي لو تعلمين عبادة. وآخر يقول : أنا أعبدك.
منزلة العبودية هي المقام العظيم الرفيع الذي وصف الله نبيه محمدا به في أربعة مواضع في القرآن لأن العبودية معناها : كمال الحب مع كمال الذل والخضوع لله، وتجد هؤلاء القوم يصرفونها إلى غير رب العالمين، والمرء مع من أحب يوم القيامة .
وبعضهم ينافي ويضاد ويكذب على الله يقول : الله أمر، لعيونك أسهر قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون .[الأعراف 28](119/1)
أما اعتداؤهم على أنبياء الله ورسله فاسمع إلى قولهم في فراق المحبوب أو المحبوبة : صبرت صبر أيوب، وأيوب ما صبر صبري، اعتداء فاحش على نبي الله الكريم الذي ابتلاه مولاه سنوات طويلة فصبر إنا وجدناه صابراً نِعمَ العبد إنه أواب [ص 44].
أيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [الأنبياء 83]، وهؤلاء يقولون : أيوب ما صبر صبري .
أما عقيدة القضاء والقدر ولوم الرب : فلهم فيها النصيب الأوفر، يقول قائلهم : ليه القسوة؟ ليه الظلم؟ له يا رب ليه؟
هكذا يتهم الله - تعالى الله - بالقسوة والظلم، وهذا المغني هو الآن تحت أطباق الثرى، الله أعلم ماذا يفعل به، نسأل الله حسن الخاتمة والستر في الدنيا والآخرة .
ومنهم من يصرح بأنه مستعد للذهاب إلى جهنم مع محبوبته : يا تعيش وإياي في الجنة، يا أعيش وإياك في النار، بطلت أصوم وأصلي، بدّي أعبد سماك، لجهنم ماني رايح إلا أنا وإياك،.
أعلنوا ترك الصلاة وترك الصيام، والنبي يقول : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر))، ويريدون الذهاب إلى جهنم، وماذا في جهنم التي أوقد الله ثلاثة آلاف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة وما أدرك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر [المدثر 27-30]. لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها [فاطر 36]، إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون [غافر 72] وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً [الكهف 29] هذه النار التي يتمنون الذهاب إليها اللهم اصرف عنا مقتك وغضبك يا حي يا قيوم .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم . . الخ .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فمن مفاسد المغنيين : أن يصرح بضعهم بأنه إذا لم تحل له محبوبته على دين محمد لأخذها على دين المسيح ابن مريم عليه السلام، وهل كان المسيح ابن مريم يحل الزنا ؟
كما أنهم يستحلون المحارم، قبحهم الله، فكانت حلالا لي ولو كنت محرمي، لو كانت من المحارم لاستحلها، ويصرح بعضهم بأنه سيحب محبوبته عند سكرات الموت : أهواك عند سكرات الموت، وهذا صحيح فالذي يفتن بالشيء يغرم به ويحبه إلى الغاية ويفتن به فيذكره عند السكرات .
وكم حدثتم وحدثنا عن أناس كان يقال لهم : قولوا لا إله إلا الله فيغنون، أو يسبون القرآن، أو يرفضون الشهادة، والله المستعان .
ثم هم يميعون القيم العالية والمعاني الفاضلة، فمنزلة الشهادة منزلة عظيمة عند الله ومن يطع الله رسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً [النساء 69] والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، والشهيد هو الذي يقتل بين الصفين مقبلا غير مدبر في سبيل الله، ثم يقول العندليب الأسمر : يا ولدي قد مات شهيدا من مات فداء للمحبوب.
هكذا جعلوا هذا المقام العظيم مقام الشهادة، جعلوه للمحبوب، وهذا المغني قد انتسب إلى غير أبيه ((ملعون من انتسب إلى غير أبيه ) والانتساب إلى غير الأب كثير في الوسط الفني القذر.
ومن مخالفات العقيدة قولهم :
والخوف بعينيها تتأمل فنجان المقلوب
قالت يا ولدي لا تحزن فالحب عليك هو المكتوب
اشتمل هذا البيتان على جلوس هذا الفاجر مع امرأة تدعي علم الغيب فهي كاهنة وعرافة ومشعوذة تقرأ الفنجان المقلوب واشتمل أيضا على الكذب على الله في أنه كتب الحب على هذا الرجل، وادعاء علم الغيب كفر واعتداء على خصوصية من خصوصيات الله قل من لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [النمل 65] وقراءة الفنجان والكف وضرب الودع والتخطيط في الرمل، والقراءة في كرة الكريستال كل ذلك شرك وحرام .
وفي أغانيهم الاستعانة بغير الله ونداء الأموات والحلف بغير الله فيقول قائلهم: مدد يا نبي مدد. أو: وحياة عينيك، والنبي يقول : ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)).
ويشيع عند المغنين سب الدهر والساعة والزمان والعمر يقولون : كتاب حزين كله قاسي، جابني في زمان كله غدار قاسي، والنبي يقول : (( لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ))، هو مقلب الأيام والليالي، فمن سب الدهر فقد سب شيئا ليس بأهل للسب ولا ذنب له، لأن الدهر ظرف الوقوع الحوادث، والله هو الذي يفعل ما يشاء ويجري الحوادث في الزمان بمشيئته سبحانه .
ثم هم يعتدون على ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ : الفرح مسطر غلط مكتوب، يعني أن الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ كان غلطا، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .
هذا بعض ما يقال، لقد اعتدى هؤلاء المغنون على الشريعة وما أبقوا عزيزا إلا أذلوه، ولا غاليا إلا لطخوه بهذه الكلمات، إن الله تعالى ما حرم شيئا إلا لفساده وضرره يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [البقرة 185] إن الله كان بكم رحيماً [النساء 29] .(119/2)
اخوتي الكرام : هل نحن منتبهون لهذا الإفساد العظيم هل نحن منتهون عن هذا الفسق .
يا رب غفرا قد طغت أقلامنا يا رب معذرة من الطغيان(119/3)
أمة الإسلام وفريضة الصيام
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أمة الإسلام وفريضة الصيام .. أمر مهم ، وموضوع مؤثر .. ذلكم إن الله جل وعلا فرض الفرائض ، وشرع الشرائع ؛ لتكون للأفراد تهذيباً وتقويماً وإرشاداً وإعداداً وتقوية وتزكية ، وجعلها للأمة وحدة وقوة ونصرة .. فهو جل وعلا ما من شرع شرعه ولا فريضة افترضها إلا ولها آثارها على الفرد والأمة في واقع الحياة .
إنها الفرائض والشرائع والعبادات ؛ ليست مجرد أقوال تردد ، ولا أفعال تكرر ، ولا عادات تتبع ، ولا صور وأشكال ليست لها حقائق وبواطن .. إنها أعمق من ذلك وأشمل ، إنها أنفع من ذلك وأكثر فائدة لمن تأثر بها وأداها على وجهها .
ولعلنا نشير إلى شيء يسير من الواقع نفتتح به ؛ حيث إننا نبين أن الأمة إن لم تنتفع من الشرائع والفرائض والأحكام ؛ فإن خيراً كثيراً يفوتها ، وإن مزيداً من العناء والبلاء والمشقة المهانة تنتظرها وترتقبها في رمضان الذي مضى ، كانت نذر الحرب على العراق تسطع ، وطبولها تقرع ، واليوم احتلال جاثم ، وعدوان ظالم ، وأرض محنوقة ، وأمن غائب ، وأرواح مزهقة ، ودماء نازفة ، وأوضاع مختلفة .. واليوم ونحن في شهر رمضان على بلاد الشام تهديد ووعيد ومحاصرة ومقاطعة وإرجاف .. فهل ستمضي الأمة في غفلتها وضعفها وذلتها لنقف - لا قدر الله - في العام القادم نندم أرضاً أخرى ، ونندب أحوالاً جديدة ، وبلاداً أخرى مغتصبة ، وأعراضاً جديدة منتهكة ، وحرية مستلبة ، وديناً أصبح في واقع الحياة غائباً غير فاعل في نفوس أربابه وأصحابه .
ومن قبل ذلك ومن بعد في أرض الإسراء يزداد معنا في كل رمضان ، وفي كل عام عدوان وظلم وتسلط يتضاعف مع صور حزينة مؤلمة .. لا لواقع أهلنا في تلك الديار ؛ فإن في قلوبهم من العزة ، وفي نفوسهم من النصرة والحمية ما قد دفعوا به عن أنفسهم ، وواجهوا به عدوهم .. لا عن الحزن المؤلم والوضع المؤسف إنما هو لعموم الأمة الصامتة كأنما عجمت فلا تتكلم ، العمياء كأنما ليس لها أعين تبصر ، كأنما ليس لديها أيدي تتحرك .. ليس هذا الحديث حديثاً لنزيد الوهن في النفوس ! وإنما لنقول : هل ننتفع بفرائض الإسلام ؟ وهل نتأثر بفريضة الصيام على مستوى الفرد والأمة ؟
وحديثنا عن الأمة .. أمة الإسلام في الصيام ، أمة تجرد وإخلاص لقوله عز وجل : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } .
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم القدسي : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) .
وقوله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .. { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين } .
الصيام عبادة السر ، عبادة الإخلاص ، عبادة التجرد عبادة التعلق ، عبادة الارتباط برضوان الله عز وجل ، والتشوّق إلى بذل كل جهد في سبيل التقرب إليه والتضرع والتذلل بين يديه .. هل نعقل هذا معاشر المسلمين أفراداً ؟ وهل تعقله الأمة وقد علقت حبالها بغير الله في مجموعها ، وقد جعلت رهبتها من عدوها ، وذلتها لمغتصبها ، وقد أصبح الخوف يملأ جنباتها حتى كأنما هي صورة من الصور التي ورد الذم لها في كتاب ربها قوله تعالى : { يحسبون كل صيحة عليهم } .
إن الأمر في غاية الخطورة اليوم ومجموع الأمة في صورتها العامة ، وفي قياداتها وسياساتها ليست معلقة الحبال بالله ، ولا موثوقة ومرتبطة بشرع الله عز وجل .. وذلك أمر يحتاج إلى المراجعة ، هل يمر صيامنا وتمر أيامنا ، وتنتهي فريضتنا ، ونحن تركنا طعاماً وشراباً ، ولم نلتفت إلى جوهر التوجه لله عز وجل والتعلق به ، وجعل الحياة كلها لطاعته ومرضاته في تلك الآية التي تلوناها!
كل مافي الحياة لله فهل علقنا قلوبنا ؟ وهل علقنا نوايانا وأمالنا وطموحاتنا بالله ؟ وهل ربطنا حبالنا به سبحانه وتعالى ؟ فلم يعد ثقة إلا به ،ولا خوف إلا منه ، ولا توكل إلا عليه ، ولا إنابة إلا إليه ، ولا نصرة ولا تجرد ولا إخلاص إلا ابتغاء مرضاته .. أم أنها أمور تتكرر ، وأيام تمر ، وليال تتوالى .. ثم نخرج كأنما نحن لا نعي ولا نفقه ولا نتذكر ولا نعتبر ولا نتدبر في هذه الشرائع التي جعلها الله فرائض لتكون مقياس لمثال الأمة لأمر ربها ، وسيرها على نهجه ، وتصحيح مسارها إذا فارقت ذلك .
أمة الإسلام أمة واحدة .. أليس في الصيام وحدة ، فالأمة كلها تأتلف قلوبها ، وتمتزج نفوسها ، وتظهر مودتها ، وتبدو محبتها ، وتجري مياه وحلها ، وتنعقد حبال حلتها .. فما بالنا لا ننظر ذلك في حال أمتنا لقوله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } .(120/1)
أليست الأحداث التي مرّت - وصدّرنا بها الحديث - يوم كان التهديد والوعيد اخترقت أمتنا العربية واختلفت ، وكلاً اتخذ موقفاً ، وأمة الإسلام لم تجتمع على كلمة ومنظماتها ودولها لم تكن على قلب رجل واحد .. فهل وحدتها في صور ظاهرة دون الحقائق المؤثرة ، وقد ظهر من مجتمعاتها وتجمعاتها من الخصومة والشحناء والبغضاء ما تجلى وظهر ، وأعلنت في وسائل الإعلام وفي المؤثرات وفي المنتديات وعلى صور شتى مختلفة .. أفلا تتعض الأمة وهي تصوم كلها صياماً واحداً ، ترق فيه قلوبها ، وتصحوا فيه نفوسها ، وترشد فيه عقولها ، وتتهذب فيه أخلاقياتها ، وتحسّن فيه أخلاقها ، وتصلح فيها نواياها ومقاصدها .. ثم بعد تكون نائمة غائبة عن حقيقة هذه الوحدة لقوله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ولا تنابزوا بالألقاب ... } .
انظروا إلى الواقع هل يحكي هذه النداءات الإيمانية ، والتوجيهات الربانية التي تدل على الوحدة الإيمانية ، والأخوة الإسلامية ، التي تؤدي إلى التماسك والترابط وامتداد الجسور .. رغم تباعد الأماكن والبقاع والبلاد ، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم يعلّمنا ، ويذكّرنا بأن المسلمين أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم .. هل أمة الإسلام التي تصوم مجتمعة على هيئة واحدة ، وبأحكام واحدة تلتفت إلى هذا المعنى ، وإلى قول الله جل وعلا : { وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } .
أمر قد تقولون إنه يتعلق بالأمة كلها .. لكنه يخصني ويخصك أنت ، إن لم يكن كل واحد منا مستحضراً لهذه الآثار ، ولتلك الحِكَم ؛ فإن الخير لنا يعُم ، ولن تتوسع أجزائه لتشمل الأمة كلها .. نحن في بيئاتنا ، وفي دوائرنا وأحيائنا ، وفي مساجدنا مازلنا لا نحقق هذه الوحدة ، ولا نجسد هذا الوئام .. فكيف بنا على مستوى أمة الإسلام .
أمة الإسلام أمة إغاثة وإعانة .. في شهر الصيام نرى تفطير الصائمين ، وإعانة المحتاجين ، وتفقّد ذوي الحاجات ، ونقصر ذلك على الصور المادية الحسية اليسيرة .. تمرٌ يؤكل ، أو مال يبذل ، أو كساء يُقدّم .. فهل هذا هو وجه الإعانة والإغاثة ؟ وهل تلك هي معاني النصرة والعزة ؟
أم أننا نتذكر من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ذلك الحدث الرمضاني العظيم في تاريخ الإسلام والمسلمين يوم نقضت قريش عهدها ، وأخلفت موعدها ، واعتدت على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عدواناً غير معلناً ، وبصورة محدودة ، وجاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين من خزاعة إلى الرسول في المدينة ينشد بين يديه ..
يا رب إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا *** ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا *** وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا *** إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا *** إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك الموكدا *** وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا *** وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا *** وقتلونا ركعا وسجدا
فقال عليه الصلاة والسلام من فوره : ( نصرت يا عمرو بن سالم ، لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب ) ثم تحرك في رمضان من العام الثامنة للهجرة إلى مكة المكرمة فأعزه الله ، ليعلن إنهاء وجود الجاهلية في صورة قوتها العظمى في جزيرة العرب ، ورايتها المرفوعة بالظلم والبغي في بلاد العرب ، وهو يحطم الأصنام ويقول : { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } .
أين نصرة الإسلام والمسلمين ؟ أين هي في أرض فلسطين ؟ وأين هي في غيرها من بلاد المسلمين ؟ أين هي والأبواب كل يوم تغلق ، والطرق كل يوم تُسدّ ، والعراقيل توضع أضعاف مضاعفة .. ليست بأيدي الأعداء فحسب ، بل بأيدينا وبأيدي أبناء جلدتنا المتكلمين بألسنتنا ، المرجفين في وسائل إعلامنا ، الذين يفتّون في عضد أمتنا ، ويزرعون الرعب والخوف من النصرة والإعانة والأخوة والمددي في قلوب أبناء الأمة .. أليس ذلك جديراً بأن تراجعه أمة الإسلام في شهر الصيام .. أم تكتفي بصور في إطعام الطعام ، وتفقد ذوي الحاجات - وإن كان ذلك أمراً محموداً مطلوباً ، وهو من الصور التي يمكن أن تؤثر وأن تحرك - لكن المطلوب أكبر وعلى مستوى الأمة أعظم ، والأمر في مثل هذا يطول .. وكم سمعنا من مثل ما استنجد به عمرو بن سالم .. فهل سمعنا مثل قول محمد صلى الله عليه وسلم : ( نصرت يا عمرو بن سالم ، لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب ) وهل ترحمه الكلمات إلى واقع أظهر عزة الإسلام ، وهيبة المسلمين كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة ، يوم أشعل النيران ، ويوم جعل الكتيبة الخضراء ؛ ليقذف الرعب والوهن والضعف في قلوب أعدائه ، فيهزمهم وهم في مواضعهم قبل أن يتحركوا ..(120/2)
أمة الإسلام أمة قوة وإرادة ألسنا في هذا الصيام .. نجد هذه القوة في القوة الإيمانية ، والإرادة في الإرادة النفسية .. ألسنا اليوم نطالب أهوال النفوس ، وننتصر على ضعفها ، ونأخذها بغير ما تحب إليه من الركون إلى دنياها ، والتمتع والرغبة في راحتها ودعتها وكسلها وخمولها ؟ ألسنا اليوم عندنا من قوة إيماننا ما نجد به خشوعاً في قلوبنا ، وأثراً لذلك في دموعنا ، وصورة حية فيما تتعلق بنفوسنا ؟ ألسنا نحن الذين في هذا الشهر الكريم - ومع هذه العبارة العظيمة - نجد أننا على صورة إيمانية ، ونفسية متميزة فريدة .. فأين ذلك من المسلم الذي يملك ويحزم رأيه ، ويعزم في مسيرته على نهج ربه
وقفة عن حال الأمة .. هل هي اليوم من خلال هذه الفريضة تتذكر أنه يجب أن تملك قرارها ، وأن تعتز بإسلامها ، وأن تتعالى بإيمانها .. أن تكون متثبتة بدينها ، واثقة بمناهجها ، وليست هي التي ترفع أصواتها مشككة في واقعها ، ومبلبلة لأبنائها ومجتمعاتها وشعوبها ، وجاعلة الأصل في مسيرتها على مر العقود المتوالية أنها كانت خاطئة أو ربما كانت خاطئة ، أو ربما كان فيها حين وحين ! وكأن أمم الأرض الأخرى بريئة من ذلك ، والحق أنها هي الأجدر بأن تكون موصوفة بكل هذه الصفات الذميمة من العنف والإرهاب والظلم والقتل ، ولكن الأمة إذا فقدت إرادتها ، وإذا ذهبت قوتها ، وإذا تخلت عنها عزتها ، أصبحت تنطق بلسان عدوها ، وتقوم بأعمال نيابة عنه ، وتلك مصيبة عظمى لابد أن تستيقظ لها الأمة ، وهي تمر في هذه المواسم والعبادات كأنما هي مخدرة لا تشعر بشيء .. ألسنا نعرف من هذه القوة الغائبة ، والإرادة المستلبة أن البلاد ليس من أعدائنا فحسب ، بل من أبنائنا ، ومن داخل ديارنا في عرض بلاد الإسلام كلها إلا ما رحم الله عز وجل .. أفليس جديراً بالأمة اليوم بدلاً من أن ترقص وتغني ، وتوالي الفوازير ، وتأتينا بالمقابلات للفنانين والفنانات ، وتصبح وتمسي علينا بالمسلسلات المتتابعات في الأيام واليالي المتواليات .. كأنما نحن أمة نريد أن نلهو وأن نلعب كأنما نحن ليس لدينا أراض مغتصبة وليست لنا أمم من الأرض متشمعة لتطعننا في أعز شيء لدينا في ديننا ، في كتاب ربنا ، ومقام رسولنا .. كأننا لا نسمع في هذه الأيام ومع بداية شهر الصيام تلك الأقوال العظيمة القبيحة التي يتفوه بها أعداء الإسلام في شرق وغرب والأمة كأنما هي صماء لا تسمع ، أو بكماء لا تتكلم ، أو عمياء لا تبصر .. لا أقول هذا أيها الإخوة وإنما نريد إنما نواجه أنفسنا بحقيقة واقعنا ، وأن نحاسب أنفسنا نحن ؛ فإننا جزء من هذا القصور ، وإننا سبب من أسباب هذا البلاء ، وإننا بداية انطلاق من بدايات الانطلاقات المهمة لحياة أمتنا .. نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً .
الخطبة الثانية :
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه ، وإن من آثار الصيام ما يحتاج إلى مزيد من حديث .. فأمة الصيام أمة تأثير وتغيير .. ألسنا نرى أننا نغير مواعيد طعامنا وشرابنا ، وأوقات أعمالنا وراحتنا ، ومواعيد يقظتنا ونومنا ؟
ألسنا نغير كثيراً من واقع حياتنا في كل شيء ، ليس على مستوى الفرد ولا على مستوى المجتمع بل على مستوى الأمة كلها ، تغيير حقيقي ، ظاهر في الأحوال اليومية الدائمة ، تغيير ليس له سبب الإطراء ، ووجود هذه العبادة والفريضة .. أفنغير وقت طعام و شراب ولا نغير أوضاع .. اختلال واختلاف لقول الله تعالى : { إن الله لا يغير بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } .
وقوله تعالى : { ولن تجد لسنة الله تبديلا } { ولن تجد لسنة الله تحويلا }
{ذلك بأن الله لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم }
نعمة عزة غابت ، ونعمة قوة ضاعت ، ونعمةٌ نراها في مجموع الأمة قد ذهبت ، والله جل وعلا لا يغيرها إلا بأسباب ، مما أخلفت فيه موعد ربها ، وخالفت فيه هدي رسولها .
التأمل والتدبر ونحن نغير هذه الأمور الحياتية ، ونجعلها صبغة في الأمة .. ما بالنا لا نغير الوقائع المؤلمة ؟(120/3)
لأن حقيقة الصيام أيضاً تعلن أن أمة الإسلام أمة كتاب وسنة .. لِمَ نصوم رمضان وليس شعبان ولا شوال ؟ نقول هكذا جاءت بهذا آيات القرآن .. لِمَ نصوم من فجر إلى غروب ؟ نقول هكذا وردت به الآيات ، وثبتت به سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟ لماذا نشتري التمور بالملايين والملايين .. لماذا ؟ لتوافق الأمة كلها في سنة من سنة الطعام ، نحن نتابع الرسول عليه الصلاة والسلام حتى في طعامه وشرابه ، وما يبدأ به وما يؤخره بعد ذلك .. أين هي من كتاب الله ؟ وأين هي من هدي وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم نفطر بتمر وماء ونحرص على التمرات وعلى هذه السنن العظيمة الجليلة ثم نضيع ما هو مثلها وأعظم منها ، وأكثر أهمية من عزة وأخوة ونصرة وقيام بحق الله عز وجل ، وانتصار لدين الله ، ورفع لرايته ، ونشر لدعوته ، وقد خرست الألسن عن أن تقول كلمة الحق ، وتجهر به ، ليعتزوا بإسلامهم وإيمانهم ، ويرفعوا بذلك رؤوسهم كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } .
كثيرة هي المعاني التي ينبغي أن تفقهها الأمة من فريضة الصيام ، ولا يقولن أحد لما تحدثنا عن الأمة ولسنا نحن الذين ندبرها أم نملك قرارها ؟ فأقول : إنكم تملكون قرار أنفسكم ، وتدبرون أمركم ، وتؤثرون في مجتمعكم ؛ فإن عجزتم أن تحققوا ذلك في هذه الدوائر .. فأنتم فيما سواها أعجز ! ودعوكم حينئذ من النقد ، ومن الذم للأوضاع العامة ، وذكر تقصير العلماء أو تفريط الحكام أو غير ذلك ؛ لأنكم أنتم - وأنا معكم وغيرنا أيضاً - قد فرطوا وقصروا ، وكانوا جزءاً من هذا البلاء .. فلنبدأ بإصلاح أنفسنا ، فلننتبه إلى هذه المعاني في واقع حياتنا ، وفيما ولانا الله عز وجل أمر في أسرنا أو في أوضاعنا المختلفة ؛ فإن صلاح الفرد مؤذن بصلاح الأمة كلها ، وإن صلاح الأفراد مؤذن بدفع كثيراً من البلاء ، ومؤذن بتنزل كثيرٍ من الرحمة .. وما نراه اليوم من بشائر الخير في مثل هذا الشهر العظيم ، والفريضة الكريمة إنما هو من هذه الخيرات التي نرى تضاعفها عام بعد عام .. فينبغي لنا أن نفتح أبواب الأمل ، وأن نجعل هذا الواقع مشعلاً لنيران الحماسة في القلوب ، معلياً للهمة في النفوس ، ومحركاً للجوارح والأعمال في الواقع ، وممداً لجسور الأخوة والترابط والوحدة والتآلف والتآزر في مواجهة أعداء الله وأعداء الإسلام والمسلمين .. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل لهذه الأمة من بعد ضعفها قوة ، ومن بعد ذلها عزة ، ومن بعد فرقتها وحدة .(120/4)
أمة ملعونة ... وأمة غافلة !!
عباد الله ...
هذه الأمة الملعونة في كتاب الله, وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسل الله من قبل (عليهم الصلاة والسلام), هي الأمة التي تعتدي اليوم على مقدسات المسلمين، وعلى دمائهم وأعراضهم وأولادهم، وعلى بيوتهم وأموالهم, هي الأمة الملعونة، التي لا ترقب في مؤمن إلاّ ولا ذمة.
اليهود ملعونون لأنهم خونة العهود, قال الله تعالى:
فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية
فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا
أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون
ولا تزال تطلع على خائنة منهم
فاليهود ليست لهم عهود, اليهود خونة العهود, هؤلاء هم اليهود لمن لا يعرف اليهود .
لقد نقضوا أغلظ المواثيق مع الله عز وجل ومع أنبيائهم، فكيف يطمع بعض المسلمين بعد ذلك بالتزامهم بالعهود والمواثيق، ومع من ؟ مع أشد الناس عداوة للمؤمنين.
عباد الله ...
لقد بيّن لنا القرآن الكريم صفات اليهود وطباعهم في مواطن كثيرة من الكتاب الحكيم، وفي ذلك دلالة للمؤمنين أن معركتنا معهم ستطول، وإن أول خطوات النصر أن نعرف حقيقة عدونا لنعرف كيف نواجهه، فإلى كل مسؤول في العالم الإسلامي الكبير ..
إن تدرسوا صفات اليهود جيدا تعرفوا كيف تعاملونهم .
استرشدوا بالكتاب والسنة، فإن فعلتم لن تضلوا أبدا .
أيها المسلمون ...
ما لنا نرى أمتنا الآن غافلة عن أمر ربها !! فقد كثر في هذه الأيام الحديث عن إعطاء ما يسمى بالسلام مع اليهود فرصته للنجاح، ومن أجل ذلك تم وسم المقاومة المسلحة المشروعة بالإرهاب والعنف، وأصبح المجاهدون في هذه الأيام خارجين عن القانون!! (القانون الأمريكي الصهيوني) وللأسف فقد استجاب لهذه الدعوات المشبوهة بعض العرب والمسلمين (بسوء نية أو بحسن نية)، ولهؤلاء نقول اقرؤوا كتاب الله تعالى تجدوا:
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم
لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة
يقول الشيخ محمد صالح المنجد:
" القضية قضية تاريخية, المسألة مسألة شرعية, القضية قضية عقائدية, اليهود لا يمكن مسالمتهم أبدًا وليس لهم عهد ولا ميثاق رغم أنف الذين يريدون أن يعقدوا معهم عهدًا وميثاقًا, فهم يهود مثلهم, اليهود لا يؤمن شرهم, اليهود لا يؤمن مكرهم, اليهود خلق نجس ورجس شيطاني, اليهود أعوان إبليس، اليهود سبب شقاء البشرية مع غيرهم من ألوان الكفر والشرك في الأرض, يقودهم إبليس إلى جهنم وبئس المصير, اليهود أعداؤنا كرههم في قلوبنا, جهادهم عبادتنا وقربتنا إلى الله, اليهود –كما أخبر رب العزة- : لا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .
هؤلاء الذين أظهر الله مكرهم, أظهر الله بغضهم, كشف الله سترهم وشرهم, وجعلهم باستمرار أعداءً للمسلمين, وتثبت الأحداث التي يقدرها رب العالمين استمرار عداوة اليهود للمسلمين ".
أيها المسلمون ...
لقد رأينا وقاحة الصهاينة والأمريكان وهم يطلبون من الفلسطينين الكف عن إطلاق النار وضبط النفس, فأي ضبط للنفس في هذا الموضوع, وكيف يملك أن يضبط نفسه من يرى أفراد أسرته يقتلون؟ ومنزله وغرف بيوته تهدم بقذائف صاروخية, ثم يقولون: ضبط النفس. وهاهي بعض الأصوات العربية تنادي بما نادى به الصهاينة والأمريكان !!
والحق أنه :
يجب أن يقال للمعتدي كفّ عن عدوانك واستبدادك ...
يجب أن يقال للمسلمين جميعا انتفضوا لنصرة إخوانكم ومقدساتكم في فلسطين ...
يجب أن يقال للجيوش الإسلامية كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
توصيات :
- أخوانكم في فلسطين لا يجدون إلا الله تعالى ناصرا ومؤيدا ومعينا، ثم المؤمنين المخلصين، فادعموا جهادهم بما تستطيعون، وارحموا أيتامهم وفقراءهم، يزدادوا قوة وثباتا بإذن الله تعالى، وتنجوا من سؤال الله لكم يوم القيامة.
والله المستعان .(121/1)
أمريكا تطويها السنن
دروس عجاب من آيات الكتاب..
أضواء على الأسباب في إنزال العقاب
سامي محمد صالح الدالال
إن المتأمل في حال الولايات المتحدة يكاد لا يشك أنها قد تتعرض إلى عقاب إلهي مدمر، شديد الوطأة، عظيم التأثير، واسع الانتشار، يتناول الناس والحيوان والجمادات، ربما تنهار بسببه الأبنية والمنشآت، أو تتشرذم وحدتها إلى كيانات، والله ـ تعالى ـ أعلم بما هو آت !!.
ما ذكرته أعلاه لا يدخل في باب الكهانة ولا التنبؤات، بل هو ما تقتضيه السنن الربانية وما نزل في ذلك من الآيات، في إيقاع العقوبة الإلهية بمن تحققت فيه الصفات: من تكبر وتجبر وافتئات. ولعلنا نبين حال هذه الدولة الآن قبل أن ينزل عليها وابل العذاب من الرب الشديد العقاب.
* أسباب التدمير الإلهي:
نعدد فيما يلي الأسباب التي لأجلها تستحق الولايات المتحدة التدمير الإلهي.
1 - الكفر والصد عن سبيل الله بعد إقامة الحجة:
إن الولايات المتحدة هي دولة أهل كتاب؛ فالمسلمون فيها لا يتجاوزون 5% وهم (أي الأمريكيون) مأمورون كغيرهم من عموم أهل الكتاب بتوحيد الله تعالى، وتنزيهه عن الولد، وبالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ، لكنهم ركبوا رؤوسهم ولم يستجيبوا لدعوة ربهم. قال ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] . وقد تولوا؛ وليس لهم في توليهم حجة، بل قد قامت عليهم البينة، كما قال ـ تعالى ـ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ( 1 ) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ( 2 ) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة: 1 - 3] وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده ما يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار»(1). وقد تبين لكل أحد، وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 1002م، أن دعوة الإسلام قد دخلت بيت كل أمريكي ابتداءً من رئيسها وإدارته إلى الأفراد العاديين من الشعب الأمريكي؛ فالحجة عليهم قائمة. ولم تكتف الولايات المتحدة بالكفر بالإسلام بل وضعت كل إمكاناتها للصد عن سبيل الله بكل وجه استطاعته. فلهذا اندرجت في سنة الله في إهلاك الكافرين والذين هم عن سبيل الله من الصادين. قال ـ تعالى ـ: { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ } [آل عمران: 4]. وقال ـ تعالى ـ: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } [آل عمران: 56] . وقال ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [الأنفال: 36]. وقال ـ تعالى ـ: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44]. وقال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [محمد: 1] . فكل من يكفر ويصد عن سبيل الله مستحق للعقاب الشديد من الله تعالى، ولن تغني عنه قوته وسطوته شيئاً إذا جاء أمر الله تعالى. قال الله ـ عز وجل ـ: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 116].
2 - التأله:(122/1)
لقد ادعت أمريكا لنفسها من القدرات ما لا يليق إطلاقه إلا على الله تعالى؛ فهي تمارس علاقاتها مع كافة دول العالم على طريقة فرعون عندما قال : {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]. وعندما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]. وعندما قال: { مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]. فلما وقع للولايات المتحدة مثل هذا الادعاء، ليس بلسان المقال، بل بلسان الحال، كان لا بد أن تتعرض لعقاب الملك الديان؛ ذلك أن خطابها مع كافة حكومات وشعوب المعمورة كان منطلقاً من جوف هذا الشعور المملوء بالغطرسة والتجبر، وكأنها تقول إنها تعز من تشاء وتذل من تشاء، كما وقع ذلك حين خاطب الرئيس الأمريكي بوش رئيس باكستان مشرف بقوله: أمامك خياران: إما أن تدخل في حلف الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب، وإما أن نعيد باكستان إلى العصر الحجري !! وحالها أيضاً كحال النمرود عندما قال لإبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ: { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] كيف؟ قال: آتي بإنسان حي فأقتله، وآتي بإنسان محكوم عليه بالقتل فأعفو عنه. وهكذا تفعل الولايات المتحدة؛ فمن تريد قتله سلطت عليه آلتها الحربية الجبارة من أمثال الطائرات B 25 أو صواريخ توماهوك (كروز) فأبادته وأحالت أرضه يباباً، ومن أرادت إبقاءه حياً عفت عنه. هكذا هو منطوقها ومفهومها. أي كما يفعل الإله. فسبحان الله ـ تعالى ـ عما يدعيه المتألهون. فبسبب ممارستها ما لا يحق لأحد أن يقوم به إلا الإله الحق استحقت أن يحيق بها العذاب الإلهي، كما حاق بفرعون عندما ادعى الألوهية. قال ـ تعالى ـ: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات: 40]. وقال ـ تعالى ـ: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 137] .
3 - الذنوب:
صحيح أن الذنوب قد تقع من أي إنسان أو أمة، إلا أن الولايات المتحدة هي أبرز من يقود العالم نحو الموبقات، ومن أهمها الاقتصاد العالمي القائم على البنوك الربوية والبورصات المالية، ثم ما تنفذه من مخططات لتغيير السلوك السوي لدى بني الإنسان من خلال إنتاجها للأفلام الإباحية وأفلام الجريمة، المفعمة جميعها بكل ألوان الانحرافات التي تخطر على بال الإنسان أو لا تخطر. وقد تولت هوليود كبر هذه الطامات العامة الشاملة. هذا إضافة لفرض آرائها الضالة وأفكارها الشاذة في السياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها على معظم دول العالم مع تدخلها في الشؤون الداخلية لتلك الدول ومحاولة تغيير هويتها وخصوصياتها تحت مسمى «العولمة». هذا فضلاً عن تهديداتها باستعمال القوة ضد أي دولة تتمرد على السير وفق المخطط الذي تضعه لها ملوِّحةً للجميع بتواجد قواتها في كافة القارات وجميع المحيطات وفي الفضاء وآفاق السموات، وأنها لن تتورع عن استخدامها ضد كل من يقف حائلاً دون تحقيق مصالحها الأنانية الخاصة بها دون غيرها.
ولم تكتف الولايات المتحدة بذلك، بل أخضعت جميع الأنظمة الحاكمة في العالم لتتبنى الديمقراطية كأسلوب لممارسة الحكم، وأن الدول التي لا تفعل ذلك تعتبر دولاً مارقة. فلهذه الذنوب العظيمة، وغيرها كثير جداً، مما لا يتسع المقام لذكره وتعداده فإن هذه الدولة المتجبرة المتكبرة قد وضعت نفسها في موضع من يستحق أن ينزل عليه الغضب الإلهي والعقاب الرباني، حيث إن سنة الله ـ تعالى ـ قد جرت على هذا النحو في كل من يقترف أمثال هذه الموبقات في الأمم السالفات.(122/2)
قال ـ تعالى ـ: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [العنكبوت: 40]. وقال ـ تعالى ـ: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11]. وقال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } [الأنعام: 6] . وقال ـ تعالى ـ: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [غافر: 21]. وقال ـ تعالى ـ: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا}
[الشمس: 14 - 15].
فهذه الآيات تبين سنة الله في أخذه الأمم والدول بذنوبهم التي يقترفونها، محادين في ذلك لما جاءهم من الله ـ تعالى ـ على ألسنة أنبيائه ورسله. وإن الولايات المتحدة ليس لها عهد عند الله ـ تعالى ـ خاص بها لتستثنى من هذه السنن المضطردة؛ فلذلك يصيبها ما يصيبها بما اقترفت أيديها من الذنوب المهلكات.
4 - الظلم:(122/3)
لا يختلف اثنان على الحجم الهائل للظلم الذي أوقعته أمريكا على الدول والشعوب والأفراد؛ فهي إضافة للظلم الذي تمارسه من خلال تدخلاتها وضغوطها السياسية، فإنها تضيف إلى ذلك استعمال قواها العسكرية. إن ذكر مسلسل الظلم الأمريكي للبشرية يمتد عبر قرون وذلك منذ إنشائها. فقد مارس المهاجرون الأوائل إليها جميع ألوان التنكيل والقتل والتشريد بالسكان الأصليين لتلك البلاد ممن أطلق عليهم الهنود الحمر. وأما في العصر الحديث فإن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت السلاح الذري الرهيب مرتين ضد دولة واحدة هي اليابان في كل من هيروشيما ونغزاكي؛ حيث أبادت الملايين من البشر. ثم بعد الحرب العالمية الثانية استمرت في ممارسة هذا المسلسل الإجرامي الدامي إما بشكل مباشر كما فعلت في فيتنام والعراق ولبنان وكوسوفا والصومال وإيران، وكما لا تزال تفعله الآن في أفغانستان وفي دعمها لإسرائيل عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، أو بشكل غير مباشر كما تفعله في دعمها للعدوان الروسي الغاشم على بلاد الشيشان، وكما تفعله في استخدامها للأمم المتحدة لتمرير مخططاتها الإجرامية بحق الدول والشعوب، كالذي حصل لتيمور الشرقية. ولأنها استمرأت الظلم فأصبح جزءاً لا يتجزأ من ممارساتها المتعجرفة فإنها شرعت باستخدام قوتها ونفوذها للتأثير في أسعار البترول وفي تجميد أو مصادرة أموال دول وشركات ومؤسسات وأفراد، وفي اصطناع حروب بين الدول لإنعاش حركة الصناعة الحربية في معاملها. ولم تكتف أمريكا بذلك بل مدت ظلمها إلى الأفراد الإسلاميين والجماعات الإسلامية متذرعة بحجج لا أدلة لها فيها، كما فعلت بالشيخ عمر عبد الرحمن الذي أودعته سجونها دون توفير أدنى متطلبات الحقوق الإنسانية له رغم كبر سنه ومعاناته لعدد من الأمراض. وكما فعلت في تأليبها للأنظمة الحاكمة في كثير من بلاد العالم على الجماعات الإسلامية لتقزيم أنشطتها أو إيقافها بالكلية مع اصطناع وتلفيق التهم لها بالتآمر ليودع أفرادها السجون، ولتمارس ضدهم مختلف وسائل التعذيب. وبعد أحداث 11 سبتمبر 1002م التي عجزت الحكومة الأمريكية عن تقديم أدلة مقنعة أنها من صنع القاعدة، أعلنت الولايات المتحدة مشروعها الظلامي والذي اسمته الحرب على الإرهاب، ولا تقصد من ذلك في الحقيقة سوى ضرب حركات الجهاد الإسلامي أو من يدعمها، فشنت هذه الحرب الضروس الظالمة على طالبان وشعب الأفغان؛ وذلك في إطار مسلسل يتناول الشيشان وكشمير والفلبين وفلسطين وغيرها من الدول والجماعات والتنظيمات. ولقد جمعت أمريكا تحت عباءتها معظم دول العالم ليصبح الظلم ظاهرة عالمية مدعومة بما سموه بالشرعية الدولية، تمارسه هذه الدولة العاتية ومعها حلفاؤها من أعضاء الاتحاد الأوروبي وروسيا واليابان ودول أخرى ضد الشعوب الإسلامية المستضعفة، بغية القضاء على دينها وامتصاص ثرواتها والهيمنة على ممتلكاتها واستثماراتها والسيطرة على أراضيها. إنه ظلم عالمي قادته الولايات المتحدة الأمريكية لم يشهد له العالم مثيلاً على مر قرونه وتعاقب دهوره، فاستحقت لأجل ذلك كله، مما ذكرته ومما لم أذكره (وهو كثير جداً جداً)، أن ينزل عليها غضب الملك الحق الواحد القهار. وما كان لأمريكا أن تنجو من هذه العقوبة؛ وذلك بسبب ظلمها الفادح وجورها الصارخ، ولأن عقوبة الله ـ تعالى ـ للظالمين، سواء كانوا أفراداً أو شعوباً أو دولاً أو أمماً، هي سنة جارية مضطردة مستمرة، لا تزول ولا تحول. ولأن هذه التصرفات الظالمة لم تقتصر على الحكومة الأمريكية فحسب، بل تجاوزت ذلك إلى الشعب الأمريكي نفسه، حيث دلت الاستفتاءات التي أجريت في شهر رمضان 2241هـ أن 58% من الشعب الأمريكي يؤيدون حكومتهم في حربها الظالمة الغاشمة المدمرة على شعب أفغانستان المستضعف. فلذلك فإن عقاب الله ـ تعالى ـ لا يقتصر على الحكومة الأمريكية فحسب بل يمتد في قوته وعنفه ليشمل هذا الشعب الظالم المتكبر.
قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
وقال ـ تعالى ـ: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [القصص: 59].
وقال ـ تعالى ـ: { إنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ } [العنكبوت: 31] .
وقال ـ تعالى ـ: {فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}
[إبراهيم: 13].
وقال ـ تعالى ـ: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف: 59].(122/4)
فأحد أسباب هلاك الأمم والدول أن أهلها ظالمون. وإذا وقع عذاب الله عليهم فإنه لا يتناول الشعب فقط، أي بني الإنسان، في تلك المدن أو الدول، بل هو شامل لكل ما فيها من حضارة وعمارة؛ فالإهلاك يقع عليهم جميعاً كما قال ـ تعالى ـ: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} [الحج: 45] . قال الضحاك: أي قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها(1). وقال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ } [هود: 82]. أي يعذبها الله ـ تعالى ـ عذاباً قاصماً، كما قال ـ عز وجل ـ: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الأنبياء: 11]. فيصبحون عبرة للمعتبرين. قال ـ تعالى ـ: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39]. إن عقوبة الأمم الظالمة تكون إما برجز ينزل عليهم من السماء، كنيازك أو صاعقة، كما قال ـ تعالى ـ: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59]. وكما قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153]. أو بإغراقهم بالطوفان، كما قال ـ تعالى ـ: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14]. وكما قال: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إنَّهُم مُّغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27]، أو بإرسال الصيحة عليهم، كما قال ـ تعالى ـ: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [هود: 67] . أو بالريح كما قال ـ تعالى ـ: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117]. أو أي عقوبة أخرى، كما قال ـ تعالى ـ: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]. وكما قال ـ تعالى ـ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 50 - 52] ، أو كما قال ـ تعالى ـ: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165].
5 - البطر:
وهو كفر النعمة. وكفرها يكون إما بجحد المنعم بها وإما بعدم شكره أو باستخدامها في غير ما خلقت لأجله - كصناعة الخمر من العنب، وكالمتاجرة بالجنس، وكتصنيع السلاح لإخضاع الأمم ظلماً وعدواناً، وكتوجيه الأبحاث العلمية فيما فيه ضرر على الإنسانية كالاستنساخ البشري، وما أشبه ذلك.
إن المتفحص لأسلوب ومنهج حياة الأمريكيين يرى أن جميع هذه الطامات الكفرية موجودة فيهم، كل بحسبه، لكنهم جميعاً مشتركون في انتهاج البطر أسلوباً لحياتهم، ومعلوم أن البطر سبب من أسباب هلاك الأمم. قال ـ تعالى ـ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ بَعْدِهِمْ إلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 58]. قال ابن كثير: بطرت معيشتها، أي طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق، كما قال ـ تعالى ـ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [النحل: 112 - 113]، وقوله {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} أي رجعت خراباً ليس فيها أحد(2).(122/5)
ومن أنواع البطر التباهي بالقوة والجبروت واستخدام ذلك للتعدي على الإسلام وعلى الداعين إلى الله وللصد عن سبيل الله. وهو ما تفعله أمريكا، وتشجع وتؤيد حلفاءها على فعله واقترافه. قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 47]، فهذه أمريكا قد جالت في البحار والأجواء والبراري بحاملات طائراتها ومدمراتها وبطائراتها وصورايخها، وبدباباتها ومدرعاتها متباهية بذلك أمام شعوب العالم ومرهبة لهم ليسمعوا لها ويطيعوا. وحالهم كحال قريش عندما خرجوا لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم في بدر؛ إذ قال أبو جهل: لا والله! لا نرجع حتى نرد ماء بدر وننحر الجزر ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان، فكان عاقبة ذلك أن هزمهم الله ـ تعالى ـ شر هزيمة، وأنزل بهم أمحق عقاب فتشرذموا بين قتيل وأسير وفار مذعور، فانكسرت شوكتهم وحزنت نفوسهم. ولذلك نقول إن هذا الصولجان الحربي الذي رفعته الولايات المتحدة في وجه أمم الأرض، بطرة به، قد يحل به من العقاب الإلهي ما يعطل مفعوله ويخمد أنفاسه فيصبح كخردة الحديد (سكراب). وكانوا قد أعدوه للبطش بالدول والشعوب، تماماً كما وصف الله ـ تعالى ـ حال عاد عندما قال لهم نبيهم هود ـ عليه السلام ـ: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128 - 130].
فهلاَّ اعتبرت الولايات المتحدة بعبر التاريخ، ونظرت في حال الأمم السالفة التي مارست البطش ضد عموم البشر فكان ذلك سبباً لإهلاكهم! قال ـ تعالى ـ: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف: 8]. وقال ـ تعالى ـ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } [ق: 36 - 37]. وقال ـ تعالى ـ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98]. وقال ـ تعالى ـ: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] قال ابن عباس: «ليس بحين نداء ولا نزاع ولا فرار» أي «نادوا النداء حين لا ينفعهم».
6 - الترف والإسراف:
معلوم لدى جميع قاطني المعمورة أن أعظم دولة تعيش حالتي الترف والإسراف هي الولايات المتحدة الأمريكية. إنه ترف وإسراف في كل شيء، في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب والأثاث والترفه (السياحة، الرياضة، الأفلام ـ سينما أو فيديو أو تلفزيون ـ، الإنترنت، وغيرها كثير...)، ومما يساعدها على ذلك أن معدل دخل الفرد فيها هو أكبر معدل بين جميع دول العالم. وقد بين الله ـ تعالى ـ أن من أسباب إهلاكه الأمم ترفهم وإسرافهم، قال ـ تعالى ـ: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 11 - 15]. وقال ـ تعالى ـ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِءْيًا} [مريم: 74] . وقال ـ عز وجل ـ: {قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 32 - 34]. وقال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}
[طه: 127].(122/6)
إن الشعب الأمريكي بسبب ما هو فيه من الترف والإسراف استشعر لنفسه التميز دون بقية شعوب الأرض. وهذا هو شأن المسرفين على مدى التاريخ؛ إذ كان ذلك هو أحد أسباب تصدي الملأ لأنبيائهم، كما قال ـ تعالى ـ: {وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...} الآية، إلى أن قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 33 - 41] . وكما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34]، وكما قال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. فكما تصدى المترفون لأنبيائهم، كذلك هو حال الأمريكان المترفين الآن؛ فإنهم يتصدون للحق وللإسلام في جميع أنحاء العالم، ولذلك فإنهم قد أتوا فعلاً من الأفعال التي يهلك الله ـ تعالى ـ بها الأمم. قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
7 - الاستكبار والغرور:
لسنا بحاجة إلى سَوْق النقولات الكثيرة التي صرح بها المسؤولون الأمريكيون المتعاقبون والتي تدل على شدة صلفهم وعتو استكبارهم وعظم غرورهم. إن الحرب العالمية الثالثة التي أعلنتها أمريكا ضد ما سمته الإرهاب ما هو إلا تعبير عن هذه الغطرسة والتكبر والتجبر. إن الشعب الأمريكي وحكومته في عجرفتهم وفي استكبارهم على الحق وعلى أمم الأرض ساروا على نفس منوال الأقوام الذين تصدوا لأنبيائهم ورسلهم، والذين جاء وصفهم في القرآن في آيات كثيرة منها:
قال ـ تعالى ـ: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ}
[الأعراف: 76].
وقال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ}
[المؤمنون: 45 - 46].
وقال ـ تعالى ـ: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88].
وقد قادت الولايات المتحدة الاستكبار العالمي باسم الأمم المتحدة والشرعية الدولية ضد المستضعفين المسلمين، وخاصة حربها ضد طالبان ومن معهم من شعب الأفغان، فاستحقت التأهيل لأن ينزل بها عقاب الله ـ تعالى ـ الساحق الماحق. تلك هي سنة الله ـ تعالى ـ في المتجبرين والمتكبرين، إنه ينزل بهم عقابه الأليم لذنبهم الجسيم وبما حادوا عن منهاجه القويم.
قال ـ تعالى ـ: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 173]. وقال ـ تعالى ـ: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ} [فصلت: 15 - 16].
وقال ـ تعالى ـ: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15] أي: استنصرت الرسل ربها فنصرهم. وقال ـ تعالى ـ: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } [غافر: 35].
8 - الإجرام:
الولايات المتحدة هي بيت الجريمة في العالم، وذلك على المستويين الداخلي والخارجي. فنسبة وقوع الجرائم في داخلها هي أعلى نسبة بين جميع شعوب الأرض. وكذلك نسبة ممارستها الجريمة بحق كافة البلدان وسكانها هي أيضاً أعلى نسبة في المعمورة. وتستجمع أمريكا لنفسها الحظ الأوفى من تنوع الجرائم، سواء على مستوى الأفراد أو الدول. غير أن أبرز ما فيها هو سعة مساحة ممارسة الإجرام الوحشي على مستوى شعوب الدول الأخرى.(122/7)
فهي لا تتورع لحظة، في سبيل تحقيق مصالحها الذاتية، عن استعمال جميع أنواع أسلحة الفتك والقتل الجماعي، بما في ذلك السلاح الذري أو القنابل الحارقة أو القذائف والصواريخ الماحقة أو الغازات السامة أو غير ذلك مما هو متخم في ترسانتها من مختلف الأنواع التي تؤدي إلى المجازر العامة. كما أنها أيضاً لا تتوانى في استعمال الحصار الاقتصادي ضد أي دولة لا تستجيب لرغباتها أو تتردد في تنفيذ طلباتها، بقصد تجويع شعب تلك الدولة وإنهاكه اقتصادياً مما يقود إلى إضعافه وإلى تقليص إمكاناته الخدماتية وانتشار الأمراض والأوبئة بين أفراده. ويدخل في مفهوم الحصار الاقتصادي لديها مصادرة أموال تلك الدولة أو تجميدها. وقد أصبح هذا اللون من الإجرام خلقاً راسخاً لدى قيادة الولايات المتحدة؛ إذ مارسته ضد العراق وإيران وأفغانستان وليبيا وغيرها من الدول الإسلامية. وهي في كل ذلك تنطلق من حقد دفين على الإسلام وأهله. ولسنا بصدد تعداد أنواع الجرائم الكارثية التي اقترفتها تلك الدولة الآثمة، فضلاً عن الجرائم التي لا تزال تبوء بها أو تلك التي في غياهب جعبتها. ولكن {اوَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ } [فاطر: 43] .
قال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } [الأنعام: 123] . ورغم أن المجرم ينبغي له أن يتوقع نزول العقاب به في أية لحظة، إلا أن هذه الدولة الآثمة غطت عينيها وأشاحت بوجهها عن كل ذلك، متجاهلة قول الله ـ تعالى ـ: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } [الأنعام: 124]، وقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 50]. وقوله ـ تعالى ـ: {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [يوسف: 110] ، وقوله ـ تعالى ـ: {إنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} [السجدة: 22]. كما أن الولايات المتحدة لم تلتفت إلى التاريخ لتستقي منه العبر وتأخذ منه المواعظ؛ فكم من الدول العظيمة قد دمرها الله ـ تعالى ـ بسبب إجرامها الفاحش. قال ـ تعالى ـ: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [النمل: 69]. وقال ـ تعالى ـ مبيناً عاقبة جريمة قوم لوط: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 84] . وقال ـ تعالى ـ مبيناً ألوان العذاب التي أنزلها على قوم فرعون بسبب إجرامهم: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ} [الأعراف: 133]. وذكر الله ـ تعالى ـ عذابه الذي أنزله على عاد قوم هود بسبب إجرامهم: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 42 - 25]. فلو أن الولايات المتحدة، حكومة وشعباً أصغت أذنها للحق لعلمت أن الإسلام هو الحق المبين، غير أنها ركبت رأسها واستمرأت الجريمة والإجرام، فحاقت بها دعوات المظلومين المضطهدين الذين عانوا من إجرامها وظلمها، كما دعا موسى ـ عليه السلام ـ على فرعون وقومه فيما حكى الله ـ تعالى ـ عنه إذ قال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} [الدخان: 22]. فماذا كانت النتيجة؟ . قال ـ تعالى ـ: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إنَّكُم مُّتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان: 23 - 29] . فهي سنة جارية أن الله ـ تعالى ـ يهلك المجرمين، كما قال ـ عز وجل ـ: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان: 37] ، ولما كانت الولايات المتحدة قد وقعت فيما وقعت فيه الأمم التي قبلها من الجريمة والإجرام كان لا بد أن تدفع ضريبة ذلك؛ إذ لا استثناء قد حازته من رب العالمين لتكون خارج مسار السنن الإلهية في إهلاكه للمجرمين.
9 - الفسق:(122/8)
رغم أن حجة الله ـ تعالى ـ قد قامت على الحكومة الأمريكية وكذلك على شعبها إلا أنها واظبت على ركوب رأسها فرفضت الهداية وكفرت بالإسلام، فاستحقت أن يلحق بها وصف الفسق من هذا الوجه. قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إلاَّ الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99]. وأما الفسق بمعنى الفجور وارتكاب المعاصي فحدث ولا حرج. وقد ذكرت شيئاً منه عند الكلام عن الذنوب. فالأمة الأمريكية أمة فاسقة عقدياً وسلوكياً، وإن حالهم كحال الذين قال الله ـ تعالى ـ عنهم: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102]. وبسبب فسقهم اتبعوا قياداتهم وزعماءهم دون أن يكلفوا أنفسهم معرفة وتمييز الحق من الباطل، فصار شأنهم كشأن قوم فرعون الذين قال الله ـ تعالى ـ عنهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54]. وقد مضت سنة الله ـ تعالى ـ في الأولين في إهلاك الفاسقين، وهي جارية كذلك على وجهها في الآخرين، وليس لأمريكا عند الله ـ تعالى ـ عهد أن يسلها من سنته كما تستل الشعرة من العجين؛ فلا نشك لحظة أنها ستلحق بالغابرين.
قال ـ تعالى ـ: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 59]. وقال ـ تعالى ـ: {وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]. وقال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [الأنعام: 49]. فإهلاك الله ـ تعالى ـ لأمريكا بسبب ما ذكرناه آت في وقته إلا أن يهتدوا. قال ـ تعالى ـ: {بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}
[الأحقاف: 35] .
10 - الفساد والإفساد:
كأي دولة، لا يمكن أن تعترف الولايات المتحدة بالفساد أو الإفساد، قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة: 11]، وهذا مخالف للحقيقة {أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ } [البقرة: 12] .
لم تكتف الولايات المتحدة بالفساد في داخل أراضيها، بل مدت ذلك إلى كل أنحاء العالم، إفساداً في السياسة وفي الاقتصاد وفي الثقافة والفكر وفي الأخلاق والسلوك وفي الاجتماع وفي الإعلام، وفي كل مرفق من مرافق الحياة. لقد أضحت أمريكا المعتمد الرئيسي لكل من يريد أن يحقق مآربه الشيطانية عن طريق الفساد والإفساد، ولم تتورع عن استخدام آلتها الحربية الهائلة لتضغط على شعوب الأرض ليقبلوا فسادها ويبشوا لإفسادها!! فتراها تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف، وصار حالهم كحال عاد {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} [الفجر: 11 - 12] وانطبق عليهم قوله ـ تعالى ـ: {وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 205]، وقوله ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25]. فهؤلاء {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء: 152] والذين دوماً يقال لهم {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا} [الأعراف: 85] والذين أبوا أن ينخرطوا في القوم الذين قال الله ـ تعالى ـ عنهم: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود: 116]، هؤلاء ماذا ينتظرون من الله تعالى؟ هل ينتظرون أن يكون مآلهم كالمؤمنين ؟! حاشا وكلا!!
قال ـ تعالى ـ: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]. إذاً ماذا ينتظرون؟ نحن نقول لهم: لا تنتظروا إلا سنة الله ـ تعالى ـ الجارية في أخذ المفسدين وإهلاكهم. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] .
وقال ـ تعالى ـ: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}
[الأعراف: 103] .
11 - الضلال.
نعم! إن أمريكا ومن كان على شاكلتها هم الضالون، هم النصارى الذين ندعو في كل ركعة الله ـ تعالى ـ أن لا نسلك سبيلهم، ولا ننتهج نهجهم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ( 6 ) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7].(122/9)
لقد تبدلوا الكفر بالإيمان، والله ـ تعالى ـ يقول: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108]، وأشركوا بالله، وزعموا أن له ولداً، والله ـ تعالى ـ يقول: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا} [النساء: 116]. وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، والله ـ تعالى ـ يقول: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا} [النساء: 136]. وكفروا وصدوا عن سبيل الله، والله ـ تعالى ـ يقول: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيدًا} [النساء: 167]، ويبذلون جهدهم ليشتروا الضلالة وليحرفوا المسلمين عن الصراط المستقيم، والله ـ تعالى ـ يقول: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ } [النساء: 44] ويتخذون من الإعلام الماجن وسيلة لإضلال الناس، فينطبق عليهم قوله ـ تعالى ـ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6]، ولا نسترسل أكثر من ذلك في بيان ألوان وأنواع ضلالهم وضلالالتهم، وواقع الحال أنهم: {وَمَا يُضِلُّونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران: 69] .
إن هذه الدولة التي ضلت في عقيدتها وأخلاقها، وأرادت أن تنشر هذا الضلال والإضلال في كل أنحاء البسيطة، لا بد أن تنال جزاءها العادل وتجري عليها سنة الله ـ تعالى ـ في إهلاك الضالين والمضلين، كما قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] .
12 - المكر:(122/10)
إنه التخطيط في الخفاء، وهو ما برعت به الـ C.I.A (وكالة المخابرات الأمريكية). فما من دولة إلا ولها فيها عيون وجواسيس يتحسسون الأخبار، ويراقبون التحركات، ويتلصصون على الخصوصيات، ويسجلون الأصوات، ويلتقطون الصور الواضحات، ويدفعون الرشاوي لكبار وصغار الشخصيات، ويوقعون بين مختلف الأحزاب والجماعات والفئات، ويدبرون المؤامرات، ويخططون للحروب والانقلابات، ويقيلون ويعينون الرؤساء والزعامات، ويقدمون الهدايا وملايين الدولارات لكل من تعاون معهم في الملمات، ومن نكص كالوا له ألوان التهديدات، يمارسون ذلك في كافة البلاد والأقطار والدول، ما كان حكمه ملكياً أو كان معدوداً في الجمهوريات... كل ذلك وغيره أكثر، هو ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق مكر إدارتها وتنفيذ المخابرات. لقد انصب معظم المكر الأمريكي في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي على الكيد للعمل الإسلامي من خلال إعلان الحرب العلنية والخفية على رموزه ومؤسساته، وقامت من خلال الدس والعس بنشر جواسيسها في كل مكان، واستخدمت الزعماء والأحزاب في تنفيذ مؤامراتها وإنزال كيدها على كل ما يمت للإسلام بصلة. وليست حربها المعلنة على طالبان أفغانستان إلا وجهاً واحداً سافراً مما تعده للمستقبل فيما يخص الإسلام والمسلمين. لقد نسجت هذه الدولة المتجبرة على نفس منوال الذين حاربوا الله ورسوله من قبلها. قال ـ تعالى ـ: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 42]. غير أن المسار الماكر الذي اختطته الولايات المتحدة لنفسها في حربها على الإسلام ما هو إلا مكر بأنفسهم من حيث الحقيقة. قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123]. وقال ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123]. حتى وإن كان مكرهم يتضمن في طياته ومخططاته استعمال أعظم القنابل التي لو ألقيت على الجبال لأزالتها كالقنابل الذرية والهيدروجينية أو ما هو أشد منها، فإن ذلك لا يغني عنهم من الله شيئاً. قال ـ تعالى ـ: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم: 46 - 47] فأين مكر الولايات المتحدة من مكر الله تعالى. قال ـ عز وجل ـ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران: 54]، وقد غاب عن هؤلاء المخططين الأمريكيين المستكبرين أن من سنة الله ـ تعالى ـ أن جعل عاقبة مكر السوء ترجع على صاحبها. قال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر: 42 - 43]. فما هي سنة الله ـ تعالى ـ في الماكرين الأولين والتي ستطوي الولايات المتحدة في طياتها بعد حين إن شاء الله تعالى؟ إنها أمران:
الأول: سرعة مجيئها. قال ـ تعالى ـ: {إذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا } [يونس: 21].
الثاني: شدة عذابها وتدميرها.
قال ـ تعالى ـ: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ} [الأنعام: 124].
وقال ـ تعالى ـ: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 50 - 52].
لقد تصرفت الولايات المتحدة، على مدار الساعة والأيام والسنين والعقود في مكرها بالأمم، وكأن هذه الأرض ليس لها إله سميع خبير بصير عليم قادر جبار متكبر منتقم، واستبعدت أن يأتيها بأس الله ـ تعالى ـ ليلاً أو نهاراً جزاء وفاقاً على مكرها القبيح الذي تفوح منه روائح الإجرام والغطرسة والعتو.
قال ـ تعالى ـ: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99].
13 - أسباب أخرى:
لقد اقترفت الولايات المتحدة كثيراً جداً من الطامات والموبقات تتركز معظمها:
1 - في محاربة الإسلام وأهله.(122/11)
2 - في دعمها المتواصل لدولة الكيان اليهودي.
3 - في انتهاكاتها الصارخة لحقوق الإنسان وتدخلها في خصوصياته على مستوى الأفراد والدول، والمسلمين منهم خاصة.
ولذلك فإن المقام لا يتسع للاستفاضة في ذكر كل ما أوقعت نفسها فيه من إدراج كيانها في مساق السنن الإلهية في إهلاك الأمم؛ فهناك أسباب أخرى غير التي ذكرناها وهي عديدة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1 - التولي عن الاستجابة لله ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم :
وهذا أمر معلوم، ولو لم يكن إلا هو لكفى في نزول العذاب بها قال ـ تعالى ـ: {لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية: 22 - 24] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَإن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [التوبة: 74] .
وقال ـ تعالى ـ: {وَإن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة: 3].
2 - نسيان ما ذُكِّروا به:
قال ـ تعالى ـ في وصف حالهم: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14]. فاستحقوا العذاب، ومنه العداوة والبغضاء فيما بينهم.
قال ـ تعالى ـ: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 14].
وقال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 44 - 45] .
3 - العتو:
وهو عظم الاستعلاء بالباطل، وقد حازت منه الولايات المتحدة الحظ الأوفى؛ ولذلك فهي مستحقة لنزول الغضب الإلهي والعقاب الرباني بسبب ذلك.
قال ـ تعالى ـ: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا ( 8 ) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق: 8 - 9] . وذلك أنهم {اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21] .
4 - قسوة القلب:
تلك خاصية تخص الأفراد بسبب قلة أو انعدام ذكرهم الله تعالى. لكن الرزية تكون أعظم إذا أصبحت هذه الخاصية سمة لكل أو معظم أفراد المجتمع؛ فإذا ما حصل ذلك، كما هو كائن الآن في الولايات المتحدة ـ إذا استثينا المسلمين ـ فإن هذا المجتمع أصبح مستحقاً للعذاب الإلهي. قال ـ تعالى ـ: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الزمر: 22]. وقال ـ تعالى ـ: {فَلَوْلا إذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ........} إلى أن قال ـ تعالى ـ: صلى الله عليه وسلم {حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإذَا هُم مُّبْلِسُونَ}
[الأنعام: 43 - 44].
5 - السخرية والاستهزاء:
لقد اتخذت كثير من المجامع الأمريكية الإسلام ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وأحكام الله ـ تعالى ـ التي تعبد الله ـ تعالى ـ بها عباده المؤمنين، والتي نزلت آياتها المحكمات في كتابه المبين كالصلاة والحجاب والإرث وغيرها، مادة:
1 - للسخرية: قال ـ تعالى ـ: { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}
[البقرة: 212] .(122/12)
2 - وللاستهزاء: قال ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]. وقال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَإذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُون} [المائدة: 57 - 58]. وقال ـ تعالى ـ: {وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ( 7 ) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 8 ) وَإذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الجاثية: 7 - 9]. فمن فعل ذلك كان مستحقاً أن ينزل عليه عذاب الله تعالى. قال ـ تعالى ـ: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} [الأنعام: 10]. وقال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [الرعد: 32] .
6 - العدوان:
بات العدوان والاعتداء على الغير سمة من سمات الولايات المتحدة الأمريكية، وقد ذكرنا عدداً من اعتداءاتهم على الشعوب الإسلامية وغيرها، والله ـ تعالى ـ يقول: {وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]. وفي تعاليم دينهم أن من لطمك على خدك الأيسر فأدر له الأيمن!
فضربوا بذلك عرض الحائط؛ فهم لهذا مستحقون لعذاب الله تعالى. قال ـ تعالى ـ: { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [البقرة: 229]. ولفظها عام وإن كانت على حكم مخصوص، وقد بينا العقوبة الإلهية للظالمين.
7 - العلو والاستعلاء:
لقد حكم فرعون وملؤه مصر وكانوا متعالين.
قال ـ تعالى ـ: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: 45 - 46] . وقال ـ تعالى ـ: {وَإنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83]. وقال ـ تعالى ـ: {إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [القصص: 4]. وقد حذرهم موسى ـ عليه السلام ـ من هذا الاستعلاء على الله والتكبر على عباده، فقال لهم: {وَأَن لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [الدخان: 19]. فإذا كان هذا الوصف، وهو العلو والاستعلاء، قد ألحق بفرعون؛ فكيف تكون درجة هذا الوصف عندما يلحق بالولايات المتحدة التي استعلت على جميع أمم الأرض؟ لقد استعلت أمريكا على أمور كثيرة من الخير والصلاح، ومن أهمها الإيمان رغم إقامة الحجة عليها كما بينا، وما سبب ذلك إلا ما قاله الله ـ تعالى ـ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14]. فكما طوت سنة الله ـ تعالى ـ فرعون لعلوه وتعاليه، كذلك تطوي هذه السنة الولايات لعلوها واستعلائها.
8 - افتراء الكذب على الله تعالى:
لقد جاء الحق إلى الشعب الأمريكي. والحق هو الإسلام، فعلموا به، وأقيمت الحجة عليهم كما بينا، لكنهم ردوا هذه الدعوة الربانية التي وصلت إليهم، وردهم لها هو تكذيب بها وافتراء على الله تعالى. قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21] . وقال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ} [العنكبوت: 68]. فاستحقوا لذلك عقوبة الله تعالى. قال ـ عز وجل ـ: { إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]. وقال ـ تعالى ـ: {إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] ودل التعقيب بقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} أن الغضب والذلة جزاء للافتراء على الله ـ تعالى ـ من حيث العموم، وليس مخصوصاً بمن اتخذوا العجل.
9 - اتباع الهوى والشهوات:(122/13)
قال ـ تعالى ـ: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50]. وهؤلاء الأمريكان قد فعلوا ذلك. وقد بينا كيف أن العقوبة الإلهية تنزل في الضالين، وهي نازلة كذلك في الذين يتبعون الشهوات الذين يبغون للمؤمنين الانحراف والميل عن الطريق المستقيم. قال ـ تعالى ـ: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء: 27]. فالعاقبة لهم أنهم يلقون غياً، قال ـ تعالى ـ : {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] .
01 - الجاهلية:
وصف الله ـ تعالى ـ من يعبد غيره بالجهل. قال ـ تعالى ـ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [الزمر: 64]، ووصف أعمال الكفار بأنها صادرة عن جاهلين. قال ـ تعالى ـ: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [القصص: 55]. ووصف من لا يحكم بحكم الله ـ تعالى ـ بأن حكمه حكم الجاهلية. قال ـ تعالى ـ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] وبين الله ـ تعالى ـ أن مبعثهم النفسي مستمد من حمية الجاهلية. قال ـ تعالى ـ: {إذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ}
[الفتح: 26].
وهذه الأوصاف الأربعة الملحقة بالجاهلين والجاهليين تنطبق كلها على الولايات المتحدة ـ نستثني منهم المسلمين ـ مما يعرضهم إلى عقوبة الله ـ تعالى ـ على ما بيناه وفصلناه سابقاً.
* الخلاصة:
لقد اجتمعت في الولايات المتحدة جميع الأسباب التي تجعلها في موقع استحقاق التدمير الإلهي والعقوبة الربانية، وهي اثنان وعشرون وصفاً (ليس على سبيل الحصر):
(1) الكفر والصد عن سبيل الله بعد إقامة الحجة.
(2) التأله.
(3) الذنوب.
(4) الظلم.
(5) البطر.
(6) الترف والإسراف.
(7) الاستكبار والغرور.
(8) الإجرام.
(9) الفسق.
(10) الفساد والإفساد.
(11) الضلال.
(12) المكر.
(13) التولي عن الاستجابة لله تعالى.
(14) نسيان ما ذُكِّروا به.
(15) العتو.
(16) قسوة القلب.
(17) السخرية والاستهزاء.
(18) العدوان.
(19) العلو والاستعلاء.
(20) افتراء الكذب على الله تعالى.
(21) اتباع الهوى والشهوات.
(22) الجاهلية.
إن مجمل الذي ذكرته يقع ضمن ضوابط:
الأول: قال ـ تعالى ـ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}
[الأعراف: 34] .
أي متى ينزل العذاب وكيف ينزل، أمره إلى الله وحده وهو محدد في سابق علمه عز وجل.
الثاني: قال ـ تعالى ـ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] فإنزال العقوبة الإلهية على الولايات المتحدة هو بحسب مشيئة الله: إن شاء أنزله، وإن شاء أخره، وإن شاء أن يهديهم هداهم وتاب عليهم. فليس لأحد أن يتألى على الله تعالى بشيء أو أن يتقدم بين يديه بغيب؛ فلله الأمر من قبل ومن بعد.
الثالث: لو كان في علم الله ـ تعالى ـ أنه سينزل بهم عقابه، فلا بشر يعلم كيف سيكون: هل بكارثة سماوية أو أرضية تدهمهم، أو بتفكيك فدراليتهم فيجعل بأسهم بينهم، أو بتدمير اقتصادهم فيضنك عيشهم، أو بأي شيء آخر فيلقون مصيرهم؛ فالله تعالى أعلم بخلقه وهو ربهم.
نسأل الله ـ تعالى ـ أن يهدي أمم الأرض كلها إلى اتباع سبيل الرشاد الذي جاء به خير العباد، ليتحقق لهم السداد، والفوز بالكرامة في الدنيا والنجاة يوم المعاد. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
---------
(1) رواه مسلم.
(1) مختصر تفسير ابن كثير، 2 / 945.
(2) مختصر تفسير ابن كثير، 3 / 02.
موقع مجلة البيان
http://www.albayan-magazine.com/bayan-179/179-20.htm(122/14)
أمريكا ومشروع التقسيم في العراق
هواجس أم تصميم
محمد الزواوي
كما دخلت الإدارة الأمريكية في أزمة جديدة بعد المواجهة الإيرانية في مجلس الأمن، مع تملُّك إيران لجزء كبير من مفاتيح اللعبة في العراق، وبات ظاهر الوجود الأمريكي في العراق أنه يمثل مأزقاً للإدارة الأمريكية، وأنها دخلت مستنقعاً لا تستطيع الخروج منه، وأن الوضع ينتقل من سيئ إلى أسوأ، ولكن مسؤولي التخطيط الاستراتيجي في الإدارة الأمريكية يرون عكس ذلك.
فالاستراتيجيون ينظرون إلى العالم بخرائطه كنقاط مضيئة من النفط والذهب والموارد والمصادر الطبيعية، ثم بعد ذلك ينظرون إلى تلك الأراضي وسكانها وسبل السيطرة عليهم، وينظرون إلى الاختلافات العرقية والمذهبية والقبلية وكيفية استغلالها سواء بالتحريش بينهم أو نصرة طرف على الآخر، أو عن طريق السيطرة على الأطراف معاً. ولا أعتقد أن الاستراتيجيين الأمريكيين يرون نقطة أكثر إضاءة على الخريطة من شمال العراق الغني بالموارد الطبيعية.
فشمال العراق من أغنى مناطق العالم بالثروة النفطية، مثل آبار الموصل وكركوك وخانقين، وتقدر كمية المخزون الاحتياطي
المسلمون والعالم ـ أمريكا ومشروع التقسيم في العراق هواجس أم تصميم؟
للسنة الرابعة للحرب على العراق وسقوط بغداد، وما يزال القادة العسكريون الأمريكيون يطالعوننا بتصريحات يؤكدون فيها على عدة أشياء: لا لتقسيم العراق، لا للقواعد الأمريكية الدائمة، لا للانسحاب السريع قبل تجهيز الجيش العراقي، لا للتخفيض الكبير لعدد الجيش الأمريكي بالعراق. ولكن من ينظر إلى الأوضاع على الأرض يعلم أن الولايات المتحدة لن تستطيع المضي قُدُماً في وجودها بالعراق على هذا الوضع المضني والمرهق لجيشها، في ظل انحسار الدعم الشعبي بالداخل الأمريكي، والروح المعنوية المتدنية للجنود الذين لا يرون نوراً في نهاية النفق المظلم.
لحقول النفط في كركوك وحدها بأكثر من 10 مليارات برميل، بقدرة إنتاجية تصل إلى ما مقداره 750 ألف برميل إلى مليون برميل يومياً، وفي عام 2002م كان خط الأنابيب ينقل نحو مليون برميل من النفط الخام يومياً من حقول كركوك النفطية إلى ميناء جيهان التركي، كما كان الاستيلاء على مدينة كركوك من أهم أهداف قوات الاحتلال الأمريكي بمشاركة الميليشيات الكردية منذ بدء العمليات العسكرية في شمال العراق.
كما يوجد العديد من الأنهار ومصادر المياه العذبة التي تعد محورية وهامة لكل دول المنطقة، ويتوقع أن تكون مصدراً للصراع في القرن الحالي، كما تحوي المنطقة العديد من الثروات الأخرى مثل النحاس والكبريت والكروم والملح، كما أن شمال العراق الذي يسيطر عليه الأكراد يمثل فراغاً استراتيجياً كبيراً للإدارة الأمريكية من الحماقة ألا تسيطر عليه؛ فالأكراد يقبعون وسط محيط معاد من تركيا وإيران وسورية، وسيرحبون بشدة بأن يدخلوا في «الحماية الأمريكية»، وهو ما خططت له الإدارة الأمريكية منذ البداية.
وقد أشار العديد من المراقبين والمحللين إلى أن الإدارة الأمريكية «فشلت في التخطيط لمرحلة ما بعد غزو العراق»، ولكن الأيام أثبتت أن هذا منافٍ للحقيقة؛ فالولايات المتحدة خططت تحديداً لهذه المرحلة وبكل دقة وتصميم، واستطاعت الوصول إلى هدفها الأسمى في العراق بعد احتلالها، هذا الهدف هو إيجاد مناخ من الفوضى وَضَعَ بيئةً يكون الكل فيها خاسراً في العراق، من انتشار الفوضى والسلاح واليأس بين جميع أطراف المعادلة العراقية. وليس خافياً على ذي لُبٍّ المصلحة الأمريكية في تدمير الأضرحة والمزارات الشيعية؛ فهذا هو المناخ المناسب لإشعال حرب أهلية في العراق، هذه الحرب التي من شأنها تعميق فكرة انفصال تلك الأطراف بعضها عن بعض، وتحقيق حكم ذاتي لكل من السنة والشيعة والأكراد، ومن هذه النقطة سوف تبدأ الإدارة الأمريكية في الدخول في المرحلة الجديدة، في دويلات ما بعد العراق.
فتقسيم العراق سيكون بمنزلة طوق النجاة للإدارة الأمريكية في العراق؛ وقد لا يكون هناك ترحيب بالقوات الأمريكية في المناطق السنية، أو حتى في المناطق الشيعية بسبب المواجهة النووية مع إيران والأبعاد الاستراتيجية الأخرى للمد الفارسي في المنطقة، وسمعة إيران والشيعة في العالم الإسلامي على المدى البعيد. وفي ظل وجود تركيا وإيران وسورية الذين يعارضون وجود دولة كردية، فسوف تكون الولايات المتحدة هي خير نصير «للمظلوم الضعيف المضطهد الشعب الكردي» الذي يطالب بحق من حقوق الإنسان، ألا وهو «حق تقرير المصير، وحق الانفصال» كما حدث في تيمور الشرقية التي انفصلت عن إندونيسيا بنفطها ومواردها، وسنغافورة التي انفصلت عن ماليزيا بحق تقرير المصير، وسترحب أمريكا بوجود قواعد دائمة لها في المنطقة الكردية بشمال العراق، كما أن الأرقام تؤكد أن المنطقة الكردية هي أكثر مناطق العراق أمناً للأمريكان، وتشهد المنطقة أقل العمليات العسكرية ضد الاحتلال ووجوده بالعراق.(123/1)
وخُطَطُ تقسيم العراق ليست وليدة اليوم أو العام الماضي أو حتى الأيام التي سبقت غزو العراق، ولكن تقسيم العراق كان مطروحاً على الأجندة الأمريكية منذ عهد طويل، ومنذ صدور وثيقةClean Break الشهيرة عام 1996 التي كانت تهدف إلى تأمين «الدولة الصهيونية»، كما نادى بتقسيم العراق العديد من المفكرين والمؤرخين الصهاينة، أمثال (بيني موريس) و (روبرت بلاكويل) و (برنارد لويس) وغيرهم كثير، والذين كانوا يطالبون بتصحيح الخطأ الذي وقعت فيه بريطانيا عندما كانت تحتل العراق؛ فقد صرح المؤرخ الصهيوني (بيني موريس) في عدد من الإذاعات الأمريكية قبيل الحرب على العراق أن «العراق دولة مصطنعة رسمها الإنجليز وخلطوا فيها عشوائياً شعوباً وطوائف لا تريد في الحقيقة أن تتعايش مع بعضها». كما اعتبر المؤرخ اليهودي الأمريكي (برنارد لويس) العراق دولة مصطنعة، وأن احتلاله فرصة لتصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبه البريطانيون، بإعادة تقسيمه عرقياً وطائفياً.
كما اتخذت الولايات المتحدة خطوات أخرى من أجل تحقيق هدفها في تقسيم العراق، بالرغم من أن كل التصريحات العلنية من الإدارة الأمريكية كانت تنفي تقسيم العراق، وأن أمريكا تريد الحفاظ على وحدته وسلامة أراضيه، ولكن الدستور العراقي الجديد الذي تم الاستفتاء عليه في 15 أكتوبر 2005م ليجسد مفهوم التقسيم من خلال تسمية الدولة بالدولة الاتحادية أو الفيدرالية، قد جاءت عبارة (اتحادي) 61 مرة في هذا الدستور، كما فرق ما بين الدستور الاتحادي ودستور الأقاليم، بالرغم من تأكيده على عدة عبارات مثل: الهوية الإسلامية، والحفاظ على سلامة أراضي العراق، والالتزام بميثاق الجامعة العربية، إلى آخر هذا الكلام الذي لا يهم أمريكا في شيء؛ فما كان يهم الولايات المتحدة فيه هو عبارة واحدة فقط: وهي أنه دستور اتحادي؛ مما يجعل الباب مفتوحاً أمام الانفصال بعد أن تتشكل هوية كل «اتحاد» وإقليم على حدة، وصياغته لقوانين وتنظيمات خاصة به وبإدارة ثرواته.
كما يحمل هذا الدستور في طياته بذور الفرقة والخلاف، بأن وضع بعض العبارات غير الواضحة من أجل أن تكون هناك مقدرة على إشعال الخلافات في أي وقت، مثل تلك الفقرة في المادة (109) التي تقول: «تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الإقليم والمحافظات المنتجة؛ على أن توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع أنحاء البلاد، مع تحديد حصة لفترة محددة للأقاليم المتضررة والتي حرمت منه بصورة مجحفة من قِبَل النظام السابق والتي تضررت بعد ذلك بما يؤمِّن التنمية المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد وينظم ذلك بقانون»، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام الأكراد بالمطالبة بما يرون من حصة تعويضاً لهم وإنصافاً لشعبهم، وهو ما يمكن أن يكون فتيل أزمة في أي وقت من الأوقات.
وكافة التقارير تشير إلى وجود حالة من الرغبة الكردية الشعبية في الانفصال، ويظهر ذلك من خلال تصريحات كافة الأكراد حول العالم الذين يطالبون بحقهم في تقرير المصير والعيش في ظل دولة بثقافة ولغة كردية خاصة بهم، ويقولون إنهم لديهم كافة مقومات وجود الدولة؛ ولكنهم نسوا الإشارة إلى أن اللبنة الأخيرة في تلك الدولة الكردية أنه يجب أن تكون الحماية الأمريكية لهم، والذي لن يكون بلا مقابل بالطبع؛ وبذلك ستستطيع أمريكا أن تفرض إملاءاتها على الدولة الكردية، وستقوم شركات السلاح الأمريكية بإنشاء خطوط إنتاج كاملة لتوفير حاجات الدولة الناشئة التي تقع في بيئة معادية، كما أن «الدولة الصهيونية» لن تكون بعيدة عن تلك المعادلة.
فالكيان الصهيوني من أكبر المستفيدين من وجود دولة كردية في تلك المنطقة، كما أشارت صحيفة (هآرتس الصهيونية) بتاريخ 16/5/2005 أن هناك أنبوباً نفطياً مقترحاً سينقل النفط من كركوك والموصل إلى ميناء حيفا عبر الأردن، وطلب مسؤول كبير في البنتاجون من وزارة الخارجية الأمريكية بحث تكلفة ضخ النفط من كركوك إلى حيفا، وترميم خط النفط الذي كان يستعمل قبل عام 1948 في نقل النفط، وصرح مسؤول صهيوني أن القرار ينتظر موافقة الأردن، الذي سيحصل على حصة مقابل اختراق الأنبوب لأراضيه.(123/2)
كما ستنتظر «الدولة العبرية» أول ضربة من مِعْوَل التقسيم الذي سوف يحدث شرخاً عميقاً في المنطقة العربية، هذا الشرخ الذي سيمتد إلى دول الجوار وربما إلى كافة دول المنطقة، وسيظل هذا الشرخ يتشعب ويتسع ويؤدي إلى تمحور دول واستقطاب كيانات بناء على ضربة المعول الأولى تلك، مما سيغير من الصورة التي عليها المنطقة العربية في عالم اليوم، بوجود دولة أخرى شيعية من ورائها مد فارسي، مما سيجعل المواجهة حتمية بين السنة والشيعة، وهو المطلب الأسمى لأمريكا و «الصهاينة»، كما كانت الحرب العراقية الإيرانية هي الأوزة التي تبيض ذهباً للإدارة الأمريكية، وكان (رامسفيلد) ذاته هو الممول الرئيس لتلك الحرب بالأسلحة الكيماوية وغير التقليدية.
ويمكن لأمريكا في هذا الوقت أن تظل على الحياد، وأن يكون أملها هو حماية تلك الدولة الكردية المستضعفة، كما سوف تستطيع الولايات المتحدة أن تهدئ مخاوف الأقطاب العالمية الأخرى، مثل الصين التي تعتمد على النفط الإيراني والذي سيظل يتدفق بلا توقف، وسوف تظل أمريكا حريصة على إرضاء كافة الدول الكبرى التي سترضى بقسمة من الكعكة العراقية، وعلى مستوى شعوب العالم ستكون لأمريكا «قضية أخلاقية» أخرى، غير تلك الخاصة «بتحرير الشعب العراقي»، فتلك القضية سوف تصبح إعانة الشعب الكردي الصديق على نيل استقلاله وحق تقرير مصيره.
وقد بدأ التحضير الإعلامي الأمريكي والبريطاني لقضية التقسيم منذ وقت طويل، ومؤخراً كتبت (جاريث ستانسفيلد) في «الصنداي تيليجراف» البريطانية مقالاً صباح الأحد 19 مارس 2006 بعنوان: «هل ينقذ التقسيم العراق من نُذُر حرب أهلية؟» تقول فيه: «ومهما كانت الأسباب؛ فما من شك في حرج الموقف الذي يقف فيه العراق الآن. وبالرغم من الجدل الدائر بين السياسيين والأكاديميين بشأن ما إذا كانت هناك حرب أهلية تدور في العراق بالفعل، فإن الحقيقة هي أن العنف يظل موجوداً، ولا يزال هناك قدر كبير من الأمل بين عامة العراقيين»، وهذا الأمل فيما تراه هو التقسيم.
وكتبت الصحيفة ذاتها خبراً ينقل عن (رامسفيلد) قوله: «نحن نحاول معرفة ماذا سنفعل إذا سقط العراق في دوامة حرب أهلية»، ثم يضيف: «مجتمع الاستخبارات يفكر بشأن هذا ويحلله». وبالطبع فإن مجتمع الاستخبارات هذا لم يبدأ اليوم ولا أمس، ولكنه بدأ منذ وقت مبكر للغاية، قبل غزو العراق بعدة سنوات، وتم تتويجه بمباحثات سرية مع الجانب الإيراني، وقد خرجت الكثير من التصريحات الإيرانية التي تصب في هذا الاتجاه أيضاً على لسان (عبد العزيز الحكيم الطبطبائي) وغيره، وقد صرح المذكور في 11 أغسطس 2005 في خطابه بمدينة النجف بمطالبته بإقامة إقليم فيدرالي يضم جنوب ووسط العراق.
ولا ريب أن أمريكا تدرس الآن كافة الحلول والخيارات الممكنة مع إيران؛ فما كان إرسال الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن إلا مقدمة للضغط على إيران قبل إجراء أي مفاوضات بشأن العراق، وربما تضغط أمريكا على إيران بأن تجمد الأخيرة برنامجها النووي نظير سماح أمريكا بقيام دولة شيعية في العراق المقسَّم، ونظير السماح لإيران أيضاً باستمرارها في ضخ النفط وتصديره إلى الصين، وبهذا تكون أمريكا قد ضربت عصفورين بحجر واحد: تجميد النووي الإيراني، وبسط نفوذها العسكري على المنطقة من خلال الدولة الكردية، وإرضاء الصين أحد أهم الأقطاب العالمية.
ويبدو أن الجانب الإيراني قد وصلته الرسالة الأمريكية من خلال الاجتماعات السرية بينهما؛ فقد صرح السفير الإيراني في أنقرة (فيروز دولت أبادي) لصحيفة «ميلليت» التركية بتاريخ 5 أبريل 2006 أن هدف الولايات المتحدة من مشروع الشرق الأوسط الكبير، هو إقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة تسعى لتأسيس دول عرقية صغيرة تخضع للسيطرة الأمريكية، وأوضح السفير الإيراني أن مشروع كردستان الكبير تم طرحه خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن السياسات الرامية لتنفيذ هذا المشروع «لا تزال سارية حتى الآن»، وأضاف أن أمريكا تتحرك لإقامة دولة كردية مستقلة على أن تقوم بعد ذلك باستقطاع جزء من الأراضي التركية والإيرانية لضمها لهذه الدولة.
كما أن أمريكا لن تجد فرصة لتأديب سورية أفضل من إقامة الدولة الكردية في المنطقة، كما أن تأليب أكراد سورية سيكون من أهم وسائل زعزعة النظام في البلاد، ولن تعدم أمريكا «جلبي» آخر، كردياً سورياً هذه المرة ليكون رأس الحربة في المنفى لزعزعة النظام، أو استغلال الآخرين لتحقيق مصالحها التي بدأت أبعادها تتضح في المنطقة. وسيكون لدى أمريكا العديد من الخيارات الاستراتيجية لتضخيم وتعزيز تلك الدولة الكردية التي ستنشأ عملاقة بعد الدعم الأمريكي لها وبسبب مصادرها الطبيعية الهائلة، وستكون بمثابة الدولة الأم: داعمة لكافة الأكراد في دول الجوار.(123/3)
أما تركيا والتي صرحت مراراً وتكراراً بأنها لن تسمح بقيام دولة كردية في المنطقة فلن تستطيع مواجهة دولة تدعمها الولايات المتحدة دعماً مباشراً، كما أن الولايات المتحدة من خلال قنواتها الدبلوماسية تمتلك ورقة دخول تركيا للاتحاد الأوروبي؛ فهي كدولة رائدة في حلف شمال الأطلنطي «الناتو» تمتلك زمام دول أوروبا، ولا يخرج عن فلك أمريكا سوى فرنسا وألمانيا، وتستطيع طمأنة مخاوف تركيا بأنها لن تسمح للأكراد بانتزاع شبر من أراضيها، كما ستغض أمريكا الطَّرْف عن أية عمليات قمعية للجيش التركي لتطهير أراضيها من الأكراد الذين سيفرون إلى الدولة الجديدة، وبذلك تنعم تركيا ـ ولو مؤقتاً ـ بأمن قومي داخلي خالٍ من الانفصاليين الأكراد.
وربما تمتلك أمريكا الكثير من أوراق اللعبة في المنطقة بوضع أقدامها في أفغانستان والعراق، من خلال قواعد عسكرية وجوية في الخليج العربي وتركيا، وكلها نقاط تماس تستطيع أمريكا استغلالها استراتيجياً بصورة جيدة، سواء كان ذلك وسيلة للضغط، أو حتى وسيلة لإلهاب المنطقة في حالة حدوث أي مواجهة عسكرية مع إيران، مثل قيام «الدولة الصهيونية» بقصف المفاعلات الإيرانية بمساعدة أمريكية؛ فأمريكا تستطيع تأليب تركيا والخليج العربي كله على إيران في حالة قصف إيران لأي من القواعد العسكرية في تركيا أو الخليج، مما سيجعل الجميع يفكرون ألف مرة قبل الدخول في خيار عسكري مع الولايات المتحدة.
إن الولايات المتحدة تسير بخطى ثابتة تجاه إنشاء الدولة الكردية في المنطقة، وتنتظر ضربة المعول الأولى لتقسيم العراق ورفع علم كردستان لتشكيل ما يمكن وصفه بـ «إسرائيل الثانية». ولا يزال المجتمع المخابراتي والاستراتيجي وقوافل التضليل الإعلامي يعملون على تحقيق هذا الهدف بأجندة واضحة تمضي بخطى متأنية، وبأساليب مغرقة في الخداع الاستراتيجي، وبتصريحات علنية ترفض أفكار التقسيم والقواعد على لسانَيْ وزير الدفاع ووزيرة الخارجية، بل على لسان الرئيس الأمريكي ذاته، الذي لا يزال يلعب باقتدار دور الببغاء الأبله الذي يقف على قمة جبل الجليد الأمريكي الذي لا يظهر منه شيء إلا قمته وفوقها هذا الببغاء الملون، الذي ينقل تلك الخطابات التي تُطلب منه لتوصيل رسائل تضليلية بعينها، والذي لا يفتأ يؤكد على ما يُطلَب منه تأكيده.
وتسير المخططات الأمريكية في المنطقة على وعي وإدراك تام من جانب إيران وتركيا وربما سورية أيضاً، ولكن يظل البعد العربي غائباً عن تلك المعادلة بسبب طبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد العربية، ولا تزال المنطقة تغط في سبات عميق، حالة من النوم الإرادية أو الإجبارية، ولكنها لا تزال حالة سبات عميق، وتغافل تام عن أهم قضايا الأمن القومي العربي، وملاحقة للأهداف الشخصية والإقليمية وتغليب الخلافات البينية على المصلحة العليا للأمة العربية والإسلامية، في ظل حالة من التصفيق الحاد والانحناء إعجاباً وإكباراً بسياسات (بوش) التي تحرِّم سحب القوات الأمريكية من العراق بدعوى أن ذلك سيمثل خطراً على الأمة العربية، و «سيخلق حالة من الفوضى في المنطقة(123/4)
أما آن أن نعود يا شباب الأمة ؟
يا شباب الحق أدعوكم وفي قلبي لهيب . . .
أمتي تشكو الأسى والمسجد الأقصى سليب
كيف قلب مسلم لله بالذل يطيب . . .
يا شباب الحق " هُبّوا " ليس يجدينا النحيب(1)
**شباب الأمة ( رجالاً ونساء ) أنتم الأمل(2) بإذن الله ونحن نعلم أن فيكم الخير العظيم والنخوة والشهامة والغيرة على دماء المسلمين وأعراضهم.. ولكنكم أُلهِيتُم وضُيِّعتُم بما وجه إليكم من إفساد وتضييع وإلهاء يقوده أعداء الدين وينفذه بعض أبناء المسلمين ، فأنتم أحد ضحايا هؤلاء,وحسبنا الله ونِعْمَ الوكيل .
مؤامرةٌ تدور على الشباب--- ليعرض عن معانقة الحراب
مؤامرةٌ تقول لهم تعالوا--- إلى الشهوات في ظل الشراب
مؤامرةٌ مراميها عِظامٌ--- تدبِّرها شياطين الخراب
وإن كان وجود هذا العامل ليس عذراً ، فكل إنسان مسؤول عن أن يبعد نفسه عن كل مالا يرضي الله عز وجل وأن يبادر لمرضاته .
قال تعالى : ( وكل إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً.اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) سورة الإسراء(13-14)
**استشعروا يا شبابنا دائماً ( لا في لحظات عابرة فقط ) ما تعيشه أمتكم من ذلٍ وهوانٍ وواقعٍ مبكٍ وحالٍ مُرْ يعتبر أسوأ حالٍ مَرَّ عليها على مدى تاريخها ، واستشعروا ولا تنسوا المذابح والمحن والآلام العظيمة الرهيبة المبكية التي يتعرض لها إخوانكم وأخواتكم بل وحتى أطفالهم .
والأهم الأهم . . استشعروا أنكم بتأخيركم التوبة والعودة وبذل الجهد للدعوة تكونون سبباً في تأخر نصر أمتكم وتأخير إنقاذ إخوانكم وأخواتكم المُذَبَّحِين!!! ,لأن الله وعدنا بتحقيق العزة والنصر إذا قمنا بتنفيذ أوامره والتزمنا بشرعه ,قال تعالى:(إن تنصروا الله ينصركم ) سورة محمد آية(7) .
**استمعوا يا شبابنا بقلوب مصغية خاشعة وجلة خاضعة لهذا النداء الرباني العظيم من خالقكم رب العالمين سبحانه وتعالى :
( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمدُ فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) سورة الحديد آية(16)
**تذكروا أيها الشباب المؤمن بالله ولقائه.. الموت وسكراته, والقبر ونعيمه وعذابه,وتذكروا القيامة وأهوالها, والعرض وشدته ,وتذكروا الوقوف بين يدي الله في ذلك اليوم العظيم.
قال صلى الله عليه وسلم:( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه,فاتقوا النار ولو بشق تمرة)رواه البخاري ومسلم.
**وتذكروا في كل لحظة تعيشونها أن الله العظيم الجبار الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته يراكم ومطلعٌ عليكم, فلا تجعلوا الخالق ذو العزة والجلال الكبير المتعال الذي يسبحه كل الكون والذي الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه أهون الناظرين إليكم!!!.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون,أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله, والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا..)الحديث رواه الترمذي.
**اعلموا يا شباب الإسلام أن سعادة الدنيا والآخرة في سلوك طريق الاستقامة(3) والدعوة إلى الله ، وحتى سعادة الدنيا الحقيقية التامة التي يلهث كثير من الناس وراءها وخاصة الشباب ليست إلا في طريق العودة إلى الله(4 )،واقرؤوا كتيبات ( العائدون إلى الله ) لتروا بأنفسكم كيف كان أثر التوبة على حياتهم, إلى حد أن بعضهم يقولون بصدق:"نحن ولدنا من جديد وعمرنا الحقيقي نحسبه من بداية عودتنا إلى الله".
وتأملوا أحبتنا بعض كلماتهم الرائعة التي سطَّروها بأقلامهم(5). ومن الجميل في كلمات بعضهم أنها توضح اتجاههم بجدٍ للدعوة بعد صلاحهم ( عودة ودعوة ) :
أ- ( وعزمت على التوبة النصوح والإستقامة على دين الله ، وأن أكون داعية خيرٍ بعد أن كنت داعية شرٍ وفساد . . وفي ختام حديثي أوجهها نصيحة صادقة لجميع الشباب فأقول : يا شباب الإسلام لن تجدوا السعادة في السفر ولا في المخدرات والتفحيط ، لن تجدوها أو تشموا رائحتها إلا في الإلتزام والاستقامة . . في خدمة دين الله . . في.. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ماذا قدمتم يا أحبه للإسلام ؟ أين آثاركم ؟ أهذه رسالتكم ؟
شباب الجيل للإسلام عودوا--- فأنتم روحه وبكم يسود
وأنتم سر نهضته قديماً--- وأنتم فجره الزاهي الجديد)
( من شباب التفحيط سابقاً )
ب- ( فخرجت من البيت إلى المسجد ومنذ ذلك اليوم وأنا -ولله الحمد- ملتزم ببيوت الله لا أفارقها, وأصبحت حريصاً على حضور الندوات والدروس التي تقام في المساجد، وأحمد الله أن هداني إلى طريق السعادة الحقيقية والحياة الحقة)
( الشاب ح .م.ج )(124/1)
ج- ( كما أصبحت بعد الالتزام أشعر بسعادة تغمر قلبي فأقول : بأنه يستحيل أن يكون هناك إنسان أقل مني إلتزاماً أن يكون أسعد مني ، ولو كانت الدنيا بين عينيه ، ولو كان من أغنى الناس . . فأكثر ما ساعدني على الثبات بعد توفيق الله هو إلقائي للدروس في المصلى ، بالإضافة إلى قراءتي عن الجنة بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من اللباس والزينة والأسواق والزيارات بين الناس ، وهذه من أحب الأشياء إلى قلبي ، فكنت كلما أردت أن اشتري شيئاً من الملابس التي تزيد عن حاجتي أقول: ألبسها في الآخرة أفضل )
( فتاة انتقلت من عالم الأزياء إلى كتب العلم والعقيدة )
د- ( وكلما رأيت نفسي تجنح لسوء أو شيء يغضب الله أتذكر على الفور جنة الخلد ونعيمها السرمدي الأبدي ، و أتذكر لسعة النار فأفيق من غفلتي . . والحمد لله أني قد تخلصت من كل ما يغضب الله عز وجل من مجلات ساقطة وروايات ماجنة وقصص تافهة ، أما أشرطة الغناء فقد سجلت عليها ما يرضى الله عز وجل من قرآن وحديث )
(فتاة تائبة)
هـ- (لقد أدركنا الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع وهي أن الإنسان مهما
طال عمره فمصيره إلى القبر,ولا ينفعه في الآخرة إلا عمله الصالح)
(الممثل محسن محي الدين وزوجته الممثلة نسرين)
و- (لقد وُلدتُ تلك الليلة من جديد,وأصبحت مخلوقاً لا صلة له بالمخلوق السابق...وأقبلت على تلاوة القرآن وسماع الأشرطة النافعة )
(شاب تائب)
ز – ( أتمنى من الله وأدعوه أن يجعل مني قدوة صالحة في مجال الدعوة إليه ، كما كنت من قبل قدوة لكثيرات في مجال الفن )
( الممثلة التائبة شهيرة ) .
**استبدلوا يا شبابنا ما شُغِلتُم به مما يضركم في حياتكم وأُخراكم بما يرضي الله ويجلب لكم الطمأنينة ويسعد وينقذ أمتكم الذبيحة الجريحة المكلومة الذليلة ، بل ويسعد بكم مستقبلاً العالم المتخبط بأسره ؛ من سماع أشرطة الخير وحضور للمحاضرات النافعة وصحبة الصالحين واجتهاد في الدعوة والإصلاح, وَبُعْدٍ عما يضر من وسائل الشر والفتنة أو الصحبة التي لا تعين على الحق وإرضاء الله .
**شبابنا إننا نريد شباباً يشتاقون إلى الجنة(6) كما اشتاق حرام بن ملحان رضي الله عنه إليها؛ فظهر شوقه الصادق عندما غدر به الكفار فطعنوه بالرمح من خلفه فخرج من أمامه فما كان منه لما رأى الدم النازف إلا أن نضح منه على وجهه ورأسه وهو يقول:" فزت ورب الكعبة ... فزت ورب الكعبة"(7) .
**نريد شباباً يشتاق إلى عز الأمة ونصر الإسلام لا إلى الترهات التي يفرح بانشغالكم بها أعداء الله .
تُرى هل يرجِع الماضي فإني--- أذوب لذلك الماضي حنيناً
**نريد شبابا يتحدى أعداء الدين والمفسدين ، ويقلب الطاولة عليهم ، الطاولة التي قدموا لهم فيها السم محلاً بالعسل.
نحن صممنا وأقسمنا اليمين--- أن نعيش ونموت مسلمين
مستقيمين على الحق المبين--- مُتَحَدِّين ضلال المُبطِلين
**نريد شبابا صادقاً يحترق لخدمة دينه ونشر الدعوة (8).
جَدِّدِ العهدَ وبادر للجهادِ--- بَلِغِ الدعوةَ في كل البلادِ
طَفَحَ الكيلُ بظلمٍ في الورى--- وسَرَى الكفر مُجِداً في العبادِ
**وإليكم من القلب أيضاً هذه المجموعة من الأبيات الشعرية لمجموعة من شعراء الأمة الأفاضل الذين طالما خاطبوا الشباب أمل الأمة منتظرين استيقاظهم ودورهم الكبير ..
أعيدوا مجدنا دنياً ودينا--- وذُودوا عن تراث المسلمينا
فمن يعلو لغير الله فينا--- ونحن بنو الدعاة الفاتحينا
شبابنا قد حان أن تعودوا--- لواحة الإيمان كي تسودوا
غداً بِكُم سَيُسعَدُ الوُجُودُ--- ويُكبَتُ المستعبِدُ العنيدُ
**وليكن شعاركم :
أنا مسلمٌ أبغي الحياةَ وسيلةً--- للغاية العظمى وللميعادِ
لرِضا الإله وأن نعيش أعزةً--- وَنُعِدُّ للأخرى عظيم الزادِ
أنا مسلمٌ أسعى لإنقاذ الورى--- للنور للإيمان للإسعادِ
ويرُوعُنِي هذا البلاء بأُمتي--- لما تَخَلَّتْ عن طريق الهادي
**وليكن همكم :
همنا نمضي ونعلي راية القرآن---
همنا في الكون أن تعلو ذرى الإيمان
همنا أن يسعد الإنسان في كل مكان---
همنا أن تسعد الدنيا بترديد الأذان
همنا يا إخوتي--- أن تسود أمتي
أن تُرى في القمةِ--- تحمل القرآن
همنا أن نقتدي--- بالرسول الأمجد
كي نفوز في الغدِ--- في حمى الرحمن
يا شباب همنا--- أن يعود عزنا
أن تعود للدنا--- نسمة الإيمان
**** فهل آن يا شباب أن نعود,
ونطرح الران والذنوب,
ونكون دعاة إلى الحق والهدى؟؟
قال تعالى( وتوبوا الى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) سورة النور:31)
**بَنِي الإسلامِ قد آنَ لنَا أن نطرح الرانَا ونُصبح للهُدى جُنداً وفي الإسلام إخوانَا
ونُحيي مجدنا الماضي ونرجعه كما كَانَا بني الإسلام يا أحفاد عمارٍ وصفوانِ
وزيدٍ وابن عوفٍ وابن عباسٍ وسلمانِ على آثارهم سِيرُوا تكونوا خَير فِتيانِ
غداً يا إخوتي نحيا حياة جُدودنا الصيدِ غداً سنحرر الأقصى من الرجس المناكيدِ
غداً سُنرتل القرآنَ في روما ومدريدِ( )(124/2)
** شبابنا ننتظركم !! فلا تُخيِّبوا الآمال فيكم!!!
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله
وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم
واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه
وأنه إليه تحشرون)
سورة الأنفال آية:24)
______________
(1) من ديوان إلى أمتي : د. عبد الرحمن العشماوي .
(2) حبذا سماع أشرطة (الشباب/ ألم وأمل) و(الفتاة ألم وأمل) و(الرجل الألف) للشيخ د إبراهيم الدويش ، و(على قمم الجبال)للشيخ د محمد العريفي. وحبذا قراءة كتيب (مأساتنا والحل) للدكتور مهدي قاضي,و(كيف أخدم الإسلام) للشيخ د عبدالملك القاسم.
(3) حبذا الاستماع إلى أشرطة ( حاولنا فوجدنا النتيجة ) للشيخ د سعد البريك ، و ( قوافل العائدين ) للشيخ خالد الراشد ، و ( كيف تقوي إيمانك ) للشيخ نبيل العوضي ، و(نهاية السعداء) للشيخ راشد الزهراني.
(4) يشتكي العديد من الشباب والشابات من مشكلة الملل والفراغ وكيفية قضاء الوقت ، وما حدث ذلك إلا لأنهم لم يفتحوا باب الحياة الحقيقية التي خلقنا الله من أجلها ، ولم يدخلوا هذه الحياة بحق ، فهي حياة مليئة بالمهام العظيمة التي تستغرق كل وقت الإنسان وحياته ، كيف لا وهو يعيش ليحقق خلافة الإنسان لله في هذه الأرض ونشر دينه فيها وما يتطلبه ذلك من جهود ضخمه .. لكنها جهود يبذلها وهو في غاية السعادة لأنه وقتها يكون قد عاد إلى الأصل الذي من أجله خلق وبه فطرت نفسه يوم جاءت إلى هذا الوجود بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً .
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى--- ما الحب إلا للحبيب الأول .
(5) نقلاً من سلسلة كتيبات "العائدون إلى الله" للشيخ محمد المسند .
(6) حبذا سماع شريط ( المشتاقون إلى الجنة ) للشيخ د. محمد العريفي وشريط ( صفة الجنة ) للشيخ د. سعيد بن مسفر.
(7) هذه القصة العظيمة ذكرت في السيرة النبوية لإبن كثير عند الحديث عن سرية بئر معونة ,وهي
من رواية البخاري.
(8) الدعوة الى الله ليست بالأمر الصعب كما قد يُتصوَّر,ومجالات الدعوة كثيرة وعديدة؛ومنها
توزيع الأشرطة والكتيبات والمطويات النافعه والدلالة عليها وعلى المحاضرات القيمة,فشريط
يوزع قد يهتدي بسببه العديد ممن ستكون حسناتهم أيضاً في ميزان من كان سبب هدايتهم.
وللتعرف على وسائل دعوية أخرى ينصح بالإطلاع على الأشرطة والكتيبات المتعلقة بذلك,
وأيضا مواقع الإنترنت الموضحة للوسائل الدعوية مثل صيد الفوائد و كن داعياً و (work 4 islam) .
(9) إشارة . ولكن- صلى الله عليه وسلم -إلى الحديث الصحيح الوارد عن فتح المسلمين لروما الذي بشرنا به رسول الله لا شك أن هذا الفتح العظيم سيحدث بإذن الله عندما تكون الأمة صادقة مع ربها ، ملتزمة بأمره داعية لدينه ، مجاهدة في سبيله . انظر الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة للعلامة الألباني ج1 ص7 .(124/3)
أمن المجتمع – أهميته وموقف الإسلام منه ( 1 من 2 )
الكاتب : المشرف العام على الموقع
التاريخ : 1/9/1426
إن من أهم المشكلات التي تعاني منها كثير من دول العالم هو " الاختلال الأمني" وانتشار مظاهر الصراع والجرائم والعنف .
وقد توسعت هذه المظاهر في زمن العولمة بسبب التطور التقني والانفتاح العالمي والضعف الأخلاقي .. وهذا بالتالي دفع دول العالم إلى رصد الميزانيات الضخمة ، وجمع الطاقات الهائلة لمعالجة ظاهرة "الاختلال الأمني" بل إن كثيرا من الدول شعرت بالحاجة الماسّة إلى أسلوب التعاون الأمني وعقد الاتفاقيات لمواجهة التحديات الأمنية المعاصرة .
مفهوم الأمن :
الأمن والأمان في اللغة مصدران بمعنى الطمأنينة وعدم الخوف[1].
والأمن والخوف نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، بمعنى أن الإنسان لا تخلو حياته منهما فهو إما في أمن أو خوف .
ولهذا قوبل الأمن بالخوف في كتاب الله تعالى كما في قوله "وآمنهم من خوف" وقوله :" وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة ... فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" وقوله :" وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ".
والأمن معنى شامل لا ينحصر في مجرد الفهم التقليدي الذي يحصر الأمن في القبض على المجرمين وإنزال العقوبات بهم ، ولكنه ينتظم كثيراً من جوانب الحياة الإنسانية فهناك الأمن الفكري والأمن النفسي والأمن الاجتماعي والأمن الاقتصادي ........
والأمن لا ينحصر أيضا في شعور الإنسان بالطمأنينة على حقوقه الجسدية والمادية كالمال والأهل .. ولكنه يشمل شعوره بالطمأنينة على حقوقه المعنوية والفكرية المتمثلة في ضمان حريته الدينية والفكرية والثقافية والاجتماعية ، فالأمن وإن كان في جوهره حالة نفسية تتمثل في إحساس الإنسان بالطمأنينة ولكن الجوانب المرتبطة بهذا الوضع النفسي متعددة .
والأمن لا ينحصر أيضا في الجانب الداخلي الذي يتمثل في شيوع الطمأنينة لدى المجتمع من قيام بعض أفراده بالعدوان على حقوق الآخرين في المجتمع نفسه ، ولكنه يشمل الجانب الخارجي أيضا الذي يتمثل في أمن الدولة على نفسها من عدوان دولة أخرى عليها أي على مستوى الساحة الدولية[2].
والمتأمل للوضع الأمني في العالم يجد أن كثيراً من الدول الشرقية تركز على الأمن الداخلي بخلاف كثير من الدول الغربية التي تركز على الأمن الخارجي أكثر .
وهذا الوضع طبيعي منطقياً لأن كثيراً من هذه الدول الشرقية لا تزال تعاني من تهديدات داخلية نتيجة لضعف الوعي الأمني أو لضعف سيادة القانون أو للفشل السياسي الذي يدفع بعض الحكومات لاستخدام أسلوب القمع والتخويف ، بينما كثير من الدول الغربية رسّخت في مجتمعاتها الوعي الأمني وسيادة القانون واحترام الأنظمة وحقوق الإنسان ورفض الاستبداد فهي غير قلقة كثيرا بسبب التحديات الداخلية .
والدول التي تفشل في تحقيق الأمني الداخلي ستفتح الأبواب وتشجع الأعداء للتلاعب بأمنها الخارجي ، والأمن الداخلي آكد وأهم من الأمن الخارجي " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ".
إن الشمولية في فهم "الأمن" تعين الدولة على وضع الخطة الصحيحة المتكاملة ، واتخاذ الإجراءات السليمة لتحقيق الأمن في المجتمع بخلاف الرؤية الجزئية التقليدية .
فالخلاصة هي أن كلّ ما يزرع الأمن والطمأنينة في نفوس الناس فهو داخل في مفهوم الأمن ، وكل ما يُدخل الخوف في نفوس الناس فهو داخل في نواقض الأمن ومنغصاته كالبطالة والانهيار الاقتصادي والحروب والكوارث الطبيعية وتفكك الأسر ونشر الثقافات الضارة [3].
منزلة الأمن في الإسلام :
عند استقراء القرآن الكريم نجد أن الله تعالى يمتنّ على الناس بالأمن ، وهذا يدل على كونه نعمةً كبرى تستحق الشكر والمحافظة كما قال تعالى" وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون " .
وكذلك امتن على قريش بالاستقرار الأمني والرخاء الاقتصادي فقال تعالى :" فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".
وقال عن أهل مكة: " أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمنا ويتخطف الناس من حولهم" .
وامتن على أصحاب الحجر بالأمن والتطور الصناعي فقال : " وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين".
بل إن القرآن جعل الأمن المطلق ثواباً وجزاءً لأهل الإيمان فقال سبحانه: " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون" وهذا يشمل الأمن في الدنيا والآخرة .
وقال في أمن الدنيا:" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ".
وقال في أمن الآخرة :" من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون" .(125/1)
والمؤمن لا ينشد الأمن الدنيوي فقط ولكنه ينشد مع ذلك الأمن في الآخرة أيضا ، بل إن أهل الجنة يُستقبلون بشعار الأمن والسلام فيقال لهم:" ادخلوها بسلام آمنين" فجعل الأمن جزءاً من نعيم الجنة.
والله تعالى جعل الخوف و زوال الأمن عقوبة إلهية للمجتمعات الفاسدة كما قال :" وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون".
والنبي صلى الله عليه وسلم جعل من سمات المؤمن وعلاماته سلامة الناس منه حيث يقول:" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم "[4] .
وهكذا الإسلام يربي الأمة على الأمن عن طريق العمل والممارسة كما في الأشهر الحرم التي يحرم فيها ابتداء القتال كما في قوله " ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعار الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد.." وقوله " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ".
ومن خلال منع المحرم من إيذاء الناس والطير والدواب والنبات وتحريم الصيد " لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم" ومن خلال تقرير أحكام الحرم " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا " وقوله : " ومن دخله كان آمنا ".
وجعل شعار المؤمنين بينهم هو السلام ، وأمرهم بإفشاء السلام فقال صلى الله عليه وسلم : " أفشوا السلام بينكم"، ونهى المسلم عن ترويع أخيه المسلم بأي وسيلة من الوسائل فقال صلى الله عليه وسلم :" من حمل علينا السلاح فليس منا" وقال صلى الله عليه وسلم : " لا يحلّ لمسلم أن يروّع مسلماً "[5].
بل إن الأمن يعتبر مقصداً من مقاصد الشريعة حيث حصر علماء الشريعة المقاصد الضرورية في حفظ النفس وحفظ النسل وحفظ المال وحفظ العقل، وقالوا بأنها مراعاة في كل ملة كما قال الشاطبي[6].
والأجهزة الأمنية إنما تتمثل وظيفتها في حماية هذه الضروريات التي هي مصالح لا يستغني عنها المجتمع .
فالنصوص الشرعية والثقافة الإسلامية هي ثقافة ترسخ مبدأ الأمن ليس على مستوى النظريات فقط ولكن على مستوى الممارسات العملية أيضا.
1 - 2
===========
[1] ) انظر : المصباح المنير 24 – لسان العرب 13/21 – المفردات 90.
[2] ) انظر : الأمن الوطني – د/فهد الشقحاء 13-15.
[3] ) انظر: الأمن العربي – د/محمد البشري 33.
[4] ) رواه الترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وصححه الألباني – صحيح الجامع 2/1137.
[5] ) رواه أبو داود في الأدب 85- والترمذي في الفتن 3- وأحمد 5/362
[6] ) انظر : الموافقات 2/8-10.
أمن المجتمع – أهميته وموقف الإسلام منه ( 2 من 2 )
الكاتب : المشرف العام على الموقع
التاريخ : 1/9/1426
أهمية الأمن وحاجة الإنسان إليه:
لقد قررّ علماء النفس والاجتماع والشريعة أن الإنسان مدني بالطبع ، بمعنى أنه يميل بطبعه إلى التعايش مع أفراد جنسه في وحدة مترابطة يعين بعضهم بعضا ، ويخدم بعضهم بعضا كما قال المتنبي:
الناس للناس من بدو وحاضرة بعضُ لبعض وإن لم يشعروا خدمُ
وعلى هذا الأساس قامت المدن ونشأت الحضارات الإنسانية والمجتمعات البشرية ، فالاجتماع الإنساني -كما يقول ابن خلدون – ضروري .
والناظر في الطبيعة الإنسانية يجد أن العدوان طبيعة في الإنسان كما في قوله تعالى :" وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً " .
وكما قال المتنبي :
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفةٍ فلعلةٍ لا يظلم
بالإضافة إلى ما ينشئه الاجتماع من دوافع التنافس والحسد والصراع .. فكل ذلك يقتضي وجود سلطة قوية تكون وظيفتها الأولى هي أن تمنع الناس من التظالم والعدوان وتدفعهم للتعايش واحترام الحقوق .
فمن ذلك كله يتضح لنا أن الأمن ضرورة من ضرورات المجتمع الإنساني ، ولا يمكن أن تتحقق مصالح الناس دون وجود الأمن كما يدل عليه الواقع المحسوس المشاهد في العراق وفلسطين وغيرها.
فمن ذلك كله يتضح لنا أن الأمن ضرورة من ضرورات المجتمع الإنساني ، ولا يمكن أن تتحقق مصالح الناس دون وجود الأمن كما يدل عليه الواقع المحسوس المشاهد في العراق وفلسطين وغيرها.
إن أول شرط ليذوق الإنسان طعم الحياة الاجتماعية أن يكون آمناً في مجتمعه، يستطيع تبادل المنافع مع الناس بكل حرية وطمأنينة ، بل سعادة الدنيا ونعيمها لا تتحقق دون توفر " الأمن" كما قال صلى الله عليه وسلم :" من أصبح منكم آمناً في سَِرْبه[1]، معافى في جسده، عنده قوت يومه كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " رواه الترمذي والبخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني في صحيح الجامع 2/1044.
ولا يمكن لأفراد المجتمع أيضا أن يحصلوا المهارات ويكتسبوا المعارف ويبلورا مواهبهم وينموا طاقاتهم إلا في ظلال الأمن الوارف.(125/2)
إن الهدف الثاني من خلق الإنسان وإنزاله إلى الأرض وهو عمارة الأرض" هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" لا يتحقق دون وجود الأمن الوارف ، ولهذا نجد أن رؤوس الأموال والشركات لا تستثمر أموالها وطاقاتها إلا في البلاد الآمنة .
بل إن اختلال الوضع الأمني يؤثر حتى في عبادات الناس و قرباتهم – وهو الهدف الأول من خلق الإنسان- ، ولهذا كانت صلاة الخوف مختلفة عن صلاة الأمن في صفتها وهيئتها كما قال تعالى :" وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا..." وقال تعالى :" وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ..".
والطهارة واستقبال القبلة يسقطان عند وجود الخوف وذهاب الأمن ، وتسقط بها الجمعة والجماعة .
والحج يشترط في وجوبه على الإنسان أمن الطريق فإذا كان الطريق غير آمن فلا يجب عليه الحج[2].
إن المفاسد الكثيرة للاختلال الأمني هو الذي جعل بعض السلف يقول:" جور ستين سنة خير من هرْج سنة" ، قال ابن تيمية معلقاً :" والتجربة تبين ذلك"[3] .
الأمن وظيفة المجتمع :
إن المشكلات العامة بشتى أنواعها لا يمكن علاجها إلا بتعاون المجتمع كله ، وتضافر جهوده ، والتنسيق بين مؤسساته ، فالمشكلات الأمنية لا يمكن علاجها دون تعاون الأفراد والمؤسسات جميعا .
وأول تعاون للفرد [4] هو إعطاء القدوة الحسنة من نفسه بالامتناع عن كل ما ينافي الأمن سلوكياً ، والبعد عن كل مظاهر ثقافة العنف والتحريض الفكري .. والالتزام باحترام الآداب والأنظمة العامة التي لا تخالف الشريعة .
هذه المسؤولية الفردية يقررها عموم قوله تعالى :" ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ينهون عن المنكر" وقوله صلى الله عليه وسلم :" من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع بلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" وكل عدوان على الحقوق والحرمات فهو منكر في مفهوم الشريعة يجب النهي عنه والوقوف ضده والتعاون على إزالته.
وهذه المسؤولية الفردية لا تسقط المسؤولية الكبرى المعلقة في عاتق الأجهزة الأمنية التي تجب عليها رعاية الأمن والاستقرار بموجب الشرع وبموجب العقد الخاص . والله أعلم .
1 - 2
===========
[1] ) بكسر السين أي نفسه ، وبفتحها أي طريقه كما في النهاية لابن الأثير ..
[2] ) انظر: خطاب الأمن في الإسلام – د/ عبد الله بن بيه .
[3] ) انظر: السياسة الشرعية
[4] ) انظر: نماذج لأدوار الفرد في كتاب الأمن العربي-د/ محمد البشري 35-36.(125/3)
... ...
أنذرتكم النار ... ...
عبد الوهاب الطريري ... ...
... ...
... ...
ملخص الخطبة ... ...
1- الرسول يحذر أصحابه من النار. 2- بعض ما جاء في عذاب النار وأحوالها وطعامها وشرابها. 3- صراخ أهل النار وبكاؤهم. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
أما بعد عباد الله:
اتقوا الله حق التقوى.
أيها الإخوة في الله، لقد قست القلوب فهي ما بين شواغل الدنيا وصوادفها وملهياتها.
ثم إذا أفاقت فإذا هي تفيق إلى نكبات وهموم وغموم تتجاذبها، فإذا حديث الرقائق والرغائب.إذا الحديث المخّوف والحديث المرقق غريب عن القلوب، غريب على الآذان، قل ما تنصت إليه وقلّ ما تسمعه.
كم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد أصحابه بمواعظ توجل منها القلوب، وتذرف منه العيون، وترتعد منها الفرائص.
يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب أصحابه بكلمات قليلات يسيرات مباركات.
فيقول لهم أيها الناس: ((أُريت الجنة والنار فلم أرى كاليوم في الخير والشر، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)).
فما أن يتتام هذا الكلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يخفض الصحابة رؤوسهم، ويكبوا بوجوههم، ولهم ضجيج وخنين بالبكاء.
أما إن نفوسنا بحاجة إلى أن نوردها المواعظ والنذر، ونذكرها بما خوف الله به عباده، وحذرهم منه، وقد حذر المولى جل وعلا وأنذر، حذر عباده أشد التحذير وأنذرهم غاية الإنذار من عذاب النار ومن دار الخزي والبوار، فقال المولى جل جلاله وتقدست أسماؤه: فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى [الليل:14]. وقال: إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لّلْبَشَرِ [المدثر:35-36].
فوالله ما أنذر العباد وخوفهم بشيء قط هو أشد وأدهى من النار. وصف لهم حرها ولظاها، وصف لهم طعامها وشرابها، وصف أغلالها ونكالها، وصف حميمها وغساقها، وصف أصفادها وسرابيلها.
وصف ذلك كله حتى إن من يقرأ القرآن بقلب حاضر، ويسمع وصف جهنم فكأنما أقيم على شفيرها فهو يراها يحطم بعضها بعضاً، كأنما يرى أهل النار يتقلبون في دركاتها، ويجرجرون في أوديتها.
كل ذلك من المولى جل وعلا إنذار وتحذير.
وكذا خوف نبينا صلى الله عليه وسلم من النار وحذر وأنذر، وتوعد وحذر، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الإنذار، شديد التحذير من النار.
وقف صلى الله عليه وسلم على منبره فجعل ينادي ويقول: ((أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار)).
وعلا صوته صلى الله عليه وسلم حتى سمعه أهل السوق جميعاً، وحتى وقعت خليصة كانت على كتفيه صلى الله عليه وسلم، فوقعت عند رجليه من شدة تأثره وانفعاله بما يقول عليه الصلاة والسلام.
وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((أنا آخذ بحجزكم عن النار، أقول: إياكم وجهنمَ والحدود، إياكم وجهنم والحدود، إياكم وجهنم والحدود)).
فهو صلى الله عليه وسلم أخذ بحجز أمته يقول: ((إياكم عن النار، هلم عن النار، وهم يعصونه ويتقحمونها)).
أيها الأخوة في الله:
ثم أصبح الحديث عن النار وعذابها حديثاً خافتاً لا تكاد تتحرك به الألسنة ولا تستشعره القلوب ولا تذرف له العيون.
حديثاً غريباً عن المسامع، بعيداً عن النفوس.
مع أن ربنا جل جلاله قد ذكّرنا بها غاية التذكير، وحذرنا منها أعظم التحذير.
ألا فلنُشعر القلوب بشيء من أحوالها، ولنذكّر النفوس بشيء من أهوالها، عسى قسوة من قلوبنا تلين، وغفلة من نفوسنا تُفيق.
فإن سألت عن النار فقد سألت عن دار مهولة، وعذاب شديد.
إن سألت عن حرّها وعن قعرها وحميمها وزقومها وأصفادها وأغلالها وعذابها وأهوالها وحال أهلها؟
فما ظنك بحر نار أوقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة.
ما ظننا بحر نار، نارنا هذه التي نوقدها جزء واحد من سبعين جزءً من نار الآخرة.
أما بُعد قعرها:فما ظننا بقعر نار يلقى الحجر العظيم من شفيرها فيهوي فيها سبعين سنة لا يدرك قعرها، والله لتملأن والله لتملأن والله لتملأن.
أما طعامها وشرابها؟ فاستمع إلى قول خالقها والمتوعد بعذابها:
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46]. وقوله: أَذالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات:62-68].
أما شرابها، فاستمع إلى ما يقول ربنا وخالقنا: وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29].(126/1)
فهذا الطعام: ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً [المزمل:13].
وهذا الشراب: مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:16-17].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حال طعام أهل النار: ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم)).
فكيف بمن تكون طعامه؟؟، فكيف بمن تكون طعامه؟؟
يلقى على أهل النار الجوع فإذا استغاثوا أغيثوا بشجر الزقوم.
فإذا أكلوه غلى في بطونهم كغلي الحميم، فيستسقون فيُسقون بماء حميم إذا أدناه إلى وجهه شوى وجهه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره: وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ [محمد:15].
أما سلاسلها وأغلالها فاستمع إلى وصفها: ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ [الحاقة:22]. فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِى وَالاْقْدَامِ [الرحمن:41]. أي أن ناصية رأسه تجمع إلى قدميه من وراء ظهره.
يُنشئ الله لأهل النار سحابة سوداء مظلمة، فيقال لهم: يا أهل النار أي شيء تطلبون؟
فيقولون: الشراب، فيستسقون، فتمطرهم تلك السحابة السوداء أغلالاً تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم وجمراً يتلهب عليهم.
أما عذاب أهل النار وكل ما مضى من عذابها؟
فما ظنك بعذاب دار أهون أهلها عذاباً من كان له نعلان يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم.
أما حال أهلها فشر حال وهوانهم أعظم هوان وعذابهم أشد عذاب؟
ما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة، لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة، حتى انقطعت أعناقهم عطشاً، واحترقت أكبادهم جوعاً.
ثم انصرف بهم بعد ذلك إلى النار، فيسقون من عين آنية قد آذى حرها واشتد نضجها.
فلو رأيتهم وقد أسكنوا داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، يسحبون فيها على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، النار من تحتهم، النار عن أيمانهم، النار عن شمائلهم: لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذالِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ [الأعراف:41].
فغطاؤهم من نار، وطعامهم من نار، وشرابهم من نار، ولباسهم من نار، ومهادهم من نار.
فهم بين مقطعات النيران وسرابيل القطران وضرب المقامع، وجر السلاسل، يتجلجلون في أوديتها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها.
تغلي بهم كغلي القدور وهم يهتفون بالويل ويدعون بالثبور: يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22].
يتفجر الصديد من أفواههم، وتتقطع من العطش أكبادهم، وتسيل على الخدود عيونهم وأهدابهم، كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ [النساء:56].
أمانيهم فيها الهلاك، ومالهم من أسرها فكاك.
فما حال دارٍ أماني أهلها إذا تمنوا فيها، الموت؟
ما حال دار أماني أهلها إذا تمنوا فيها، أن يموتوا؟
كيف بك إذا رأيتهم وقد اسودت وجوههم فهي أشد سواداً من الحمم. وعميت أبصارهم، وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم، ومزقت جلودهم، وغلت أيديهم إلى أعناقهم، وجمع بين نواصيهم وأقدامهم، يمشون على النار بوجوههم، ويطئون حسك الحديد بأحداقهم. ينادون من أكنافها ويصيحون من أقطارها: ((يا مالك قد أثقلنا الحديد، يا مالك قد حق علينا الوعيد، يا مالك قد نضجت منا الجلود، يا مالك قد تفتت من الكبود، يا مالك العدم خير من هذا الوجود)).
فيجيبهم بعد ألف عام بأشد وأقسى خطاب وأغلظ جواب: إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ [الزخرف:77].
فينادون ربهم وقد اشتد بكاؤهم وعلا صياحهم وارتفع صراخهم: قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:106-107].
فلا يجيبهم الجبار جل جلاله إلا بعد سنين، فيجيبه بتوبيخ أشد من العذاب: قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108].
فعند ذلك أطبقت عليهم النار وغلقت، فيئس القوم بعد تلك الكلمة أيما إياس، فتزداد حسراتهم وتنقطع أصواتهم، فلا يسمع لهم إلا الأنين والزفير والشهيق والبكاء.
يبكون على تضييع أوقات الشباب، ويتأسفون أسفاً أعظم من المصاب. ولكن هيهات هيهات، ذهب العمل وجاء العقاب.
لقد خاب من أولاد آدم من مشى إلى النار مغلول القيادة أزرقا
يساق إلى نار الجحيم مسربلا سرابيل قطران لباساً محرقا
إذا شربوا منها الصديد رأيتهم يذوبون من حر الصديد تمزقا(126/2)
ويزيدهم عذابهم شدة، وحسرتهم حسرة تذكرهم ماذا فاتهم بدخول النار.
لقد فاتهم دخول الجنان، ورؤية وجه الرحمن، ورضوان رب الأرض والسماء جل جلاله.
ويزيد حسرتهم حسرة، وألمهم ألماً أن هذا العذاب الأليم والهوان المقيم ثمن اشتروه للذة فانية، وشهوة ذاهبة، لقد باعوا جنة عرضها السماوات والأرض بثمن بخس، دراهم معدودة.
بشهوات تمتعوا بها في الدنيا ثم ذهبت وذهبوا فكأنها وكأنهم ما كانوا وما كانت.
ثم لقوا عذاباً طويلاً، وهواناً مقيماً.
فعياذاً بالله من نار هذه حالها.
وعياذاً بالله من عمل هذه عاقبته.
اللهم إنه لا طاقة لنا بعقابك، ولا صبر لنا على عذابك.
اللهم فأجرنا وأعتقنا من نارك.
رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً [الفرقان:65-66]. ... ...
... ...(126/3)
أنصار السنة والانتخابات
بقلم : صفوت الشوادفي رحمه الله
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه. وبعد:
هناك جملة من المسائل والحقائق التي تمس الحاجة إلى معرفتها والوقوف عليها، وهذا بيانها:
هناك جملة من المسائل والحقائق التي تمس الحاجة إلى معرفتها والوقوف عليها، وهذا بيانها:
1 - الديمقراطية في ميزان الإسلام:
يقول العلماء: في الميزان الرباني يوجد نوعان اثنان من الحكم: إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون {المائدة: 50}، ومن ثم فكل حكم غير حكم الله فهو حكم جاهلية، والديمقراطية حيث إنها ليست حكم الله فهي في ميزان الله جاهلية!
وهذا يعني أننا بحاجة إلى بديل عن الديمقراطية، والبديل عنها أحد أمرين: إما الدكتاتورية (يعني الاستبداد بالحكم)، ومثاله: حكم فرعون وأمثاله، ما أريكم إلا ما أرى، وإما الإسلام، وهو المنهج الرباني الذي اختاره الله لعباده، وهو يقوم على أمرين:
الأول: التحاكم إلى شرع الله.
والثاني: الشورى؛ أي مشاورة أهل الحل والعقد، أصحاب الرأي السديد وأهل الذكر؛ في كل أمر لا نص فيه من الكتاب والسنة.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن الديمقراطية تخالف الشريعة في أمور كثيرة، وجوانب مختلفة ليس هذا موضع بسطها وبيانها.
2 - تداول السلطة:
تداول السلطة مفهوم غربي النشأة لا علاقة للإسلام به، ويعني- باختصار- تحديد مدة الرئاسة للحاكم، ثم إجراء انتخابات يسمونها نزيهة لإتاحة الفرصة لرئيس آخر.
وبعضهم- كأمريكا- يحدد مدة نهائية للرئيس لا يجوز له الاستمرار بعدها، وقل مثل ذلك في الأحزاب: حزب حاكم، وحزب أو أحزاب معارضة، ثم يتبادلون المواقع.
والإسلام يحرّم على المسلمين أن ينقسموا إلى أحزاب؛ ويقول لهم: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، ويقول: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء.
وسورة الأحزاب في القرآن فيها دليل واضح على ما نقول، والعجيب في هذه الأحزاب أنها تحترف التأييد أو المعارضة؛ فالحزب الحاكم يصفق للحاكم دائمًا- والتصفيق للنساء!!!
وأحزاب المعارضة تعارض الحكومة دائمًا، ولو كانت على حق وصواب! والمسلم الحق يدور مع الحق حيثما دار.
أما استبدال الحاكم بحاكم آخر فلا يقره الإسلام على إطلاقه، ولا يجوز القيام بانقلابات، ولا ثورات، ولا محاولات لقلب نظم الحكم؛ لكن علاقة الحاكم بالمحكوم تحكمها قاعدتان:
الأولى: الإسلام يقر الحاكم الذي يحكم بشريعة الله، ولو بقي في الحكم مدى الحياة.
الثانية: الطاعة لا تكون إلا في المعروف: "إنما الطاعة في المعروف" "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". فلا يجوز لمسلم أن يطيع الحاكم في معصية الله.
3 - المرشحون لمجلس الشعب:
تحدث القرآن الكريم عن الشعراء، فقال الله فيهم: ألم تر أنهم في كل واد يهيمون (225) وأنهم يقولون ما لا يفعلون، ثم استثنى منهم فئة قليلة صالحة.
ولو طبقت هذه الصفات على المرشحين فإنها تنطبق.
فأكثرهم في كل واد وشارع وحارة يهيمون على وجوههم يخطبون ود الناخبين، وفي أثناء هذه الجولات الدعائية والمؤتمرات الكلامية يقولون ما لا يفعلون؛ حيث تكثر الوعود الكاذبة، والتأشيرات الوهمية.
ويقع بين المرشحين تنافس غير شريف يفضي أحيانًا إلى الضرب أو الشتائم، وقد يتضاعف إلى القتل. فإن سألت: لماذا يقتل المرشح أخاه المرشح؟ فالجواب: لكي ينفرد بشرف خدمة أبناء الدائرة!!
وكثير من هؤلاء المرشحين ينسجم في جولته مع الجماهير؛ فإذا وجد قومًا يصلون صلى معهم، وإذا وجد غيرهم يرقصون رقص معهم، فهو يصلي مع المصلين، ويرقص مع الراقصين، ويعزي مع المعزين، ويخوض مع الخائضين، ويأكل مع الآكلين؛ لكنه لا يجوع مع الجائعين، ولا يشعر بأنين الأرامل والمساكين.
وأخيرًا: فإنه ينبغي للعقلاء أن يتفكروا؛ وأن يعرضوا الواقع على الشرع؛ فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، وما سكت عنه فهو عفو!
4 - العمال والفلاحون:
ينقسم مجلس الشعب إلى طبقتين لا ثالث لهما:
طبقة الفئات ( حملة الشهادات العليا )، وهذه الطبقة تعادل 50% من أعضاء المجلس.
والطبقة الثانية: العمال والفلاحون، وهي تعادل 50% من أعضاء المجلس.
وهذا التقسيم فيه ظلم كبير للفئات والعمال والفلاحين!! فعندما تكون الأمية هي السائدة، والجهل أكثر انتشارًا يكون السواد الأعظم من العمال والفلاحين ولهم نصف المقاعد فقط، وعندما نقضي على الأمية في الواقع لا على الورق! يتحول الشعب كله أو جلّه إلى فئات ولهم نصف المقاعد فقط، ومع ذلك فالمشكلة الأكثر خطرًا وضررًا هي أن مجلس الشعب- بنص الدستور- سلطة تشريعية؛ فكيف يشرع لنا من لا يفهم ديننا؟ ثم نخدع الجمهور ونقول لهم: إن الشريعة مطبقة في مصر بنسبة عالية!(127/1)
والعدل يقتضي أن تخصص نصف مقاعد مجلس الشعب لعلماء الأزهر الشريف، ونصفه للخبراء المتخصصين في جميع المجالات؛ لأن الله يقول: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وأهل الذكر هم: علماء الدين، وعلماء الدنيا، ولا يكون التشريع صوابًا أبدًا إلا بعد إقراره من علماء الدين العاملين.
نسأل الله أن يجعل قولنا وعملنا خالصًا صوابًا، والخالص ما يبتغي به العبد وجه الله، والصواب ما يكون موافقًا لشريعة الله، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(127/2)
أنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم
د. عبد الحي يوسف*
خطبة يوم الجمعة 20/3/1426 الموافق 29/4/2005
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله ومن شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيل ربه حق الجهاد ولم يترك شيئاً مما أُمر به حتى بلغه فتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً وهدى الناس من الضلالة ونجاهم من الجهالة وبصرهم من العمى وأخرجهم من الظلمات إلى النور وهداهم بإذن ربه إلى صراط مستقيم اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وما قل وكفى خيرٌ مما كثر وألهى وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
أما بعد أيها المسلون عباد الله:
1ـ سنة الله تعالى هي الغضب لأنبيائه والانتقام ممن آذاهم وانتقصهم، اقرؤوا القرآن أيها المسلمون وانظروا ما صنع ربنا بقوم نوح الذين قالوا لنبيهم عليه السلام (ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) وما صنع بقوم عاد الذين قالوا لنبيهم عليه السلام (ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون) وما صنع بثمود الذين قالوا لنبيهم عليه السلام (إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين) وما فعل بقوم لوط الذين تهددوا نبيهم فقالوا (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) وما صنع بفرعون اللئيم الذي قال لموسى (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين )هؤلاء أوغاد البشر الذين كذبوا أنبياء الله وعادوا رسله يقول سبحانه وتعالى فيهم (فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)
2ـ إن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أكرم البشر على الله وأعظمهم جاهاً ومقاماً عنده هو سيد الرسل وإمام الأنبياء إذا وفدوا وخطيبهم إذا اجتمعوا ، وقد زكى الله عقله فقال (ما ضل صاحبكم وما غوى) وزكى لسانه فقال (وما ينطق عن الهوى) وزكى كلامه فقال (إن هو إلا وحي يوحى) وزكى جليسه فقال (علمه شديد القوى) وزكى فؤاده فقال (ما كذب الفؤاد ما رأى) وزكى بصره فقال (ما زاغ البصر وما طغى) وزكى خلقه فقال (وإنك لعلى خلق عظيم) وزكى نسبه فقال (الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين) وزكاه كله فقال (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وغضب الله على من شتم نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أو انتقصه أو ألحق به عيباً أعظم من غضبه على من انتقص غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
3ـ والتاريخ خير شاهد. فماذا صنع الله بأبي جهل فرعون هذه الأمة الذي أراد أن يخدش رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد عند الكعبة؟ وماذا صنع الله بعتبة بن أبي لهب الذي بصق في وجه رسول الله؟ وماذا صنع الله بعقبة بن أبي معيط الذي وطئ على رقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد حتى كانت عيناه تندران؟ وما صنع بصناديد الكفر من أمثال عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف والعاص بن وائل وأبي لهب بن عبد المطلب وعبد الله بن سلول وحيي بن أخطب وبلعام بن عازوراء وكعب بن أسد ولبيد بن الأعصم وزينب بنت سلام بن مشكم وغيرهم كثير ممن ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة؟(128/1)
4ـ ما نشر في الجريدة التي سموها الوفاق وهي جريدة النفاق والشقاق من الزندقة وإشاعة قالة السوء عن نبينا صلى الله عليه وسلم وطعن المسلمين في دينهم بطعن رسولهم صلى الله عليه وسلم بما لم يخطر على بال المشركين من أمثال أبي جهل والأخنس بن شريق وغيرهم وذلك بتاريخ الخميس 12/ ربيع أول/ 1426 حيث تضمنت تلك المقالة رمياً لأم النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا، ففيه بالحرف الواحد: :(من كل ما تقدم يجب أن يكون الحمل بمحمد جاء بعد أربع سنوات من الحمل بحمزة أي بعد موت أبي محمد بأعوام وسنوات، أو أن محمداً مكث في بطن أمه أربع سنوات حسب بعض التقديرات) وقال في موضع آخر: (إن المولود بعد سنوات من موت عبد الله لا يمكن أن يكون ابن عبد الله إلا إذا كان محمد قد مكث في بطن أمه أربع سنوات) وقال في موضع ثالث: (آمنة تعترف أن الحمل بمحمد قد سبقه حمل آخر مرة أو مرات) وفي المقال كذلك اعتداء على أبي النبي صلى الله عليه وسلم ونسبة الفاحشة إليه بأرذل عبارة وأقبح أسلوب حيث ورد فيه بالحرف الواحد: (أي أب ذلك الأب الذي واعد الزانية رغم أنه متزوج بآمنة منذ أيام قلائل) وقال في موضع آخر: (أي شرف ينسب لذلك الرجل المتزوج من أيام قلائل ثم يواعد عاهرة، ويقول: حتى أغتسل؟ هل العفة مفروضة على النساء والتحلل منها وسام على صدور الرجال؟ وفي ذات المقال نفي لنسب النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت عند المسلمين بالتواتر ففيه بالحرف الواحد: بقوله (إن محمداً من كندة وليس من بني هاشم واعترف محمد بذلك وقالوا أيضاً: إن محمداً لا أصل له) وفي الصفحة نفسها مقال بعنوان جذور محمد عرض فيه الكاتب ترهات وأباطيل كان يتكلم بها المشركون الأولون من جنس قولهم (إنما يعلمه بشر) وقولهم )أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) ففيه بالحرف الواحد: نرى الكهانة والعرافة كانت تضرب في جذور محمد والهواتف التي تلقي السجع على الكهان تشبه القرآن. وفي موضع آخر يطعن في القرآن والوحي فيقول لعنه الله: لقد دخل محمد الكعبة عشرات المرات قبل سن الأربعين ورأى صور الأنبياء والملائكة وصور عيسى وأمه، وككل البشر سأل عما يقع عليه بصره وتلقى إجابات من أفواه زوار الكعبة، وككل قصص الأفواه يختلط فيها الحقيقة بالخيال. نعم كانت جدران الكعبة واحدة من أهم المدارس التي تعلم فيها محمد والكثيرون من أهل مكة وجزيرة العرب حجاج الكعبة، وسنرى أشعارهم كيف جاءت بالكثير من أخبار الأنبياء والتي تطابقت مع القرآن وسبقته بكثير. وتضمنت المقالة كذلك رمياً للصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث قال بالحرف الواحد: وهذا ما سنراه عندما تنازع أربعة وهم: العاص وأبو لهب وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب على بنوة عمرو بن العاص رغم معرفتهم بأن أمه عاهرة وتناوبوا عليها الأربعة في وقت واحد.
4ـ أيها المسلمون: ما هو حكم الإسلام فيمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ يقول القاضي عياض المالكي رحمه الله تعالى: من سبَّ النبي عليه الصلاة والسلام أو عابه أو ألحق به نقصاً في نسبه أو نفسه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرَّض به أو شبَّهه بشيء على طريق السب والازدراء عليه أو النقص لشأنه أو الغض منه والعيب له فهو ساب تلويحاً كان أو تصريحاً, وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى مضرة له أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام أو بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه أو عصمته بشيء من العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه - قتل. قال: هذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا. وقال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله في كتابه المغني: قذف النبي صلى الله عليه وسلم , وقذف أمه, ردة عن الإسلام, وخروج عن الملة, وكذلك سبُّه بغير القذف.(128/2)
5ـ أيها المسلمون عباد الله: قد يقول قائل: إن الصحيفة ناقلة لا منشئة حيث نقلت ذلك المقال وأتبعته في أيام تالية ببعض الردود فَلِمَ يحاسبُ القائمون عليها؟ والجواب: هل مهمة المسلم ـ إن كان مسلماً ـ أن يتتبع القاذورات التي قيلت في حق نبينا صلى الله عليه وسلم فيؤذي بها أتباعه وأحبابه في يوم مولده؟ وبعدما كانت نسياً منسياً لا يعلم بها إلا القليل ينشرها على الناس في جريدة تدخل إلى بيوت كثير من المسلمين، ثم يقول: أنا نشرتها لأرد عليها.ثم ما أدراك أيها الناشر يا من طمس الله بصرك وبصيرتك أن قارئ تلك الترهات سيقرأ ردك؟ وما أدراك أن ردك سيكون مزيلاً لتلك الشبهات أو ماحياً لتلك الأباطيل؟ وما موقف الواحد منكم أيها المسلمون لو أن الجريدة نفسها نشرت كلاماً يشبه هذا عنه وعن أمه وأبيه وبعض أصحابه ولم تعقبه بتعليق يدل على كذبه في ذات العدد؟ أكان يرضى ذلك لنفسه وأبيه وأمه؟ والله إن صنيع هذا المسكين أخبث من صنيع من يفتح باراً يبيع فيه الخمر للناس ثم يقول: أنا سأبيِّن للناس أضرارها وأوزارها وأرد على من يستحلونها ويروجونها!! وأخبث من صنيع من يعرض أشرطة للفاحشة ثم يقول: أنا سأحذر الناس منها. والله إنها لزندقة
6ـ ثم هل هذه هي المرة الأولى التي يقع فيها صاحب هذه الصحيفة الرخيصة الوضيعة في مثل هذه الزندقة؟ لا والله، لقد ظهر مرضه للناس من قديم ولكن لم يجد من يغضب لله ولدينه فيضرب على يده ويوقف سفاهاته. ألم ينشر قبل سنوات كلاماً قبيحاً عن السيد الجليل عثمان بن عفان رضي الله عنه مما أغضب عامة المسلمين في هذه البلاد؟ ألم ينشر في العام الذي مضى كلاماً لبعض سفلة الأطباء يحرِّض فيه على الفحشاء والمنكر ويخدش الحياء العام وترتب على ذلك إيقاف جريدته عن الصدور أياماً بتوصية من أهل العلم في مجمع الفقه الإسلامي؟ ألم تتابع مقالاته في ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء كوصف معاوية رضي الله عنه بابن آكلة الأكباد؟ ألم يسخِّر صحيفته للدفاع عن بعض مرضى القلوب ممن اتهموا الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بالكفر واتهموا عائشة رضي الله عنها بمعاداة أهل البيت؟
7ـ أيها المسلمون: والله إن الأمر جد خطير وله ما بعده، وأقول كما قال مالك رحمه الله: ماذا يبقى للأمة بعد سب نبيها صلى الله عليه وسلم ؟ وإنني أوجه خطاباً لحكومتنا فأقول لهم: يا ولاة الأمر، يا من بوأكم الله تعالى هذه المكانة لتحرسوا الدين وتحموا القيم وتدفعوا عن جناب محمد صلى الله عليه وسلم كل سوء وضير، يا من رفعتم شعار الإسلام، إن الأمة لتنتظر منكم موقفاً يرضي رب العالمين وسيد المرسلين، ويرد للناس بعض ما ثلم من دينهم، إن الأمة لترجو منكم أن تجعلوا من هذا السفيه عبرة للمعتبرين وآية للمتوسمين؛ حتى تطمئن قلوب تخفق بحب محمد صلى الله عليه وسلم ، يا أيها المسئول: يا رئيس الجمهورية، ويا نائبه الأول، ويا من دونهما من الوزراء والكبراء من أهل الإسلام: أين غيرتكم على عرض محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أين غضبكم لله ورسوله؟ أين حميتكم للدين؟ أين حبكم للنبي الأمين؟ إن هذا الكلام نشر في يوم المولد وما زالت هذه الجريدة إلى يومنا هذا تطبع وتوزع!! والله إن هذا لشيء عجيب!! أكان هذا يحدث لو كان الكلام المنشور يتناول بعضكم أو يسيء إلى سياساتكم وقراراتكم؟ أو كنتم تغضون الطرف لو وجهت هذه الإساءات إلى قادة بعض الدول ممن تحرصون على متانة العلاقة معهم؟ والله ورسوله أحق أن ترضوه إن كنتم مؤمنين. أيها المسئولون: هل هان عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم؟ معاذ الله فما زال الظن بكم حسناً، فأرجو ألا تخيبوا ظن المسلمين فيكم. ولن يرضى المسلمون المؤمنون ممن آذاهم هذا الكلام فأقض مضاجعهم وأدمع عيونهم وأحرق قلوبهم، لن يرضوا إلا بأن يقام حكم الله بما يقرره القضاء ولن يرضوا بأقل من إيقاف هذه الصحيفة عن النشر نهائياً بعدما تواتر شرها وعظم ضررها وساء أثرها، وعلم الناس طراً أنها ما كانت إلا لزرع الفتنة وسوق الشر والتماس العيب للبرآء
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله النبي الأمين بعثه الله بالهدى واليقين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين وآل كلٍِ وصحب كلٍ أجمعين وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين أما بعد أيها المسلمون فاتقوا الله حق تقاته وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون(128/3)
8ـ أيها المسلمون: إنني أطمئنكم بأن جماعة من أهل العلم بل من كبار أهل العلم سناً وقدراً في هذه البلاد قد عمدوا إلى السبيل الأرشد؛ فوجهوا عريضة اتهام أمام النيابة إلى هذه الصحيفة والقائم عليها وبالأمس القريب ألقي القبض عليه، وسيشرع في محاكمته إن شاء الله وقد تطوع بعض القانونيين الأفاضل الأماجد بتمثيل الاتهام حسبة لله وحباً لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذه أيها المسلمون قضية كل مسلم كبيراً كان أو صغيراً ذكراً كان أو أنثى، فليذكِّر بعضنا بعضاً بالله. وإننا لنحمد الله على أن قانوننا الجنائي ينص صراحة على منع الردة ومعاقبة من يقع فيها، بل معاقبة من يسيء إلى المعتقدات جميعا، ونحمد الله أننا في بلد ما زال فيه أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ويغضبون لحرمات الله أن تنتهك ولا يرضون أن ينقص الدين وهم أحياء. فشدوا من أزرهم وكونوا معهم يكن الله معكم. وإياك إياك عبد الله وأعيذك بالله أن تقول: هذا أمر لا يعنيني وذاك شأن لا يخصني، إن بعض الناس لو سلمت له مآكله لا يبالي بما يصيب الدين وأهله فهو والعياذ بالله كمن قيل فيه:
أبني: إن من الناس بهيمة**** في صورة الشخص السميع المبصر
(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره إن الله لا يهدي القوم الفاسقين)
9ـ اللهم إنا نسألك أن ترينا عجائب قدرتك فيمن آذى نبيك صلى الله عليه وسلم ، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر واقبضه قبضة مهيمن متكبر وأنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.(128/4)
أنقذوهم من النار
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه،ونسغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله-صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد : فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد-صلى الله عليه وسلم-وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله-تعالى-حقَّ التقوى،فإنها وصية الله للأولين والآخرين، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} النساء: من الآية131، و راقبوه حق المراقبة، واعلموا أنكم مسئولون أمامه عن أهليكم، فما ذا أنتم مجيبوه.
عباد الله: إن مسئوليتنا أما أبنائنا وأهلينا كبيرة وعظيمة، فهي مسؤولية إنقاذهم من النار، التي يجب الفرار منها، بالنفس، والأهل، والأولاد، فالتربية للأهل والأولاد من الواجبات المطلوبة من الأبوين، أمر الله-تعالى-بها في القرآن، وأمر بها النبي-صلى الله عليه و سلم-، قال الله-تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم:6، قال القرطبي-رحمه الله: "قال مقاتل: "ذلك حق عليه في نفسه، وولده، وأهله، وعبيده، وإمائه، فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين، والخير وما لا يستغني عنه من الأدب، وهو قوله-تعالى-: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} طه: من الآية132، ونحو قوله-تعالى-للنبي-صلى الله عليه وسلم-: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}الشعراء:2141.
وقال ابن كثير-رحمه الله-:"أي مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملاً فتأكلهم النار يوم القيامة، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء2) 3.
قال المناوي-رحمه الله-: "لأن يؤدب الرجل ولده عندما يبلغ من السن والعقل مبلغاً يحتمل ذلك بأن ينشئه على أخلاق صلحاء المؤمنين، ويصونه عن مخالطة المفسدين، ويعلمه القرآن والأدب، ولسان العرب، ويسمعه السنن وأقاويل السلف، ويعلمه من أحكام الدين ما لا غنى عنه، ويهدده ثم يضربه على نحو الصلاة وغير ذلك : خير له من أن يتصدق بصاع ؛ لأنه إذا أدبه صارت أفعاله من صدقاته الجارية، وصدقة الصاع ينقطع ثوابها، وهذا يدوم بدوام الولد والأدب غذاء النفوس وتربيتها للآخرة"4
فالمسلم داعية إلى الله-تعالى-، فليكن أولى الناس بدعوته أولاده، وأهله من الذين يلونه، فالله-تعالى-عندما كلف الرسول-صلى الله عليه وسلم-بالدعوة قال له: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}الشعراء:214؛ لأنهم أولى الناس بخيره ورحمته وبره. فتكون الدعوة مع الأهل والولد بالمداراة وحسن الخلق، وسعة النفس، وتمام الشفقة، والصفح عن عثراتهم والعفو عن مساوئهم ما لم يكن إثماً ومعصية.5
عبد الله: إن الرسول-صلى الله عليه وسلم-جعل مسئولية رعاية الأولاد على الوالدين وطالبهم بذلك:
فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال : "سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول : " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته "6.
فمن واجبك أخي الكريم: أن تنشئهم من الصغر على حب الله ورسوله، وحب تعاليم الإسلام، وتخبرهم أن لله ناراً وجنة، وأن ناره حامية، وقودها الناس والحجارة، وإليك هذه القصة ففيها عبرة:(129/1)
قال ابن الجوزي-رحمه الله-: "كان ملِك كثيرَ المال، وكانت له ابنة لم يكن له ولد غيرها، وكان يحبها حبّاً شديداً، وكان يلهيها بصنوف اللهو، فمكث كذلك زماناً، وكان إلى جانب الملك عابدٌ، فبينا هو ذات ليلة يقرأ إذ رفع صوته وهو يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } التحريم: من الآية6، فسمعت البنت قراءته، فقالت لجواريها: كفوا، فلم يكفوا، وجعل العابد يردد الآية والجارية تقول لهم: كفوا، فلم يكفوا، فوضعت يدها في جيبها فشقت ثيابها، فانطلقوا إلى أبيها فأخبروه بالقصة، فأقبل إليها، فقال: يا حبيبتي ما حالك منذ الليلة ؟ ما يبكيك ؟ وضمها إليه، فقالت: أسألك بالله يا أبتِ، لله -عز وجل-داراً فيها نار وقودها الناس والحجارة ؟ قال: نعم ، قالت: وما يمنعك يا أبت أن تخبرني، والله لا أكلتُ طيِّباً ، ولا نمتُ على ليِّنٍ حتى أعلم أين منزلي في الجنة أو النار"7.
وينبغي عليك عبد الله أن تبعدهم عن مراتع الفجور، والضياع، وألا تتركهم يتربون بالسبل الخبيثة من التلفاز وغيره، ثم بعد ذلك تطالبهم بالصلاح، فإن الذي يزرع الشوك لا يحصد العنب، ويكون ذلك في الصغر ليسهل عليهم في الكبر، وتتعوده أنفسهم، ويسهل عليك أمرهم، ونهيهم ويسهل عليهم طاعتك.
وينبغي على المؤدب أن يكون رحيماً حليماً سهلاً قريباً غير فاحش ولا متفحش يجادل بالتي هي أحسن بعيداً عن الشتائم والتوبيخ والضرب، إلا أن يكون الولد ممن نشز عن الطاعة واستعلى على أمر أبيه وترك المأمور وقارف المحظور فعندئذٍ يفضَّل أن يستعمل معه الشدة من غير ضرر.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.أما بعد:
أيها المسلمون: قد يقول قائل كيف لي أن أقِيَ نفسي النار؟! وكيف لي أن أقِيَ أهلِي النار؟! نعم، وقايتُك لنفسك النار الأخذُ بالأسباب التي تبعِدك عنها وتحول بينك وبينها بتوفيقٍ من الله، وكذلك أهلُك تقيهم النار بتحذيرِهم من الشرِّ ووسائله والأسبابِ المقرِّبة له.
أيّها المسلمون: نقِي أنفسَنا النارَ، نقيها عذابَ الله، نقيها سخَطَ الله، نأخذ بكلِّ سببٍ يقينا عذابَ الله، ونبتعِد عن كلِّ سببٍ يوقعنا في عذابِ الله، نحصِّن أنفسَنا بوحيِ الله؛ ليسلَمَ لنا ديننا، ويبقَى لنا معتقدُنا السّليم، وتَسلَم أخلاقنا من الفسادِ والانحلال، ويسعدَ مجتمعُنا بأمنٍ فكريّ غير ملوَّث بآراء البِدَع والضّلالات والأفكارِ المناوئة للإسلام.
عبد الله: نَفسُك أمانةٌ عندك، فأنت إمّا أن تسعَى في تزكيَتِها وتطهيرِها والسّموِّ بها إلى الكمالِ، وإمّا أن تسعى في إذلالِها وإهانَتِها، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) الشمس:9-10، وفي الحديثِ عن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: (كلُّ الناسِ يغدو، فبائعٌ نفسَه؛ فمعتِقُها أو موبقها)1.
أيّها المسلمون: إنّ هناك وسائلَ للشّرّ قد تكاثرَت وتعدَّدت وتنوَّعَت الأساليب، وكلُّها تهدِف إلى هدفٍ واحد زعزعةِ عقيدةِ المسلم قبل كلِّ شيء، إضعافِ الإيمان في قلبه، وتشكيكه في ثوابتِ دينه، وقِيَم إسلامِه وأخلاقه، والبُعد به عن الفَضائلِ، وتهوين الرذائل، والسَّعي في مَسخ الفِطَر والقِيَم والأخلاقِ الكريمة.
عباد الله: إنَّ العالَمَ يشاهِد اليومَ نهضةُ إعلاميّة عظيمة، تمثَّلت في قنواتٍ فضائيّة متعدِّدة مختلِفة الاتِّجاهات، فما بين قنواتٍ أخذت على عاتِقِها حَربَ العقيدة محارَبَة العقيدةِ السليمة والطَّعن فيها وتَشكِيك المسلم فيها، وما بين قنواتٍ فضائيّة أخذت على عاتقِها تدميرَ قِيَم الأمة وأخلاقها، وما بين قنواتٍ فضائيّة اتَّخذت مسارًا آخَر لتفكيك الأمّة والطعن في بعضها البعض ومحاولَة إيجاد البغضاء بين الشعوبِ الإسلاميّة.
أيّها المسلمون: إن للإعلامِ دورُه الفعّال في توجيه الفِكر ورَسمِ الطّريق للإنسانِ، لكن ليتَّقِ المسلم ربَّه وليحصِّن نفسَه وأهله بشرع الله؛ ليكونَ ذلك حاجزًا بينَه وبين التأثُّر بهذا الإعلامِ الجائِر الباطِل، وما ذاك إلاّ بالإعراضِ عن كثيرٍ من قنواتِه، وأن يتأمَّلَ قبلَ أن يشاهِدَ وينظُر: ماذا تحمِله تلك القنوات؟ وما هي أفكارُهم وآراؤهم؟ ومَن هم القائِمون عليها؟ وما أهدافُهم ممّا ينشرون ويعلِنون؟ فإن يكن ذا رأيٍ سديد وإيمانٍ صادق اتَّقى الله في نفسِه وأهله فاعرض عن كلِّ باطل.(129/2)
أيّها المسلمون: لنَقِ أنفسَنا وأهلينا من عذابَ الله، ليكن عندنا فرقٌ بين ما ينشَر ويعلَن، وتمييزٌ صادِق لنستبينَ ما هو الإعلام النافِع من الإعلام الضارّ، فما كلُّ إعلامٍ نافع، فكم من إعلامٍ هو حَرب على الإسلامِ وأهلِه، وكم مِن إعلامٍ حربٌ على الفضائل، وكم من إعلامٍ مروِّج للدِّعايات المضلِّلة والأفكار المنحرِفة والأخلاق السّافلة، فإن يكن لدَيك تمييز لهذا استَطعتَ بتوفيقٍ منَ الله أن تنجوَ من تأثير هذه القنواتِ الضّالّة، وتميِّز بين إعلامٍ صادق أريد به خيرًا وبَين إعلامٍ هابِط أرادَ به أهلُه شرًّا، لنحصِّن أبناءَنا ذكورًا وإناثًا بوحيِ الله، ولنُحذِّرهم من الانخداعِ والاغترار بما يُنشَر في تلكم القنواتِ، ولنبيِّن لهم أخطارَها وأضرارَها ومفاسِدها، ونصوِّر حقيقةَ الأمر، فتلك قنواتٌ خرجَت عن السّيطرَة، لكن لا يحصِّن المسلمين إلا وَحيُ الله والتّمسُّك بدينه وتوضيح الحقِّ من الباطل ليكونَ المسلم على بيِّنةٍ مِن أمره.
فعلينَا أن نثقِّفَ أبناءنا وبناتِنا، وأن نوجِّهَهم لأيِّ قناةٍ فيها خير، ونحذِّرهم من تلكم القنواتِ الفضائيّة المنحرفة، ونبيِّن أوجُهَ انحرافها وبعدها عن الهدَى؛ ليسلَمَ أهلنا وتسلم بيوتنا من الانخداع8.
اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، وجنبنا وأهلينا من النار إنك سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين،،،،
________________________________________
1 - تفسير القرطبي " ( 18 / 196 ) .
2 - أخرجه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم(1160).
3 - راجع: تفسير ابن كثير(3/169).
4 - فيض القدير " ( 5 / 257 ) .
5 - آداب الصحبة (1/119).
6 - رواه البخاري ( 853 ) ومسلم ( 1829
7 - صفوة الصفوة " ( 4 / 437-438 ).
8 - راجح: مقال للشيخ عبد العزيز آل الشيخ.(129/3)
أنهلك وفينا الصالحون
قصة القرية حاضرة البحر الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ
"أحمد الزهراني"
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين..
أما بعد : فقد تناقل الناس وعرف بينهم ما يقع في بعض المدن من فساد واختلاط بين الجنسين ومجاهرة من أهل الفجور بفجورهم وذلك في أماكن تسمى أماكن السياحة أو الملاهي فتقع تلك المنكرات دون أن ينكر منكر بل يهيأ لهم الجو للفساد ويمنع أهل الإصلاح من القيام بدورهم. وأنتشر ذلك في كثير من بلاد المسلمين حتى تلك التي لم يكن يخطر على البال أن تكون على هذه الحال !! ونحن نضع بين يديك أخي الكريم عدداً من الأحاديث التي فيها ذكرى لمن أراد أن يتذكر { فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى ( ) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ( ) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ( ) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } روى البخاري في كتاب الأشربة باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه. عن أبي مالك الأشعري سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم يعني الفقير لحاجة، فيقولون ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله، ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة" ( العلم ): الجبل. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ( ) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( ) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ () أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( ) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } الأعراف: 94-99). وروى أحمد في مسنده برقم : 21202، عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير، فيبعث على أحياء من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسفت من كان قبلهم، باستحلالهم الخمور، وضربهم بالدفوف، واتخاذهم القينات" أيضاً برقم : 21725، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفس محمد بيده، ليبيتن ناس من أمتي على أشر وبطر ولعب ولهو ، فيصبحوا قردة وخنازير ، باستحلالهم المحارم والقينات، وشربهم الخمر وأكلهم الربا ولبسهم الحرير"
وفي صحيح البخاري في كتاب الأنبياء عن زينب بنت جحش قالت إن رسول الله صلى عليه سلم دخل عليها فزعاً يقول : "لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج و مأجوج مثل هذا" وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : "نعم إذا كثر الخبث". قال تعالى: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ( ) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } طه: 123-124
هذه آيات بينات وأحاديث لا شك في صحتها بأن الله توعد المفسدين بالهلاك والعذاب العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة وهنا يقول الفرد المسلم وماذا علي حتى أنجو من العذاب هل يكفي أن أكون صالحاً في نفسي ؟؟ الجواب: لا بل يجب أن تكون مصلحاً وإلا شملك العذاب !! لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الهلاك يعم إذا كثر الخبث الصالح والطالح ولكن الله وعد المصلحين وهم من يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالحفظ فقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} هود: 117.(130/1)
واستمع أخي الحبيب إلى هذه القرية التي كانت حاضرة البحر كيف نجى الله المصلحين منهم وأهلك البقية : قال تعالى: { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ0وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ0فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ0فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ0وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} الأعراف: 163-167. فتأمل أخي قصة أهل هذه القرية التي كانت حاضرة البحر كيف انقسم أهلها إلى ثلاثة أقسام: عصاة، وصالحون، ومصلحون، وتأمل الآيات كيف قام المصلحون بالدعوة فأنكر عليهم الصالحون! وقالوا لا فائدة من إنكاركم ولا من إصلاحكم؟! فهؤلاء قوم فاسدون لا خير فيهم. فكانت النتيجة أن نجى الله المصلحين، وأهلك الفاسقين، وسكت عن الذين لم يقوموا بالإصلاح فاختلف العلماء هل أهلكوا أم لا على قولين. روى البخاري في كتاب الشركة عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا ؟ فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا )، تأمل أخي الحبيب هذا الحديث وكيف أن نية الذين في أسفل السفينة كانت طيبة !! وهو عدم إزعاج من فوقهم ؟؟ ولكن ما هي النتيجة لو تركهم الذين في أعلى السفينة ؟! إنها الغرق للجميع فالواجب على من أراد النجاة لمجتمعه أن يسعى في إنكار المنكر والأمر بالمعروف حسب قدرته واستطاعته فإنه متى أستجيب له نجا المجتمع جميعاً ومتى لم يستجب له فإن الله وعده بالنجاة ويهلك الظالمين فقال (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}الأعراف: 165. روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ).
فعلى المسلم الذي يؤمن بوقوفه بين يدي الله ويرجو لقاء ربه الإنكار للمنكرات وأول ذلك الإنكار بقلبه وذلك بما يلي:
1- عدم الذهاب إلى تلك الأماكن أبداً.
2- عدم الجلوس مع من يذهبون إلى تلك الأماكن إلا إذا علم منهم التوبة والإقلاع عن ذلك
ثم إن عليه أن ينكر بلسانه وهذا لا يتصور العجز عنه إلا في حالات نادرة فينكر على من رآه من المسلمين أو علم أنه سيذهب إلى تلك الأماكن وينكر على من يذكر تلك الأماكن في المجالس ويبين حكم الله فيها وينذرهم العذاب . ثم إن على المسلم الإنكار بيده متى كان له ولاية أو سلطة ابتداءً من الأب وانتهاءً بمن ولاه الله أمر المسلمين وليعلم الجميع أنهم مسئولون بين يدي الله. روى البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد : عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله " ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة(130/2)
أنواع الشركات المساهمة ، وحكم التعامل بأسهمها
مشبب القحطاني ...
أما بعد أيها المسلمون : في الفترة الأخيرة طفحت على سطح المجتمع ظاهرة تداول أسهم الشركات ، هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة ، سببت مشاكل متعددة سواء على المستوى الاقتصادي للإفراد أو المستوى الاجتماعي للأسر أو المستوى التربوي والديني والنفسي للمشاركين في سوق الأسهم .
وبدأنا نسمع بقصص عجيبة وغريبة أصبحت ، مثار سخرية وتندر بين الناس ، فمن ذلك على سبيل المثال جلوس بعض كبار السن أمام شاشات تداول الأسهم ، وهم شاردون عن العالم ، فبدل أن يتفرغوا للعبادة في آخر حياتهم ، نراهم مركزون على الشاشات التي أمامهم ، يتابعون بكل دقة حركة الأرقام ، سحابة السجائر فوق الرؤوس في بعض البنوك ، يؤذن المؤذن لصلاة الظهر والمغرب والعشاء وتقام الصلاة ، والقلوب معلقة بأرقام الشاشات ، والقليل من يتحرك من مكانه لأداء صلاة الله اعلم بحالها ..
بعض الموظفين تركوا أعمالهم الرسمية ، التي يأخذون عليها اجر ماديا ، وانشغلوا بمتابعة الأسهم والصناديق الاستثمارية ، بل إن من الطرائف التي تقال أن الموظفين في بعض الدوائر ارتاحوا من متابعة رؤسائهم لانشغال الرؤساء بمتابعة الأسهم . ومن القصص أن بعضهم سقط مغشيا عليه لما خسر في سوق الأسهم ، وبعضهم أصيب بجلطات دماغية ، وربما أصيب بعضهم بسكتة قلبية، وبعضهم باع منزله أو اقترض أسهما أو سيارات ، وبعضهم اقترض قروضا ربوية والعياذ بالله للمشاركة في سوق الأسهم .. قصص غريبة وعجيبة أفرزتها لنا سوق الأسهم .. أناس أعماهم الطمع عن النظر في مصالحهم الحقيقة ، نسال الله تعالى السلامة للجميع .
إخواني في الله وأمام هذه الظاهرة الخطيرة ، وحرصا على مصلحة الجميع ، فان الخطبة في هذا اليوم ستدور حول حكم تداول الأسهم بوضعها الحالي ، بعد معرفتنا عن أنواع الشركات المساهمة ، مع بعض الوصايا للمشاركين في سوق الأسهم العالمية والمحلية .
عباد الله : إن الشركات المساهمة في الأسواق العالمية والمحلية تنقسم من حيث إباحتها وحرمتها إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : وهي الشركات التي تقع كل عملياتها في دائرة الحلال ، ويطلق عليها اسم (الشركات النقية ) ؛ وتتميز هذه الشركات بأن رأسَ مالها حلال، و جميعَ أنشطتها التجارية مباحة، وينص نظامُها وعقدُها التأسيسي ، على أنها تتعامل في حدود الحلال ، ولا تتعامل بالربا إقراضاً أو اقتراضاً، ولا تتضمن امتيازاً خاصاً أو ضماناً مالياً لبعض دون بعض. فهذا النوع من أسهم الشركات ـ مهما كانت تجارية أو صناعية أو زراعية ـ لا خلاف في جواز إنشائها والاكتتاب بها وبيع أسهمها وشرائها. وفي هذه الخطبة لن يذكر أسماء تلك الشركات ، حتى لا يكون دعاية لها ، ثم إنها في أي لحظة يمكن تغير من سياستها المالية فنتقل الى مجموعة الشركات المحرمة أو المشبوهة .. ولكن الحريص يسال ،وسيجد من يجيبه عليها .
القسم الثاني من الشركات المساهمة : ما كان عملها محرما بالكامل أو في الأغلب ، وهذه مثل البنوك الربوية ، و الشركات التي تتاجر بالخمور أو المخدرات أو القمار. و المصارف الربوية بشتى أنواعها؛ وشركات التأمين التجاري. وشركات الإعلام الهابط، أو الإعلام المحارب للعقائد والمبادئ الإسلامية ، وغيرها مما يكون نشاطها أو كله في الأمور المحرمة شرعا. أيها الإخوة : وهذه الشركات لا خلاف في حرمة المساهمة فيها تأسيسا أو بيعا أو شراء. كما لا يجوز العمل فيها موظفا أو عضو مجلس إدارة أو نحو ذلك ً، وذلك لما فيها من الإعانة على الإثم والعدوان ، ومعصية الواحد الديان .
إخواني الكرام القسم الثالث من الشركات المساهمة : فهي ما يكون أصل نشاطها مباحاً، ولكنها تتعامل ببعض الأنشطة المحرمة . فتلك الشركات لا يغلب على استثماراتها أنها في أمور محرمة، وإنما تنتج سلعاً وخدمات مشروعة ، مثل إنتاج وبيع الحديد ، أو إنتاج وبيع الأسمدة ، أو إنتاج وبيع بعض الأغذية أو الملابس ونحو ذلك ، فاصل إنشاءها من اجل إنتاج سلع مسموح بها شرعا ، ولكن وجودها في بيئة رأسمالية ، أو وجود بعض أعضاء مجلس الإدارة الذين هم من كبار المرابين أصلا ، قد يؤدي إلى أن تمول عملياتها عن طريق الاقتراض الربوي من البنوك الربوية ، أو توظف سيولتها الفائضة توظيفاً ربوياً قصير الأجل ، وتأخذ على نسبة معينة من الربا ، وتدخله في أموال المساهمين. وهذه هي المشكلة الحقيقية .(131/1)
وهذه الشركات إخواني الأعزاء انقسم طلاب العلم المعاصرين تجاهها إلى قسمين القسم الأول يقول بجواز المساهمة في هذه الشركات ، وتداول أسهمها ، وحجتهم في هذا القول ، أن هذه الأسهم تلبي حاجة عامة للأمة أفرادا ودولا ، فتنزل منزلة الضرورة الخاصة ، واشترطوا ألا تزيد نسبة الإيراد الناتج عن محرم عن 5 % ، وبعضهم أوصلها إلى 30% واتفق المجيزون على أنه يجب على المساهم في هذه الحال ، أن يتحرى مقدار ما دخل على عائدات أسهمه من الإيرادات المحرمة، من واقع القوائم المالية للشركة، فيتخلص من تلك النسبة بتوزيعها على أوجه البر، دون أن ينتفع بها أي منفعة، ولا أن يحتسبها من زكاته، ولا يعتبرها صدقة من حُرّ ماله، ولا أن يدفع بها ضريبة حكومية، ولو كانت من الضرائب الظالمة؛ لأن كل ذلك انتفاع بذلك العنصر الحرام من عائدات أسهمه .
القسم الثاني : يقولون بتحريم المساهمة وتداول أسهم تلك الشركات ، ويخالفون أصحاب القول الأول ، وحجتهم في ذلك ما يلي انه لا فرق بين قليل الربا أو كثيره ، لأنه يدخل ضمن النهي عن أكل الربا الوارد في قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ..} فالإذن بالحرب من الله ورسوله على معصية الربا ، دليل على خطرها وعظم شأنها ، ولم يفصل بين القليل والكثير ، وتحديد نسبة معينة ليس عليه دليل ، ثم إن المجيزين له اختلفوا في تحديد النسبة المحرمة . ويردون على قول المجيزين ( بان على المساهم أن يقدر نسبة الحرام ويخرجه ،) إن هذا الكلام غير صحيح ، لأن قليلا من الناس من ينتبه لهذا الأمر ، ومن انتبه له قد لا يحرص على إخراجه ، ومن أخرجه فانه لا يستطيع اخرج النسبة المحرمة على بالدقة ، لان هذا يصعب معرفته . وإذا كان قصدهم أن إخراج نسبة الحرام من باب التوبة وتطهير المال من الحرام ، قياسا على من يتوب من الربا ، فهذا ليس صحيحا ، لأن من شروط التوبة الإقلاع عن الذنب ، والعزم على عدم العودة ، و الندم على ما فات ، والذي دأبه أخذ الحرام ثم إخراجه ، هذا لا يعد نادماً ولا عازماً على الإقلاع . أما قول المجيزين بان المساهمة في تلك الشركات المختلطة من باب حاجة الأمة لها ، فلا يسلم لقائله على إطلاقه ، لأن هذه الشركات المساهمة ليست هي الطريق الوحيد للكسب ، بل توجد طرق أخرى كثيرة ولله الحمد ، فهناك شركات مباحة أخرى ، ونحن في بلد مسلم ، ويمكن أن تقوم شركاتنا على أساس التعامل المباح . وكذلك فإن دعوى الحاجة يجب ألا تصادم النص الشرعي ، والنصوص الموجودة بين أيدينا تدل على تحريم الربا قليله و كثيره . ثم إن تلبية الحاجة يستلزم منه أن ترتفع الحاجة عن المساهمين والأمة ، والدخول في هذه الشركات قد لا يرفع الحاجة ، فقد تخسر الشركة وتزداد الحاجة ، أو لا تربح فتبقى الحاجة . ودعوى الحاجة قد يفتح الباب على مصراعيه ، فيدخل الناس في التعامل بالسندات وبعض المعاملات المحرمة الأخرى ، بل قد يصبح محل استغلال عند المتفقهين المسايرين للتيارات المعاصرة ، وطريق لإتباع الهوى وإرضاء للنفوس المريضة وانقياد مع نزوات النفوس وشهواتها.(131/2)
أيها وفي ختام هذه الخطبة وبعد أن سمعتم أنواع الشركات المساهمة وحكم الاشتراك فيها ..فالأسلم لدين المرء ولعرضه ، أن يترك المساهمة في الشركات المحرمة أو الشركات المختلطة ، حتى لا يقع في الربا الذي يغضب الله تعالى ، والذي يؤدي في النهاية إلى فساد المجتمع ..ففي الشركات المباحة غنية عنها . وليستحضر المسلم دائما وابدأ ، تلك النصوص الواردة في تحريم الربا بجميع أشكاله ، لعلها تكون رادعا له من الدخول في متاهات الربا أعاذنا الله منه .. تلك النصوص التي جاءت في الكتاب والسنة والتي منها قوله تعالى ـ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث صحيح. ( درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم ، أشد من ستة وثلاثين زنية ) . رواه أحمد والدار قطني. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضا ( الربا ثلاثة وسبعون بابا ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم ) رواه الحاكم ثم إن عاقبة المرابي الخسارة في الدنيا والآخرة ، ففي الآخرة نهايته معروفة والعياذ بالله ، وأما في الدنيا فقد وعد رسوله الله صلى الله عليه وسلم المرابي بالخسارة في أمواله في نهاية المطاف وذلك في قوله ( الربا و إن كثر ، فان عاقبته تصير إلى قل ) . لذلك فليحذر المسلم من الوقوف مع صف المحاربين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، فيخسر خسارة لا يفلح بعدها أبدا ..
أيها الإخوة في الله وبعد أن استعرضنا سويا أنواع الشركات المساهمة وحكم المساهمة فيها ، فان المن المناسب أن نحذر كل الحذر من مما يعرف بـ"الصناديق الاستثمارية الشرعية" بالأسهم المحلية التي تديرها البنوك ، فالواقع أن هذه الصناديق يدخل في استثماراتها شركات من النوع الأول المحرمة والنوع الثاني المختلطة ، وهذه الشركات كما نعلم نسبة الربا نسبة الربا فيها متحققة ، وأحيانا تكون مرتفعة جدا ، فالدخول فيها ، مشاركة للمرابين في تعاملاتهم ، وليس المجال هنا للتفصيل وذكر الأسماء ، وإنما المجال هنا للتذكير والتحذير ، وعدم الاغترار بإطلاق لفظ كلمة الشرعية على بعض المعاملات ..ومن أراد الاستزادة فعليه بالرجوع إلى ما نشر في الصحف والانترنت عن تلك الصناديق والشركات ، أو الحضور للمحاضرة التي ستقام في الأسبوع القادم حول أسهم الشركات للدكتور يوسف الشبيلي في جامع الخفرة بالدمام .. والاعلان موجود عند الأبواب . اسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، كما اسأله عز وجل أن يكفينا بحلاله عن حرامه وان يغنينا بفضله عمن سواه . أقول قولي هذا واستغفر الله لي لكم من كل ذنب ، فاستغفروه جل وعلا انه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية الحمد لله ، الحمد لله الذي سخر الكون للناس ليكتفوا بالحلال عن الحرام ، وأمرهم بأكل الحلال الطيب حين قال ({يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين ) واشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله أصحابه أجمعين أما بعد أيها المسلمون : وبعد أن استعرضنا بشيء من الاختصار الشديد واقع الشركات المساهمة ، فانه ينبغي للعقلاء من امتنا أن يفكروا جديا في خطر الانخراط في سوق الأسهم ، حتى لو كان في الشركات المباحة ، فالأمر إخواني خطير ، وخطير جدا خصوصا في ظل دخولنا في منظمة التجارة العالمية . والخطر يمكن في تكدس الأموال في البنوك ، وفي أيدي عدد محدود من أصحاب الأموال ، وعدم تداولها بين الناس ، وبالتالي فان حركة الشراء والبيع ستقل وستنحصر في سوق الأسهم ، وستقف المشاريع التجارية ، وستتعطل كثير من الأعمال ، كما هو حاصل الآن ، وهذا احد أسباب تحريم الربا ، أن السيولة النقدية ، تصبح حكرا على عدد محدود من الناس .(131/3)
وهذا أيضا سيؤدي إلى قلة الشركات والمؤسسات والمشاريع في البلد ، مما يزيد من نسبة البطالة في المجتمع ، و يمهد إلى سيطرة الشركات العالمية لبلدنا عند السماح لها بممارسة أعمالها داخل الحدود ، وستجد الأرض خصبة ، فلا مصانع منتجة بمعنى الكلمة ، ولا شركات منافسة ، والتالي سيخلو لها الجو لتسويق بضائعها ، ثم السيطرة على مقدرات الأمة . أيها الإخوة : إن التعامل في سوق الأسهم ، يخرج لنا أناس أنانيون ، لا يهمهم إلا كسبهم ، ولو على حساب الآخرين ، وهذا هو الحاصل ، فكسب احدهم هو خسارة الآخرين ، وهولاء لا يهمهم خدمة المجتمع بقدر ما يهمهم رفع رصيدهم في البنوك .
كما أن العمل في سوق الأسهم ، سيؤخر عجلة تقدم الأمة ، فالواقع يشهد بان بعض الآباء تركوا واجبهم انصرفوا إلى الشاشات ، والموظفين تركوا أعمالهم الرسمية وتوجهوا إلى متابعة الأسهم ، والفقراء استدانوا للمنافسة أصحاب الملايين ، وأصحاب الملايين انصرفوا عن نفع الأمة إلى رفع أرصدتهم ، وسحق صغار المستثمرين ، ورميهم في السجون والمستشفيات . وهذه هي بعض مظاهر النظام الرأسمالي البغيض ، الذي بدأ يسيطر على العالم الإسلامي فترة وجيزة .
لذا لابد من أن ننتبه لهذا الخطر ، ولابد لأصحاب الأموال من تشغيل أموالهم وتحريكها في داخل البلد ، وفتح المشاريع النافعة ، ليستفيد منها اكبر قد ممكن من الناس ، ولو اجتمع أكثر من شخص وكونوا شركة مباحة لكان أفضل ، فالزمن القادم هو زمن التكتلات واندماج الشركات ، لكي يقفوا في وجه الشركات العالمية الكبرى.
وختاما لهذه الخطبة فان هناك وصايا تقال للإخوة المستثمرين أو المتاجرين في أسهم الشركات سواء أمام الشاشات أو في البيوت ..ومن تلك الوصايا :
أولا : الحذر من أن يكون شغل الأسهم ومتابعاتها سببا في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، ومخالطة الفجرة والفاسقين وحبهم والتقرب إليهم .
ثانيا إذا قررت أخي الدخول في شركات الأسهم فلتبحث عن شركات الأسهم التي خلت عن أي نوع من أنواع الحرام في أنشطتها ، وهي موجودة بحمد الله تعالى ، ولتحرص على التعاون مع إخوانك على مقاطعة الربا والمرابين ، فمن المعلوم أن الشركات تقوم على أموال المساهمين ، فإذا ابتعد المساهمون عن الدخول فيها بسبب ما فيها من الربا ، فإنها لن تلجأ إلى الربا ولو كان يسيرا لأن حاجتها للمساهمين أكبر . ثم إذا شاركت في هذه الأسهم وإن كانت مباحة فأعط كلا قدره وحظه ، لا تفرط في واجباتك ، ولا تهمل في بيتك ، ولا تترك أولادك ، فإنهم ربما كانوا ضحية انهماكك بالدنيا ، فتندم أشد الندم ، وقد تخسر المال كما تخسر الأولاد .
أخي في الله وفي نهاية يومك سل نفسك وحاسبها : أين المكاسب الأخروية ، أين التنافس على جمع الحسنات ، أين الباقيات الصالحات ، أين الأجور المضاعفة التي لا تدخلها الخسارة ولا تتطرق إلها شبهة ، هل حرصت على الحسنات ، ونافست المحسنين كما حرصت على الأسهم ومنافسة المساهمين ؟؟ اسأل نفسك أخي الحبيب واجب على أسئلتك بكل تجرد وصراحة ، واعلم أخي أننا لم نخلق لأجل الدنيا ، ولم نخلق لأجل عبادة المال إنما خلقنا لعبادة الله جل وعلا ، والمال وطلب الدنيا وسيلة وليست غاية ، والوسيلة لا تصد ولا تشغل عن الغاية ، وإنما هي طريق إليها ، فمن استعان بدنياه على آخرته فهو السعيد ومن ألهته دنياه عن آخرته فهو المحروم (( خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين )) .
وقبل هذا وبعده على الجميع أن يحذروا من فتنة المال ، فقد حذرنا منها المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله (، والله ما الفقر أخشى عليكم ، و لكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا ، كما بسطت على من كان قبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم ) ولنحذر أيضا من أكل الحرام فقد حذر منه الحبيب صلى الله عليه وسلم بقوله ( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ) . أسال الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ، وأن يقينا من شرور أنفسنا ، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا إلى النار مصيرنا ، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا ، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغني . الله إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا ، والقصد في الفقر والغني ،انك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين , ...(131/4)
أنواع شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة
عبد العظيم بدوي الخلفي
ملخص المادة العلمية
1- أن لكل نبي دعوة مستجابة على قومه قد دعا بها إلا نبينا محمد قد ادخرها شفاعة لأمته يوم القيامة. 2- أنواع شفاعة النبي يوم القيامة. 3- فضل التوحيد في عدم خلود صاحبه في النار.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا)).
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم [التوبة:128].
ومما يدل على رحمته وشفقته بأمته هذا الحديث، ومعناه: أن كل نبي له دعوة لأمته متيقنة الإجابة، وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم فهم على طمع من إجابتها، وبعضها يجاب وبعضها لا يجاب. وقد دعا كل نبي لأمته في الدنيا، وادّخر النبي دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم وهو يوم القيامة: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89].
يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [عبس:34-37].
يوم يقوم الناس لرب العالمين [المطففين:6].
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حفاة عراة غرلا، في موقف صعب حرج، ضيّق ضنك على المجرمين، ويغشاهم من أمر الله تعالى ما تعجز القوى والحواس عنه.
عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، منهم من يأخذه العرق إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما)).
حتى إذا عظم الخطب، واشتد الكرب ألهموا أن يستشفعوا بالأنبياء فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟
فيقول: بعض الناس لبعض: ائتوا آدم. فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك.
اشفع لنا إلى ربك. ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربى غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي!! اذهبوا إلى غيري. اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى الأرض، وسمّاك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك. ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي !! اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي !! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضّلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي!! اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وقد كلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، نفسي نفسي !! اذهبوا إلى غير اذهبوا إلى محمد.
قال : ((فيأتون فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفّع. فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي أمتي. فقال: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب. والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى)).
هذه الشفاعة العامة التي خص بها نبينا من بين سائر الأنبياء هي المراد بقوله: ((وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)).
وهذه الشفاعة العامة لأهل الموقف إنما هي لتعجيل حسابهم وإراحتهم من هول الموقف.
وقوله : ((يا رب أمتي أمتي)) فيه اهتمام بأمر أمته، وإظهار محبته لهم، وشفقته عليهم.(132/1)
وقوله : ((فيقال: أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن)) فيه دليل على أن من هذه الأمة من سيدخل الجنة بغير حساب، يتكئون فيها على سرر موضونة والناس ما زالوا في أرض الموقف.
وقد قال فيهم : ((يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب)). قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: ((هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون)).
وقال : ((وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب، مع كل ألف سبعون ألفا، وثلاث حثيات من حثيات ربي عز وجل)).
وهكذا تضمن حديث الشفاعة نوعين من أنواع شفاعته :
1- الشفاعة العظمى لأهل الموقف ليريحهم الله من هذا القيام.
2- شفاعته في جماعة من أمته أن يدخلوا الجنة بغير حساب.
3- والنوع الثالث شفاعته : في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع لهم فيدخلون الجنة.
4- شفاعته في أقوام قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها.
5- شفاعته في رفع درجات من يدخل الجنة فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم.
6- شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة.
7- شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار فيخرجون منها.
وقد تواترت الأحاديث بهذا النوع، وأن هذه الشفاعة تتكرر أربع مرات، في كل مرة يحد الله له حدا فيخرجهم من النار، ثم يجئ الرابعة فيقول: ((يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله. فيقول الرب سبحانه: ليست هذه لك، ثم يقول: وعزتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله)).
وفي رواية: ((يقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط. قد عادوا حمما، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة. يخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر. ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض؟ فقالوا: يا رسول الله! كأنك كنت ترعى بالبادية. قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم؟ يعرفهم أهل الجنة. هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدّموه. ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون: ربنا! أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين. فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا! أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا)).
8- شفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب بما قدّم في الدنيا لدين الله ورسوله.
عن عبد الله بن الحارث قال: سمعت العباس يقول: قلت: يا رسول الله! إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل نفعه ذلك؟ قال: ((نعم، وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح)).
وقد أخبر أن أبا طالب في هذا الضحضاح يغلي منه دماغه، يرى أنه أشد أهل النار عذابا، وهو أهونهم عذابا.
ولا تعارض بين هذه الشفاعة وبين قول الله تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين [المدثر:48].
لأن المراد من الآية: لا تنفعهم الشفاعة في الخروج من النار كعصاة المؤمنين الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة، أما شفاعته لعمه فهي فقط أن يخفف عنه العذاب بما قدم في الدنيا للدين.
هذه هي أنواع الشفاعات الكائنة لرسول الله يوم القيامة.
أما قوله في الحديث: ((فهي نائلة إن شاء الله من أمتي من مات لا يشرك بالله شيئا)).
فقوله: ((إن شاء الله)) إنما قاله على جهة التبرك والامتثال لقوله تعالى: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [الكهف:23-24].
وقوله: ((فهي نائلة إن شاء الله من أمتي من مات لا يشرك بالله شيئا)) فيه دلالة لمذهب أهل الحق أن كل من مات غير مشرك لا يخلّد في النار وإن كان مصراً على الكبائر.
وفيه إشارة لوسيلة من الوسائل التي تدرك بها الشفاعة وهي: أن لا يشرك بالله شيئا، فمن أراد أن تناله هذه الشفاعة فليلق الله لا يشرك به شيئا، فإن من مات يشرك بالله شيئا لا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وهناك وسائل أخرى منها:
2- الصلاة على النبي عشرا في الصباح وعشرا في المساء، لقوله : ((من صلى عليّ عشرا إذا أصبح وعشرا إذا أمسى حلت له شفاعتي)).
3- سؤال الله للنبي الوسيلة بعد الأذان، لقوله : ((إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة)).
وعن جابر أن رسول الله قال: ((من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة)).
نسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يشفع فينا نبيه .(132/2)
أهداف الدعوة إلى الله
الهدف الأول وهو الأثر العام للدعوة:
إبلاغ الحق للناس إعذاراً إلى الله - عز وجل- فإنه يكون لنا عذر بين يدي الله - سبحانه وتعالى- إذا كان المنكر يُفعل فقلنا للناس إنه منكر وبلغناهم شرع الله - عز وجل- وهذا الهدف يحصل بمجرد فعل الدعوة وبمجرد إبلاغ الحق للناس سواء استجابوا أم لم يستجيبوا قبلوا الدعوة أم لم يقبلوها فذلك حاصل بدون النظر إلى النتيجة وهذا يثاب العبد عليه بين يدي الله في الآخرة ويثاب في الدنيا بمنع نزول العقاب العام كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه فالإعذار هنا معناه إظهار كراهيتنا للمنكر وعذرنا بين يدي الله أننا بلغنا الحق.
الهدف الثاني الأثر العاجل:
من أهداف الدعوة احتمال استجابة البعض ...قال الدعاة أولاً معذرة إلى ربكم وثانياً ولعلهم يتقون ... جزموا بالمعذرة وتمنوا أو رجوا التقوى لم يقولوا : لعله معذرة وليتقوا بل قالوا : معذرة ،لعلهم يتقون وذلك أن نتيجة الدعوة ليست بيد الداعي فهل يجزم أحد بأن المدعو سوف يستجيب أو يهتدي ؟ لا يعلم ذلك إلا الله فالدعاة رجوا أن يهدي الله طائفة منهم مع تكرار الوعظ والدعوة .
ولذلك يقول العلماء : إن من ضمن فوائد الدعوة و نفعها الأثر العاجل المباشر وهو أن يستجيب المدعو مباشرة كأن تقول له اتق الله, قم فصلي فيطيع ويقوم ويصلي أو تقولي للمرأة اتقي الله وألبسي الحجاب الشرعي فتلبسه فعلاً وهذا هو الأثر المحبوب المرجو لدى الداعية وهو الاستجابة المباشرة.
الهدف الثالث الأثر الآجل :
وهو داخل أيضاً في قوله تعالى عن المؤمنين ولعلهم يتقون وذلك لأن الدعوة تؤدي إلى ما يسميه العلماء ((إحداث نكاية )) في القلب الفاجر والعاصي وربما يؤثر ذلك في العاصي بتكرار الأمر والنهي بأن يصبح يرتكب المنكر وهو غير مطمئن إليه ويشعر بتأنيب ضميره نتيجة لتكرير تذكيره ووعظه أنت على منكر أنت على حرام فيحدث ذلك نكاية فوق نكاية في قلبه إلى أن يمن الله تعالى عليه في الوقت الذي يشاء - عز وجل- بالهداية فيهتدي ويترك المنكر.
وهذا أمر شهود وكثيراً جداً من الناس ينصح مرات ثم في المرة بعد المائة يلتزم ويهتدي فالهداية من عند الله ونحن لا نعلم متى يستجيب المدعو لكن على الأقل سيتأثر قلبه ويعلم أنه مخطئ هذه ثمرة من ثمرات الدعوة لكنها ثمرة مخفية لا تظهر في الحال ويرجى بإذن الله أن تثمر في المستقبل.
الكاتبة / أم سهيلة
موقع مسلمة(133/1)
أهمية الإخلاص
الخطبة الأولى
أما بعد. . .
أيها الناس اتقوا الله وأطيعوه وأخلصوا له العبادة وحده لا شريك له فإن الله خلق الخلق وبعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله قال الله تعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ?(1) وقال سبحانه: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ?(2) وقال: ?وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ?(3).
أيها المؤمنون إن عبادة الله لا تقوم ولا تستقيم إلا بالإخلاص له فالإخلاص لله هو حقيقة الدين ولب العبادة وشرط قبول العمل بمنزلة الأساس للبنيان وبمنزلة الروح للجسد فلا عبادة ولا عبودية لمن لا إخلاص له قال الله سبحانه وتعالى مخبراً عن أعمال الكفار التي لا إخلاص فيها ولا توجيه: ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً?(4) فهذا الإحباط للعمل والإبطال للسعي نصيب كل من لم يخلص لله تعالى في قوله وعمله قال الله سبحانه وتعالى: ?مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ صدق الله العظيم أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?(5).
أيها المؤمنون اتقوا الله وأخلصوا أعمالكم لله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((إن أول الناس يوم القيامة يقضى عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال الله تعالى: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: فلان جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال الله تعالى: كذبت ولكنك قرأت لأن يقال: قاريء تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار))(6) نعوذ بالله من حال أهل النار.
أيها المؤمنون إن من أعظم أسباب غياب الإخلاص في أعمال كثير منا هو طلب الدنيا ومحبة المدح والثناء فإن الإخلاص لا يقر في قلب مليء بمحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس قال ابن القيم رحمه الله: فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا ً فاذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص.
أيها المؤمنون إن مما يعيننا على ترك الطمع ويسهله علينا يقيننا أن الخير كله بيد الله تعالى لا يملكه غيره فمن أراده طلبه منه وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله تعالى. فازهد ياعبدالله في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه. وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه.
فجاهدوا ياعبادالله أنفسكم حتى تكونوا من أهل الإخلاص الذين أعمالهم كلها لله وحده لايريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكوراً.
أيها المؤمنون إن لإخلاص العمل فوائد كثيرة منها أن الأقوال والأعمال لا تقبل مهما حسن أداؤها إذا لم يصاحبها إخلاص لله تعالى: فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - مرفوعاً: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه))(7) وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في وصف أسعد الناس بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه))(8).
__________
(1) الذاريات: 56.
(2) الأنبياء: 25.
(3) البينة: 5.
(4) الفرقان: 23.
(5) هود: 15-16.
(6) أخرجه مسلم في الإمارة برقم 1905.
(7) أخرجه النسائي في الجهاد برقم 3140.
(8) أخرجه البخاري في العلم برقم 99.(134/1)
ومن فوائد الإخلاص أن العمل القليل مع الإخلاص سبب للفوز برضا الله تعالى ومن أمثلة ذلك قوله: - صلى الله عليه وسلم - ((اتق النار ولو بشق تمرة))(1) فشق التمرة مع الإخلاص يقي النار بمنة الكريم المنان كما أن كثير العمل مع الرياء يولج العبد أسفل النيران كما قال العزيز القهار: ?إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً?.
ومن فوائد الإخلاص أن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من التوحيد والإخلاص، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض وفي الحديث: ((إن الرجل لينصرف وما كتبت له إلا عشر صلاته أو تسعها أو ثمنها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها))(2). فاتقوا الله أيها المؤمنون وأخلصوا لله رغبتكم وعملكم فإنه لا يضيع عمل المخلصين.
الخطبة الثانية
أما بعد...
فاتقوا الله أيها المؤمنون وأخلصوا لله سبحانه وتعالى فإن الإخلاص سبب لقوة القلب وثبات اليقين عند توافر الفتن والزيغ فهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم لما كمل مراتب الإخلاص أنزل الله على قلبه السكينة فثبت فؤاده ونصره على أعدائه فالعبد ينصر بإخلاصه لله تعالى. فعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم))(3).
فالإخلاص والصدق مع الله يعين العبد على النهوض بالحق والقيام به والدعوة إليه مهما عظمت قوة الباطل فهذا نبي الله هود عليه الصلاة والسلام تحدى قومه كما قص الله علينا نبأهم في كتابه حيث قال: ?قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ صدق الله العظيم إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ?(4) فالإخلاص أعظم ما يعين العبد على القيام بالحق.
أيها المؤمنون إن الله سبحانه وتعالى يقول: ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين?(5) وقد بين الله سبحانه هؤلاء العباد في قوله: ?إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ?(6) فالمخلصون الموحدون محفوظون بحفظ الله ?كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ?(7). فاجتهدوا أيها المؤمنون في إخلاص العمل لله عسى أن تحصلوا تلك الفضائل والمناقب. للهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل.
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه برقم 1417.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه برقم 796.
(3) أخرجه النسائي في الجهاد برقم 3178.
(4) هود: 53-54.
(5) الحجر: 42.
(6) الحجر: 40.
(7) يوسف: 24.(134/2)
أهمية الإيمان وأثره في واقع الحياة
عناصر الموضوع
• ... أثر الإيمان في بناء الأمم
• ... أهمية الإيمان وأثره في واقع الحياة
• ... واقع إيماننا وارتباطه بالمادة
• ... التكافل الاجتماعي في الإسلام مرتبط بالإيمان
• ... الاهتمام بالمادة دون الإيمان سبب في زوال الأمم
• ... قيمة الإيمان والمادة وأثرها في واقع الحياة
• ... تحمل هذه الأمة لمسئولية نشر الإسلام
• ... الأسئلة
• ... أهمية الإيمان وأثره في واقع الحياة
• ... الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
• ... من محاضرة: أثر الإيمان في بناء الأمم
مقدمة المقدم:
الحمد لله نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الله عز وجل خلقنا لأمر نفعله وسنسأل عنه يوم القيامة، وهو أول ما نسأل عنه، وهذا الأمر هو ما افترضه الله عز وجل علينا، وما أخذ عليه العهد منا ونحن في صلب أبينا آدم؛ لأن الله أوجدنا في هذه الأرض لنحقق ما افترضه علينا والقيام بواجبه، وقد أقسم الله في غير ما آية من كتابه أن من أخل به فإنه خاسر، قال الله تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] وقال الله عز وجل: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:1-6].
وإن الإيمان أعظم واجب كلف به الإنسان في هذه الحياة، فهو حق الله عز وجل على عباده، من حققه كان له الفوز والفلاح والنجاح وكان له التمكين في الأرض، ومن أخل به كان له الخسران المبين، ولا فرق في ذلك بين الأمم أو بين الأشخاص، فالكل سيَّان في ذلك، سواء نظرنا في هذا الموضوع إلى البشرية كأمم، أم نظرنا إليها كأفراد، فالكل مطالبون بتحقيق الإيمان، فإن حققته الأمة كتب الله لها التمكين في الأرض، وكتب لها النصر والعزة، وإن أخلت به كتب الله عليها الذلة والصغار، ثم محقها وسحقها، ولنا فيما قص الله عز وجل علينا في كتابه من إهلاكٍ للأمم الماضية أكبر واعظ، وأكبر دليل على أن من أخل بالإيمان فإنه يبوء بالخسران في الدنيا قبل الآخرة قال تعالى: وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127].
وكذلك إذا كان الإخلال في الإيمان على مستوى الأفراد، فإن من أخل بالإيمان فإن له الخسران المبين في الدنيا والآخرة، وهذا ما سنتناوله لاحقاً في نتيجة الإخلال بالإيمان، ونتيجة إقامة الإيمان -أي ما الذي يترتب على إقامة الإيمان؟- سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمم، وما الذي يحصل للأفراد وللأمم إذا أخلوا بالإيمان؟
يقول الشيخ سفر :
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد المبعوث رحمة للعالمين، الذي علَّمنا الإيمان والتوحيد، وحذرنا من الشرك والضلال والبدع، وربى خير أمة أخرجت للناس فقامت أعظم أمة في تاريخ الإنسانية، أعظمها إيماناً وعدلاً، وأخلاقاً، وأطيبها حياةً في هذه الحياة الدنيا، وأسعدها عند الله تبارك وتعالى في الدار الآخرة.
أما بعد:
فإن الحديث سيكون عن أثر الإيمان في بناء الأمم والأفراد -والكلام القادم- سيكون عن أسباب انهيار الأمم، ولماذا تنهار أمم وشعوب؟ ولماذا تبقى غيرها؟ فالأمر يحتاج إلى وقت طويل؛ ولكن خطورة الأمر وأهميته هي التي تجعلنا نتحدث عنه بما يفتح الله تبارك وتعالى به علينا.
وإن مما يدلل على أهمية هذا الأمر أن دعاة الحق والإيمان والسنة، حينما يدعون الناس وأنفسهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلى الاقتداء بمنهج السلف الصالح في كل أمورهم العلمية والعملية، فإنهم إنما يدعون الأمة إلى الدواء الذي يشفي بإذن الله تبارك وتعالى من كل داء، ويكفي عن كل علاج؛ إنه الدواء الذي يستأصل جميع الأمراض من قلوب العباد -وأمراض الأمم عامة- ويمنع أسباب الانهيار التي يتعرض لها الفرد أو تتعرض لها الأمة.
وإننا حين ندعو الناس فنقول: عودوا إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الأمر لا يعني تعصباً لمذهب معين، ولا يعني قسراً وفرضاً للناس على رأي من الآراء البشرية أبداً، ولكنه دعوة إلى سعادة الدنيا والآخرة، ودعوة إلى المنهج القويم الذي يضمن ويكفل للإنسانية أفراداً وشعوباً أفضل الحياة في الدنيا، ويحقق لها النجاة من العذاب في الآخرة.
واقع إيماننا وارتباطه بالمادة(135/1)
إن العالم اليوم يخاف من الانهيار ويخشى منه، وما من دولة أو فرد إلا وهو يخشى ذلك ويحسب له كل حساب، حتى أقوى وأغنى دول العالم فإنها تتحدث كثيراً عن مسألة الوجود، وإثبات الوجود، وتضع الخطط البعيدة المدى لتبقى ولتصارع ولتزاحم في خضم معترك الحياة، التي جعلوها -هم- صراعاً كصراع الوحوش في الغابات،ولكن كل من يؤمن بالله واليوم الآخر يدرك أن هذا العالم -إلا ما ندر- لا ينظر إلى مسألة الانهيار، وأسباب سقوط الأمم إلا من زاوية واحدة فقط وهي الزاوية المادية أو الاقتصادية.
حتى هذه الأمة المباركة؛ بل حتى الذين يقرءون كتاب الله ويسمعونه آناء الليل والنهار، ويسمعون الأذان خمس مرات في اليوم والليلة -وأكثرهم من هذه الأمة- أصبحوا يصدقون هذا، فيبنون خططهم وأفكارهم وآراءهم على أن الحياة مرتبطة بالاقتصاد وبالمادة، وأن الخوف الذي يجب أن يكون لدى الأفراد أو الأمم هو الخوف من الفقر والخوف من الجانب المادي أن ينهار فينهار الفرد أو تنهار الأمة، ويشغل ذلك حيزاً كبيراً من تفكير الناس، المسلم منهم والكافر.
ونحن أمة الإسلام والقرآن يجب علينا أن نعرض كل أمر من الأمور على كتاب ربنا، وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لنعرف قيمة هذا الإيمان وحقيقته، وأنه هو الذي به تصلح دنيانا وأخرانا، وأما المقاييس والمعايير التي يقيس بها الكفار والماديون والشيوعيون والملاحدة؛ فليست بحجة ولا بعبرة عند من يؤمن بالله واليوم الآخر، ومن يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذا نبي الهدى والرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبرنا فيقول: {ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم } فأي رحيم وأي مشفقٍ وأي ناصحٍ أفضل وأعظم من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لا أحد والله يساويه فضلاً؛ ومع ذلك ينصح لهذه الأمة، وهو الذي شفقته ورحمته ورأفته بنا كما قال الله عز وجل بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] وهو الذي في يوم القيامة يوم الكرب الأعظم الذي لا كرب أعظم منه، حين يقول: كل نبي: نفسي.. نفسي، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمتي.. أمتي }.
ففعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو من كمال الشفقة، والرحمة، والرأفة؛ ومع ذلك يخبرنا أنه لا يخشى علينا، وهو الذي يخشى علينا من أي ضرر وإن كان قليلاً، ويدلنا على ما ندفع به كل شر وإن كان بعيداً، فقوله:{ ما الفقر أخشى عليكم } أي: أنه لا يخشى علينا الفقر مع أنه تعوذ منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعاذ بالله منه، وهو مما يحاربه هذا الدين، بل إن الأمر في ديننا مختلف ومذهب وعن كل دين محرف.
التكافل الاجتماعي في الإسلام مرتبط بالإيمان
إن أمر إطعام المسكين عند المسلمين مرتبط بالإيمان بالآخرة، قال تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون:1-3] فالأمر عندنا أسمى من أن يكون في الجهات الأخلاقية، وأسمى من أن يكون أوامر قسرية تنهب الأغنياء لتعطي الفقراء، إنما الأمر عندنا مرتبط بالآخرة، ومرتبط بأصل الإيمان قال تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر:42-44] وانظروا كيف يحض هذا الدين على المسكين ويربطه بالرحمة؛ فيكون إطعام المسكين مما يحض عليه من الرحمة فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [البلد:11-14] انظروا كيف تكون الرحمة مرتبطة بالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! فإذا صحت العقيدة فإنها ترتبط ارتباطاً مباشراً لا انفكاك معه؛ ومع ذلك كله لا يخاف علينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الفقر.(135/2)
أهمية التوبة
3248
التوبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
3/6/1424
المسجد النبوي
ملخص الخطبة
1- النقص والخطأ من طبيعة البشر. 2- كتابة الله تعالى للحسنات والسيئات. 3- كثرة سبل الخير. 4- سدّ طرق الشرّ. 5- التوبة هي جماع الخير. 6- حقيقة التوبة. 7- فضل التوبة. 8- وجوب التوبة على كل مسلم. 9- سعة رحمة الله تعالى. 10- شدة فرح الله تعالى بتوبة عبده. 11- التوبة من صفات النبيين وعباد الله الصالحين. 12- حاجة المسلمين الماسة إلى التوبة. 13- شروط التوبة. 14- الاعتبار بقصص التائبين. 15- أهمية نعمة الأمن وسبيل الحفاظ عليها.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ معشر المسلمين ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله الجليل عدّة لكلّ شدّة، وحصنٌ أمين لمَن دخله، وجُنّة من عذاب الله.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ ربَّكم خلق بني آدم معرَّضًا للخطيئات، ومعرَّضًا للتقصير في الواجبات، فضاعف له الحسناتِ، ولم يضاعِف عليه السيِّئات، قال الله تعالى: مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنّ الله كتب الحسناتِ والسيّئات، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبَها الله عندَه حسنةً كامِلة، فإن عمِلها كتبها الله عندَه عشرَ حسنات، إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعافٍ كثيرة، فإن همَّ بسيّئة فلم يعملْها كتبَها الله حسَنة كامِلة، فإن عمِلها كتبها الله عنده سيِّئة واحدة)) رواه البخاري[1].
فشرَع الله لكسبِ الحَسَنات طرُقًا للخيرَات وفرائضَ مكفِّراتٍ للسيِّئات رافعةً للدّرجات، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((الصلواتُ الخمس والجُمعة إلى الجُمعة ورمضانُ إلى رمضان مكفِّرات لما بينهنّ إذا اجتُنِب الكبائر)) رواه مسلم[2]، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أربعون خَصلةً أعلاها مَنيحَة العَنز، ما مِن عاملٍ يعمَل بخصلةٍ منها رَجاءَ ثوابِها وتَصديقَ مَوعودِها إلاّ أدخله الله بها الجنّة)) رواه البخاري[3]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((الإيمان بضعٌ وسبعون ـ أو بضعٌ وستون ـ شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطّريق، والحياءُ شعبَة من الإيمان)) رواه البخاري ومسلم[4]، وعن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله، أيُّ العمل أفضَل؟ قال: ((الإيمانُ بالله والجِهاد في سبيلِه))، قلتُ: أيُّ الرِّقاب أفضل؟ قال: ((أنفسُها عندَ أهلها وأكثرُها ثمَنًا))، قلتُ: فإن لم أفعل؟! قال: ((تُعين صانعًا أو تصنَع لأخرَق))، قلت: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن ضعفتُ عن بعضِ العمَل؟! قال: ((تكفُّ شرَّك عن النّاس، فإنّها صدقةٌ مِنك على نفسِك)) رواه البخاري ومسلم[5]، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تحقرنَّ من المعروفِ شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طليق)) رواه مسلم[6]، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ اللهَ ليرضَى عن العبدِ أن يأكُل الأكلةَ فيحمَده عليها، أو يشربَ الشربة فيحمَده عليها)) رواه مسلم[7].
وكما شرع اللهُ كثرةَ أبوابِ الخير وأسباب الحسنات سدَّ أبوابَ الشرِّ والمحرَّمات، وحرَّم وسائلَ المَعاصي والسيِّئات، ليثقلَ ميزانُ البرِّ والخير، ويخِفَّ ميزانُ الإثمِ والشرِّ، فيكون العبد من الفائزين المفلحين، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((ما نهيتُكم عنه فاجتنِبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم)) رواه البخاري ومسلم[8].
وجِماع الخير ومِلاك الأمر وسببُ السعادة التوبةُ إلى الله تعالى، قال عزّ وجلّ: وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
ومعنى التوبةِ هي الرجوعُ إلى الله والإنابةُ إليه مِن فعلِ المحرّم والإثم، أو مِن ترك واجبٍ أو تقصير فيه، بصدقِ قلبٍ ونَدمٍ على ما كان.(136/1)
والتوبة النّصوحُ يحفَظ الله بها الأعمالَ الصّالحة التي فعَلها العبد، ويكفِّر الله تبارك وتعالى بها المعاصيَ التي وقعت، ويدفعُ الله بها العقوباتِ النّازلةَ والآتيَة، قال الله تعالى: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الْحياةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98]. روى ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية عن قتادة قال: "لم ينفَع قرية كفرت ثمّ آمنت حينَ حضرها العذاب فتُرِكت إلاّ قوم يونس، لمّا فقدوا نبيَّهم وظنّوا أنّ العذابَ قد دنا منهم قذَف الله في قلوبِهم التّوبةَ، ولبِسوا المسوح، وألهَوا بين كلّ بهيمة وولدها ـ أي: فرّقوا بينهما ـ، ثمّ عجّوا إلى الله أربعين ليلة، فلمّا عرَف الله الصّدقَ من قلوبِهم والتّوبة والنّدامةَ على ما مضى منهم كشفَ الله عنهم العذابَ بَعد أن تدلَّى عليهم" انتهى[9].
وقال تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:3].
والتوبةُ واجبَة على كلِّ أحدٍ مِن المسلمين، فالواقعُ فِي كبيرة تجِب عليه التّوبة لئلاّ يبغتَه الموتُ وهو على معصية، فيندم حين لا ينفع الندم، والواقعُ في صغيرةٍ تجِب عليه التّوبة لأنّ الإصرارَ على الصغيرة يكون من كبائر الذّنوب، والمؤدِّي للواجباتِ التاركُ للمحرّمات تجِب عليه التّوبة أيضًا لما يلحَق العملَ مِن الشّروط وانتفاء موانع قبوله، وما يُخشَى على العمَل من الشّوائب المحذَّر منها كالرّياء، عن الأغرّ بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا أيّها النّاس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإنّي أتوب إليه في اليوم مائةَ مرّة)) رواه مسلم[10].
والتّوبة بابٌ عظيم تتحقّق بهِ الحسنات الكبيرةُ العظيمة التي يحبّها الله؛ لأنّ العبدَ إذا أحدَث لكلّ ذنبٍ يقَع فيه توبةً كثُرت حسناتُه ونقصَت سيّئاتُه، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:68-70].
أيّها المسلمون، تذكَّروا سعَةَ رحمةِ الله وعظيمَ فضلِه وحِلمِه وجودِه وكرمِه، حيثُ قبِل توبةَ التائبين، وأقال عثرةَ المذنبين، ورحِم ضعفَ هذا الإنسان المسكين، وأثابَه على التّوبة، وفتحَ له أبوابَ الطّهارة والخيرات، عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبيّ قال: ((إنَّ الله تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النّهار، ويبسط يدَه بالنّهار ليتوبَ مسيء الليل)) رواه مسلم[11].
والتّوبة من أعظمِ العبادات وأحبِّها إلى الله تعالى، من اتّصفَ بها تحقَّق فلاحُه وظهَر في الأمور نجاحُه، قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ [القصص:67].
وكفى بفضلِ التّوبة شرفًا فرحُ الرّبِّ بها فرحًا شديدًا، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبدِه من أحدِكم سقَط على بعيره وقد أضلّه في أرض فلاة)) رواه البخاري ومسلم[12].
والتّوبة من صفاتِ النبيّين عليهم الصلاة والسلام ومن صفات المؤمنين، قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:117]، وقال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، وقال تعالى عن داود عليه الصلاة والسلام: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، وقال عزّ وجلّ: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الركِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]. ألا ما أجلّ صفةَ التّوبة التي بدَأ الله بِها هذه الصفاتِ المُثلى من صفاتِ الإيمان.(136/2)
والتّوبة عبادةٌ للهِ بالجوارِح والقلب، واليومُ الذي يتوبُ الله فيه على العبدِ خيرُ أيّام العُمُر، والسّاعة التي يفتَح الله فيها لعبدِه بابَ التّوبة ويرحمُه بها هي أفضلُ ساعاتٍ في الدّهر؛ لأنّه قد سعِد سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا، عن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصّة توبَة الله عليه في تخلّفه عن غزوة تبوك أنّه قال: فلمّا سلّمتُ على رسول الله قال وهو يبرُق وجهُه من السّرور: ((أبشِر بخيرِ يومٍ مرّ عليك منذ ولدَتك أمّك)) رواه البخاريّ ومسلم[13].
معشرَ المسلمين، إنّها تُحيطُ بِكم أخطارٌ عظيمة، وتنذِركم خطوبٌ جَسيمة، وقد نزَل مِن أعداء الإسلام بالمسلمين نوازلُ وزلازل، وأصابتهُم الفتَن والمِحن، وإنّه لا مخرَجَ لهم من هذه المضايِق وهذه الكربَات إلاّ بالتّوبة إلى الله والإنابَة إليه، فالتّوبة واجبةٌ على كلّ مسلِم على وجهِ الأرض من الذّنوب صغارِها وكبارها؛ ليرحمَنا الله في الدّنيا والآخرة، ويكشِف الشرورَ والكرُبات، ويقيَنا عذابَه الأليم وبطشَه الشّديد.
قال أهلُ العِلم: إذا كانتِ المعصيةُ بينَ العبد وبين ربّه لا حقّ لآدميٍّ فيها فشروطُها أن يقلِعَ عن المعصيةِ وأن يندَمَ على فعلها وأن يعزمَ أن لا يعودَ إليها أبدًا، وإن كانتِ المعصيةُ تتعلّق بحقّ آدميٍّ فلا بدَّ مع هذه الشّروط أن يؤدّيَ إليه حقَّه أو يستحلّه منه بالعفو.
والتّوبة من جميع الذّنوب واجبَة، وإن تابَ من بعضِ الذّنوب صحّت توبتُه من ذلك الذّنب، وبقيَ عليه ما لم يتُب منه.
فتوبوا إلى الله أيّها المسلمون، وأقبِلوا إلى ربٍّ كريم، أسبَغَ عليكم نعمَه الظاهرةَ والباطنَة، وآتاكم من كلِّ ما سألتموه، ومدّ في آجالِكم، وتذكّروا قصصَ التائِبين المنيبين الذين مَنّ الله عليهم بالتّوبة النّصوح بعد أن غرقوا في بحارِ الشهوات والشّبهات، فانجَلت غشاوةُ بصائِرهم، وحيِِيَت قلوبُهم، واستنارت نفوسُهم، وأيقظهم اللهُ من موتِ الغفلةِ، وبَصّرَهم مِن عمَى الغَيّ وظلماتِ المعاصي، وأسعدَهم من شقاءِ الموبِقات، فصاروا مَولودِين من جَديد، مستبشرين بنعمةٍ من الله وفضل، لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:174].
بسم الله الرحمن الرحيم: ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم:8].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهَديِ سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستَغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين مِن كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب: من همّ بحسنة أو بسيئة (6491) بنحوه، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة (131).
[2] صحيح مسلم: كتاب الطهارة، باب: الصلوات الخمس... (233).
[3] صحيح البخاري: كتاب الجنة وفضلها، باب: فضل المنيحة (2631).
[4] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: أمور الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان (35) واللفظ له.
[5] أخرجه البخاري في العتق، باب: أي الرقاب أفضل؟ (2518)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال (84) واللفظ له.
[6] أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (2626).
[7] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2734).
[8] أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله (7288)، ومسلم في الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر (1337).
[9] تفسير الطبري (11/171).
[10] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار (2702) بنحوه، ومرّة رواه عن الأغرّ عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[11] صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب (2759).
[12] أخرجه البخاري في الدعوات، باب: التوبة (6309) واللفظ له، ومسلم في التوبة، باب: من الحض على التوبة... (2747).
[13] أخرجه البخاري في المغازي، باب: حديث كعب بن مالك (4418)، ومسلم في التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك (2769).
الخطبة الثانية(136/3)
الحمدُ لله العزيز الوهّاب، الذي خلق الأسباب, وقدّر المقادير، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن, لا إله إلا هو سريعُ الحساب. أحمد ربّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً مبرّأة من النفاق والارتياب، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المنعَم عليه بأفضل كتاب، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله والأصحاب.
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى وأطيعوه, فإنّ طاعته أقوم وأقوى, وتزوّدوا بهذه التّقوى لداركم الأخرى، فإنّها دار القرار، نعيمُها أبديّ, وعذابها سرمديّ, واشكُروا نعمَ الله عليكم بطلبِ رضوانِه وملازمة طاعتِه والبعدِ عن معصيته.
وأعظمُ النّعم نعمة الإسلام والإيمان, وما أجلَّ نعمةَ الأمن والأمَان. الأمنُ تنتظِم به مصالحُ الدّنيا والدّين، وتصلح به الحياةُ في جميع جوانبها, وتندفِع بوجودِه الشّرور والمخاوف عن النّاس، وتدرّ معه الخيرات، وقد امتنّ الله به على أهلِ بيته العتيق في قوله: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شيء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57].
وبيَّن النبيّ قدرَ نعمة الأمن وفضلَها بقوله: ((من أصبح منكم ءامنًا في سربه معافًى في جسده عنده قوت يومه فكأنّما حيزَت له الدّنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي رضي الله عنه[1].
وشكرُ هذه النّعمة بالمحافظة على أسبابِها والحذرِ من أسباب اختلالها. ومن أسبابِ المحافظةِ على الأمن الأخذُ على يدِ العابثين بالأمن والاستقرار, من السّفهاء والفسّاق والمجرمين الذين يهدمون ولا يبنون, ويفسِدون ولا يُصلحون، ويفارقون جماعةَ المسلمين وإمامَهم، قد زيَّن لهم الشيطان صنيعَهم, ودفعهم إلى مزالقِ الشرّ أعداءُ بلادهم, الذين شوَّهوا صورةَ الإسلام, وحقّقوا مكاسبَ لأعداءِ الإسلام بهذه الأعمال التخريبيّة الإجراميّة الإرهابيّة التي تظهَر بين آونةٍ وأخرى.
فإنّ أمنَ بلدكم مسئوليّة الجميع، فمَن عُلم عنه التوجّهُ لهذا المسلك الخبيثِ والإعداد للإفساد في الأرض فيجِب رفعُ أمره للسّلطة, قبلَ أن يحدثَ شيء من الحدَث الذي يحقِّق أهدافَ أعداءِ الأمّة، ويحقّق أهدافَ أعداءِ البلاد.
وعلى الشّباب الذين غرِّر بهم أن يبصِروا مواقعَ أقدامهم، وأن يحذَروا كلَّ فكرٍ يخالف كتابَ الله وسنّة رسوله ، وأن لا ينخدِعوا لمن يدعو إلى هذا الفكرِ المنحرِف، وإن زعَم لنفسه ما زعم، أو ادَّعى له أحدٌ ما ادّعى، أو وصفه بما وصفه.
معشرَ الشّباب، خذوا العلمَ من كتاب الله ومن سنّة رسول الله على فهم السّلف الصّالح الذين جعلهم الله وسطًا بين الأمَم على يدِ الراسخين في العلم.
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال عزّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
اللهمَّ وارضَ عن الصّحابة أجمعين...
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (300)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439)، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، ولذا حسنه الألباني السلسلة الصحيحة (2318).(136/4)
أهمية القيم في بناء الأفراد والأمم
لفضيلة الشيخ عبد الباري بن عوض الثبيتي إمام المسجد النبوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمّا بعد: قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون [آل عمران:102].
تَرِد القِيمُ مُفردًا مَصدرًا، ومِنه: دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا [الأنعام:161]، وكذلك ورَدَ في قولِه تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما [النساء:5]، ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيما في قراءة نافع، أي: بها تقومُ أموركم.
الشيء القيِّم الذي له قيمةٌ عظيمة، وتبعًا لهذا فإنَّ القِيَم هي تلك المبادئ الخلُقِيّة التي تُمتَدَح وتُستَحسَن، وتُذَمّ مخالفتها وتُستَهجَن.
أعظم القِيَم وأساسُها الإيمان بالله تعالى، منهُ تنشأ، وبه تقوَى، وحين يتمكَّن الإيمان في القلبِ يجعل المسلِم يسمو فيتطلَّع إلى قيَمٍ عُليا، وهذا ما حدَث لسحرة فرعون؛ فإنهم كانوا يسخِّرون إمكاناتهم وخِبراتهم لأغراضٍ دنيئة، وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين [الأعراف:113]، فلما أكرمهم الله بالإيمانِ انقَلَبت موازينُهم وسمَت قيمهم، هدّدَهم فرعون فأجابوا بقولهم: قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا [طه:72].
الثَّباتُ على القِيَم حَصانةٌ للمجتمع من الذَوبَان، وتُفيضُ عليه طمأنينةً، وتجعل حياتَه وحركتَه إلى الأمام، ثابتةَ الخطى، ممتدّةً منَ الأمس إلى اليوم؛ لأنها في إطارِ العقيدة وسياجِ الدِّين.
للقيَم فوائد جمّة، فهي التي تشكّل شخصيةَ المسلم المتّزنة، وتوحِّد ذاتَه، وتقوّي إرادته، والذي لا تهذِّبه القيم متذَبذبُ الأخلاق مشتَّت النفس، ينتابه الكثيرُ من الصراعات، قال تعالى: أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم [الملك:22].
القِيَم تحفظ الأمنَ، وتقِي من الشرورِ في المجتمع؛ لأنَّ تأثيرَها أعظم من تأثيرِ القوانين والعقوباتِ، فالقيَم المتأصِّلة في النفس تكون أكثرَ قدرةً على منع الأخطاءِ مِن العقوبة والقانون.
أصحابُ القيَم يؤدّون أعمَالهم بفعاليّة وإتقان، وسوء سلوكِ القائمين على العمَل راجعٌ إلى افتقادهم لقِيَم الإيمان والإخلاصِ والشعور بالواجِب والمسؤوليّة.
القيَم تجعل للإنسانِ قيمةً ومنزلة، ولحياته طعمًا، وتزداد ثقةُ الناسِ به، قال تعالى: ولكل درجات مما عملوا [الأنعام:132]، وقال تعالى: أم نجعل المتقين كالفجار [ص:28].
عندما تنشأُ القيَم مع الفردِ مِن إيمانِه وعقيدتِه وخشيته لله ينمو مع نموِّ جسده فكرٌ نقيّ وخلق قويم وسلوكٌ سويّ، وتغدو القيَم ثابتةً في نفسه، راسخةً في فؤاده، لا تتبدّل بتبدُّل المصالح والأهواء كما هو في المجتمعاتِ المادّيّة، ويصغُر ما عداها من القيَم الأرضية الدنيويّة، قال تعالى: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن [المؤمنون:71].
موضوعُ القِيَم ممتدٌّ في حياة المسلمين، فلا يقوم مجتمَعٌ مسلم تقيّ نقيّ حتى تحتلَّ فيه القيَم منزلتها الرفيعة في سلوكِ الفرد والأمّة والمجتمع.
من القيَم بر الوالدين، الإنفاق، الصِّدق، الوفاء، إِعمار الأرض، استثمارُ الوقت، إتقانُ العمل، الإنصاف، الشعور بالمسؤوليّة، أداءُ الفرائض، الامتناع عن المحرمّات. مِن قيَم الإسلام الخالدَة الصبر، حبُّ الخير، جهادُ النفس والهوى والشّهوة. من القيَم الحياء، العِفّة، الاستقامة، الفضيلةُ، الحجاب.
لقد كانت هذه القيَمُ وغيرها مغروسةً في أجيال السلَف الصالح قولا حكيمًا وفعلا ممارسًا من حياته التي كانت مصابيحَ تربويّة في ليلِه ونهاره وصبحِه ومسائه. أضاءَت سيرتُه الطريقَ لأجيال الصحابة، فتشرَّبوا القيمَ الخالدة، حتى غدت نفوسهم زكيّةً وعقولهم نيّرة، وغيَّروا بذلك الدنيا وأصلحوا الحياة. لم يعرفِ الخلقُ منذ النشأةِ الأولى مجتمعًا تجلّت فيه القيَمُ بأسمى معانيها مثل المجتمعاتِ الإسلامية.
الدعوةُ الإسلامية رسَّخت القيَم، انتشرت بالقيم، تغلغلت في النفوس بما تحمِل من قيم، شملت مختلفَ جوانب الحياة؛ الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة، منظومةً متكاملة لا يمكن فصلُها.
إخوةَ الإسلام، إنَّ لدينا من الفضائل والقيَم ما لو أحسنّا عرضَها للآخرين وامتثلناها في حياتنا لكان لنا السموُّ والرِّيادة، وأسهمنا في نشر الإسلام قِيَمًا ومُثُلا مشرِقة.(137/1)
تظهر الأيّامُ عظمةَ القيم في الإسلام، فهذه الأمَم اليومَ تترنّح ويتوالى الانهيار منذ فجرِ التأريخ، تنهار الأمَمُ لِضمور المبادئ وهشاشَة القيَم التي أقيمَت عليها، وتقِف أمة الإسلام شامخةً بإسلامها، قويَّةً بإيمانها، عزيزةً بمبادئها؛ لأنها أمّة القيم والمثُل والأخلاق. انهيارُ الأمم والحضارات المادية دليلٌ على أن قيَمَها ومثُلها ضعيفة نفعيّة، بل هي مفلِسة في عالم القيم، كيف لا وهي من صُنع البشر؟! كم مِن القتلى! كم منَ الجرحى! كم من التدميرِ يمارَس اليوم باسمِ الحريّة والحفاظ على المصالح!
القيَم تدفع المسلمَ وإن كان في ضائقة ماليّة إلى إغاثة الملهوف وإطعامِ الجائع، وتجد المسلمَ المؤمن يمتنِع عن الرشوةِ والسرقة، والمرأةَ تحافِظ على كرامَتِها وتصون عِفَّتَها وتنأى بنفسِها عن مواطن الفتنةِ والشبهة ولا تستجيب للدّعاوَى المغرِضة والمضلِّلة؛ ذلك أن الإيمانَ هو النبعُ الفيّاض الذي يرسِّخ القِيَم وتُبنى به المجتمعات ويوفِّر لها الصلاح والفلاحَ والأمن والتنمية.
أيُّ عملٍ اجتماعيّ أو اقتصاديّ لحلّ مشكلات المجتمع يهتمُّ بالقيَم المادية ويتجاهل القيَم الإيمانيّة فإنه يسلك طريقَ الضَّعف ويقذف بالجيل إلى حياةِ الفوضى والعبث، ويقتلُ فيه روحَ المسؤولية والفضيلة. وما أصاب المسلمين اليومَ مِن قصورٍ ليس مرجعُه قيَمَ الإسلام ومبادِئَه ومقاصدَه وغاياته، وإنما سببُه الفرقُ بين العِلم والعمل والفصلُ بين العقيدة والمبادئ والقِيَم، واللّحاقُ بركب الحضارة لا يكون على حساب الثوابت، إنَّ ثوابتَنا وقِيَمنا نحن المسلمين هي سبَبُ عزِّنا وهي سبَبُ تقدُّمنا، ويجب أن يعرفَ كلُّ فردٍ في الأمّة التي تريد النهوضَ إلى المجد أنَّ العقيدة هي التي تبني القوى وتبعثُ العزائمَ وتضيء الطريقَ للسالكين. إنَّ الحفاظَ على قِيَم الحياء والحِشمة والعفافِ والبُعدَ عن الاختلاط وعدَم ابتذالِ المرأةِ تَظلّ أحدَ أكبر صمّامات الأمان للمجتمع إزاءَ الكوارث الخلُقيّة التي أصابت العالَمَ اليومَ في مقتَل.
لقد تعرَّضت القيَم الإيمانية على امتدادِ التأريخ لموجاتٍ متتالية من العبَث وتيّارٍ جارف من الانهيار، قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون [آل عمران:187].
إخوةَ الإسلام، يتقوّى المجتمع بتَحصينِ القِيَم من ضررٍ يصيبها أو تيّارٍ جارف يهدِمها، وذلك بتَأسيسِ الجيل منذ نشأتِه على القِيَم وإبرازِ القدواتِ الصالحة للأجيال المؤمنة، والله تعالى يبيِّن لنا نماذجَ من القدوة الصالحةِ التي يجِب أن تقدَّم للأجيال حتى يتخلَّقوا بأخلاقها ويسيروا على نهجِها، أجلُّ القدوات رسولُنا : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [الأحزاب:21]. ولم يحفَل تأريخٌ بخيرةِ الناس وعظمائِهم الذين زكَّى الله نفوسَهم وطهَّر قلوبهم مثلَما حفَل به تأريخُنا الإسلاميّ، فلِمَ تعمى الأبصار عنهم؟! أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [الأنعام:90].
أخطر ما يهدِّد القيَم ويزعزِع بنيَانَها القدواتُ السيّئة المزيّنَة بالألقاب من الوضيعِين والوضيعَات، الذين يفتَقِد الواحد منهم إلى التحلّي بأبجديّات الآداب والأخلاق الإسلاميّة، هذه القدواتُ السيّئة تعمل على خَلخَلة القِيَم وتشكّلُ نفوسًا فارغة من القِيَم سابحةً في الضِّيق، كما تروِّج له القنواتُ الفضائيّة مِن عريٍ فاضح وسلوكٍ منحط وتحلّل خاطئ يحطِّم القِيَم ويدمّر الأخلاقَ، ودَعوةُ صريحة لنبذِ الفضيلة، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم [النحل:25].
إخوةَ الإسلام، تذبُل القيم وتتوارَى في المجتمع إذا ضعُف التديُّن في الفرد والمجتمع، فعقوقُ الوالدين، الكذِب، الغشّ، تضييع الأوقات، الاختلاطُ، خروج المرأة عن سياجِ الحِشمة والعفاف، الانكباب على الدنيا، وغيرُ ذلك أثرُ ضعفِ التديّن ووَهن علاقةِ الناس بربهم؛ لأنهم يفقِدون الطاقة الإيمانيّةَ والشعور بالجزاء الأخرويّ، فأزمَةُ الأمّة اليوم أزمةُ قيَمٍ إيمانية، لا قيَم مادية، وقد سجَّلت الأمّةُ في فتراتِ رسوخ الدّين وعلوِّ الإسلام مبادَراتٍ مِنَ الأعمال الخيِّرة والسّلوك الرشيد أثارتِ الإعجابَ وأدهشتِ المنصفين، قال تعالى: والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [محمد:17].
المزرعَة الأولى لبناءِ القيم أسرةُ يقودها أبوان صالحان، يتعلَّم الولد في البيت والمدرسةِ القيَم ويمتثِلها، يمارس الفضيلة وينأى بنفسِه عن الرذيلة.(137/2)
وعمليّة بناء القيَم عملية دائِمة مستمرَّة لا تتوقَّف، وهي أساسُ التربية في البيت والمدرسة والأسواقِ وكافّة نواحِي الحياة، كما يجب التحذيرُ من المفاهيمِ التربويّة المستورَدَة التي تتعارَض مع قيَم الإسلام، ولا سيّما في ظلِّ العولمة، وإزالَة كلِّ ما يخدِش الحياءَ ويحطّم القيَم، كما نطالب المجتمعَ بكل أفراده وجميعِ مؤسَّساته العامّة والخاصّة أن يتعاونوا في نشرِ القيم وتثبيتها في النفوس، ثم متابَعَتها حتى تصبِح جزءا أصيلا في سلوكِ الناس وتعامُلِهم. غرسُ القيَم بالقدوة والسلوك أكبرُ أثرًا وأعظم استجابةً وأسرعُ قبولا، ومن أجلِ ذلك قدّم ربُّ العزة وحيَه وجعل الدعوةَ على أيدي الرسلِ ليكونوا قدوةً لأمَمِهم، قال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لألا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [النساء:165].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسولِ الهدى ومعلّم البشرية محمد بن عبد الله.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وسلّم، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...(137/3)
أوفوا بالعقود
د. عبد الحي يوسف*
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (المائدة: 1)
أوفوا: الوفاء الإتيان بالشيء وافياً كاملاً لا نقص فيه
بالعقود: قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: العقود العهود، وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك، وقال ابن عباس: يعني ما أحل الله وما حرَّم وما فرض وما حدَّ في القرآن كله، وقال زيد بن أسلم: هي ستة، عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين
بهيمة: البهيمة ما لا عقله لها سميت بذلك لإبهام أمرها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها، وخصها العرف بذوات الأربع من حيوان البر والبحر
بهيمة الأنعام: وإضافتها للأنعام للبيان وهي الإضافة التي بمعنى (من) كخاتم فضة ومعناه: البهيمة من الأنعام،[1] هي الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والغنم
إلا ما يتلى عليكم : أي في قوله سبحانه ((حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير)) الآية
وأنتم حرم: الحرم جمع حرام وهو المحرم
من فوائد الآية
1.وجوب الوفاء بالعقود كلها ما كان لله وما كان للناس
2.حل بهيمة الأنعام من الأزواج الثمانية
3.تحريم الأنواع العشرة من المطاعم التي يأتي بيانها في الآية الثالثة
4.أن كتاب الله عز وجل يفسر بعضه بعضا
5.تحريم الصيد حال الإحرام بالنسك سواء أكان في الحرم أو غيره
6.إثبات الإرادة لله عز وجل كونية قدرية وشرعية دينية
7.استدل ابن عمر وابن عباس وغير واحد من العلماء بهذه الآية على إباحة أكل الجنين {ذكاة أمه ذكاة له}- صلى الله عليه وسلم -إذا ذكيت أمه ووجد في بطنها ميتاً، وجاء عن النبي أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه
8. إباحة الصيد بعد الإحلال؛ فإن كل شيء كان جائزاً، ثم حُرِّم لموجب، ثم أُمر به بعد زوال ذلك الموجب، فإن ذلك الأمر كله في القرآن للجواز نحو قوله هنا ((وإذا حللتم فاصطادوا)) وقوله ((فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض)) وقوله ((فالآن باشروهن)) وقوله ((فإذا تطهرن فأتوهن))
----------
1- الكشاف 1/320
في ظلال القرآن - (ج 2 / ص 305)
{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } . .
إنه لا بد من ضوابط للحياة . . حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه؛ وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة . . الناس من الأقربين والأبعدين ، من الأهل والعشيرة ، ومن الجماعة والأمة؛ ومن الأصدقاء والأعداء . . والأحياء مما سخر الله للإنسان ومما لم يسخر . . والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض . . ثم . . حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة .
والإسلام يقيم هذه الضوابط في حياة الناس . يقيمها ويحددها بدقة ووضوح؛ ويربطها كلها بالله سبحانه؛ ويكفل لها الاحترام الواجب ، فلا تنتهك ، ولا يستهزأ بها؛ ولا يكون الأمر فيها للأهواء والشهوات المتقلبة؛ ولا للمصالح العارضة التي يراها فرد ، أو تراها مجموعة أو تراها أمة ، أو يراها جيل من الناس فيحطمون في سبيلها تلك الضوابط . . فهذه الضوابط التي أقامها الله وحددها هي « المصلحة » ما دام أن الله هو الذي أقامها للناس . . هي المصلحة ولو رأى فرد ، أو رأت مجموعة أو رأت أمة من الناس أو جيل أن المصلحة غيرها! فالله يعلم والناس لا يعلمون! وما يقرره الله خير لهم مما يقررون! وأدنى مراتب الأدب مع الله - سبحانه - أن يتهم الإنسان تقديره الذاتي للمصلحة أمام تقدير الله . أما حقيقة الأدب فهي ألا يكون له تقدير إلا ما قدر الله . وألا يكون له مع تقدير الله ، إلا الطاعة والقبول والاستسلام ، مع الرضى والثقة والاطمئنان . .
هذه الضوابط يسميها الله « العقود » . . ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود . .(138/1)
أول خطبة جمعة في المسجد الأقصى بعد تحريره من الصليبيين "
ثامن يوم بعد الفتح (4شعبان 583هـ الموافق 10 أكتوبر 1187م)
خطب القاضي محيي الدين بن زكي الدين الخطبة الأولى في المسجد الأقصى بعد تحريره من أيدي الصليبيين افتتحها بهذه الآيات :
"فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" ثم قال:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً.. الآية الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، الحمد لله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض، الحمد لله فاطر السماوات والأرض، الحمد لله معز الإسلام بنصره ومذل الشرك بقهره ومصرف الأمور بأمره ومديم النعم بشكره ومستدرج الكافرين بمكره الذي قدر الأيام دولا بعدله وجعل العاقبة للمتقين بفضله وأفاء على عباده من ظله وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع والظاهر على خليقته فلا ينازع والأمر بما يشاء فلا يراجع والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رافع الشك وداحض الشرك وراحض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى وعرج به منه إلى السماوات العلا إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أيها الناس أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبا من مئة عام وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع وأن يذكر فيه اسمه وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن أمتد عليها رواقه واستقر فيها رسمه ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بني عليه وبالتقوى فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه فهو موطن أبيكم إبراهيم ومعراج نبيكم محمد عليه السلام وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء ومفر الرسل ومهبط الوحي ومنزل تنزل الأمر والنهي وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله بالملائكة المقربين وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى الذي شرفه الله برسالته وكرمه بنبوته ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته فقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله وقال لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاه من سكان بلاده لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار ولا يباريكم في شرفها مبار فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية والوقعات البدرية والعزمات الصديقية والفتوح العمرية والجيوش العثمانية والفتكات العلوية جددتم للإسلام أيام القادسية والوقعات اليرموكية والمنازلات الخيبرية والهجمات الخالدية فجزاكم الله عن نبيه محمد أفضل الجزاء وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء وأثابكم الجنة فهي دار السعداء فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها وقوموا لله تعالى بواجب شكرها فله النعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة وترشيحكم لهذه الخدمة فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء وابتهج به الملائكة المقربون وقر به عينا الأنبياء والمرسلون فماذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح عليه البيت المقدس في آخر الزمان والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان فيوشك أن تكون التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في خطابه فقال تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله.. الآية(139/1)
أليس هو البيت الذي عظمته الملوك وأثنت عليه الرسل وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من إلهكم عز وجل أليس هو البيت الذي أمسك الله عز وجل الشمس على يوشع لأجله أن تغرب وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان وغضب عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل وقد فضلهم على العالمين ووفقكم لما خذل فيه من كان قبلكم من الأمم الماضين وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف وحتى فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده وجعلكم بعد أن كنتم جنودا لأهويتكم جنده وشكركم الملائكة المنزلون على ما أهديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتحميد وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث والاعتقاد الفاجر الخبيث فالآن يستغفر لكم أملاك السماوات وتصلي عليكم الصلوات المباركات، فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله التي من تمسك بها سلم ومن اعتصم بعروتها نجا وعصم واحذروا من اتباع الهوى وموافقة الردى ورجوع القهقرى والنكول عن العدى وخذوا في انتهاز الفرصة وإزالة ما بقي من الغصة وجاهدوا في الله حق جهاده وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه إذ جعلكم من عباده وإياكم أن يستزلكم الشيطان وأن يتداخلكم الطغيان فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد وبخيولكم الجياد وبجلادكم في مواطن الجلاد لا والله ما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم، واحذروا عباد الله بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل وخصكم بهذا الفتح المبين وأعلق أيديكم بحبله المتين أن تقترفوا كبيرا من مناهيه وأن تأتوا عظيما من معاصيه فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا والذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين والجهاد الجهاد فهو من أفضل عباداتكم وأشرف عاداتكم انصروا الله ينصركم اذكروا الله يذكركم اشكروا الله يزدكم ويشكركم جدوا في حسم الداء وقطع شأفة الأعداء وتطهير بقية الأرض التي أغضبت الله ورسوله واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية والملة المحمدية، الله أكبر فتح الله ونصر، غلب الله وقهر، أذل الله من كفر، واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها وفريسة فناجزوها ومهمة فأخرجوا لها هممكم وبرزوها وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها فالأمور بأواخرها والمكاسب بذخائرها فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول وهم مثلكم أو يزيدون فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم منكم عشرون وقد قال الله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والازدجار بزواجره وأيدنا معشر المسلمين بنصر من عنده إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده.
وتمام الخطبة والخطبة الثانية قريب مما جرت به العادة وقال بعد الدعاء للخليفة اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك الشاكر لنعمتك المعترف بموهبتك سيفك القاطع وشهابك اللامع والمحامي عن دينك المدافع والذاب عن حرمك الممانع السيد الأجل الملك الناصر جامع كلمة الإيمان وقامع عبدة الصلبان صلاح الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين مطهر البيت المقدس أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين، اللهم عم بدولته البسيطة واجعل ملائكتك براياته محيطة وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه اللهم أبق للإسلام مهجته ووق للإيمان حوزته وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يده البيت المقدس بعد أن ظنت الظنون وابتلي المؤمنون فافتح على يده أداني الأرض وأقاصيها وملكه صياصي الكفرة ونواصيها فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها ولا جماعة إلا فرقها ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها، اللهم اشكر عن محمد سعيه وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها وأرجاء الممالك وأكنافها، اللهم ذلل به معاطس الكفار وأرغم به أنوف الفجار وانشر ذوائب ملكه على الأمصار وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار، اللهم ثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين واشدد عضده ببقائهم واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم، اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام وتتخلد على مر الشهور والأعوام فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار المتقين وأجب دعاءه في قوله رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين. (ثم دعا بما جرت به العادة)
نقلاً عن كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية ج: 3 ص: 384(139/2)
أول ليلة في القبر
عائض القرني
ملخص الخطبة ... ...
1- أول ليلة في القبر وفراق الإلف. 2- بعض ما قيل في الموت والفراق. 3- قصة وحزن على فقد من مات. 4- نصيحة أبي العتاهية عن فجأة الموت. 5- دفن ذي البجادين وبكاء النبي عليه. 6- خوف عمر بن عبد العزيز من الموت. 7- خوف عثمان من الموت. 8- قصة مؤثرة في موت امرأة. ... ...
... ...
الخطبة الأولى ... ...
... ...
عباد الله:
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون
القبر أول لليلة بالله قل لي ما يكون
ليلتان اثنتان، يجعلهما كل مسلم في مخيلته؛ ليلة في بيته مع أطفاله، وأهله، منعماً سعيداً، في عيش رغيد، وفي عافية وصحة، يضاحك أولاده ويضاحكونه، والليلة التي تليها مباشرة، أتاه فيها ملك الموت، فوضع في القبر وحيداً منفرداً.
وهذا الشاعر العربي يقول:
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون
القبر أول ليلةٍ بالله قل لي ما يكون
يقول: لما انتقلت من المكان الذي اعتدت عليه، إلى مكان آخر فارقني النوم، فما بالك كيف تكون الليل الأولى التي أوضع فيها القبر!! حيث لا أنيس، ولا جليس، ولا زوجة، ولا أطفال، ولا أموال.
ثم رُدّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [الأنعام:62].
أول ليلة في القبر، بكى منها العلماء، وشكى منها الحكماء، وصنفت فيها المصنفات.
أول ليلة في القبر، أتي بأحد الشعراء وهو في سكرات الموت، لدغته حية، وكان في سفر، فنسي أن يودع أمه، وأباه، وأطفاله، وإخوانه، فقال قصيدة، يلفظها مع أنفاسه، تعد من أهم المراثي العربية، يقول وهو يزحف إلى القبر:
فلله درّي يوم أترك طائعاً بنيّ بأعلى الرقمتين وداريا
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني وأين مكان البعد إلا مكانيا
يقول: كيف أفارق أولادي في هذه اللحظة، لماذا لا أستأذن أبوي؟ أهكذا تختلس الحياة؟ أهكذا تذهب؟ أهكذا أفقد كل شيء في لحظة؟ ويقول أصحابي والذين يتولون دفني: لا تبعد، أي لا أبعدك الله، وهل هناك أبعد من هذا المكان، وهل هناك أوحش من هذا المكان، وهل هناك أظلم من هذا المكان؟! حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [المؤمنون:99-100].
كلا.. الآن تراجع حسابك، الآن تتوب، الآن تكف عن المعاصي، يا مدبراً عن المساجد ما عرفت الصلاة، يا معرضاً عن القرآن، يا منتهكاً لحدود الله، يا ناشئاً في معاصي الله، يا مقتحماً لأسوار حرسها الله، آلآن تتوب، أين أنت قبل ذلك؟!.
أول ليلة في القبر:
ذكر مؤرّخ الإسلام في تاريخه قال: مات الحسن بن الحسن، من أولاد علي بن أبي طالب – رضي الله عنه وأرضاه – كانت عنده زوجة وأطفال، وكان في الشباب، والموت لا يستأذن شاباً، ولا غنياً، ولا أسيراً، ولا ملكاً، ولا وزيراً، ولا سلطاناً.
الموت يقسم الظهور، ويخرج الناس من الدور، وينزلهم من القصور، ويسكنهم القبور.
مات الحسن بن الحسن فجأة، فنقلوه إلى المقبرة، ووجدت عليه امرأته، وحزنت حزناً لا يعلمه إلا الله، فأخذت أطفالها، وضربت خيمة حول القبر[1] – هكذا ذكر مؤرّخ الإسلام – وأقسمت بالله لتبكين هي وأطفالها على زوجها سنة كاملة. هلع عظيم، وحزن دائم، وبقيت تبكي على زوجها، فلما وفت سنة، أخذت أطناب الخيمة وحملتها، وأخذت أطفالها في الليل، فسمعت هاتفاً يقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ فردّ عليه آخر قائلاً: لا بل يئسوا فانقلبوا، ما وجدوا ما فقدوا، ما وجدوا ضيعتهم ولا وديعتهم.
كنزٌ بحلوان عند الله نطلبه خير الودائع من خير المؤدّين
ما كلمهم من القبر، ولا خرج إليهم، ما قبّل أطفاله، ولا رأى زوجته.
هذه هي أول ليلة، ولكن هناك ليالٍ أخرى قال الله تعالى: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين [الطور:21].
لقد ودّعنا منذ شهر شابين، وقع لهما حادث انقلاب سيارة، وكان عزاؤنا أنهما من الشباب الصالح المستقيم على أمر الله تعالى؛ أما أحدهما فقد كان صاحباً للقرآن، وكان القرآن صاحبه، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه))[2].
هذا الشاب كان يختم القرآن كل سبعة أيام، وقالت أمه وأبوه: إنه كان يقوم الليل لله رب العالمين، ولذلك خفّت المصيبة، لأنه قدم على قبر هو روضة من رياض الجنة، - إن شاء الله تعالى -.
وأما الثاني: فقد كان مستقيماً على أمر الله، لا يعرف إلا السجود، والمصحف، والرفقة الصالحة ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [الأنعام:62].
أتى أبو العتاهية يقول لسلطان من السلاطين، غرته قصوره، وما تذكّر أول ليلة ينزل فيها القبر، ونحن نقول لكل عظيم، وكل متكبّر، وكل متجبّر: أما تذكرت أول ليلة!!
هذا السلطان بني قصوراً عظيمة في بغداد، فدخل عليه أبو العتاهية يهنئه على تلك القصور فقال له:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور(140/1)
عش ألف سنة، ألفين، ثلاثة، سالماً من الأمراض والآفات، يتحقق لك ما تريده من طعام وشراب ولذة.
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يجري عليك بما أردت مع الغدو مع البكور
ولكن ماذا بعد ذلك:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فبكى السلطان حتى أغمي عليه.
أول ليلة في القبر.
وأنا أطالب نفسي وإياكم معاشر المسلمين أن نهيئ لنا نوراً في قبورنا أول ليلة، ولا ينير القلوب إلا العمل الصالح، بعد الإيمان بالله.
خرج النبي إلى تبوك في غزوة، وفي ليلة من الليالي، نام هو أصحابه. قال ابن مسعود : قمت في الليل، فنظرت إلى فراش الرسول عليه الصلاة والسلام فلم أجده في فراشه، فوضعت كفي على فراشه فإذا هو بارد، وذهبت إلى فراش أبي بكر فلم أجده، فالتف إلى فراش عمر فما وجدته. قال: فإذا بنور آخر المخيم في طرف المعسكر، فذهبت إلى ذلك النور، فإذا قبر محفور، والرسول عليه الصلاة والسلام قد نزل في القبر، وإذا جنازة معروضة، وإذا ميت قد سُجي في الأكفان، وأبو بكر وعمر حول الجنازة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول لهما: دلياً لي صاحبكما، فلما أنزلاه، وضعه عليه الصلاة والسلام في القبر، ثم دمعت عيناه ثم التفت إلى القبلة، ورفع يديه وقال: ((اللهم إني أمسيت عنه راضٍ فارض عنه)).
قال ابن مسعود: قلت من هذا؟ قالوا: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين؛ مات في أول الليل. قال ابن مسعود: فوددت والله أني أنا الميت.
كان عمر بن عبد العزيز أميراً من أمراء الدولة الأموية، يغيّر الثوب في اليوم أكثر من مرة، الذهب والفضة عنده، الخدم والقصور، المطاعم والمشارب، كل ما اشتهى وطلب وتمنى تحت يده، وعندما تولى الخلافة وأصبح مسئولاً عن المسلمين، انسلخ من ذلك كله؛ لأنه تذكّر أول ليلة في القبر.
وقف على المنبر، فبكى يوم الجمعة، وقد بايعته الأمة، وحوله الأمراء والوزراء، والعلماء، والشعراء، وقواد الجيش، فقال: خذوا بيعتكم، قالوا: ما نريد إلا أنت، فتولاها، وهو كاره، فما مرّ عليه أسبوع، إلا وقد هزل وضعف وتغيّر لونه، ما عنده إلا ثوب واحد، قالوا لزوجته: مال عمر؟ قالت: والله ما ينام الليل، والله إنه يأوي إلى فراشه، فيتقلّب كأنه ينام على الجمر، يقول: آه آه، توليت أمر أمة محمد يسألني يوم القيامة الفقير والمسكين، الطفل والأرملة.
قال له أحمد العلماء: يا أمير المؤمنين، رأيناك وأنت ولي مكة، قبل أن تتولى الملك، في نعمة وفي صحة وفي عافية، فمالك تغيّرت، فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، ثم قال لهذا العالم وهو ابن زياد: كيف يا ابن زياد، لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام، يوم أجرد عن الثياب، وأتوسد التراب، وأفارق الأحباب، وأترك الأصحاب، كيف لو رأيتني بعد ثلاث.. والله لرأيت منظراً يسوءك، فنسأل الله حسن العمل.
والله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوام مالك أمره
متنعماً فيها بكل لذيذة متلذذاً فيها بسكنى قصره
لا يعتريه الهم طول حياته كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله في أن يفي فيها بأول ليلةٍ في قبره
فيا عباد الله:
ماذا أعددنا لتلك الليلة والنبي يقول: ((القبر روضةٌ من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار))[3].
كان عثمان بن عفان ، إذا شيع جنازة بكى، حتى يغمى عليه، فيحملونه كالجنازة إلى بيته. فقالوا له ذات مرة: مالك؟ قال: سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((القبر أول منازل الآخرة))، فإذا نجا العبد منه، فقد أفلح وسعد وإذا عُذب فيه – والعياذ بالله – فقد خسر آخرته كلها.
والقبر روضةٌ من الجنان
أو حفرةٌ من حفر النيران
إن بك خيراً فالذي من بعده
أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فبعده أشد
ويل لعبدٍ عن سبيل الله صد
عباد الله :
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هذا العمل غير مشروع في الإسلام ، وإنما هكذا ذكر الذهبي.
[2] أخرجه مسلم (1/553) رقم (804).
[3] أخرجه الترمذي (4551) رقم (260) وقال : غريب. ... ...
... ...
الخطبة الثانية ... ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
أتيت القبور فناديتها أين المعظّم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبرٌ وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
أتيت القبور.. قبور الرؤساء والمرؤوسين، الملوك والمملوكين، الأغنياء والفقراء، استوت جميعاً عند الله – تبارك وتعالى – أرأيت قبراً مُيز عن قبر؟ أأنزل الملك في قبر من ذهب أو من فضة؟ والله لقد ترك ملكه، وقصوره، وجيشه، وكل ما يملك، ولبس قطعة من القماش، كما نلبس، ولحد له في التراب.
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً(140/2)
من الناس من عمل لهذا اليوم، فهم دائماً متهيئون للقاء الله، مترقبون للموت في كل لحظة. خرج رجل من الصالحين أعرفه، خرج بزوجته من الرياض يريد العمرة، وكانت زوجته صائمة قائمة ولية لله تعالى، وقبل السفر، حدث شيء غريب، وهو أن هذه المرأة أخذت تودع أطفالها، وتقبلهم، ثم كتبت وصيتها وهي تبكي، كأنه ألقي في خلدها أنها ستموت.
ذهب الرجل بأهله واعتمر، وفي طريق العودة أتى الأجل المحتوم وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم على الآخرة هم غافلون [الروم:6-7].
انحرف إطار السيارة فانقلبت، ووقعت المرأة على رأسها، ولكنها شهيدة إن شاء الله. أولئك الذين نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون [الأحقاف:16].
خرج زوجها من السيارة، ووقف عليها وهي في سكرات الموت تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، الله.. الله، الله ثم قالت لزوجها: عفا الله عنك، اللقاء في الجنة، بلغ أهلي السلام: والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسبت رهين [الطور:21].
نسأل الله تعالى أن يجمع تلك الأسرة في الجنة إنه على كل شيء قدير.
بنتم وبِنّا فما ابتلّت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفّت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسيّنا
إن كان قد عزّ في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
عاد الرجل وحده إلى الرياض، فدخل بيته واستقبله أطفاله، وكان الموقف الرهيب.. قالت له طفلة من بناته: أين أمي، فيجيب الرجل: سوف تأتي، فتقول الطفلة: لا والله لابد أن أرى أمي، وعندئذ انهار الرجل ولم يتمالك نفسه، ولم يجد جواباً لابنته، فنقول لتلك الطفلة: سوف ترين أمك بإذن الله، سوف ترينها في جنة عرضها السموات والأرض، أعدت المتقين.
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابتٌ فيها
فيا إخوتي في الله: هل أعددتم لأول ليلة في القبر؟ ويا شيخاً كبيراً أحدودب ظهره، ودنا أجله، هل أعددت لأول ليلة؟ يا شاباً غره شبابه وطول أمله، هل أعددت لأول ليلة؟ أيقظني الله وإياكم من رقدة الغافلين، وحشرني الله وإياكم في زمرة المتقين.
عباد الله:
وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [سورة الأحزاب:56].
وقد قال : ((من صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً))[1].
اللهم صل على نبيك وحبيبك محمد، واعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة يا رب العالمين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك ومنك يا أرحم الراحمين.
[1] أخرجه مسلم (1/288) ، رقم (384). ... ...
... ...(140/3)
أي الغادين أنت ؟!
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وأسأل الله الذي جمعنا وإياكم في هذا المسجد أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة على الإيمان ثم يجمعنا بكم أخرى سرمدية أبدية في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر أيها الأخوة في الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وأن نقدم لأنفسنا أعمالا صالحة تبيض وجوهنا يوم نلقى الله عز وجل (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون)
الأمر جد وهو غير مزاح *** فاعمل لنفسك صالحا يا صاح
كيف البقاء مع اختلاف طبائع *** وقرور ليل دائما وصباح
تجري بنا الدنيا على خطر *** كما تجري عليه سفينة الملاح
تجري بنا في لج بحر ما له *** من ساحل أبدا ولا ضحضاح
فاقضوا مآربكم عجالا إنما *** أعماركم سفرا من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا *** أن تسترد فإنهن عوار.
في الصحيح عن [أبي ذر] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أَطَّت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك ساجد أو راكع والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا و لما تلذذتم تط بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله" وفي رواية [المنذر]" ولحثوتم على رؤوسكم التراب " يوم روي هذا الحديث [أبو ذر] رضي الله عنه بكى وأبكى وقال وددت والله أني شجرة تعضد. ويقول [عبد الله بن عمرو بن العاص] والله لو تعلمون حق العلم ما تلذذتم بلذيذة ولقام أحدكم بين يدي ربه حتى ينكسر صلبه ولصاح حتى ينقطع صوته فلا إله إلا الله .
الموت آت والنفوس نفائس *** والمستغر بما لديه الأحمق
الموت باب وكل الناس سيدخلون من هذا الباب وما من باب إلا و بعده دار .
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه *** وإن بناها بشر خاب بانيها
الموت باب وكل الناس داخله *** يا ليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار دار نعيم إن عملت بما *** يرضي الإله وأن فرطت فالنار
فلا إله إلا الله كتب الموت على كل شيء واختص نفسه سبحانه بالبقاء كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. في صحيح [البخاري] من حديث [أبي سعيد] رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحة قالت قدموني قدموني قدموني وإن كانت غير ذلك صاحت بصرخات تقض المضاجع يا ويلها أين تذهبون بها لما ترى من العذاب فيسمع صوتها كل شيء إلا الثقلين الإنس والجن " وتفزع البهائم فزعاً يلاحظه من يتابع سير البهائم بلا سبب فلعل ذلك مما تسمعه ولا نسمعه نحن من صرخات المفرطين التي تقض المضاجع أما والله لو حملنا جنازة من الجنائز ثم سمعنا تلك الصرخات يا ويلها أين تذهبون بها لصعقنا ولا ما تدافنا ولا ما حملنا جنازة أبداً ولقد خشي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا كما في الصحيح يوم يقول" والله لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع " وهاهو صلى الله عليه وسلم كما في المسند من حديث [البراء] يرى أناساً مجتمعين فيسأل عن سبب اجتماعهم فقيل على قبر يحفرونه على ذاك المصير الذي لابد لكل واحد منا أن يسكنه كبر أم صغر عز أم ذل فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثى على ركبتيه ثم بكى طويلا ثم رفع رأسه فإذا دموعه تتحجر على لحيته فقال" أي إخواني لمثل هذا فأعدوا أي إخواني لمثل هذا فأعدوا."
إلى كم ذا التراخي والتمادي *** وحادي الموت بالأرواح حادي
فلو كنا جماد لاتعظنا *** ولكن أشد من الجماد
تنادينا المنية كل وقت *** وما نصغ إلى قول المنادي
وأنفاس النفوس إلى انتقاص *** ولكن الذنوب إلى ازدياد
إذا ما الزرع قارنه اصفرار *** فليس دواءه غير الحصاد
كأنك بالمشيب وقد تبدى *** وبالأخرى مناديها ينادي
وقالوا قد قضى فقر *** عليه سلامكم إلى يوم التناد(141/1)
أحبتي في الله .. لماذا خلقنا ومن أين وإلى أين ما الهدف؟ ما الغاية؟ ما الحكمة من هذا الخلق؟ إن لكل شئ حكمة وضعها الله عز وجل عرفها من عرفها وجهلها من جهلها الشمس من حكمها أنها تضئ للبشر والمطر ينبت الأرض والحيوانات لتركب ولتأكل وزينة ويخلق ما لا تعلمون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس كل شئ في الوجود لحكمة من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة فما الحكمة من خلقك أيها الإنسان ما الحكمة من خلقك أيها الإنسان ألتذبح الحيوانات لتأكلها؟ ألتبس أبهى اللباس ؟ألتسكن أحسن الدور والقصور؟ ألتنكح أجمل الزوجات لتتمتع بهن؟ ألتنام على الوثير ولتتنعم ألتركب أفخم السيارات ؟لا والذي رفع السماء بلا عمد ما خُلِقْنَا إلا لعبادة الله الواحد الأحد القائل (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) والقائل سبحانه (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ) جعل الله لنا طريقا مستقيما فقال سبحانه (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) ليس هذا فحسب بل أرسل إلينا رسولا هو خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم صاحب اللواء يوم العرش وأول من تنشق عنه الأرض فجاء صلى الله عليه وسلم بأعظم معجزة بأعظم معجزة عرفتها الأمم ألا وهي القرآن من استنار بنوره قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار من التمس الهداية فيه هداه الله ومن التمس الهدي في غيره أضله الله وأهانه الله ومن يهن الله فما له من مكرم فما حالنا مع هذا القرآن وما حال أبنائنا مع هذا القرآن مع كلام الله جل وعلا هل علمناه أبناءنا هل دفعناهم إلى المساجد ليتعلموا كلام رب العزة والجلال إن كنا كذلك فأبشروا بالعزة والنصر في الحياة ،والسعادة يوم تلقون الله عز وجل وإن كنا غير ذلك فإن من جعله خلف ظهره ساقه إلى النار نسأل الله العافية من النار ومن دار القرار. جاء صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليقطع الطريق على كل مبتدع وكذاب وأفاك ومدع للنبوة . صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده فخلد الله دعوته وخلد الله رسالته وجاء المدعون للنبوة في عهده ومن بعده فما جعل الله لدعوتهم أثر لأنها دعوة باطل والباطل ساعة والحق إلى قيام الساعة جاء المدعون للنبوة من بعد فاندحروا بالقرآن جاء [مسيلمة] فبما لقب ، لقب بالكذاب وإلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وجاء [الأسود العنسي] فباد هؤلاء وسادت رسالته صلى الله عليه وسلم بالحق فما على وجه الأرض أحد يقول أشهد أن مسيلمة رسول الله لكن على وجه الأرض ألف مليون مسلم في الجملة كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم بل فوق ذلك أجرى أحد العلماء دراسة على خطوط الطول والعرض على الأرض فأثبت أن ما من دقيقة تمر الآن إلا ومئذنة على وجه الأرض يسمع عليها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) فلا إله إلا الله أيد الله رسوله بالقرآن وبما يزيد على مئات المعجزات الظاهرات القاهرات ها هو [ الإمام أحمد] في مسنده يروي" أن راعياً خرج بغنمه إلى الفلاة في يوم من الأيام وجاء ذئب فعدى على شاة فانقض عليه الراعي فأمسك بالشاة وأخذها من فم الذئب فما كان من الذئب إلا أن تأخر وأقعى على ذنبه وتكلم كلام الإنس وقال أما تتقي الله تأخذ رزقاً ساقه الله إلىّ فقال الراعي يا عجبي ذئب يتكلم قال الذئب وأعجب من ذلك محمد بشر يخبرك بأنباء من سبق فما كان من هذا الرعي إلا أن أخذ غنمه وانطلق بها إلى مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم ليدخل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم ويخبره الخبر فينادي النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة جامعة لاجتماع الناس فيجتمع الناس فيقول صلى الله عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس" ولقد كلمت السباع الإنس على عهد محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي قال بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه صلى الله عليه وسلم فماذا يقول من كان بعده بأربعة عشر قرنا نسأل الله أن يحسن الحال ، ليس هذا فحسب ، روى [البخاري] [ومسلم] عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن أهل مكة سألوه آية على قدرة الله عز وجل ليؤمنوا كما ادعوا فسأل ربه آية فانفلق القمر فلقتين فلقة على جبل وفلقة على جبل آخر فقالوا سحر أعيننا محمد واستكبروا وصدوا وندوا وقال المنصف منهم نذهب إلى أهل البوادي فنسألهم هل رأوا ما رأينا فذهبوا إلى البادية وسألوهم قالوا إي والله قد انفلق فلقتين في تلك الليلة فقالوا مصدين ومعرضين سحر عم البادية والحاضرة" فأنزل الله (اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر) وهاهو صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم لا يمر على شجرة قبل أن يبعث إلا وقالت السلام عليك يا رسول(141/2)
الله ولا يمر على حجر إلى قال السلام عليك يا رسول الله جماد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وبشر صدوا وندوا عنه صلى الله عليه وسلم ولذا يقول صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبح <بالمدينة>" والله إني لأعرف حجراً <بمكة> كان يسلم علي قبل أن أُبعث" ليس هذا فحسب روى [مسلم] عن [جابر بن عبد الله] رضى الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما من الأيام في فلاة ليقضي حاجته قال فتبعته بماءٍ له قال وإذ به يأتي إلى واد على شاطئيه شجرتان قال فلم يجد ما يستتر به فذهب إلى إحدى الشجر وأمسك بأغصانها وقال انقادي بإذن الله قال فوالله لقد انقادت وراءه كما ينقاد البعير المغشوش الذي في أنفه رباط يسحب به ثم ذهب إلى الثانية ثم وضع يده عليها وقال انقادي بإذن الله فانقادت معه حتى جاءت وأصبح بينها فقال التئما عليَّ بإذن الله فالتأما عليه حتى لا يرى صلى الله عليه وسلم وهو يقضي حاجته قال ثم ذهبت مولياً لئلا يبتعد المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا رآني وإذا به ينتهي من قضاء حاجته ثم يقول للشجرة الأولى ارجعي قال فترجع بأمر الله إلى مكانها وترجع الثانية إلى مكانها" آيات ومعجزات ظاهرات بينات لكن يا أيها الأحبة صدق قوم بذلك وآمنوا فأطاعوا الله ورسوله فكان لهم ما قاله الله جل وعلا (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً)
وصنف آخر كذب وصد واستكبر بعقل جامد وقلب فارغ ساه لاه لا يفقه عين لا تبصر أذن لا تسمع بهيمة في مسلاخ بشر عصى الله وتعدى حدوده فكان له ما قال الله جل وعلا (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين)(141/3)
ها أنت أخي الحبيب رأيت صنفين لا ثالث لهما وسمعت بغاديين لا ثالث لهما غاد غدى لإعتاق نفسه من النار فهو الفائز أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يغدو ويروح في طاعة الله جل وعلا وغاد آخر غدى ليوبق نفسه ويهلكها بالفسق والفجور فهو الخاسر فأي الغاديين أنت فكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها حدد موقعك واعرف مصيرك فأنت أحد غاديين لا محالة فغاد يغدو من بيته ليهلك نفسه بالإشراك بالله إن تكلم فلا تسمع منه إلا نتن الألفاظ الشِرْكِيَّة تفوح من فمه وتغدو وتروح ، مِن هذه الألفاظ استعانته بالجن يقول خذوه وافعلوا به واركبوه مع أنه قد كان قبلها قليلا يردد في صلاته (إياك نعبد وإياك نستعين) فأين العبادة وأين الاستعانة بالله عز وجل أن أصيب بمصيبة ليرفع الله درجته في حبيب له مرض أو في قريب له مرض أو في نفسه هو لم يذهب ولم يلجأ إلى الله ويطلب الأسباب الشرعية- بل يذهب إلى السحرة ويذهب إلى الكهنة ويذهب إلى الدجالين أو المشعوذين فيبيع دينه ودنياه ناسياً قول الله جل وعلا (ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) وينسى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" يغدو فيحلف بكل شئ إلا بالله الذي لا إله إلا هو ، بالطلاق يحلف وبالحرام يحلف وبالذمة يحلف وبالحياة يحلف وبالنبي يحلف لكنه لا يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ناسيا قوله صلى الله عليه وسلم "من كان حالفاً فليلحف بالله أو ليصمت" "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" "ومن حُلِفَ له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله" هو كما في الصحيح رجل من بني إسرائيل احتاج إلى مائة دينار ، فذهب إلي رجل آخر وقال له أريد أن تقرضني مائة دينار قال هل لك من شهيد قال والله ما لي من شهيد إلا الله قال فكفى بالله شهيداً، قال هل لك من كفيل قال ما لي من كفيل إلا الله قال كفى بالله كفيلاً ، أعطاه المائة دينار فرضى بالله كفيلاً وشاهداً وما كان من هذا الرجل إلا أن تواعد هو وإياه على أن يلتقيا بعد مدة معلومة أخذ المائة الدينار وانتقل إلى بلده وذهب إلى بلده وعبر البحر إلى بلده وكان بلده في الشاطئ الثاني وجمع المائة الدينار يريد أن يفي بوعده جزاء لما أقرضه وجاء إلى البحر ينتظر سفينة لعلها توصله فلم يجد سفينة من السفن ولم يجد مركباً من المراكب ويريد أن يوصلها في وقتها فماذا فعل أخذ عوداً من الحطب ثم حفره ثم وضع المائة الدينار ثم أغلقه ثم رفع يديه إلى الله سبحانه وتعالى وقال اللهم يارب إني استقرضته فأقرضني ورضي بك كفيلا ورضي بك شاهداً ولم أجد ما أوصل له هذه الدراهم اللهم فبلغه هذه الدراهم والدنانير ثم رمى بها في البحر وتأتي رياح الله عز وجل تسوقها إلى الشاطئ الثاني ذاك ينتظر آية من مجيء هذه الدراهم وآية من مجيء الرجل وظن أنه قد غدر به فكان يقول حسبي الله ونعم الوكيل وإذ بهذه الخشبة على الأمواج تأتي إلى طرف البحر قال إذاً آخذ هذا العود من خشب لعلي أرجع به لنحتطبه ولأشعل به ناراً خير من أن أرجع بلا شيء. أخذه وذهب إلى بيته وجاء ليكسر العود وإذ بهذه المائة الدينار في وسطه فقال لا إله إلا الله من رضي بالله كفاه الله فهل رضينا بالله جل وعلا ، وذاك غاد آخر يغدو لإعتاق نفسه إن تكلم فبذكر الله وإن استعان استعان بالله وإن سأل فبالله وإن أصيب بمصيبة لجأ إلى الله ثم طلب الأسباب الشرعية لا الأسباب الشركية إن حَلَفَ فبالله ، وإن حُلِفَ له بالله رضي فهو غاد في حفظ الله وعائد في عناية الله فأي الغاديين أنت فكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها(141/4)
وغاد آخر يغدو فيقدم مراد الله عز وجل على شهواته وعاداته ويقدم مراد الله وأوامر الله على لذاته وعاداته وتقاليده فالحكم حكم الله والأمر أمر الله والنهي نهي الله والسعادة لا تكون إلا من الله ووالله لن يسعد إنسان حتى يقدم أوامر الله على كل هوى في نفسه وعلى كل حكم وعلى كل أمر وعلى كل نهي عند ذلك يكون له الأجر العظيم والخير العظيم من الله ، في الأثر إن الله عز وجل يقول "وعزتي وجلالي ما من عبد آثر هواي على هواه إلا أقللت همومه وجمعت له ضيعته ونزعت الفقر من قلبه وجعلت الغنى بين عينه واستجرت له من وراء كل هذا" وآخر يقدم ويغدو فيقدم شهوات نفسه ولذائذها وعاداتها وتقاليدها على مراد الله جل وعلا فتجده يعبد هواه ما وافق عادته وشهوته وهواه فهو الحق في رأيه فيعمل به وما خالفها فهو الباطل فيعرض عنه حتى لو كان كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) يريد الدين موافقا لشهواته يريد الدين موافقاً لرغباته يريد أن يخضع له كل شئ فيقبل أي حكم ويرفض أي حكم ما دام أنه لا يتفق مع شهوته (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (فأولئك هم الفاسقون) (فأولئك هم الظالمون) في الأثر أن الله عز وجل يقول: "وعزتي وجلالي ما من عبد آثر هواه على هواي إلا كَثَّرت همومه وفرقت عليه ضيعته ونزعت الغنى من قلبه وجعلت الفقر بين عينيه ثم لا أبالي في أي أودية النار هلك" فأي الغاديين أنت فكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها،
وغاد أخر يغدو فيترك الصلاة ويتبع الشهوات فيوبق نفسه كأنه لم يسمع قول رب العزة والجلال (فخلف من بعدهم خلق أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً) كأنه لم يسمع قول الله (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) كأنه لم يسمع الذين لم يصلوا يوم أصبحوا في النار يوم يقول الله لهم (ما سلككم في صقر قالوا لم نك من المصلين) الصلاة ركن هام وفرض فرضه الله لأهميته من فوق سبع سماوات أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ثم عُرج به إلى السماوات العلا لتفرض عليه من فوق سبع سماوات أمانة عظيمة ويل لمن ضيعها من تركها فقد كفر بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم يقول "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة من تركها فقد كفر" ويترتب على ذلك ألا يزوج لأنه كافر وإن كان متزوجاً بطل نكاحه ، لا يغسل إذا مات ، ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرث ولا يورث ولا يجوز الاستغفار له بعد موته لا يجوز أن نقول اللهم ارحمه اللهم اغفر له لأن الله يقول (ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ) وأسأل الله ألا يكون فينا من يترك الصلاة يترك الصلة بينه وبين ربه لكن قد نجد فينا الكسول الذي لا يصليها مع المسلمين وإنما يصليها في بيته نقول لهذا قد فَوَّتَّ على نفسك أجراً عظيماً وارتكبت إثماً مبينا إن رب العزة والجلال يقول (واركعوا ما الراكعين ) وهو القائل ( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة ).
تقول [عائشة] رضى الله عنها وهى تصف هيئة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته تقول كان يكون في خدمة أهله يخصف نعله ويعجن العجين أحياناً صلى الله عليه وسلم فإذا سمع الله أكبر فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه سمع نداء الله فلبى نداء الله صلى الله عليه وسلم هو القائل صلى الله عليه وسلم في رؤياه ورؤيا الأنبياء حق ووحي كما روى [البخاري] عن [سمرة بن جندب] يقول "أتاني الليلة آتيان فانطلقا بي حتى جئنا على رجل مضطجع ممدود وآخر قائم عليه بصخرة يسلب رأسه فينشدق رأسه ويتدهده الحجر قال ثم يصح رأسه فيعود كما كان ثم يفعل به مثل ما فعل في المرة الأولى قال صلى الله عليه وسلم فقلت ما هذا قالوا هذا لرجل يقرأ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة" لا إله إلا الله أي جسد يطيق مثل هذا العذاب وَرُوِيَ كما أخرج [الحاكم] عن [ابن عباس] "ثلاثة لعنهم الله رجل أم قوما هم له كارهون وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجبه" يقول [أبو هريرة] رضي الله عنه وأرضاه :لئن تمتلئ أذنا ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجبه ويقول صلى الله عليه وسلم " أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب لأحرق عليهم بيوتهم بالنار" وفي رواية "ولولا ما فيها من النساء والذرية لفعلت ذلك" أو كما قال صلى الله عليه وسلم .(141/5)
هذا غاد أما آخر فيغدو إلى المسجد ليصلي مع جماعة المسلمين فيعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح ما خطا خطوة إلا كُتِبَ له بها حسنة ولا رفع أخرى إلا وَرُفِعَ عنه سيئة ، ما جلس من مجلس إلا وملك موكل به يقول اللهم اغفر له اللهم ارحمه حتى تقام الصلاة فما بالك إذا كان يقرأ القرآن ها هو [ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير] يقول أبناؤه: كان كثيراً ما يقول اللهم إني أسألك الميتة الحسنة قالوا وما الميتة الحسنة يا أبتاه قال أن يتوفاني الله وأنا ساجد وتحل به سكرات الموت قبل صلاة المغرب ويسمع نداء الله أكبر الله أكبر حي على الصلاة حي على الفلاح فماذا كان منه قال أقعدوني واحملوني إلى المسجد قالوا عذرك الله ،مريض في سكرات الموت قال لا أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا أجيب فحملوه على أكتافهم وأوصلوه إلى المسجد فصلى معهم صلاة المغرب حتى الركعة الأخير فسجد فكانت السجدة الأخيرة (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة) وهاهو [حاتم الأصم] عليه رحمة الله فاتته صلاة العصر يوما من الأيام جماعة مع المسلمين فذهب أهل المسجد يعزونه في جماعة فاتته كانوا يعزي بعضهم بعضا إذا فاتته جماعة دخلوا عليه في بيته وهم قلة فعزوه فبكى قالوا ما يبكيك قال أبكي لأنها فاتتني جماعة فعزاني بعض أهل المدينة ووالله لو مات أحد أبنائي لعزاني أهل <المدينة> كلهم ووالله لموت أبنائي جميعاً أهون على من فوات هذه الجماعة هكذا كان سلفنا الكرام [سعيد بن المسيب] في سكرات الموت بنياته الصغار حواليه يبكين فيقول لهن أَحْسِنَّ الظن بالله فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في المسجد ستين سنة هكذا كانوا أيها الأحبة فأي الغاديين أنت وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها .
وذاك غاد يغدو لإهلاك نفسه فيسلط لسانه ويسلط سنانه ويسلط قلمه في النيل من المسلمين بالسخرية بهم والاستهزاء بدين الله والاستهزاء بعباد الله والاستهزاء بشعائر الله ليرتكب أعظم جريمة ألا وهي الدعوة إلى الظلام فيكون عليه وزره ووزر من أضله إلي يوم القيامة وفوق ذلك يبوء بالكفر الذي يقوده إلى النار. في غزوة تبوك يوم اتجه المسلمون مع قائدهم صلى الله عليه وسلم إلى تبوك من <المدينة> حوالي ألف كيلو في صحار في وقت حار بلغ بهم الجهد مبلغه حتى أن أحدهم في ليلة من الليالي قام يبول فسمع صوت جلد تحت بوله فما كان إلا أن نفضه من البول ثم أشعل النار ووضعه فيها وأكله من شدة ما يلاقي من الجوع وتأتي ثلة منهم ليسخروا برسول الله وبأصحابه فيقلون ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أجبن عند اللقاء يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويأتي الكلام من الله عز وجل إلى رسوله ويسري الخبر بينهم فيلحقون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقولون (إنما كنا نخوض ونلعب) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بكلام الله (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم من بعد إيمانكم) ، يغدو أحدهم فيكتب كلاماً يسب فيه الإله سبحانه وتعالى يقول
لم يبق من كتب السماء كتاب *** مات الإله وعاشت الأنصاب
جل الله سبحانه تعالى ثم يستهزئ ثم يسخر ويظن أنه لن يقف بين يدي الله جل وعلا لكن
إذا عير الطائي بالبخل ما در *** وعير قسا بالفهاهة باقل
وقال السها للشمس أنت كثيفة *** وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة كئيبة *** ثم يا نفس جدي إن دهرك هازل
آخر يغدو ليعتق نفسه فيدعو الناس إلى توحيد الله ويدعو الناس إلى ما فيه الخير بقلمه وبلسانه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأنه من أمة الأمر والنهي وأنتم يا أهل هذه القرية البعيدة عن صخب المدينة وعما يحدث في المدنية من الفساد إنكم لتغبطون على قريتكم هذه بين هذه الجبال وإنكم لتغبطون على مثل هذا الاجتماع فالله الله لا تسكتوا على منكر الله الله سلطوا ألسنتكم في الأمر بالمعروف كونوا جبهة ضد كل مفسد فوالله ما يمكن أن تسعد هذه البلدة ولا تسعد أي بلدة في بلاد الدنيا إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بـ قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فلنأمر في بيوتنا ولنأمر في شوارعنا ولننهى عن المنكر أياً كان المنكر لأن الله عز وجل رتب النجاة للذين ينهون عن السوء (وأنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس) يوم تأمر بالمعروف ويوم تنهى عن المنكر فيستجيب لك واحد يكون لك مثل أجره لا ينقص من أجره شئ ثم إن الله يهدي بك الضال فيكون لك من الأجور الشيء الكثير "لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" أتريد رحمة الله يا عبد الله اسمع ماذا قال الله (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله) أسأل الله أن يرحمنا وإياكم برحمته فأي الغاديين أنت وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها .(141/6)
وذاك غاد في دنياه ويصاب بمصيبة فيوبق نفسه ويهلكها فيتسخط من قضاء الله وقدره ويعترض على قدر الله ما علم أن المصائب ترفع الدرجات لمن احتسبها عند الله سبحانه وتعالى وما علم أن الله مع الصابرين يصاب في دنياه فيكسر دينه
وكل كسر لعل الله جابره *** وما لكسر قناة الدين جبران
يقول عند الصدمة الأولى يوم يصاب في حبيب أو قريب أو في نفسه لما يا رب يعترض على قضاء الله ويعترض على قدر الله يشق الجيب ويلطم الخد ويدعو بالويل ويدعو بالثبور يدعو بعظائم الأمور على نفسه والملائكة في تلك اللحظة تقول آمين آمين فالمصيبة مصيبتان لا هو احتسب هذه وإنما أصبحت مصيبته بفقد حبيبه ومصيبته الأخرى بضياع الأجر في تلك اللحظة والمحروم من حرم الثواب وأنا أسأل سؤالاً يا أيها الأحبة هل سيعود ميت إن مات والله ما سمعنا أن ميتا مات فعاد لكنه ذهب ونحن على الأثر إن للموت أخذة تسبق اللمح بالبصر هاهو أحد السلف شاب من شباب السلف كانت له زوجة صالحة وكان له أولاد ثم حلت به سكرات الموت التي لابد أن يعاني كل واحد منا هذه السكرات ونسأل الله أن يهونها علينا وعلى كل مسلم في تلك اللحظات التي يذعن فيها الإنسان ويخضع ويذل لله عز وجل أياً كان هذا الرجل مات فوجدت عليه زوجته وجداً عظيماً ووجد عليه أولاده وحزنوا حزناً عظيماً فأقسمت زوجته لتبكين عليه عاماً كاملاً وهذا ليس من عمل الإسلام هذا جذع وهذا تسخط وهذا اعتراض على قضاء الله وقدره فأخذت أولادها وأخذت خيمة لها وذهبت ونصبتها عند قبره وبقيت عاماً كاملا تبكي وأولاده الصغار حول قبره ما خرج إليهم فكلمهم بكلمة ما خرج إلى زوجته وقال أحسنت أو قال اذهبي ووالله لو خرج لقال لا إله إلا الله أو الحمد لله أو سبحان الله لأنه لا ينفعه في القبر إلا مثل هذه الكلمات والله لو كلم أبناءه بكلمة واحدة لسكن الناس كلهم المقابر يكلموا أحبابهم وأخواتهم وأصحابهم وأولادهم فما منا واحد إلا وله في القبر عزيز أي عزيز لكن قد حيل بينهم وبين ما يشتهون ، بقيت سنة كاملة وفي آخر السنة طوت خيمتها وأخذت أولادها وجاءت راجعة مع الغروب إلى بيتها لا تجد جدوى من جلوسها سنة كاملة وإذا بهاتف يهتف بها ويقول هل وجدوا ما فقدوا هل وجدوا ما فقدوا وإذا بهاتف آخر يرد ويقول ما وجدوا ما فقدوا بل يئسوا فانقلبوا ووالله لن يرجع ميت يا أيها الأحبة فما على الإنسان إلا أن يحتسب في تلك اللحظات ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفقد ابنه [إبراهيم] الصغير فلذة كبده فماذا كان منه صلى الله عليه وسلم دمعت عينه وتأثر قلبه لكنه ما قال إلا ما يرضي ربه صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة والقدوة قال "العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" ها هي إحدى بناته صلى الله عليه وسلم كانت في يوم من الأيام لها ولد في النزع الأخير في سكرات الموت فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً وقالت أخبره أن ابني في النزع لِيَحْضُرَه ، فأخبره فقال "مرها فلتصبر ولتحستب لله ما أخذ وله ما أبقى وكل شئ عنده بأجل مسمى". [يعقوب] عليه السلام يفقد حبيبه وابنه وفلذة كبده [يوسف] عليه السلام مدة أربعين عاماً فيصبر لا يشكو إلى أحد وإنما يشكو إلى الله (وإنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) أما الآخر فيغدو ليعتق نفسه يصاب بالمصيبة فيحتسبها عند الله كما سمعتم من هذا الذي ذكرت الآن فيعوضه الله ويبشره الله (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإن إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المفلحون) في صحيح [البخاري] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل "ما لعبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة" ويا له من جزاء ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وعند [الترمذي] "أن الله عز جل يقول للملائكة قبضتم ابن عبدي المؤمن قبضتم روح ابن عبدي المؤمن وهو أعلم سبحانه وتعالى ، قبضتم ثمرة فؤاده قالوا نعم قال فماذا قال ، قالوا حمدك واسترجع قال الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون قال الله ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد "(وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) ذكر [الذهبي] [وابن كثير] عليهما رحمة الله أن [عروة بن الزبير] أحد علماء المدينة والذي كان يقطع يومه صائماً غالباً ويقطع ليله قائماً ويختم القرآن في كل أربع ليالي مرة أخذ ابنه وسافر في يوم من الأيام وأصابته الآكلة في رجل قدمه وهو ما يسمى الآن بالسرطان أصابه في قدمه فجاءوا به إلى الأطباء فقالوا نقطعها من القدم قال لكني أنتظر واصبر واحتسب فصعدت الآكلة إلى الساق فقالوا نقطعها من الركبة قال لكني انتظر وأصبر وأحتسب فدخلت إلى الفخذ فقالوا يخشى عليك قال الله المستعان سلمت أمري لله فافعلوا ما شئتم فجاء الأطباء وتجمعوا(141/7)
بمناشيرهم وجاءوا ليس لديهم مخدر كما لدينا الآن ما عندهم إلا كأس الخمر جاءوا له بكأس خمر قالوا له اشرب هذا عله أن يذهب عقلك فلا تحس بألم القطع فصاح وقال عقل منحنيه ربي أذهبه بكأس من الخمر لا والله لكن إذا أنا توضأت ووقفت بين يدي الله وقمت لأصلي وسبحت مع آيات الله البينات فافعلوا برجلي ما شئتم توضأ ووقف بين يدي الله وجمعوا مناشيرهم وسبح مع آيات الله البينات وقاموا يقطعون في رجله بالمناشير والدماء تنزف وإذ به يخر مغشياً عليه وفي تلك اللحظة كان ابنه محمد وراء ناقة من النوق يطاردها فرفسته فأماتته مصيبتان في آن واحد آفاق من غيبوبته فقالوا له أحسن الله عزائك في ابنك [محمد] وأحسن الله عزائك في رجلك فقال الحمد لله رب العالمين أولاً وآخر وظاهراً وباطناً إن لله وإنا إليه راجعون اللهم يا رب إن كنت أخذت فقد أعطيت أعطيتني أربعة من الولد وأخذت واحدا فلك الحمد أولاً وآخر وظاهراً وباطناً وأعطيتني أربعة من الأطراف فأخذت واحداً فلك الحمد أولاً وآخر وظاهراً وباطناً صبر وأي صبر وبشر الصابرين سمع به [الوليد] فطلب أن يأتي إليه فذهب إليه في قصره ودخل على [الوليد] وجلس عند [الوليد] وبه من الهم ما به لكنه فوض أمره إلى الله جل وعلا ، فجاء طفل صغير من أطفال [الوليد] وقال ما أصاب عروة ما أصابه إلا بذنب أصابه فقال لا والله
ما نديت كفي لريبة ولا *** حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا دلني سمعي ولا بصري لها *** ولا قادني فكري إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة *** من الله إلا قد أصابت فتىً قبلي
لعله يتسلى به فخرجوا يبحثون فإذا هم برجل أعمى يتلمس الطريق بجانب قصر الخليفة فأدخلوه ويوم أدخلوه على الخليفة قال ما خبرك قال أنا رجل من [بني عبس] والله ما كان في [بني عبس] رجل أغنى مني كانت عندي أموال كثيرة وكان عندي أولاد كثر كان عندي من الإبل والبقر والغنم والدراهم والذهب والفضة ما يعلمه الله جلا وعلا ثم عزب لي قطيع من الإبل فخرجت أبحث عن هذا القطيع أتلمس قال ثم عدت بعد ثلاث أيام وقد رجعت بالقطيع فإذا سيل قد جاء على الوادي بعدي فلم يبق لي لا ولداً ولا أماً ولا أختاً ولا بنتاً ولا ابناً ولا مالاً فإذا الديار خراب بلقع ليس بها داع ولا مجيب قال فوقفت وإذا أنا بطفل صغير معلق بشجرة طفل صغير من أطفاله لم يبق سواه قال فتقدمت إليه وأخذته وضممته على صدري وأنتحب قال وإذا بأحد الجمال يند ويهرب قال قلت ضيعت كل شيء من أجلك لأرجعن بك فترك ابنه الصغير قال وبينما أنا أطارد الجمل وإذ بصوت الطفل الصغير يصرخ فإذا ديب قد أخذه وإذا به يسحبه من أمامي مصيبة أي مصيبة قال فبقيت وراء الإبل لم يبق لي إلا الإبل أريد أن أستعيد هذا الجمل قال ووراءه أطارده وإذ به يرفسني فيعمي عيني فإذا أنا في الصحراء لا أهل ولا مال ولا صديق ولا صاحب ولا أنيس إلا الله الذي لا إله إلا هو وجئتك ووالله ما جئتك يا [وليد] شاكيا ولكن جئتك ليعلم الناس أن لله عبادا يرضون ويسلمون بقضاء الله وقدره إذا قدر (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) ها هو [أبو ذؤيب الهزلي] يموت له ثمانية أبناء في يوم واحد بالطاعون فيحمد الله ويقول إنا لله وإنا إليه راجعون ويصبر ثم يقول بعض أبيات من الشعر هي عظة وعبرة يقول:
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم *** وإذا المنية أقبلت لا تُدْفَعُ
وإذا المنية أنشبت أظفارها *** ألفيت كل تميمة لا تنفع
وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لغيب الدهر لا أتضعضع
فأي الغاديين أنت فكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها(141/8)
وذاك غاد يغدو ليهلك نفسه بظلم عباد الله جل وعلا يظلمهم بلسانه ويظلمهم بيده ويظلمهم بأي نوع من أنواع الظلم ناسيا قول الله عز وجل (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) متناسيا أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب يرفعها الله فوق الغمام ويقول سبحانه وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين . هاهو [سعيد بن زيد] أحد العشرة المبشرين بالجنة تأتي امرأة فتذهب إلى أحد خلفاء [بني أمية] وتقول إن [سعيد بن زيد] غصبني أرضي وأخذها وما كان لسعيد أن يأخذها فيأتي به الخليفة ويقول أغصبتها أرضها يا سعيد فتدمع عيناه ويقول والله ما غصبتها أرضها ووالله لن أغصبها أرضها لأني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول "من ظلم قيد شبر من الأرض طُوِّقَهُ يوم القيامة من سبع أراضين" يصبح طوق له من سبع أراضين يحمله يوم القيامة ثم قال فلتأخذ أرضي إلى أرضها وبئري إلى بئرها ونخلي إلى نخلها فإن كانت صادقة فذاك وإن كانت كاذبة فأعمى الله بصرها وأرداها في أرضها وتصعد الدعوة إلى الله جل وعلا الذي ينصر المظلوم من الظالم وتخرج هذه المرأة وبعد فترة تصاب بالعمى ثم تذهب لتتخبط في أرضها التي أخذتها بالزور والجور ثم تسقط في البئر متردية ميتة نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة والختام وهاهم [البرامكة] وزراء [الرشيد] الذين كان منهم ما كان كانوا في نعمة من الله لكنهم ما صانوا نعمة الله تكبروا وتجبروا وظلموا عباد الله عز وجل وظنوا أنهم في بعد عن قبضة الله عز وجل ويسلط الله عليهم الخليفة فيقتل منهم من يقتل ويدخل السجن منهم من يدخل السجن ويضرب منهم أحدهم منهم ألف سوط ثم يدخله السجن وهو من كبارهم فيأتي أحد أبناؤه يزوره فيقول أبتاه بعد العز أصبحت في القيد كانت قصورهم مطلية بالذهب والفضة أين الذهب والفضة يا أبتاه قال ألا تدري يا بني؟ قال :لا. قال دعوة مظلوم سرت في جوف الليل نمنا عنها وليس الله عنها بنائم (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) ألا وإن من أعظم الظلم ظلم الحيوانات بعض الناس جبان شجاعته سلطها على العجماوات علي الحيوانات على الدواب التي سخرها الله عز وجلا. له شجاع على القطط وجريء على الكلاب ها هو رجل أعرفه في منطقة الجنوب ما كان منه في يوم من الأيام إلا أن تردد حمار على مزرعة له يدخل كل يوم هذه المزرعة فيدخل فيها ويأكل منها ما يأكل فطرده في اليوم الأول ثم طرده في اليوم الثاني ثم طرده في اليوم الثالث ولما آذاه كثيرا أخذه في ليلة من الليالي ثم ربطه في سيارته حيا ثم سحبه على الإسفلت إلى منطقة بعيدة حتى تمزق قطعة قطعة ظلم وأي ظلم ويرجع إلى بيته ويأتي وفي البيت بعوض فقام بمبيد حشري عنده يضرب في الغرفة ضرب الغرفة وضرب حتى امتلأت بهذا الغاز ثم جاء ليضيء المصباح فما كان من المصباح إلا أن أصدر شرارة فإذ بالغرفة تصبح عليه نارا فيحترق بالنار ثم يبقي يوم أو يومين أو ثلاثة ليلقى الله نسأل الله أن يحسن لنا وله الختام. البهائم تشكوا إلى الله عز وجل. بعير يدخل النبي صلى الله عليه وسلم حائط رجل من الأنصار فيجد بعيرا هناك يجرجر ويأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودموعه تذرف يعرف أنه صلى الله عليه وسلم ما أرسل إلا رحمة للعالمين فيقول صلى الله عليه وسلم "أين صاحب هذا البعير فيخرج فتى من الأنصار ويقول أنا يا رسول الله يقول أنا يا رسول الله فيقول؛ فقال: أما تتقى الله في هذه البهيمة تجيعها وتتعبها إنها شكت إليَّ ما تجده منك" (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) صلى الله عليه وسلم (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) هاهو رجل كان يكاري على بغل له بين <دمشق> <والزبدان> كما يروي [ابن كثير] وجاء يوم من الأيام قاطع طريق فركب معه وذهب في الطريق وبينما هو في الطريق قال اسلك هذه الطريق فهي أيسر وأقرب قال منذ فترة وأنا أسلك هذا الطريق وأنا أعرف هذا الطريق قال هذا أقرب وأيسر فصدقه وذهب معه فجاء إلى وادٍ سحيق وإذ بهذا الوادي جثث القتلى كثير وإذا به يأتي بالناس إلى هناك فيذبحهم ثم يسرق ما بهم ظلم وأي ظلم جاء بهذا الرجل وأراد أن يقتله هرب الرجل فلحق به وأمسك به قال يا أخي خذ كل ما أملك خذ بغلتي وخذ ثيابي وخذ دراهمي وخذ كل ما تريد ودعني أرجع قال لابد من قتلك قال إن كان لابد فدعني أصلي ركعتين أودع بهما الدنيا يلجأ إلى الله جل وعلا قال فقمت أصلي وهو قائم عليَّ بالحربة يريد أن يقتلني قال ضيعت القرآن وأنا أرى الحربة فوق رأسي فوالله ما استحضرت آية من القرآن إلا إنني تذكرت قول الله (أَمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) قال فكررتها وإذا بفارس من فم الوادي يخرج على فرس ومعه حربة فينطلق حتى يضربه بالحربة فيرديه قتيلا قال فتعلقت بثيابه وقلت له أسألك بالله من أنت قال أنا من جنود الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب دخل [طاووس] عليه رحمة الله(141/9)
على [هشام بن عبد الملك] ينصحه ويعظه ويحذره الظلم ويقول له اتق الله يا [هشام] ولا تنس يوم الآذان قال وما يوم الآذان يا [طاووس] قال (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين) فأغمي عليه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما الحديث القدسي "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" وآخر يغدو ليعتق نفسه فلا يظلم أحدا إن تكلم فبالعدل وإن حكم فبالعدل وإن خاصم فبالعدل وإن عاهد فبالعدل والمقسطون العادلون يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فأي الغاديين أنت فكل يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها .
وذاك يغدوا ليقطع رحمه فيوبق نفسه وتحل به اللعنة يقول الله عز وجل (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) إن الله لما خلق الرحم تعلقت بالعرش وقالت يا رب هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى فمن وصل رحمه وصله الله ومن قطع رحمه قطعه الله يغدو بعض الناس ليعق والديه الذين هم السبب في وجوده بعد الله جل وعلا والله عز وجل يقول ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) واليوم نسمع يا أيها الأحبة ويا ليت الإنسان أحيانا لا يسمع غير اسم الأب وأهينت الأم في كثير من البيوت يوم ضاعت تقوى الله جل وعلا فما تسمع في بعض البيوت إلا تسمية نتنة نتن الجيف يقول لأبيه شيبة النحس ويقول لأمه عجوز الشؤم أراحنا الله منهما إن هذه الكلمات لتنطلق من أولاد على والديهم فلا إله إلا الله إن رضا الله في رضا الوالدين وإن سخط الله في سخط الوالدين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قالوا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله ثم عقوق الوالدين"من أكبر الكبائر عقوق الوالدين دعوة الوالدين غنيمة من الله عز وجل دعوة الوالدين مستجابة دعوة الوالدين لا ترد فكم من دعوة والد أوبقت دنيا الولد وأخراه وكم من دعوة والد أسعدت دنيا الولد وأخراه يقول [أبان ابن عياش] خرجت من عند [أنس بن مالك] <بالبصرة> ومررت على السوق فإذا أنا بجنازة يحملها أربعة نفر ووراءهم امرأة فقلت ميت يموت من المسلمين لا يتبع جنازته إلا أربعة نفر والله لأشهدن هذه الجنازة قال فتقدمت قال ثم ذهبت وراءهم وحضرت الجنازة ودفنوا هذه الجنازة ثم قلت لهم ما حالتكم مع هذه الجنازة لم يحضرها إلا أربعة أين المسلمون قالوا استأجرتنا تلك المرأة لدفن هذا الرجل فسلها ما لديها قال فذهبت وراءها وتلمست الطريق وراءها حتى وصلت لبيتها ثم تركتها وعدت لها بعد فترة ودخلت عليها وقلت لها أحسن الله عزاءك ، لله ما أخذ وله ما أبقى ، وكل شيء عنده بأجلٍ مُسَمَّى ما خبرك وما خبر الجنازة التي دفنتموها في ذلك اليوم قالت إن هذا ابني كان مسرفا على نفسه مرتكبا للموبقات والمعاصي والسيئات كثير العقوق لي ويوم حلت به سكرات الموت قال يا أماه أتريدين لي السعادة قالت أي والله وألام والأب ينسى كل ذلة من ولده في تلك اللحظات قالت أي والله قال فإذا أردت ذلك فإذا أصبحت في السكرات الأخيرة فلقنيني شهادة أن لا إله إلا الله ثم ضعي قدمك على خدي وقولي هذا جزاء من عصى الله ثم ارفعي يديك إلى الله وقولي اللهم إني أمسيت راضية عن ابني فارض عنه ، ولا تخبرين أحدا بموتى فإنهم يعلمون عصياني ولن يشهدوا جنازتي. قال: ففعلتي؟ قالت أي والله لقد فعلت ما قال ، قال فما الخبر فتبسمت وقالت والله رأيته البارحة في المنام وهو يقول يا أماه قدمت على رب رحيم كريم غير غضبان عليَّ ولا ساخط بدعوتك .رضا الله في رضا الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين هاهو شاب اسمه [مُنازِل] رمز للعقوق عند العرب ينهمك في المعاصي فيتقدم إليه أبوه فينصحه ويقول له اتق الله فيتقدم إلى أبيه فيلطمه كفا ويالله ابن يضرب أباه فحلف بالله ليحجن إلى البيت الحرام وليدعون عليه وهو متعلق بأستار الكعبة فذهب ووصل إلى الكعبة وتعلق بأستار الكعبة فكان يقول
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا *** أرض المهامه من قرب ومن بعد
هذا منازل لا يرتد عن عققي *** فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
وشل منه بحول منك جانبه *** يا من تقدس لم يولد ولم يلد
وتصعد الدعوة إلى الله جل وعلا فييبس شق ولده الأيمن فيصبح يابس بهذه الدعوة من هذا الأب .(141/10)
وهاهو آخر يحكى لي بائع مجوهرات يذكر لي في رمضان في سنة من السنوات يقول تقدم إليّ رجل وأمه وزوجته وابنه الصغير قال دخلوا إليّ في المحل قال فوقفت الأم متحجبة على استحياء وابن ابنها معها تمسك به قال وتقدمت الزوجة وزوجها فأخذوا من الذهب بمقدار عشرين ألف ريال قال ثم تقدمت الأم من هناك فأخذت خاتم بمائة ريال ، جاء يحاسب صاحب المجوهرات هو يعرف أنه أخذ بعشرين ألف قال كم حسابك قال عشرين ألف ومائة ريال قال وما هذه المائة قال أمك أخذت خاتماً بمائة فغضب وأرغى وأزبد وتقدم إليها وأخذ الخاتم من يدها وقال العجائز ليس لهن ذهب وليس لهن زينة فما كان من هذه الأم إلا أن ذرفت دموعها وتغصصت بجرعها وما كان منها إلا أن خرجت بابنه تحمله بين يديها إلى السيارة وركبت السيارة ، بها من الهم ما لا يعلمه إلا الله ، يقول صاحب المجوهرات وأنا أعرفه والله لقد بكيت أنا مما رأيت من الموقف قال فقالت زوجته إن أمك هي التي تمسك بابننا وهى التي تخدمنا فما لك لا تعطيها هذا الخاتم لن تمسك بابني بعد ذلك ولن تخدمني فذهب إليها بالخاتم وقال لها خذي يا أماه قالت والله ما لبست ذهبا ما حييت والله ما عرفت الذهب ما حييت أبدا كنت أريدها لأفرح به معكم فرأيت أن الأم لا داعي لها أن تلبس الزينة والله ما لبسته أبدا أرأيتم عقوقا مثل هذا العقوق أيها الأحبة إن هذا في غياب تقوى الله عز وجل وفى غياب التربية الإسلامية في البيوت وهاهي قصة أخرى لتعلموا أن دعوة الوالدين مستجابة فسلطوها فيما ينفع الأبناء في دنياهم وأخراهم ، داعية من الدعاة إلى الله يذكر عن أبيه يقول أبي كان في سن الشباب وَجَدُّهُ كان رجلا صالحا قال وأنا في سن الشباب فتح القبول في السلك العسكري في المملكة قبل فترة طويلة قال وكان عندي غنم كنت أرعاها قال فقلت لأذهبن مع الناس لأسجل في العسكرية فقال لأبيه أريد أن تأذن لي أن أذهب فماذا كان منه ما كان منه إلا أن قال أنا لا أستطيع فيك يا بنى أما أن آذن لك فوالله لا آذن لك أما إن ذهبت فوالله الذي لا إله إلا هو فما لي إلا سهم أوجهه إلى الله في منتصف الليل ولعل الله لا يرده، ذهب الرجل وخاف أن يذهب ويترك والده وبقي فترة ثم أغرته ذهاب الناس إلى هناك واستلام الرواتب أغرته الدنيا فترك غنمه مع غنم جيرانه وذهب وقال لا تخبروه عني إلا في الغد فذهب وترك والده ولم يستأذنه ولم يخف من ذلك السهم الذي قال له وفي اليوم الثاني يخبر أبوه بأنه قد ذهب مع مجموعة ليسجل في العسكرية <بالطائف> قال وذهبوا في الطريق دعا عليه أبوه وبينما هم في منتصف الطريق وإذ بالولد يعمى لا يبصر شيئا فأخذوه وتقدموا به إلى >الطائف < وجاءوا إلى هناك قالوا هذا لا يصلح للعسكرية هذا أعمى أعيدوه لوالده فأخذوه وذهبوا به إلى والده لا يدرى والده ماذا حدث له وعندما دخلوا من الباب سمعه والده وعرف صوته وهو في فناء البيت لم يدخل بعد قال يا بني هل أصاب السهم أم لم يصب قال إي والله إني لأدخل عليك أعمى مقاداً فدخلوا به عليه فتأثر الأب تأثرا عظيما وندم أن دعا على ولده بهذه الدعوة وبقى ليلته تلك في حزن لا يعلمه إلا الله قام يتوضأ ويصلي ويدعو الله أن يرد عليه بصره يقول ومن حزنه على ولده يتقدم إلى عين ولده وهو نائم فيلحسها بلسانه ثم يرجع فيصلي ويدعو الله ثم يرجع مرة أخرى فيلحس عينه بلسانه وهكذا يرددها ، يقول والله ما طلع الفجر إلا ورد الله سبحانه وتعالى عليّ بصري ، دعوة الوالدين وأنا لا أدعو الوالدين إلى إن يدعوا على أولادهم وإنما أدعوهم أن يدعوا لأولادهم بالفلاح والسعادة فإن فلاحهم وسعادتهم قد تدركك ولو بعد موتك أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لصلة الأرحام وأن يجنبنا وإياكم العقوق هو وليّ ذلك والقادر عليه ، [عبد الله بن عمر] يرى طائفا يطوف بالكعبة ويحمل أمه على كتفيه ويقول يا [ابن عمر] أتراني أوفيت أمي حقها والله إنها لعلى ظهري من كذا إلى الآن قال لا والله ما أوفيتها طلقة من طلقات الولادة ، العقوق دين وبروا تبروا أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم إلى صلة الأرحام وأن يجنبنا العقوق ونواصل إن شاء الله تعالى بعد الآذان .
وهاهو غاد آخر يغدو ليبر والديه ويصل رحمه فيصله الله عز وجل ويبره الله عز وجل ويوفقه ويسدده الله عز وجل ويدخله الجنة بإذنه سبحانه ، شعاره
ليس الواصل بالمكابر وإنما *** الواصل من إذا قطعته رحمه وصلها(141/11)
هاهي [الشيماء بنت الحارث] أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاع أرضعته وإياها [حليمة السعدية] في بنى سعد وبعد أربعين سنة من الفراق بين الأخ وأخته افترقا وهما صغيران سمعت به أنه انتصر صلى الله عليه وسلم وانتصرت دعوته وهو <بالمدينة> فانتقلت من بادية بنى سعد في <الطائف> تقطع الفيافي والقفار والصحاري التي يبيد فيها البيد ويضيع فيها الذكي والبليد حتى جاءت إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم هناك ، وبينا هي هناك والنبي صلى الله عليه وسلم في وسط جيشه يدبر شئون الأمة ويصرف الجيوش جاءت إلى أحد الصحابة تستأذنه لتدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أنا [الشيماء بنت الحارث] أرضعتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم [حليمة السعدية] فاستأذنوه لأدخل عليه فأخبروا النبي الله صلى الله عليه وسلم وكان جالسا في شئون الأمة يصرفها قالوا فذرفت عيناه الدموع صلى الله عليه وسلم تذكر الوشيجة وتذكر العلاقة وتذكر رضعات كانت بينه وبينها قبل أربعين عاما قالوا وذهب إليها يستقبلها ويعانقها عناق الأخ لأخته بعد فراق أربعين عاما ويسألها ما حالها كيف حالك يا [شيماء] مرحبا بك يا [شيماء] يقولون ويظللها صلى الله عليه وسلم من الشمس ويجلسها في مكانه ليعلم الناس كيف يصلون أرحامهم صلى الله عليه وسلم وجلست معه وسألها عن رَبْعِها وعن أهلها وعن أخواتها وما كان منه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن قال لها يا [شيماء] إن شئت أن تعيشي معي فأختي الحياة حياتي والموت موتي وإن شئت أن ترجعي لأهلك فذلك لك قالت بل أرجع لأهلي فقام صلى الله عليه وسلم فجهزها بقطيع من الإبل وبأرزاق معها لِيُعَلِّمَ الناس صلة الأرحام لتعود إلى بادية بني سعد فأين الذين قطعوا عماتهم وأين الذين قطعوا خالتهم وأين الذين قطعوا أمهاتهم ما حال هؤلاء يوم يقفون بين يدي الله (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) فأي الغاديين أنت وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها وغاد آخر يغدو ليهلك نفسه يشهد شهادة الزور يوم أصبحت شهادة الزور قرضة في بعض القرى اشهد لي زورا أشهد لك زورا يقترض بعضهم من الآخر النار وبئس القرار ما يبرح شاهد الزور مكانه حتى تجب له النار كما قال صلى الله عليه وسلم أما الآخر فيغدو فيعتق نفسه فيشهد شهادة الحق فيكون له الأجر وياله من أجر الجنة بإذن ربه فأي الغاديين أنت وكل يغدو فبائع النفس فمعتقها أو موبقها .
والآخر يغدو ليهلك نفسه في البحث عن الرزق الحرام لم يوفق للحلال مطلقا فمطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام بيعه حرام وشراؤه حرام وماله حرام في حرام يتغذى بالحرام من أخمص قدميه إلى رأسه إن تصدق لن يقبل الله منه صدقته وإن خلف ماله وراء ظهره كان زادا له إلى النار يقول النبي صلى الله عليه وسلم "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أخذ ماله من حلال أم من حرام" ويقول:" إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما" ومن أعظم الحرام الربا ، الربا بضع وسبعون شعبة أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية والربا عم ودخل غالب البيوت إلا من رحم الله أسأل الله أن يجيرنا وإياكم من الربا وغير بغير اسمه وتناسى الذين تعاملوا به قول الله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وزروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) نسوا قول الله (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) تداوله الذين يريدون إيباق أنفسهم والله لو لم يكن في أكل الحرام إلا أنه لا ترفع لصاحبه دعوة لكفى بذلك زاجرا عنه وآخر يغدو ليعتق نفسه فيبحث عن لقمة الحلال فوالله إن لقمة الحلال نادرة لكنها هنيئة مرئية ميسرة فمطعمه حلال ومشربه حلال ويغذى بالحلال ودعوته أحرى أن تجاب من رب الأرض والسماء ها هو [أبو بكر] رضي الله عنه وأرضاه ما كان ليأكل إلا حلالا وكان أحيانا يسأل إذا شك في الطعام، وجاءه غلامه يوما من الأيام فقدم له طعاما فأكل منه لقمتين فقال الغلام لم تسألني اليوم يا [أبا بكر] إن هذا من كهانة كنت قد تكهنتها في الجاهلية فصادفني صاحبها فأعطاني هذا الطعام فعلم أنه طعام محرم فوضع إصبعيه في فمه يريد أن يخرجه كادت روحه أن تخرج وما خرج هذا الطعام قالوا يا [أبا بكر] رحمك الله تقتل نفسك للقمتين لا تعلم أنها محرمة عفا الله عنك ، إن كنت مريدا إخراجها فاشرب ماء فشرب ماء ثم أدخل يده مرة أخرى كادت روحه أن تخرج وخرجت اللقمتين قالوا عفا الله عنك قال والله لو لم تخرج إلا وروحي معها لأخرجتها لأني سمعت حبيبي صلى الله عليه وسلم يقول:"أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به"(141/12)
وهناك غاد آخر يغدو ليهلك نفسه فيسلط لسانه على عباد الله يغتابهم ويتهمهم ناسيا قول الله عز وجل (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) وقوله صلى الله عليه وسلم "لما عرج بي مررت على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يقعون في لحوم الناس ويأكلون أعراضهم" المغتابون الذين همهم فلان وفلان ونسوا عيوب أنفسهم ولو اشتغلوا بعيوب أنفسهم لكان أحرى وأولى يهدي حسناته إلى الناس ، [الحسن البصري] عليه رحمة الله سمع أن رجلا اغتابه فما كان منه إلا أن فتش في بيته عن هدية له فما وجد سوى طبق من رُطَب فأخذه وقال لخادمه اذهب إليه وقل له سمع الحسن أنك أهديت إليه حسناتك فما وجد لك مكافأة إلا طبق التمر ولو عدت لعدنا والله لولا أني أخشى أن يُعْصَى الله لتمنيت أن لا يبقى أحد في الدنيا إلا اغتابني لأنه يهدي إليّ حسناته وهو لا يشعر ، كثير من الناس يصلون ويعملون الصالحات وفى جلسة واحدة يمحقون ذاك العمل كله بالوقوع في عرض هذا والوقوع في عرض هذا فإياك واللسان
احفظ لسانك أيها الإنسان *** لا يلدغنك إنه ثعبان
احفظ لسانك واحترس من لفظه *** فالمرء يسلم باللسان ويعطب
أما الآخر فيغدو فيدافع عن أعراض المسلمين ويرد عنهم في المجالس وكلامه ذكر الله أو كلام مباح فيرد الله عز وجل عن وجهه النار يوم القيامة فأي الغاديين أنت وكل يغدو فبائع نفسه معتقها أو موبقها غاد آخر يغدو ليهلك نفسه بالإفساد بين الناس بالنميمة والوشاية ناسيا قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يدخل الجنة نمام" أما الآخر فيغدو للإصلاح بين الناس فأجره على الله أكرم الأكرمين سبحانه وبحمده وذاك يغدو ليهلك نفسه ويقسي قلبه بسماع الغناء الماجن الذي حرمه الله جل وعلا وقال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف" فيشتري الغِنا ويشتري الخَنَا والفجور بماله ثم يدخلها إلى بيته لينشر الرذيلة فيه ليصبح أهل البيت بآذان لا تسمع وقلوب لا تفقه وأعين لا تبصر بهائم في مسلاخ بشر ما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشا لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة وآخر يغدو لسماع آيات الله تقرع قلبه فيلين قلبه وتدمع عينه ويطيع ربه ويدخر الله له غناء ليس كهذا الغناء الماجن غناء الحور العين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر كلمات الأغاني هي الآتية : نحن الخالدات فلا يمتن نحن المقيمات فلا يظعن نحن الراضيات فلا يسخطن نحن الناعمات فلا يبأسن نحن الحور الحسان أزواج قوم كرام ، طوبى لمن كان لنا وكنا له ، ثم يرسل الله ريح على زوائد أغصان أشجار الجنة فتهزها فتحدث منها صفير صوت كل طير في الجنة لو قضى الله الموت على أهل الجنة طربا لماتوا طربا ولكن خلود ولا موت قال [ابن عباس] ويرسل ربنا ريحا تهز ذوائب الأغصان ريح تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان يا خيبة الآذان لا تتبدلي بلذاذة الأوتار والعيدان خابت أذن استبدلت كلام الله عز وجل بأغنية ، خابت أذن استبدلت ما أعده الله لها من الغناء في الجنة بهذا الغناء الماجن فأي الغاديين أنت فكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها .
فيا من غدا لإعتاق نفسه جد واجتهد واغتنم زمن الصبا وسل الله الثبات حتى الممات وأكثر من قولك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ويا من غدا لإهلاك نفسه وإيباقها ، وأمهله الله عد إلى الله وتب إلى الله بادر في فكاك رقبتك من النار فأنت في زمن الإمكان عد إلى الله تجد الله توابا رحيما إن الله يقول (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) وهو القائل سبحانه (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار) وهو القائل "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالى يا ابن أدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك يا ابن آدم لو أتيتني بتراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بترابها مغفرة"
سبحان من يعفو ونهفو دائما *** ولا يزل مهما هفا العبد عفا
يعطى الذي يخطئ ولا يمنعنه *** جلاله عن العطى لذي الخطى(141/13)
يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني اغفر لكم" اللهم اغفر لنا اللهم ارحمنا اللهم تب علينا اللهم يا من رحمته وسعت كل شيء ارحمنا برحمتك . الله عز وجل رحيم والله عز وجل كريم وسبقت رحمته غضبه ها هو سبي يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبين السبي امرأة ضيعت ولدها تبحث عنه يمينا وشمالا حتى وجدته فضمته إلى صدرها ضمة الأم لابنها الذي أضاعته والرسول صلى الله عليه وسلم يراقبها فيقول لأصحابه أترونها طارحة ولدها في النار قالوا لا والله وهى تستطيع ألا تطرحه قال الله أرحم بعباده من هذه بولدها فيا من رحمته وسعت كل شيء ارحمنا برحمتك هاهو رجل من بنى إسرائيل موحد لم يشرك بالله شيئا ارتكب الموبقات سرق وزنا وغش وارتكب السيئات وحلت به سكرات الموت ساعة الموت الذي يذعن فيها الجبارون ويذعن فيها المتكبرون جمع أبنائه في ساعة لا ينفع فيها مال ولا ولد وقال لهم أي أب كنت لكم قالوا خير أب قال فوالله ما عملت خيرا غير أني موحد لم أشرك بالله عز وجل فإذا أنا مت فأضرموا النار ثم ضعوني فيها حتى أصبح رمادا ثم اسحقوني ثم زروني مع الريح لئن لقيت الله ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ومات الرجل ونفذوا وصيته حرقوه وسحقوه وزروه مع الريح فتفرق على الجبال والسهول والوهاد والأشجار والأحجار لكن الذي بدأه أول مرة أعاده قال الله سبحانه وتعالى له كن فكان كما كان قال يا عبدي ما حملك على ما صنعت أما تعلم أني أغفر الذنب وأستر العيب قال يا رب خشيتك وخفت ذنوبي قال فأشهدكم يا ملائكتي أني قد غفرت له وأدخلته الجنة يا من رحمته وسعت كل شيء ارحمنا برحمتك أخيرا هذا نموذج لغاد غدا في إيباق نفسه ثم أمهله الله عز وجل فغدا لإعتاق نفسه وهي قصة لعل فيها عبرة رجل عمره ما بين الثلاثين إلى الأربعين عربد وأفسد وصد وند عن الله عز وجل يقول عن نفسه ما كنت أنام ليلة من الليالي إلا على شربة خمر أو زنا قال ويشهد الله وأتزوج بامرأة فأزداد في عنادي وطغياني ، أترك الحلال في البيت وأذهب أطلب الحرام في خارج البيت قال وجئت ليلة من الليالي بعد أن ولدت لي هذه الزوجة بنتا وأصبح عمرها خمس سنوات قال جئت في ليلة من الليالي فتواعدت مع أصحابي على أن نشرب الخمر في مكان معين ويشاء الله عز وجل لي أن أبتعد عن هؤلاء وأتأخر عن الموعد بدقائق فجئت فإذا هم قد ذهبوا ذهبت يمينا وذهبت شمالا أبحث عنهم ما تركت مكانا إلا وبحثت عنهم فيه لا حبا فيهم ولكن كيف أنام ليلة بلا زنا و لا شرب خمر لا إله إلا الله يوم يصد الإنسان ويند عن الله عز وجل قال ثم ذهبت إلى صديق سوء آخر عنده من الأفلام الخليعة ما يستحي إبليس أن ينظر إليها قال فذهبت إليه وأخذت منه فيلما خليعا قال ورجعت إلى بيتي في الساعة الثانية ليلا ـ لا إله إلا الله ـ الساعة هذه الثلث الأخير من الليل يتنزل فيها الرب سبحانه وبحمده نزولا يليق بجلاله يقول هل من داع فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه ثلث الأوابين ثلث التوابين ، قال دخلت بيتى والناس على قسمين ما بين عبد وقف بين يد الله دموعه تهراق على خده من خشية الله وما بين أناس يرضعون المعاصي في تلك اللحظة وأنا واحد منهم قال فدخلت فنظرت لزوجتي وابنتي فإذا هما نائمتان فدخلت في مكان فيه هذا الجهاز الخبيث الذي لطالما دمر كثيرا من البيوت جهاز الفيديو وما يستتبع هذا الجهاز من أفلام تعلمونها يا أيها الأحبة يذكر أحد المشايخ في الأسبوع الماضي أنه في <مكة> وفي بلد الله الحرام ستة عشر فيلما جنسيا يستحي إبليس أن ينظر إليه سجلت في وسط <مكة> وتباع في وسط <مكة> أين تقوى الله في حرم الله يبارز الله والله لنحن عند الله لا نساوي شيئا متى ما تركنا أمره يدمرنا ولا يبالي سبحانه وبحمده قال وأدخلت هذا الشريط في هذا الجهاز وأغلقت الباب وقمت أنظر في مناظر أكرم الله هذه الوجوه عن تلك المناظر قال وإذ بالباب يفتح فدهشت وخفت وزعرت وإذا بها ابنتي الصغيرة التي عمرها خمس سنوات تدخل عليّ من الباب تحد فيّ النظرات وتقول عيب عليك يا والدي اتق الله عيب عليك يا والدي اتق الله قال تجمدت مكاني وبقيت أفكر في هذه الكلمات من علمها من أنطقها إلا رب الأرباب سبحانه وبحمده قال بقيت أفتش في نفسي من أين جاءت هذه الكلمات فقلت لعل أمها لقنتها هذه الكلمات قال وذهبت فإذا بها نائمة وإذا بأمها نائمة قال فخرجت أهيم على وجهي وأنا أتذكر قولها عيب عليك يا والدي اتق الله قال و بينما أنا في حيرتي واضطرابي ودهشتي وإذا بهذا المنادي ينادى الله أكبر الله أكبر نداء صلاة الفجر الذي حرمه كثير من المحرومين الغافلين قال فاتجهت إلى المسجد مباشرة ودخلت دورات المياه واغتسلت وتوضأت ودخلت مع المسلمين أصلي قال ويوم سجدت مع الإمام انفجرت في البكاء لا(141/14)
شعوريا بدأت أبكي تذكرت فضائحي وتذكرت جرائمي وتذكرت قدومي على الله آلمتني الكبيرة ولسعتني الفاحشة قال وبعد أن انتهت الصلاة وإذا برجل بجانبي يقول ما بك قال سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة بأي وجه ألاقي ربي سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة بأي وجه ألاقي ربى وبقي مكانه يتذكر ما كان منه من صدود ومن هرب عن الله عز وجل وأين المهرب منه إلا إليه قال ويحين وقت الدوام قال وأذهب للدوام من المسجد وأدخل إلى دائرتي التي أعمل فيها وفيها رجل صالح لطالما ذكرني بالله ولا أسمع له قال ويوم دخلت عليه قال أهلا بك والله إن بوجهك شيء غير الوجه الذي أعرفه منك سابقا فما الذي حصل قال كان من أمري كذا وكذا وأخبره بقصته في تلك الليلة ثم استأذنه ليذهب وينام فنزل من عنده وأذن له ونزل إلى المسجد ليصلي في مسجد الإدارة التي يعمل فيها قال وجئت لوقت صلاة الظهر زميله الذي يعمل معه قال ودخلت ويوم دخلت المسجد فإذا به أمامي يصلى ولما رآني ذرف الدموع واعتنقني قلت له لِمَ لم تذهب لبيتك لتنام ، قال إن بي شوقا عظيما إلى الصلاة ، سبع سنوات ما ركعت فيها لله ركعة بأي وجه ألاقي ربى ثم تواعدا على أن يلتقيا في الليل وذهب إلى بيته وذهب هذا إلى بيته ويوم دخل على أهله في البيت وإذ بزوجته تصرخ في وجهه وتقول ابنتك ماتت منذ لحظات فما كان منه إلا أن انهار وبدأ يردد عيب عليك يا والدي اتق الله عيب عليك يا والدي اتق الله يرددها ويذكر أنها ذكرته بالله عز وجل فيأتي زميله بعد أن اتصل به وأخبره الخبر فجاء إليه وقال احمد الله الذي أرسل إليك ابنتك قبل أن تموت لتذكرك بالله ولم يرسل لك ملك الموت ليقبض روحك ثم غسلوها وكفنوها وصلوا عليها ثم ذهبوا بها إلى المقبرة ويوم وصلوا إلى المقبرة قال زميله خذ ابنتك وضعها في لحدها يريد إن يربيه ليعلم أن المصير إلى هذا المكان فأخذ ابنته بين يديه دموعه تسيل على كفنها
وليس الذي يجري من العين ماؤها *** ولكنها روح تسيل فتقطر
جاء وأدخلها في لحدها وقال كلام أبكى جميع من حضر الدفن قال أنا والله ما أدفن ابنتي ولكني أدفن النور الذي أراني النور هذه البنت أرتني نور الهداية بعد طول ضلالة وغواية فأسأل الله أن يجمعه بها في جنات ونهر فيا أيها الحبيب عد إلى الله واعتق نفسك من النار إذا رأيت صدودا وقسوة في قلبك فتذكر ليلة من الليالي وأنت بين أهلك سعيدا وتذكر ليلة من الليالي وأنت على فراشك الوثير ثم تذكر الأخرى وأنت تفترش التراب
تالله لو عاش الفتى في دهره *** ألفا من الأعوام مالك أمره
متلذذا فيها بكل لذيذة *** متنعما فيها بنعم عصره
ما كان ذلك كله في أن يفي *** مبيت أول ليلة في قبره
يا من يرى مد البعوض جناحها *** في ظلمة الليل البهيم الأَلْيَلِ
ويرى نياط عروقها في مخها *** والمخ في تلك العظام النُحَّلِ
اغفر لجمع تاب من زلاته *** ما كان منه في الزمان الأول
اللهم اهدنا واهد بنا ويسر الهدى لنا اللهم إنا نشهدك بهذه الساعة المباركة أنا تبنا إليك وأنبنا ربنا إليك وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(141/15)
أيام التشريق
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
لقد اهتم ديننا الإسلامي ببعض الأيام، وأفردها عن غيرها بخصائص معينة، تميزها عن غيرها من الأيام، كيوم عرفة والنحر وغيرها. ومن هذه الأيام التي لها أحكام خاصة بها أيام التشريق, سنتطرق في هذا إلى تعريفها وتحديدها وفضلها وبعض الأحكام التي فيها.
أولاً تعريفها وتحديدها:
قال في لسان العرب: تشريق اللحم. تقطيعه وتقديده وبسطه، ومنه سميت أيام التشريق.
وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر؛ لأن لحم الأضاحي يشرق فيها للشمس ، وقيل: سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يقولون في الجاهلية أشرق ثبير كيما نغير؛ الإغارة: الدفع. وقال ابن الأعرابي: سميت بذلك لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق أي تطلع. وقال أبو عبيد: فيه قولان: يقال: سميت بذلك لأنهم كانوا يشرقون فيها لحوم الأضاحي، وقيل: بل سميت بذلك لأنها كلها أيام تشريق لصلاة يوم النحر، يقول: فصارت هذه الأيام تبعاً ليوم النحر.
قال:- وهذا أعجب القولين إليَّ. قال: وكان أبو حنيفة يذهب بالتشريق إلى التكبير، ولم يذهب إليه غيره.
وقيل المُشّرق: مصلى العيد بمكة. وقيل: مصلى العيد ولم يقيد بمكة ولا غيرها. والتشريق: صلاة العيد وإنما أخذ من شروق الشمس؛ لأن ذلك وقتها وفي الحديث: (لا ذبح إلا بعد التشريق) أي بعد الصلاة1.
وقال النووي رحمه الله: وأيام التشريق هي الثلاثة التي بعد النحر. ويقال لها: أيام منى؛ لأن الحجاج يقيمون فيها بمنى. واليوم ( الأول) منها يقال له: يوم القر- بفتح القاف- لأن الحجاج يقرون فيه بمنى. و (الثاني) يوم النفر الأول؛ لأنه يجوز النفر فيه لمن تعجل. و(الثالث) يوم النفر الثاني . وسميت أيام التشريق؛ لأن الحجاج يشرقون فيها لحوم الأضاحي والهدايا. أي: يشترونها، ويقددونها وأيام التشريق هي الأيام المعدودات.2.
وقد ذكر ابن كثير في سيرته كلاماً شبيهاً بهذا، حيث قال: أول أيام التشريق يسمى يوم القر؛ لأنهم يقرون فيه، ويقال له يوم الرؤس لأنهم يأكلون فيه رؤس الأضاحي، وهو أول أيام الشتريق، وثاني أيام التشريق يقال له: يوم النفر الأول لجواز النفر فيه، وقيل: هو اليوم الذي يقال له يوم الرؤس, واليوم الثالث من أيام التشريق يقال له: يوم النفر الآخر.
قال الله تعالى: ((فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه... ))الآية.(البقرة 203)
والأيام المعدودات هي أيام التشريق، والأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجة.
قال ابن رجب رحمه الله: وأما الأيام المعدودات فالجمهور على أنها أيام التشريق، وروي عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما، واستدل ابن عمر بقوله تعالى: (( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ))وإنما يكون التعجيل في أيام التشريق. قال الإمام أحمد: ما أحسن ما قال ابن عمر. 3
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقد اختلف في كونها يومين أو ثلاثة، وسميت أيام التشريق؛ لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر عند الشمس، وقيل: التشريق التكبير دبر كل صلاة .4
وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهذا قول ابن عمر وأكثر العلماء، وأفضلها أولها وهو يوم القر؛ لأن أهل منى يستقرون فيه، ولا يجوز فيه النفر، وهي الأيام المعدودات وأيام منى .5
فضلها ومكانتها:
جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث نشيبة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام الشتريق أيام أكل وشرب) وخرجه أهل السنن والمسانيد من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعضها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: بعث في أيام منى منادياً ينادي: لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب، وذكر الله عز وجل. وفي رواية النسائي: أيام أكل وشرب وصلاة). وفي رواية للدارقطني بإسناد فيه ضعف: (أيام أكل وشرب وبعال).
قال النووي في شرحه لهذا الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: (أيام الشتريق أيام أكل وشرب) وفي رواية: ذكر لله عز وجل، وفي رواية: أيام منى.
وهنا ننبه إلى مسألة وهي: أن بعض الناس سمع هذا الحديث واحتج في ترك بعض المأمورات وارتكاب بعض المنهيات، وإذا نصحته قال: إن هذه الأيام أيام أكل وشرب، فنقول له ولأمثاله: نعم إنها أيام أكل وشرب، وذكر لله فالإنسان يفرح بنعمة الله تعالى عليه، ويشكر هذه النعم بذكر الله تعالى وطاعته وعبادته .
من أحكام أيام التشريق:
- يحرم صوم هذه الأيام إلا للحاج المتمتع والقارن لمن لم يجد الهدي، وفي ذلك حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: (لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي).6(142/1)
وروى أبو داود عن أبي مرة مولى أم هانئ أنه دخل مع عبد الله بن عمرو على أبيه عمرو بن العاص فقرب إليهما طعاماً فقال: كل، فقال: إني صائم، فقال عمرو: كل فهذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإفطارها، وينهانا عن صيامها. قال الإمام مالك: وهي أيام التشريق 7.
وعند النسائي: (إن يوم عرفة، ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) 8
وجمهور العلماء يمنعون صيام هذه الأيام تطوعاً أو قضاءً أو نذراً.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ( وهل تلتحق بيوم النحر في ترك الصيام؛ كما تلتحق به في النحر وغيره من أعمال الحج. أو يجوز صيامها مطلقاً أو للمتمتع خاصة أوله ولمن هو في معناه؟ وفي كل ذلك اختلاف للعلماء، والراجح عند البخاري جوازها للمتمتع، فإنه ذكر في الباب حديثي عائشة وابن عمر في جواز ذلك، ولم يورد غيره، وقد روى ابن المنذر وغيره عن الزبير بن العوام وأبي طلحة، والصحابة الجواز مطلقاً، وعن علي وعبد الله بن عمرو بن العاص المنع مطلقاً وهو المشهور عن الشافعي. وعن الأوزاعي و غيره يصومها أيضاً المحصر والقارن.
وأما عند الشافعية فقد ذكر النووي فيه قولان: أحدهما وهو الجديد لا يصح صومها لا لمتمتع ولا غيره، هذا هو الأصح عند الأصحاب. (الثاني): وهو القديم يجوز للمتمتع العادم الهدي صومها عن الأيام الثلاثة الواجبة في الحج، فعلى هذا هل يجوز لغير المتمتع أن يصومها فيه وجهان مشهوران أصحهما عند جميع الأصحاب لا يجوز وبه قطع المصنف وكثيرون أو الأكثرون لعموم الأحاديث في منع صومها وإنما رخص للمتمتع9.
وقال القسطلاني في شرحه البخاري: وروى أبو داود عن عقبة بن عامر مرفوعاً: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب. وفي حديث عمرو بن العاص عند أبي داود وصححه ابن خزيمة والحاكم أنه قال لابنه عبد الله في أيام التشريق: إنها الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صومهن وأمر بفطرهن، وقد قال الطحاوي بعد أن أخرج أحاديث النهي عن ستة عشر صحابياً، فلما ثبت بهذه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: النهي عن صيام أيام التشريق وكان نهيه عن ذلك بمنى والحجاج مقيمون بها، وفيهم المتمتعون والقارنون ولم يستثن منهم متمتعاً ولا قارناً دخل المتمتعون والقارنون في ذلك. أ.هـ
وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأكل والشرب سر حسي وهو: أن الله تعالى لما علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاق السفر وتعب الإحرام، وجهاد النفوس على قضاء المناسك شرع لهم الاستراحة، عقب ذلك بالإقامة بمنى يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وأمرهم بالأكل فيها من لحوم الأضاحي فهم في ضيافة الله تعالى لطفاً من الله تعالى بهم ورحمه، وشاركهم أيضاً أهل الأمصار في ذلك؛ لأن أهل الأمصار شاركوهم في النصب لله تعالى والاجتهاد في عشر ذي الحجة بالصوم والذكر والاجتهاد في العبادات، وفي التقرب إلى الله بإراقة دماء الأضاحي وفي حصول المغفرة فشاركوهم في أعيادهم واشترك الجميع في الراحة بالأكل والشرب، فصار المسلمون كلهم في ضيافة الله تعالى في هذه الأيام يأكلون من رزقه ويشكرونه على فضله، ولما كان الكريم لا يليق به أن يجيع أضيافه نهوا عن صيامها (إلا لمن لم يجد الهدي) وفي رواية ابن عوانة عن عبد الله بن عيسى عند الطحاوي (إلا لمتمتع أو محصر )أي فيجوز له صيامها، وهذا مذهب مالك وهو الرواية الثانية عن أحمد واختاره ابن عيدروس في تذكرته. وهو قول الشافعي القديم لحديث الباب. قال في الروضة: وهو الراجح دليلاً والصحيح من مذهب الشافعي وهو القول الجديد ومذهب الحنفية أنه يحرم صومها لعموم النهي وهو الرواية الأولى عن أحمد .10
- وكما سبق أن نبهنا فإن هذه الأيام العظيمة مع كونها أيام أكل وشرب فلا بد أن تكون أيام ذكر كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في البخاري: وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما وكبر محمد بن علي خلف النافلة.
قال الحافظ ابن حجر: وقال الطحاوي: كان مشايخنا، يقولون بذلك: أي بالتكبير في أيام العشر. وقد اعترض على البخاري في ذكر هذا الأثر في ترجمة العمل في أيام التشريق، وأجاب الكرماني بأن عادته أن يضيف إلى الترجمة ما له بها أدنى ملابسة استطراداً. أ.هـ والذي يظهر أنه أراد تساوي أيام التشريق بأيام العشر لجامع ما بينهما مما يقع فيهما من أعمال الحج، ويدل على ذلك أن أثر أبي هريرة وابن عمر صريح في أيام العشر، والأثر الذي بعده في أيام التشريق11.
وقال الحافظ أيضاً في قول البخاري باب التكبير أيام منى، وإذا غدا إلى عرفة: قوله أيام منى أي يوم العيد والثلاثة بعده، قال الخطابي: حكمة التكبير في هذه الأيام أن الجاهلية كانوا يذبحون لطواغيتهم فيها فشرع التكبير فيها إشارة إلى تخصيص الذبح له، وعلى اسمه عز وجل.(142/2)
قال البخاري: وكان ابن عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً. وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً، وكانت ميمونة تكبر يوم النحر، وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد12.
- ولكن يسأل سائل ويقول: متى يكبر المكبر، وما صيغة التكبير؟ يجيب عن ذلك الحافظ ابن حجر بقوله: وقد اشتملت هذه الآثار على وجود التكبير في تلك الأيام عقب الصلوات، ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤادة دون المقضية وبالمقيم دون المسافر، وبساكن المصر دون القرية. وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع، والآثار التي ذكرها تساعده. وللعلماء اختلاف أيضاً في ابتدائه وانتهائه فقيل: من صبح يوم عرفة، وقيل من ظهره، وقيل من عصره، وقيل من صبح يوم النحر، وقيل من ظهره، وقيل في الانتهاء إلى ظهر يوم النحر، وقيل إلى عصره، وقيل إلى ظهر ثانيه، وقيل إلى صبح آخر أيام التشريق، وقيل إلى ظهره، وقيل إلى عصره. قال: وقد رواه البيهقي عن أصحاب ابن مسعود ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى، أخرجه ابن المنذر وغيره والله أعلم. وأما صيغة التكبير فأصح ما ورد فيه ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان قال: كبروا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً" ونقل عن سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بين أبي ليلى أخرجه جعفر الفريابي في كتاب العيدين من طريق يزيد بن أبي زياد عنهم، وهو قول الشافعي وزاد ولله الحمد.، وقيل يكبر ثلاثاً، ويزيد: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له). وقيل يكبر اثنتين بعدهما: (لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبرن ولله الحمد) جاء ذلك عن عمر وعن ابن مسعود نحوه، وبه قال أحمد وإسحاق وقد أحدث في هذا الزمان زيادة في ذلك لا أصل لها) 13
هذا ما تسير جمعه في أيام التشريق وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________
1 - لسان العرب 10/176.
2 - المجموع 6/442.
3 - فتح الباري لابن رجب (9/7-8).
4 - فتح الباري لابن حجر 4/285.
5 - إرشاد الساري لشرح البخاري لأحمد القسطلاني 4/565.
6 - البخاري مع الفتح برقم (1998.
7 - أبو داود برقم (2415) وصححه الألباني.
8 - النسائي (3004) والترمذي وأبو داود من حديث عقبة بن عامر وصححه الألباني في صحيح أبو داود.
9 - المجموع 6/443.
10 - إرشاد الساري لأحمد القسطلاني4/567.
11 - فتح الباري2/531.
12 - الفتح (2/534-535.
13 - الفتح 2/353-356.(142/3)
أين المفر..؟
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتنا إلا وأنتم مسلمون).
أما بعد: عبد الله:
اتقوا الله عباد الله، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، يومَ ينفخ في الصورِ، ويبعث من في القبورِ، ويظهرُ المستورُ، يومَ تبلىَ السرائرَ، وتُكشَفُ الضمائرُ ويتميزُ البرُ من الفاجر.
ثم أعلموا أن هناك حقيقةً وأيُ حقيقة!
حقيقةٌ طالما غفلَ عنها الإنسانُ، ولحظةٌ حاسمةٌ ومصيرٌ ومآل.
إنها لحظةُ ملاقيكُم إلى أين من هذه اللحظةِ المهرب، وإلى أين منها المفر ؟
إلى الأمام ملاقيكُم.
إلى الوراءِ ملاقيكُم.
إلى اليميني والشمالِ ملاقيكُم.
إلى أعلا إلى أسفل ملاقيكُم، إلى الوراء ملاقيكم.
لا تمنعُ منه جنود، ولا يُتَحصنُ منه في حصون، مدريكُكم أينما كنتم.
إنه واعظُ لا ينطق، واعظ صامت يأخذَ الغنيَ والفقير، والصحيحَ والسقيمَ، والشريفَ والوضيع، والمقرَ والجاحدَ، والزاهدَ والعابد، والصغيرَ والكبيرَ، الذكرَ والأنثى، كلُ نفسٍ ستذوقهُ شاءت أم أبت.
لعلَكم عرفتموه، لا أظنُ أحداً يجهلُه، أما حقيقتُه فالكل يجهله، إنه الموت.
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
الموتُ ما الموت ؟
أمرُ كبار وكأسُ يدار، في من أقامَ وسار، يخرجُ بصاحبه إلى الجنةِ أو إلى النار.
ما زالَ لأهلِ اللذاتِ مكدرا، ولأصحابِ العقولِ مغيرا ومحيرا، ولأرباب القلوبِ عن الرغبةِ فيما سوى اللهِ زاجرا.
كيفَ وورائُه قبرٌ وحساب، وسؤالٌ وجواب، ومن بعدهِ يومٌ تدهشُ فيه الألبابُ فيعدمُ الجواب.
السكرات، ما أدراكم ما السكرات ؟
عانى منها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكان يقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرا، اللهم هون علينا سكرات الموت.
سكرات أي سكرات ؟
يقول العلماء كل سكرة منها أشد من ألف ضربة بالسيف.
ملك الموت، ما ملك الموت؟
الدنيا بين يديه كالمائدة بين يدي الرجل يمد يده إلى ما شاء منها بأمر الله فيأخذه.
وإن له لأعوانا ما يعلم عددهم إلا الله، ليس منهم ملك إلا لو أذن الله له أن يلتقم السماوات السبع والأراضين في لقمة واحدة لفعل.
فلا إله إلا الله من لحظة حاسمة لو لم تعتقل الألسنة، وتخدر الأجسام وقت الاحتضار لما مات أحد إلا في شعف الجبال ألما، ولصاح الميت من شدة ما يعاني حتى تندك عليه جدران الغرفة التي هو فيها ولمستطاع أن يحضر ميتا أحدا أبدا، فنسأل الله العافية والسلامة، وأن يهون علينا السكرات.
روي عن الحسن أنه قال:
رأي أحد الصالحين بعد موته فقيل له كيف وجدت طعم الموت؟
قال أواه أواه وجدته والله شديدا، والذي لا إله إلا هو لهو أشد من الطبخ في القدور والنشر بالمناشير، أقبل ملك الموت نحوي حتى استل الروح من كل عضو مني فلو أني طُبخت في القدور سبعين مرة لكان أهون علي.
كفى بالموت طامة وما بعد الموت أطم وأعظم.
ويرى آخر بعد موته في المنام فيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟
قال كعصفور في مقلاة لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير.
فالله المستعان على تلك اللحظات، و اللهم هون علينا السكرات وجعلها لنا كفرات وآخر المعاناة، وهي كذلك بأذن الله للمؤمنين والمؤمنات، ولغيرهم بداية المعاناة.
عبادَ الله، وفي تلك اللحظاتُ الحرجةُ ينقسمُ الناسُ إلى قسمين، إلى فريقين شقي وسعيد:
فريقُ السعداء حالُهم ما حالُهم:
( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي ْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).
ها هيَ أسماءُ بنتُ عميسٍ رضي اللهُ عنها تقول كما روي عنها:
إنا لعند علي رضي اللهُ عنه وأرضاه بعدما ضربَه ابن مُلجِم عليه من الله ما يستحق.
إذ بعليٍ يشهقُ شهقةً فيغمى عليه، ثم يفيقُ ثانيةً وهو يقول:
مرحباً مرحبا، الحمدُ لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنةَ، الحمد لله الذي أذهبَ عنا الحزن، لمثلِ هذا فليعملِ العاملون، وليتنافسِ المتنافسون.
فيالها من موعظة ومصير لو وافقت من القلوب حياة. من ظفر بثواب الله فكأنما لم يصب في دنياه.
كأنك لم توتر من الدهر مرة ........ إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه(143/1)
وأسمع معي أخر لسعيد أبن جبير رضي الله عنه يوم يروي لنا قصة صحيحة متواترة كما قال الذهبي في سيره فيقول:
لما مات أبن عباس رضي الله عنه في الطائف، جاء طائر لم يرى مثل خلقته فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دفن فإذا على شفير القبر تال يتلو لا يرى: ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي). فيا لها من خاتمة، ويا له من مصير. والخير في الأمة يستمر، ولن تعدم الأمة خيّر، فأسمع ثالثة إلى هذا الحدث الذي ذكره صاحب كتاب "يا ليت قومي يعلمون)، قال حدثني أحد الصالحين قائلا:
كان هناك رجل صالح من أهل الطائف، كان عابدا فاضلا، نزل مع بعض أصحابه إلى مكة محرما، ودخلوا الحرم بعد أن انتهت صلاة العشاء، فتقدم ليصلي بهم، وهو محرم قد خرج لله عز وجل كما يحسب، فقرأ سورة الضحى، فلما بلغ قول الله عز وجل ( وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى)، شهق وبكى وأبكى، فلما قرأ ( وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) ترنح قليلا ثم سقط ميتا. فعليه رحمة الله، ليبعث يوم القيامة بأذن الله مصليا، فمن مات على شيء بُعث عليه كما ورد عن المصطفى (صلى الله عليه وسلم).
وآخر يقضي حياته مؤذنا يهتف بالتوحيد كل يوم وليلة خمس مرات، ويؤذن يوما من الأيام ثم يشرع ليقيم الصلاة، ولما انتصف في إقامة الصلاة سقط ميتا فعليه رحمة الله، سنوات يؤذن ثم يجيب داع الله مؤذنا فيُبعث يوم القيامة من أطول الناس أعناقا مؤذنا، فرحمة الله عليه.
يا لها من خواتم طيبة، ملائكةٌ بيضُ الوجوه يتقدمُهم ملكُ الموت، يخاطبُ تلك الأرواح الطيبة:
أيتها النفسُ الطيبةُ أخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان وربٍ راضٍ غيرِ غضبان، فتخرجُ تسيل كما تسيلُ القطرةُ من فم السقاء، وتفتحُ لها أبوابُ السماء، وتحملُ الجنازةُ على الأكتاف وهي تصيح وتقول قدمونيَ، قدموني، تسألُ فتجيبُ وتثبتُ، ويفرشُ لها من الجنة، ويفتحُ لها بابٌ إلى الجنة، قد استراحت من تعبِ هذه الدار، وإلى راحةٍ أبديةٍ في دار القرار.
وفريقٌ آخر:
في تلك الساعة يشقى، حسبَ أن الحياة عبثٌ ولهوٌ ولعب، وإذا به يعاني أول المعاناة.
نزلت عليه ملائكةٌ سودُ الوجوه يتقدموهم ملكُ الموت –نعوذ بالله من ختام السوء وساعة السوء- يقول أيتها النفسُ الخبيثةُ أخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب.
فتنتزَعُ نزعاً بعد أن تُفرقَ في الجسد، ثم ترفعُ فلا تُفتحُ لها أبوبُ السماء، تحملُ الجنازةُ على الأكتافِ وهي تصيح: يا ويلها أين تذهبون بها، ثم تسألُ فلا تجيب، ويفرشُ لها من النار، ويفتحُ لها بابٌ إلى النار، فنعوذ بالله من النار ومن سوءِ الختامِ وغضبِ الجبار.
ذكر صاحب قصص السعداء والأشقياء أنه وقع حادث في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب، كانوا يستقلون سيارة واحدة، توفي اثنان منهما في الحال، وبقي الثالث في آخر رمق، يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث قال لا إله إلا الله، فأخذ يحكي عن نفسه ويقول:
أنا في سقر، أنا في سقر أنا في سقر حتى مات عل ذلك، فلا إله إلا الله.
رجل المرور يسأل ويقول ما هي سقر، فوجد الجواب في كتاب الله عز وجل:
( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ). ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ).
نسأل الله السلامة والعافية. عباد الله:
فريقان لا ثالث، شقي وسعيد:
فريق في الجنة وفريق في السعير.
فريق استراح، وفريق استراح منه العباد والبلاد ومضى إلى جهنم وبئس المهاد.
ألا ترون ألا تتفكرون ألا تنضرون، تشيعون كلَ يومٍ غادياً إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجلَه، حتى تغيبوه في صدعٍ من الأرضِ خُلعَ الأسباب، وتركَ الأحباب، وسكنَ الترابَ، وواجهَ الحسابَ، انتهى أجلُه وأملُه، تبعَه أهلُه ومالُه وعملُه، فرجع الأهلُ والمال وبقي العمل.
فارق الأحبةَ والجيران، هجرَه الأصحابُ والخلان، ما كأنَه فرِحَ يوما ولا ض يوما ما، أرتُهنَ بعملِه فصار فقيراً إلى ما قدم غنياً عن ما تركَ.
جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا ...... وبنوا مساكنَهم وما سكنوا
فكأنَهم كانوا بها ضعنا........... لم استراحوا بها ساعةً ضعنوا
ولذلك كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أرحم الناس بالأموات، يقول عوف ابن مالك:
صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على جنازة رجل من الأنصار، يقول فتخطيت الصفوف حتى اقتربت منه، فسمعته يبكي ويقول: اللهم أغر له، اللهم أرحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالثلج والماء والبرد.
يقول عوف والذي لا إله إلا هو لوددت أني أنا الميت من حسن دعائه (صلى الله عليه وسلم) له.(143/2)
ومن رحمته بالأموات (صلى الله عليه وسلم) كان يذهب في الليل ليقف علة مقبرة البقيع فيدعو لعم طويلا ويترحم عليهم طولا (صلوات الله وسلامه عليه)، فما أرسله الله إلا رحمة للعالمين.
وأصحابه كذلك، أبن عمر كان إذا قرأ قول الله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) بكى وأبكى ودعا للأموات وقال: اللهم لا تحل بيني وبين ما أشتهي، قالوا وما تشتهي؟ قال أن أقول لا إله إلا الله.
فلا إله إلا الله.. ما من ميت إلا ويود أن يسجل في صحيفته لا إله إلا الله، ولكن هيهات حيل بينهم وبينها، وبقي الجزاء والحساب.
فرحم الله امرأ قد من الصالحات لتلك الحفر، ورحم الله حاسب نفسه قبل ذاك اللحد الذي لا أنيس فيه ولا صاحب إلا العمل، وكفى بالموت واعظا.
روي أن عمر أبنُ عبد العزيز رحمَه الله يقول لجلاسه يوما ما:
أرقتُ البارحةَ فلم أنم حتى طلعَ الفجر، قالوا ما أسهرك؟
قال لما أويتُ إلى فراشي ووضعتُ عليَ لحافي تذكرتُ القبرَ، وتذكرتُ الميتَ بعد لياليٍ تمرُ عليه، حينما تركَه أهلُه وأحبتُه وخلانه، تغير ريحُه وتمزقَ كفنُه وسرى الدودُ على خدودِه فليتك ترى تلك الرائحةَ المنتنةَ، وتلك الأكفانَ الممزقةَ، إذا لرأيتَ أمراً مهولا، ثم أنفجر يبكي ويقولُ لا إله إلا الله ولسانُ حالِه:
واللهِ لو قيل لي تأني بفاحشةٍ ......... وأنا عُقباكَ دنيانا وما فيها
لقلتُ لا والذي أخشى عقوبَتَه ...... ولا بأضعافِها ما كنتُ أتيها
تجهزي بجهاز تبلغين به ............. يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثا
كفى بالموت واعظا لمن كان له قلب أو ألقى السمع.
يمر عمرو ابن العاص رضي الله عنه بالمقبرة فيبكي ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه:
لم فعلت ذلك ؟
قال تذكرت قول الله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يحال بيني وبينها.
عمر الذي حضرته الوفاة فبكى، فقال له ابنه يا أبتاه صف لنا الموت.
قال يا بني الموت أعظم من أن يوصف، لكأن على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب ابرة، وكأن السماء اطبقت على الأرض وأنا بينهما.
ثم حول وجهه إلى الحائط ليبكي بكاء مرا فيقول ابنه محسنن ظنه:
أنت من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، أما فتحت مصرا، أما جاهدت في سبيل الله!
فيقول يا بني لقد عشت مراحل ثلاث:
لقد كنت أحرص الناس على قتل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيا ويلتاه لو مت في ذلك الوقت.
ثم هداني الله فكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أحب الناس إلي، والله ما كنت أستطيع أن املأ عيني من وجهه حياء منه، والله لو سألتموني أن أصفه الآن ما استطعت، والله ما كنت أملأ عيني إجلالا له، فيا ليتني مت في ذلك الوقت لأنال دعاء النبي (صلى الله عليه وسلم).
يقول ثم تخلفت بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فلعبت بنا الدنيا ظهرا لبطن، فما أدري أيؤمر بي إلى الجنة أو النار، لكن عندي كلمة أحاج بها لنفسي عند الله هي لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ثم قبض على لا إله إلا الله:( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ).
يقول أبن عوفٍ رضي الله عنه:
خرجتُ مع عمرَ رضي الله عنه إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها، ارتعد وأختلس يدَه من يدي، ثم وضع نفسَه على الأرض وبكى بكاءً طويلاً.
فقلت ما لك يا أميرَ المؤمنين ؟
قال يا ابن عوف ثكلتك أمك أنسيت هذه الحفرة.
حاله يقول: لمثل هذا فأعد.
شد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيك ........ لأن لا تجزع للموت إذا حل بواديك.
كفى بالموت واعظا، وبسير الصالحين عنده عبرا.
تحل السكرات بمحمد ابن أدهم فيقول لخادمه: وقد أصابته رعده، يصيح ويقول:
ما لي وللناس، والذي لا إله إلا هو لو استطعت أن أتطوع لله وحدي حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفا من الرياء، ولكن لا أستطيع.
كان يدخل بيته ومعه كوز ماء فيغلق بابه ويقرأ القرآن ويبكي وينشج، فيسمعه ابن له صغير فيقلده في البكاء، فإذا خرج من بيته غسل وجهه واكتحل لكي لا يرى أثر البكاء عليه.
يقول خادمه: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام فقال:
يا أبا عبد الله أبشر فقد نزل بي الموت، وقد من الله علي أن ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، فقد علم ضعفي فإني والله لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيء يحاسبني عليه فله الحمد.
ثم قال لخادمه أغلق علي الباب، ولا تأذن لأحد علي حتى أموت وأعلم أني أخرج من الدنيا ليس عندي ميراث غير كسائي وإنائي الذي أتوضأ فيه، فغطوا علي بكسائي وتصدقوا بإنائي على مسكين يتوضأ فيه.
ثم لفظ روحه في اليوم الرابع ليلقى الله ليس معه من الدنيا شيء، فرحمه الله رحمة واسعة.
خذ القناعة من دنياك وأرضى بها........ لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها....... هل راح منها بغير الحنط والكفن(143/3)
كفى بالموت واعظا.
وولله لو كان الأمرُ سينتهي بالموت لكان هيناً سهلاً، لكنَه مع شدتِه وهولِه أهونُ مما يليه، والقبرُ مع ظلمتِه أهونُ مما يليه، كلُ ذلك هينٌ إذا قُرنَ بالوقوفِ بين يدي الله الكبيرِ المتعال.
تلفت المرءُ يميناً فلم يرى إلا ما قدم.
وشمالاً فلم يرى إلا ما قدم.
ونظرَ تلقاء وجه فلم يرى إلا النار.
فيا له من موقفٍ ويا لها من خطوبٍ تذهلُ المرضعةُ عما أرضعت وتضعُ كلُ ذاتِ حملٍ حملها، وترى الناسَ سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
يبلغ العرق أن يلجم الناس إلجاما، والشمس تدنو منهم قدر ميل، فيالها من أحداثٍ مجردُ تصورُها يخلعُ ويذيبُ الأكباد. يومُ القيامةِ لو علمت بهولِه ......... لفررتَ من أهلٍ ومن أوطانِ.
روي عن الحسن رضي الله عنه:
أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان رأسُه ذات يوم في حجرِ عائشة، فنعس فتذكرت الآخرة فسالت دموعُها على خدِ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم)، فأستيقظَ بدموعها ورفع رأسه وقال ما يبكيك؟
قالت يا رسول الله ذكرتُ الآخرة، فهل تذكرونَ أهليكُم يومَ القيامة؟
قال (صلى الله عليه وسلم) والذي نفسي بيده في ثلاثةِ مواطنَ فإن أحداً لا يذكرُ إلا نفسَه:
إذا وضعتِ الموازين حتى ينظرَ أبنُ أدمَ أيخفُ ميزانُه أم يثقل.
وعند الصحف حتى ينظرَ أبيمينِه يأخذُ أم بشمالِه.
وعند الصراط حتى ينظرَ أيمرَ أم يكردس على وجههِ في جهنم.
يؤتي بإبن أدم حتى يوقفُ بين كفتي الميزان، فتصور نفسِك يا عبد الله وأنت واقفٌ بين الخلائقَ إذ نوديَ باسمك، هلمَ إلى العرضِ على اللهِ الكبير المتعال.
قمتَ ولم يقم غيرك ترتعدُ فرائصُك، تضطربُ رجلاك وجميع جوار، قلبك لدى حنجرتك، خوفٌ وذلٌ وانهيار أعصاب:
شبابكَ في ما أبليتَه ؟
عمرُك فيما أفنيتَه ؟
مالُك من أين اكتسبتَه وفيما أنفقتَه ؟
علمُك ماذا عملتَ به ؟
هذه الأسئلةُ فما الإجابةُ.
كم من كبيرةٍ نسيتهَا قد أثبتَها عليك الملك.
كم من بليتٍ أحدثتهَا.
كم من سريرةٍ كتمتها ظهرت وبدت أمامَ عينيك.
أعظمِ به من موقف، وأعظم به من سائلٍ لا تخفى عليه خافيةٍ، وأعظمِ به من حياءٍ يداخلُك وغم وحزنٍ وأسفٍ شديد، فإما أن يقول الله:
يا عبدي أنا سترتُها عليكَ في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. فيا لسرورِك وهدئت بالك واطمئنان قلبك والمنادي ينادي: سعدَ فلانُ أبن فلان سعادةً لا يشقى بعدها أبدا.
وأما أن يقولَ الله – عافاك وسلمك الله– إما أن يقول: خذوه فغلوه ثم الجحيمَ صلوه فيذهبُ بك إلى جهنمَ مسود الوجه، كتابك في شمالك ومن وراء ظهرك قد غلت ناصيتك إلى قدمك، أي خزي وأي عارٍ على رؤوس الخلائق ينادى: شقي فلانُ أبن فلان شقاوة لا يسعدُ بعده أبدا.
عباد الله:
الأمر خطير جد خطير، إبليس قد قطع العهد على نفسه ليغوينكم أجمعين، فقال:
وعزتك وجلالك يا رب لا أزال اغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم.
والله برحمته ومنه يقول:
وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
فالبدار البدار، والتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي.
أكثروا من ذكر هادم اللذات.
زوروا المقابر فإنها تذكركم الآخرة.
احضروا المحتضرين معتبرين.
اصدقوا الله يصدقكم.
احفظوه يحفظكم وعاملوا الله فلن تخيبوا.
( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
نفعني الله وإياكم بالقرآن وبسنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
عباد الله:
اعلموا أن الآمال تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى، والليل والنهار يقربان كل بعيد ويبليان كل جديد، وفي ذلك والله ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغب في الباقيات الصالحات.
لتفتوا وانظروا وتدبروا وتأملوا بعيون قلوبكم أين من كان حولكم:
أين من كان حولكم ...... من ذوي البأس والخطر
سائلوا عنهم الديار....... واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحيل....... وإنا على الأثر
كان عبد الرحمن ابنُ يزيد ابنُ معاوية خلا لعبد الملك أبنُ مروان، فلما مات عبدُ الملكِ ودفنَ وتفرق الناسُ عن قبرِه، وقفَ عليهِ عبد الرحمنُ قائلاً:
أنتَ عبدُ الملك، أنت من كنتَ تعدوني خيراً فأرجوك، وتتوعدُني فأخافُك، الآن تصبحُ وتمسي وليسَ معكَ من ملكِك غير ثوبُك، وليسَ لك من مُلكِكَ سوى ترابِ أربعةِ أذرُعٍ في ذراعين.
إنه لملكٌ هينٌ حقيرٌ وضيعٌ، أفٍ ثم أفٍ لدنياً لا يدومُ نعيمُها، ثم رجعَ إلا أهلِه فأجتهدَ وجد في العبادةِ وعلم أنها الباقيةَ، حتى كان كأنه شن بال من كثرة ما أجهد نفسَه في العبادة.
فدخلَ عليه بعض يعاتبَه لأنه أضر بنفسه، فقال لمن عاتبه:
أسألكَ عن شيء فهل تصدقني فيها، قال نعم.
قال نشدتُك الله عن حالتِكَ التي أنتَ عليها أترضاها حين يأتيك الموت؟
قال اللهم لا.
قال نشدتُك الله أعزمتَ على انتقال منها إلى غيرها؟،
قال اللهمَ لم أشاور عقلي بعد.(143/4)
قال افتأمن أن لا يأتيكَ ملكُ الموتِ على الحالةِ التي أنت عليها؟
قال اللهم لا آمن.
فقال حالُ ما أقام عليها عاقلٌ وما يقيم عليها ذو قلبٍ ولب، إن الطائرَ إذا علم أن الأنثى قد حملت البيض، أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع.
أفترُاك ما علمت قُرب رحيلِك إلى القبرِ الذي ستنفردُ فيه وحدَك، ويسدُ عليك فيه بالطينِ وحدَك، آلا عملتَ لك فراشاً من تقوى الله، فمن عمل صالحاً فلأنفسِهم يمهدون.
فلا يومُك الماضي عليكَ بعائد ........ ولا يومُكَ الآتي بهِ أنت واثقُ
فاستعد وأعد.
يا شابا عكف على القرآن:
مسجده ومصلاه، والمسجد مظهره ومخبره اسأل الله الثبات، وازدد من الحسنات، واجعل الآخرة همك يجعل الله غناك في قلبك ويجمع لك شمل، وتأتيك الدنيا راغمة، فجد وسارع واغتنم زمن الصبا.
و يا شابا هجر القرآن:
وأعطى نفسَه هواها فدساها، لتقفنَ موقفاً ينسى الخليلُ به الخليل، وليركبنَ عليكَ من الثرى ثقلُ ثقيل، ولتسألنَ عن النقيرِ، والقطميرِ والصغيرِ والكبير، فعد فالعودُ أحمد قبل أن تقولَ ربي ارجعون فلا رجوع:
ذهبَ العمرُ وفات، يا أسير الشهوات، ومضى وقتُك في لهوٍ وسهوٍ وسبات.
يا شيخا اقترب من القبر:
عرف أنه منه قاب قوسين أو أدنى، فأكثر من الاستغفار، وحبل لسانه عن الزور، ورعى رعيته كما ينبغي، وعرف قدر يومه وليلته بشراكَ بشراك، ضاعف العمل فإن الخيل إذا وصلت إلى نهاية السباق قدمت كل ما لديها من قوة لتفوز بالجائزة.
ويا شيخا نسي الله في شيخوخته بعد شبابه:
فارتكب الجرائم وقارف الكبائر ووقف على عتبة الموت، أين الهوى والشهوات؟ ذهبت وبقيت التبعات، تتمنى بعد يبس العود العَودَ وهيهات.
يا من شاب رأسه فما استحي من الله:
يا من شاب رأسه فانتهك حدود الله وأعرض عن منهج الله تب إلى الله قبل أن تكون ممن لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
إلى من ضيعَ الصلاة وأتبعَ الشهوات.
إلى المنافقين والزناة.
إلى الظلمةِ والبغاة.
إلى من طغى وآثر الحياة الدنيا.
إلى المغتابينَ والنمامينَ والحاسدين وأكلة الربا.
إلى من ألهاهم التكاثرَ فنسوا بعثرةَ المقابر وتحصيلَ من في السرائر.
إلى من أضنى عينيه بمشاهدةِ المسلسلات واستقبالِ القاذورات.
إلى من طربت أذنُه باستماعِ الأغنيات.
إلى من شغلته أمواله المحرمة والشركات.
إلى من أعمى الهوى بصرَه وأصم سمعه فكانَ حياً وهو في عدادِ الأموات.
إلى الراشين والمرتشين وأهلِ السكرِ والمخدرات.
إلى المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب.
إلى الكاسيات العاريات.
إلى العصاةِ جميعاً.
من الموتِ والقبرِ والحسابِ أين المفر، أين المفر؟
( كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ).
( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ).
عباد الله: آن الأوان أن نعلنها توبة إلى الله باللسان والجنان.
اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد.
اللهم آتي نفوسنا تقواها.
اللهم زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولها. وأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأنصر عبادك الموحدين.
اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك.
اللهم ارحم سائلك ومؤملك لا منجى له ولا ملجئ إلا إليك.
اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.
اللهم فرج همهم ونفس كربهم وارفع درجتهم واخلفهم في أهلهم.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء.
يا سميع الدعاء
الله ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنوا عبيدك بنو إمائك احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم، الله زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم أنت أرحم بهم وأنت أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(143/5)
أين نحن من التسليم لله سبحانه وتعالى؟
إعداد/ فهد اليحيي
من تأمل كتاب الله تعالى ألفى آياته لا تفتأ تذكّره بالتسليم لله جل وعلا وتمام الانقياد له.
بل يتأكد المعنى بأن إيمان العبد لا يتحقق إلا بذلك التسليم والانقياد.
ففي سورة البقرة، يقول الله سبحانه: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة: 112].
يقول الشنقيطي في أضواء البيان (1/312): معنى إسلام وجهه لله إطاعته وإذعانه وانقياده لله تعالى بامتثال أمره واجتناب نهيه في حال كونه محسنًا، أي: مخلصًا عمله لله لا يشرك فيه به شيئًا، مراقبًا فيه لله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فالله تعالى يراه، والعرب تطلق إسلام الوجه وتريد به الإذعان والانقياد التام. اهـ.
وقد ذكر الله سبحانه إسلام الوجه له في أكثر من آية، منها قوله تعالى: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا [النساء: 125].
وقوله تعالى: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور [لقمان: 22].
ونفى الله الإيمان إلا بهذا التسليم التام، فقال جل وعلا: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [النساء: 65].
وهذا نفي عظيم مؤكد بعدة مؤكدات: القسم بنفسه المقدسة، واشتراط ألا يبقى في النفس من حكم الله أدنى حرج (نكرة في سياق النفي فهي من صيغ العموم)، ثم تأكيد التسليم بالمصدر.
وقد ذكر حال من يتلكأ في الأخذ بما أمر الله به فقال في سورة النور: وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون [النور: 48].
قال الطبري في تفسيره (18/155): وإذا دُعِيَ هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله ليُحْكَم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم الله إذا فريق منهم معرضون عن قبول الحق والرضا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . اهـ.
ثم بين الله ما في قلوبهم من الهوى فقال: وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، ثم أنكر عليهم أشد الإنكار: أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون [النور: 50].
ثم أعقب ذلك بحال من يقابلهم وهم المؤمنون: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون [النور: 51].
وهذا التقسيم في الآيات يحصر الحال حيال أوامر الله تعالى في حالين فقط، فمن لم يكن كحال المؤمنين فلا مناص من وقوعه في زمرة المنافقين.
إن التسليم والإذعان والانقياد الذي يؤكده القرآن قد ضعف لدى كثير من المسلمين، وإليك صورًا واقعية لهذا الضعف:
1- عرض قضايا من الإسلام للحوار والمناقشة مع كونها من الأصول والثوابت، والمؤسف أن تكون الأطراف المتحاورة تنتسب إلى الإسلام والأمثلة من القنوات ومواقع الإنترنت لا تخفى.
2- استبدال المرجعية الشرعية بالمرجعية العقلية لدى البعض بحيث تجد المتحدث أو المتلقي لا يتردد في عرض الفتوى أو الحكم الشرعي على عقله دون مراعاة لما أمر الله به من التسليم ولقوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [النحل: 43)).
3- التردد في الأخذ بالحكم الشرعي، وتلمس الأعذار للتخلي عنه أو الأخذ الصوري أو الناقص، ويدخل في ذلك تتبع الفتاوى المبيحة أو «تتبع الرخص».
4- ربما نسمع من البعض مقولة: «لا تقحموا الدين في كل شيء». وهذه مقولة خطيرة تنافي حقيقة الإسلام والتسليم له.
هذه المقولة قد نسمعها لفظًا وقد نلمسها واقعًا من فئات من الناس حين لا يرون الحاجة إلى السؤال عن حكم ما يفعلون لأنه- حسب اعتقادهم- لا صلة له بالدين فربما اعتقد بعضهم أو قال: هذا شأن طبي أو اقتصادي أو إعلامي أو سياسي وليس شأنًا دينيًا!!
ولكن على هؤلاء أن يسترجعوا ما تقتضيه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن مقتضاها هو الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والانقياد والتسليم وذلك في كل أمر دقيق أو جليل فهذا الدين شامل لكل شئون الحياة ولا يشذ عن ذلك شيء.
فما من فعل يقوم به الإنسان- أي فعل كان منفردًا أو مشتركًا- إلا وله في شرع الله حكم إما بالأمر به أو المنع منه أو الإذن به، والأمر به يشمل إيجابه أو استحبابه والمنع منه يشمل تحريمه أو كراهته والإذن به دون أمرٍ به أو منعٍ هو الإباحة.
والبعض يظن أن سكوت الشارع عن الحكم معناه عدم وجود الحكم الشرعي له، وهذا مجانب للصواب، إذ السكوت له عند العلماء أحوال، ولكل حال حكمها، وإنما يحكم بذلك علماء الشريعة دون غيرهم، وحتى لو اعتبرنا السكوت إباحة كما هي القاعدة الشرعية في جل الأحوال؛ فإنما هو حكم شرعي نتلقاه من الشرع وحده ويستنبطه حملته.
ولذا فمن اعتقد أو ظن أن من الأمور ما لا يدخله الدين كما يعبر بعضهم فقد اعتقد باطلاً وتقلد أمرًا خطيرًا.(144/1)
كيف ذلك والله عز وجل يقول: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام: 162- 163]، فكل حركة وسكنة أمر الله أن تكون له ولا يقصد بها إلا وجهه.
ويقول سبحانه: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [النحل: 89]، قال مجاهد وغيره: لكل شيء أمروا به أو نهوا عنه.
وقال صلى الله عليه وسلم : «تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك». رواه أحمد وابن ماجه عن العرباض بن سارية.
وقال أبو ذر: توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علمًا». أخرجه أحمد.
ولما سئل سلمان الفارسي رضي الله عنه: قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، أو أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي برجيع أو بعظم». الحديث أخرجه مسلم.
ومعنى الإسلام هو الاستسلام لله والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك والبراءة من أهله، فالمسلم إذًا هو الذي لا يتقدم إلى أمر حتى يعلم حكم الله فيه فيقدم على بصيرة إن كان مأذونًا فيه أقدم وإن كان ممنوعًا منه أحجم، أما من لا يبالي وإنما همه أن يحقق ما يريد فهذا قد ناقض ما يتفوّه به من الشهادتين وما يدعيه من انتسابه لهذا الدين وأعظم منه خطرًا من إذا أخبر بحكم الله أعرض أو ادعى أن هذا لا دخل للدين فيه والعياذ بالله.
وحين يعلم المسلم حكم الله تعالى فليس له إلا الانقياد والتسليم، قال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا [الأحزاب: 36].
فنفى الله اختيار العبد وتقدمه بين يدي الله في الشرعيات كما ليس له ذلك في الكونيات كما في قوله سبحانه: وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون [القصص: 68]، وقال سبحانه: (((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ << [الأنفال: 24].
وحذر الله من مخالفة أمره فقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [النور: 63].
وتقدم ذكر آية النساء: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [النساء: 65].
والتسليم يقتضي الأخذ بالمأمورات دون تفريق أو تبعيض وتجزئة، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين [البقرة: 208].
قال السعدي في تفسيره 1/94: في السلم كافة أي في جميع شرائع الدين ولا يتركوا منها شيئًا وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه إن وافق الأمر المشروع هواه فعله وإن خالفه تركه، بل الواجب أن يكون الهوى تبعًا للدين وأن يفعل كل ما يقدر عليه من أفعال الخير، وما يعجز عنه يلتزمه وينويه فيدركه بنيته، ولما كان الدخول في السلم كافة لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: ولا تتبعوا خطوات الشيطان. اهـ. وانظر تفسير الطبري 2/322.
وقال سبحانه: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون [البقرة: 85].(144/2)
أيها العاصي تذكر
إعداد/ صلاح نجيب الدق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن المعاصي هي الداء العُضال، الذي يفتك بالإنسان، فيجعله يخسر دنياه وآخرته، ولذا يجب على كل منا أن يقف مع نفسه وقفة حساب صادقة، وأن الآثار السيئة للمعاصي في الدنيا والآخرة، وبين يديك أخي الكريم وقفات موجزة علينا أن نتذكرها قبل الإقدام على المعصية:
1- تذكر أن الله يراك ويسمعك حيثما كنت:
قال تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم [المجادلة: 7].
روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى آخر الآية. [صحيح: مسند أحمد جـ40/228]
وقال سبحانه: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [غافر: 19].
سئل الجنيد- رحمه الله تعالى-: بما يُستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى من تنظره.
[تحقيق كلمة الإخلاص ص41]
2- تذكر قبل المعصية أن لله ملائكة تكتب أقوالك وأفعالك:
قال تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا [آل عمران: 30].
وقال سبحانه: ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [الكهف: 49].
وقال سبحانه: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [الزخرف: 80].
وقال جل شأنه: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق: 18]، وقال سبحانه: إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [الجاثية: 29].
3- تذكر أن المعصية هي التي أخرجت آدم وزوجه من الجنة:
قال تعالى: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (36) فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم [البقرة: 35- 37].
وقال سبحانه: وعصى آدم ربه فغوى (121) ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [طه: 121، 122].
4- تذكر قبل المعصية الموت وسكراته:
قال تعالى: وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد [ق: 9]. وقال سبحانه: كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [آل عمران: 185].
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بين يديه رَكوة (وعاء) فيها ماء، فجعل يُدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه وهو يقول: «لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات».
[البخاري: ح6510]
5- تذكر أن المعاصي هي سبب عذاب القبر:
روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرَّ بقبرين، فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة».
[البخاري حديث 1378، ومسلم حديث 1980]
6- تذكر قبل المعصية أن جوارحك ستشهد عليك يوم القيامة:
قال تعالى: ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19) حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (20) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون [فصلت: 19- 21].
وقال سبحانه: اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [يس: 65].
روى مسلم عن أنس قال: كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فضحك، فقلنا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من مخاطبة العبد رَبَّهُ، يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم، قال: يقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيزُ على نفسي إلا شاهدًا مني. قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطفي، فتنطق بأعماله، ثم يُخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لكنَّ وسحقًا فعنكن كنت أناضل». (أي أدافع). [مسلم حديث 2969]
7- تذكر الحسرة والندامة على ارتكاب المعاصي عند الموت ويوم القيامة:
قال تعالى: حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون (99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون [المؤمنون: 99، 100].(145/1)
وقال سبحانه: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا (27) يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا (28) لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا [الفرقان: 27- 29].
وقال جلَّ شأنه: كلا إذا دكت الأرض دكا دكا (21) وجاء ربك والملك صفا صفا (22) وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى (23) يقول يا ليتني قدمت لحياتي (24) فيومئذ لا يعذب عذابه أحد [الفجر: 21- 52].
8- تذكر قبل المعصية أن المعاصي سبب نزول لعنة الله على العباد وزوال نعمه عنهم:
قال سبحانه: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79) ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون [المائدة:78-80].
وقال جل شأنه: لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (15) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل (16) ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور [سبأ:15-17].
وقال تعالى: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [النحل: 122].
9- تذكر أن المعاصي هي سبب طَرْد أصحابها عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم :
روى البخاري عن سهل بن سعد وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني فرطكم على الحوض: مَن مَرَّ عليَّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبدًا، ليردنَّ عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحالُ بيني وبينهم فأقول: إنهم مني، فيقالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحقًا لمن غير بعدي».
[البخاري: 6583، 6584]
10- تذكر قبل المعصية أنها ستكون فضيحة أمام جميع الخلائق:
روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إن الغادر ينصبُ له لواء يوم القيامة فيقالُ: هذه غدرة فلان ابن فلان.
[البخاري: 6178]
11- تذكر قبل المعصية أن ما يصيبك من العرق يوم القيامة يكون بمقدار ما ترتكبه من المعاصي:
روى الترمذي عن المقداد بن الأسود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة أُدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو اثنين فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حُقويه، ومنهم من يُلجمه إلجامًا، قال المقداد: فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يشير بيده إلى فيه.
[صحيح الترمذي للألباني: 1973]
21- تذكر أن المعاصي تُسَوّدُ وجوه أصحابها يوم القيامة:
قال تعالى: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه [آل عمران: 106]، قال ابن عباس يوم القيامة تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. [تفسير ابن كثير 3/139]
وقال سبحانه: وجوه يومئذ عليها غبرة (40) ترهقها قترة [عبس: 40، 41]. قال ابن عباس: يغشاها سواد الوجوه. [تفسير ابن كثير 14/256].
31- تذكر قبل المعصية أن الشيطان سيتبرأ من وساوسه لك بالمعاصي:
قال تعالى: وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم [إبراهيم: 22].
41- تذكر قبل المعصية وقوفك وحدك للحساب بين يدي الله تعالى:
عن عدي بن حاتم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه تُرجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة». [متفق عليه].
والحمد لله رب العالمين(145/2)
أيها العاصي ويحك 000 أقلع
أحبتي : اسمحوا لي أن أرجع بأسماعكم إلى الوراء آلاف السنين ، ولكن آمل أن يكون هذا الرجوع فيه استصحاب لعيني البصيرة .
إنها اللحظات التي تسبق وجود الإنسان في هذه الدنيا .
انظر 00
انظر 00 هذا راكع وهذا ساجد .
الكون كله يوحد الله 000 كله طائع لمولاه .
اسمع زجل التسبيح يسمع في كل الأرجاء .
تسبحه نغمات الطيور * * * يسبحه الظل تحت الشجر
يسبحه النبع بين المروج * * * وبين الفروع وبين الثمر
يسبحه النور بين الغصون * * * يسبحه المساء وضوء القمر
الله
الشمس والبدر من أنوار حكمته * * * والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش مجده * * * والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت الصخور الصم قدسه * * * والنحل يهتف حمدا في خلاياه
الله
" وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " .
أحبتي :
حدث أذهل البشرية 00 هذا آدم قد خلقه الله من طين ثم أمر الله الملائكة بالسجود له إذا نفخ فيه الروح " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين " .
قبحك الله يا إبليس لقد عصيت ملك الملوك وتكبرت على من خلقك ولم تك شيئا فحق عليه اللعنة إلى يوم الدين .
إنها المعصية وعلى رأسها الكفر بالله .
ولكن منذ ذلك اليوم تسمع في دنيانا هذه عن معاص ٍ في حق الملك ما يشيب من هوله الولدان .
آدم عليه السلام يسكنه ربه الجنة فيوسوس إليه اللعين إبليس فيقع آدم في المعصية .
نعم عصى آدم ثم ماذا ، " وعصى آدم ربه فغوى " إنها الغواية بعيدا عن الله ، ولكن آدم الذي اجتباه ربه تلقى كلمات من ربه فتاب عليه وهدى .
أخي :
عينا البصيرة التي حدثتك عنها قبيل قليل تظهر خروج آدم من الجنة بمعصية واحدة ، فيا ويح من هو خارجها ثم يوالي المعصية تلو المعصية .
من نعصى ؟ ثم ليت شعري من نعصى ؟ !
إنه
الله
الذي خلقنا من العدم وأسبغ علينا وافر النعم .
أيها العاصي
ألا تستحي ؟ !!!
حياتك كلها هبة من ؟ نَفَسَك من أعطاك إياه ؟ و كم و كم تعرضنا للهلاك فحفظنا والفضل له ، و نعمه تغمرنا والفضل له .
ألا استحى المرء من كثرة نعمه علينا ؟ .
هب البعث لم تأتنا رسله * * * وجاحمة النار لم توقدِ
أليس من الواجب المستحق * * * حياء العباد من المنعم
الله
فيا عجبا كيف يعصى الإ له أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية * * * تدل على أنه واحد
فإن لم يقنع الترغيب فإن نذر الله إلينا تترى :
" إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد * وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد "
ولو شاء ربك لما أبقى على ظهرها من دابة " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة "
وإلا فأين عاد الشداد الذين جابوا الصخر بالواد ؟ أين فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ؟ أين ثمود؟ أين القياصرة ؟ أين الأكاسره ؟ .
والجواب : " فلما آسفونا انتقمنا منهم أجمعين " أي فلما أغضبونا انتقمنا منهم ".
" فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد " .
ولماذا نقلع ؟ أخي إما أنك تستشعر حرارة المعصية أو أنك لا تشعر بها .
، فإن كنت لا تشعر فويحك أسرع لأنه الران ، وهل تدري ما الران ؟
طبقة تغطي القلب لكثرة المعاصي فلا يشعر بعدها بحرارة الذنب .
قال تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " .
أي أنه حصل هذا الران بسبب كسب الذنوب والمعاصي .
رأيت الذنوب تميت القلوب * * * وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب * * * وخير لنفسك عصيانها
، فهل يعقل أنك وصلت إلى هذا ؟
فإن كان ذلك كذلك فأسرع وأقلع وعد وأنب .
، وإن كنت تستشعر فهذا أوجب لأن تسارع إلى الإقلاع .
إنها المعصية :
تظلم الوجه : قال عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما : إن للسيئة سوادا ً في الوجه .
وتضيق الصدر : " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ".
وتظلم القلب وتميته :
رأيت الذنوب تميت القلوب * * * وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب * * * وخير لنفسك عصيانها
وتحرم نور العلم :
قال الإمام الشافعي :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي * * * فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور * * * ونور الله لا يهدى لعاصي
وتحرم الرزق : روى أحمد من حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه .
ناهيكم يا عباد الله بما يحل بالبلاد والعباد من قحط وجدب وانتشار للأمراض والأوبئة وما يحل من زلازل مدمرة وبراكين حارقة ورياح وأعاصير عاصفة مع الابتلاء بجور السلطان وتسلط الأعداء .
وفي ظل هذا الفساد العام يموت السمك في الماء والطيور في الهواء .
يقول أبو هريرة رضي الله عنه : والذي نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها بظلم الظالم .(146/1)
إنه فساد عام في الدنيا كلها لا يحلو للحياة معه طعم ، وصدق الله إذ يقول : " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون " .
فإلى متى يا عباد الله ؟ !
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا وأمددنا بأموال وبنين واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهارا .
عباد الله :
كل هذا هين أمام ما ينتظر في الدار الآخرة من عذاب أليم وخزي مقيم الغمسة الواحدة فيه تنسي نعيم الدنيا كله .
" ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء 0000 يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار * ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب ".
فإلى متى يا عباد الله ؟ !
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا وأمددنا بأموال وبنين واجعل لنا جنات واجعل لنا أنهارا .
أحبتي :
إن من نعم الله علينا جميعا أن فتح لنا بابا للتوبة لا يغلق إلى يوم القيامة ونادى علينا جميعا ، فيا ترى لماذا يدعونا ؟
" يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى " .
سبحان الله ما أحلم الله المعصية في حقه ثم ينادي علينا :
" وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " .
فاللهم توبة تمحوا بها ما سلف وما كان .
وصلي وسلم يا ربي على خير تواب أواب نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وكل أواب .
كتبها من يرجو عفو ربه /
أيمن سامي
المشرف العام على موقع الفقه
http://www.alfeqh.com(146/2)
أيها المبتلى.. لست وحدك على الدرب!!.
شريف رمضان السكندري
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً.
أما بعد....
أحبائي الكرام/
في هذا المقال نتحدث عن أشد مصيبة ابتليت بها هذه الأمة... لنأخذ منها الفوائد والدروس والعبر،
ونسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
(المصيبة العظمى)
فو الله إني لمتحير كيف أدخل إلى هذا الموضوع، ومن أنا أمام هذا الموضوع المدهش المحير المبكي؟! إنه موضوع وفاته عليه الصلاة والسلام، إنه موضوع انتقاله إلى الرفيق الأعلى عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن لا جدوى إلا بحديث يذكرنا بذاك الحدث الجلل، وكل حدث بعد وفاته هين سهل بسيط يسير.
وقد اخترت هذا الموضوع تحديدًا لشدته على المسلم الحق، ومن ثم يهون كل شيء وتسهل كل مصيبة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
ورحم الله امرأة قالوا لها بأن زوجها وابنها وأخوها قد قتلوا فلم تأبه لذلك وبادرت قائلة: ماذا صنع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: هو بخير. فقالت: لا حتى أراه. فلما رأته قالت: كل المصائب بعدك جلل يا رسول الله. (جلل: تعني هينة أو يسيرة)
ولكن الموت نهاية كل حي، فقد انفرد سبحانه وتعالى بالبقاء وكتب على جميع المخلوقات الفناء فقال الله عز وجل:(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن:26] وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). [آل عمران:185]
ولم يستثن أحدًا حتى أكرم الخلق –صلى الله عليه وسلم- فقد قال الله عز وجل: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30] ويقول جل ذكره: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
فليبن أهل البغي والعدوان بروجاً من التحسين إن شاءوا، فو الله ليموتن ولو كانوا في بروج مشيدة، والموت وما أدراك ما الموت؟!
إنه مصيبة كما سماه ربنا تبارك وتعالى: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة:106].
ولكن ليست كل المصائب كفقده صلى الله عليه وسلم.
(طلائع التوديع)
ولما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله عليه وسلم، وتتضح بعباراته وأفعاله .
إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع : ( إني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً ) ، وقال وهو عند جمرة العقبة : ( خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا ) ، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه .
وفي أوائل صفر سنة 11 هـ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلي على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال : ( إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها ) .
وخرج ليلة ـ في منتصفها ـ إلى البَقِيع، فاستغفر لهم، وقال : ( السلام عليكم يا أهل المقابر، لِيَهْنَ لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، والآخرة شر من الأولي ) ، وبشرهم قائلاً : ( إنا بكم للاحقون ) .
(مرض النبي صلى الله عليه و سلم)
ويوم الخميس، وما أدراك ما يوم الخميس؟!
يوم زار المرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر هذا اليوم شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: بأبي هو وأمي زاره المرض يوم الخميس. نعم، بأبي هو وأمي، وليت ما أصابه أصابنا، فإن مصابه رزية على كل مسلم، ولكن رفعاً لدرجاته وتعظيماً له عند مولاه.
ذكر ابن كثير بسند جيد قال: كان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يقلب الحصى في المسجد الحرام ويقول: [يوم الخميس، وما يوم الخميس -وهو يبكي- يوم زار المرض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم].
فديناك من حب وإن زادنا كرباً فإنك كنت الشمس في الشرق أو غربًا
وكان الصحابة يفدونه صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد وعاد وهو معصوب الرأس، فتقول عائشة - وقد فجعت رضي الله عنها وأرضاها-: {وارأساه!{ فقال صلى الله وسلم: (بل أنا وا رأساه) وصدق صلى الله عليه وسلم، فإن صداع الموت قد وصل إلى رأسه الشريف.(147/1)
انظروا عباد الله هذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام عند مرض موته، وهو أكرم خلق الله على الله، فما بالنا نحن، وفينا ما فينا، الله المستعان.
ثم لما أحس صلى الله عليه وسلم بدنو الأجل كما عند البخاري في الجنائز من حديث عقبة بن عامر قال: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما وصل الشهداء في أحد، فسلَّم عليهم سلام المودع، ثم قال: (يا أيها الناس: والله ما أخاف عليكم الفقر، ولكن أخاف أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)}
وصدق عليه الصلاة والسلام، فو الله ما قطعت أعناقنا إلا الدنيا، وما أفسد ديننا إلا الدنيا، وما ذهب بأخلاقنا وآدابنا إلا الدنيا...
و عند أحمد في المسند بسند حسن عن أبي مويهبة قال: قال لي صلى الله عليه وسلم في الليل الدامس: (يا أبا مويهبة! أسرج لي دابتي)، فأسرجت له دابته عليه الصلاة والسلام، فركبها فذهبت معه حتى أتى الشهداء في أحد، فسلَّم عليهم سلام المودع، وقال: (أنا شهيد عليكم أنكم عند الله شهداء)، ثم قال: (يا أبا مويهبة! خيرت بين البقاء وأعطى مفاتيح خزائن الدنيا وبين لقاء الرفيق الأعلى)، قال: أبو مويهبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله! خذ مفاتيح الدنيا، وأطل عمرك في الدنيا ما استطعت، ثم اختر الرفيق الأعلى، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)}.
انظروا إليه عليه الصلاة والسلام وهو في مرض موته يعلم أمته الدروس الوجيزة المفيدة، وخلاصة تلك الحياة العامرة في الدعوة لدين الله تبارك وتعالى والتي يصل بها العبد إلى أعلى المراتب الإيمانية ومن هذه الدروس:-
1-عدم الركون إلى الدنيا والتنافس عليها لأنها أهلكت من قبلنا.
2-أن من يحب الله جل وعز يكون دائما في اشتياق إلى لقائه، و(من أحب لقاء الله أحب الله لقائه).
3-المؤمن لا يفتر أبدًا عن حمل هم الدعوة حتى ولو كان على في مرض الموت.
(على فراش الموت)
ووقع صلى الله عليه وسلم على فراش الموت، وعصب رأسه، وأخذت الحمى تنفضه عليه الصلاة والسلام، فكما جاء عند الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا حزن ولا مرض، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه).
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في كتاب الطب والمرض للبخاري: (إن المؤمن كالخامة من الزرع، لا تزال الريح تفيئها يمنة ويسرة، وأما المنافق كالأرزة، لا تزال قائمة منتصبة حتى يكون انجعافها مرة واحدة).
المؤمن يحم، المؤمن يصاب ويمرض ويجوع، لكن المنافق يسمن ويترك حتى تأتيه قاصمة الظهر مرة واحدة.
ولا ذنوب له صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكن رفعت درجاته عليه الصلاة والسلام، جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:{دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك -أي: في مرض موته- فمسسته بيدي- بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- فقلت:يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً. قال: نعم. إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك بأن لك الأجر مرتين يا رسول الله. قال: نعم. ثم قال: ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها}.
فيا من ابتلاك الله بالمرض لا تيأس ولا تحزن واصبر واحتسب فإن هذا خير لك إذا صبرت واحتسبت ورضيت بقضاء الله تبارك وتعالي.
فقد قال عليه الصلاة والسلام (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له). رواه مسلم.
فلا تحزن عبد الله إذا أصابك مرض وانظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يتألم كما يتألم الرجلان وهو من هو، ورغم ذلك يبشرنا أيضًا وهو على فراش الموت فيقول:(ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها)
الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر.
ما أجملها من بشرى..
(قبل الوفاة بخمسة أيام)
ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال : ( هريقوا علي سبع قِرَب من آبار شتي، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم ) ، فأقعدوه في مِخَضَبٍ، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول : ( حسبكم، حسبكم ) .
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة حتى جلس على المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال : ( أيها الناس، إلي ) ، فثابوا إليه، فقال ـ فيما قال : ( لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ـ وفي رواية : ( قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ـ وقال : ( لا تتخذوا قبري وثناً يعبد ) .(147/2)
خرج بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام على الناس، يقول ابن عباس كما جاء من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة في الصحيحين: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، وهو عاصب على رأسه بعصابة دسمة، -وقيل: سوداء- وهو بين علي والعباس، على كتفيهما رضوان الله عليهما، وأقدامه من المرض تخط في الأرض، فأجلساه على المنبر، فلما رأى الناس قال: (يا أيها الناس: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. زاد البيهقي كما قال ابن كثير: يا أيها الناس: إني ملاقٍ ربي، وسوف أخبره بما أجبتموني به، يا أيها الناس: من سببته أو شتمته أو أخذت من ماله فليقتص مني الآن قبل ألا يكون درهماً ولا ديناراً، قال أنس: فنظرت إلى الناس وكل واضع رأسه بين رجليه من البكاء، ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس: اللهم من سببته أو شتمته أو أخذت من ماله أو ضربته فاجعلها رحمة عندك} وعند أبي داود: {إني أخذت عند ربي عهداً أيما مسلم شتمته أو سببته أو ضربته، أن يجعلها كفارة له ورحمة} فاستبشر الناس بهذا، وأخذوا يقولون: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! وعاد إلى فراشه.
وعرض نفسه للقصاص قائلاً : ( من كنت جلدت له ظَهْرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرْضاً فهذا عرضي فليستقد منه ) .
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولي في الشحناء وغيرها . فقال رجل : إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال : ( أعطه يا فضل ) ، ثم أوصي بالأنصار قائلاً :
( أوصيكم بالأنصار، فإنهم كِرْشِي وعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم ) ، وفي رواية أنه قال : ( إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم ) .
ثم قال : ( إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده ) . قال أبو سعيد الخدري : فبكي أبو بكر . قال : فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس : انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول : فديناك بآبائنا وأمهاتنا . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا اتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر ) .
وانظر إلى حرصه عليه الصلاة والسلام من خلال تلك الوصايا الغالية التي أسداها لأصحابه الكرام وللأمة من بعدهم وأيضا سماحته، وإرساء دعائم العقيدة الإسلامية الصحيحة وهو يودع أمته عليه الصلاة والسلام.
(قبل الوفاة بأربعة أيام)
ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال ـ وقد اشتد به الوجع : ( هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ) ـ وفي البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر : قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قوموا عني ) .
وأوصى ذلك اليوم بثلاث : أوصي بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصي بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي . ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي : ( الصلاة وما ملكت أيمانكم ) .
والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم ـ يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلي بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً .
وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد . قالت عائشة : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصَلَّى الناس ؟ ) قلنا : لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك . قال : ( ضعوا لي ماء في المِخْضَب ) ، ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه . ثم أفاق، فقال : ( أصلى الناس ؟ ) ـ ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولي من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء ـ فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلي أبو بكر تلك الأيام 17 صلاة في حياته صلى الله عليه وسلم، وهي صلاة العشاء من يوم الخميس، وصلاة الفجر من يوم الاثنين، وخمس عشرة صلاة فيما بينها .
وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر حتى لا يتشاءم به الناس، فأبي وقال : ( إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس).(147/3)
وفيه هذا أيضًا حرصه عليه الصلاة والسلام من خلال تلك الوصايا الغالية التي أسداها لأصحابه الكرام وللأمة من بعدهم وأيضا سماحته، وإرساء دعائم العقيدة الإسلامية الصحيحة وهو يودع أمته عليه الصلاة والسلام.
(ثلاثة أيام قبل الوفاة)
قبل ثلاثة أيام
قال جابر : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث وهو يقول : ( ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) .
ما أجملها من وصية وهي مصداق الحديث القدسي وفيه يقول الله تعالى (أنا عند ظن عبدي بي).
قبل يوم أو يومين
ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بألا يتأخر، قال : ( أجلساني إلى جنبه ) ، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير .
قبل يوم
وقبل يوم من الوفاة ـ يوم الأحد ـ أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بستة أو سبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل أرسلت عائشة بمصباحها امرأة من النساء وقالت : أقطري لنا في مصباحنا من عُكَّتِك السمن، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير .
وفي هذا جواز المعاملة مع أهل الكتاب.
(آخر يوم من الحياة)
روي أنس بن مالك : أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين ـ وأبو بكر يصلي بهم ـ لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك - يا لقلبي ويا لشعري ما لهذا التبسم، وما لهذا التعجب! إنه -إن شاء الله- تبسم لأنه رأى الصفوف منتظمة، ورأى الدعوة حية، ورأى الرسالة منتصرة، ورأى لا إله إلا الله مرتفعة، ورأى أبا بكر يصلي بالناس، ورأى دعوة التوحيد قد ضربت بجرانها في الجزيرة، فحق له أن يتبسم-، فنكص أبو بكر على عقبيه؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة . فقال أنس : وهَمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فَرَحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخي الستر .
ثم لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى .
ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسَارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة : فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت : سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت .
وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين .
ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه .
فقالت : وا كرب أباه . فقال لها : ( ليس على أبيك كرب بعد اليوم ) .
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصي بهما خيراً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن .
وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول : ( يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَرِي من ذلك السم ) .
وقد طرح خَمِيصَة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك ـ وكان هذا آخر ما تكلم وأوصي به الناس : ( لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ يحذر ما صنعوا ـ لا يبقين دينان بأرض العرب ) .
وأوصى الناس فقال : ( الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم ) ، كرر ذلك مراراً .
فما أروعها من وصايا وما أبعد المسلمين عنها في أيامنا هذه.
(الاحتضار)
وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول : إن من نعم الله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سَحْرِي ونَحْرِي، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته .- ويا لسعادة الزوجة بزوجها! ويا لسعادة الحبيبة بحبيبها! ويا لفرحتها بمؤنسها وبرجلها في آخر عمره وهو يلصق رأسه بحجرها رضي الله عنها وأرضاها!- و دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ـ وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم . فتناولته فاشتد عليه، وقلت : ألينه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم . فلينته، فأمره ـ وفي رواية أنه استن به كأحسن ما كان مستنا ـ -، ليلقى الله طيباً، فإن حياته طيبة، ووفاته طيبة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي). [الفجر:27-30]. - وبين يديه رَكْوَة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح به وجهه، يقول : ( لا إله إلا الله، إن للموت سكرات . . . ) الحديث .(147/4)
وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو أصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول : ( مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى . اللهم، الرفيق الأعلى ) .
كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى . إنا لله وإنا إليه راجعون .
وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ، وقد تم له صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام .
يوم توفاه الله إليه ليكرمه جزاء ما قدم للأمة، يوم قبضه الله، قال أنس: (ظننا أن القيامة قامت يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي مصيبة أكبر من مصيبة وفاته على الأمة؟! أي حدث وقع في تاريخ الإنسان يوم توفي خير إنسان وأفضل إنسان عليه الصلاة والسلام؟! ولكن نقول الآن وبعد الآن ويوم نلقى الرحمن: إنا لله وإنا إليه راجعون! (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). [البقرة:156-157].
(الفراق الأليم)
وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها .
وبقي جثمانه الشريف في غرفة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولكن ما هو حال الصحابة؟
فداً لك من يقصر عن فداك فلا ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى
وقف الصحابة في موقف لا يعلمه إلا الله، وفي دهشة لا يعلمها إلا الحي القيوم، كلهم يكذب الخبر، ولا يصدق إلا من أتاه اليقين..
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وقفوا حول مسجده صلى الله عليه وسلم، وأغلق بابه الشريف على جثمانه، وبقيت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تبكي مع النساء، أما السكك فقد امتلأت بالبكاء والعويل والنحيب، وأما عمر رضي الله عنه وأرضاه فوقف عند المنبر يسل سيف الإخلاص والصدق الذي نصر به دين الله، ويقول: يا أيها الناس: من كان يظن أن رسول الله قد مات، ضربت عنقه بهذا السيف.
قال أنس : ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولما مات قالت فاطمة : يا أبتاه، أجاب ربا دعاه . يا أبتاه، مَنْ جنة الفردوس مأواه . يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه .
أورد صاحب مجمع الزوائد عن عثمان رضي الله عنه وأرضاه، أن عمر مر به فسلم عليه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه السلام، فذهب عمر إلى أبي بكر فاشتكى عثمان وقال: سلمت عليه فلم يرد علي السلام، فاستدعاه أبو بكر، وقال: يا عثمان! سلَّم عليك أخوك عمر فلم ترد عليه السلام، فقال: يا خليفة رسول الله! والله ما علمت أنه سلَّم علي قال: لعلك داخلك ذهول أو دهش من وفاته صلى الله عليه وسلم قال: إي والله، فجلسوا يبكون].
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: قال أبو بكر لعمر رضي الله عنه وأرضاه: يا عمر! اذهب بنا إلى أم أيمن -هذا بعد وفاة رسول الله، وهي مولاة كانت مرضعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عجوز مسنة كان يزورها صلى الله عليه وسلم في حياته- قال: اذهب بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان صلى الله عليه وسلم يزورها.. يا للتواضع! يا للتمسك بالسنة! يا للحرص على الأثر! فذهبا رضوان الله عليهما، فلما وصلا إلى أم أيمن بكت، فقالا: ما يبكيك يا أم أيمن ؟
قالت: أبكي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: والله إني أعلم ذلك، ولكن أبكي على أن الوحي انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان رضوان الله عليهما.
(الثبات العظيم)
أما أبو بكر فكان غائباً في ضاحية من ضواحي المدينة في مزرعته، ما يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوفى في ذلك اليوم، بأبي هو وأمي! فسمع الخبر فأتى على فرسه، وقد ثبته الله يوم أن يثبت أهل طاعته، وقد سدده الله يوم أن يسدد أهل التوحيد.
فأتى بسكينة ووقار، كان رجل المواقف، ورجل الساعة، وكان اختياره صلى الله عليه وسلم موفقاً في إمامة أبي بكر، فأتى وإذا الناس لا يزدادون من البكاء إلا بكاء، ولا من العويل إلا عويلاً، ولا من النحيب إلا نحيباً، فقال: ماذا حدث؟ قالوا: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات رسول الله، أتدرون ماذا قال؟
قال: الله المستعان! الله المستعان نلقى بها الله، والله المستعان نعيش بها لله، والله المستعان نتقبل بها أقدار الله، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون!.(147/5)
إنها كلمة الصابرين حين يصابون بصدمات في الحياة، إنها كلمة الأخيار حينما تحل بهم الكوارث من أقدار الله وقضاء الله.
ثم دخل وشق الصفوف في سكينة على فرس له، وبيده عصا، ويشق الصفوف بسكينة ووقار، حتى وصل إلى البيت ففتح الباب، ثم أتى إليه صلى الله عليه وسلم، فكشف الغطاء عن وجهه، ثم قبله وبكى ودمعت عيناه الشريفتان على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: [بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً، أما الموتة التي كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً، والله لا تموت بعدها أبداً، والله لا تموت بعدها أبدا ً].
ثم خرج رضي الله عنه وأرضاه إلى الناس وعصاه بيده، فأسكتهم، وقال لعمر: يا بن الخطاب! اسكت، فلما سكت الناس، وهم ينظرون إلى القائد الجديد الملهم، إلى هذا الإمام الموفق، إلى هذا الخليفة الراشد، وهو يتخطى الصفوف حتى صعد المنبر، فيستفتح خطابه بحمد الله والثناء على الله، فالمنة لله والحمد لله، والأمر لله من قبل ومن بعد، ثم يقول: [يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). [آل عمران:144] ]] فكأن الناس سمعوها لأول مرة، وكأنها ما مرت على أذهانهم، ثم عاد رضي الله عنه وأرضاه.
فلله دره ما أثبته، فليكن قدوة لكل من أصابته مصيبة أيا كانت.
(التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض)
ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، قال علي رضي الله عنه: اختلفنا في كيفية تغسيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقي علينا النعاس، ونحن بالماء حوله صلى الله عليه وسلم، حتى نمنا وإن لحية أحدنا إلى صدره، فسمعنا هاتفاً يقول: {اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق ثيابه} وهذا سند صحيح، فغسلوه من فوق ثيابه، طيباً مباركاً مهدياً، عليه السلام يوم ولد، وعليه السلام يوم بعث، وعليه السلام يوم مات، وعليه السلام يوم يبعث حياً.
وكان القائمون بالغسل : العباس وعليّا، والفضل وقُثَم ابني العباس، وشُقْرَان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسامة بن زيد، وأوس بن خَوْلي، فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلى يغسله، وأوس أسنده إلى صدره .
وقد غسل ثلاث غسلات بماء وسِدْر، وغسل من بئر يقال لها : الغَرْس لسعد بن خَيْثَمَة بقُبَاء وكان يشرب منها .
ثم كفنوه في ثلاثة أثواب يمانية بيض سَحُولِيَّة من كُرْسُف، ليس فيها قميص ولا عمامة . أدرجوه فيها إدراجًا .
واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر : إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض ) ، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحداً .
ودخل الناس الحجرة أرسالاً، عشرة فعشرة، يصلون على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أفذاذاً، لا يؤمهم أحد، وصلي عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم الصبيان، ثم النساء، أو النساء ثم الصبيان .
ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، ومعظم ليلة الأربعاء، قالت عائشة : ما علمنا بدفن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المسَاحِي من جوف الليل ـ وفي رواية : من آخر الليل ـ ليلة الأربعاء .
نعم.. دفن و وضع في قبره عليه الصلاة والسلام، ورد عليه التراب، ودفن كما يدفن الإنسان بعدما صلى عليه الناس زرافات ووحداناً.
ذكر الشوكاني في نيل الأوطار: أن من صلى عليه صلى الله عليه وسلم يبلغون سبعة وثلاثين ألفاً من الرجال والنساء، من المهاجرين والأنصار، ما كان لهم إمام يصلي بهم، بل صلى كل إنسان منهم على حدة، وكان في الصف الأول أبو بكر وعمر، حفظ من دعائهما رضي الله عنهما أنهما قالا: [صلى الله وسلم عليك يا رسول الله، نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حتى أتاك اليقين].
(التركة)
وهكذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مات وما خلَّف درهماً ولا ديناراً، ولا عقاراً ولا قصوراً ولا مناصب، وإنما ذهب كما أتى، ذهب سليم اليد، أبيض الوجه، طاهر السريرة، ولكن خلَّف ديناً خالداً وخلَّف رسالة، مات الداعية ولكن ما ماتت الدعوة، مات الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن ما ماتت الرسالة، مات البشير النذير، ولكن ما ماتت البشارة والنذارة، ترك لنا تراثاً أيما تراث، قرآناً حكيماً (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42] وسنة طاهرة للمعصوم فيها صلاح العبد في الدنيا والآخرة.(147/6)
وعادوا إلى تركته ولا تركة له.. فيا من جمع الأموال ولم يقدم ما ينفعه عند الواحد القهار! هذا خيرة خلق الله، وهذا صفوة عباد الله، ذهب والله ما تلوث منها بشيء، يمر عليه الشهر بعد الشهر ولا يوقد في بيته نار، ويمر عليه ثلاثة أيام وهو في جوعه صلى الله عليه وسلم، فالله المستعان..
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهي من الأكلات والأدم
صففت مائدة للروح مطعمها عذب من الوحي أو عذب من الكلم
ذهب عليه الصلاة والسلام وبقي بيته من طين، وبقيت بعض الدراهم ليست له، أنفقت في الصدقات وفي سبيل الله، وأتى أبو بكر فقال لقرابته ولبناته صلى الله عليه وسلم لما طلبوه الميراث، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنا لا نورث، ما تركناه صدقة"
وعند أحمد في المسند: "إنا لا نورث ما تركنا صدقة" فما ترك صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولكن ترك هذا الدين، اجتماعنا بهذه الوجوه الطيبة النيرة حسنة من حسنات، وهذه المساجد والمنابر حسنة من حسنات رسالته، وهذه الدعوة الخالدة والرسالة القائمة فضل من فضل الله ثم من فضله صلى الله عليه وسلم.
نعم. مضى إلى الله صلى الله عليه وسلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وحسبنا الله على كل ما يصيبنا!
فإنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا أيها الناس: من أصيب بمصيبة فليتعز بي، فإني عزاء لكل مسلم} إي والله.
وهذا إخواني الأعزاء هو غاية هذا الجزء المبارك من هذه السلسلة
(أيها المبتلى... لست وحدك على الدرب)
وإذا أتتك من الأمور بلية فاذكر مصابك بالنبي محمد
إذا مات ابنك فاعلم أن ابنك لا يكون أحب في قلبك إن كنت مؤمناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن مات أبوك أو أمك أو قريبك أو صفيك، فاعلم أنهم لا يعادلون ذرة في ميزان الحب مع حبه صلى الله عليه وسلم، تذكر أنه مات، وأنه صلى الله عليه وسلم عند ربه، يستشهده الله علينا هل بلغنا ما علينا؟ ويستشهده الله علينا هل سمعنا وأطعنا أم لا؟ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء:41].
(دروس وعبر من قصة وفاة سيد البشر)
وهكذا عباد الله كانت قصة وفاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقلنا بأننا ذكرناها في هذه السلسلة لغاية خاصة وهي كما ذكرنا من قبل.
إنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا أيها الناس: من أصيب بمصيبة فليتعز بي، فإني عزاء لكل مسلم}.
ولكن قصة وفاته عليه الصلاة والسلام اشتملت على فوائد غزيرة جليلة نذكر منها:-
1- أن الموت نهاية كل حي، ولو كان أحد أولى بالبقاء لكان رسول الله عليه الصلاة والسلام.
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لأمته حيهم وميتهم حتى وهو في نهاية حياته.
3- أنه عليه الصلاة والسلام كان يخشى على أمته أن يركنوا إلى الدنيا لذلك حذرهم من ذلك.
4- أن من يحب الله جل وعز يكون دائما في اشتياق إلى لقائه، و (من أحب لقاء الله أحب الله لقائه)
5- المؤمن لا يفتر أبدًا عن حمل هم الدعوة حتى ولو كان على في مرض الموت.
6- مرض المؤمن خير له، وتكفير لخطاياه، ومضاعفة لأجره.
7- أن مرض النبي عليه الصلاة والسلام لرفع درجته عليه الصلاة والسلام.
8- شديد حب الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام. وحرصهم على الاستفادة والاستزادة من تعاليمه ووصاياه عليه الصلاة والسلام.
9- أنه عليه الصلاة والسلام لا يتوانى ولا يتكاسل عن أداء واجبه الدعوي، فإذا سمحت له الفرصة ليقوم قام ولا يركن إلى الفراش.
10- حرص النبي عليه الصلاة والسلام على ترسيخ العقيدة، وتنبيه على مخالفة اليهود والنصارى، وعدم اتخاذ القبور مساجد وتشديده على ذلك.
11- حرصه صلى الله عليه وسلم على رد الأمانات إلى أهلها، وأداء حقوق العباد قبل ألا يكون درهم ولا دينار.
12- وصيته عليه الصلاة والسلام بالأنصار خيرا، لما لهم من فضل في الإسلام.
13- فقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وشدة حبه للنبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك حب النبي صلى الله عليه وسلم له وبيانه لفضله.
14- وصيته عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، و إجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم.
15- وصيته عليه الصلاة والسلام بألا يموتن مسلم إلا وهو يحسن الظن برب العالمين.
16- جواز المعاملة مع أهل الكتاب والاقتراض منهم مقابل رهان.
17- فرح النبي عليه الصلاة والسلام لرؤيته لدعوته حية قائمة على أصولها.
18- حبه عليه الصلاة والسلام لابنته وإسراره لها بأنه سيموت في مرضه هذا، وتبشيرها بأنه أول من سيلحق به من أهله، وبيان فضلها من أنها سيدة نساء العالمين.
19- حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمنا عائشة رضي الله عنها، وحبها له، وكذلك فرحها بأن الله توفاه في بيتها وفي يومها وبين سحرها ونحرها وأنه جمع بين ريقه وريقها.(147/7)
20- حرصه عليه الصلاة والسلام على أن يستاك ليلقى الله طيباً، فإن حياته طيبة، ووفاته طيبة.
21- بيانه عليه الصلاة والسلام لأمته من أن للموت سكرات.
22- اختياره عليه الصلاة والسلام للرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
23- حب الصحابة رضوان الله عليهم ومعاناتهم الشديدة من فراقه عليه الصلاة والسلام.
24- ثبات الصديق في أحلك الظروف، وإيضاحه للحقائق التي غابت في خضم تلك المشاعر العظيمة.
25- أن النبي عليه الصلاة والسلام تم تغسيله من فوق ثيابه إكرام له عليه الصلاة والسلام.
26- أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدفنون مكان موتهم.
27- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك درهمًا ولا دينارًا، وما تركه فهو صدقة.
28- أن من أصيب بمصيبة أيا كانت وأيا كان حجمها فليتعزى بالنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه عزاء لكل مسلم.
هذا ما وفقنا الله لاستخراجه من فوائد وعبر من قصة وفاة سيد البشر صلى الله عليه وسلم
وما كان من توفيق فمن الله وحده وما كان من خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
والله أسأل أن ينفع بهذه السلسلة إنه على ما يشاء قادر.
ولا تنسونا من دعوة صالحة بظهر الغيب ليقول لك الملك إن شاء الله ولك بمثله(147/8)
إبن سبأ اليهودي مؤسس الديانة الشيعية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن من أكبر الفِرَق التي كانت و ما تزال وبالاً و شراً على المسلمين على طول تاريخهم و في جميع مراحل حياتهم ، هي فرقة الشيعة على تعدد طوائفها و اختلاف نحلها ، بدءاً بالسبئية أتباع بعد الله بن سبأ اليهودي ، الذي كان رأساً في إذكاء نار الفتنة والدس بين صفوف المسلمين ، و الذي وصل الأمر بهم إلى تأليه علي رضي الله عنه ، و قبل أن أبدأ بالموضوع لابد من مقدمة توضح الموضوع و تشرح المضمون .
أصل ابن سبأ و منشأه :- اختلف أصحاب المقالات والتاريخ في هوية عبد الله بن سبأ ، و من ذلك اختلفوا في بلده و قبيلته ، يذكر القلقشندي في قلائد الجمان (ص 39 ) : أن يعرب بن قحطان ولد يشجب ، و ولد ليشجب ( سبأ ) و اسم سبأ هذا عبد شمس ، و قد ملك اليمن بعد أبيه ، و أكثر من الغزو والسبي ، فسمي ( سبأ ) وغلب عليه حتى لم يسم به غيره ، ثم أطلق الاسم على بنيه .. و هم الوارد ذكرهم في القرآن .
على أن المصادر التاريخية لا تذكر شيئاً واضحاً عن أصل السبأيين ، و الذي ينتسب إليهم عبد الله بن سبأ ، و من المحتمل أنهم كانوا في الأصل قبائل بدوية تتجول في الشمال ثم انحدرت نحو الجنوب إلى اليمن حوالي ( 800 ق م ) ، و هي عادة العرب في التجوال ، أو نتيجة ضغط الآشوريين عليهم من الشمال ، واستقروا أخيراً في اليمن وأخذوا في التوسع . راجع : محاضرات في تاريخ العرب للدكتور صالح العلي (1/21) .
و منهم من ينسب ابن سبأ إلى ( حمير ) ، و هي قبيلة تنسب إلى حمير بن الغوث بن سعد بن عوف بن مالك بن زيد بن سدد بن حمير بن سبأ الأصغر بن لهيعة بن حمير بن سبأ بن يشجب هو حمير الأكبر ، و حمير الغوث هو حمير الأدنى و منازلهم باليمن بموضع يقال له حمير غربي صنعاء . أنظر : معجم البلدان لياقوت الحموي (2/306) .
ومن الذين قالوا بذلك : ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والأهواء ( 5/46) ، حيث يقول : والقسم الثاني من فرق الغالية يقولون بالإلهية لغير الله عز وجل ، فأولهم قوم من أصحاب عبد الله بن سبأ الحميري .
أما البلاذري في أنساب الأشراف (5/240) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق (ص 20) ، والفرزدق في ديوانه ( ص 242-243) فينسبون ابن سبأ إلى قبيلة ( همدان ) ، و همدان بطن من كهلان من القحطانية و هم بنو همدان ابن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان ، و كانت ديارهم باليمن من شرقيه . معجم قبائل العرب لرضا كحالة (3/1225) . فهو ( عبد الله بن سبأ بن وهب الهمداني ) كما عند البلاذري ، و ( عبد الله بن سبأ بن وهب الراسبي الهمداني ) كما عند الأشعري القمي ، أما عن الفرزدق فقد ذكر نسبة ابن سبأ إلى همدان في قصيدته التي هجا فيها أشراف العراق و من انضم إلى ثورة ابن الأشعث في معركة دير الجماجم سنة (82هـ ) و يصفهم بالسبئية حيث يقول :
كأن على دير الجماجم منهم حصائد أو أعجاز نخل تقعّرا
تَعَرّفُ همدانية سبئية و تُكره عينيها على ما تنكّرا . إلى آخر القصيدة .
و يروي عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق ( ص 235) ، أن ابن سبأ من أهل ( الحيرة ) ، قال : إن عبدالله بن السوداء كان يعين السبأية على قولها ، و كان أصله من يهود الحيرة ، فأظهر الإسلام .
و يروي ابن كثير في البداية والنهاية (7/190) ، أن أصل ابن سبأ من الروم ، فيقول : و كان أصله رومياً فأظهر الإسلام و أحدث بدعاً قولية و فعلية قبحه الله .
أما الطبري و ابن عساكر ، فيرويان أن ابن سبأ من اليمن . قال الطبري في تاريخه (4/340) : كان عبدالله بن سبأ يهودياً من أهل صنعاء . و قال ابن عساكر في تاريخ دمشق ( 29/3) : عبد الله بن سبأ الذي ينسب إليه السبئية وهم الغلاة من الرافضة أصله من أهل اليمن كان يهودياً .
و الذي أميل إليه و أرجحه هو : أن ابن سبأ من اليمن ؛ و ذلك أن هذا القول يجمع بين معظم أقوال العلماء في بلد ابن سبأ ، و لو نظرنا في الأقوال السابقة لم مجد تعارضاً بين هذا القول و بين القول الأول الذي ينسب ابن سبأ إلى قبيلة ( حمير ) ، و القول الثاني الذي ينسبه إلى قبيلة ( همدان ) ، إذ القبيلتان من اليمن ، و لم يخالف في أن أصل ابن سبأ من اليمن إلا البغدادي الذي ينسبه إلى ( الحيرة ) ، و ابن كثير الذي ذكر أنه ( رومي ) الأصل .
أما البغدادي فقد اختلط عليه ابن السوداء بابن سبأ ، فظن أنهما شخصان ، يقول : و قد ذكر الشعبي أن عبد الله بن السوداء كان يعين السبأية على قولها .. ثم تحدث عن ابن السوداء و مقالته في علي رضي الله عنه ، إلى أن قال : فلما خشي – أي علي رضي الله عنه – من قتله – أي ابن السوداء – و من قتل ابن سبأ الفتنة التي خافها ابن عباس ، نفاهما إلى المدائن ، فافتتن بهما الرعاع . الفرق بين الفرق ( ص 235) .(148/1)
والذي ذكر أنه من أهل الحيرة هو عبد الله بن السوداء و لم يتعرض لابن سبأ بشيء ، لهذا لا يمكننا أن نجزم بأن البغدادي نسب ابن سبأ المشهور في كتب الفرق و مؤسس فرقة السبأية إلى الحيرة ، فلعله قصد شخصاً آخر غيره ، و مما يدل على أنه لا يعني ابن سبأ ، أنه قال عند حديثه عن عبد الله بن السوداء : ( كان يعين السبأية على قولها ) ، فدل على أنه غير مؤسس السبأية .
أما ابن كثير فلا أعلم أحداً من المؤرخين وأصحاب المقالات وافقه في نسبة ابن سبأ إلى ( الروم ) ، و قد جاء في بعض النسخ المطبوعة من البداية والنهاية كلمة ( ذمياً ) بدل ( رومياً ) أنظر الطبعة الثانية ( 7/173) ، فلعل أصل الكلمة ذمياً و لكن حدث في الكلمة تصحيف من قبل النساخ ، وكون ابن سبأ ذمياً لا ينافي ما تناقله العلماء من كونه يهودياً . و لهذا لا يعارض قوله هذا ما اشتهر نقله في كتب التاريخ والفرق من أن أصل ابن سبأ من اليمن .
فترجح بهذا أن ابن سبأ من اليمن و نحن لا نقطع بنسبته إلى قبيلة معينة لعدم توفر الأدلة على ذلك . و الله أعلم .
و قد اختلف المؤرخون وأصحاب المقالات أيضاً في نسبة ابن سبأ لأبيه ، فمنهم من ينسب ابن سبأ من جهة أبيه إلى ( وهب ) كما عند البلاذري في أنساب الأشراف (5/240) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق ( ص 20) والذهبي في المشتبه في الرجال (1/346) و المقريزي في الخطط (2/356) .
أما من قال أنه : ( عبد الله بن وهب الراسبي ) كما هو عند الأشعري القمي في المقالات ( ص 20) ، فلعل ذلك وقع نتيجة الخلط بين عبدالله بن سبأ هذا و بين عبد الله بن وهب الراسبي صاحب الخوارج ، و هناك فرق بين الشخصيتين ما لا يخفى على مطلع ، فعلى حين يكتنف شخصية ابن سبأ الغموض في المنشأ و الممات ، نجد شخصية الراسبي واضحة المعالم ، فهو رأس الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ، شرح صحيح مسلم للنووي (7/172) ، و هو المقتول في وقعة النهروان ، العبر في خبر من غبر للذهبي (1/44) ، و قبل ذلك فقد عرفت حياته أكثر من ابن سبأ ، فقد شارك في الفتوح – فتوح العراق – وكان مع علي ثم خرج عليه خروجاً صريحاً . أنظر آراء الخوارج لعمار الطالبي (ص 94) .
و مما يؤكد الفرق بين الاسمين ما نص عليه السمعاني في الأنساب (7/24) بقوله : ( عبدالله بن وهب السبئي رئيس الخوارج ، و ظني أن ابن وهب هذا منسوب إلى عبد الله بن سبأ ) .
و هناك من ينسب ابن سبأ من جهة أبيه أيضاً إلى حرب ، كما فعل الجاحظ في البيان والتبيين (3/81) ، و هو ينقل الخبر بإسناده إلى زحر بن قيس قال : ( قدمت المدائن بعد ما ضرب علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه ، فلقيني ابن السوداء و هو ابن حرب .. ) .
ومعظم أهل العلم ينسبون ابن سبأ من جهة أبيه إلى سبأ ، فيقولون : ( عبد الله بن سبأ ) ، ومن هؤلاء البلاذري في أنساب الأشراف (3/382) ابن قتيبة في المعارف ( ص 622) و الطبري في التاريخ (4/340) وأبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين (1/86) ، والشهرستاني في الملل والنحل (1/174) ، والذهبي في الميزان ( 2/426) وابن حجر في لسان الميزان (3/290) ، وابن عبد ربه في العقد الفريد (2/405) و شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/483) ، وابن حبان في المجروحين ( 2/253) والجوزجاني في أحوال الرجال (ص38) و المقدسي في البدء والتاريخ (5/129) والخوارزمي في مفاتيح العلوم (ص 22) وابن حزم في الفصل في الملل والنحل ( 4/186) و الأسفرايني في التبصرة في الدين ( ص 108 ) وابن عساكر في تاريخ دمشق ( 29/3) ، والسمعاني في الأنساب (7/24) و ابن الأثير في اللّباب (2/98) ، و غيرهم الكثير . و من الرافضة : الناشئ الأكبر في مسائل الإمامة ( ص 22- 23 ) ، و الأشعري القمي في المقالات والفرق ( ص 20 ) و النوبختي في فرق الشيعة (ص 22 ) .
أما نسب ابن سبأ ( لأمه ) فهو من أم حبشية ، كما عند الطبري في التاريخ (4/326-327) و ابن حبيب في المحبر (ص 308 ) ، و لذلك فكثيراً ما يطلق عليه ( ابن السوداء ) ففي البيان والتبيين ( 3/81) : ( ... فلقيني ابن السوداء ) و في تاريخ الطبري ( 4/326) : ( و نزل ابن السوداء على حكيم بن جبلة في البصرة ) ، وفي تاريخ الإسلام للذهبي (2/122) : ( ولما خرج ابن السوداء إلى مصر ) ، و هم بهذا يتحدثون عن عبد الله بن سبأ ، و لذلك قال المقريزي في الخطط ( 2/356) : ( عبد الله بن وهب بن سبأ المعروف بابن السوداء ) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (29/8) من قول علي رضي الله عنه : ( من يعذرني من هذا الحميت الأسود الذي يكذب على الله ورسوله يعني ابن السوداء ) . و مثل هذا كثير ...
وكما وقع الخلط والإشكال في نسبة ابن سبأ لأبيه ، وقع الخلط و تصور من غفلوا عن هذه النسبة لأمه ، أن هناك شخصين : ابن سبأ ، وابن السوداء ، ففي العقد الفريد لابن عبد ربه (2/241) : ( .. منهم عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط ، و عبد الله بن السوداء نفاه إلى الخازر ) .(148/2)
و يقول الاسفرايني في التبصرة ( ص 108) : ( و وافق ابن السوداء عبد الله بن سبأ بعد وفاة علي في مقالته هذه ) .
ومثل هذا وقع عند البغدادي في الفرق بين الفرق ( ص 235 ) : ( فلما خشي علي من قتل ابن السوداء وابن سبأ الفتنة نفاهما إلى المدائن ) .
والذي يترجح من مناقشة الروايات : أن ابن سبأ غير ابن وهب الراسبي ، وأنه هو نفسه ابن السوداء ، والله أعلم .
و مما يحسن ذكره هنا أيضاً أن ابن سبأ كان أسود اللون ، و هذا يرجح كون أمه من الحبشيات ، ذكر ابن عساكر في تاريخه ( 29/7-8 ) : عن عمار الدهني قال : سمعت أبا الطفيل يقول : رأيت المسيب بن نجبة أتى به ملببة – أي ملازمه - يعني ابن السوداء و علي على المنبر ، فقال علي : ما شأنه ؟ فقال : يكذب على الله وعلى رسوله ، و جاء من طريق زيد بن وهب عن علي قال : ما لي ومال هذا الحميت الأسود ، و من طريق سلمة قال : سمعت أبا الزعراء يحدث عن علي ، قال : ما لي ومال هذا الحميت الأسود ، و جاء أيضاً من طريق زيد قال : قال علي بن أبي طالب : ما لي ولهذا الحميت الأسود ، يعني عبد الله بن سبأ وكان يقع في أبي بكر و عمر .
و يبقى بعد ذلك الأصل اليهودي لابن سبأ ، هل هو محل اتفاق أم تتنازعه الآراء ؟
يفترض المستشرق Hodgeson أن ابن سبأ ليس يهودياً في أغلب الاحتمالات ، مشايعاً في ذلك للمستشرق الإيطالي Levi Della Vida الذي يرى أن انتساب ابن سبأ إلى قبيلة عربية هي ( همدان ) كما في نص البلاذري الذي وقف عنده ( ليفي ديلا فيدا ) يمنع من أن يكون يهودياً . و هو كما يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي في مذاهب الإسلاميين ( 2/30) : ( استنتاج لا مبرر له ، فليس هناك من تناقض بين أن يكون المرء يهودياً وأن يكون من قبيلة عربية .
وابن قتيبة رحمه الله أشار إلى يهودية بعض القبائل كما في المعارف ( ص 266 ) حيث يقول : ( كانت اليهودية في حمير و بني كنانة و بني الحارث بن كعب و كندة .
و فوق ذلك فإن الاتجاه الغالب في يهود اليمن أن أكثرهم من أصل عربي ، كما قال الدكتور جواد علي في تاريخ العرب قبل الإسلام ( 6/26) .
و مع ذلك فليس مقطوعاً بانتساب ابن سبأ إلى همدان – كما مر معنا – و حتى لو قطع بذلك ، فهل هذا الانتساب لهمدان ، انتساب على الحقيقة أم بالولاء ؟!
و لئن كان هذا الشك في يهودية ابن سبأ عند بعض المستشرقين ، إنما جاء نتيجة اعتراض يقيني بأن ابن سبأ في تصوراته عن المهدي كان متأثراً بالإنجيل أكثر من تأثره بالتوراة ، و هو اعتراض قد يقلل من يهودية ابن سبأ ، إلا أن هذا الاعتراض يضعف حينما نتبين رأي بعض الباحثين في طبيعة اليهودية في بلاد اليمن – في تلك الفترة – وأنها امتزجت فيها المسيحية بالموسوية ، و كانت يهودية سطحية ، وأن يهودية ابن سبأ ربما كانت أقرب إلى يهودية ( الفلاشا ) و هم يهود الحبشة ، و هذه اليهودية شديدة التأثر بالمسيحية الحبشية . مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي (2/28) .
و هذا الأصل اليهودي لابن سبأ لم يكن محل خلاف في الروايات التاريخية ، أو لدى كتب الفرق ، و في آراء المتقدمين ، أمثال : الطبري وابن عساكر وابن الأثير والبغدادي وابن حزم ، وأمثال شيخ الإسلام ، عليه رحمه الله .
سبب الاختلاف في تحديد هوية ابن سبأ :- لا غرابة أن يحدث هذا الاختلاف الكبير بين أهل العلم في تحديد هوية و نسب ابن سبأ ، فعبد الله بن سبأ قد أحاط نفسه بإطار من الغموض والسرية التامة حتى على معاصريه ، فهو لا يكاد يعرف له اسم ولا بلد ، لأنه لم يدخل في الإسلام إلا للكيد له ، و حياكة المؤامرات والفتن بين صفوف المسلمين ، و لهذا لما سأله عبد الله بن عامر والي البصرة لعثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال له : ما أنت ؟ لم يخبره ابن سبأ باسمه و اسم أبيه ، و إنما قال له : إنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام و رغب في جوارك . تاريخ الطبري (4/326-327 ) .
و في رأيي أن تلك السرية التامة التي أطبقها ابن سبأ على نفسه سبب رئيسي في اختلاف المؤرخين والمحققين في نسبة ابن سبأ ، و غير مستبعد أن يكون ابن سبأ قد تسمى ببعض هذه الأسماء التي ذكرها المؤرخون ، بل واستعمل بعض الأسماء الأخرى المستعارة لتغطية ما قام به من جرائم و دسائس في صدر الدولة الإسلامية .
نشأة ابن سبأ :- على ضوء ما تقدم من المعلومات السابقة – في المقال السابق - ، أمكننا الوقوف على الأجواء التي نشأ فيها ابن سبأ ، و نستطيع أن نحدد عدد من النقاط :-
1- بتغليب الروايات السابقة نجد أن ابن سبأ نشأ في اليمن ، سواء كان من قبيلة حمير أو همدان ، ولا نستطيع الجزم بأيهما .(148/3)
2- كان لليهود وجود في اليمن ، غير أنه لا نستطيع أن نحدد وقته على وجه الدقة ، و قد رجح بعض الأساتذة أنه يرجع إلى سنة (70م ) و ذلك حينما نزح اليهود من فلسطين بعد أن دمرها الإمبراطور الروماني ( تيتوس ) و حطم هيكل ( أورشليم ) وعلى إثر ذلك تفرق اليهود في الأمصار و وجد بعضهم في اليمن بلداً آمناً فالتجأوا إليه ، و بعد أن استولى الأحباش على اليمن سنة (525م ) بدأت النصرانية تدخل اليمن . اليمن عبر التاريخ لأحمد حسين (ص 158- 159) .
3- على إثر هذا امتزجت تعاليم ( التوراة ) مع تعاليم ( الإنجيل ) و كانت اليهودية في اليمن يهودية سطحية . مذاهب الإسلاميين لعبد الرحمن بدوي (2/28) .
4- و لكن اليهودية و إن ضعفت في اليمن بدخول الأحباش فيها ، فإنها بقيت مع ذلك محافظة على كيانها ، فلم تنهزم و لم تجتث من أصولها . تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي (6/34) .
و لعلنا من خلال تلك الإشارات ، نستطيع أن محدد المحيط الذي نشأ فيه عبد الله بن سبأ ، والبيئة التي صاغت أفكاره ، خاصة في عقيدة ( الرجعة ) و ( الوصية ) حينما قال : ( لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع و يكذب بأن محمداً يرجع ، و قد قال الله عز وجل إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى ، و إنه كان ألف نبي و وصي و كان على وصي محمد ، ثم قال : محمد خاتم الأنبياء و علي خاتم الأوصياء .. ) . تاريخ الطبري (4/340) .
على كل حال فهي معلومات ضئيلة لا تروي غليلاً ، ولا تهدي سبيلاً ، و لعل مرد ذلك إلى المصادر التي بين أيدينا ، فهي لا تكاد تبين عن نشأة ابن سبأ ، كما أن المعلومات عن فتوة ابن سبأ قبل ظهوره غير موجودة ، و نحن هنا مضطرون للصمت عما سكت عنه الأولون حتى تخرج آثار أخرى تزيل الغبش و تكشف المكنون .
ظهور ابن سبأ بين المسلمين :- جاء في تاريخ الطبري (4/340) و الكامل لابن الأثير (3/77) و البداية والنهاية لابن كثير(7/167) و تاريخ دمشق لابن عساكر (29/ 7-8 ) و غيرهم من كتب التاريخ ضمن أحداث سنة (35هـ ) : أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء وأنه أسلم زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، و أخذ يتنقل في بلاد المسلمين يريد ضلالتهم ، فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم بالشام ، فلم يقدر على شيء فيها ، فأتى مصر واستقر بها و وضع لهم عقيدتي الوصية و الرجعة ، فقبلوها منه و كوّن له في مصر أنصاراً ممن استهواهم بآرائه الفاسدة .
لكن أين و متى كان أول ظهور لعبد الله بن سبأ بين المسلمين ؟
جاء في البداية والنهاية لابن كثير (7/183) ضمن أحداث سنة (34هـ ) ، أن عبد الله بن سبأ كان سبب تألب الأحزاب على عثمان . ثم أورده في أحداث سنة (35هـ) مع الأحزاب الذين قدموا من مصر يدعون الناس إلى خلع عثمان . البداية والنهاية (7/190) .
أما الطبري (4/331) وابن الأثير(3/147) فنجد عندهما ذكر لابن سبأ بين المسلمين قبل سنة ( 34هـ ) في الكوفة ، ( فيزيد بن قيس ) ذلك الرجل الذي دخل المسجد في الكوفة يريد خلع عامل عثمان ( سعيد بن العاص ) إنما شاركه وثاب إليه الذين كان ابن السوداء يكاتبهم .
و هذا يعني ظهور ابن سبأ قبل هذا التاريخ ، و تكوين الأعوان الذين اجتمعوا إلى يزيد بن قيس ، و تأكيد ذلك عند الطبري ( 4/326) وابن الأثير(3/144) ، ففي سنة ( 33هـ ) و بعد مضي ثلاث سنين من إمارة بعد الله بن عامر على البصرة يعلم بنزول ابن سبأ على ( حكيم بن جبلة ) و تكون المقابلة بين ابن عامر وابن السوداء والتي ذكرتها في بداية الموضوع .
ونستمر في الاستقراء فنجد ظهوراً لابن سبأ بين المسلمين قبل هذا التاريخ ، ففي الطبري (4/283) و ابن الأثير (3/114) ، و ضمن حوادث سنة (30هـ ) يرد ابن السوداء الشام ، و يلتقي بأبي ذر و يهيجه على معاوية – و سنأتي على تحقيق القول في قضية تأثير ابن سبأ على أبي ذر فيما بعد - .
ابن سبأ في الحجاز :- لما كان ظهور ابن سبأ في الحجاز قبل ظهوره في البصرة والشام ، فلابد أن يكون قد ظهر في الحجاز قبل سنة ( 30هـ ) ، لأن ظهوره في الشام كان في هذا التاريخ ، و في الحجاز لا تكاد تطالعنا الروايات التاريخية على مزيد من التفصيل ، و لعل في هذا دلالة على عدم استقرار أو مكث لابن سبأ في الحجاز ، عدا ذلك المرور في طريقه التخريبي ، لكنه كما يبدو لم يستطع شيئاً من ذلك فتجاوز الحجاز إلى البصرة . تاريخ الطبري ( 4/340-341) .(148/4)
ظهوره في البصرة :- و في البصرة كان نزول ابن سبأ على ( حكيم بن جبلة العبدي ) ، و خبره كما ورد في الطبري (4/ 326 ) : ( لما مضى من إمارة ابن عامر ثلاث سنين بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة ، و كان حكيم رجلاً لصاً إذا قفلت الجيوش خنس عنهم ، فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ، و يتنكر لهم و يفسد في الأرض و يصيب ما يشاء ثم يرجع ، فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان ، فكتب إلى عبد الله بن عامر أن احبسه و من كان مثله فلا يخرج من البصرة حتى تأنسوا منه رشداً ، فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها ، فلما قدم ابن السوداء نزل عليه ، و اجتمع إليه نفر فطرح لهم ابن السوداء ولم يصرح ، فقبلوا منه واستعظموه .
و بقية خبر الطبري يفيدنا أنه لقي آذاناً صاغية في البصرة ، و إن كان لم يصرح لهم بكل شيء ، فقد قبلوا منه واستعظموه ، و شاء الله أن تحجم هذه الفتنة و يتفادى المسلمون بقية شرها و ذلك حينما بلغ والي البصرة ابن عامر خبر ابن سبأ ، فأرسل إليه و دار بينهما هذا الحوار : ( ما أنت ؟ فأخبره أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام والجوار ، فقال ابن عامر : ما يبلغني ذلك ! اخرج عني ، فأخرجه حتى أتى الكوفة . تاريخ الطبري (4/326-327) .
ظهوره في الكوفة :- الذي يبدو أن ابن سبأ بعد إخراجه من البصرة وإتيانه الكوفة ، لم يمكث بها طويلاً حتى أخرجه أهلها منها ، كما في بقية خبر الطبري (4/327) : ( فخرج حتى أتى الكوفة ، فأخرج منها فاستقر بمصر و جعل يكاتبهم و يكاتبونه ، و يختلف الرجال بينهم ) .
لكنه وإن كان قد دخل الكوفة ثم أخرج منها سنة ( 33هـ ) ، إلا أن صلته بالكوفة لم تنته بإخراجه ، فلقد بقيت ذيول الفتنة في الرجال الذين بقي يكاتبهم و يكاتبونه . الطبري (4/327) وابن الأثير (3/144) .
ظهوره في الشام :- في ظهور ابن سبأ في الشام يقابلنا الطبري في تاريخه نصان ، يعطي كل واحد منهما مفهوماً معيناً ، فيفيد النص الأول أن ابن سبأ لقي أبا ذر بالشام سنة (30هـ ) و أنه هو الذي هيجه على معاوية حينما قال له : ( ألا تعجب إلى معاوية ! يقول المال مال الله ، كأنه يريد أن يحتجزه لنفسه دون المسلمين ؟ وأن أبا ذر ذهب إلى معاوية وأنكر عليه ذلك ) . تاريخ الطبري (4/283) .
بينما يفهم من النص الآخر : أن ابن سبأ لم يكن له دور يذكر في الشام ، وإنما أخرجه أهلها حتى أتى مصر ، بقوله : ( أنه لم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام ) تاريخ الطبري (4/340) .
و يمكننا الجمع بين النصين في كون ابن سبأ دخل الشام مرتين ، كانت الأولى سنة (30هـ ) ، و هي التي التقى فيها بأبي ذر ، و كانت الثانية بعد إخراجه من الكوفة سنة ( 33هـ ) ، و هي التي لم يستطع التأثير فيها مطلقاً ، و لعلها هي المعنية بالنص الثاني عند الطبري .
كما و يمكننا الجمع أيضاً بين كون ابن سبأ قد التقى بأبي ذر سنة (30هـ ) ، و لكن لم يكن هو الذي أثر عليه و هيجه على معاوية ، و يرجح هذا ما يلي :-
1- لم تكن مواجهة أبي ذر رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه وحده بهذه الآراء ، و إنما كان ينكر على كل من يقتني مالاً من الأغنياء ، و يمنع أن يدخر فوق القوت متأولاً قول الله تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة } [التوبة 34]
2- حينما أرسل معاوية إلى عثمان رضي الله عنه يشكو إليه أمر أبي ذر ، لم تكن منه إشارة إلى تأثير ابن سبأ عليه ، و اكتفى بقوله : ( إن أبا ذر قد أعضل بي و قد كان من أمره كيت و كيت .. ) . الطبري (4/283) .
3- ذكر ابن كثير في البداية (7/170 ، 180) الخلاف بين أبي ذر ومعاوية بالشام في أكثر من موضع في كتابه السابق ، و لم يرد ذكر ابن سبأ في واحد منها ، و إنما ذكر تأول أبي ذر للآية السابقة .
4- ورد في صحيح البخاري ( 2/111) الحديث الذي يشير إلى أصل الخلاف بين أبي ذر و معاوية ، و ليس فيه أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى ابن سبأ ، فعن زيد بن وهب قال : ( مررت بالربذة ، فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه ، فقلت له ما أنزلك منزلك هذا ؟ قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } قال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا و فيهم ، فكان بيني و بينه في ذلك ، و كتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني ، فكتب إليّ عثمان أن اقدم المدينة ، فقدمتها ، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال لي : إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل .. ) .
5- و في أشهر الكتب التي ترجمت للصحابة ، أوردت المحاورة التي دارت بين معاوية وأبي ذر ثم نزوله الربذة ، و لكن شيئاً من تأثير ابن سبأ على أبي ذر لا يذكر . الاستيعاب لابن عبد البر (1/214) و أسد الغابة لابن الأثير (1/357) والإصابة لابن حجر (4/62) .(148/5)
6- وأخيراً فإنه يبقى في النفس شيء من تلك الحادثة ؛ إذ كيف يستطيع يهودي خبيث حتى و لو تستر بالإسلام أن يؤثر على صحابي جليل كان له من فضل الصحبة ما هو مشهود .
ظهور ابن سبأ في مصر :- على ضوء استقراء النصوص السابقة ، يكون ظهور ابن سبأ في مصر بعد خروجه من الكوفة ، و إذا كان ظهوره في البصرة سنة ( 33هـ ) ، ثم أخرج منها إلى الكوفة ، و من الكوفة استقر بمصر ، فإن أقرب توقيت لظهور ابن سبأ في مصر يكون في سنة ( 34هـ ) ، لأن دخوله البصرة و طرحه لأفكاره فيها و تعريجه على الكوفة ثم طرده منها ، واتجاهه بعد ذلك إلى مصر .. كل هذا يحتاج إلى سنة على الأقل ، و يؤكد هذا ابن كثير في البداية والنهاية (7/284) ، فيضع ظهور ابن سبأ في مصر ضمن أحداث سنة (34هـ ) ، و تابعه في ذلك السيوطي أيضاً في حسن المحاضرة (2/164) ، حيث أشار إلى دخول ابن سبأ مصر في هذا التاريخ .
عبد الله بن سبأ حقيقة أم خيال؟ إن تشكيك بعض الباحثين المعاصرين في عبد الله بن سبأ وأنه شخصية وهمية وإنكارهم وجوده لا يستند إلى الدليل العملي ، ولا يعتمد على المصادر المتقدمة ، بل هو مجرد استنتاج يقوم على أراء وتخمينات شخصية تختلف بواعثها حسب ميول واتجاهات متبنيها ، ويمكن القول إن الشكاك والمنكرين لشخصية ابن سبأ هم طائفة من المستشرقين ، وفئة من الباحثين العرب ، وغالبية الشيعة المعاصرين .
ومن العجب أن هؤلاء المستشرقين وذيولهم من الرافضة والمستغربين في عصرنا أنكروا شخصية عبد الله بن سبأ ، وأنه شخصية وهمية لم يكن لها وجود ، فأين بلغ هؤلاء من قلة الحياء والجهل ، وقد ملأت ترجمته كتب التاريخ والفرق ، وتناقلت أفعاله الرواة وطبقت أخباره الآفاق .
لقد اتفق المؤرخون والمحدثون وأصحاب كتب الفرق والملل والنحل والطبقات والأدب والأنساب الذين تعرضوا للسبئية على وجود شخصية عبد الله بن سبأ الذي ظهر في كتب أهل السنة - كما ظهر في كتب الشيعة - شخصية تاريخية حقيقية. و لهذا فإن أخبار الفتنة ودور ابن سبأ فيها لم تكن قصرا على تاريخ الإمام الطبري و استنادا إلى روايات سيف بن عمر التميمي فيه ، و إنما هي أخبار منتشرة في روايات المتقدمين و في ثنايا الكتب التي رصدت أحداث التاريخ ألإسلامي ، و آراء الفرق و النحل في تلك الفترة ، إلا أن ميزة تاريخ الإمام الطبري على غيره أنه أعزرها مادة وأكثرها تفصيلا لا أكثر. و لهذا كان التشكيك في هذه الأحداث بلا سند وبلا دليل ، إن يعني الهدم لكل تلك الأخبار ، والتسفيه بأولئك المخبرين والعلماء ، وتزييف الحقائق التاريخية .
فمتى كانت المنهجية ضربا من ضروب الاستنتاج العقلي المحض في مقابل النصوص الروايات المتضافرة؟ و هل تكون المنهجية في الضرب صفحاً و الإعراض عن المصادر الكثيرة المتقدمة و المتأخرة التي أثبتت لابن سبأ شخصية واقعية!
و في ما يلي ذكر عدد من المحاور والتي تدور حول ورود أي ذكر لعبد الله بن سبأ أو السبئية – طائفته - في الكتب والمصادر المتقدمة ( السنية والشيعية ، المتقدمة منها والمعاصرة ) ؛ لأن ورود أي ذكر للسبئية دليل على انتسابها له ، و هذا دليل بدوره على وجود ابن سبأ في الحقيقة ، مع الرد على محاولات التشكيك في وجود عبد الله بن سبأ ، و ما ينسب إليه من أعمال ، و سأتّبع فيه الترتيب الزمني للأحداث :-
أولاً : من أثبت وجود عبد الله بن سبأ من الفرقين : أ – عبد الله بن سبأ عند أهل السنة :- 1- جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همدان ( ت 84هـ ) في ديوانه (ص 148) و تاريخ الطبري (6/83) و قد هجى المختار بن أبي عبيد الثقفي و أنصاره من أهل الكوفة بعدما فرّ مع أشراف قبائل الكوفة إلى البصرة بقوله :(148/6)
إتقان العمل ثمرة الإحسان
أ.د. عباس محجوب الإنسان المسلم يفترض فيه أن تكون شخصيته إيجابية، مقبلة على الحياة، متفاعلة معها، ولأن الإنسان المسلم مطالب باستيفاء شروط الخلافة في الأرض والسعي في مناكبها عبادةً لله، وإعماراً للأرض، واستفادة مما فيها من ثروات وخيرات لا يصل إليها إلا بالعمل والعمل الجاد. لذلك كانت مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتقن الإنسان عمله: ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه))[1]. فالإتقان سمة أساسية في الشخصية المسلمة يربيها الإسلام فيه منذ ان يدخل فيه، وهي التي تحدث التغيير في سلوكه ونشاطه، فالمسلم مطالب بالإتقان في كل عمل تعبدي أو سلوكي أو معاشي؛ لأن كل عمل يقوم به المسلم بنيّة العبادة هو عمل مقبول عند الله يُجازى عليه سواء كان عمل دنيا أم آخرة. قال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)). [الأنعام: 162-163].
وتتمثل عملية الإتقان في تعلُّم المسلم للصلاة وأدائها بأركانها وشروطها التي تدرّب المسلم على الإتقان المادي الظاهري، بل على الإتقان الداخلي النفسي المتمثل في مراقبة الله عز وجل والخوف منه، فهل نحن نربي الآن في مجتمعنا المسلم الشخصية المسلمة التي تهتم بإتقان أمور الحياة كلها؟ فردية أو جماعية؟ وهل سبب تخلفنا وتأخرنا يرجع إلى فقدان هذه الخاصية؟وما قيمة الشعائر والوسائل التعبدية التي لا تغير في سلوك الإنسان ونمط حياته ووسائل إنتاجه؟
إننا نفتقد التربية الأسرية والمدرسية والاجتماعية التي تجعل عمل الإتقان في حياتنا مهارة داخلية تعبر عن قوة الشخصية التي تكسب الإنسان الاتزان والثقة والاطمئنان والتفرد إلى جانب اكتساب المهارة المادية والحركية.
إننا مطالبون بترسيخ هذه القيمة التربوية الحياتية في واقعنا وسلوكنا؛ لأنها تمثل معيار سلامة الفرد وقوة شخصيته وسمة التغيير الحقيقي فيه، كما أننا مطالبون ببذل الجهد كله في إتقان كل عمل في الحياة يطلب منا ضمن واجباتنا الحياتية أو التعبدية.
وعادة الإتقان تكسب الأمة المسلمة الإخلاص في العمل لارتباطه بالمراقبة الداخلية، كما أنها تجرد العمل من مظاهر النفاق والرياء، فكثير من الناس يتقن عمله ويجوّده إن كان مراقباً من رئيس له، أو قصد به تحقيق غايات له أو سعى إلى السمعة والشهرة لأنه يفتقد المراقبة الداخلية التي تجعله يؤدي عمله بإتقان في كل الحالات دون النظر إلى الاعتبارات التي اعتاد بعضهم عليها.
ظاهرة حضارية:
والإتقان كما قلنا هدف تربوي، ومن أسس التربية في الإسلام، لأن الإتقان في المجتمع المسلم ظاهرة سلوكية تلازم المسلم في حياته، والمجتمع في تفاعله وإنتاجه، فلا يكفي الفرد أن يؤدي العمل صحيحاً بل لا بد أن يكون صحيحاً ومتقناً، حتى يكون الإتقان جزءاً من سلوكه الفعلي.
والإتقان في المفهوم الإسلامي ليس هدفاً سلوكياً فحسب، بل هو ظاهرة حضارية تؤدي إلى رقي الجنس البشري، وعليه تقوم الحضارات، ويعمر الكون، وتثرى الحياة، وتنعش، ثم هو قبل ذلك كله هدف من أهداف الدين يسمو به المسلم ويرقى به في مرضاة الله والإخلاص له لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، وإخلاص العمل لا يكون إلا بإتقانه.
ولعلنا نلحظ أن من أسباب التخلف في المجتمعات الإسلامية افتقادها خاصية الإتقان كظاهرة سلوكية وعلمية في الأفراد والجماعات، وانتشار الصفات المناقضة للإتقان كالفوضى والتسيب وفقدان النظام وعدم المبالاة بقيمة الوقت واختفاء الإحساس الجمعي والإهمال والغش والخديعة، وهذا منعكس في فقدان المسلمين للثقة في كل شئ ينتج في بلادهم مع ثقتهم في ما ينتج في غير بلاد المسلمين.
والشباب المسلم يتعرض للكثير من المخاطر بفقدان هدف الإتقان في المناشط المتعلقة به بينما كان المسلمون الأوائل يحرصون على تعليم الشباب إتقان العمل حتى كان طالب الطب مطالباً بتحسين خطة وإتقانه قبل أن يتعلم مهنة الطب، ليكون الإتقان سمة خلقية سلوكية، وقيمة إنسانية.
وصفة الإتقان وصف الله بها نفسه لتنقل إلى عباده (صنع الله الذي أتقن كل شئ)[النمل 88]
[1] رواه ابو يعلى عن عائشة رضي الله عنها في مجمع الزوائد، كتاب الإيمان، ج4،ص 98 والجامع الصغير للسيوطي، ج 1، ص 177(149/1)
هناك علاقة متداخلة بين الإتقان والإحسان غير أن الإتقان عمل يتعلق بالمهارات التي يكتسبها الإنسان بينما الإحسان قوة داخلية تتربى في كيان المسلم، وتتعلق في ضميره وتترجم إلى مهارة يدوية أيضاً، فالإحسان أشمل وأعم دلالة من الإتقان، ولذلك كان هو المصطلح الذي ركز عليه القرآن والسنة، وقد وردت كلمة الإحسان بمشتقاتها المختلفة مرات كثيرة في القرآن الكريم، منها ما ورد بصيغة المصدر اثنتي عشرة مرة، بينما وردت كلمة المحسنين ثلاثاً وثلاثين مرة، وبصيغ اسم الفاعل أربع مرات، واللافت للنظر أنها لم ترد بصيغة الأمر إلا مرة واحدة للجماعة: ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) [البقرة 195].
وكما ذكر الأستاذ سعيد حوى في كتابه جند الله ثقافة وأخلاقاً: إن الإحسان ذو جانبين، عمل الحسن أو الأحسن ثم الشعور أثناء العمل بأن الله يرانا أو كأننا نراه، وهذا هو تعريف الرسول صلى الله عليه وسلم للإحسان بأن ((تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))[1]، فالإحسان مراقبة دائمة لله، وإحساس بقيمة العمل، وعلى هذا تندرج كل عبادة شرعية، أو سلوكية أو عائلية تحت مصطلح الإحسان الذي يعني انتقاء الأحسن في كل شئ فالشخصية المسلمة تتميز بالإحسان الذي يرتبط بالتقوى وعبر عنه كمرحلة سامية من مراحل الإيمان المصاحب للعمل، يقول تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين)[المائدة 93].
فإذا كان المسلم مطالباً بالعبادة، والعمل المترجم للإيمان فإنه مطالب دائماً بالإحسان في العمل والحياة، غير أن هناك تفاوتاً في مجالات الإحسان حيث ركز القرآن الكريم، في طلب الإحسان في أمور منها: الإحسان إلى الوالدين، مع دوام الإحسان في كل شئ، يقول الله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورا) [النساء 36]، فالإحسان بنص هذه الآية انفتاح على قطاعات كثيرة في المجتمع، يطالب المسلم بالتعامل معها والتفاعل على أساس من التقوى والحرص على الجماعة حتى يكون الجهد المبذول في سبيل الإحسان إليها ذا قيمة اجتماعية يراعى فيها رضاء المولى عز وجل لقوله تعالى: (وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً)[النساء 128].
والرسول صلى الله عليه وسلم يربط بين الإتقان والإحسان فيقول: (( إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة))[2]، فالإحسان هنا مرادف لكلمة الإتقان، وقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يزرع بذلك الرحمة في قبل المسلم ويكسبه عادة الإتقان في العمل حتى ولو لم يكن للعمل آثار اجتماعية كالذبح الذي ينتهي بإتمام العمل كيفما كان.
وأول عمل يتطلب الإتقان في حياة المسلم هو الصلاة حيث يطالب بها في السابعة ويضرب عليها في العاشرة، فإذا وصل مرحلة الشباب والتكليف كان متقناً للصلاة مجوداً لها محسناً أداءها، فالمسلم في الصلاة يتقن عدداً من المهارات المادية والمعنوية، فإقامة الصلاة و ما يطلب فيها من خشوع واستحضار لعظمة الخالق، وطمأنينة الجوارح، وتسوية الصفوف، ومتابعة الإمام، ثم ممارسة الصلاة خمس مرات في اليوم كل هذه من الممارسات التي تتطلب التعود على الإتقان حتى تنتقل هذه العادة من الصلاة إلى سائر أعمال المسلم اليومية دنيوية أو أخروية.
إن الإحسان دعوة إلى إيجاد الشخصية المثلى، الشخصية التي اتجهت حركة المجتمع وجهود التربية إلى إيجادها، هذه الشخصية تمثل المثالية التي تحققت في واقع المجتمع المسلم في الماضي، ويمكن أن تتحقق في واقعنا إذا توافرت الشروط الموضوعية لتحقيقها. وقد اختصر القرآن الكريم الصورة الإنسانية المثالية في آية واحدة؛ يقول تعالى: (وقولوا للناس حسنا)[البقرة83]، وللوصول إلى شخصية المسلم التي تحققت فيه معاني الإحسان نرى أن الأمر يحتاج إلى مجاهدة شديدة للنفس تتحقق فيها كثير من الصفات، منها قول الله تعالى: (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)[آل عمران 134 ]
ولأن الإحسان مجاهدة وجهاد يقول سبحانه وتعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) [العنكبوت 69] وقد وصف الله سبحانه الأنبياء جميعاً بأنهم من المحسنين الذين يستحقون حسن الجزاء عند الله لأنهم كانوا يجاهدون أنفسهم خوفاً من الله وتقوى، يقول الله تعالى: (إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) [ الذاريات 17-19](149/2)
وإلى جانب المجاهدة هناك وسيلة أخرى لاكتساب صفة الإحسان وهي الإقبال على الله بالطاعة والعبادة والذكر، يقول الله تعالى: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها)[الإسراء 7].
والإحسان في أمور الدنيا يشمل الحياة كلها إذ إن الحياة لاتنموا ولا تزدهر، والحضارات لا تبنى ولا تتقدم إلا بالإحسان، إحسان التخطيط وإحسان التنفيذ وإحسان التقدير((إن الله كتب الإحسان على كل شئ)) والمسلم لا يتربى على الإحسان إلاّ إذا قصد الإحسان في تفاعله مع المجتمع، ليس بقصد اللياقة الاجتماعية المظهرية؛ بل بقصد مراعاة حق الإنسان وحق الأخوة الإسلامية في إحسان التعامل على قاعدة من الأمانة والصدق والإخلاص والتقوى والمسؤولية الاجتماعية المتجذرة في وجدانه وكيانه.
الإحسان إيجابية، والمسلم مطالب بان يكون الإحسان هدفه، وغايته لأن الله يأمر بالعدل والإحسان قولاً وعملاً، يقول تعالى: ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن)[الإسراء 53]، ويقول تعالى: (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون)[التوبة 121]، وكذلك فإن الإسلام توجه في تربيته إلى مجتمع العمل ليكون متقناً كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجعل الإسلام العمل المعيار الأوحد لما يكسبه الإنسان في الحياة، وجعل إتقان العمل عبادة تحبب العامل إلى الله، وتحقق له سر استخلافه ووجوده، فالمجتمع العامل هو المجتمع المنتج الذي يعتمد أفراده في كسبهم على جهدهم العضلي والفكري، لذلك دعا الإسلام إلى العمل وباركه وجعل له جزاء في الآخرة مع جزاء الدنيا.
كما أن الإسلام يحرم استغلال الإنسان، وسلب جهده وطاقته ، كما أكد الإسلام على حق العامل في ملكية أجره وحمايته والوفاء له والتعجيل بإعطاء الأجير حقه قبل أن يجف عرقه، بل جعل الإسلام كل عمل يقوم به المسلم طاعة لله إذا قصد مصلحة البشر وأتقنه وأخلص فيه، وجعل العمل عبادة وقربى يعتبر من أعظم الدوافع لبذل الجهد وكثرة الإنتاج، وفي المقابل حرم الإسلام البطالة وعابها فجعل اليد العليا خيراً من اليد السفلى وحض على العمل، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه ))[3].
و المشكلة أننا نقر هذه المبادئ نظرياً ونحدث عنها كثيراً، ولكننا لا نترجمها في واقع مجتمعنا الذي يتميز بضعف الإنتاج، والتهرب من العمل، وعدم الإتقان بل يحمل قيماً فكرية نحو العمل مخالفة لمفهوم الإسلام.
مجتمعنا يحتاج إلى تغيير جذري في مفاهيم العمل وأهمية الإنتاج ويحتاج إلى تعليم مكثف لأهمية الإتقان لكل عمل يقوم به، فنحن لا نتعلم من ديننا ولا نتعلم من غيرنا، وتربيتنا الأسرية والمدرسية والحياتية لا تقوم على أهمية أن تعمل، وتكد وتجتهد وتبني في الحياة بل إن مفاهيم خاطئة لا تفرق بين التكافل كقيمة حياتية، والتواكل والتكاسل كعيوب سلوكية وحياتية، وإلى الآن لم توضع البرامج التي ستغير من أساليب العمل.
و مفاهيم الإنتاج في المستقبل والتعليم العام والجامعي في بلادنا يدلان على أننا لا نسعى لتغيير هذا المجتمع إلى الأفضل والأحسن، وسنظل عالة على غيرنا نستهلك ما يصنعون وينتجون ونمارس فضيلة المناقشة والجدال والتنظير والتجديد للشعارات والأماني وأحلام اليقظة التي أدمنها مجتمعنا.
و المجتمع المتعلم هو المجتمع الذي يبشر بالحضارة والرفاهية والنظام والتخطيط والإنتاج والازدهار، وهو المجتمع المعصوم من الفوضى والتسيب، والمبرأ من الأمية والجهل والخرافة، وكل مظاهر التخلف الحضاري والعلمي، وهو المجتمع الذي يربط الأسباب بالمسببات، والنتائج بالمقدمات، ويكتشف قوانين الله في الكون، ويحسن التعامل معها والاستفادة منها، وأول آيات الوحي كانت دعوة إلى المجتمع المتعلم المعتمد على المنهج العلمي.
والمنهج العلمي الذي أصله المسلمون وعممه علماء الحديث، وقبل ذلك وضع أساسه القرآن الكريم هذا المنهج هو الذي أوجد مجتمع العلم والحضارة وكان سر التقدم وبناء العقلية المسلمة على منهجية العلم والإيمان.
والذين يظنون أن أكثر المؤسسات الفارغة من المضامين العلمية الحقيقية يمكن أن تحدث تغييراً في المجتمع –هؤلاء واهمون- لأن هذا النوع من التغيير سيكون تغييراً شكلياً مظهرياً أجوف لا قيمة له في الحياة ولا أثر له في عملية التنمية والتقدم وسنظل نحرث في البحر ونضرب في حديد بارد.
[1] متفق عليه: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، ح رقم 48 ، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ح رقم 9.
[2] سنن الترمذي، كتاب الديات باب ما جاء في النهي عن المثلة، ح رقم 1329
[3] البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستحقاق في المسألة، ح رقم 1378
..................................................................
.............................
المشكاة ...(149/3)
إجبار المرأة على الزواج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وآله وصحبه. أما بعد:
أضاء نور الإسلام فأسفر ثغر الدهر لنساء العرب عن جو مشرق، وأمل بعيد، وأسلوب من الحياة جديد. رسخت أصول الإسلام، وورفت ظلاله، وخفقت على الخافقين أعلامه، ونعمت المرأة تحت ظله بوثوق الإيمان، ونهلت من معين العلم، وضربت بسهم في التشريع وشرع لها من الحقوق ما لم يشرع لأمة من الأمم في عصر من العصور، فقد أمعنت في سبيل الكمال طلقة العنان، حتى أخملت من بين يديها، وأعجزت من خلفها، فلم تشبهها امرأة من نساء العالمين في جلال حياتها وسناء منزلتها.
تلك هي المرأة التي وثب بها الإسلام، ووثبت به، وكان أثرها في تكوين رجاله، وتصريف حوادثه أشبه ما يكون بأثر الغدير الهادئ الفياض في زهر الرياض1.
إن الإسلام لم يعتبر المرأة جرثومة خبيثة كما اعتبرها الآخرون، ولكنه قرر حقيقة تزيل هذا الهوان عنها، وهي أن المرأة بين يدي الإسلام قسيمة الرجل، لها ما له من الحقوق وعليها أيضاً من الواجبات ما يلائم تكوينها وفطرتها، وعلى الرجل بما اختص به من شرف الرجولة، وقوة الجلد، وبسطة واتساع الحيلة، أن يلي رياستها، فهو بذلك وليها، يحوطها بقوته، ويذود عنها بدمه، وينفق عليها من كسب يده، ذلك ما أجمله الله، وضم أطرافه، وجمع حواشيه، بقوله تباركت آياته: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} سورة البقرة: (228).
تلك هي درجة الرعاية والحياطة، لا يتجاوزها إلى قهر النفس، وجحود الحق.. ولئن قرن الإسلام بين الرجل والمرأة في عامة المواطن، فلقد عرف لها نصيبها من رقة القلب، ودقة الوجدان، وأنها مناط شرف الرجل، وموطن عرضه، فاختصها بنصيب من الحرمة والكرامة لم يظفر بمثله نظراؤها من الرجال.
إن كرامة المرأة في الإسلام تتناول شخصها وسيرتها، وتشمل مشهدها ومغيبها، فمن حقها أن تكون في موطن الرعاية والعناية، وأن يكون اسمها بمنجاة من لغو القول، ومنال اللسان2.
ومما يدل على احترام الإسلام للمرأة ورعاية حقوقها مسألة نكاح المرأة واختيارها في ذلك: فقد بوب الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه وقال: باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما، ثم أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)، قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت)3.
وحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي قال: رضاها صمتها)4.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: قوله: (باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها) في هذه الترجمة أربع صور: تزويج الأب البكر، وتزويج الأب الثيب، وتزويج غير الأب البكر وتزويج غير الأب الثيب.
وإذا اعتبرت الكبر والصغر زادت الصور، فالثيب البالغ لا يزوجها الأب ولا غيره إلا برضاها اتفاقاً إلا من شذ كما تقدم، والبكر الصغيرة يزوجها أبوها اتفاقاً إلا من شذ كما تقدم، والثيب غير البالغ اختلف فيها فقال مالك وأبو حنيفة: يزوجها أبوها كما يزوج البكر، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: لا يزوجها إذا زالت البكارة بالوطء لا بغيره، والعلة عندهم أن إزالة البكارة تزيل الحياء الذي في البكر، والبكر البالغ يزوجها أبوها وكذا غيره من الأولياء، واختلف في استئمارها. والحديث دال على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. وسأذكر مزيد بحث فيه.
وقد ألحق الشافعي الجد بالأب. وقال أبو حنيفة والأوزاعي في الثيب الصغيرة يزوجها كل ولي فإذا بلغت ثبت الخيار. وقال أحمد: إذا بلغت تسعاً جاز للأولياء غير الأب نكاحها، وكأنه أقام المظنة مقام المئنة، وعن مالك يلتحق بالأب في ذلك وصي الأب دون بقية الأولياء؛ لأنه أقامه مقامة كما تقدمت الإشارة إليه، ثم إن الترجمة معقودة لاشتراط رضا المزوجة بكراً كانت أو ثيباً صغيرة كانت أو كبيرة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث، لكن تستثنى الصغيرة من حيث المعنى لأنها لا عبارة لها 5. أ.هـ
فيتضح من كلام الحافظ رحمه الله تعالى: أنه لا ولاية إجبار على المرأة سوى الصغيرة حيث إنها لا عبارة لها وقد بوب البخاري رحمه الله تعالى باباً آخر فقال: باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود 6.
وقد ذكر الفقهاء هذه المسألة واختلفوا فيها. قال الشيخ: د/ عبد الكريم زيدان في كتابه المفصل في أحكام المرأة 7:القول الراجح في تزويج البالغة البكر:والراجح من أقوال الفقهاء في مسألة تزويج البالغة العاقلة البكر وهو ما يأتي:
أ - لا ولاية إجبار لأحد على البالغة العاقلة البكر، فلا يجوز لوليها أباً كان أوغيره أن يزوجها إلا بإذنها ورضاها.
ب - إذا زوجها الوالي ورضاها فالنكاح مفسوخ إلا إذا أجازته.(150/1)
ج- لا يجوز للمرأة أن تزوج نفسها بنفسها إلا إذا أذن لها الولي، فإن أَذِن فعبارتها صالحة لإنشاء عقد النكاح، وإن لم يأذن وعقدت النكاح لنفسها فنكاحها باطل.
د- إذا عضلها الولي ولم يأذن لها بتزويج نفسها ولا بأن يزوجها بالكفؤ راجعت القاضي لرفع الظلم عنها.
قال: ونذكر فيما يلي الأدلة على ترجيح ما رجحناه: ثم ذكر زيدان الحديث السابق ذكره الذي رواه البخاري وترجمة البخاري لذلك الحديث بقوله: باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، ونقل كذلك كلام الحافظ بن حجر في شرح ذلك الحديث قال: وأخرج هذا الحديث أيضاً مسلم في صحيحه كما أنه أخرجه بروايات أخرى منها:
أولاً: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها سكوتها) وفي رواية أخرى لمسلم:(الثيب أحق بنفسها من وليها) والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها)8.
وأخرج هذا الحديث برواية البخاري، وبروايات مسلم وأصحاب السنن: أبودواد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كما أخرجه الدارمي والبيهقي9.
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله بعد أن ذكر أحاديث استئذان البكر قبل تزويجها وظاهر أحاديث الباب، أن البكر البالغة إذا زوجت بغير إذنها لم يصح العقد)10.
ومعنى ذلك:أن الولي ليست له ولاية إجبار على البالغة البكر وأنه لا يزوجها إلا بإذنها، ولهذا إذا زوجها لم يصح عقد النكاح.
ثانياً: الأدلة على أن تزويج الولي البالغة البكر دون إذنها مفسوخ إلا أن تجيز:
1- أخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن جاريةً بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في شرحه: في الحديث دلالة على تحريم الإجبار للأب لابنته البكر على النكاح، وغيره من الأولياء بالأولى11. وجاء في كتاب (سبل السلام) في شرح هذا الحديث: وقد تقدم حديث أبي هريرة المتفق عليه وفيه: ولا تنكح البكر حتى تستأذن) وهذا الحديث أفاد ما أفاده، فدل على تحريم إجبار الأب لابنته البكر على النكاح، وغيره من الأولياء بالأولى، ثم قال صاحب(سبل السلام) وهو يشرح هذا الحديث: وقال البيهقي: حديث ابن عباس هذا محمول على أنه زوجها من غير كفؤ. قال صاحب سبل السلام تأويل البيهقي لا دليل عليه، فلو كان كما قال لذكرته المرأة، بل قالت: إنه زوجها وهي كارهة فالعلة كراهيتها، وعليها علق التخيير فأينما وجدت الكراهة في تزويج الولي البالغة العاقلة البكر ثبت الحكم وهو التخيير 12.
2- أخرج النسائي في سننه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: إن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته وأنا كارهة، فقالت عائشة: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله: قد أجزت ما صنع أبي، ولكني أردت أن أعلم النساء 13.
وقال صاحب(سبل السلام) في تعليقه على هذه الحديث الشريف: والظاهر أنها بكر، ولعلها البكر التي في حديث ابن عباس، وقد زوجها أبوها كفؤاً: هو ابن أخيه. وإن كانت ثيباً، فقد صرحت أنه ليس مرادها إلا إعلام النساء أنه ليس للآباء من الأمر شيء عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقرها عليه. والمراد بنفي الأمر عن الآباء نفي التزوج للكراهة لأن السياق في ذلك فلا يقال هو لكل شيء14.
قال الشيخ زيدان: دلالة الأحاديث على ما رجحناه: وواضح من هذه الأحاديث النبوية الشريفة أن الأب إذا زوج ابنته البالغة البكر بدون إذنها ورضاها فالنكاح مفسوخ إلا إذا أجازته. وقد يقال: ليس في هذا الحديث برواياته المختلفة تصريح بأن الجارية التي زوجها أبوها وهي كارهة كانت بكراً، أليس من الجائز أن تكون ثيباً؟ وبالتالي لا يكون في هذا الحديث دلالة على ما رجحناه من أن البالغة البكر لابد من إذنها لصحة تزويجها من قبل الولي؟ والجواب أن يقال: وأيضاً ليس في الحديث صراحة على أن الجارية التي زوجها أبوها كانت ثيباً، هذه واحدة، والثانية: أن شراح هذا الحديث قالوا: إن الجارية التي زوجها أبوها وأشار إليها الحديث كانت بكراً، والثالثة: أن حكم الحديث يشمل البكر لأن لفظ(النساء) في الحديث الشريف عام فيشمل البكر والثيب، وقد أشار إلى هذا صاحب سبل السلام 15.
إذن الخلاصة أيها الأخوة: لا يجوز تزويج المرأة إلا بإذنها بكراً كانت أم ثيباً عدا الصغيرة البكر. فهذا الحق كفله الإسلام للمرأة.(150/2)
وكم يحزن القلب ويكلم الفؤاد عندما يسمع عن آباء لا يتقون الله في بناتهم، فاتخذوا تلك البنات سلعة يتاجرون بها، فهمّ الواحد منهم أن يزوج ابنته بأعلى المهور لأي رجل ولو كان فاسقاً أو منحرفاً أو قاطع صلاة، وليته أعطاها المهر الذي أوجبه الله لها، بل إنه حرمها منه، وأجبرها على ذلك الزواج فأقول لهؤلاء: اتقوا الله تعالى في بناتكم وأخواتكم. واحرصوا على تزويجهن بصاحب التقوى والدين وارعوا حقوق من استأمنكم عليهن، وأحسنوا تربية أولادكم وبناتكم.
والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - عودة الحجاب (2/65) نقلاً عن المرأة العربية (2/14) بتصرف.
2 - المصدر السابق (2/76).
3 - البخاري مع الفتح رقم (5136)(9/98).
4 - البخاري مع الفتح برقم (37/5)(9/98).
5 - فتح الباري (9/89).
6 - البخاري مع الفتح (9/101) وذكر حديث خنساء بنت خدام الأنصارية رضي الله عنها.
7 - المفصل في أحكام المرأة د/ عبد الكريم زيدان (6/449-452).
8 - صحيح مسلم الشرح النووي (9/202-205).
9 - سنن أبي داود (6/115-116)، جامع الترمذي(4/240-241) سنن النسائي (6/69-70) سنن ابن ماجه(1/601-602)، سنن الدارمي(2/138) السنن الكبرى للبيهقي (7/115).
10 - نيل الأوطار للشوكاني (6/123).
11- عون المعبود وشرح سنن أبي داود (6/120-121).
12 - سبل السلام شرح بلوغ المرام لابن الأمير الصنعاني(3/162).
13- سنن النسائي (6/71).
14 - سبل السلام شرح بلوغ المرام للصنعاني(3/162-163).
15 - المفصل في أحكام المرأة د. عبد الكريم زيدان (6/449-452).(150/3)
إخبار رسول الله عن الأمور المستقبلية
... عبد العظيم بدوي الخلفي
... ...
1101
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب
ملخص المادة العلمية
أمور عدة أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقعت كما أخبر.
عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: ((فقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتي بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتّمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون)).
وهكذا أخبر النبي بإتمام هذا الأمر وانتشاره ، وهذا مما أظهره الله عليه من الغيب، ولقد تكررت مثل هذه البشارة منه لأمته بظهور الدين وغلبته، وفتحهم الكنوز والبلاد والأمصار، وكل ذلك من معجزاته .
ومن ذلك: حديث عدي بن حاتم قال: بينما أنا عند النبي إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي! هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: إن طالت بك حياة لترين الظعينة، ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدا إلا الله تعالى. قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعّار طيء الذين سعّروا البلاد؟ ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحدا يقبله منه.
وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فيقولن: ألم أبعث إليك رسولا فيبلّغك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالا أو أفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم، وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم.
قال عدي: فسمعت النبي يقول: ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شق تمرة فبكلمة طيبة)).
قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي : ((يخرج الرجل ملء كفّه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه)).
وعن ثوبان قال: قال رسول الله : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض)).
وعن عوف بن مالك قال: ((أتيت النبي في غزوة تبوك وهو في قبّة من أدم، فقال: اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان، يأخذ فيكم كعقاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفا)).
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله : ((إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحما)).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((بينما نحن حول رسول الله نكتب إذ سئل : أي المدينتين تفتح أولا؟ أقسطنطينية أو رومية؟ فقال : مدينة هرقل تفتح أولا يعني قسطنطينية)).
وقد تحقق الفتح الأول على يد السلطان محمد الفاتح كما هو معروف، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله ولابد، ولتعلمن نبأه بعد حين [ص:88].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)).
ومن إخباره بما أظهره الله عليه من الغيب: إخباره بمقتل نفر من المشركين يوم بدر: عن عمر بن الخطاب قال: ((إن رسول الله كان يرينا مصارع أهل بدر، يقول: هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله)).
قال عمر: والذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدود التي حد رسول الله .
وعن سعد بن معاذ قال: كنت صديقا لأمية بن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد، وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية، فلما قدم النبي المدينة أسلم سعد ثم إن سعداً قدم مكة سعدٌ معتمرا، فنزل على أمية بمكة، فقال لأمية: (انظر لي ساعة خلوة، لعلي أن أطوف بالبيت).
فخرج به قريبا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل، فقال: يا أبا صفوان! من هذا معك؟ فقال: هذا سعد.
فقال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتغيثونهم ؟! أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما، فقال له سعد، ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك على المدينة.(151/1)
فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم سيد أهل الوادي. فقال سعد: دعنا عنك يا أمية، فوالله لقد سمعت رسول الله يقول إنه قاتلك قال: بمكة؟ قال: لا أدرى، ففزع لذلك أمية فزعا شديدا، فلما رجع آمية إلى أهله قال: يا أم صفوان! ألم تري ما قال سعد؟ قالت: وما قال؟ قال: زعم أن محمدا أخبرهم أنه قاتلي، فقلت له: بمكة؟ قال: لا أدري، فقال أمية: والله لا أخرج من مكة.
فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس، قال: أدركوا عيركم، فكره أمية أن يخرج.
فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان! إنك متى ما يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذ غلبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة.
ثم قال أمية: يا أم صفوان جهّزيني، فقالت له: يا أبا صفوان! وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا، ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبا.
فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلا إلا عقل بعيره، فلم يزل كذلك حتى قتله الله عز وجل ببدر.
ومن إخباره بما أظهره الله عليه من الغيب: إخباره بقتل نفر من أصحابه يوم مؤته قبل أن يأتيه الخبر: عن أنس قال: نعى النبي زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: ((أخذ الراية زيد فأصيب ثم أخذ الراية جعفر فقتل، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان – حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله – يعني خالد بن الوليد – حتى فتح الله عليهم)).
ومن ذلك: إخباره عن رجل ممن يدعي الإسلام قاتل معه يوم حنين أنه من أهل النار: عن أبي هريرة قال: ((شهدنا مع رسول الله خيبر، فقال لرجل ممن معه يدعي الإسلام: هذا من أهل النار)).
فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال، فكثرت به الجراح، فجاء رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الذي تحدّثت أنه من أهل النار! قد قاتل في أشد القتال فكثرت به الجراح.
فقال : ((أما إنه من أهل النار)).
فكاد بعض الناس يرتاب، فبينما هو على ذلك إذ وجد الرجل ألم الجراح فأهوى بيده إلى كنانته فانتزع سهما فانتحر بها. فاشتد رجال من المسلمين إلى رسول الله فقالوا: يا رسول الله! صدّق الله حديثك قد انتحر فلان وقتل نفسه، فقال : ((الله أكبر! أشهد أني عبد الله ورسوله، يا بلال! قم فأذّن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)).
ومن ذلك: إخباره بأهوال تكون بين يدي الساعة: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال، فيفيض حتى يهمّ رب المال من يقبل صدقته، وحتى يعرضه، فيقول الذي عرضه عليه: لا إرب لي فيه، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا)).
ومما يبشر بالخير وينهى الأمة عن اليأس: إخباره برفع الخلافة ثم عودتها: عن حذيفة قال: قال النبي : ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت)).
وهكذا أخبر النبي بعودة الخلافة بعد رفعها.
وقد رفعت الخلافة منذ سبعين عاما، ونحن نرجو الله أن تعود قريبا بمنّه وكرمه، وهي عائدة إن شاء الله، شاء الناس أم أبوا، رضوا أم سخطوا، ولكن على من أراد لنفسه النجاة أن يعمل جاهدا على إعادتها لينال بذلك الشرف والمجد، وإلا فهي عائدة بإذن الله ولو كره المجرمون.
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية اضف إلى رف الخطب(151/2)
إخلاص العبادة لله في الحج
إعداد- سعيد عامر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه... وبعد.
فيقول الله عز وجل: وأتموا الحج والعمرة لله... {البقرة:196}.
أوجب الله الحج على القادر المستطيع، فرضه في العمر مرة، وندب إليه بقدر ما يطيق العبد، حتى سُنَّت المتابعة بين الحج والحج.
والحج فوق كونه شعيرة إسلامية، وركنًا ركينًا من أركان الدين، فإنه دعوة خالصة لموسم سنوي ومؤتمر عالمي، يحضر فيه المسلمون من كل فج عميق... يبتغي فيه الناس فوق المغفرة الفضل من الله بكل صنوف الفضل، فمن منافع جماعية إلى فوائد فردية، مؤتمر يجمع بين أهل الصلاة والتقى في موطن تنزل فيه الرحمة، والناس في خشوع وخضوع ورجاء ودعاء وتلبية، التوحيد منطقهم، والتعبد والذكر شغلهم، والله مولاهم ومقصدهم، ورضوانه سبحانه بغيتهم.
رحلة إيمانية نورانية مباركة، دعاهم ربهم فأجابوه ولبَّوْا نداءه. أسلموا قلوبهم لله، وانقادوا لأمره، وانصاعوا لحكمه، واعتصموا بكتابه، واستنوا بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأخلصوا العمل لله وحده، مع التوحيد الخالص، المطهر من شوائب الشرك وأدران الوثنية، واستمسكوا بالعروة الوثقى.
إذا وصل الحاج أو المعتمر إلى الميقات أحرم بالحج أو بالعمرة، والميقات هو المكان الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الدخول إلى مكة، ففي الحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ميقات أهل المدينة، ولأهل الشام الجحفة وتحاذيها رابغ وهي ميقات أهل الشام ومصر ومن مر بها، ورابغ تحاذي الجحفة وهي تطل على البحر. ولأهل نجد قرن المنازل ويعرف الآن بالسيل الكبير، وهو ميقات لأهل المشرق نجد والطائف وبلاد العراق وإيران ومن مر به ولأهل اليمن يلملم، ميقات أهل اليمن ويعرف الآن بالسعدية، يمر منه حجاج اليمن وإندونيسيا وماليزيا والصين والهند وحجاج جنوب آسيا، قال صلى الله عليه وسلم: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن فمهله من حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة".
وزاد جمهور المحدثين ذات عرق وهو ميقات لأهل العراق، وهو منصوص عليه بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم على الراجح، ويقع شرقي مكة، وهو مهجور الآن. وهذه المواقيت الخمسة لمن أراد الحج والعمرة لأهلها ولكل من مر عليها من غير أهلها إذا مر بها أو حاذاها، ومن أحرم بعد تجاوز الميقات، فعليه إما أن يعود إلى الميقات ليحرم منه، أو عليه فدية ذبيحة لا يأكل منها.
وعلى من أحرم أن يرفع صوته بالتلبية. روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في سياق حجته صلى الله عليه وسلم "... فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء... فأهل النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد "لبيك اللهم لبيك....".
وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بالتلبية، وأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بها وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم التلفظ بقول "نويت...." لا في صلاة ولا في حج ولا غيره النية محلها القلب، وعليه أن يقول: لبيك اللهم حجًا أو لبيك اللهم عمرة، ثم يشرع في التلبية.
وقد جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة أخبرنا فيها عن رؤيته صلى الله عليه وسلم أو رؤياه لكثير من الأنبياء والمرسلين وهم قاصدون بيت الله الحرام حاجين معتمرين، يرفعون أصواتهم بالتلبية لله عز وجل، ومن هذه الأحاديث.
ما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق(1) قال: "أي واد هذا"؟ فقالوا: هذا وادي الأزرق، قال: "كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثنية وله جؤار إلى الله بالتلبية" ثم أتى ثنية هرشى(2)، فقال: "أي ثنية هذه"؟ قالوا: ثنية هرشى. قال: "كأني أنظر إلى يونس بن متَّى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة مكتنزة اللحم عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة وزمام ناقته من ليف وهو يلبي".
وفي الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أراني ليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم أسمر اللون كأحسن ما أنت راء من أُدم الرجال، له لمة الشعر إذا جاوز المنكبين كأحسن ما أنت راء من اللِّمم قد رجّلها سرحها فهي تقطر ماء، متكئًا على رجلين يطوف بالبيت، فسألت من هذا؟ فقيل: هذا المسيح ابن مريم) والتلبية نداء جديد، لأن خاتم النبيين محمدًا صلى الله عليه وسلم، ندب إليه، وقاد قوافل ووضع مناسكه، وإن وفود الحجيج وهي تنطلق صوب البيت العتيق ملبية هذا النداء، ومخلفة وراءها مشاغل الدنيا، وهاتفة بأصوات خاشعة "لبيك اللهم لبيك..." إن هذه الوفود تؤكد ما يجب على الناس جميعًا لله سبحانه من إخلاص له، وطاعة مطلقة، وانقياد تام، وذكر وشكر وتوحيد وتمجيد.(152/1)
فنداء الحجيج يصدقه كل شيء في البر والبحر والجو، فالملبي عندما يرفع النداء يتجاوب مع الملكوت الساجد طوعًا وكرهًا، أو يتجاوب معه الملكوت.
روى الترمذي والبيهقي وابن ماجه "ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا، وها هنا عن يمينه وشماله".
فالجبال كانت تردد مع داود عليه السلام، وتصغى إليها الطير الغاديات والرائحات.
قال تعالى: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب {ص:18-19}.
إن هذه التلبية الآن ينفرد بها أتباع محمد صلى الله عليه وسلم حملة راية التوحيد، أما غيرهم فهم بين معطل ومشرك وجاحد ومنحرف، وقد كان أهل الجاهلية الأولى يشركون في تلبيتهم كما روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويلكم قدٍ قدٍ" (كفاكم هذا الكلام فاقتصروا عليه ولا تزيدوا) (والمعنى: فيقولون: إلا شريكا هو لك تملكُهُ وما مَلك يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت، ومن ثم كانت التلبية الإسلامية هي شعائر حج التوحيد، الذي هو روح الحج، ولذلك أمرنا الله بإتمام الحج والعمرة في إخلاص كامل له سبحانه، فتكون الحجة والعمرة لله، لا رياء فيها ولا سمعة.
وقد علق العلامة ابن القيم على هذه التلبية فقال: قد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة.
إحداها: أن قولك: "لبيك" يتضمن إجابة داع دعاك ومنادٍ ناداك.
الثانية: أنها تتضمن المحبة. ولا يقال: لبيك إلا لمن تحبه وتعظمه.
الثالثة: أنها تتضمن التزام دوام العبودية.
الرابعة: أنها تتضمن الخضوع والذل.
الخامسة: أنها تتضمن الإخلاص، ولهذا قيل: إنها من اللب، وهو الخالص.
السادسة: أنها تتضمن الإقرار بسمع الرب تعالى.
السابعة: أنها تتضمن التقرب من الله، ولهذا قيل: إنها من الإلباب، وهو التقرب.
الثامنة: أنها جعلت في الإحرام شعارًا للانتقال من حال إلى حال، ومن منسك إلى منسك.
التاسعة: أنها شعار التوحيد ملة إبراهيم، الذي هو روح الحج ومقصده، بل روح العبادات كلها ومقصودها.
العاشرة: أنها متضمنة لمفتاح الجنة وباب الإسلام الذي يدخل منه إليه وهو كلمة الإخلاص والشهادة ثم قال:
الأخيرة: أن كلمات التلبية متضمنة للرد على كل مبطل في صفات الله من الجهمية المعطلين لصفات الكمال التي هي متعلق الحمد، فهو سبحانه محمود لذاته، ولصفاته ولأفعاله(3). ..... فيجب إخلاص النية لله في الحج أو العمرة.
(1) وادي الأزرق بالحجاز. ماء في طريق حجاج الشام.
(2) الثنية: ما ارتفع من الأرض. وهرشى بسكون الراء والقصر آخرها، وهي ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة، يُرى منها البحر.
(3) انظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود، بيروت دار الكتب العلمية (5-180978).(152/2)
إخلاصنا مريض يوشك أن يموت !
12 جرعة ليتماثل للشفاء
أبو أحمد الزهراني
إذا أحسست بأي وعكة في إخلاصك فانتقل فوراً إلى أقرب خلوة لا يراك فيها إلا الله تصفح هذا الكتيب وحاول أن تستشعر ما فيه من الآيات والأحاديث.
يتوقع في هذه الحالة أن تسيل على خدك قطرات من الدمع تكون بإذن الله طهراً لقلبك مما وقع فيه. كرر هذه الطريقة كلما أحسست بسهام إبليس تتوجه نحو إخلاصك لربك. لا تنسانا من صالح دعائك
تعريف الإخلاص قيل فيه أقوال كثيرة ولعل من أفضلها تعريف الهروي قال: الإخلاص تصفية العمل من كل شوب.
منزلة الإخلاص من الدين:
قال أبن رجب رحمه الله في شرح حديث إنما الأعمال بالنيات: والنية في كلام العلماء بمعنيين أحدهما : بمعنى تمييز العبادات بعضها من بعض وهذه هي التي توجد في كلام الفقهاء وفي كتبهم. والثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل هل هو لله وحده لا شريك له ، أم غيره ، أم الله وغيره ،وهذه النية هي التي يتكلم عنها العارفون في كتبهم وفي كلامهم عن الإخلاص وتوابعه ،وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفاً سماه :كتاب الإخلاص والنية وهي التي يتكرر ذكرها في كلام النبي صلى الله عليه وسلم تارة بلفظ النية وتارة بلفظ الإرادة وتارة بلفظ مقارب لذلك وقد جاء ذكرها كثيراً في كتاب الله عز وجل ........إلخ
ونستفيد من كلام الإمام ابن رجب هنا أن المقصود الأول من النية في الشرع قبل أن يكون تمييز العمل المراد يكون تمييز المقصد المراد هل هو الله تعالى ورضاه أم المقصود غير الله أم المقصود الله وغيره وبهذا يتبين لنا أن جميع الأحاديث والآيات التي تتكلم عن المقاصد إنما هي بالدرجة الأولى إلى الإخلاص لله في القصد. فمنزلة الإخلاص في الدين أن الدين هو الإخلاص والإخلاص هو الدين فالدين إنما جاء ليقوم الناس بالإخلاص فهو يدعو إلى الإخلاص بنوعيه وقسميه:
1- إخلاص القصد لله.
2- إخلاص الطاعة والامتثال لله بالمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم
وقد جاءت القرآن فضلاً عن السنة جاء بالأدلة الصريحة في الأمر بالإخلاص والدعوة إليه والنص على أنه شرط لقبول الأعمال. من هذا قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف: 110) وقال {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } البقرة: 207 وقال {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} النساء: 114. وقال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّه} البقرة272. وقال: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} الرعد 22.
إلى غير ذلك من الآيات التي تنص على الإخلاص وتدعو إليه ونختتم الحديث في منزلة الإخلاص بكلمة لمؤلف استفدت منه كثيراً في هذا البحث وهو حسين العوايشة في كتابه الإخلاص قال في ذلك الكتاب : قبل أن تخطوا خطوة واحدة أخي المسلم عليك أن تعرف السبيل التي فيها نجاتك فلا تتعب نفسك بكثرة الأعمال فرب مكثر من الأعمال لايفيده إلا التعب منها في الدنيا والعذاب في الآخرة (رب صائم ليس له من صيامه إلا التعب ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ) فلتعلم قبل كل شي ماذا يشترط للأعمال حتى تقبل فلا بد من أمرين . أولهما : أن يكون صاحبه قد قصد به وجه الله تعالى.
ثانيهما: أن يكون موافقاً لما شرع الله تعالى في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
ما هو موضوع حديثنا في هذه الأوراق !
موضوع الإخلاص موضوع طويل بل الدين كله إنما هو الحديث عن الإخلاص ولكن أي جوانب الإخلاص سنتناول في هذه الأوراق ؟ لتحديد موضوع حديثنا هنا نستعيد تعريف الهروي المختار وهو قوله الإخلاص تصفية العمل من كل شوب فالعمل إما أن يكون: خالصاً لله. أو يكون خالصاً لغير الله وفيه من الشرك ما يخرج من الإسلام .
وإما أن يكون العمل في أصله لله ولكن تشوبه شوائب تفسده أو تنقص من أجره وهذا هو محل حديثنا الشوائب فقط فما هي يا ترى شوائب الأعمال ؟ شوائب العمل ثلاث شوائب لا يكاد عمل أن يطهر من واحدة حتى يقع في الأخرى إلا من رحم الله فالعمل إما أن يشوبه تعظيم الناس وقصدهم بشيء منه وهذا هو الرياء وإما أن يشوبه تعظيم النفس
والذات فينسب لها شيء من الفضل وهذا هو العجب الذي قد يصاحب العمل حتى في الخلوات.(153/1)
وإما أن يشوبه تعظيم الدنيا وطلبها بعمل الآخرة. وقلما ينجوا عمل من شائبة من هذه الشوائب وقد تشوبه جميع الشوائب وتحيط به جميع المفاسد ولا حول ولا قوة إلا بالله. علاج مريض الإخلاص تبين لنا أن من الناس من الإخلاص عندهم ميت وليس حديثنا هنا عنهم. ومن الناس من إخلاصهم مريض قد أصابته العلل والشوائب فهو في أمس الحاجة للعلاج والدواء قبل أن يستفحل المرض وربما أدى إلى وفاة الإخلاص عند صاحبه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فحديثنا عن هؤلاء وعلاجهم لعل الله أن يكتب لنا ولهم الشفاء طبيعة الدواء وقبل الحديث عن العلاج لابد أخي الكريم أن ننبه إلى أمر وهو مرارة هذا العلاج وصعوبة تناوله فأصعب شيء مجاهدة النفس على الإخلاص فالمريد للإخلاص يحمل نفسه على السير على سراط جهنم الذي هو أحد من السيف وأدق من الشعرة و أروغ من الثعبان عليه كلاليب كشوك السعدان لا يعلم قدر كبرها إلا الله قال تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} وقال تعالى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ( ) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } قال صلى الله عليه وسلم ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي) قال يوسف بن الحسين : أعز شيء في الدنيا الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي فكأنه ينبت على لون آخر. قال ابن أسباط : تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد . قال الشيخ محمد المنجد : أي أن الإنسان يستطيع أن يجاهد نفسه فيطول اجتهاده ولكنه يجاهد نفسه فلا يملك طول إخلاصه وحسن نيته فهي أشد تقلباً من القدر إذا استحكمت غليلناً.
نخلص مما سبق أخي الكريم بما يلي :
أن المرض خطير وفتاك والعلاج موجود ومتوفر العلاج مر وعلقم والتعالج صعب وشاق (حفت الجنة المكاره وحفت النار بالشهوات) لكن العاقبة حميدة وعظيمة قال تعالى {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } (محمد: 15. وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من كذا آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر على وجهه في جنة عدن )) متفق عليه
الجرعة الأولى: تعظيم الله تعالى
وذاك أن تعلم أن الفضل فضله وحده وأن ما من خير في الأرض ولا في السماء إلا هو منّة منه على عباده لا فضل لأحد فيها ومن ذلك الأعمال الصالحة هذه واحدة والثانية أن تعلم عظمة حق الله على عباده وهو أن يعبدوه في كل سكنة وحركة منهم وأن يقصدوه بالعبادة في كل ذلك.
نعم أخي الحبيب إن من فقد الإخلاص أو شي منه فقد نسي الله وتغافل عن عظيم فضله وغفل عن عظيم حقه تعالى. من فقد الإخلاص غفل عن { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( ) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ( ) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ( ) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} طه: 5-7 لقد غفل عن من قال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} لقد كافأ فاقد الإخلاص به تعالى غيره وأشركه فيما لا ينبغي إلا له تعالى وهل هناك ظلم أشنع وأقبح من هذا ؟ أفمن يخلق كمن لا يخلق؟ فتعظيم الله حق تعظيمه هو الطريق إلى الإخلاص والخلاص من هذا الداء وعلى من وجد عنده شي من هذا المرض أن يستشعر عظمة الله تعالى وأن يتعالج بعبادة التفكر في ملكوت السماوات والأرض قال تعالى واصفاً عباده المخلصين {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار}(153/2)
الجرعة الثانية: أن تعلم حقارة من صرفت له شي من العمل.
يا مرائي من ترائي أترائي الماء المهين وذلك الخلق الهزيل وغداً في القبر رهين. يا مرائي لو أتيت على من رائيته بعد ثلاث ليال لشاهدة منظر أفزعك وأقض مضجعك رأيت البطن وقد انفظخ بعد أن انتفخ وإذا بالروائح قد انبعثت والدود قد تكاثر وتناثر .يا معجباً بنفسه ما هو أصلك وما هو اليوم حشوك وكيف سيكون قبرك؟! قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الحج73 وقال تعالى يصف ضعف الإنسان {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} الروم .54
ومما يصرف الناس له مقاصدهم ونواياهم ويعظمونه تعظيماً يزاحم عندهم تعظيم الله الدنيا وزينتها وقد حقرها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} وقال صلى الله عليه وسلم (( ما الدنيا عند الله تساوي جناح بعوضة ولو ساوتها ما سقى منه كافر شربة ماء)) الترمذي الزهد ومر عليه الصلاة والسلام بأصحابه على جيفة جدي أسك فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال : أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به!!؟ قال : أتحبون أنه لكم ؟ قالوا : والله لو كان حياً كان عيب فيه لأنه أسك فكيف وهو ميت؟ فقال : فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم . رواه مسلم ومن هوان الدنيا على الله أنه يعطيها الكافر والمسلم لهونها على الله قال تعالى { وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } الزخرف 34 .
وهذا من حقارة الدنيا وهوانها وسرعة زوالها وتحول عافيتها قال صلى الله عليه وسلم ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خير قط هل مربك نعيم قط فيقول: لا والله يا ربي . ويؤتى بأشد الناس بؤساً من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط هل مر بك شدة قط؟ فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط) رواه مسلم. فيا من عبد الدينار والدرهم كيف بك إذا صبغت في لنار صبغة؟؟
الجرعة الثالثة : أن تعلم فضائل الإخلاص العاجلة والآجلة
قال تعالى {(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ( ) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } يا عبد الله والله لا يغني عنك يوم القيامة ولا ينجيك في تلك المواطن إلا إخلاصك لله بأعمال تابعت فيها ما شرع . (({ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } المائدة127
وقال صلى الله عليه وسلم: ( ما قال عبد لا إله إلا الله قط خالصاً من قلبه إلا فتحت لها أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ، ما اجتنبت الكبائر) صحيح الجامع 5524 وقال (( إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) وقال ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) ومما يتجلى فيه فضل الإخلاص من الأحاديث حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله تعالى قال في الحديث : إمام عادل [ "فمن الذي منعه من الظلم إلا خوف الله" شاب نشأ في طاعة الله" [فمن الذي منعه من نزوات الشباب وشهواته إلا إخلاصه لله" ورجل معلق قلبه بالمساجد "وهل هي إلا بيوت الله وهل تطلب فيها الدنيا والحظوظ"] ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة أخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) البخاري الأذان.(153/3)
ومن فضائل الإخلاص أن صاحبه يبلغ من الأجر مبلغ نيته وإن لم يعمل شيئاً مما نوى!! قال صلى الله عليه وسلم (من سأل القتل في سبيل الله صادقاً من قلبه أعطاه الله أجر شهيد وإن مات على فراشه )) الترمذي وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال (إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم) قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة ؟؟ قال وهم بالمدينة حبسهم العذر ))رواه البخاري وقال ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى ،فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) قال صلى الله عليه وسلم (إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مال و علماً فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقاً فهذا بأفضل المنازل وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهما في الأجر سواء وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقاً فهو بأخبث المنازل وعبد قال لو أن عندي مثل فلان لعملت بعمل فلان فهما في الوزر سواء) الترمذي الزهد
وبالإخلاص يكون ثواب الأعمال : وقال (ما من مكلوم في الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى اللون لون الدم والريح ريح المسك) البخاري الذبائح. وقال (من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة) البخاري الصلاة وبالإخلاص ينال الفضل العاجل. قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} قال صلى الله عليه وسلم (( من سره أن يجد حلاوة الإيمان فليحب المرء لا يحبه إلا لله)) احمد. وقال: ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) البخاري الإيمان.
ومن فضائل الإخلاص أنه يتوسل إلى الله به في الكُربات فيكشفها وفي ذلك حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة في الغار وكلهم يتوسل بعمله وينص على الإخلاص فيه فيقول ( اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون) ومن أعظم فضائل الإخلاص أن به تكون العصمة من الشيطان قال تعالى حاكياً قول إبليس واعترافه أنه لا طريق له على عباد الله المخلصين قال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } الحجر 40
الجرعة الرابعة: معرفة عظيم جرم من جعل لله شريكاً في عمله ومقصده
قال تعالى { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الزمر 65. أنظر لهذا الوعيد يوجه من الله إلى أعظم الناس عبادة وأكثرهم لإن أشركوا وقصدوا بعملهم غير الله ولو لحظة ليحبط عملهم ويكونوا في الآخرة من الخاسرين فكيف بمن دونهم !! فحبوط العمل وخسران صاحبه في الآخرة نتيجة محققة لمن أشرك في عمله قال صلى الله عليه وسلم (( يقول الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه )) مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ) رواه أبو داود وقال صلى الله عليه وسلم ((الدنيا ملعونة ماعون ما فيها إلا ما ابتغي به وجه الله )) الترمذي الزهد .
و يعامل به المرائي والمسمع ضد قصده فيفضح في الآخرة على رؤوس الخلق عن جندبا قال النبي صلى الله عليه وسلم (من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به ) البخاري الرقاق. قال (( من سمع سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره) احمد 622 . وقال (( ما من عبد يقوم مقام سمعة ورياء إلا سمع الله به على رؤوس الخلائق يوم القيامة )) وقال صلى الله عليه وسلم (( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر قال الرياء يقول الله عز وجل إذا جازي الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)) احمد وقال(( إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك )) الترمذي تفسير القرآن.(153/4)
ومما يدلك أخي على خطورة عدم الإخلاص في العمل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من الأحاديث التي تحذر من ذلك وتبين خطره بالنسبة لبقية الذنوب عن أبي سعيد الخدري قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال (( الا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟؟ فقلنا بلى يا رسول الله فقال : الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل) وقال صلى الله عليه وسلم (( إياكم وشرك السرائر يقوم الرجل يزين صلاته جاهد لما يرى من نظر الناس إليه فذلك شرك السرائر) ولعل من أعظم ما يخوف به ويتوعد به من فقد الإخلاص دعاء الرسول صلى الله عليه حيث قال) تعس عبد الدينار تعس عبد الخميلة تعس عبد الخميصة تعس ونتكس وإذا شيك فلا أنتقش)
وختاماً لهذه الجرعة من العلاج وهي معرفة ختر الشرك في العمل فلنستمع لهذه القصة التي تحكي خوف السلف والصحابة من الرياء وتأثرهم عند ذكر مصير أهله : عن شفي الأصبحي أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع الناس عليه فقال من هذا ؟ فقالوا أبو هريرة فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس فلما سكت وخلا قلت :له أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته . فقال: أبو هريرة رضي الله عنه أفعل لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكث قليلاً ثم أفاق فقال : لاحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة أخرى ثم أفاق فمسح وجهه فقال :لأحدثنك حديث حدثنيه رسول الله عليه وسلم وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره ثم أبو هريرة نشغة شديدة ثم مال خاراً على وجهه فأسندته طويلاً ثم أفاق فقال :حدثني رسول الله عليه وسلم أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية فأول من يدعوا به رجل جمع القرآن ورجل يقتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله للقارئ :ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي فيقول بلى يا رب . قال: فما عملت فيما علمت ؟ قال :كنت أقوم به أناء الليل وأناء النهار . فيقول: الله كذبت وتقول الملائكة كذبت بل أردت أن يقال إن فلاناً قارئ فقد قيل ذلك. ثم يؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم ادعك تحتاج إلى أحد قال بلى يا رب قال :ماذا عملت فيما آتيتك؟ قال :كنت أصل الرحم وأتصدق فيقول الله له: كذبت وتقول :الملائكة كذبت ويقول الله تعالى بل أردت أن يقال فلان جواد فقد قيل ذاك . ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول :الله له في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت . فيقول :الله له كذبت وتقول :الملائكة كذبت ويقول :الله بل أردت أن يقال فلان جرئ فقد قيل ذاك. قال أبو هريرة :ثم ضرب رسول الله على ركبتي فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة .
وحدث العلاء بن حكيم أنه كان سيافاً لمعاوية رضي الله فدخل عليه رجل أخبره بهذا عن أبي هريرة فقال معاوية :قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس ثم بكى معاوية بكاء شديد حتى ظننا أنه هالك وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشر ثم أفاق معاوية رضي الله عنه ومسح عن وجهه وقال :صدق الله ورسوله {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون.} حديث الثلاثة وأنهم أول من تسعر بهم النار في صحيح مسلم. و قصة شفي مع أبو هريرة ومعاوية رضي الله عنهما زادها الترمذي كتاب الزهد باب ما جاء في الرياء والسمعة قال الألباني صحيح
الجرعة الخامسة: من علاج عدم الإخلاص أن تعلم أن من أعظم صفات الذين توعدنا الله بأن يستبدلنا بهم الإخلاص .
قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } نعم لقد أخلصوا لله تعالى فلم يعد يهمهم مدحهم الناس أم ذموهم إذا مدحهم رب الناس.(153/5)
الجرعة السادسة: أن تعلم أن الفلاح العاجل والقبول عند الخلق إنما هو بالإخلاص. فالإخلاص وإن كان في بدايته صعباً وشاقاً وقد يورد للمرء كره الناس وبغضهم بل عداوتهم وقتالهم له كما هو حال المرسلين إلا أن العاقبة لهم في المدح وعلو الذكر قال الله للرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مكة ومن حوله كلهم يذمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ويحاولون قتله قال له في سورة الشرح ورفعنا لك ذكرك نعم إنه الإخلاص فرفع ذكره صلى الله عليه وسلم رفعاً ما رفع لأحد . قال صلى الله عليه وسلم (من أرضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن أرضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أحب الله العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحببه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ) البخاري بدأ الخلق.
الجرعة السابعة: الدعاء وسؤال الله الإخلاص والخلاص من الشرك
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل فقال له من شاء الله أن يقول وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله قال قولوا اللهم إنّا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم) . احمد 4/403. وعن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف حدثه عن أبيه عن جده أن النبي صلى اللهم عليه وسلم قال: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه ) مسلم الإمارة وسؤال القتل يتضمن أمرين طلبه في مظانه وسؤال الله ودعائه بالقتل والموت. وعن شهر بن حوشب قال قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟ قالت: كان أكثر دعائه (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) قالت فقلت يا رسول الله ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال يا أم سلمة: (إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ ) الترمذي
الجرعة الثامنة: المقارنة بين عمل الباطن وعمل الظاهر ومحاولة أن تكون سريرته خير من علانيته .
فإن وجد أنه صلى أمام الناس صلاة خشي أن يكون دخلها الرياء فليصلي سراً خيراً منها وأطول وإن وجد أنه تصدق بصدقة خشي أن يكون دخلها الرياء فليتصدق فيما بينه وبين الله خيراً وأعظم منها وهكذا عن عبد الله ابن عكيم عن عمر بن الخطاب قال علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( قل: اللهم اجعل سريرتي خيرا من علانيتي واجعل علانيتي صالحة اللهم إني أسألك من صالح ما تؤتي الناس من المال والأهل والولد غير الضال ولا المضل ) الترمذي الدعوات
عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة) قال الترمذي هذا حديث حسن غريب. ومعنى هذا الحديث أن الذي يسر بقراءة القرآن أفضل من الذي يجهر بقراءة القرآن لأن صدقة السر أفضل عند أهل العلم من صدقة العلانية وإنما معنى هذا عند أهل العلم لكي يأمن الرجل من العجب لأن الذي يسر العمل لا يخاف عليه العجب ما يخاف عليه من علانيته ا،هـ الترمذي فضائل القرآن
الجرعة التاسعة : أن تعلم أن مدح الناس لا ينفعك إذا ذمك الله وأن ذمهم لا يضرك إذا مدحك الله
عن البراء ابن عازب في قوله ( إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ) قال فقام رجل فقال يا رسول الله إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذاك الله ) الترمذي تفسير القرآن فالله إن مدحك لم يضرك ذم الناس وإن ذمك لم ينفعك مدح الخلق كلهم ومن الخلق التراب ؟الطين؟ ومما يدلك على هذه الحقيقة هذا الحديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه ((بينا صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة فقالت أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه فقال اللهم لا تجعلني مثله ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع قال فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فمه فجعل يمصها قال ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون زنيت سرقت وهي تقول حسبي الله ونعم الوكيل فقالت أمه اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إليها فقال اللهم اجعلني مثلها فهناك تراجعا الحديث فقالت حلْقَى مر رجل حسن الهيئة فقلت اللهم اجعل ابني مثله فقلت اللهم لا تجعلني مثله ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون زنيت سرقت فقلت اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت اللهم اجعلني مثلها قال إن ذاك الرجل كان جبارا فقلت اللهم لا تجعلني مثله وإن هذه يقولون لها زنيت ولم تزن وسرقت ولم تسرق فقلت اللهم اجعلني مثلها) متفق عليه.(153/6)
أرأيت أخي الحبيب كيف أن مدح ذاك الرجل لم ينفعه لما ذمه الله وأن ذم هذه المرأة لم يضرها لما مدحها الله فنعوذ بالله من ذمه ومقته .
الجرعة العاشرة : أن تعلم أن أعظم أسباب انتكاس الأمة وبلائها وما يصبها من عدوها هو بتفريطها في الأعمال الباطنة أعمال القلوب الإخلاص
قال تعالى {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } آل عمران 152 فبينما يتفقد كثير من دعاة المسلمين ظاهر الأمة قليلون أولئك الذين ينبهون على أعمال القلوب ومما لا شك فيه أن تفريط المسلمين الظاهر إنما هو ثمرة لتفريطهم الباطن من الإخلاص لله ومراقبته .
الجرعة الحادي عشرة: أن تعلم أن كل عمل صالح تقوم به إنما هو منة من الله عليك قال تعالى { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } النور 21 أنظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يرتجزون عن البراء رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل التراب يوم الخندق حتى أغمر بطنه أو اغبر بطنه يقول: (والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا ورفع بها صوته أبينا أبينا) رواه البخاري ومسلم. فتأمل الكلمات كيف نسبوا الفضل في هدايتهم وجميع أعمال برهم إلى الله .
الثانية عشرة من العلاج: أن تعلم قلة عملك مهما بلغ ، ونقص عمل البشر مهما اجتهدوا في إصلاحه
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله . قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة ) البخاري الرقاق
فعمل البشر جمع بين القلة والنقص والتقصير في حق الله والزلل في حقه تعالى كل هذا مقابل قابل فضل الله الذي لا نقص فيه بوجه كيف والعمل الصالح والهداية إنما هي من فضل الله تعالى ! قال تعالى {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الأعراف: 178
الجرعة الأخيرة : الإعصار مضى معنا اثنتا عشرة جرعة علاجية فإن لم تغن شيئاً ولم تحك ساكناً فتعال نتأمل هذه الآيات وذلك الإعصار الذي أصاب ذلك المجرم الذي لا يستحق الرحمة من الله في أشد أحول الضعف والحاجة كيف وقد قال الله {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( ) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } البقرة:264- 266. تأمل هذه الآيات بقلب حاضر وحاول أن تدون النتائج ، ثم واصل القراءة.
ونخرج من تأمل هذه الآيات بالتهديدات التالية لأهل الرياء :
1. بطلان العمل:
2. أن المرائي حين يرائي يفقد الإيمان بالله كما قال صلى الله عليه وسلم ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) وما ورد في ذلك من فقدانه الإيمان وقت المعصية والرياء أشد ذنباً قال تعالى هنا ((كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر.
3. التهديد بعدم الهداية له (( والله لا يهدي القوم الكافرين
4. تسمية عمله كفراً .
5. التهديد بسوء الخاتمة (( وأصابه الكبر(153/7)
6. عدم حفظ الذرية والعقب قال تعالى {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} النساء . وقال تعالى {وكان أبوهما صالحاً} الكهف
7. عدم حفظ ماله فربما أصابته عقوبة عاجلة قال تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41. وأعظم ما كسبوا من الذنوب الشرك بكل صوره.
8. أن أعماله مع عظمتها تكون هباء منثوراً في أشد ما يكون بحاجتها قال صلى الله عليه وسلم عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( لأعلمن أقواما من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيجعلها الله عز وجل هباء منثورا )) ابن ماجة الزهد . قال تعالى {فأصابه إعصار فيه نار فاحترقت} وقال تعالى {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً} الفرقان .23
وبمقابل هذه العقوبات للمرائي فإن الآيات دلت على إثابة المخلصين بعدد من المثوبات:
1) حصولهم على مرضاة الله (ابتغاء مرضاة الله.
2) قبول عملهم فعملهم(كمثل جنة بربوة أصابها وابل …………فإن لم يصبها وابل فطل.
3) مضاعفة الأجر لهم ( آتت أكلها ضعفين.
4) التثبيت لهم في الشدائد وعند الموت ( وتثبيتاً من أنفسهم).
5) حفظ ذريته وعقبه وماله قصة الجدار في سورة الكهف دليل على حفظ المال والذرية
وفي الختام أرجو من الله أن تكون النقاط المذكورة فيها العلاج الناجع والنافع لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد
*************************(153/8)
إدارة الوقت
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:-
من المبادئ الهامة في إدارة الوقت المبادئ المتعلقة بالتخطيط وهي أربع:
1. مبدأ تحليل الوقت.
2. التخطيط اليومي.
3. تخصيص الوقت حسب الأولوية.
4. المرونة.
وكذلك المبادئ المتعلقة بالتنظيم وهي موضع حديثنا في هذه الحلقة ومن هذه المبادئ:
1. مبدأ التفويض:
إن تفويض كل الأعمال الممكنة بما يتناسب مع حدود وعمل المدير أمر ضروري لتوفير الوقت المطلوب من أجل القيام بالأعمال الإدارية. والتفويض أن يعطي المدير أو الفرد بعض الأعمال لمن يقوم بها تخفيفاً عليه من ضغط الأعمال وتزاحمها.. مع ضرورة أن يستفيد المدير من هذا الوقت الذي فوض فيه؛ لأنه سيصبح متفرغاً لأعمال أخرى.. والتفويض يريح كثيراً من الناس؛ لأن الكثير من الأعمال والمهام لا يستطيع أن يقوم بها الإنسان بمفرده، خاصة إذا ما كان في موقع كثير الأعمال والارتباطات.
2. مبدأ تقسيم النشاط (العمل):
كل الأعمال المتشابهة بطبيعتها والتي تتطلب بيئة وموارد مماثلة لإنجازها ينبغي أن تجمع معاً في أقسام من خطة العمل اليومية.
3. مبدأ التحكم في المعوقات:
من الضروري جداً لإدارة الوقت أن يكون هناك نوع من التحكم في النشاطات وترتيبها، بحيث تقلل عدد ومدة المقاطعات غير الضرورية. والفوائد من تنفيذ هذين المبدأين (التقسيم والتحكم) واضحة؛ إذ يجب التقليل من المقاطعات وذلك بتقسيم النشاطات وتجميعها حسب التشابه الموجود بينها، فإذا تم تقسيمها بحيث يلتقي المرؤوسون مع مديرهم في وقت معين، والاتصالات الهاتفية يرد عليها في وقت محدد، وتم تحديد موعد للاجتماعات في وقت معين، كما حدد وقت الهدوء للتفكير الخاص بالمدير يومياً، عند ذلك تتحسن فعالية استخدام كلما خفت المقاطعات، وسيقل أيضاً عدد مرات الابتداء والتوقف (المعوقات أو المعترضات) في إنجاز الأعمال.
4. مبدأ التقليل من الأعمال الروتينية:
(أي الأعمال الدائمة المستمرة التي توجد بوجود وقتها): إن تنظيم العمل والعاملين – بحيث نقلل من كمية العمل الروتيني- سيؤدي إلى استخدام أكثر فعالية للوقت، لن يستطيع أي فرد أو أي مدير أن يخلص نفسه من الأعمال الروتينية تماماً، لكن ينبغي الإقلال منها. ويقدر الوقت الذي يقضيه المديرون في الأعمال الروتينية بين 30% و 65% من الوقت المتاح لهم.
ثالثاً: المبادئ المتعلقة بالرقابة:
بعد تخطيط وتنظيم العمل بما يتفق مع المبادئ ذات العلاقة، يبقى فقط تنفيذ الخطة والمتابعة اليومية.
أهداف الرقابة:
إن فكرة الرقابة من خلال الخطط والجداول أساس للإدارة السليمة، وهي تحقق المقاصد الآتية:
1. تزيد فاعلية النشاط.
2. تعين على تحقيق الهدف كما خطط له.
3. يتم من خلالها مقارنة الإنفاق الحقيقي للموارد بالخطة وبالجدول.
4. يسمح له التباين بأن يصنع قرارات تتعلق بالخطة وبالجدول وبالأداء.
5. يسمح له أن يعدل من تلك الأمور السابقة.
ومن مبادئ الرقابة:
1. مبدأ تنفيذ الخطة والمتابعة:
تنفيذ الخطة أمر ضروري لوظيفة الرقابة، إذ لا يمكن إنجاز هذه الوظيفة إلا إذا كان هناك خطة أو معيار تتم مقارنة النتائج المتوقعة به، فمتابعة تعديل الخطة والجدول والأداء بما يتناسب مع الأهداف والظروف المحيطة هي الرقابة بذاتها.
2. مبدأ إعادة التحليل:
ينبغي إعادة تحليل استخدام الوقت على الأقل مرة كل ستة أشهر لتفادي العودة للعادات السيئة في إدارة الوقت؛ لأنه قد وجد أن صعوبات تنفيذ الخطة اليومية تجعل المدراء يعودون لممارستهم القديمة؛ ولتفادي هذا ينبغي تكرار التحليل هذا من وقت لآخر.
الخلاصة:
قد أتينا على هذه المبادئ العشرة كاملة فيما يخص إدارة الوقت: أربعة مبادئ منها تتعلق بالتخطيط، وهي: التحليل – التخطيط اليومي- الأولويات- المرونة. وأربعة مبادئ تتعلق بالتنظيم وهي: التفويض وتقسيم النشاط، والتحكم في المعوقات، والإقلال من الأعمال الروتينية. ومبدآن يتعلقان بالرقابة، وهما: تنفيذ الخطة مع المتابعة، وإعادة التحليل.
وسنتابع في الحلقة الرابعة بقية ما يهمنا في حفظ الوقت واستغلاله – إن شاء الله- والله الموفق للصواب.(154/1)
إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظرِ الساعة!
محمد عمر دولة
لم تكن الأمانة قاصرة في فهم الأوئل على أداء الأموال والوفاء بالعهود فقط, بل كانت تسع المشارق والمغارب, فهي شجرة التوحيد الوافرة, وثمرة الإيمان اليانعة, والظل في الهواجر, والزاد للمسافر.
فهي لؤلؤةٌ نفيسة، وجوهرٌ نقيّ, ومعدنٌ أصيل في يد صائغٍ نبيل, كما قالت بَرِيْرَة عن أم المؤمنين عائشة, وقد ترعرعت في كنف النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله, والله ما علمت منها إلاّ ما يعلم الصائغ على تِبْر الذّهب الأحمر), وقال صلىالله عليه وسلم: (الناس معادن), وقال: (إنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرأن ثم علموا من السنة), وقال: (عن معادن العرب تسألونني؟ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، وقال: (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة)!
والأمانة إقامة لشرع الله في حنايا النفس وفي حياة الناس (الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر). فالصلاة أمانةٌ إذا ضيّعها العبد فهو لما سواها أضيع, ولقد بكى أنس بن مالك لمّا رأى تضييع الصلاة على عهد الحجاج كما روى البخاري في كتاب مواقيت الصلاة (باب تضييع الصلاة عن وقتها) عن الزُهري قال: (دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي, فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً ممّا أَدْرَكتُ إلاّ هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيِّعَت). والزكاة أمانة قاتل الصديق مانعيها وأطلق عليهم وصف الرِدَّة, والصيام أمانة (إذا كان يوم صيام أحدكم فلا يرفث ولا يصخب, وإن سابَّه أحدٌ أو قاتله فليقل إني أمرؤٌ صائم), والحجّ أمانة (فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ). والدعوة إلى الله أمانة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقومه: (الرائد لا يكذب أهله).
والأمانة ثباتٌ على الذِّكر, ووفاءٌ لصاحب الأمر، صلى الله عليه وسلم, ودوامٌ على الدين إلى آخر العمر, فقد سأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, (هل يرتّد أحدٌ منهم سَخْطَةً لدينه؟ قال: لا, قال: فكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب), وقد قالوا:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما حيينا أبداً
وقال الغلام للملك: (إنك لن تقتلني حتى تقول باسم ربّ الغلام، ففعل, فقال الناس جميعاً: آمنّا بربّ الغلام), ثم آثروا الأخدود والنار على أن يعودوا كفّاراً, (وما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)، و(قد كان فيمن قبلكم يؤتى بالرجل فينشر بالمنشار ما دون لحمه وعظمه ما يصدّه ذلك عن دينه), ومِن حلاوة الإيمان (أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقدف في النار) وقال الذي آمن: (ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار)، ورحم الله أولئك السَّحَرة البَرَرَة الذين تحرّروا من أغلال الدنيا وهزموا فرعون بقولهم (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا)!
والأمانة قوةٌ في حفظ الحقوق كما أجاب يوسف عليه السلام الملك لمّا قال: (إنك اليوم لدينا مكين أمين, قال: اجعلني على خزائن الأرض إنيّ حفيظٌ عليم). وقالت ابنة شعيب: (يا أبتِ استأجره إنّ خير مَن استأجرت القويّ الأمين), فالأمانة برّ للوالدين، ورعاية لأموال المسلمين، وحفظٌ للعرض والدين. فهؤلاء النّفر الثلاثة الذين حبستهم الصخرة في الغار ما أنجاهم إلاّ صدق أمانتهم, إذ كان أولهم أميناً على أبويه, حتى ظلّ واقفاً بإناء اللبن على رأسيهما وأطفاله يتضاغون لا يريد أن يسقيهم قبل أبوَيه حتى طلع الفجر وهو على ذلك, وكان الثاني أميناً على مال صاحبه حيث ظلّ يرعاه ويُنَمِّيه في غياب صاحبه. وكان الثالث أميناً على عرض المرأة وحافظاً لحدود الله, ما إن ذكّرَته المرأة بأن لا يفض الخاتم إلاّ بحقه حتى إنتهى, (إنّ الذين اتقوا إذا مَسَّهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون).
والأمانة مراقبة ٌللسمع، ومحاسبةٌ للبصر, ومتابعة للفؤاد (إن السمع والفؤاد كلّ أؤلئك كان عنه مسؤولاً), وحبسٌ للسان عن المهالك (وهل يَكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنّم إلاّ حصائد ألسنتهم)، (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون)، ولو تأمّلتَ الثلاثة الذين هم أول من تُسعّر بهم النار لألفيتهم قد ضيعوا أماناتهم: القارئ (ليقال قارئ وقد قيل), والمتصدّق، (ليقال جواد وقد قيل)، والمجاهد (ليقال مجاهد وقد قيل). لأن المرائي لا يحتسب عمله ولا يرجو له جزاءً عند الله (نسوا الله فأنساهم أنفسهم). ولذلك كانت الخيانة علامة على النفاق (إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتُمِن خان، وإذا عاهد غدر)!(155/1)
والأمانة صونٌ للعلم ورعايةٌ للرواية كما كان العلماء يقولون (إنّ هذا العلم دينٌ، فانظروا عمنّ تأخذون دينكم). ولمّا قدم أهل اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلّمنا السنة والإسلام؛ أخذ بيد أبي عبيدة فقال: (هذا أمين هذه الأمة)، وفي روايةٍ أنّ أهل نجران قالوا: يا رسول الله ابعث إلينا رجلاً أميناً، فقال: (لأبعثنّ إليكم رجلاً أميناً حقَّ أمين حقَّ أمين). ورحم الله الخطيب فقد قال لطالب العلم: (ليجعل حفظه للحديث حفظ رعايةٍ لا حفظ رواية, فإن رُواة العلوم كثير ورُعاتها قليل. وربّ حاضرٍ كالغائب وعالمٍ كالجاهل, وحاملٍ للحديث ليس معه منه شيء, إذا كان في اطِّراحِه لحُكمه بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه)، وقال عبد العزيز الجرجاني:
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ولو عظّموه في النفوس لعُظِّما
ولكن أهانوه فهان ودنَّسوا مُحَيّاه بالأطماع حتىّ تجهّما
والأمانة قيامٌ بحقوق المسلمين، وتحمّلٌ لحاجات المساكين، وخدمةٌ للمحتاجين، وتلك صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم (كلاّ والله لا يخزيك الله أبداً إنّك لَتَصِل الرَّحم وتحمل الكَلَّ وتُكسِب المَعدوم وتُعِين على نوائب الحقّ). وقالت عائشة: (كان خلقه القرآن), و(كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته..) و(المسلمون عند شروطهم).
والأمانة وفاءٌ بتكاليف الكتاب العزيز والسنة الشريفة والائتمار بأمرهما والوقوف عند حدودهما. فمِن الخيانة لله ولرسوله أن يُسَبَّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُكَفَّر الشيخان الجليلان أبو بكر وعمر، وآيات الكتاب تنطق برضوان الله عليهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لاتسبّوا أصحابي). ورحم الله أُمَّنا عائشة رضي الله عنها حيث قالت لعروة - كما في مسلم -: (يا ابن أختي أُمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبّوهم)، وما أعظم شهادة العلاّمة السيد حسين الموسَوى في كتابه القيّم "لله ثمّ للتاريخ" حيث قال: (لو سألنا اليهود، مَن هم أفضل الناس في ملّتكم؟ لقالوا: إنهم أصحاب موسى, ولو سألنا النصارى مَن هم أفضل الناس في أمتكم؟ لقالوا: إنهم حواريو عيسى, ولو سألنا الشيعة من هم أسوء الناس في نظركم وعقيدتكم؟ لقالوا: إنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم).
والأمانة إنصافٌ وتجرّدٌ وأن نُنزِل الناس منازلهم ولا نَبخَسهم حقّهم كما قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شُهداء بالقِسط ولا يجرمنّكم شَنَآن قومٍ على ألاّ تعدِلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وقد قالت عائشة في زينب رضي الله عنهما: (هي التي كانت تُساميني منهنّ في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أرَ امرأة قطُّ خيراً في الدين من زينب, وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل رحماً وأعظم صدقةً وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدّقت به وتقرّبت به إلى الله تعالى، ما عدا سَوْرَةً مِن حِدّة كانت فيها، تُسرِع منها الفَيْئَة), والأمانة كذلك أن لا نرفع الوضيع، ولا نمدح الرُويبضة، ولا نُسند الأمر لغير أهله، ولا نعظِّم الجَهَلة ونُحكِّمهم في ديننا ودنيانا، فإن ذلك مِن الخيانة التي تذهب باستقرار الدنيا وطيب العيش وأساس العمران. وما أحسن ترجمة البخاري في كتاب الفتن (باب إذا بقي في حُثالةٍ مِن الناس) ذكر فيه حال آخر الزمان حيث (يقال للرجل ما أعقله وما أظرفه وما أجلَده وما في قلبه مثقال حبّة خردلٍ من إيمان)!
والأمانة شهادةٌ لله، ونصيحةٌ للمسلمين, وبيانٌ للحق, حتّى لقد سُئل الحافظ علي بن المديني عن والده عبد الله بن جعفر فقال: (أبي ضعيف)، وتكلم شُعبة بن الحجاج في ولده فقال: (سميت ابني سعداً فما سعد ولا أفلح)، وقال الذهبي في ترجمة أبي عليّ الأهوازي من الميزان: (لو حابيت أحداً لحابيت أبا عليّ لمكان علّو روايتي في القرآن عنه).
والأمانة تركٌ للادعاء الكاذب فإن (المتشبع بما ليس عنده كلابس ثوبي زور). وقد ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" وابن كثير في "البداية والنهاية" أن أبا عبد الله الحاكم النيسابوري كان يقرأ على الناس استدراك الحافظ عبد الغني بن سعيد عليه في أوهام وقعت له في كتاب "المدخل"، ولم يكتف بذلك حتّى بعث إليه يشكُره على نصيحته، قال ابن سعيد: (فعلمت أنه رجلٌ عاقل)!(155/2)
فتلك هي الأمانة التي قامت عليها السماوات والأرض, أن نُراقِب الله تعالى في الصغيرة والكبيرة، وأن نَعرِف الفضل لإهله كما قال علماؤنا من راعى وِداد لحظةٍ وانتمى لمن أفاده لفظةً, وقد ذكر السّخاوي في "الجواهر والدُّرَر" أن شيخه ابن حجر امتنع عن تدريس صحيح مسلم حتى مات الزركشي لأن سنده كان أعلى منه! ورحم الله السيوطي ما أحسن قوله في "الفارق بين الناقل والسارق" - تعليقاً على قول المُزَني في أول "مختصره": (كتاب الطهارة: قال الإمام الشافعي: قال الله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً) -: (أفما كان المُزَني رأى هذه الأية في المصحف فينقلها منه بدون عزوها إلى إمامه؟! قال العلماء: وإنّما صنع ذلك؛ لأنّ الافتتاح بها من نظام الشافعي لا مِن نظامه)، حتّى قال: (مَحَلّ ذلك حِرصاً على أداء الأمانة وتجنّب الخيانة؛ فإنها بِئْسَتِ البِطانة، وامتثالاً للحديث، واقتداءً بالأئمة في القديم والحديث، وتحرُّزاً عن الكذب والتَّشَبُّع، وتوفيةً لحقّ التتبُّع، ورغبةً في حصول النفع والبركة، ورَفْع تصنيفهم إلى أعلى درجة عن أسفل دَرَكة، وقياماً بشكر العلم وأهله، وإعطاء السابق حقَّه لفضله):
ولكن بَكَتْ قَبلي فهَيَّجَ لي البُكَا بُكاها فقلتُ: الفضلُ للمتقدِّم
المشكاة(155/3)
إذا قمتم إلى الصلاة
د. عبد الحي يوسف*
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (المائدة: 6)
سبب النزول:
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقداً، فأقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال: حبست الناس في قلادة؟ فتمنيت الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني وقد أوجعني، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت ((يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم)) إلى آخر الآية، فقال أسيد بن حضير: لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم.
القراءات:
قوله تعالى ((وأرجلكم)) قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب بنصب اللام؛ عطفاً على الأيدي والوجوه، وقرأ باقي القراء بخفض اللام، عطفاً على رؤوسكم لفظاُ ومعنى[1]
إذا قمتم إلى الصلاة: كقوله ((فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله)) وكقولك: إذا ضربت غلامك فهوِّن عليه، فعبر عن إرادة الفعل بالفعل، وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً، والإجماع على خلافه لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح، فقال عمر رضي الله عنه: صنعة شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال: عمداً فعلته.[2] وتقديره: وأنتم محدثون كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، أو إذا قمتم من النوم، وقيل: كان الوضوء لكل صلاة واجباً أول ما فرض ثم نسخ[3]
وأرجلكم: تأويل قراءة الجر أن الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة، تغسل بصب الماء عليها فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه فعطفت على الثالث الممسوح لا لتمسح، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها[4]
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج: أي من ضيق ولا مشقة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم {دين الله يسر}[5]
ولكن يريد ليطهركم: لينظفكم، أو ليطهركم عن الذنوب فإن الوضوء تكفير للذنوب، أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء
وليتم نعمته عليكم: ليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه[6]
لعلكم تشكرون: نعمه عليكم فيثيبكم
الأحاديث في فضل الوضوء
1ـ عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها} رواه مسلم
2ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول} رواه مسلم
3ـ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة} رواه مسلم
4ـ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء}رواه مسلم
5ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب} رواه مسلم
من فوائد الآية
1.الأمر بالقيام للصلاة؛ لقوله ((إذا قمتم إلى الصلاة))
2.الأمر بالنية للصلاة؛ لقوله ((إذا قمتم إلى الصلاة)) أي بنيتها وقصدها
3.اشتراط الطهارة لصحة الصلاة؛ لأن الله أمر بها عند القيام إليها
4.أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت وإنما عند إرادة الصلاة
5.أن كل ما يطلق عليه اسم الصلاة في الفرض والنفل وفرض الكفاية وصلاة الجنازة تشترط له الطهارة
6.الأمر بغسل الوجه، وهو ما تحصل به المواجهة من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا
7.الأمر بغسل اليدين وأن حدهما إلى المرفقين
8.الأمر بمسح جميع الرأس
9.أنه يكفي المسح كيفما كان بيديه أو بإحداهما أو خرقة أو نحوها؛ لأن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة فدل ذلك على إطلاقه(156/1)
10.أن الواجب المسح فلو غسل رأسه ولم يمر يده عليه لم يكف؛ لأنه لم يأت بما أمر الله به
11.الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين
12.قراءة الجر تدل على مشروعية المسح على الخفين
13.الأمر بالترتيب في الوضوء؛ لأن الله تعالى ذكر هذه الأعضاء مرتبة وأدخل ممسوحاً بين مغسولين
14.أن الترتيب مخصوص بالأعضاء الأربعة المسميات في هذه الآية
15.الأمر بتجديد الوضوء عند كل صلاة؛ لتوجد صورة المأمور به
16.الأمر بالغسل من الجنابة
17.أنه يجب تعميم الغسل للبدن؛ لأن الله أضاف التطهر للبدن ولم يخصصه بشيء دون شيء
18.الأمر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة
19.أنه يندرج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر، ويكفي من هما عليه أن ينوي ثم يعمم بدنه؛ لأن الله لم يذكر إلا التطهر ولم يذكر أنه يعيد الوضوء
20.أن الجنب يصدق على من أنزل المني يقظة أو مناما أو جامع ولم ينزل
21.من ذكر أنه احتلم ولم يجد بللا فلا غسل عليه؛ لأنه لم تتحقق منه الجنابة
22.ذكر منة الله على العباد بمشروعية التيمم
23.من أسباب جواز التيمم وجود المرض الذي يضره غسله بالماء فيجوز له التيمم
24.من جملة أسبابه السفر والإتيان من البول والغائط إذا عدم الماء
25.أن الخارج من السبيلين من بول وغائط ينقض الوضوء
26.استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به
27.أن لمس المرأة بلذة وشهوة ناقض للوضوء
28.اشتراط عدم الماء لصحة التيمم
29.أن وجود الماء ـ ولو في الصلاة ـ يبطل التيمم؛ لأن الله إنما أباحه مع عدم الماء
30.أنه إذا دخل الوقت وليس معه ماء فإنه يلزمه طلبه في رحله وفيما قرب منه؛ لأنه لا يقال لم يجد لمن لم يطلب
31.أنه لا بد من نية التيمم؛ لقوله ((فتيمموا)) أي اقصدوا
32.أنه يكفي التيمم بكل ما صعد على وجه الأرض من تراب وغيره
33.أنه لا يصح التيمم بالتراب النجس لأنه ليس بطيب بل خبيث
34.أنه يمسح في التيمم الوجه واليدان فقط دون بقية الأعضاء
35.أن الآية عامة في جواز التيمم لجميع الأحداث الأكبر والأصغر
36.من كان عليه حدثان فنواهما فإنه يجزيء؛ أخذاً من عموم الآية وإطلاقها
37.أنه يكفي المسح بأي شيء يده أو غيرها؛ لأن قال ((فامسحوا)) ولم يذكر الممسوح به؛ فدل على جوازه بكل شيء
38.اشتراط الترتيب في طهارة التيمم
39.أن الله تعالى فيما شرع لنا من أحكام لم يجعل فيها حرجاً ولا مشقة ولا عسر، وإنما هو رحمة منه بعباده ليطهرهم، وليتم نعمته عليهم
40.أن طهارة التيمم ـ وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك بالحس والمشاهدة ـ فإن فيها طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى
41.أنه ينبغي للعبد أن يتدبر الحكم والأسرار في شرائع الله، في الطهارة وغيرها ليزداد معرفة وعلماً ويزداد شكراً ومحبة لله عز وجل(156/2)
إزالة المنكر فريضة إسلامية
المقدمة:
الحمد لله فاطر السماوات والأرض، جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له أمرنا بإزالة المنكر.. فقال: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (آل عمران:104) ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من أزال المنكر بيده, وبلسانه, وبقلبه، فصلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين جاهدوا لإزالة المنكر, فضحوا بأنفسهم, وأموالهم, وأهليهم، وعلى التابعين, وتابعيهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل عظيم من أصول الإسلام، ولا شك أن صلاح العباد في معاشهم ومعادهم متوقف على طاعة الله- عز وجل- وطاعة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وتمام الطاعة متوقف على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس ، قال-تعالى-: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } (آل عمران:110)
نص الحديث:
عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدريَّ-رَضي الله عنه-قالَ: سَمِعْتُ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يَقولُ: (مَنْ رَأَى مِنكُم مُنكَراً فَليُغيَِرُه بيدِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِع فبِلسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقلْبِهِ، وذلك أضْعَفُ الإيمانِ)(1).
مفردات الحديث:
"منكم": أي من المسلمين المكلَّفين، فهو خطاب لجميع الأمة.
"منكراً": وهو ترك واجب, أو فعل حرام ولو كان صغيراً.
"فليغيره": فليزله ويذهبه ويغيره إلى طاعة.
"بيده": إن توقف تغييره عليها ككسر آلات اللهو, وإراقة الخمر, ومنع ظالم عن ضرب ونحوه(2).
أهمية هذا الحديث:
هذا الحديث عظيم الشأن؛ لأنه نص على وجوب إنكار المنكر، وهذا كما قال النووي:" باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث، عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعذاب { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور: من الآية63) فينبغي لطالب الآخرة الساعي في تحصيل رضا الله- عز وجل- أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم"(3)
في ظلال الحديث :
إن الحق والباطل مقترنان على وجه الأرض منذ وجود البشر، وكلما خمدت جذور الإيمان في النفوس بعث الله-عز وجل-من يزكيها ويؤججها، وهيأ للحق رجالاً ينهضون به, وينافحون عنه، فيبقى أهل الباطل والضلال خانعين، فإذا سنحت لهم فرصة نشطوا ليعيثوا في الأرض الفساد، وعندها تصبح المهمة شاقة على من خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، ليقفوا في وجه الشر يصفعونه بالفعل والقول، وسخط النفس ومقت القلب.
فعن ابن مسعود-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته, ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(4).
فائدة:
سبب إيراد أبي سعيد للحديث: عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه سمعت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يقول ثم ذكر الحديث(5).
وفي رواية البخاري أن الذي أنكر على مروان أبو سعيد-رضي الله عنه-فقال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي, فجبذته بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة, فقلت له غيرتم والله, فقال: أبا سعيد، قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة(6) والجمع بين الروايتين يحتمل أن الرجل أنكر بلسانه وحاول أبو سعيد أن ينكر بيده, ويحتمل تعدد الواقعة, قال النووي: "فيحتمل أنهما قصتان؛أحداهما لأبي سعيد,والأخرى للرجل بحضرة أبي سعيد"(7).(157/1)
وقال الحافظ: "يحتمل أن تكون القصة تعددت، ويدل على ذلك المغايرة الواقعة بين روايتي عياض ورجاء, ففي رواية عياض أن المنبر بني بالمصلى، وفي رواية رجاء أن مروان أخرج المنبر معه، فلعل مروان لما أنكروا عليه إخراج المنبر، ترك إخراجه بعد، وأمر ببنائه من لبن وطين بالمصلى، ولا بُعد في أن ينكر عليه تقديم الخطبة على الصلاة مرة بعد أخرى، ويدل على التغاير أيضاً أن إنكار أبي سعيد، وقع بينه وبينه, وإنكار الآخر وقع على رؤوس الناس"(8).
حكم إنكار المنكر:
يمكن ان يقسم حكم انكار المنكر على حالتين :
1- فرض كفاية: قال الله-تعالى-: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (آل عمران:104).
1-قال الإمام ابن كثير-رحمه الله-في تفسير هذه الآية: "والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن"(9).
وقال "ابن العربي" في تفسيره لهذه الآية: في هذه الآية والتي بعدها-يعني- { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } (آل عمران:110) دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة الدين بإقامة الحجة على المخالفين"(10).
2- فرض عين: قوله-صلى الله عليه وسلم-:(مَنْ رَأَى مِنكُم مُنكَراً فَليُغيَِرُه بيدِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِع فبِلسَانِهِ، فإنْ لَمْ يَستَطِعْ فَبِقلْبِهِ، وذلك أضْعَفُ الإيمانِ)(11). دل عموم هذا الحديث على وجوب إنكار المنكر على كل فرد مستطيع علم بالمنكر أو رآه.
قال "القاضي ابن العربي": "وقد يكون فرض عين إذا عرف المرء من نفسه صلاحية النظر والاستقلال بالجدال، أو عرف ذلك منه"(12).
وقال "ابن كثير": "وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: (من رأى منكم منكراً فليغيره...) ثم ساق الحديث(13).
وقال النووي: "ثم إنه قد يتعين-يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر-كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته, أو ولده, أو غلامه على منكر, أو تقصير في معروف"(14).
شروط إنكار المنكر:
إنَّ لإنكار المنكر شروطاً يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يعرفها ويراعيها عند إزالته للمنكر، حتى لا يقع أثناء تغييره للمنكر في منكر مساوٍ أو أكبر منه، وهذه الشروط هي:
1- التحقق من كونه مُنكراً :
فالمنكر كل ما نهى عنه الشارع سواءً كان محرماً أو مكروهاً، وكلمة المنكر في باب الحسبة, تُطلق على كل فعل فيه مفسدة أو نهت عنه الشريعة، وإن كان لا يُعتبر معصية في حق فاعله, إما لصغر سنه, أو لعدم عقله، ولهذا إذا زنا المجنون, أو هم بفعل الزنا، وإذا شرب الصبي الخمر كان ما فعلاه منكراً يستحق الإنكار، وإن لم يُعتبر معصية في حقِّهما لفواتِ شرطي التكليف وهما البلوغ والعقل.
2- أن يكون المنكر موجوداً في الحال:
وله ثلاث حالات :
الحالة الأولى: أن يكون المنكر متوقعاً كالذي يتردد مراراً على أسواق النساء، ويصوب النظر إلى واحدة بعينها، أو كشابِ يقف كل يوم عند باب مدرسة بنات ويصوب النظر إليهن، أو يسأل بكثرة عن كيفية تصنيع الخمر وطريقة تركيبه. فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في هذه الحالات الوعظ، والنصح، والإرشاد، والتخويف بالله-سبحانه وتعالى-من عذابه وبطشه.
الحالة الثانية: أن يكون متلبساً بالمنكر: كمن هو جالس وأمامه كأس الخمر يشرب منه، أو كمن أدخل امرأة أجنبية إلى داره وأغلق الباب عليهما ونحو ذلك، ففي هذه الحال يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر الإنكار عليه, ونهيه من ذلك طالما أنه قادر على إزالة المنكر ولم يخف على نفسه ضرراً أو أذى .
الحالة الثالثة: أن يكون فاعل المنكر قد فعله وانتهى منه ولم يبق إلا آثاره، كمن شرب الخمر وبقيت آثاره عليه, أو من عرف أنه ساكن أعزب وخرجت من عنده امرأة أجنبية عنه، ونحو ذلك. ففي هذه الحالة ليس هناك وقت للنهي أو التغيير، وإنما هناك محل للعقاب والجزاء على فعل المعصية. وهذا الأمر ليس من شأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، وانما لمن له ولاية عليه كالوالد أو السلطان .
3- أن يكون ظاهراً من غير تجسس ما لم يكن مجاهراً:
يجب على المسلم أن ينكر المنكر إذا كان ظاهراً وشاهده ورآه، دل على ذلك قوله-صلى الله عليه وسلم-:(من رأى منكم منكراً) فإذا داخله ريبة وشك في منكر خفي مستور عنه، فإنه لا يتعرض له ولا يفتش عنه؛لأن هذا النوع من التجسس المنهي عنه.
4- أن يكون الإنكار في الأمور التي لا اجتهاد فيها:(157/2)
من الأمور اللازمة لنجاح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسع صدره لقبول الاجتهاد فيما يسوغ فيه الخلاف. وهناك مسائل فرعية ليست من الأصول يختلف فيها الناس كثيراً، وتتباين أقوالهم فيها، وهي في الحقيقة مما يجوز فيه الاجتهاد، فمثل هذه المسائل لا يكفر من خالف فيها، ولا يُنكر عليه؛ لأنها مما وسع الله فيها على عباده ،قال–تعالى-: { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود: من الآية119).
أما المسائل التي لا اجتهاد فيها فهي كمن يُخالف ما جاء في كتابِ اللهِ-تعالى- وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم-، أو ما أجمعت عليه الأمة، أو ما عُلم من الدين بالضرورة، فهذا يُنكر على من أتى به(15).
تفاوت مسؤولية الناس في إنكار المنكر:
إن الله- عزوجل-أوجب علينا جميعاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلٌ بحسب قدرته، ولكن مما ينبغي التنبيه عليه أن الناس يتفاوتون في هذا الواجب، فالمسلم العامي عليه القيام بهذا الواجب حسب قدرته وطاقته، فيأمر أهله, وأبناءه بما يعلم من أمور الدين التي يسمعها على المنابر, وفي دروس الوعظ.
والعلماء عليهم من الواجب ما ليس على غيرهم، وذلك أنهم ورثة الأنبياء فإذا تساهلوا بهذه المهمة دخل النقص على الأمة، كما حدث لبني إسرائيل.
وأما واجب الحكام في هذه المهمة فعظيم؛ لأن بيدهم الشوكة، والسلطان، والتي يرتدع بها السواد الأعظم من الناس عن المنكر؛ لأن الذين يتأثرون بالوعظ قلة. وتقصير الحاكم بهذه المهمة طامة كبرى، حيث بسبب ذلك يظهر المنكر، ويجترئ أهل الباطل والفسوق بباطلهم على أهل الحق والصلاح(16).
فيجب على المسلم أن يغير المنكر بحسب طاقته وقدرته, إما بيده، أو بلسانه، أو بقلبه وذلك أضعف الإيمان.
الإنكار باليد أو اللسان له حكمان:
فرض كفاية:
إذا رأى المنكر أو علمه أكثر من واحد من المسلمين وجب إنكاره وتغييره على مجموعهم، فإذا قام به بعضهم ولو واحداً كفى وسقط الطلب عن الباقين، وإذا لم يقم به أحد أثم كل من كان يتمكن منه بلا عذر ولا خوف، ودل على الكفاية قوله-تعالى-: { وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } آل عمران: 104. والأمة الجماعة، وهي بعض المسلمين.
فرض عين:
أما إذا رأى المنكر أو علمه واحد، وهو قادر على إنكاره أو تغييره، فقد تعين عليه ذلك. وكذلك إذا رآه أو علمه جماعة، وكان لا يتمكن من إنكاره إلا واحد منهم، فإنه يتعين عليه، فإن لم يقم به أثم(17).
الإنكار بالقلب:
من الفروض العينية التي يُكَلَّف بها كل مسلم، ولا تسقط عن أحد في حال من الأحوال، معرفة المعروف والمنكر، وإنكار المنكر في القلب، فمن لم يعرف المعروف و المنكر في قلبه هلك، ومن لم ينكر المنكر في قلبه دل على ذهاب الإيمان منه. قال ابن مسعود: "هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر"(18) يشير إلى أن معرفة المعروفِ وإنكار المنكر بالقلب فرضٌ لا يسقط عن أحد، فمن لم يعرفه هَلَكَ(19).
فإنكار القلب يُخَلِّص المسلم من المسؤولية إذا كان عاجزاً عن الإنكار باليد أو اللسان. قال ابن مسعود-رضي الله عنه-: "يوشك من عاش منكم أن يرى منكراً لا يستطيع له غير أن يَعلم اللهُ من قلبه أنه له كاره"(20).
والعجز أن يخاف إلحاق ضرر ببدنه, أو ماله، ولا طاقة له على تحمل ذلك، فإذا لم يغلب على ظنه حصول شيء من هذا لا يسقط عنه الواجب بإنكار قلبه فقط، بل لابد له من الإنكار باليد, أو اللسان حسب القدرة(21).
عاقبة ترك إزالة المنكر مع القدرة عليها:
1- إذا تُرِكَ النهي عن المنكر استشرى الشر في الأرض، وشاعت المعصية والفجور، وكثر أهل الفساد، وتسلطوا على الأخيار وقهروهم، وعجز هؤلاء عن ردعهم بعد أن كانوا قادرين عليهم، فتطمس معالم الفضيلة، وتعم الرذيلة، وعندها يستحق الجميع غضب الله-تعالى-وإذلاله وانتقامه، قال الله-تعالى-حاكياً عن بني إسرائيل: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون *كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } المائدة: 78 - 79. لا يتناهون: لا ينهى بعضهم بعضاً إذا رآه على المنكر. والأحاديث في هذا كثيرة، منها:
ما جاء عن أبي بكر-رضي الله عنه-، عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: (ما من قوم يُعْمَل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب)(22).(157/3)
2- الهلاك في الدنيا: قال-صلى الله عليه وسلم-: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها, فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم, فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً, وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)(23).
3- عدم استجابة الدعاء: فعن حذيفة-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم)(24).
ترك الإنكار خشية وقوع مفسدة:
إذا كان المكلف قادراً على إنكار المنكر الذي رآه أو علمه، لكنه غلب على ظنه أن تحدث نتيجة إنكاره مفسدة ويترتب عليه شر، هو أكبر من المنكر الذي أنكره أو غيره، فإنه في هذه الحالة يسقط وجوب الإنكار، عملاً بالأصل الفقهي: "يُرَتَكَبُ أَخَفُّ الضررين تفادياً لأشدهما".
على أنه ينبغي أن يتنبه هنا إلى أن الذي يسقط وجوب الإنكار غالبية الظن، لا الوهم والاحتمال الذي قد يتذرع به الكثير من المسلمين، ليبرروا لأنفسهم ترك هذا الواجب العظيم من شرع الله-عز وجل-(25).
قول الحق دون خوف أو رهبة:
على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون أن يلتفت إلى شأن من يأمره أو ينهاه، من منصب, أو جاه أو غنى، ودون أن يلتفت إلى لوم الناس, وعبثهم, وتخذيلهم، ودون أن يأبه بما قد يناله من أذى مادي, أو معنوي يقدر على تحمله ويدخل في طاقته، على أن يستعمل الحِكْمة في ذلك، ويخاطب كُلاًّ بما يناسبه، ويعطي كل موقف ما يلائمه. فعن أبي سعيد-رضي الله عنه-عن النبي-صلى الله عليه وسلم-أنه قال في خطبة: (ألا لا يَمْنَعَنَّ رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحق إذا علمه)(26).
عموم المسؤولية وخصوصها:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب الأمة جمعاء، فكل مسلم علم بالمنكر وقدر على إنكاره وجب عليه ذلك، لا فرق في ذلك بين حاكم ومحكوم، أو عالم وعامي. ولكن هذه المسؤولية تتأكد على صنفين من الناس، وهما: العلماء, والأمراء:
أما العلماء: فلأنهم يعرفون من شرع الله-تعالى-ما لا يعرفه غيرهم من الأمة، ولما لهم من هيبة في النفوس واحترام في القلوب، مما يجعل أمرهم ونهيهم أقرب إلى الامتثال وأدعى إلى القبول. والخطر الكبير عندما يتساهل علماء الأمة بهذه الأمانة التي وضعها الله-تعالى-في أعناقهم.
أما الأمراء: أي الحكام، فإن مسؤوليتهم أعظم، وخطرهم إن قصروا في الأمر والنهي أكبر؛ لأن الحكام لهم ولاية وسلطان، ولديهم قدرة على تنفيذ ما يأمرون به وينهَون عنه وحمل الناس على الامتثال، ولا يخشى من إنكارهم مفسدة؛ لأن القوة والسلاح في أيديهم, والناس ما زالوا يحسبون حساباً لأمر الحاكم ونهيه.
فإذا قصر الحاكم في الأمر والنهي طمع أهل المعاصي والفجور، ونشطوا لنشر الشر والفساد، دون أن يراعوا حرمة أو يقدسوا شرعاً، ولذا كان من الصفات الأساسية للحاكم الذي يتولى الله تأييده ونصرته، ويثبت ملكه ويسدد خطته، أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
فإذا أهمل الحكام هذا الواجب العظيم فقد خانوا الأمانة التي وضعها الله-تعالى-في أعناقهم، وضيعوا الرعية التي استرعاهم الله –تعالى- عليها.
آداب الآمر والناهي:
1- أن يكون ممتثلاً لما يأمر به، مجتنباً لما ينهى عنه، حتى يكون لأمره ونهيه أثر في نفس من يأمره وينهاه، ويكون لفعله قبول عند الله-عز وجل-، فلا يكون تصرفه حجة عليه توقعه في نار جهنم يوم القيامة.
2- النية والقصد في الأمر والنهي: ينبغي أن يكون الحامل على الأمر والنهي هو ابتغاء-رضوان الله تعالى-وامتثال أمره، لاحب الشهرة والعلو وغير ذلك من الأغراض الدنيوية. فالمؤمن يأمر وينهى غضباً لله-تعالى-إذا انتهكت محارمه، ونصيحة للمسلمين ورحمة بهم إذا رأى منهم ما يُعَرِّضهم لغضب الله-عز وجل-وعقوبته في الدنيا والآخرة، وإنقاذاً لهم من شر الويلات والمصائب عندما ينغمسون في المخالفات وينقادون للأهواء والشهوات. يبتغي من وراء ذلك كله الأجر والمثوبة عند الله-سبحانه-، ويقي نفسه من أن يناله عذاب جهنم إن هو قصر في أداء الواجب، وترك الأمر والنهي.(157/4)
3- العبودية الحقة: قد يكون الباعث لدى المؤمن على الأمر والنهي إجلاله البالغ لعظمة الله-سبحانه-، وشعوره أنه أهل لأن يطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر. ويزكي ذلك في نفسه محبته الصادقة لله-عز وجل-، التي تمكنت من قلبه وسرت في آفاق روحه سريان الدم في العروق، ولذلك تجده يؤثر أن يستقيم الخلق ويلتزموا طاعة الحق، وأن يفتدي ذلك بكل غال ونفيس يملكه، بل حتى ولو ناله الأذى وحصل له الضرر، يتقبل ذلك بصدر رحب، وربما تضرع إلى الله-عز وجل-أن يغفر لمن أساء إليه ويهديه سواء السبيل. وهذه مرتبة لا يصل إليها إلا من تحققت في نفسه العبودية الخالصة لله-عز وجل-، وانظر إليه-صلى الله عليه وسلم- وقد آذاه قومه وضربوه، فجعل يمسح الدم عن وجهه,ويقول:(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)(27). (28).
ما يُستفاد من الحديث:
1- يدلُّ الحديث على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال الإيمان، لذلك أخرج مسلم هذا الحديث في كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.
2- من قدر على خصلة من خصاله وقام بها كان خيراً ممن تركها عجزاً وإن كان معذوراً في ذلك، فالمرأة مثلاً معذورة في ترك الصلاة أثناء الحيض ومع ذلك عَدَّ رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ذلك نقصاناً في دينها.
3- من خاف على نفسه الضرب أو القتل أو خاف على ماله الضياع سقط عنه التغيير باليد واللسان.
4- كما فيه أن الصلاة قبل الخطبة يوم العيد، وهذا ما عليه سلف الأمة.
5- في الحديث دلالة على تغيير المنكر على الحكام باليد، مثل ما فعل أبو سعيد-رضي الله عنه-، مثل أن يريق خمورهم ويكسر آلات اللهو التي لهم، أما الخروج عليهم بالسيف فهذا لا يجوز لثبوت الأحاديث الناهية عن ذلك(29).
اللهم وفقنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يا رب العالمين، والله أعلم.
________________________________________
1 - صحيح مسلم، كتاب الإيمان(1-69)(49)، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.
2 - راجع: كتاب الوافي في شرح الأربعين النووية ص (266).
3 - النووي على شرح مسلم (1/266).
4 - صحيح مسلم(1-69)(50).
5 - صحيح مسلم(49).
6 - راجع: فتح الباري (3-102).
7 - راجع: شرح مسلم (1/225).
8 - راجع: فتح الباري (3-102).
9 - تفسير ابن كثير(2/75).
10 - راجع: أحكام القرآن (1/292).
11 - صحيح مسلم، كتاب الإيمان(1-69)(49)، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.
12 - راجع: أحكام القرآن(1/292).
13 - راجع: تفسير ابن كثير(2/75).
14 - راجع: شرح مسلم للنووي (1/225).
15 - راجع: قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الكتاب والسنة، للشيخ الرحيلي. ص (11-16). بتصرف.
16 -راجع: كتاب قواعد وفوائد ص (288-289).
17 -راجع: كتاب الوافي ص (269).
18 - رواه الطبراني في " الكبير"(8564)، وذكره الهيثمي في" المجمع"(7/257).، وقال : رجاله رجال الصحيح.
19 - راجع: جامع العلوم والحكم (2/245).
20 - راجع: مصنف بن أبي شيبة (7/504).
21 - الوافي ص (268).
22 - سنن أبي داود، (4338). وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (3644).
23 - رواه البخاري، كتاب الشركة (3/111)(2361).
24 - رواه أحمد (5/388) وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم(6947).
25 - راجع: الوافي ص (271).
26 - الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه رقم (3237).
27 - صحيح البخاري(3290).
28 - بتصرف من كتاب الوافي في شرح الأربعين النووية ص (270-282).
29 - راجع: قواعد وفوائد من الأربعين ص (295).(157/5)
إسلام عمر وحمزة -رضي الله عنهما-
ما زال الإسلام في عزٍّ ومنعة منذ أسلم عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهما كانا فارسي قريش وبطليها، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) رواه البخاري.
لقد كان إسلام حمزة -رضي الله عنه- في أول الأمر أنفة لابن أخيه محمد-صلى الله عليه وسلم-، ثم شرح الله صدره للإسلام وأعز الله به الدين، ومعروف مَن حمزة؟ إنه الأسد الضرغام الذي قتل العُتاة يوم بدر، ومزَّق صفوف الشيطان في تلك المعركة الفاصلة، لقد أسلم عزيزاً، وعاش كريماً، ومات شهيداً، وتتشابه بداية إسلام عمر وحمزة وحادثة موتهما، فأما إسلامهما فقد كان عزاً ونصراً للمسلمين المستضعفين، فقد استطاع المسلمون أن يصلوا عند الكعبة جهاراًَ وأن يخرجوا في صفين يعلنون إسلامهم لله رب العالمين، وأما وفاتهما فقد ماتا شهيدين، حمزة مات شهيداً في غزوة أحد، قتله وحشي بن حرب، ثم أسلم، وعمر مات شهيداً وهو يصلي، قتله أبو لؤلؤة المجوسي..
وسنذكر قصة إسلام حمزة وعمر -رضي الله عنهما-:
فأما إسلام حمزة بن عبد المطلب الهاشمي:
فقد روى محمد ابن إسحاق أن أبا جهل اعترض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، فلم يكلمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.. ومولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادٍ لقريش عند الكعبة فجلس معهم، ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل مُتوشِّحاً قوسه، راجعاً من قنصٍ له، وكان صاحبَ قنصٍ يرميه ويخرج له، فكان إذا رجع من قنصه لم يرجع إلى أهله حتى يطوفَ بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لا يمرُّ على نادٍ من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة، وكان يومئذ مشركاً على دين قومه، فلما مرَّ بالمولاة وقد قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجع إلى بيته, قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك من أبي الحكم آنفاً قبيل، وجده هاهنا فآذاه وشتمه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد، فاحتمل حمزةَ الغضبُ لما أراد الله -عز وجل- به من كرامته، فخرج سريعاً لا يقف على أحد كما كان يصنع يريد الطواف بالبيت معداً لأبي جهل أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالساً في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس وضربه بها ضربه، شجَّهُ بها شجَّةً مُنكرة، وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، فقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت! قال حمزة: وما يمنعني منه، وقد استبان لي منه ذلك؟ وأنا أشهد أنه رسول الله، وأن الذي يقول حق، فو الله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سباً قبيحاً، وتم حمزة على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد عزَّ وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولون منه.1
إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:
أسلم عمر -رضي الله عنه- في السنة السادسة من النبوة في شهر ذي الحجة، بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة-رضي الله عنه-.
كانت أول البشائر بإسلام عمر ما سمعه من رسول الله-صلى الله عليه وسلم- من القرآن وهو يُصلِّي، حيث بات ليلة خارج بيته، فجاء إلى الحرم ودخل في ستر الكعبة والنبي-صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي، وقد استفتح سورة الحاقة، فجعل عمر يستمع إلى القرآن، ويعجب من تأليفه، قال: فقلت –أي في نفسي- هذا والله شاعر كما قالت قريش، قال: فقرأ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} الحاقة:40، 41. قال: فقلت: كاهن، قال: {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى آخر السورة، قال: فوقع الإسلام في قلبي).2
كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية، والعصبية التقليدية، والتعاظم بدين الآباء هي الغالبة على مخ الحقيقة التي كان يتهمس بها قلبه، فبقي مُجدّاً في عمله ضد الإسلام، غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة.(158/1)
وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه خرج يوماً متوشحاً سيفه، يريد القضاء على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلقيه نعيم بن عبد الله العدوي فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمداً، قال: كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة, وقد قتلتَ مُحمَّداً؟ فقال عمر: ما أراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي كنت عليه، قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر! إن أختك وختنك قد صبوا، وتركا دينك الذي أنت عليه! فمشى عمر دامراً حتى أتاهما,وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها (طه) يقرئها إياها -وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن- فلما سمع خبابٌ حسَّ عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة-أخت عمر- الصحيفة، وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فقالا: ما عدا حديثاً تحدثناه بيننا، قال: فلعلكما قد صبوتنا، فقال له ختنه: يا عمر أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأً شديداً، فجاءت أخته فرفعته عن زوجها فنفحها بيده، فدمى وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عمر إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
فلما يئس عمر ورأى ما بأخته من الدم ندم واستحى، وقال: اعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالتْ أختُهُ: إنك رِجْسٌ، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب فقرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فقال: أسماء طيبة طاهرة، ثم قرأ (طه) حتى انتهى إلى قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}، فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه؟ دلوني على محمد.
فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لك ليلة الخميس (اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام) ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدار التي في أصل الصفا.
فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار، فضرب الباب، فقام رجل ينظر من خلل الباب فرآه متوشِّحاً السيف، فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم؟! قالوا: عمر، فقال: وعمر! افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه، ورسول الله-صلى الله عليه وسلم-داخل يوحى إليه، فخرج إلى عمر حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، ثم جبذه جبذة شديدة فقال: (أما أنت منتهياً يا عمر حتى يُنزل الله بك من الخزي والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة؟ اللهم هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب) فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأسلم، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد)3
وعندما أسلم عمر-رضي الله عنه- أعلن إسلامه في قريش، ولم يجرؤ أحد غيره وغير حمزة على إعلان إسلامه مباشرة؛ لما كانا يتمتعان به من قوة الجسد وضخامة القامة، وقوة العزيمة والإرادة..
روى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال:
لما أسلم عمر بن الخطاب قال: أي أهل مكة أنقل للحديث؟ قالوا: جميل بن معمر الجمحي، فخرج عمر، وخرجت وراء أبي، وأنا غليم أعقل كلما رأيت، حتى أتاه، فقال: يا جميل هل علمت أني أسلمت؟ فو الله ما راجعه الكلام حتى قام يجر رداءه، وخرج عمر معه، وأنا مع أبي، حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش إن عمر قد صبا، فقال عمر: كذبت ولكني أسلمت، فبادروه فقاتلهم وقاتلوه، حتى قامت الشمس على رؤوسهم، وبلح فجلس، وعرشوا على رأسه قياماً! وهو يقول: اصنعوا ما بدا لكم، فأقسم بالله لو قد كنا ثلاث مائة رجل لقد تركتموها لنا، أو تركناها لكم، فبينا هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص قومسي، فقال: مه؟ فقالوا: خيراً، عمر بن الخطاب صبأ، فقال: فمه؟ رجل اختار لنفسه ديناً، أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبكم هكذا عن الرجل؟! فو الله لكأنما كان ثوبٌ كشف عنه، فلما قدمنا المدينة قلت: يا أبة! من الرجل صاحب الحلة الذي صرف القوم عنك؟ قال: ذاك العاصي بن وائل السهمي).4
لقد كان خبر إسلام عمر بن الخطاب بالنسبة للمشركين كالصاعقة تنزل عليهم؛ لأنهم علموا حينئذ أن محمداً ومن معه سيزدادون قوة ومنعة، فإذا كان عمر الشديد العدو اللدود للإسلام قد أسلم فما الأمر في بقية الناس؟.(158/2)
هذا بالنسبة للمشركين، أما المسلمون فقد كان موقفهم موقف المنتصر الذي عانى من الويل والجحيم سنوات طويلة، روى مجاهد عن ابن عباس,قال: سألت عمر بن الخطاب : لأي شيء سميت الفاروق ؟ قال : أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام -ثم قص عليه قصة إسلامه . وقال في آخره : قلت - أي حين أسلمت- : يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا ؟ قال : ( بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم ) ، قال : قلت : ففيم الاختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فأخرجناه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال : فنظرت إليَّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبةٌ لم يُصبهم مثلها، فسمَّاني رسولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم- ( الفاروق ) يومئذٍ .5
وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول : ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر .
وعن صهيب بن سنان الرومي -رضي الله عنه- قال : لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به .6
وعن عبد الله بن مسعود قال : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر .7
فهذه قصة إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- ذكرناها لتكون عبرة لكل مسلم في الاعتزاز بدينه، والثقة بقوة الله وتأييده ونصره.. اللهم صل على محمد, وعلى آل بيته الطيبين,وعلى أصحابه الأكرمين، وسلم تسليماً كثيراً..
________________________________________
1- سيرة ابن إسحاق (ص151-152) بتحقيق محمد حميد الله. وانظر سيرة ابن هشام (1/291-292).
2- تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص6.
3- انظر: سيرة ابن إسحاق (ص160-163). وقد ذكرها ابن إسحاق بزيادات، ونقلناها من الرحيق المختوم مختصرة (ص102-104).
4- سيرة ابن إسحاق (ص164). وروى نحو ذلك البخاري مختصراً ,كتاب المناقب, باب إسلام عمر بن الخطاب رقم (3864).
5- تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص6-7.
6- مختصر سيرة الرسول للنجدي ص103.. وانظر الرحيق المختوم (ص105).
7- سبق تخريجه. وقد رواه البخاري.(158/3)
إصلاح المال
د. يحي بن إبراهيم اليحي
أقسام الناس في المال:
1- جعل الدنيا أكبر همه فراح فلا يبالي أجمعها من حلال أم من حرام.
روى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ».
2- يتحرى الحلال في كسبه ولكن شغلت الدنيا أكثر وقته وصيطرت على تفكيره.
3- جمع المال بحقه وأنفقه في حقه فهذا بخير المنازل.
4- أخرق، لا يحسن التصرف فضيع الدنيا وأصبح عالة على الناس يتفضلون ويتصدقون عليه.
5- جعل شغله وعمله في المسألة فأذل نفسه وأهرق ماء وجهه.
6- فتح على نفسه المسألة من أجل الدعوة وخدمة الإسلام، فكانت أعماله أكثر من إمكاناته ولم يعر أي اهتمام لقضية الاستثمار وتغطية نفقاته.
خطر المال وفتنته:
{يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور}.
{إعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}.
روى الترمذي عَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ سَمِعْتُ r يَقُولُ: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ» قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ. قال البخاري: بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}.
روى البخاري عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ r فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ: «هَذَا الْمَالُ» وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ قَالَ لِي: «يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى».
روى البخاري عن ابن عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ r يَقُولُ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ».
وروى البخاري عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِمَكَّةَ فِي خُطْبَتِهِ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ النَّبِيَّ r كَانَ يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ ابْنَ آدَمَ أُعْطِيَ وَادِيًا مَلْئًا مِنْ ذَهَبٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ أُعْطِيَ ثَانِيًا أَحَبَّ إِلَيْهِ ثَالِثًا وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ».
روى الإمام أحمد والترمذي والدارمي عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَيُرْوَى فِي هَذَا الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يَصِحُّ إِسْنَادُهُ.
هوان الدنيا على الله:
روى مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ قَالَ: أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لِأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَالَ: فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ».
وينظر في عيش الرسول r ولباسه.........
وعن عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي قال: قال رسول الله r: «من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» رواه الترمذي.
وعن أنس قال رأيت بين كتفي عمر أربع رقاع.(159/1)
وعن زيد بن وهب قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى السوق، وبيده درة، وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة، بعضها من أدم. (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص109).
المال محاسب عليه عند الدخول والخروج:
في الترمذي والدارمي عن أبي برزة السلمي قال: قال رسول الله r: «لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من بين يدي ربه عز وجل حتى يسأل عن ماله، من أين اكتسبه، وفيم أنفقه» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص28).
حظ المسلم من المال:
روى أحمد ومسلم عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r وَهُوَ يَقُولُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} قَالَ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ».
المال الصالح ومنزلته وآثاره:
في المسند وأخرجه البخاري في الأدب المفرد عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله r: «نعم المال الصالح للمرء الصالح» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص32).
أنزل المال لخدمة الدين
روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قَالَ: «كُنَّا نَأْتِي r إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَيُحَدِّثُنَا فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ».
أخذ المال بحقه معونة على الطاعة:
روى مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله r: «إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بحقه فنعم المعونة هو».
روى البخاري عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ r: «وَإِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ».
الإنفاق في وجهه:
عن ابن مسعود عن النبي r قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها» متفق عليه.
وعن عبدالله من عمرو أن رجلا سأل رسول الله r: أيّ الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» متفق عليه.
روى مسلم وأحمد عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ r فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَاقَةَ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَجِيءُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا فَمَا يُمْسِي حَتَّى يَكُونَ دِينُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ أَوْ أَعَزَّ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا».
عن ميمون بن مهران قال: «عاد ناس عبد الله بن عامر بن كريز، فتوجع عبد الله وخاف ما بين يديه، فقال له من عنده: ما رأينا رجلاً أكثر عطاءً ولا صدقةً منك - وابن عمر ساكت - فقال عبد الله: ما تقول يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا طاب الكسب زكت النفقة وسترد فترى» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص17).
يصل فيه رحمه ويتقي فيه ربه:
وعن أبي كبشة عمر بن سعد الأنماري أنه سمع رسول الله r يقول: «ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزًا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، أو كلمة نحوها. وأحدثكم حديثًا فاحفظوه قال: إنما الدنيا لأربعة نفر:
عبد رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل. وعبد رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء.
وعبد رزقه الله مالاً، ولم يرزقه علماً، فهو يخبط في مال بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا، فهذا بأخبث المنازل.
وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء» أخرجه أحمد والترمذي.
يسبقون غيرهم في الدرجات:(159/2)
وعن أبي هريرة أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله r، فقالوا: «ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله r: أفلا أعلمكم شيئًا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ماصنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون، وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله r، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله؟ فقال رسول الله r: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» متفق عليه.
وقال محمد بن المنكدر: «نعم العون على الدين الغنى» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص37).
البركة في المال:
روى مسلم عن أبي سعيد أن رسول الله r قال: «من يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالاً بغير حقه، فمثله مثل الذي يأكل ولا يشبع».
وفي المسند عن خولة بنت قيس أن رسول الله r قال: «إن هذا المال حلوة خضرة، من أصابه بحقه بورك له فيه، ورب متخوض فيما شاءت نفسه، من مال الله ورسوله، ليس له يوم القيامة إلا النار».
يكف به وجهه ويصل به رحمه:
روى ابن أبي الدنيا عن سعيد بن المسيب قال: «لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله، يكف به وجهه عن الناس، ويصل به رحمه، ويعطي منه حقه» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص35).
وقال أيضًا: «ينبغي للعاقل أن يحب حفظ المال في غير إمساك، فإنه من المروءة، يكف به وجهه، ويكرم نفسه، ويصل منه رحمه» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص36).
يحفظ عليه دينه:
وقال سفيان لما رؤي في يده دنانير وقيل له في ذلك قال: «لولا هذه تمندل بنا هؤلاء» يعني الملوك. (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص41).
وقال أيضًا: «المال في هذا الزمان سلاح المؤمن» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص42).
وقال أيضًا: «كنا نكره المال للمؤمن، وأما اليوم فنعم الترس: المال للمؤمن» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص43).
ولهذا جاء الترغيب في العمل والاحتراف:
قال سفيان: «من كان معه شيء فقدر أن يجعله في قرن ثور فليفعل، فإن هذا زمان إذا احتاج الرجل فيه إلى الناس، كان أول ما يبذل دينه» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص41).
وليس العمل دلالة على حب الدنيا فقد قال الحسن: «ليس من حبك الدنيا طلبك ما يصلحك فيها..» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص42).
عن رافع بن خديج قال: «يا رسول الله r أي الكسب أطيب؟ قال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» رواه البخاري.
وروى البخاري عن المقدام بن معديكرب أنه سمع رسول الله r - ورآه باسطًا يده - يقول: «ما أكل أحدكم طعامًا أحب إلى الله عز وجل من عمل يده».
كان محمد بن سيرين إذا أتاه رجل من العرب قال له: «ما لك لا تتجر؟ كان أبو بكر تاجر قريش» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص73).
وعن عائشة قالت: «كان أبو بكر من أتجر قريش حتى دخل في الإمارة» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص75).
وفي الحديث: «تسعة أشعار الرزق في التجارة» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص73).
وأخرج الترمذي وابن ماجة عن ابن عمر أن النبي r قال: «التاجر الصدوق الأمين المسلم، مع الشهداء يوم القيامة» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص73).
قال عمر بن الخطاب: «يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم فقد وضح الطريق، فاستبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص74).
قال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: «لو أعلم أن عيالي يحتاجون إلى جزرة بقل، ما قعدت معكم» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص76).
وقال أيوب: «كان أبو قلابة يأمرني بلزوم السوق والصنعة، ويقول: إن الغنى من العافية» (كتاب إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص76).
وقال سعيد بن المسيب: «كان أصحاب رسول الله r يتجرون في بحر الروم، منهم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص76).
وعن الهيثم بن جميل قال: «قلت لابن المبارك: أتجر في البحر؟ قال: اتجر في البر والبحر، واستغن عن الناس» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص77).
وعن ابن عمر قال: «إذا لم يرزق أحدكم في البلد، فليتجر إلى بلد غيره» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص77).
لقي رجل الحسن بن يحيى بأرض الحبشة، معه تجارة، فقال له: «ما الذي بلغ بك هاهنا؟ فأخبره، فعذله الرجل. فقال: أكل هذا طلب للدنيا، وحرص عليها؟ فقال له الحسن: يا هذا إن الذي حملني على هذا، كراهة الحاجة إلى مثلك» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص78).
قال معاوية: «أنا أعلم أرخص ما يباع في السوق وأغلاه، قيل: وكيف؟ قال: أعلم أن الجيد رخيص، والرديء غال» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص86).
أمثلة من الصحابة:
كرم عظيم وزهد كبير:(159/3)
عن سعدى بنت عوف امرأة طلحة قالت: «قسم طلحة في يوم مائة ألف درهم، ثم حبسه عن الرواح، أن جمعت له بين طرفي ثوبه، كان متحرق الوسط، فقطته ثم أخرجت وسطه ولفقته» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص46).
قال عبد الله بن الزبير: «قال لي الزبير: اشتر لي سرح بني فلان بالحيرة وإن بلغ عشرة آلاف. فقلت: عشرة؟! فقال: وإن بلغ عشرين ألفًا. قلت: سبحان الله! قال: وإن بلغ ثلاثين ألفًا فاشتره، إني والله لأن أعطي مالي أحب إليّ من غصبة أغصبها. فقلت: ما هذا إلا تكاثر الناس وفخرهم! فقال: إنه والله ما بالدنيا بأس، ما تدرك الآخرة إلا بالدنيا، فيها يوصل الرحم، ويفعل المعروف، وفيها يتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة، فإياك أن تذهب أنت وأصحابك فتقعوا في معصية الله عز وجل ثم تقولون: قبح الله الدنيا، ولا ذنب للدنيا» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص48).
قال رجل لأبي حازم سلمة بن دينار: «إني لأجد شيئًا يحزنني. قال أبو حازم: وما هو يا ابن أخي؟ قال: حبي الدنيا. فقال لي: اعلم يا ابن أخي إن هذا الشيء ما أعاتب نفسي على حب شيء حببه الله تعالى إلي ; لأن الله عز وجل قد حبب هذه الدنيا إلينا، ولكن لتكن معاتبتنا أنفسنا في غير هذا، أن لا يدعونا حبها إلى أن نأخذ شيئًا من شيء يكرهه الله، ولا أن نمنع شيئًا من شيء أحبه الله، فإذا نحن فعلنا ذلك لا يضرنا حبنا إياها» (الحلية 3\244).
وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: «قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي r بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دُلّني على السوق. فربح شيئًا من أقط وسمن، فرآه النبي r بعد أيام وعليه وَضَر من صفرة، فقال النبي r:مَهْيم يا عبد الرحمن؟ قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار قال: فما سقت فيها؟ فقال وزن نواة من ذهب. فقال النبي r: أولم ولو بشاة» (الفتح 7\317).
وأخرج ابن أبي الدنيا: «أن إمرأة عبد الرحمن بن عوف صولحت بثمنها بثمانين ألفا» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص51).
إصلاح المال وحسن التدبير فيه:
في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال: «سمعت رسول الله r ينهى عن وأد البنات، وعن عقوق الأمهات، وعن منع وهات، وعن قيل وقال، وعن كثرة السؤال، وعن إضاعة المال».
سأل معاوية الأحنف فقال له: «ما تعدون المروءة فيكم؟ قال: التفقّه في الدين، وبرّ الوالدين، وإصلاح المال. فأرسل معاوية إلى يزيد فقال: اسمع من عمك» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص53).
وقال معاوية: «إصلاح مال في يديك، أفضل من طلب الفضل من أيدي الناس، وحسن التدبير مع الكفاف أحب إليّ من الكثير» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص45).
وقال عمر: «أيها الناس، أصلحوا أموالكم التي رزقكم الله عز وجل، فإن إقلالاً في رفق، خير من إكثار في خرق» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص54).
وقال أحيحة بن الجلاح: «اتقوا الله في أموالكم فإنكم لن تزالوا كرماء على عشيرتكم، ما داموا يعلمون أنكم مستغنون» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص56).
أتى قوم قيس بن سعد بن عبادة فسألوه حمالة، فرأوه في حائط له يلتقط التمر والحشف، ويميز كل واحد على حدة، فقالوا: ما عند هذا خير، ثم كلموه، فقضى حاجتهم، فقالوا: ما أبعد هذا من فعلك الأول؟ فقال: إنما أعطيكم من هذا الذي أجمع» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص56).
وقال هشام بن عبد الملك: «ثلاث لا تصغر الشريف: تعاهد الضيعة، وإصلاح المعيشة، وطلب الحق وإن قل» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص57).
وفي صحيح مسلم كان من دعائه r: «اللهمّ أصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي».
وفي الحديث المخرج في سنن الترمذي والمستدرك عن عبد الله المزني قال رسول الله r: «إذا اشترى أحدكم لحمًا، فليكثر مرقته، فإن لم يصب لحمًا أصاب مرقًا».
وعن سالم بن أبي الجعد أن رجلاً صعد إلى أبي الدرداء، وهو يلتقط حنطة، فقال: إن من فقهك رفقك بمعيشتك» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص64).
وقال أحد السلف: «حسن التدبير مفتاح الرشد، وباب السلامة الاقتصاد» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص69).
وعن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: «لما قسم سهل بن حنيف بيننا أموالنا، قال: ابن أختي إني موصيك بوصية، إن أخذت بها فهي خير لك من مال أبيك لو خلوت به، اعلم أنه لا مال لأخرق، ولا عيلة على مصلح، واعلم أن خير المال ما أطعمك ولم تطعمه وإن قلّ، واعلم أن الرقيق جمال وليس مالاً، فإن الماشية مال أهلها، وإن النضج تعول الأرض ليس بمال، إنما كان أحدنا في الجاهلية يقوم فيه بنفسه وزوجته وبنيه، ثم يرد بمزيه وحببته عليهم، فلما ركبت فيه الدواب، وأشربت فيه الأدهان، ولبست فيه الثياب قصر أهله، فإن كنت لا بد متخذا شيئا، فاتخذ مزرعة، إن نشطت إليها زرعتها، وإن تركتها لم تغرمك شيئًا» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص93).(159/4)
في الصحيحين: «من خير أعمالكم الحرث والغنم، وهو من عمل الأنبياء، وصاحب الحرث يؤجر في كل ما أصيب منه بعمله أو بغير عمله، حتى أنه يؤجر فيما ضرب الطير وجرت النملة والذرة» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص91) يرجع إليه.
وفي الصحيحين عن أم بشر قالت: قال رسول الله r: «ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسان، أو سبع أو طائر، إلا كان له صدقة».
الاقتصاد في المال:
عن سفيان الثوري في قوله تعالى: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا} قال: «لم يجعلوه في غير حقه، فيضيعوه. {ولم يقتروا} قال: لم يقصروا عن حقه. {وكان بين ذلك قوامًا} عدلاً وفضلاً».( إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص100).
وقال عمر بن الخطاب: «كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص101).
وعن عبيد الله بن حميد قال: مر جدي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعليه بردة فقال: بكم ابتعت بردك هذا؟ قال: بستين درهما. قال: كم مالك؟. قال: ألف درهم. قال: فقام إليه بالدرة، فجعل يضربه ويقول: رأس مالك ألف درهم، وتبتاع ثوبا بستين درهما؟ رأس مالك ألف درهم، وتبتاع ثوبا بستين درهما؟
وعن أنس قال: قال عمر رضي الله عنه: «إنه لا جديد لمن لا خلق له». (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص112).
وقال معاوية: «ما رأيت تبذيرًا إلا وحقًا مضيعًا» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص101).
وقال النعمان بن بشير: «إن للشيطان مناصب وفخوخًا، ومن مناصب الشيطان وفخوخه: البطر بأنعم الله عز وجل والفخر بعطاء الله عز وجل والكبرياء على عباد الله عز وجل واتباع الهوى في غير ذات الله عز وجل» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص102).
وفي المسند عن عبد الله قال: قال رسول الله r: «ماعال مقتصد» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص102).
المال الحرام أضراره وآثاره:
قال ابن القيم: «ما أخذ العبد ما حرم عليه إلا من جهتين: إحداهما سوء ظنه بربه، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً، والثانية أن يكون عالماً بذلك وأن من ترك لله شيئاً أعاضه خيراً منه، ولكن تغلب شهوته صبره وهواه عقله، فالأول من ضعف علمه والثاني من ضعف عقله وبصيرته». (كتاب الفوائد ص26).
تساهل الناس بكسب المال:
وفي المسند عن أبي هريرة عن النبي r قال: «يأتي على الناس زمان لا يبالي العبد بحلال أخذ المال أم بحرام» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص27).
قال r: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته» رواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم وأبونعيم عن جابر، والبزار عن حذيفة، والحاكم عن ابن مسعود، وأبو نعيم عن أبي أمامة، زاد المعاد 1\78.
قال ابن القيم: جمع النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم في قوله «فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» بين مصالح الدنيا والآخرة ونعيمها ولذاتها، إن ما ينال بتقوى الله وراحة القلب والبدن وترك الاهتمام والحرص الشديد والتعب والعناء، والكد والشقاء في طلب الدنيا إنما ينال بالإجمال في الطلب، فمن اتقى الله فاز بلذة الآخرة نعيمها، ومن أجمل في الطلب استراح من نكد الدنيا وهمومها - فالله المستعان.
قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في ذا الخلق من يسمع ...
كم واثق بالعيش أهلكته ... وجامع فرقت ما يجمع ...
{فائدة} جمع النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بين المأثم والمغرم فإن المأثم يوجب خسارة الآخرة، والمغرم يوجب خسارة الدنيا. (كتاب الفوائد ص77).
حرمان استجابة الدعاء:
روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله r قال: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله - عز وجل - أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} قال: ثم ذكر عبدًا أشعث أغبر، يطيل السفر، رافعًا يديه: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لهذا».
عدم قبول النفقة منه:
في البخاري أن رسول الله r قال: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول».
يتحول إلى عبد للمال:
عن أبي هريرة عن النبي r قال: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض» رواه البخاري.
المال يجلب الهموم ويشعبها:
في المستدرك وسنن ابن ماجة أن رسول الله r قال: «من كثر ماله كثر همه، ومن كثر همه افترق قلبه في أودية شتى، فلم يبال الله عز وجل أيها سلك، ومن كان همه همًا واحدًا كفاه الله عز وجل هموم الدنيا» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص25).
فساد للدين:
وفي المسند والترمذي والدارمي وغيرها عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله r: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم أفسد به من حرص الرجل على المال والشرف لدينه».
انتزاع البركة فيه والحرمان من لذته:
قال الأوزاعي:(159/5)
المال يذهب حله وحرامه ... يومًا ويبقى بعده آثامه ...
ليس التقي بمتق لإلهه حتى ... يطيب طعامه وكلامه ...
وبال عليه في الآخرة:
عن أبي هريرة أن رسول الله r قال: «أيما مال لم يطع الله فيه، ولم يعط حقه، جعله الله عز وجل شجاعًا له زبيبتان ينهسه من قبل القفا، فيقول: ما لي ولك؟ فيقول: أنا الذي جمعتني لهذا اليوم، أنا الذي جمعتني لهذا اليوم حتى يضع يده في فيه فيقضمها» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص29، وأصله في الصحيحين، وأخرجه أحمد بمعناه عن ابن عمر).
عن أبي سعيد أن رسول الله r قال: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مرّ بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله، ما مرّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط» رواه مسلم.
«هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة» رواه مسلم.
المسألة:
الترغيب في العفاف:
الصحة خير من المال:
في المسند والمستدرك و في الأدب المفرد للبخاري أن رسول الله r قال: «لا بأس بالغنى لمن اتقى الله عز وجل، والصحة لمن اتقى الله عز وجل خير من الغنى، وطيب النفس من النعم» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص32).
وعن أبي هريرة عن النبي r: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمرو عن النبي r: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» رواه مسلم.
وعن حكيم بن حزام أن النبي r قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله» متفق عليه.
روى البخاري عن الزبير أن النبي r قال: «لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يأتي الجبل، ثم يجيء بحزمة من حطب، فيبيعها فيستغني بثمنها، خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه».
روى البخاري ومسلم عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ».
روى أبو داود وابن ماجة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَقَالَ أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ قَالَ بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ قَالَ ائْتِنِي بِهِمَا قَالَ فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ قَالَ مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» ورواه أحمد والترمذي والنسائي مختصرًا.
وعن الضحاك بن مزاحم قال: «شرف المؤمن: صلاة في جوف الليل، وعزه: استغناؤه عن الناس» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص96).
وعن عمر بن الخطاب: «مكسبة فيها بعض الدناءة خير من مسألة الناس» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص97).
وقال أبو وائل: «الدرهم من تجارة أحب إلي من عشرة من عطايا» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص76).
أخطار المسألة وأضرارها:
ترك العمل طريق المسألة:
وقال سعيد بن المسيب: «من لزم المسجد، وترك الحرفة، وقبل مايأتيه، فقد ألحف في السؤال» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص76).
الخضوع والخنوع للبشر:
كان يقال: «ما أقبح الخضوع عند الحاجة، وما أقبح الجفاء عند الغنى» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص70).
يلق الله وليس في وجهه مزعة لحم:(159/6)
وعن ابن عمر عن النبي r: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم» متفق عليه.
يده سفلى:
وعن ابن عمر أن رسول الله r قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: «اليد العليا خير من اليد السفلى. واليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة» متفق عليه.
مسألته جمر يوم القيامة:
وفي مسلم عن أبي هريرة عن النبي r قال: «من سأل الناس تكثرًا فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر».
لا تسد حاجته وفاقته:
وعن ابن مسعود قال رسول الله r: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل» رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
وأخطره إن كانت المسألة مقابل الدين:
روى مسلم عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ كُنْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَمَرَّ أَبُو ذَرٍّ وَهُوَ يَقُولُ: «بَشِّرِ الْكَانِزِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جُنُوبِهِمْ وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَلِ أَقْفَائِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جِبَاهِهِمْ قَالَ ثُمَّ تَنَحَّى فَقَعَدَ قَالَ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا أَبُو ذَرٍّ قَالَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ مَا شَيْءٌ سَمِعْتُكَ تَقُولُ قُبَيْلُ قَالَ مَا قُلْتُ إِلَّا شَيْئًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ r قَالَ قُلْتُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْعَطَاءِ قَالَ خُذْهُ فَإِنَّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعْهُ».
أخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن يزيد الباهلي أنه قال لأبي ذر: «إن أعطياتنا قد ارتفعت اليوم وبلغت، فهل تخاف علينا منها شيئًا؟ قال: أما اليوم فلا، ولكن يوشك أن تكون أثمان دينكم، فإذا كانت أثمان دينكم فدعوهم وإياها» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص29).
وسأله الأحنف فقال: «ما تقول في هذا العطاء؟ قال: خذه اليوم فإن فيه منعة، فإذا كان لدينك فدعه» (إصلاح المال لابن أبي الدنيا ص29).
لاتجوز المسألة إلا لثلاثة:
وعن أبي بشر قبيصة بن المخارق قال: «تحملت حمالة فأتيت رسول الله r أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. ثم قال: ياقبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال سدادًا من عيش. فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت، يأكلها صاحبها سحتًا» رواه مسلم.
وسيلة للشكر والعفاف:
روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله r قال: «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه».
http://www.taiba.org(159/7)
إصلاح المجتمع مسؤولية الجميع
1625
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
الرياض
جامع الطريري
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- الاستجابة لله ولرسوله سمة المؤمنين. 2- من أثر شهوته وهواه على شرع الله ودينه أضر بآخرته ودنياه. 3- تفاوت الإيمان في قلوب العباد. 4- تحقيق الإيمان في المجتمع شرط للتمكين. 5- الاعتبار بمصارع الأمم السابقة التي كذبت الأنبياء وحادت عن طريقهم. 6- لا يغير الله أحوال المسلمين حتى يعودوا إلى دينه. 7- صلاح أحوال الناس سبب في عموم الخير والبركات. 8- واجب الإصلاح مشترك بين الحكام ورعاياهم.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى، واعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئاً، أقيموا سنة نبيكم واقرءوا حديثه، واجتهدوا ما استطعتم في أن تمتثلوا ذلك، فإن في ذلكم الخير العظيم المؤكد لكم في الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون: يقول الله جل وعلا: واتل عليهم نبأ الذين آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآيتنا وأنفسهم كانوا يظلمون [الأعراف:175-177].
ويقول الله جل جلاله: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون [الأعراف:96].
ويقول الله جل وعلا: أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم [الأعراف:100].
ويقول جل جلاله: وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين [العنكبوت:38]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في محكم التنزيل التي يبين الله جل وعلا بها أن من أخذ بآياته وهي آياته المتلوة: كتاب الله جل جلاله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن الله جل وعلا وعد بالعيشة الهنيئة المستمرة في هذه الدنيا وبالسعادة التامة في الآخرة، فإن العبد إذا كان من المؤمنين المتقين وأوتي الآيات فاستجاب لذلك ولم يصد عنها بل أخذها بقوة وحزم على نفسه في الامتثال لها، فإنه بذلك يكون من الذين وعدهم الله جل وعلا بما وعد به أولياءه الصالحين، وأما إذا آتاه الله جل وعلا الآيات فسمعها وسمع بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم ثم لم يرفع بذلك رأسه وآثر شهوته وأخلد إلى الأرض واتبع هواه فإنه متوعد بسلب النعم عليه وبأن يكون قلبه قاسياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ثم بعد ذلك يبدل في أرضه بعد الأمن خوفاً، وبعد النعمة ضيقاً وضنكاً، ويبدل بعد الصحة مرضا ويبدل بعد الاطمئنان سوءًا في نفسه وفي من حوله.
ولهذا حث الله جل جلاله الأمة بأكملها، حث أفرادها، حث جماعاتها، حث حكامها، حث المحكومين، حث الجميع على أن يكونوا من أهل الإيمان والتقوى، وإذا كانوا كذلك فإنه تحل لهم مشاكلهم، وإنهم إذا كانوا كذلك فإن الله يفتح لهم أبواب الخيرات ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض لو كانوا مؤمنين حقاً لكانوا من أهل تلك الصفة، فإذا كان الإيمان متبعضاً وكانت التقوى متبعضة نتج من ذلك أن من كان على شيء من الإيمان فإنه يؤتى من البركات من السماء ومن بركات الأرض بقدر ما امتثل من الإيمان في الحالة العامة للناس غير حالتي الابتلاء والعقوبة.
أيها المؤمن: لاشك أن الإيمان يزيد وينقص، لا شك أن الإيمان في الأفراد يتبعض، فمن الناس من إيمانه عظيم، ومن الناس من إيمانه متوسط، ومن الناس من إيمانه ضعيف، وكذلكم التقوى فإن من الناس من هو متقٍ لله جل وعلا معظم لله مراقب لله ومنهم من هو متوسط في ذلك تغلبه نفسه وشيطانه، وتارة يرجع إلى ربه منيباً إليه تائباً إليه، ومنهم من تقواه ضعيفة، غلبة الشيطان عليه أكثر من يقظته، وهكذا حال الأقوام وحال المجتمعات على ذلك النحو، والله جل وعلا وعد من كمل الإيمان بأن يبدله من بعد خوفه أمنا قال جل وعلا: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم [النور:55].
أيها المؤمن: إن ذلك الاستخلاف من أساسياته أن يكون المسلمون مؤمنين في بلادهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً خير الإيمان: ((والذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الأمر حتى تسير الظعينة [يعني المرأة في هودجها] تسير من كذا إلى مكة لا تخشى إلا الله))[1] من شدة الأمن الذي كان من أسباب إتمام الإيمان وإتمام التقوى.(160/1)
تأمل قول الله جل وعلا: وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين إنهم قد زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن سبيل الله، عن الصراط المستقيم، عن الحق وكانوا مستبصرين كانوا أهل بصيرة، لم يكونوا أهل جهل وأهل عدم علم بالحق، بل كانوا مستبصرين قد تبين لهم ما جاءت به الرسل، قد تبين لهم ما في كتب الله، لكن آثروا طاعة الشيطان على طاعة الله فزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين، وتأمل قول الله جل وعلا في الذي آتاه الله جل وعلا آياته فانسلخ منها قال بعد ذلك ربنا جل وعلا: ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون [الأعراف:176].
إنه ليس مثلاً لواحد من الناس بل هو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، وينتج من ذلك أنه مثل أيضاً لتبعض صفات أولئك، مثل لمن كان فيه خصلة من ذلك، فإن الله جل جلاله يرضى عن العباد إذا أخذوا بشرعه كاملاً، ويرضى عنهم إذا جاهدوا أنفسهم بذلك، لهذا جعلهم خير أمةٍ أخرجت للناس بقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [آل عمران:110]. وقال جل وعلا: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [آل عمران:104].
إن الله جل جلاله جعل من سنته في الأمم أنهم إذا أطاعوه بارك لهم في أنفسهم، بارك لهم في أولادهم، وفي الأثر الإلهي: ((إنني أنا الله لا إله إلا أنا، إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإنني أنا الله لا إله إلا أنا، إذا عُصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، وإن لعنتي لتبلغ السابع من الولد))[2]من جراء فعل الآباء.
أيها المؤمنون: إن علينا أن ننظر إلى واقع المسلمين اليوم وواقعنا بخاصة وواقع الناس المسلمين بعامة، وننظر بعين المتأكد غير الشاك أن ما أصاب الناس من خلل في أنفسهم، من خلل في أمنهم، من خلل في أموالهم، من خلل في اقتصادهم، من خلل في أحوالهم إنما هو بسبب إعراضهم عن بعض ما أنزل الله جل جلاله، إن لم يكن ذلك من الابتلاء الذي ابتلى الله به عباده.
ولكن الله بين لنا في كتابه أنه يعطي المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات الاستخلاف في الأرض ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً وإن أعلى ما تكون به طاعة الله في المجتمعات أن يعبد الله وحده لا شريك له، فهذه سمة أهل الإيمان لأنه قال: وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً [النور:55]. فسمة المجتمع المسلم الذي وعده الله بإحلال الخيرات عليه وبدفع النقم عنه أنه يعبد الله وحده لا شريك له، يعبده ولا يشرك به، يعبده ويأمر بعبادته، ويأمر بذلك، وينهى عن ضده من الشرك بالله.
فما في بعض المجتمعات من الشرك بالله ومن منابذة أهل التوحيد ومن إعلان السماح للشرك بالله إن ذلك من أسباب حصول الويلات، ومن أسباب حصول التفرق والاختلاف ومن أسباب حلول الخوف وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً.
إن من أسباب حلول الخيرات أن يسعى الناس في الامتثال للكتاب والسنة ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون [المائدة:66].
أيها المؤمن: إن صلاح المجتمعات، نعم يكون بصلاح الدول ويكون بامتثال الدول بأمر الله جل وعلا، لكن كما تكونوا يول عليكم، فإن بناء المجتمعات يكون من بناء خلاياها، وإن خلايا المجتمع إنما هي الأسر، إنما هي البيوت، فلو أصلح الناس بيوتهم، كل في شأنه، لو أصلحنا بيوتنا وسعينا بالنصيحة الشرعية الموافقة للكتاب والسنة فيما بيننا شيئاً فشيئاً لعم الخير ولقلّ الشر، وليس وعد الله جل وعلا فيما ذكرنا في الآيات يكون لمجتمع ليس فيه مخالفة وليس فيه معصية، وإنما هو لمجتمع الخيرُ فيه غالب، لأن الله جل جلاله وصف الإنسان بأنه ظلوم جهول فلابد أن تبقى هذه الصفة ولابد أن يبقى العصيان ليغفر الله جل وعلا للمستغفرين ولكي يتوب الله على التائبين وتظهر آثار اسمي الله: الغفور والرحيم لعباده.(160/2)
لكن وعد الله يكون للمجتمع الذي خيره غالب على شره، وصلاح ذلك نبدأه نحن، وإن من سمة بعض الناس أن يلقي باللائمة على من تولى الأمر، على الدول والحكومات، وينسى أن أولئك لم يجبروا الناس على شر وإنما الناس الذين أقبلوا على الشر فيما رغبوا به فيه، نعم اللوم على الطائفتين، ولكن الإجبار لم يحصل، وصلاح البيوت ممكن، وجهاد الشيطان وعد الله أهله بالخير العظيم، فإذا أخطأ غيرنا فهل يسوغ شرعاً أو عقلاً أن نلقي باللائمة على غيرنا، على ذلك الغير وننسى أخطاءنا إننا نرى أن في البيوت من الأخطاء ما نعلمه من تفريط في الواجبات، المساجد إذا رأيتها رأيت المصلين فيها من أبناء البلد قليلاً وأكثرهم من غيرهم، إذا نظرت إلى أحوال الناس في امتثال أمر الله وجدت أن الغفلة سيطرت على القلوب وتحكمت إلا فيما شاء الله حتى يرى المرء نفسه إذا أذنب كأنه لم يذنب، وإذا فرط في واجب كأنه لم يفرط في واجب، والله مطلع على العباد، والعبد إذا فعل غير الخير فعل الشر ولم يحس بفعله للشر وبفعله لغير ما يرضي الله فإنه متوعد بأن يسلب عنه ما أعطي إياه من الخيرات وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد [إبراهيم:7]. فإن الناس في أسرهم وفي قبائلهم وفي مجتمعاتهم إذا أصلحوا شيئاً فشيئاً فإن الخير يعم ونري الله جل وعلا من أنفسنا خيراً في الصلاح والإصلاح نصلح فيما بيننا، ونصلح فيما قد يظهر من الأخطاء في مجتمعاتنا، بالطرق الشرعية المرعية أما الرضى بغير ما يرضي الله فإن ذلك سبب لسلب الخيرات.
والله جل جلاله ضرب لنا مثلاً عظيماً في الذي أوتي الآيات فانسلخ منها وجعله مثلاً للقوم لا للأفراد ثم قال: فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون [الأعراف:176-177]. إن علينا أن نشعر أيها المؤمنون بمهمة الصلاح والإصلاح، وما من أسرة إلا وفيهم قدوة يقتدى به فإذا كانت القدوة غير صالحة أو كانت القدوة قدوة في غير تمام الخير أو في غير الخير من الشر، فأنى يرام الإصلاح، كذلك الأسر بعضها يقتدي ببعض، وحفظ النعمة التي بأيدينا ينبغي أن نتوجه بالتضرع إلى الله أولاً، في حفظها، وفي ثباتها، ثم أن نسعى جاهدين في طاعة الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته.
ثم تأمل أن من أعظم أسباب الفرقة والاختلاف التي ينتج عنها دخول المبادئ الهدامة ودخول الشهوات ودخول الشبهات تفريط بعض الناس بل تفريط الناس فيما أنزل الله جل وعلا وهم يعلمون ذلك قال جل وعلا: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذ ُكّروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء [المائدة:14].
نسوا حظاً مما ذكروا به فعاقبهم الله بماذا؟ عاقبهم الله بما وصف في قوله: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة لأنهم فرطوا ولم يأخذوا بكتابهم ولم يطيعوا رسولهم، وتتابعت عليهم الأزمنة دون صلاح وإصلاح، ودون توبة وإنابة فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، وجعل لهم بعد الأمن خوفاً، فتفرقوا في البلاد شذر مذر، نسأل الله العفو والعافية.
أيها المؤمنون: إن من الناس من يحلو له أن يلقي باللائمة دائماً في أخطاء الناس وفيما يحصل من الشر من المجتمعات الإسلامية يلقي باللائمة دائماً على الحكومات والدول وعلى من ولي الأمور، وهذا ليس بصحيح مطلقاًً، فإن عليهم من اللوم وإن عليهم من الواجب ما عليهم، وقد فرطوا وعصوا في كثير ولكن الناس هم الذين قبلوا ذلك وأقبلوا عليه، فالإصلاح عند المصلحين يكون بالتوجه في إصلاح الناس في الدعوة، حتى يرفضوا الشر ويقبلوا الخير ثم يتوجهوا إلى من بيده الأمر في نصيحة شرعية صحيحة يقتفي فيها أثر السلف الصالح في ذلك، لأنه لن يصلح الله آخر هذه الأمة إلا بالذي أصلح الله به أولها.
أسأل الكريم أن يجعلنا من المنيبين حقاً ومن الصادقين مع ربهم جل وعلا، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإعراضنا وأن يعفو عمن يذنب منا.
اللهم اغفر للمذنبين منا، اللهم اغفر لنا جميعاً، فإنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لنا مغفرة من عندك إنك أنت الغفور الرحيم.
واسمعوا قول الله جل وعلا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
---
[1] هو جزء من حديث عدي بن حاتم الطويل ، أخرجه البخاري [3400] وأحمد (4/257) بنحوه.
[2] أخرجه أحمد في الزهد من كلام وهب بن منبه.
الخطبة الثانية(160/3)
الحمد لله حق حمده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المؤمنون: إن أحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقوى الله فإن بالتقوى، بتعظيم الله وبخوف مقام الله، إن بذلك السعادة في الدنيا والأخرى.
فاتقوا الله حق التقوى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
هذا واعلموا أن من أسباب حفظ الله للنعم ومن أسباب حفظ الله للأمن ومن أسباب إغداق الأرزاق والأموال على الناس كما وعد الله جل وعلا، من أسباب ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال جل وعلا: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [الحج:41].
فالأمر والنهي، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن فرطت به أمة، إن فرطت به دولة، إن فرط به مجتمع، إن فرط به الناس فإن الله جل جلاله يلعن بعض هؤلاء ويضرب قلوب بعضهم ببعض كما فعل ببني إسرائيل وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء فاتقوا الله واتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))[1] فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على هذه الأمة على الكفاية، فلابد أن نقوم به كما يجب لله جل وعلا، ويجب على من ولاه الله جل وعلا الأمر حماية الأمر والنهي لأنه من خصائص الممكنين في الأرض الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة يعني أمروا بإقامتها وآتوا الزكاة أمروا بأدائها وجبوها من الأموال الظاهرة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر أمروا به وساعدوا على الأمر به ونهوا عن المنكر وساعدوا على النهي عنه، وأعلى المعروف التوحيد، وأدنى المنكر الشرك، ثم يلي ذلك المعاصي.
ويلي المعروف الذي أعلاه التوحيد الطاعات، وواجب علينا السعي في ذلك، وإن المؤمن الحصيف إن المؤمن الخائف ليخشى أن يسلب الله جل وعلا نعمه على من أنعم عليه بالنعم، وإننا إذا رأينا ما في الأمة الإسلامية بعامة من التخبطات ومن الضيق والضنك ومن الأحول الاقتصادية المريرة ومن ضعف الأحوال ومن ومن ومن...
وإن المسلم وإن العاقل يرجع ذلك إلى أسبابه الشرعية، لأن القرآن فيه خبر من قبلنا وفيه نبأ من بعدنا، فيه الدواء بين الله ذلك كله وإذا أخذنا به أفلحنا، وإذا تركناه خبنا وخسرنا ونعوذ بالله من حال الهالكين.
اعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته، فقال جل جلاله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
---
[1] أخرجه مسلم (4/2098) [2742] من حديث أبي سعيد ولفظه : ((فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة في بني إسرائيل كانت في النساء)).(160/4)
إضراب العمال.. السبب في عمل المرأة !
الدراسات تؤكد انخفاض الإنتاج نتيجة وجود نساء ضمن العمال
· نشأة مفهوم عمل المرأة
بدأت حركة خروج المرأة للعمل خارج البيت بصورة كبيرة في العالم الغربي بعد الثورة الصناعية والتي أدت لهجرة الرجال للمدن, فحلت المرأة محله في الأرياف.
ثم لما ظهرت النقابات العمالية, قام أصحاب الأعمال باستخدام المرأة لمواجهة هذه النقابات, وكان هذا الأمر- كما يؤكد الباحثون والمؤرخون- بتخطيط من عناصر يهودية , لتحطيم المجتمعات من خلال تحطيم الأسرة, ومن ثم السيطرة عليها.
ومما زاد من تشغيل المرأة الحروب الكبيرة التي أدت إلى تجنيد الشباب, وكذا وسائل الإعلام التي روجت لعمل المرأة وعدته حرية وخروجاً عن عهود الجمود الفكري والتخلف الاجتماعي التي ظلت فيها المرأة خادماً مطواعاً تدير شؤون المنزل ولا شأن لها ، كذلك كان خروج المرأة للمتاجرة بها وتسخيرها للشهوات الدنيئة والدعارة والفساد.
يقول د.صالح العساف في كتابه (المرأة الخليجية في مجال التربية والتعليم) إن دخول المرأة
لميدان العمال جاء نتيجة لخطط مدروسة من قبل الرأسمالية التي ولدت على يد اليهود وذلك لإنشاء مجتمع عالمي بلا دين ولا أخلاق, وكانت وسيلتهم الكبرى للوصول إلى غايتهم الخبيثة تحرير المرأة.
وقد قيل إن مفهوم عمل المرأة والاهتمام به يرجع إلى بداية الثورة الصناعية في أوروبا, وذلك عندما بدأ عمال المصانع يضربون عن العمل نتيجة لإرهاقهم بساعات عمل طويلة وذات أجر محدود. بسبب ذلك دخلت المرأة ميدان العمل لتغطي نقص الأيدي العاملة في المصانع, خوفاً من توقف العمل والخسارة المالية المترتبة على ذلك.
· المرأة والعمل في الغرب
إن المرأة في الغرب لم تنزل إلى ميدان العمل, إلا بعد أن تخلى الرجل عن سد حاجاتها، فصارت مرغمة على العمل.
يقول د. يوسف موسى - رحمه الله - : ولعل من الخير أن أذكر هنا أني حين إقامتي بفرنسا كانت تخدم الأسرة التي نزلت في بيتها فترة من الزمن فتاة يظهر عليها مخايل وعلائم كرم الأصل , فسألت ربة الأسرة لماذا تخدم هذه الفتاة ؟ أليس لها قريب يجنبها هذا العمل؟ فكان جوابها : إنها من أسرة طيبة في البلدة ولها عم غني موفور الغني, ولكنه لا يعنى بها ولا يهتم, فسألت : لماذا لا ترفع الأمر للقضاء للحكم لها عليه بالنفقة؟ فدهشت السيدة من هذا القول وعرفتني أن ذلك لا يجوز لها قانوناً.
وحينئذ أفهمتها حكم الإسلام في هذه الناحية فقلت : من لنا بمثل هذا التشريع لو أن هذا جائز قانوناً عندنا لما وجدت فتاة أو سيدة تخرج من بيتها للعمل في شركة أو مصنع.
إن الأب في الدول الغربية لا تكلفه الدولة ولا الأعراف الإنفاق على ابنته إذا بلغت الثامنة عشرة من عمرها, لذا فهو يجبرها على أن تجد عملاً إذا بلغت هذه السن, أو أن تدفع له أجرة الغرفة التي تسكنها.
ولقد نتج عن عمل المرأة في الغرب أن تفككت الأسر, وتشرد الأطفال وهذا ما دعا علماء الغرب ومفكريه لرفع أصواتهم عاليا منذرين محذرين مجتمعاتهم من الهاوية نتيجة عمل المرأة خارج بيتها.
تقول أنا رود : لأن تشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين. إنه عار على بلاد الإنجليز جعل بنتها مثلاً للرذائل فما لنا لا نسعى وراء جعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية.
ويقول الكيس كاريل : لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسمية باستبداله تدريب الأسرة بالمدرسة استبدالا تاما .
و د. وين دنيس يقول : إن ذكاء الطفل ينمو وقدرته على الكلام تقوى إذا نشأ بين أبويه ولم يترك للمربيات والشغالات والمدرسات.
وبرتراند رسل يؤكد : أن الأسرة انحلت باستخدام المرأة في الأعمال العامة وبين أن الاختيار الواقعي أظهر أن المرأة تتمرد على تقاليد الأخلاق المألوفة, وتأبى أن تظل وفية لزوجها إذا تحررت اقتصادياً.
· سلبيات عمل المرأة
لقد صاحب خروج المرأة للعمل تغيرات اجتماعية في نظم العائلة وعلاقة الزوج بالزوجة وعلاقة الأبناء بالوالدين.
وقد أثبتت بعض البحوث العلمية تعارض عمل المرأة مع طبيعة حياتها كأم وزوجة نتيجة لتأثر حالتها الانفعالية والجسمية واستعانتها بالآخرين لتربية أبنائها.
وتوجد دلائل علمية على أن طول فترة الرضاعة الطبيعية تؤدي إلى زيادة الميول الاجتماعية ، لذا فالطفل يحتاج إلى الأم الهادئة المتفرغة لعملية الإرضاع ليكتسب الراحة النفسية والنمو الطبيعي.
إضافة إلى ما سبق فهناك سلبيات أخرى جراء خروج المرأة من بيتها للعمل ومنها :
أن غياب الأم فترات العمل الطويلة يقلل من فترة الرضاعة, ويقل من إدرار اللبن, وقد تضطر بعض النساء إلى فطام الطفل في سن مبكرة, لأن عملها لا يتيح لها فرصة تغذية نفسها التغذية الملائمة لفترة الرضاعة.(161/1)
أن خروج المرأة للعمل يضعف الروابط والألفة بين أفراد الأسرة وربما يؤدي إلى تفككها وانهيارها, وقد ثبت ازدياد نسب الطلاق في المجتمعات التي يكثر فيها خروج المرأة للعمل.
· عمل المرأة في الإسلام
الإسلام دين يكرم المرأة ويحميها ويريدها مصونة عفيفة, لأن في ذلك حماية للمجتمع بأسره , فالمرأة مستقر الإنسان ومستودع سره وحاضنته ومرضعته ومربيته فإذا كانت صالحة قدمت للمستقبل جيلاً صالحاً.
والبيت هو مملكة المرأة ومنطلقها الحيوي والقرآن والسنة يأمران المرأة بالقرار في بيتها, فقد جعل الله عز وجل لكل من الزوجين حقوقاً, وألزمه بواجبات ليكتمل بناء الأسرة والمجتمع , فالرجل يقوم بالكدح والعمل والاكتساب والنفقة, والمرأة تقوم بالرضاعة والحضانة وتربية الأولاد, وتركها واجبات المنزل ضياع للبيت بمن فيه. وتفكك للأسرة حسياً ومعنوياً.
وفي عصر الرسالة والخلافة الراشدة اشتركت النساء مع الرجال في أمور عدة كاقتباس العلم, فكان من النساء راويات للأحاديث والآثار, وأديبات وشاعرات ومصنفات في العلوم والفنون.
وكانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء أصحابه رضوان الله عليهم يخرجن في الغزوات مع الرجال , يسقين الماء , ويجهزن الطعام , ويضمدن الجراح , ويحرضن على القتال, مع الستر والعفاف.
إن هناك أعمالاً ضرورية وملحة, لا بد أن تقوم بها المرأة كالتعليم, فلو منعنا المرأة من تعليم بنات جنسها فمن سيعلمهن؟! هل نتركهن جاهلات أم هل نجعل الرجال يعلمونهن وفي هذا خطر.
وكذلك التطبيب, والتمريض, فتدريس المرأة لبنات جنسها أقل خطراً من ترك الرجال يعلمونهن .
وأيضاً تقديم الخدمات الاجتماعية والخيرية للنساء أعمال ينبغي أن تقوم بها المرأة لنحقق اكتفاء ذاتيا ويصبح لدينا قوة نسائية كبيرة متخصصة.
إن مفهوم عمل المرأة في الإسلام أشمل وأعمق مما ينادي به دعاة تحريرها من قصره على العمل المأجور فقط, فالأمومة عمل, وتربية الأولاد عمل وأعمال البيت عمل, والمحافظة على قيم المجتمع عمل..
· عمل المرأة في البلاد الإسلامية
أن خروج المرأة في بلاد الإسلامية كان تبعية وتقليداً وإعجاباً بما صوره لها المنخدعون بحرية المرأة الغربية المزعومة واستقلالها الاقتصادي الزائف.
فتأثر نساء المسلمين بنساء الغرب وزاد الخروج للعمل, وزاد بالتالي السفور والاختلاط المؤديان للفساد والشر بالمجتمع.
إن الإسلام يريد للمرأة أن تكون حليف زوجها تؤيده وتنشطه وترغبه في واجباته وأعماله, وأن تكون ربة بيت ومربية أجيال وأنس زوج, وأن تكون متعلمة ومثقفة, وأن تكون قوية في دينها, صادقة في حياتها, صابرة راضية .
لقد كان من نساء المسلمين في الأجيال الفاضلة عالمات ومعلمات وعاملات, لهن فضلهن وقدرهن.
قال عروة بن الزبير رضي الله عنه : ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة رضي الله عنها .
وكان الصحابة يعرفون لأمهات المؤمنين حقهن ويعملون بنصحهن, ويسألونهن عما جهلوه من أمور دينهم .
وكان من النساء عاملات حتى في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ضارب رسول الله بمال خديجة رضي الله عنها, وثبت أن امرأة من الأنصار جاءت إلى رسول الله وهو جالس عند المروة, فقالت يا رسول لله أني امرأة أبيع واشتري فربما أردت أن أبيع سلعة فتسام بأكثر, فقال صلى الله عليه وسلم : لا تفعلي , إذا أردت أن تشتري السلعة فاستامي بهذا الذي تريدين أن تأخذي به أعطيت أو منعت.
إن المرأة في الإسلام راعية في مال زوجها ومسؤولة عن رعيتها.
وقد كان نساء الصاحبة رضي الله عنهم يقمن بأعمال شاقة في البيوت , كما ثبت عن فاطمة رضي الله عنها وعن أسماء رضي الله عنها, فكان يطبخن ويغسلن ويعجن ويطحن ويخبزن ويعلفن الخيول.
· أسباب العمل وتنمية المجالات البيتية
المرأة هي هي في الماضي والحاضر وفي كل زمان ومكان, فقد توجد الرغبة عند بعضهن بالكسب المادي من أجل الشعور باستقلال الشخصية أو الشعور بمتعة العمل ولذته.
وقد تميل المرأة إلى العمل تحسباً لتقلبات الدهر ونوائبه, كحالات الترمل, أو الطلاق, أو قد يرى الزوجان الضرورة في رفع مستوى الأسرة المادي.
في الماضي, كنت هذه الرغبة مشبعة بمهن تمارسها المرأة في بيتيها.
بيد أن التطور الحديث غير بعض الأمور, وأصبحت بعض المهن الوظيفية تمارس خارج البيت.
لذا, فمن الأفضل أن يسعى المجتمع إلى تنمية المجالات التي تستطيع فيها المرأة أن تمارس العمل التكسبي أو خدمة مجتمعها وهي في بيتها.
متى وكيف تعمل المرأة ؟
يجيب د.صالح العساف في كتابه (المرأة الخليجية) على هذا السؤال بقوله : تعمل المرأة عندما تكون هناك حاجة اجتماعية ملحة تتطلب أن تعمل المرأة عملا مأجورا يتفق مع تكوينها وأنوثتها ولا يتصادم مع قيم الإسلام.
أما كيف ؟
فيقول : تعمل المرأة وفقاً للشروط والضمانات التالية :
ألا ينافي عملها المأجور تكوينها الأنثوي
ألا يؤدي عملها المأجور إلى اختلاطها بالرجال(161/2)
ألا يعوقها عملها المأجور عن دورها الأسري
ألا يكون عملها المأجور مدعاة لتبرجها
ومن ثم , فإذا أخذت هذه الضمانات في الاعتبار, وكانت هناك حاجة اجتماعية ملحة يمكن للمرأة أن تعمل عملا مأجورا في عدد من المجالات, وذلك مثل : الطب, التمريض, التدريس, الخدمة الاجتماعية ,الأعمال التجارية الخاصة بالنساء كالحياكة والنسيج والخياطة.
· مدى فعالية عمل المرأة في تنمية الاقتصاد الوطني
ينطلق مفهوم عمل المرأة في هذا الجانب من النظر إلى المرأة باعتبارها مورداً بشرياً مهماً ينبغي الاستفادة منه , في زيادة القدرة الإنتاجية للدولة وذلك عندما تحل المرأة الوطنية محل الأيدي العاملة الأجنبية, فتصبح منتجة لا مستهلكة فقط.
والاستفادة من المرأة في تنمية الاقتصاد الوطني أمر مرغوب فيه ومتفق عليه.
ولكن هل عمل المرأة المأجور هو ما يجب قياسه ؟ بالطبع لا, فينبغي قياس عمل المرأة المأجور, وغير المأجور المتمثل في الأمومة وتربية الأولاد وأعمال البيت.
· سبل تحقيق زيادة مشاركة المرأة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية
لتحقيق المهمات الأساسية للمرأة, ولتحقيق زيادة مشاركة المرأة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية فينبغي أن يتم ذلك عن طريق :
العمل على استيعاب كافة الفتيات في التعليم سواء في الريف أو الحضر
إضافة مقررات دراسية خاصة بالفتيات لتعليمهن بعض الصناعات المنزلية
تعليم الفتيات كيف يربين أطفالهن ويعلمهن الكلام والمشي والنظافة والعناية الصحية
تعليم الفتيات أن يحتفظن بكرامتهن وألا يخدعن بالأهواء والدعايات وألا يتبعن الصرعات والأزياء الأجنبية حتى لا يتبدد الدخل الوطني فيما لا طائل منه .
التركيز على دور المرأة كربة أسرة ومربية أجيال وعنصر مهم من عناصر تقدم الوطن وتنميته إذا أحسنت المرأة القيام بمسؤولياتها وواجباتها بكل جد والتزام
وبهذا تشارك المرأة مشاركة فعالة في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لسعادة نفسها وأسرتها ومجتمعها
· أفكار اقتصادية حول عمل المرأة
في الإسلام لا تكلف المرأة طبخا ولا غسلا على سبيل الوجوب وهذا يؤكد جعل المرأة في البيت إنتاجاً اقتصادياً وفي هذا تميز على موقف الغرب من عمل المرأة في البيت .
فقد لوحظ في عدة دول ازدياد فرصة العمل المتاحة للنساء على مختلف المستويات من حيث الكفاءة والمسؤولية ففي معظم الدول الصناعية والبلدان النامية أخذ اندماج النساء في العمل يتقدم ويزداد حتى أصبح يوجد في العالم نحو 30 % من النساء يعملن في النشاط الاقتصادي وحوالي ثلث عدد العمال يتألف من النساء خاصة في الدول الصناعية
ولذا نادى بعضهم بأنه مادامت المرأة في البلدان المتقدمة تعمل بالرغم من ارتفاع دخل زوجها فإنها في الدول النامية أحوج إلى العمل لانخفاض دخل الزوج وكثرة الأطفال وعملها يساعد على الإسراع بمعدل النمو الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع.
كما يقولون إن المرأة نصف المجتمع ونصف قوة العمل فيه فتعطيلها إهدار للموارد وكرامة المرأة في عملها بحيث لا تكون عالية .
والحقيقة أن عمل المرأة في الدول الغربية له أسبابه التاريخية وأسبابه المتعلقة بالتركيبة الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية والمثل القيمية التي تحكمه.
ثم إن كبر حجم الأسرة وزيادة عدد الأطفال يفرض أن يؤدي ذلك إلى بقاء المرأة في بيتها لزيادة الأعباء الملقاة على كاهلها.
كما أن عدم إدخال عمل المرأة في بيتها ضمن بنود الناتج الوطني يعد تضليلاً في معايير قياس النشاط الاقتصادي , لأن عمل المرأة في بيتها هو إنتاج, ينبغي احتسابه في الناتج الوطني بتقدير أجر المثل.
وعند النظر إلى العائد المادي المتمثل في دخل المرأة ينبغي أن نأخذ في الحسبان تكلفة الفرصة البديلة أو المضيعة والمتمثلة في أجور الخدم والسائقين ومصاريف المربيات ودور الحضانة, والطعام المجهز خارج المنزل, مما يعني أن الصافي الناتج لا يقابل سلبيات خروج المرأة للعمل ويرجع بعضهم الزيادة في تشغيل النساء إلى ارتفع تكليف الحياة, والرغبة في رفع مستوى المعيشة وظهور الآلات المنزلية الحديثة التي سهلت عمل البيت إضافة إلى ارتفع مستويات التعليم, وظهور الخدمات التي تساعد على خروج المرأة كدور الحضانة والمطاعم والنقل.
والواقع أنه إلى اليوم عجزت المنظمات حتى الدولية عن تحقيق المساواة العملية في الأجور بين الرجل والمرأة, فرجال الأعمال والمؤسسات يرفضون تلك المساواة بمنطق الإنتاج الاقتصادي.(161/3)
فالمرأة أقل عملاً وإنتاجاً من الرجل, وأقل ابتكاراً وطموحاً, كما أن عليها أعباء العادة الشهرية والحمل, والتفكير في الأولاد, وفي الأنوثة ومطالبها ما يشغلها عن موازاة الرجل في عمله, ويعوقها عن التقدم في العمل, هذا جعل أجر المرأة يعادل نصف أجر الرجل في معظم البلدان. ثم إن المرأة مطبوعة على حب الزينة والحلي فإذا خرجت من بيتها لتعمل فإنها ستنفق كثيرا من المال الذي تأخذه, على ثيابها وزينتها وتصفيف شعرها, خاصة أن دولاً كثيرة تشكو من الملايين التي تذهب في تفاهات الزينة, وهي أمور لا ترقى بمجتمع ولا تتقدم باقتصاد.
وقد أثبتت بعض الدراسات أن الإنتاج ينخفض بوجود المرأة في المكتب .
ومع ذلك فإن هناك أعمالا منزلية ذات جدوى عالية وتناسب طبيعة المرأة كالغزل والخياطة والنسيج والاقتصاد المنزلي, فقد عرفت هذه الأعمال مند القدم تقول عائشة رضي الله عنها ( المغزل في يد المرأة كالسيف في يد المجاهد ) وكانت أم سفيان الثوري تقول له : (يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي).
إن هذه الخبرات يمكن توارثها, بما يكسب الأجيال خبرة متنامية ويحقق لهم مزية إنتاجية ، كما نلاحظ في بعض المجتمعات كصناعة السجاد في إيران وكشمير والتي تتم يدوياً وفي المنازل.
وغالباً ما تكون هذه الصناعات متقنة ومرتفعة الثمن والطلب عليها كبير.
أما بالنسبة لنسب المواليد فإنه عادة ما تكون في الأسرة التي تعمل فيها المرأة أقل من تلك التي لا تعمل فيها المرأة, وهذا غير مناسب تربوياً كما أن بعض المجتمعات تحتاج إلى زيادة سكانية, بل إن بعض الدول تشجع على زيادة النسل من خلال إعانات عن كل طفل في الأسرة.
ومن ثم فمن المفروض أن يغير هيكل التعليم النسائي من حيث عدد السنوات ومن حيث التخصصات, وكذا تعديل الهيكل الوظيفي النسوي بإيجاد أعمال ذات ساعات عمل أقل, وكذا إيجاد فرصة للدخول والخروج, في شكل توظيف جزئي أو وقتي.
في اليابان - مثلاً - فإن المرأة اليابانية تؤدي دورها الأمومي, في رعاية الأطفال بصورة تفوق كثيراً المرأة الأمريكية.
لذا, فإن اليابانية لا تندرج في السلم الوظيفي الذي يؤدي إلى الحصول على وظيفة مدى الحياة بل تترك عملها بعد الزواج.
وختاماً أقول : إن للمرأة في بيتها ما يشغلها ويملأ عليها فراغها, ويقيها السأم, وليس هذا قاصراً على العمل خارج المنزل.
*) دراسة من إعداد الدكتور : زيد بن محمد الرماني
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
نقلاً عن مجلة الدعوة العدد 1742 صفحة 38(161/4)
إفشاء السلام
الحمد لله رب العالمين,والصلاة على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ :
فإن ديننا الإسلاميَّ قد حثَّنا على إفشاء السلام بيننا، وأخبرنا أنه سببٌ في زيادة المحبة فيما بيننا، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:(لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا،ولا تؤمنوا حتى تحابوا،أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم،أفشوا السلام بينكم)1.
وفى رواية أخرى:(والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا...)2، قال الإمام النووي -رحمه الله-: "وأما معنى الحديث، فقوله -صلى الله عليه وسلم- (ولا تؤمنوا حتى تحابوا) معناه: لا يكمل إيمانكم، ولا يصلح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب. وأما قوله -صلى الله عليه وسلم- (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا) فهو على ظاهره وإطلاقه، فلا يدخل الجنة إلا من مات مؤمناً وإن لم يكن كامل الإيمان فهذا هو الظاهر من الحديث، وقال الشيخ أبو عمرو -رحمه الله-: "معنى الحديث لا يكمل إيمانكم إلا بالتحاب ولا تدخلون الجنة عند دخول أهلها إذا لم تكونوا كذلك"، وهذا الذي قاله محتمل، والله أعلم.
وأما قوله: (أفشوا السلام بينكم) فهو بقطع الهمزة المفتوحة، وفيه الحثُّ العظيم على إفشاء السلام وبذله للمسلمين كلهم، من عرفت ومن لم تعرف. والسلام سبب التآلف ومفتاح استجلاب المودة, وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض، وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل، مع ما فيه من رياضة النفس ولزوم التواضع وإعظام حرمات المسلمين،وقد ذكر البخاري-رحمه الله-في صحيحه عن عمار بن ياسر-رضي الله عنه- أنه قال: (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار) وروى غير البخاري هذا الكلام مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبذل السلام للعالم والسلام على من عرفت ومن لم تعرف وإفشاء السلام كلها بمعنى واحد، وفيها لطيفة أخرى وهى أنها تتضمن رفع التقاطع والتهاجر والشحناء وفساد ذات البين التي هي الحالقة، وأن سلامه لله لا يتبع فيه هواه، ولا يخص أصحابه وأحبابه به، والله -سبحانه وتعالى- أعلم بالصواب. انتهى كلامه رحمه الله3.
فعلى المسلم إذا مر بأخيه المسلم أو قدم إلى مجلس هو فيه عليه أن يسلم عليه؛ وكذلك إذا دخل المسجد، وهو أولى البقاع، وخير بقاع ينبغي على المسلمين تبادل السلام فيها، إذ بها تتجلى معاني المحبة والألفة والمودة بين المسلمين، فعلى المسلم أيضاً أن يسلم على من فيها بتحية من الله مباركة طيبة، حتى لو كان المسلمون في الصلاة، فقد كان المسلمون يسلمون على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في صلاته، فكان يرد علهم بالإشارة؛ فعن ابن عمر عن صهيب أنه قال: مررتُ برسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-وهو يُصلِّي، فسلمتُ، فردَّ إليَّ إشارة4.
وقال ابن عمر: قلت لبلال: كيف كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم-يردُّ عليهم حين كانُوا يسلِّمون عليه وهو في الصلاة؟ قال: يشير بيده5.
أما كيفية هذه الإشارة، فقد أجاب بلال رضي الله عنه حين سأله ابن عمر عن كيفية الإشارة؟ قال: يقول هكذا، وبسط كفه، وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق6.
فالسلام على المصلي ليس فيه حرج،ورد المصلي السلام بالإشارة على المسلِّم ليس فيه حرج كذلك.
ومن المؤسف أن يحرم المسلم نفسه من الخير بعدم بذله للسلام على إخوانه المسلمين، سواء كانوا في المسجد أو خارج المسجد، فتجده يمر بك ولا يسلم عليك، أو يدخل المسجد ولا يسلم على من فيه، فيحرم نفسه من أجر عظيم مترتب على إلقاء السلام، وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أن رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: السلام عليكم، فرد عليه السلام، ثم جلس، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (عشر) ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه، فجلس، فقال: (عشرون) ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه فجلس، فقال: (ثلاثون)7.
نسأل الله أن يوفقنا للخير، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يجعلنا إخوة متحابين متآلفين، وأن يجنبنا المحن والفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - رواه مسلم.
2 - رواه مسلم.
3 - شرح النووي على صحيح مسلم (2/36).
4 - رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي، وصححه الألباني، انظر صحيح سنن الترمذي رقم (301)، وفي رواية لمسلم عن جابر: (فسلمت عليه، فأشار إلي).
5 - رواه الخمسة؛ إلا أن في رواية النسائي وابن ماجه: (صهيباً) مكان (بلال)، وصححه الألباني، انظر: صحيح ابن ماجه رقم (832).
6 - راجع: نيل الأوطار (1/344).
7 - قال الشيخ مقبل عنه: حسن على شرط مسلم، الجامع الصحيح (5/219).(162/1)
إلا تنصروه فقد نصره الله
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أحمده حمداً لا يحد وأشكره شكراً لا يعد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فإن الحاقدين على الإسلام وأهله يهدفون دائماً إلى تشويه الدين الإسلامي بكل ما يملكون من وسائل إعلامية وبرامج تعليمية ويبرزون هذا الدين على أنه دين الإرهاب، وأنه ينشر الفوضى بين الأمم، لكن الحقيقة أن هؤلاء ناقمون على نبي الله محمد-صلى الله عليه وسلم- وشريعته، وناقمون على أتباعه، وما يتميزون به من مميزات سواء في الجانب السلوكي المستقاة من ذلك الدين القويم، أو المميزات في الجوانب الحياتية الأخرى؛ لذلك كله فإنهم يسعون بوسائل شتى إلى الإساءة إلى هذا الدين وأتباعه دون مراعاة لمشاعر وأحاسيس المسلمين، حتى وصل بهم الأمر إلى الإساءة لشخص النبي- صلى الله عليه وسلم-،إضافة إلى ما يقومون به من أذيةٍ للمسلمين بسفك دمائهم واحتلال أراضيهم، وأخذ أموالهم وتدنيس مقدساتهم تحت مسميات زائفة يضحكون بها على الناس، فإذا ما دافع شخص أو شعب عن حقه المغتصب سمي إرهابياً ومعقداً وسفاكاً للدماء وأن هذا التصرف ليس حضاريا وأنه دليل التخلف والظلم، وعدم الرحمة والشفقة على الإنسانية وأن هذا كله تعلمه المسلمون من نبيهم الذي عاش سفاكا للدماء طالما لا يعيش إلا للسيف وبالسيف- كما يزعمون-، وبهذه الترهات هم في حقيقة الأمر يهدفون إلى تنفير الناس وإبعادهم عن الإسلام بوسائل الترهيب منه تارة ، وبالترغيب فيما سواه تارة أخرى، والسبب في ذلك كله أنهم رأوا تدفق الناس إلى الإسلام واعتناقهم له بشكل كبير وملفت، بحيث أن ذلك يؤدي إلى اتساع رقعة الإسلام وهذا بحد ذاته يشكل خطورة على دياناتهم ومبادئهم الفاسدة المستقاة من الشيطان الرجيم ..نعم ..كل دعاياتهم القبيحة هذه هي في الحقيقة دعوة منهم لترك هذا الدين وزرع للحقد والبغضاء لمحمد- صلى الله عليه وسلم- وأتباعه في قلوب الناس، بحجج واهية هم يعلمون كذبهم فيها، ولا عجب من أن يكون هذا دأبهم في ادعاءاتهم في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن هذا هو نفسه دأب أجدادهم المستشرقين من قبل الذين كانوا يروجون أن محمدا ًسفاكاً للدماء ،وأنه إرهابي، وأن دينه لم ينتشر إلا بالقتل وأنه شهواني، همه النساء..وغير ذلك من الخزعبلات والافتراءات الباطلة ...فسبحان الله العظيم.
وإن مما نشره بعض هؤلاء الممسوخين الحاقدين في الآونة الأخيرة تلك الرسوم التي دعت الجريدة الدنمركية الرسامين لرسمها، ونشرتها على صفحاتها، والتي كان منها صورة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- يظهر فيها مرتدياً عمامة تشبه قنبلة ملفوفة حول رأسه.
إن تلك الصورة لا تمثل رسول الله محمداً-صلى الله عليه وسلم-لا في رسمها، ولا في رمزها وذلك لما سيأتي بيانه وعرضه من حقيقة تلك الشخصية الشريفة التي يعرفها أولئك علم اليقين لكنهم ادعوا ما ادعوه ظلماً وجوراً ومكابرة وإيقاداً لقلوب المؤمنين الذين من صفاتهم الغيرة على دينهم ونبيهم ومقدساتهم مهما كلفهم الأمر.
إن الرجل العاقل والمنصف، ولوكان معاديا لطرف من الأطراف أودين من الأديان فإن عقله السوي يقوده إلى التأمل والبحث فيما يطرح، وينظر في صحة ما يدعيه المدعي دون التسرع بالحكم على أحد أو فعل ما يلهب المشاعر ويوقد نار الغيرة للطرف الآخر، إلا أن يكون ليس ذا منهج يستحق المنافحة من أجله بالأدلة والبراهين المعقولة التي يمكن عرضها ومناقشتها.
إن الذي يحدث الآن ليس إلا مجرد ضعف وخور وفقدان للحجة، إضافة إلى الحقد المتغلغل في النفوس الخبيثة، ولهذا كله فهذه –أولاً- دعوة لمن هم ليسوا من المسلمين للتأمل والتحري في شخصية محمد بن عبد الله _صلى الله عليه وسلم –ذلك النبي الكريم الذي ختم الله به الرسالات السماوية، وهو أفضل الأنبياء والمرسلين الذي وصفه ربه الرحمن جل وعلا بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} سورة القلم (4)، وقال سبحانه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} سورة التوبة (128) .
أيها الشعب الدنمركي وغيره من الشعوب النصرانية وغيرهم من أمم الأرض: إن نشر مثل هذه السخريات ما هي إلا افتراء وكذب على دين الإسلام وعلى رسول الإسلام محمدٍ-صلى الله عليه وسلم-، فمحمد هو أفضل خلق الله وهو أطهر وأزكى عباد الله ولن يُنقِصَ من قدرِه وفضله مثل هذه السخريات؛ لأن من وصفه بذلك الفضل والشرف وأنه رسول رحمة لا رسول حقد وتدمير هو ربه وخالقه البارىء جل وعلا قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (107) سورة الأنبياء.(163/1)
ثم ليعلم الجميع أن الله سيتولى الدفاع عن سمعته – صلى الله عليه وسلم- ولو لم يدافع عنه أحد من البشر،كما دافع عنه من كفار قريش، فقد روى البخاري في صحيحه عنه –صلى الله عليه وسلم قال: (ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمَّماً ويلعنون مذمماً، وأنا محمد)(1)
قوله:(يصرف الله عني) أي لعنهم وشتمهم فلا يصيبني لأنهم يلعنون ويشتمون غيري الذي يسمى "مذمما"،بينما اسمي: محمد، وكان كفار قريش لشدة كراهتهم له صلى الله عليه وسلم لا يسمونه باسمه الدال على المدح فيعدلون إلى ضده فيقولون"مُذمَّم"وهو ليس اسمه ولا معروفا به فكان الذي يقع منهم مصروفا إلى غيره بالبداهة فيحصل ضد قصدهم ويرد الله تعالى كيدهم في نحرهم ليموتوا في غيظهم(2).
أخلاق النبي - عليه الصلاة والسلام-:
كان الرسول الأكرم محمد – صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى في حُسن الخلق الذي استطاع من خلاله أن يملك العقول والقلوب، واستحقّ بذلك ثناء الله تعالى عليه بقوله عزَّ من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم، وكان منطقه تعبيراً واضحاً عن عظمة رسالته حيث يوصي أصحابه بحسن الخلق وحسن معاشرة الناس بشتى أصنافهم حتى في الحروب.
إن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية التي أوحاها الله لرسوله – صلى الله عليه وسلم- هي نفسها شاهدة على كذب هؤلاء الدجالين الحاقدين، بل نقول لهم: لولا ما حرَّفتم وبدَّلتم فيما أنزل الله من الكتب على رسلكم - عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام- فإن صفات هذا النبي الكريم وحقيقة ما يدعو إليه وكيفية دعوته هل هي بسفك الدماء وإرهاب الناس؟ وهل أتباعه يورث ما ادعيتموه ظلماً وعدواناً؟ كل ذلك موجود عندكم منذ أن بشر به إخوانه الأولون من الأنبياء والمرسلين، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}(6) سورة الصفً . وقال جل ثناؤه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) سورة الأعراف.
كان النبي عليه الصلاة والسلام في تعامله مع الأعداء فضلا عن تعامله مع المسلمين قدوة فلم يكن فاحشاً ولا بذيئاً بل كان القدوة الحسنة لمن حوله يعفو ويصفح عمن أساء إليه، ولقد علم وربى الأمة على تلك الفضائل، ولقد كان يأتيه الأعرابي الجلف ويشد عنقه عليه الصلاة والسلام ويقول: "اعطني من مال الله ليس من مال أبيك ولا من مال أمك" فيتبسم له -عليه الصلاة والسلام- ويعطيه وما يعنفه. وكان يعلم الناس في الحروب مع الكفار أن لا يؤذوا امرأة ولا شيخاً كبيراً ولا صبياً ولا متعبداً في صومعته، بل علمهم الرفق بالحيوان يا من تدعون أن رفقكم قد اهتم بالحيوانات! والواقع يكذبكم في تعاملكم مع الإنسان، يقول-عليه الصلاة والسلام- معلماً أمته:"إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته"( 3) ،لم يكن يعلم الناس ما ادعاه هؤلاء المتغطرسين من إراقة الدماء وإرهاب الآمنين، بل كان عليه الصلاة والسلام رحيماً حتى بمن ليسوا بمسلمين إذ كان يتمنى إسلامهم لينقذهم بذلك من عذاب الله لأن الله أرسله رحمة لكل الناس - عليه الصلاة والسلام-يقول عنه الله في ذلك: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (107)سورة الأنبياء
إنك لو نظرت إلى ادعاءات الغربيين في النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين أتباعه نجد أن ما لفقوه فينا وادعوا أننا نتعبد الله به من قتل للأبرياء وغير ذلك مما يصورون أنه من أخلاقيات المسلمين لقلت إنهم هم الكاذبون!(163/2)
ولو نظرنا إلى يحدث في كثير من بلدان المسلمين من قتل وتشريد وأكل ثروات الأمة المسلمة واغتصاب للأراضي وهتك للأعراض،، من يفعل كل هذا؟ أليس ذلك من فعل الغرب النصراني؟ سل عن فلسطين وما فيها من ظلم وتعذيب ..سل عن العراق والحرب عليها ودمارها بحجج كاذبة.. سل عن أفغانستان وما حل بها من دمار وتشريد، من قام بهذا كله ؟ أهو محمد وأتباعه؟ أليس الفاعل لهذا كله هم من يتشدقون بالسلام العالمي الذين ليس لهم إلا الكيل بمكيالين! ثم هم ينسبون أعمال الدفاع عن النفس إلى الإرهاب، ويسخرون بمحمد -صلى الله عليه وسلم- بتلك الرسوم التي بها يتهكمون على الإسلام ونبيه. أين العقلاء المنصفون منكم يا أهل الغرب؟ أين ما تتشدقون به من العدل؟؟ لكن قد قال الله: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} (46) سورة النساء .
موقف المسلمين من الاعتداء على نبيهم:
يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(4).
هذا الحديث الشريف نداء من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحاب الغيرة ممن حملهم الله أمانة هذا الدين المتمثلة في إقامة شريعة الله والتي منها شعيرة الدفاع عن ذات الله من الانتقاص والتقول عليه بغير علم، وكذا الدفاع عن ملائكته وكتبه ورسله الذين منهم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-. يجب على كل صاحب فطرة سليمة، وعقيدة إسلامية غيورة أن يقف في وجه كل من حاول أو يحاول المساس بمقدساته سواء كان مسجدا أو أرضا أو أي شعيرة من شعائر الدين ومن ذلك الدفاع عن الذي شرع الشريعة والذي أتى بها ..نعم ..يجب الدفاع باليد وباللسان وكل بقدر استطاعته، وليعلم كل من لم يحرك ساكنا ولم يغر على نبيه – محمد صلى الله عليه وسلم- وهو يسمع جهارا نهارا شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في فطرته غبش وفي تدينه خلل وعور وهو على خطر عظيم فليراجع دينه. نعم الدفاع وتبيين الحق واجب على جميع المسلمين ذكورا وإناثا، علماء وولاة أمر وعامة، بالقول وبالفعل، كل بحسب قدرته واستطاعته، أدناها بالقلب، ثم باللسان، ثم باليد، لما ورد في الحديث الآنف الذكر.
إن الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من النصرة الواجبة له التي علق الله الفلاح بها بقوله سبحانه: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) سورة الأعراف. وأي منكر أعظم من العدوان على مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحق دفعه؟!. فلماذا لم نسمع للناس حسا أو صوتاً، ولم نر من يرد على المبطلين إلا من رحم الله؟؟ هل ماتت الغيرة وهل صار التدين عند المسلمين مجرد شعارات تردد؟! يقول الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} (72) سورة الأنفال.
إذا كان المسلمون مطالبين بنصرة إخوانهم المسلمين عند الحاجة، أليس رسول الله أولى بالنصرة وهو الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور؟ قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (164) سورة آل عمران. وقال عز وجل: {رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (11) سورة الطلاق.
انظر أيها المسلم إلى هذا النموذج من المسلمين الأوائل الذي يعبر حقيقة عن حبه لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-، ويرى ويعتقد أن نفسه لو قدمت فداء لرسول الله هي أهون من أن يصاب رسول الله بشوكة في قدمه، إنه خبيب بن عدي -رضي الله عنه- كان قد قتل خبيب بن عدي أبناء المشركين الذي قتلوا يوم بدر، فلما وضعوا فيه السلاح وهو مصلوب نادوه وناشدوه: أتحب محمداً مكانك؟ فقال: لا والله العظيم ما أحب أن يفديني بشوكة يشاكها في قدمه(5).(163/3)
ليكن هؤلاء قدوتنا أيها المسلمون إن كنا في إيماننا صادقين. ومن أراد أن ينصره الله في الدنيا والآخرة فعليه بنصر دين الله لأن النصر والفلاح معلق به، ونصرة عرض رسول الله من نصر دين الله، قال سبحانه: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وقال عز وجل: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) سورة الأعراف.
وفق الله الجميع إلى ما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد واله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
----------------
1-رواه البخاري برقم3340 (3/1299). ط : دار ابن كثير ، اليمامة - بيروت
2- جامع الصحيح المختصر للبخاري، (3/1299). ط : دار ابن كثير ، اليمامة – بيروت.
3-رواه مسلم رقم57 (3/1548)وأبو داوود رقم 2815(2/109)والترمذي رقم1409(4/23).
4-رواه مسلم رقم (78) (1/69)ط: دار إحياء التراث العربي.
5- انظر المعجم الكبير للطبراني (5/259)ط: مكتبة العلوم والحكم - الموصل 1404ه-(163/4)
إلى أهل القرآن طلاباًوحفاظاً ومدرسين
المحتويات :
المقدمة .
القدر والمنزلة .
الأجر والمثوبة .
النفع والفائدة .
الوصايا العامة.
الوصايا الخاصة.
وصايا الطلاب .
الوصايا الخاصة بالحفاظ .
وصايا المدرسين.
إلى أهل القرآن طلاباًوحفاظاً ومدرسين
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى حمداً كما يحب ربنا ويرضى والصلاة والسلام الدائمان التامان الأكملان على النبي الكريم سيدنا ونبينا محمد الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحابته أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين .
أما بعد - أيها الاخوة الكرام - سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وهذا موعدنا مع درسنا بعنوان : " إلى أهل القرآن طلاباً وحفاظاً ومدرسين " ، والله أسأل أن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته ودار كرامته ، وأن يجعلنا من أهل القرآن العاملين به والتالين له ، والمتدبرين فيه والناشرين لعلومه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وحديثنا اليوم هو أيضاً حديثٌ ذو شجون ، وله شعب كثيرة وفروع عديدة لا يجمعها مثل هذا المقام ، ويضيق عنها مثل هذا الوقت ، ولكن كما كنا في الدروس التي مضت نختصر ونقتصر ، ونجعل ما نذكره إشارة إلى ما نفعله وما ننشره منها على ما يطوى من القول ويشار إليه في مظانه ومراجعه ، ونبدأ الحديث بالحديث عن أهل القرآن ليعرفوا أنفسهم وليعرفهم الناس ونبدأ بـ :
القدر والمنزلة
إن القدر والمنزلة التي جعلها الله - عزوجل - لأهل القرآن - الذين يشتغلون به تلاوة وتدبرا وحفظاً واستذكاراً وتعلماً وتعليماً وعملاً ودعوة وتطبيقاً- لاشك أنها منزلة من أسمى وأرقى وأعلى ما يمكن أن يحوزه مسلم بعمل من الأعمال التي يرجوا بها القرب من الله - عزوجل - وحسبي أن أشير إلى بعض ملامح هذه المنزلة وذلك القدر .
1- الخيرية الفائقة
لقد أخبرنا المصطفى – صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي لا أحسب أن أحداً لا يحفظه ، ولكنه يحتاج إلى مزيد التأمل والتدبر والتفكير في مضمونه وفي دلالته ذلك ان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم خيرية أمته على سائر الأمم ويعلم خيرية الصالحين والعابدين من أمته- يجعل الخيرية في اطلاق حديثه - عليه الصلاة والسلام - مخصوصة بالمرتبط بهذا القرآن كما في الصحيح من حديث عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) ، وفي لفظ آخر عند البخاري : ( أن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه ) ، فاعلم أن المرتبط بالقرآن تعليماً وتعلّماً في الرتبة العليا والمنزلة الرفيعة في هذه الأمة التي شرفها الله عزوجل .
2 - الشفاعة النافعة بإذن الله عزوجل
ونحن نعلم أن كل أحد في هذه الحياة الدنيا يلتمس أسباب النجاة ، ويحرص على الفكاك من النار والعتق من سخط الله سبحانه وتعالى ، وإذا بالقرآن الذي يحرص عليه صاحبه ويرتبط به ، ويسعى دائماً إلى أن يكون عظيم الصلة به ، هو الذي يشفع في صاحبه ، وتدور في ذلك أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك ما ورد في صحيح مسلم عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنها تأتيان يوم القيامة كأنها غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما ، اقرءا سورة البقرة فإن اخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعا البطلة ) ، قال معاوية - يعني ابن سلاّم - بلغني أن البطلة السحرة ، فهذا نص منه - عليه الصلاة والسلام - أن القران يشفع لصاحبه ، وفي بعض ما أثر أيضاً أن المرء إذا انشق عن قبره يلقاه القرآن في صورة إنسان وقد شحب - ويكون المرء قد شحب لونه من هول ذلك المطلع فيطمئنه هذا القران - ويقول له: " ألم تعرفني فيقول لا فيقول أنا الذي اظمأتك في الهواجر أنا الذي أسهرتك في الليالي " ، ثم يشفع فيه فيشفع بإذن الله - عزوجل - وفي صحيح مسلم أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( يوتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما ) ، وكما ذكر ذلك أيضاً علماء الاسلام مذكّرين بعظيم المنزلة والشرف الذي يحوزه حافظ القران والمرتبط به فيقول ابن الجزري - رحمة الله عليه - في طيبة النشر :
و هو في الأخرى شافع مشفع **** فيه وقوله عليه يسمع
يعطي به الملك مع الخلد إذا **** تُوّجه تاج الكرامة كذا
يقرأ ويرقى درج الجنان **** و أبواه منه يُكْسيان
وتدور أيضاً في ذلك أحاديث وآثار كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن صحابته .(164/1)
3 - المعجزه العظيمة
فأنت أيها المرتبط بالقران متصل بأعظم معجزة في هذا الوجود ، ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بيّن أن معجزته الكبرى الخالدة ما دامت السموات والأرض هي هذا القران المعجز الذي يحي القلوب ويوقظ العقول وينشط الضعيف الكسول ، ويحمل الخير كله من أطرافه ، فأنت عندما ترتبط به فإنما ترتبط بأعظم معجزة لله - عزوجل - في هذا الوجود ، وكما ورد في مصنف ابن ابي شيبة عن إسماعيل بن رافع عن رجل عن عبد الله بن عمرو أنه قال : ( من قرأ القرآن فكأنما استدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه ) ، وفي صحيح الامام البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ما من نبي من الأنبياء الا أعطي على ما مثل ما آمن به من البشر - أي أعطي معجزة تكون من أسباب إيمان البشر وإظهار صدق نبوة هذا النبي - وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ) .فأنت إذاً ترتبط بالرسالة وبالوحي وبالمعجزة الخالدة ، فهنيئاً لك شرف هذا الارتباط .
4- المنافسة الكبيرة
عندما يشتغل الناس بالصفق في الاسواق ، وعندما يتزاحم الناس على لذات الدنيا وشهواتها ، وعندما يتسابقون إلى الرفعة والجاه فيها ، وعندما يتنافسون على أبواب السلاطين تبقى أنت تتنافس في أعظم الامور وأشرفها حتى أن أهل الفقه والإيمان ليرون أنك قد سبقتهم سبقاً عظيماً وقد فقتهم فوقا كبيراً ، حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جمع صاحب القران مع صاحب المال المنفق في سبيل الله وجعل عملهما أعظم الاعمال التي يحرص كل أحد على المنافسة فيها والمسابقة إليها والمواظبة عليها قدر استطاعته فقد ورد في صحيح مسلم من حديث عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم – قال : ( لاحسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ) فاذاً إذا تنافس المتنافسون ، فأنت في أعظم منافسة وإذا تسابق المتسابقون فأنت في أعظم ميدان فاعلم قدرك وليعرف الناس منزلتك .
5 - المتابعة الشريفة
عندما ترتبط بكتاب الله - عزوجل - فإن أسوتك جبريل - عليه السلام - وإن أسوتك محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن سلفك أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وأبّي وزيد بن ثابت والكوكبة العظيمة الشريفة من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن سلالتك متصلة بالائمة الأعلام والعباد والزهاد والأتقياء والصلحاء ؛ فإنك في الحقيقة تسير على طريق قد سبقك إليه الأشراف والأطهار ، بل سبق إليه الرسل والانبياء بل سبق اليه الملائكة المقربون فهذا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ينبئنا أنه كان يتدراس القرآن مع جبريل - عليه السلام - فإن تدارست القران فتذكر تلك المدارسة التي ليس شيء أشرف منها في الدنيا كلها ، إذ فيها أمين الوحي جبريل وفيها خاتم الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - فما أعظم هذه المتابعة ! وما أشرف هذه السلسلة ! ، ففي البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في رمضان لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ ، يعرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن فإذا لقيه كان أجود بالخير من الريح المرسلة ) .(164/2)
وانظر إلى آثار كثيرة وأحاديث عديدة تبيّن لك أنك عندما تشتغل بالقران ؛ فإنما تشتغل بما اشتعل به الذين قد بلغوا الغاية العالية والمنزلة الرفيعة ، والقرب من الله - عزوجل - ففي البخاري ومسلم من حديث عائشة - رضّي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقرأ من الليل ، فقال : يرحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطها من سورة كذا وكذا ، ولم يكن القارئ يقصد المراجعة ولا المدراسة مع النبي - صلّى الله عليه وسلم - فكيف بمن يقصد ذلك ترداداً وتذكيراً وحفظاً ومراجعة ومدارسة ، فهذا رجل دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أحيا وقته وأحيا بيت الله عزوجل بتلاوة القرآن ، قال : ( يرحمه الله لقد اذكرني كذا وكذا من سورة .. ) ، فما بالك بالقاصد المريد لترى حينئذ الفضل العظيم عندما تثني ركبتيك في حِلَق القرآن ، وعندما تطأطئ رأسك بين يدي حافظ القرآن الذي يعلمك إنك إنما تهبط إلى شرفٍ عظيمٍ ، وإنما تجلس في رتبة عليا ، فهذا ابن مسعود - رضي الله عنه – يقول : " لقد أخذت من فم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعاً وسبعين سورة والله لقد علم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنني من أعلمهم بكتاب الله وما أنا بخيرهم " ، وهكذا يقول شقيق صاحب ابن مسعود - رضي الله عنه - : " فجلست في الحلق أسمع ما يقولون - يعني عن ابن مسعود - فكان القول ما قال - أي في علو منزلته وعلمه بكتاب الله عزوجل – " ، وعن سليمان بن يسار - كما في مصنف ابن ابي شيبة - أن عمر - رضي الله عنه - انتهى إلى قوم يقرئ بعضهم بعضاً فلما رأوا عمر سكتوا ، فقال : ما كنتم تراجعون قال : كنا يقرئ بعضنا بعضاً ، قال : " اقرءوا ولا تلحنوا " .
فلقد كانت سنة ماضية نحن على إثرها سائرون حلق ومدارسة وحفظ ومذاكرة ، فما أجلّها من متابعة ! وما أعظمها من موافقة ! وفي حديث مسروق عن عائشة - رضي الله عنها - عن فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - قالت : أسر إليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة، وأنه عارضني الآن مرتين، ولا أره إلا قد حضر أجلي ) .
وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاطب عبدالله بن مسعود بقوله:" اقرأ عليّ ، قال ابن مسعود متعجباً : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟! قال : نعم ؛ فإني أحب أن أسمعه من غيري - فلا تستكثرن ذلك ولا تأنفن منه ولا يكونن أحد ممتنعاً أن يسمع القرآن ممن هو أدنى منه فقد طلب النبي - عليه الصلاة والسلام - ذلك من ابن مسعود - رضّي الله عنه - فقرأ عليه من أول سورة النساء حتى جاء إلى قوله عزوجل : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيدا * يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا } ، قال : حسبك حسبك ، قال ابن مسعود فنظرت فالتفت إليه ؛ فإذا عيناه صلّى الله عليه وسلم تذرفان " ، وفي حديث أنس المتفق عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبّي بن كعب : ( إن الله امرني أن أقرأ عليك القرآن ) ـ فانظر رعاك الله هذه المتابعة الشريفة والقدر العظيم ؛ فإن الوحي ينزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن يقرأ القران على أبّي ، قال : أآلله سماني لك ؟! – هل الوحي نزل باسمي مخصوصاً ؟! - قال نعم ، قال : وقد ذكرت عند ربّ العالمين ؟! قال : نعم ، فذرفت عيناه ، وحق له - رضّي الله عنه وأرضاه - فاعلم يا حامل القران ويا طالبه ويا معلمه أنك في هذه المتابعة تنال أعلى أوسمة الشرف ، فدعك من سير الناس شرقاً وغرباً ... وحسبك أنك تسير على أثر محمد - صلى الله عليه وسلم - وتعمل عمل أصحابه وتجلس مجالس العالماء الصالحين وناهيك بهذا عزّاً وفخراً .
6 - الشرف والتقدم
فانت مقدّم في أعظم الامور وأشرفها ، فأنت المقدم في الصلاة ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام : ( يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله ) ، فهذه الصلاة التي هي أعظم العبادات ، وآكد الاركان ، وأكثرها تكراراً وكما أثر عن السلف انهم لم يكونوا يرون شيئا تركه كفر إلا الصلاة ومما يدل على هذا التقدم حتى بعد الموت ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في دفن شهداء أحد فقد أخرج البخاري عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول : " أيّهم أكثر أخذاً للقرآن ؛ فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد " ، فحتى بعد موتك فأنت المقدّم ومهما كنت موصوفاً بنقص عند الناس ، فكتاب الله يذهب نقصك ويرفع قدرك ، وفيما رواه مسلم لما تسلية لك وذلك لما سأل عمر - رضي الله عنه - عامله على أهل مكة قال من خلفت على أهل مكة قال : ابن بزة ، قال : ومن ابن بزة ؟ قال رجل من الموالي فقال عمر ـ كالمتعجب أو المستنكر - استخلفت عليهم مولى ! فقال : إنه قارئ لكتاب الله ، فقال عمر : أما إن نبيك قال : ( إن الله ليرفع بهذا القران أقواما ويضع آخرين ) .(164/3)
ولقد كان القراء هم أصحاب مجلس عمر - رضي الله عنه – ومستشارونه ، كهولاً وشباباً ، وكان عمر يجعل في مجلسه عبدالله بن عباس وهو صغير السن ، وكان بعض الأنصار يقول لعمر : مالك تدخل علينا هذا الغلام وفي أبنائنا من هو أسن منه! ، فما كان جواب عمر إلا أن بيّن لهم عملياً أن الفضل بالعلم لا بالسن ، فيسأل في كتاب الله ما يتحيرون فيه ، ويكون الصواب عند ابن عباس – رضي الله عنهما - ، فيظهر لهم علمه ، ويجلو علو كعبه ، ولما سألهم عن معنى قوله : { إذا جاء نصر الله والفتح } ما يعلمون منها ، قالوا : " بشارة ساقها الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم " ، فنظر إلى ابن عباس – رضي الله عنهما - قائلاً : ما عندك فيها ؟ فقال: " أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نُعي إليه " ، فيقول عمر - رضي الله عنه -:" والله ما أعلم إلا ما ذكرت " .
7 - الطيب ظاهراً و باطناً
فإن حامل القرآن طيب يشع منه القول الطيب والسلوك الطيب والسمت الطيب ، بل والرائحة الطيبة ، وفيما أخرجه الترمذي وحسنه ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( تعلموا القرآن وأقرؤه فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به كمثل جراب محشوٍ مسكاً يفوح ريحه في كل مكان ، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب وكي على مسك ) .
فأنت في يقظتك ومنامك يفوح منك الطيب ظاهراً وباطناً قد طيبت باطنك وطهرت قلبك ونقيت نفسك بهذا الكلام الطاهر الشريف، كلام رب العالمين، وكذلك في صحيح البخاري عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( مثل المؤمن الذي يقرأ القران مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرأن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ) ، فعلى كل حال مادام القرآن بين جنبيك فأنت طيب ظاهراً وباطناً .
8 - الوصية المهمة
أنت قائم بالوصية العظيمة التي أوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه ما خلف درهماً ولا ديناراً ولا أوصى بأرض ولا ضياع ، وإنما كما ورد في صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى أنه سئل وقيل له : أأوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : لا ، قيل : كيف كتب على الناس الوصية أو أمروا بالوصية ؟ قال : أوصى بكتاب الله " ، هذه وصية النبي لأمته ، فأنت آخذ بهذه الوصية قائم ببعض الواجب فيها ، فاعلم انك في هذا الميدان على قدر ومنزلة شريفة .
9 - الصلة السماوية
أنت عندما تقرأ القرآن وترتبط به تربط أسباب الارض بالسماء ؛ فإن هذا القران قد أنزل من فوق سبع سموات ، وأنزل لتحيا به القلوب ، وأنزل ليغيّر ظلمات هذه الارض ، ويشع فيها النور يهدي الله - عزوجل - بذلك من يشاء ، فإذا قرأت القران فأنت تستنزل الأسباب ، وتكون ذا صلة بالسموات وهي صلة حسيه لا معنوية ، ففي البخاري من حديث أسيد بن حضير - رضي الله عنه - قال بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة ، وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكتت الفرس ، فقرأ فجالت الفرس ، فسكت فسكتت الفرس ، ثم قرأ فجالت الفرس ، فانصرف وكان ابنه يحيى قريباً منها فأشفق أن تصيبه ، فلما أجتره رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراه ، فلما أصبح حدّث النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير ، قال: أشفقت يارسول الله أن تطأ يحيى ، وكان منها قريباً فرفعت رأسي إلى السماء، فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها ، قال : أوتدري ما ذاك ؟ قال : لا ، قال : ( تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم ) .
وفيما روى الإمام مسلم من حديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده ) ولا شك أن هذه صلة عظمى ومنزله عالية .
10 - النورانية الربانية
وهي منزلة عظيمة ينبغي أن تحرص عليها وأن تذكرها وأن تعرف قدرها فإن هذا النور الرباني يضيء قلبك ويضيء طريقك والله عزوجل قد قال: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } ، وقد ذكر ابن سابط كما روى ذلك عنه ابن أبي شيبة في مصنفه في كتاب فضائل القران أنه قال: " أن البيوت التي يقرأ فيها القرآن لتضيء لأهل السماء كما تضيء السماء لأهل الأرض ، وأن البيت الذي لا يقرأ فيه القران ليضيق على أهله وتحضره الشياطين وتنفر منه الملائكة ، وأن أصفر البيوت لبيت أصفر من الكتاب الله" فلا شك أن هذه منزلة عظيمة ينبغي أن تحرص عليها .
11- الحصانة الالهية(164/4)
أنت محفوظ بهذا القران بحفظ الله - عزوجل - ولست أفيض في ذلك ، فحسبنا أن نعلم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه الحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ( إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له) ،وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً في ذكر سورة البقرة والآيات الاخيرة من سورة البقرة وفي ذكر العصمة من الدجال في قراءة عشر آيات من الكهف أحاديث كثيرة سيأتي ذكر بعضها لاحقا .
12 - الانتساب العظيم
فإنك عندما تكون في صلة مع كتاب الله - عزوجل - فإنما أنت في هذا الميدان العظيم منتسب إلى الله ، كماورد في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام : ( إن اهل القرآن هم أهل الله وخاصته ) ، فأنت منتسب إلى الله ،أعظم به من نسب ومن شرف ، فالإنسان لايشرف الابما يحفظه من القرآن ، وكما قال الإمام ابن الجزري رحمه الله:
لذاك كان حاملو القرآن **** أشراف الأمة أولى الإحسان
و إنهم في الناس أهل الله **** و إن ربنا بهم يباهي
و قال في القرآن عنهم وكفى **** بأنه أورثه ما اصطفى
وكما قال تعالى:{ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } ، وكما قال صلّى الله عليه وسلم : ( إن لله أهلين من الناس ، قيل من هم يا رسول الله ؟ قال : أهل القران هم أهل الله وخاصته ) .
الأجر والمثوبة
لئن كان هذا قدره ومنزله في الدنيا والآخرة فاعلم أن وراء ذلك أجراً عظيماً ، نعلمه ويعلمه كثير منا ولا باس أن نذكره تذكيراً وموعظةً لعل ذلك أيضاً أن يكون أعون على الخير وأعظم في ارتباطنا بكتاب الله عزوجل ، فقد روى الترمذي وغيره عن ابن مسعود قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:( من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) ، ومما روى الشيخان عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) ، أجر المشقة وأجر القراءة ، وروى مسلم عن عقبة بن عامر قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصفة فقال:( أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم ) ، فقلنا : يا رسول الله نحب ذلك ، قال : ( أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله - عز وجل - خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل ) ، وإذا جاز لنا أن نقرب الصورة لو قيل لأحدنا تذهب إلى مكان ما وستجد سيارتين أو ثلاث من أفخر أنواع السيارات فتأخذها ، فماذا سيصنع الناس ؟، سوف يتسابقون تسابقاً ليس بعده تسابق ، والله عزوجل قد ذكرنا بعظيم الأجر والمثوبة في قوله جل وعلا : { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله أنه غفور شكور } وهذا أمر كما قلت واضح ، ومن أوضحه وأعظمه أجراً ما رواه الترمذي عن ابن عمر – رضي الله عنهم – قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ( يقال لقارئ القرآن يوم القيامة اقرأ وأرق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ؛ فإن منزلتك عند آخر آيه تقرؤها ) .
النفع والفائدة
ومع هذا القدر العظيم والمنزلة الرفيعة ومع الأجر الكثير والمثوبة العظيمة ؛ فإن هناك نفعا غزيراً وفائدة عميمة تجنيها عندما ترتبط بكتاب الله - عزوجل - وحسبك من هذه الفوائد أن نذكر بعضاً منها .
1 -ـ الاستشهاد والحجج
المرتبط بالقرآن حفظاً، والمرتبط له إدامة وتلاوة وتعلماً يحوز أموراً كثيرة منها الاستشهاد والحجج ، فأنت إذا حفظت القرآن كانت الحجة جارية على لسانك ، لين بها لسانك فلا تحتاج تحضير وتفكير ولا تصاب بعجز أو تتعتع فبمجرد ذلك الأمر لك ؛ فإنك تجيب بكتاب الله - عزوجل - ولست في مقام الافاضة ، فقد ذكر في عن السلف مواقف شتى وكثيرة كان القرآن فيها يجري على ألسنتهم إجابة على كل سؤال ، وفتيا لكل مستفت ودفعاً لكل باطل ، وهكذا من كان قريب الصلة بالقران كان يجري القرآن على لسانه فيكون قوي الحجة عظيم الاستشهاد كثير الاستدلال لا يلقي القول علىعواهنه فما من كلمة أو كلمتين أو جملة أو جملتين الا وبينهما آية من كتاب الله عزوجل تثبت قوله وتؤكده وتقويه.
2- علم العلوم كلها في كتاب الله عزوجل(164/5)
فأنت عندما ترتبط بالقرآن تتعلم بصورة مباشرة أو غير مباشرة النحو والصرف والبلاغه والفصاحة ؛ لأنه معجزة حارت منها عقول البلغاء ، وخضعت عندها رقاب الفصحاء ، وكذا تعلّم من طياته أنباء التاريخ وأحوال الأمم السابقة والقرون الدارسة علم يقين لا ظن وتخمين ، وتعرف ضروباً من علوم النبات والزراعة والبحار وعلوم أخرى كثيرة ؛ فإن القرآن كتاب الله جمع علوماً عديدة حتى إن المرء قد يسأل السؤال في غير ما يجيده ويحسنه ، فإذا كان حافظاً للقرآن استذكر من القران ما يجيب به في امر لا يعهد أنه يعرف مثله ؛ فإن سئل في تاريخ فربما أجاب وهو ليس من أهل التاريح وإن سئل في لغة وفي إعراب ربما استشهد بآيه ، وإن لم يكن قد قرأ النحو أو عرفه فإذا كنت مع القران فاعلم أنك تجمع أطرافاً من العلوم وأسساً تقودك إلى أن تجيد وتتقن وأن تنتفع وتستفيد .
3 - حياة القلوب
القران الكريم هو الحياة الحقة للقلوب ، فأنت إذا كنت دائم الصلة بالقرآن لك في كل يوم غدوة إلى حلقة تتلقى فيها ولك في ليلة ورد تقوم به ، ووقت تمضيه في المراجعه والمدارسة ، فإذا كان هذا القرآن هو حياة القلوب وغياث النفوس فهو الذي يذكر ويعظ فلا شك أنك حي القلب ؛ لأنك على صلة بالقرآن شاحذ الهمم ومذكر الآخرة ، ولكن ما ظنك بأناس لا يقرؤن القران الا لماماً ، ولا ينظرون المصحف الا نادراً ، ولا يسمعون الآيات الا في الفترة بعد الفترة ، بل إن بعضهم موعده مع القرآن في رمضان ويعقبه هجر طويل ، فما ظنك بقلوب هؤلاء ؟!. الا ترى أنها تصبح أقسى من الصخر والحجر ، بل هي والله أشد قسوة ؛ فإنك باشتغالك بالقران تحفظ الحياة على قلبك وتحفظ الانشراح والسعة لصدرك فما أعظمه من نفع وفائدة تجد اثرها عندما ترى المحرومين من هذه النعمة الكبرى وبضدها تعرف الأشياء .
4- الجديه والانتاج
أنت عندما تقرأ القرآن وتسعى في تعلمه تتعود على أن تكون رجل جد ومواظبة واستمرار لست ممن يبدأ العمل فيقطعه لست ممن يسرع اليه السأم فيقطع ما بدأ ، ولست ممن يستهول الامر ويستعظمه فيعجز ويضعف إنك تجعل حفظ القرآن نصب عينيك ثم تثني له ركبتيك ثم تسعى اليه في حلقاته وتجلس بين يدي معلميه ، عندما تفعل هذا وذاك ؛ فإنك إذا نجحت في هذا السبيل بإذن الله - عزوجل -ستكون أنجح فيما سواه وستتعود في ذلك على طلب العلم وارتياد المساجد وحلق الذكر ومجامع الخير مما يجعلك مجداً منتجاً ومنتفعاً غير ما يكون عليه كثير من الشباب العابث اللاهي الذي لا يحسن شيئاً الذي كما قال القائل في وصف بعض ميوعتهم أو تهتكهم :
أغار عليك من إدراك طرفي **** و أخشى أن يذيبك لمس كفي
فاجتنب المنام حذار هذا **** و أجتنب المنام حين أغفي
5 - الصحبة الصالحة
الانسان بأصحابه والصاحب ساحب - كما يقولون - فنجد أهل الرياضة ينادمون أهل الرياضة وأهل الفن يصاحبون أهل الفن وأهل الاموال والأرقام الفلكية والحسابات المتعدده والطرح والقسمة والضرب كل مع أضرابه والطيور على أشكالها تقع ؛ فان سرت في ركب القران تطلبه أو تقرأه أو حتى تسمعه وتحضر مجالسه فانت تنتفع بصحبة خيار الناس لأنهم ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) فكيف يشقى محبهم وجلسهم وهذا أمر لا شك عظيم تظهر لك عظمته عندما تنظر لى كثير من الشباب وضياعهم تشتت بهم الأفكار والأهواء فتاهوا في أودية الضلالة حينذاك تبصر انك قد جنيت فائدة عظيمة وكسبت مكسبا عظيماً جداً .
6 - الاستثمار الأفضل للوقت والجهد
فإنك في فترة الصبا يمكن ان تكون مع الصبيان الذين يلعبون في الشوارع والطرقات لاهم لهم إلا الجري واللعب هنا وهناك وقد ضرب لنا صغار الصحابة وصغار السلف أمثالاً رائعة لا بأس أن نعرج عليها تعريجاً يسيراً حتى تدرك أنك إن دخلت هذا الميدان في صعز سنك فأنت تستثمر الوقت وتصوغ شخصيتك بشكل مغاير ومختلف.
جاء في ترجمة سفيان بن عيينة - رحمة الله عليه - أشياء عجيبة في صغر سنّه تدل على همة ونجابة عالية ، ومن ذاك أنه قد بدأ طلب الحديث بعد العاشرة ، وجلس إلىعمرو بن دينار وهو في الثانية عشرة من عمره وكان يقول عن نفسه : " كنت إذا جئت إلى حلقة عمرو بن دينار وأنا طولي بضعة أشبار وذيلي بمقدار ، فإذا جئت قال : الكبار افسحوا للمحدث الصغير أو كلاما نحو هذا " ، ويدرك أيضاً من ترجمته أنه لقي مرة عمراً بن دينار قبل أن يعرفه ، فقال - وقد رآه في الشارع - : يا غلام امسك حماري حتى اغدو إلى المسجد فأصلي ركعتين ، قال : لا أفعل حتى تحدثني حديث رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - قال : وما عسى أن ينفعك الحديث ، قال : إذاً لا أفعل وأبى عليه أن يمسك حماره حتى يحدثه ، قال : فحدثني ببضعة أحاديث ثم دخل وصلّى وخرج ، قال : ما انتفعت بما حدثتك ؟ قال : فأعدت عليه الاحاديث ، قال : فعجب ! فلما مضى سألت عنه فقيل هذا عمرو بن دينار فلزمت مجلسه ".(164/6)
فالصغير عندما يذهب إلى حلق القرآن لا يكون عابثاً من العابثين ، ولا يكون صغيراً من الصغار فكيف بالشاب أو من بدأ في مقتبل العمر وهو في زهرة وريعان الشباب إذا دخل هذا الميدان لا شك أنه يستطيع باذن الله – عزوجل - أن تكون حجته بين يدي ربه - عزوجل - قوية عندما يسأل عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه ، ولئن أفنى بعض الشباب أوقاتهم في اللعب السيارات ، وفي التشجيع في الملاعب وفي السفر والتنزه فأنت تفني وتستثمر وقتك في كتاب الله ، فهنيك بذالك شرفاً وفخراً .
7 - الحصانة والحفظ
إن في قرائتك القرآن تحصين لنفسك من الشرور، تحصن نفسك كما ورد في كثير من الأحاديث عن النبي - عليه الصلاة والسلام - ومنها ما روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( لا تجعلوا بيوتكم قبوراً- أي نورها بالصلاة والقرآن – فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لايدخله الشيطان ) وعن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( لكل شيء سناماً، وسنام القرآن البقرة ، وإن من قرأها في بيته ليلاً لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ، ومن قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام ) رواه الطبراني وابن حبان في صحيحه .
فأنت تحصّن بيتك نفسك ولدك وأهلك حتى ولو لم تكن تقصده ؛ فإنك من خلال مراجعتك للقرآن ومدارسته ستمر بأيات التحصين ؛ فإنك ستمر بآيه الكرسي وبخواتيم البقرة وقد تقرأ آيات الكهف ، وتمر بالايات التي فيها استعاذة من الشياطين ، وكلما قرأت كلما حصّنت نفسك وانظر اليوم إلى حال الناس والى الظاهرة التي نرى ظهورها كم ترى من الناس قد مستهم الشياطين ؟!. وقد ابتلوا بالسحر؟! وقد تلبست بهم العفاريت من الجن ؟! فهل ترى سبباً لذلك إلا أنه لاحظ لهم من تلاوة القرآن ولا من الذكر فوجدت الشياطين إليهم مسلكاً وعزتهم من حيث لا يعلمون.
أما أنت بطبيعة إشتغالك بالقرآن الكريم تديم هذه التلاوة، وتحصل على هذه الفائده النافعة وتدخل في هذا الحصن المنيع .
8 - لا يخلق على كثرة الرد
إنك في هذه الفوائد كلها لا تحرم منها بالملل لو كنت تريد حفظ القصائد والأشعار وانشادها ، ولو كنت تريد حفظ العلوم والمتون وتردادها فانك لا شك يسري إلى نفسك الملل وإلى همتك الكسل ، وبذلك إن لم تكن ماهراً في ترويض نفسك قد تنقطع ، أما تردادك للقرآن واشتغالك به فلا خوف عليك من الملل مطلقا لأنه لا يمل على كثرة ترداد، وترداده يزيد فيه تجملا كما قال الشاطبي رحمة الله عليه .
وقد عدّ الماوردي ذلك من إعجاز القران فقال : " ومن إعجازه ان تلاوته تختص بخمس بواعث عليه لا توجد في غيرها .
1 ــ هشاشة مخرجه .
2 ـ بهجة رونقه .
3 ـ سلاسة نظمه .
4 ـ حسن قبوله .
5 ـ أن قارئه لا يكل وسامعه لا يمل وهذا في غيره من الكلام معدود " .
فليس هناك تعب ولا ملل فأنت تجني هذه الفوائد دون أن يتسرب إلى نفسك ملل ولا تعب ، والنويري عد ذلك أيضاً من إعجاز القران فقال : " إن قارئه لا يمل قراءته وسامعه لا تمجه مسامعه بل الاكباب على تلاوته وترديده يزيده حلاوة ومحبه لا يزال غضاً طرياً وغيره من الكلام ولو بلغ ما عساه أن يبلغ من البلاغة والفصاحة يمل من الترديد ويسأم إذا أعيد ، وكذلك غيره من الكتب لا يوجد فيها ما فيه من ذلك تزداد منه على ترداده ثقه وكل قول على الترداد مملول" ، وكما قال الشاطبي أيضاً :
و إن كتاب الله أوثق شافع **** و أغنى غناء واهباً متفضلاً
و خير جليس لا يمل حديثه **** وترداده يزداد فيه تجملاً
ثم ننتقل بعد أن ذكرنا انفسنا بمنزله أهل القران والتعريف بهم إلى الشق الثاني المهم وهوالتوجيه بالوصايا لأهل القرآن .
أولاً : الوصايا العامة
1 ـ الاخلاص
ولا داعي أن نذكر القول فيه ؛ فإنه أول الأمر وآخره وأوسطه وجوهره ، ولا شك أن الأمر بدونه لا قيمة له ، ولذلك من لطيف ما ذكر ابن القيم - رحمة الله عليه - في كتاب الفوائد أنه قال : " العمل بغير اخلاص كالمسافر يملأ جرابه رملا يثقله ولا ينفعه " يتعب دون نفع ولا فائده .
2 ـ أن لا يحرموا أنفسهم علوم القرآن
فلئن حفظت فجوده ولئن جودت ففسره ولئن فسرت فتعلم البلاعه منه ، ولئن تعلمت البلاغة منه فارتبط بأسباب النزول وخذ حظك منه ؛ فإنه لا يشبع منه أحد ، ولا يمكن أن يصدر عن منهله أحد مطلقاً ، وحسبك في ذلك قول ابن مسعود رضّي الله عنه في الصحيح أنه قال : " والله الذي لا اله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت ، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الابل لركبت اليه " .(164/7)