بمعنى أن لا تقصر في أداء حقوقه عليك اعتمادا على ما بينكما من مودة ، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى -: لا تقصر في حق أخيك اعتمادا على مودته :- مقدمة المجموع شرح المهذب (1/31) بل ينبغي الاجتهاد في أداء حقوقه ، وعدم التهاون فيها ، حرصا على استبقاء المودة وتقويتها .
31 : إيثار الأخ في الله:
بمعنى أن تؤثره على نفسك ، وخصوصا إذا كان محتاجا ، وقد قال تعالى { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } الحشر :9 ، فإن لم تستطع إيثاره على نفسك فأشركه معك في الخير كما تحبه لنفسك .
32 : تعاهد الأخ:
أي : تعاهده بالسؤال عنه إذا غاب عن المسجد ، أوعن عمله ، وأن تطمئن على أحواله ، وتتفقده بالزيارة في الله ، فقد يكون محتاجا إلى مساعدتك .
33 : مصادقة أصدقائه:
بمعنى أن تصادق أصدقائه، خصوصا إذا كانوا من أهل الخير والتقى، وقد قال الشافعي رحمه الله : -: من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقا :- نفس المصدر السابق والصفحة فإن ذلك من كمال الإخلاص له والوفاء لأخوته .
34 : التجاوز عن زلاته بمعنى التجاوز عن هفواته وأخطائه إذا كانت أمورا تافهة ، ومسامحته إذا أخطأ في حقك . وقد قال الشافعي رحمه الله -: من صدق في أخوة أخيه قبل علله، وسد خلله. وغفر زلته :- نفس المصدر السابق والصفحة . ومعنى كلامه رحمه الله: (قبل علله ): أي قبله بما فيه من العيوب، مع الاجتهاد في إصلاحها. ( وسد خلله ) أي اجتهد في استكمال نقصه، وإصلاح عيبه. ( وغفر زلته ) : أي قبل اعتذاره ، وتجاوز عن هفواته وأخطائه .
35 : المصارحة مع الأخ الصديق:
بمعنى مصارحته في كل الأمور ، والانبساط معه ، وعدم التكلف ، قال الشافعي -: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته :- نفس المصدر السابق والصفحة ولا يصلح التعامل معه بالمداراة ، والمواربة ، واستعمال المعاريض في الكلام ، فإن كل هذا ليس من علامات الأخوة الصادقة .
36 : خلافته بخير:
بمعنى أن تخلفه في أهله وولده بخير ، إذا غاب ، أ وسافر ، فتتعاهدهم بالسؤال ، والنفقة عليهم قدر الطاقة ، وغير ذلك حتى لايستوحشوا بغيابه . وقد كان هذا دأب السلف رحمهم الله، وذلك لصدقهم في أخوتهم.
37 : شهود جنازته:
بمعنى أن تشهد جنازته إذا مات، وتتبعه حتى يدفن، فإن هذا من حقه عليك، وقد سبق ذكر الحديث الدال على ذلك في الأدب الخامس.
38 : الاستغفار له:
وسواء كان ذلك الاستغفار في حال حياته ، أوبعد موته ، فإنه من الدلائل على صدق المحبة . سواء عند قبره بعد الفراغ من دفنه ، أو في أي وقت ، وتدعو له إذا ذكرته ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد دفن أحد أصحابه : " استغفروا لأخيكم ، وسلوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل " أبو داود(3221 ) والحاكم (1/370 ) وصححه ، ووافقه الذهبي ، عن عثمان بن عفان . صحيح الجامع (945) . وهذا من أوضح الأدلة على ذلك، فينبغي للمؤمن ألا يهمل هذا الأدب أبدا.
39: تعاهد أهله وولده:
بمعنى أن تتعاهد أهله, وأولاده بعد موته، فتقضي لهم حوائجهم، وتسأل عنهم، وترعاهم، وتعطيهم إذا احتاجوا، فإن هذا من الوفاء له بعد موته، ومن حقه وحق أولاده وأهله عليك. وقد كان هذا دأب كثير من السلف رحمهم الله تعالى.
40 : ذكره بخير:
بمعنى أن لاتذكره بعد موته إلا بخير ، وتترحم عليه إذا ذكر أمامك ، فإن هذا من بقاء العهد والوفاء . وكذلك ألا تسمح لأحد بذكره بالعيب بعد موته .
41 : صلة أهله بعد موته:
بمعنى أن تصل أهل مودته بعد موته، فإن ذلك من بقاء العهد، ومن كمال الوفاء. ولقد كان انبي صلى الله عليه وسلم يصل أهل ود خديجة رضي الله عنها بعد موتها ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم : " كان ربما ذبح الشاة ، ثم يقطعها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ......... " البخاري (3816، 6004 ) ومسلم ( 2434) مختصرا من حديث عائشة . كما وردت الروايات بذلك عنه في الصحيح. فهذا من علامات الوفاء للأخ الصديق بعد فراقه لهذه الدنيا(30/4)
آداب الأذان
الحمد لله,والصلاة والسلام على رسول الله,وعلى آله وصحبه,ومن وآلاه.
أمَّا بعدُ:
فإن من التأدب مع الله-عز وجل-أن نعظم شعائره قال-سبحانه-:"{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32) , فتعظيم شعائر الله هي من تأثير التقوى التي في القلب، وإن الأذان من شعائر الإسلام التي يُعظَّمُ فيها الله-تعالى-، فالتأدب عنده هو من تعظيم شعائر الله، فالأذان له آداب ينبغي أن يعمل بها ويحافظ عليها؛ لأنه شعار عظيم، يُعظَّمُ فيه المولى-تبارك وتعالى-, ويُشهد له فيه بالوحدانيَّةِ، ويشهد لنبيه بأنه رسول من عند الله، وهو في نفس الوقت إعلان لدخول وقت الصلاة التي هي عمود الدين، فالأذان شعارُ أهلِ التوحيد، وشعيرة من شعائر الإسلام فالتأدب عنده هو من التأدب مع بقية شعائر الإسلام. ثم إن هناك آداب يُستحبُّ للمؤذن أنْ يؤديها ألا, وهي :
1- الطهارة: إن من الأدب مع الأذان أن يكون المؤذن على طهارة، ولهذا فقد اتفق الفقهاء على أنَّ الطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر مطلوبة للأذان والإقامة، وتتأكَّدُ في الإقامة أكثر لاتصالها بالصلاة(1). فقد جاء من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال:"لا يُؤَذِّنُ إِلَّا مُتَوضِّئٌ"(2). وحديث المهاجر بن قنفذ-رضي الله عنه- أنه أتى النبيَّ-صلى الله عليه وسلم-وهو يبول فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى توضأ، ثم اعتذر إليه فقال:"إنّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ-عَزَّ وَجَلَّ-إِلَّا عَلَى طُهْرٍ"، أو قال: "عَلىَ طَهَارَةٍ"(3).ووجه الدلالة أنه-صلى الله عليه وسلم-كره أن يذكر الله إلّا على طُهر، وفي الأذان والإقامة ذكر لله فإتيانهما مع الطهارة مطلوب.
فالأذانُ ذكرٌ مشروعٌ مُعظَّمٌ,فأدائه مع الطَّهارةِ أقرب إلى التعظيم،مثله كمثل الطهارة لقراءة القرآن وللخطبة(4)
2- استقبال القبلة: اتفق الفقهاءُ على أنه يُسَنُّ للمؤذِّن استقبالُ القبلة حالَ الأذان والإقامة،ويُكره له استدبارُها إلّا للإسماع، قال ابنُ المنذرِ(5):" وأجمعُوا على أنَّ مِنَ السُّنَّةِ أنْ تستقبلَ القبلة بالأذان"(6). والدليل ما روي أن الملك النازل من السماء أذن مستقبل القبلة، كما جاء في بعض روايات حديث رؤيا الأذان، وفيها:" ... فجاء عبد الله بن زيد رجل من الأنصار وقال فيه: فاستقبل القبلة قال:" الله أكبر الله أكبر.." الحديث(7).
وحديث سعد القرظ-رضي الله عنه- :" أن بلالاً كان إذا كبر بالأذان استقبل القبلة..."(8). ثم إن من المعقول: أن القبلة أشرف الجهات، وقد روي عن ابن عباس-رضي الله عنه- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال:"إن لكل شيءٍ شرفاً، وإن أشرف المجلس ما استقبل به القبلة..."(9). فالأذان دعاء إلى جهة القبلة، فاقتضى أن يكون من سنته التوجه إليها(10)، ثم أن الأذان فيه ذكر وثناء على الله-تعالى- والشهادة له بالوحدانية ولنبيِّه-صلى الله عليه وسلم-بالرسالة، فالأفضل أن يكون مستقبلاً القبلة(11).
3- الأذانُ مِنْ عَلَى مَكَانٍ مُرْتفعٍ:
اتفق الفقهاءُ على أنه يُستحبُّ أنْ يكون الأذانُ من فوق مكان مرتفع كالمنارة، أو سطح المسجد ونحوهما(12). واستدلوا بحديث عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت:" كان بيتي من أطول بيت حول المسجد، فكان بلال يؤذن عليه الفجر..."(13).
وحديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال:" إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، قال: " ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا, ويرقى هذا"(14). فقوله:" ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا, ويرقى هذا"، يدل على أنهما كانا يؤذنان على مكان مرتفع؛ لأنه ذكر النزول والارتقاء، وهذا لا يكون إلا في المرتفع من المكان(15). فالأذان من مكان مرتفع أبلغ في الإعلام، وهو المقصود الأعظم من الأذان(16).
4- القيام: اتفق الفقهاءُ على أنَّ مِن سُنن الأذان أنْ يؤذِّن المؤذنُ ويقيم قائماً(17). واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- وفيه:"... فقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: يا بلال قُم فناد بالصلاة"(18). وحديث عبد الله بن زيد-رضي الله عنه- عند رؤيا الأذان،قال:"... رأيت رجلاً كأن عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن.."(19).ثم إنَّ مُؤذني رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كانُوا يؤذنون قياماً(20) ثم أنَّ القيام في الأذان يكون أبلغَ في الإعلام.
5- وضع الأصبعين في الأذنين حال الأذان:(31/1)
جمهور الفقهاء على أن وضع الأصبعين في الأذنين حال الأذان مستحب، ودليلهم حديث أبي جحيفة-رضي الله عنه- قال:" رأيت بلالاً يؤذن ويدور، ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وإصبعاه في أذنيه..."(21) . وحديث سعد القرظ-رضي الله عنه- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-أمر بلالاً أن يجعل إصبعيه في أذنيه، وقال:" إنه أرفع لصوتك"(22). وقد ذكره البخاري تعليقا:" فقال :" ويُذكر عن بلال أنه جعل إصبعيه في أذنيه"(23). قال الحافظ في الفتح:" وأما وضع الإصبعين في الأذنين فقد رواه مؤمل –أيضاً- عن سفيان أخرجه أبو عوانة,وله شواهد ذكرتها في "تغليق التعليق" من أصحها مارواه أبو داود وابن حبان من طريق أبي سلاَّم الدمشقي أن عبد الله الهوزنى حدثه,قال: قلت لبلال: كيف كانت نفقة النبي-صلى الله عليه وسلم- وآله وسلم فذكر الحديث وفيه:" قال بلال فجعلت إصبعي في أذني فأذنت"
ثم إنه من المعقول: أن وضع الأصبعين في الأذنين حال الأذان أجمع للصوت؛ لأن الصوت يبدأ من مخارج النّفَس، فإذا سدّ أذنيه اجتمع النّفس في الفم فخرج الصوتُ عالياً، فيكون أبلغ في الإسماع(24).
6- الترسل في الأذان:
الترسل في اللغة يأتي بمعنى التأني والتمّهل يقال: ترسل في قراءته، اتّأد فيها، وهو تحقيقها بلا عجلة. وفي الاصطلاح: هو التمهّل والتؤدة والتحقيق في ألفاظ الأذان من غير عجلة، ويكون بسكتة بين كل جملتين تسع الإجابة، وذلك من غير تمطيط ولا مدٍّ مفرط(25). وقد اتفق الفقهاء على أن الترسل من سنن الأذان(26). واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله-رضي الله- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-قال لبلال:" يا بلال إذا أذنت فترسل في أذانك، وإذا أقمت فاحدر..."(27) .وقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- قال لمؤذن بيت المقدس:" إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحدر"(28) .ثم إن من المعقول أن الأذان إعلام للغائبين فكان الترسل فيه أبلغ في الإعلام(29).
7- الالتفات في الحيعلتين:
المقصود بالحيعلتين هي قول المؤذن:" حي على الصلاة، حي على الفلاح"، فقد اتفق الفقهاء على أنه يُسَنُّ للمؤذن أن يلتفت عند الحيعلتين، إلا أنًَّ المالكية قالوا بجوازه إذا كان للإسماع(30). ودليل السنية حديث أبي جحيفة-رضي الله عنه-قال:"... وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا، يقول يميناً وشمالاً يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح..."(31).
والله أسأل أن يوفق المسلمين لكل خير يحبه ويرضاه.
________________________________________
1 - نهاية المحتاج(1/308).
2 - رواه الترمذي(200).، كتاب أبواب الصلاة، باب ما جاء في كراهية الأذان بغير وضوء.
3 - رواه أبو داود، كتاب الطهارة، باب أيردّ السلام وهو يبول(17). وصححه الألباني كما في صحيح سنن أبي داود(1/16).
4 - راجع " أحكام الأذان ص192.
5 - الإجماع لابن المنذر ص7
6 - المجموع(3/114).
7 - رواه أبو داود (250)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
8 - رواه الحاكم في المستدرك (4/796)(6613).
9 - رواه الطبراني في الكبير(10/389) رقم(10781)، والحاكم في المستدرك(5/383). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (1934).
10 - الحاوي الكبير(2/41).
11 - المبسوط(1/129).
12 - بدائع الصنائع(1/146).
13 - رواه أبو داود(519). وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح(2/122).
14 - البخاري- كتاب الأذان-، باب الأذان بعد الفجر(1/152)(620).
15 - أحكام الأذان والإقامة ص(201)
16 - الحاوي الكبير(2/145).
17 - بدائع الصنائع(1/151).
18 - متفق عليه.
19 - رواه أبو داود في سننه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
20 - كشاف القناع(1/283).
21 - رواه الترمذي (197). وقال حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
22 - رواه ابن ماجه (710).
23 - البخاري(2/114).
24 - فتح القدير(1/245).
25 - بدائع الصنائع(1/149).
26 - فتح القدير(1/244).
27 - رواه الترمذي(195).قال الترمذي حديث جابر لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
28 - أخرجه الدار قطني في السنن(1/246)
29 - المغني(2/60).
30 - المجموع(3/115).
31 -رواه مسلم.(31/2)
آداب الإمامة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.. أما بعد:
الإمامة منصب رفيع من مناصب الدين، وإذا أطلقت الإمامة فهي تنصرف إلى أحد معنيين:
الأول: الإمامة العظمى في الدين وهي قيادة الناس، والحكم فيهم بشرع الله -تعالى-، ويطلق عليها: القيادة، والإمارة، وغيرها.
الثاني: الإمامة الناس في صلاتهم. وهو المراد هنا، وسنعرض في هذه بعضاً من الآداب التي ينبغي لإمام الناس في الصلاة أن يتحلى بها، لينال شرف القيام بهذا العمل العظيم، وهذه الآداب منها ما هو واجب، ومنها المستحب، ومنها ما هو من باب الأولى، وكملة (الآداب) تشمل ذلك كله.
فمن تلك الآداب:
1. أن يكون الإمام حسن السلوك، مستقيماً على السنة، سليم المعتقد غير واقع في بدعة، فإن البدعة في الدين ضلالة، ومن وقع فيها وقع في الضلال، ولا ينبغي أن يؤم الناس ضال، أو فاسق متساهل بالمعاصي، إذ الإمامة فيها معنى القدوة، ولا قدوة في مبتدع أو فاسق فاسد الاعتقاد.
2. أن يكون فقيهاً بأحكام الصلاة وأحكام الإمامة. كما جاء في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة..)1 الحديث، على تفسير من فسر هذا الحديث بأن المقصود بالأقرأ هو الأفقه، كما هو في مذهب الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-.2 ولأن الجاهل بأحكام الصلاة والإمامة قد يأتي بأمور منكرة أثناء الصلاة، فلا يحسن التصرف عندها، لاسيما عند السهو والخطأ أو نحو ذلك.
3. أن لا يؤم الناس وفيهم من هو خير منه، إلا أن يكون إماماً راتباً. فإن كان إماماً راتباً فهو الأولى بالإمامة إذا توفرت فيه شروط الإمامة، إلا أن يحضر ولي أمر المسلمين، فهو أولى بالإمامة من الراتب، ما لم يأذن له. والإمام الراتب أحق بالإمامة من غيره، ولو كان من وراءه أعلم منه وأفقه، فإن حضر قوم في مسجد من ولا إمام راتب استحب لهم تقديم الأكبر سناً والأكثر علماً وفهماً وإتقاناً للقرآن.
4. أن لا يؤم قوماً هم له كارهون. لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين إثم ذلك، كما ثبت من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت و زوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون).3
وينبغي أن يعلم سبب كراهيتهم له، فإن كان سبب الكراهية له فسقه وظلمه وسوء خلقه، أو أنه واقع في مخالفة دينية، فتكره إمامته، بل قد تحرم حينئذ، أما إن كان الإمام ديِّناً مستقيماً على الشرع حسن الأخلاق، وكرهه أغلب المأمومين بسبب استقامته وتمسكه بالسنة، وعدم موافقته لهم على منكراتهم أو بدعهم فإن تلك الكراهة غير معتبرة، والله أعلم.
5. أن يكون حافظاً لكتاب الله، كثير القراءة له، عالماً بأحكامه، عاملاً به. ومرتبة حفظ القرآن مرتبة كمال في الإمامة؛ إذ أن الإمام الراتب تمر به صلوات مختلفة مثل صلاة الكسوف والخسوف، وصلاة التراويح، ونحوها من الصلوات التي تستدعي اليقظة وسرعة المبادرة للتلاوة من حفظه، مع ما في حفظ القرآن من اختيار الآيات التي تناسب الأحداث والعوارض التي تصادف الناس في حياتهم، فيتلو على الناس آيات الله -تعالى- بإتقان وحسن تلاوة، ولا يكون معتاد القراءة لآيات معينة يرددها في كل صلاة أو في كل يوم كونه لا يحفظ غيرها! فإن ذلك يبعث على السآمة والملل ونفور الناس من الصلاة خلفه، ومن هذا تظهر الحكمة النبوية من قوله -صلى الله عليه وسلم-: (يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله..) على من فسر ذلك بكثرة القراءة وحسنها، وإجادة النطق، وإتقان التجويد، والعيش الدائم مع كتاب الله -تعالى-.
6. أن يكون مقصوده من الإمامة القيام بأمر من أمور الدين، لا ابتغاء عرض من الدنيا؛ لأن الإخلاص لله في كل عمل من واجبات الدين، ولا يقبل الله من أحد عملاً حتى يكون خالصاً صواباً، كما قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (سورة الكهف: 110) ، وقال -تعالى-: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} (سورة الزمر: 11) ، وقال -عز وجل-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (سورة البينة: 5). وغير ذلك من الآيات التي تأمر بإخلاص العبادة لله -عز وجل-. وكلما كان الإمام قريباً من الله مخلصاً في إمامته وتلاوته أثَّر في الناس أيما تأثير.(32/1)
7. أن يكون حسن الصوت بالتلاوة، فإن ذلك أدعى لتأثير القرآن في قلوب المأمومين، ولهذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن).4 والتغني كما فسره غير واحد من أهل العلم هو تحسين الصوت بالقرآن.5
وقد كان عمر -رضي الله عنه- يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي القوم.6
8. أن يستجيب لطلب الناس من حيث التيسير والتقصير في الصلاة، أو أي طلب لا يخالف الشرع، فقد جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- كان يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوز رجل فصلى صلاة خفيفة، فبلغ ذلك معاذاً، فقال إنه منافق، فبلغ ذلك الرجل، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا، وإن معاذاً صلى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوزت، فزعم أني منافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يا معاذ أفتان أنت -ثلاثاً- اقرأ {والشمس وضحاها}. و {سبح اسم ربك الأعلى} ونحوها).7
فهذه بعض الآداب التي ينبغي على الإمام مراعاتها حتى يقوم بهذا العمل الجليل حق القيام.
نسأل الله أن يوفق أئمة المسلمين لما فيه الخير والصلاح، وأن يصلح قلوبهم، ويجعل أعمالهم خالصة لوجهه الكريم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
________________________________________
1- رواه مسلم من حديث أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه-.
2- بداية المجتهد لابن رشد (1/224).
3- رواه الترمذي وغيره، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3057).
4- رواه البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
5- انظر مثلاً: (شرح صحيح مسلم للنووي 2/393).
6- فتح الباري لابن حجر العسقلاني (9/92).
7- رواه البخاري ومسلم.(32/2)
آداب الزفاف
الحمد لله القائل في محكم كتابه: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} الروم : 21، والصلاة والسلام على نبيه محمد الذي ورد عنه فيما ثبت من حديثه: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)(1). وبعد فإن لمن تزوج وأراد الدخول بأهله آداباً في الإسلام، ينبغي معرفتها، والعمل بها، حتى يكون زفافه شرعياً وتكون حياته الزوجية بعد ذلك تغمرها السعادة، وذلك جزاء من افتتح حياته الزوجية بمتابعة السنة، وأصل هذا الدرس كتيب لفضيلة العلامة الألباني رحمه الله، قمت بختصاره، وتركت بعض المسائل التي فيها خلاف شديد بين العلماء، فالفضل يعود لله ثم له فقد جمع فيه آداباً كثيرة ودلل عليها بالأحاديث المحتج بها، فمن هذه الآداب:
1 - ملاطفة الزوجة عند البناء بها:
يستحب لزوج إذا دخل على زوجته أن يلاطفها كأن يقدم إليها شيئاً من الشراب ونحوه لحديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: (إني قَيَّنت(2) عائشة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم جئته فدعوته لجَلوتها(3) فجاء فجلس إلى جنبها فأتي بعس(4) لبن فشرب ثم ناولها النبي -صلى الله عليه وسلم- فخفضت رأسها واستحيت قالت أسماء: فانتهرتها وقلت لها: خذي من يد النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: فأخذت فشربت شيئاً، ثم قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: أعطي تربك(5) قالت أسماء: فقلت: يا رسول الله بل خذه فاشرب منه ثم ناولنيه من يدك، فأخذه فشرب منه ثم ناولنيه، قالت: فجلست ثم وضعته على ركبتي، ثم طفقت أديره وأتبعه بشفتي لأصيب منه شرب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال لنسوة عندي: (ناوليهن) فقلن: لا نشتهيه فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تجمعن جوعاً وكذباً)(6).
2 - وضع اليد على رأس الزوجة والدعاء لها:
وينبغي أن يضع يده على مقدمة رأسها عند البناء بها أو قبل ذلك وأن يسمي الله -تبارك وتعالى- ويدعو بالبركة، ويقول ما جاء في قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا تزوج أحدكم امرأة، أو اشترى خادماً فليأخذ بناصيتها، وليسم الله عز وجل، وليدع بالبركة وليقل: (اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما جبلتَها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتَها عليه)(7).
3 - صلاة الزوجين معاً:
ويستحب لهما أن يصليا ركعتين معا لأنه منقول عن السلف، وفيه أثران:
الأول: عن أبي سعيد مولى أبي أسيد قال: (تزوجت وأنا مملوك فدعوت نفراً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهم ابن مسعود وأبو ذر وحذيفة قال: وأقيمت الصلاة، قال: فذهب أبو ذر ليتقدم فقالوا: إليك قال: أو كذلك؟ قالوا: نعم، قال: فتقدمت بهم وأنا عبد مملوك وعلموني فقالوا: (إذا دخل عليك أهلك فصل ركعتين ثم سل الله من خير ما دخل عليك وتعوذ به من شره ثم شأنك وشأن أهلك)(8).
الثاني: عن شقيق قال: (جاء رجل يقال له: أبو حريز فقال: إني تزوجت جارية شابة بكراً وإني أخاف أن تفركني(9) فقال عبد الله (يعني ابن مسعود): إن الإلف من الله والفِرْك من الشيطان، يريد أن يكرِّه إليكم ما أحل الله لكم، فإذا أتتك فأمرها أن تصلي وراءك ركعتين. زاد في رواية أخرى عن ابن مسعود: (وقل: اللهم بارك لي في أهلي وبارك لهم فيَّ، اللهم اجمع بيننا ما جمعت بخير، وفرق بيننا إذا فرقت إلى خير)(10).
4 - ما يقول حين يجامعها:
وينبغي أن يقول حين يأتي أهله: (بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا)
قال -صلى الله عليه وسلم-: (فإن قضى الله بينهما ولداً لم يضره الشيطان أبداً) أخرجه البخاري وبقية أصحاب السنن إلا النسائي.
5 - كيف يأتيها:
ويجوز له أن يأتيها في قبلها من أي جهة شاء من خلفها أو من أمامها لقول الله -تبارك وتعالى-: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}البقرة: 223. فعن جابر -رضي الله عنه- قال: (كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول فنزلت: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج)(11).
6 - تحريم الدبر:
ويحرم عليه أن يأتيها في دبرها لمفهوم الآية: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ولحديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: (جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله هلكت، قال: (وما الذي أهلكك؟) قال: حولت رحلي الليلة(12) فلم يرد عليه شيئاً فأوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} يقول: (أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة)(13).
وحديث: (من أتى حائضاً، أو امرأة في دبرها، أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)(14).
7 - الوضوء بين الجماعين:(33/1)
وإذا أتاها في المحل المشروع ثم أراد أن يعود إليها توضأ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءاً، وفي رواية: وضوءه للصلاة) فإنه أنشط في العود(15).
8 - الغسل أفضل:
لكن الغسل أفضل من الوضوء لحديث أبي رافع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه قال: فقلت له: يا رسول الله ألا تجعله غسلاً واحداً؟ قال: (هذا أزكى وأطيب وأطهر)(16).
9 - اغتسال الزوجين معا:
ويجوز لزوجين أن يغتسلا معاً في مكان واحد ولو رأى منها ورأت منه، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كنت اغتسل أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إناء بيني وبينه واحد تختلف أيدينا فيه فيبادرني حتى أقول: دع لي دع لي، قالت: وهما جنبان. رواه البخاري ومسلم والرواية له.
10 - توضؤ الجنب قبل النوم:
ولا ينامان جُنبين إلا إذا توضآ، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة)(17).
11 - حكم هذا الوضوء:
وليس الوضوء وجوباً وإنما للاستحباب المؤكد، لحديث عمر أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أينام أحدنا وهو جنب؟ فقال: (نعم ويتوضأ إن شاء)(18).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء حتى يقوم بعد ذلك فيغتسل(19).
12 - تيمم الجنب بدل الوضوء:
ويجوز لهما التيمم بدل الوضوء أحيانا لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ أو تيمم(20).
13 - اغتسالهما قبل النوم أفضل:
واغتسالهما أفضل لحديث عبد الله بن قيس قال: (سألت عائشة قلت: كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يصنع في الجنابة؟ أكان يغتسل قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: كل ذلك قد كان يفعل ربما اغتسل فنام وربما توضأ فنام قلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة)(21).
14 - تحريم إتيان الحائض:
ويحرم عليه أن يأتيها في حيضها لقوله -تبارك وتعالى-: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}البقرة: 222.
وقال الشوكاني في "فتح القدير" (1/200): (ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض وهو معلوم من ضرورة الدين).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)(22).
15 - ما ينويان بالنكاح:
وينبغي لهما أن ينويا بنكاحمها إعفاف نفسيهما وإحصانهما من الوقوع فيما حرم الله عليهما فإنه تكتب مباضعتهما صدقة لهما؛ لحديث أبي ذر -رضي الله عنه-: (أن ناساً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: (أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة وبكل تكبير صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وبكل تحميدة صدقة وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة)، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليها فيها وزر؟) قالوا: بلى قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له فيها أجر)(23).
16 - ما يفعل صبيحة بنائه:
ويستحب له صبيحة بنائه بأهله أن يأتي أقاربه الذين أتوه في داره ويسلم عليهم ويدعو لهم، وأن يقابلوه بالمثل لحديث أنس -رضي الله عنه- قال: (أولم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ بنى بزينب فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً، ثم خرج إلى أمهات المؤمنين فسلم عليهن ودعا لهن، وسلمن عليه ودعون له، فكان يفعل ذلك صبيحة بنائه. رواه النسائي في السنن الكبرى، وقال الألباني: (رواه ابن سعد والنسائي في "الوليمة" بسند صحيح) آداب الزفاف (صـ 67).
17 - تحريم نشر أسرار الاستمتاع:
ويحرم على كل من الزوجين أن ينشر الأسرار المتعلقة بالوقاع؛ لحديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول -صلى الله عليه وسلم-: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)(24).
وعن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والرجال والنساء قعود فقال: (لعل رجلاً يقول ما يفعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها؟) فأَرَمَّ(25) القوم فقلت: إي والله يا رسول الله! إنهنَّ ليفعلن، وإنهم ليفعلون. قال: (فلا تفعلوا، فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون)(26).
18 - الوليمة:(33/2)
قال الشيخ الفوزان: (وحكم وليمة العرس أنها سنة باتفاق أهل العلم، وقال بعضهم بوجوبها(27)؛ لأمره -صلى الله عليه وسلم- بها، ولوجوب إجابة الدعوة إليها، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنهما- حين أخبره أنه تزوج: (أولم ولو بشاة)(28)، وأولم النبي -صلى الله عليه وسلم- على زوجاته: زينب، وصفية، وميمنة بنت الحارث. ووقت إقامة وليمة العرس موسع يبدأ من عقد النكاح إلى انتهاء أيام العرس)(29).
وينبغي أن يدعى إليها الصالحون، فقراء كانوا أو أغنياء، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)(30).
19 - تحريم تخصيص الأغنياء بالدعوة:
ولا يجوز أن يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)(31).
20 - وجوب إجابة الدعوة:
ويجب على من دعي إليها أن يحضرها لحديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فكوا العاني، وأجيبوا الداعي، وعودوا المريض)(32).
ولحديث ابن عمر -رضي الله عنه-: (إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها) رواه البخاري.
21 - الإجابة ولو كان صائماً:
وينبغي أن يجيب ولو كان صائماً لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن شاء طعم وإن شاء ترك)(33).
22 - ترك حضور الدعوة التي فيها معصية:
ولا يجوز حضور الدعوة إذا اشتملت على معصية إلا أن يقصد إنكارها ومحاولة إزالتها فإن أزيلت وإلا وجب الرجوع، لحديث علي -رضي الله عنه- قال: (صنعت طعاماً فدعوت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع قال: فقلت: يا رسول الله ما أرجعك بأبي أنت وأمي؟ قال: (إن في البيت سترا فيه تصاوير وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تصاوير(34).
ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها بالخمر) أخرجه أحمد عن عمر، والترمذي وحسنه الحاكم وصححه عن جابر ووافقه الذهبي، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: "صحيح لغيره" رقم (167).
23 - ما يستحب لمن حضر الدعوة :
ويستحب لمن حضر الدعوة أمران:
الأول: أن يدعو لصاحبها بعد الفراغ بما جاء عنه -صلى الله عليه وسلم- وهو أنواع، ومنها حديث عبد الله بن بسر أن أباه صنع للنبي -صلى الله عليه وسلم- طعاماً فدعاه فأجابه فلما فرغ من طعامه قال: (اللهم بارك لهم في ما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وصححه.
الأمر الثاني: الدعاء له ولزوجه بالخير والبركة، فن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفأ(35) الإنسان إذا تزوج قال: (بارك الله لك وبارك الله عليك وجمع بينكما في خير) رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (2130).
24 - بالرفاء والبنين تهنئة الجاهلية:
ولا يقول: (بالرفاء والبنين) كما يفعل الذين لا يعلمون، فإنه من عمل الجاهلية، وقد نهي عنه في أحاديث منها: عن الحسن أن عقيل بن أبي طالب -رضي الله عنه- تزوج امرأة من بنى جشم، فدخل عليه القوم، فقالوا: بالرفاء والبنين، فقال: لا تفعلوا ذلك، قالوا: فما نقول يا أبا يزيد، قال قولوا: بارك الله لكم وبارك عليكم إنا كذلك كنا نؤمر). رواه أحمد، وقال شعيب الأرناؤوط صحيح لغيره، مسند أحمد رقم (1739).
25- الغناء والضرب بالدف:
ويجوز له أن يسمح للنساء في العرس بإعلان النكاح بالضرب على الدف فقط وبالغناء المباح الذي ليس فيه وصف الجمال وذكر الفجور وفي ذلك أحاديث:
الأول: عن الربيع بنت معوذ قالت: (جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يدخل حين بني عليَّ فجلس على فراشي مجلسك مني (الخطاب للراوي عنها) فجعلت جويرات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال: (دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين) رواه البخاري.
الثاني: عن عائشة -رضي الله عنها- أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: (يا عائشة ما كان معكم لهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو؟) رواه البخاري.
وفي رواية بلفظ: فقال: (فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف وتغني؟) قلت: ماذا تقول؟ قال: تقول:
أتيناكم أتيناكم فحيونا نحييكم
لولا الذهب الأحمـ ـر ما حلت بواديكم
لولا الحنطة السمراء ما سمنت عذاريكم(36)
26 - الامتناع من مخالفة الشرع:
ويجب عليه أن يمتنع من كل ما فيه مخالفة للشرع وخاصة ما اعتاده الناس في مثل هذه المناسبة، مثل تصوير العريسيين، وتعليق صورتهما في البيت، وما تفعله بعض النسوة من نتف حواجبهن وهذا مما حرمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولعن فاعله بقوله: (لعن الله الواشمات(37) والمستوشمات(38)، والمتنمصات(39) والمتفلجات للحسن(40) المغيرات خلق الله) متفق عليه.(33/3)
وعادات قبيحة تسربت من فاجرات أوربا إلى كثير من المسلمات وهي تدميمهن لأظفارهن بالصمغ الأحمر المعروف اليوم ب (مينيكور)، وإطالتهن لبعضها -وقد يفعلها بعض الشباب أيضاً- فإن هذا مع ما فيه من تغير لخلق الله المستلزم لعن فاعله كما علمت آنفاً ومن التشبه بالكافرات المنهي عنه في أحاديث كثيرة، التي منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: ( . . . ومن تشبه بقوم فهو منهم)(41)، فإنه أيضاً مخالف للفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: (الفطرة خمس أو خمس من الفطرة: الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقص الشارب) متفق عليه.
وكذا حلق اللحى، وخاتم الخطبة لأن فيه تقليد للكفار(42) وتشتد حرمته إذا كان من الذهب لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن خاتم الذهب(43). فهذه الأمور مخالفة لشرع الله، وهي محرمة، فيجب الابتعاد عنها.
27 - وجوب إحسان عشرة الزوجة:
ويجب علي الزوج أن يحسن عشرة زوجته ويسايرها فيما أحل الله لها -لا فيما حرم- ولا سيما إذا كانت حديثة السن، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) رواه الترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3314).
وقوله -صلى الله عليه وسلم- كما في خطبة الوداع: (...ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوانٍ عندكم، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك؛ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً. إلا إن لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً فأما حقكم على نسائكم؛ فلا يوطِئْنَ فرشَكُم من تكروهنَ، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقُّهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن). أخرجه الترمذي، وقال: "حسن صحيح" وابن ماجه، وصححه ابن القيم في "زاد المعاد" (4/46)، وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" رقم (7880).
وقد دلت أفعاله -صلى الله عليه وسلم- مع زواجاته على ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من حسن العشرة لزوجاته، وما كان رضي الله عنهن يتمتعن به من الراحة معه -صلى الله عليه وسلم-. وقد حث بقوله على إحسان معاشرة الأزواج، وعدم إيذاء الزوجات فقال: (لا يفرك (أي لا يبغض) مؤمن مؤمنة، إن كره منها حلقاً رضي منها آخر) رواه مسلم.
وقال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً، وخيارهم خيارهم لنسائهم) رواه الترمذي، وأحمد، وحسنه الألباني في آداب الزفاف (صـ 199).
نسأل الله أن يجعلنا من خير الناس، وأن يوفقنا للخير أين ما كان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1- رواه أحمد والطبراني، وحسنه الألباني في آداب الزفاف صـ 17، ورواه أبو داود بلفظ: (فإني مكاثر بكم الأمم) وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (1805)
2 - أي : زينت.
3 - أي : للنظر إليها مجلوة مكشوفة.
4 - هو القدح الكبير.
5 - أي : صديقتك.
6 - رواه أحمد، وقال الألباني في "آداب الزفاف" (صـ 20): (رواه أحمد مطولاً ومختصراً بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، وأشار المنذري إلى تقويته، وراه الحميدي في مسنده وله شاهد من حديث أسماء بنت عميس عند الطبراني في الصغير والكبير و"تاريخ أصبهان" لأبي الشيخ وكتاب "الصمت" لابن الدنيا).
7 - رواه أبو داود وابن ماجه، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (1892).
8 - أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في "المصنف" . وعبد الرزاق أيضاً، وقال الألباني: (وسنده صحيح إلى أبي سعيد وهو مستور لم أجد من ذكره سوى أن الحافظ أورده في "الإصابة" فيمن روى عن مولاه أبي أسيد مالك بن ربيعة الأنصاري ثم رأيته في ثقات ابن حبان قال هندية: "يروي عن جماعة من الصحابة روى عنه أبو نضرة" ثم ساق هذه القصة دون قوله : فقالوا : . . . إلخ وهو رواية لابن أبي شيبة (2/23/1). آداب الزفاف (صـ 23).
9 - أي: تبغضني.
10 - أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف وكذا عبد الرزاق في "مصنفه" قال الألباني في "آداب الزفاف"(صـ 24): (وسنده صحيح وأخرجه الطبراني بسندين صحيحين والزيادة مع الرواية الأخرى له).
11 - رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن أبي حاتم والزيادة له.
12 - كنى برحله عن زوجته أراد بها غشيانها في قبلها من جهة ظهرها؛ لأن المجماع يعلو المرأة ويركبها مما يلي وجهها، فحيث ركبها من جهة ظهرها كنا عنه بتحويل رحله، إما أن يريد به المنزل والمأوى، وإما أن يريد به الرحل الذي تركب عليه الإبل وهو الكور. "نهاية".
13 - رواه النسائي والترمذي، وحسنة الألباني في آداب الزفاف (صـ 31)، وغاية المرام رقم (236).
14 - رواه أصحاب السنن إلا النسائي، فرواه في "العشرة"، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح رقم (551)، وصحيح الترغيب والترهيب (2433).(33/4)
15 - أخرجه مسلم وابن أبي شيبة في "المصنف" وأحمد وأبو نعيم والزيادة له وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري وقد خرجه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" برقم (216).
16 - رواه أبو داود، وحسنه الألباني في آداب الزفاف (صـ 36).
17 - متفق عليه.
18 - رواه ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما، وقال شعيب الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط مسلم". صحيح ابن حبان (4/18) رقم (1216).
19 - رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والزيادة له، وصححه الألباني في آداب الزفاف (صـ 44) وصحيح أبي داود رقم (223).
20 - رواه البيهقي. قال الحافظ في "الفتح" (1/313): "إسناده حسن". وقال الألباني: "رواه ابن أبي شيبة عن عثام به موقوفاً عليها؛ في الرجل يصيبه جنابة من الليل فيريد أن ينام قالت: يتوضأ أو يتيمم. وسنده صحيح. آداب الزفاف (صـ 46).
21 - رواه مسلم.
22 - رواه الترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني في المشكاة رقم (551).
23 - رواه مسلم والسياق له والنسائي وأحمد والزيادات كلها له، وقال الألباني: "إسنادها صحيح على شرط مسلم" آداب الزفاف (صـ 66).
24 - رواه مسلم.
25 - أرمَّ: أي سكتوا، ولم يجيبوا.
26 - أخرجه أحمد، وقال الألباني: "وله شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن أبي شيبة، وأبي داود، والبيهقي، وابن السني، وشاهد ثان رواه البزار عن أبي سعيد، وشاهد ثالث عن سلمان في "الحلية"، فالحديث بهذه الشواهد صحيح أو حسن على الأقل" آداب الزفاف (صـ 72).
27 - ومنهم العلامة الألباني في "آداب الزفاف".
28 - متفق عليه.
29 - الملخص الفقهي (صـ 610).
30 - رواه أبو داود والترمذي، والحاكم (4/128) وقال: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم (7341).
31 - رواه مسلم، وفي البخاري موقوفاً على أبي هريرة: (شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ومن ترك الدعوة فقد عصى الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-).
32 - رواه البخاري.
33 - رواه مسلم، وعند أبي داود والبيهقي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل) يعني الدعاء. سنن البيهقي الكبرى (7/263)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (2148).
34 - رواه ابن ماجه وأبو يعلى في "مسنده" والزيادة له وقال الألباني سنده صحيح. آداب الزفاف (صـ 89).
35 - بفتح الراء وتشديد الفاء مهموز معناه دعا له في موضع قولهم : "بالرفاه والبنين" وكانت كلمة تقولها أهل الجاهلية فورد النهي عنها. كذا في "الفتح" ثم ذكر أحاديث في النهي عنها. فتح الباري (9/222).
36 - قال الشيخ الألباني رحمه الله: (رواه الطبراني كما في " زوائده" (1/167/1) وسكت عليه في "الفتح" وفيه ضعف!
ثم وجدت له طريقاً أخرى عن عائشة يتقوى بها كما بينته في "الإرواء". وفي الباب عن عائشة أيضا في "المسند" ورجاله ثقات غير إسحاق بن سهل بن أبي حنتمة أورده في "الجرح" ولم يذكر فيه شيئاً) آداب الزفاف (صـ 109-110).
37 - جمع واشمة اسم فاعل من "الوشم": وهو غرز الإبرة ونحوها في الجلد حتى يسيل الدم ثم حشوه بالكحل أو النِّيل فيخضر.
38 - جمع مستوشمة وهي التي تطلب الوشم.
39 - جمع نامصة وهي التي تفعل النماص و(المتنمصات): جمع متنمصة وهي التي تطلبه. و"النماص": إزالة شعر الوجه بالمنقاش كما في "النهاية" وغيره وذكر الوجه للغالب لا للتقييد.
40 - أي: لأجل الحسن و"المتفلجات": جمع متفلجة: وهي التي تطلب الفلج، وهو فرجة ما بين الثنايا والرباعيات، والتفلج أن يفرج بين المتلاصقين بالمبرد ونحوه.
41 - رواه أحمد، وقال الألباني: "حسن لغيره" صحيح الترغيب والترهيب رقم (2089).
42 - كانت النصارى تفعل ذلك، ويرجع ذلك على عادة قديمة لهم عندما كان العروس يضع الخاتم على رأس إبهام العروس اليسرى ويقول: باسم الأب ثم ينقله واضعاً له على رأس السبابة ويقول: الابن، ثم يضع على رأس الوسطى ويقول: الروح القدس وعندما يقول آمين يضعه أخيرا في البنصر حيث يستقر.
43 - رواه البخاري ومسلم.(33/5)
آداب الطريق
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } 1 . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } 2. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } 3. اعلموا أن أحسن الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
اعلموا – وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه- أن ديننا الإسلامي الحنيف دين شامل لكل مناحي الحياة، فهو دين المبادئ والقيم، ودين الأخلاق والمعاملة، فلم يدع مجالاً من مجالات الحياة إلا بين فيها الحسن ليمتثل، والقبيح ليجتنب. ومما يدل على شمولية الدين لكل مناحي الحياة، ما أوضحه الكتاب والسنة وآثار الأئمة من آداب الطريق، وحقوق المارة، ومجالس الناس العامة والخاصة ، يقول الله - تعالى - في الكتاب العزيز: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } 4.
إن مصادر الشريعة الموثوقة مليئة بأمثال هذه النصوص المؤكدة لهذه الحقوق، والمرشدة إلى هذه الآداب.
فعباد الرحمن من سماتهم أنهم يمشون في الطريق هوناً، لا تصنع ولا تكلف، ولا تكبر ولا خيلاء، وإنما وقار وسكينة، من غير مذلة وجد وقوة ، من غير تكبر ولا خيلاء وبطر ، تأسياً بالقدوة العظمى محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلك هي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، يمضي إلى قصده هينا مستقيما لا يصعر خده استكباراً، ولا يمشي في الأرض مرحاً، قال تعالى : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً } 5 . وقال تعالى: { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } 6 .
ومن سماتهم إنهم إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، فهم أصحاب الأخلاق العالية، والآداب الرفيعة، في مشيهم وهديهم ودلهم ، وفي حديثهم أولى وأحرى ، مع صدقهم ، وقوة حجهم وحلمهم وصفحهم ، وإعراضهم عن البذيء من القول، والفحش من الحديث ، وتجنباً لحماقة الحمقى، وسفاهة السفهاء.
لا يرفعون أصوتهم من غير حاجة، فـ ( إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) ( لقمان :19) ، و لأن رفع الصوت خلق سيء وأدب سمج ، يسلكه ضعيف الحجة ، واهي البرهان يريد إخفاء رعونته وجهله برفعة صوته، وإغلاظه في كلامه مع الاخرين ...
ولا يتكلمون فيما لا يعود عليهم بفائدة ؛ وإنما { إِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } 7.
أيها الناس: جاء في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والجلوس في الطرقات " قالوا : يا رسول الله، مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، قال رسول الله: " فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه" قالوا : وما حقه؟ قال: " غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " 8.
وعد النبي صلىالله عليه وسلم من أبواب الخير: " تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك الرجل الردئ البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة " 9.
ودعا الإسلام إلى حفظ الحقوق العامة والخاصة، ومن الحقوق والآداب العامة حقوق وآداب الطريق، والتي ذكرنا بعضها في حديث أبي سعيد الخدري السابق، وقد جمع محدث زمانه، وحافظ عصره، الإمام أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ، بعض هذه الحقوق والآداب بقوله:
جمعت آداب من رام الجلوس على الطر يق من قول خير الخلق إنساناً
أفش السلام وأحسن في الكلام وشمت عاطساً وسلاماً رد إحساناً
في الحمل عاون ومظلوماً أعن وأغث لهفان أهد سبيلاً وأهد حيراناً
بالعرف مر وأنه عن نكر وكف أذى وغض طرفاً وأكثر ذكر مولانا(34/1)
أمة الإسلام: لقد حذرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الجلوس على الطرقات، وذلك لأن في الجلوس على الطرقات تعرض للفتن من النظر إلى النساء الكاسيات العاريات المائلات المميلات الأتي لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا.
وهو كذلك تحذير للنساء من كثرة الخروج إلى الأسواق والأماكن العامة لغير حاجة؛ لما فيه من مفسدة تعرضهن للأذية من أعين الذئاب البشرية، ومزاحمتهن للرجال على الطرقات، وخاصة في أيامنا هذه التي كثر فيها خروج النساء إلى الأسواق، وإلى الوظيفة والعمل، أضف إلى ذلك قلة الحياء عند بعضهن فضلاً عن قلة الدين.
فتجد الطرقات والأرصفة مليئة بالشباب التائه الضائع يتصيدون النساء، وحتى طالبات المدارس بعد خروجهن من المدرسة، فتجد الأرصفة ملأ بهؤلاء الشباب الذين لم يعطوا أي حق للطريق ، ولم يراعوا حرمة أعراض المسلمين ، فأطلقوا العنان للبصر بدلا عن أن يغضوه، وبذلوا الأذى بدلا من أن يكفوه ، وأمروا بالمنكر وكان المفترض أن يأمروا ينهوه، فهؤلاء يحرم عليهم الجلوس على الطرقات، ويأثموا ببقائهم فيها؛ لأنهم لم يعطوا الطريق حقه ، وبعض هؤلاء يجلسون عند أبواب المحلات في الأسواق يتصيدون الداخل الخارج ، ويشوشون على أصحاب المحلات رزقهم مصدر عيشهم...
فهؤلاء الذين يتخوضون في أعراض المسلمين ، وهؤلاء الذين ينتهكون حرمات المؤمنين ، أما يتقون الله ، أما يخافون عقابه ، هل يرضون أن يفعل ذلك أحد مع أخواتهم أو زوجاتهم أو إحدى قريباتهم ؟ أو لا يعلموا أن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، ولا يظلم ربك أحداً؟؛ وعن ابن عمر قال : صعد رسول الله صلى اله عليه وسلم على المنبر فنادى بصوت رفيع فقال : " يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لاتؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " 10.
يروى أن شابا أراد السفر لغرض التجارة، فأوصاه أبوه بالمحافظة على بتقوى الله في السر والعلن، وحذره من اقتراف المعاصي والآثام؛ فسار هذا الشاب في سفره، وفي يوم من الأيام والشاب مسافر، كان عند الأب شاب سقا يجيء إليه بالماء ، وكانت عادته أن يطرق الباب، فتفتح له بنت ذلك الرجل ، وفي يوم من الأيام فوجئ الرجل بذلك السقا يقبّل ابنته ويهرب، فما كان منه إلا أن تحين رجوع ابنه من سفره ليسأله عن سفره وعن أخباره وماذا فعل في غيابه ، فأجابه الابن بكل شيء ،من أمور التجارة الربح وتحقق له منه ، إلا أن الأب سأله مرة أخرى عن ماذا فعل في سفره من المعاصي؟ فأنكر الابن، ولكن بعد إلحاح الأب عليه جعل يعترف، وكان مما اعترف به أنه رأى امرأة شابة فظفر منها بقبلة، فقال له أبوه دقة بدقة، ولو زدت لزاد السقا، قال الشاعر:
يا هاتكا حرم الرجال وتابعا طرق الفساد فأنت غير مكرم
من يزن في قوم بألفي درهم في أهل يزني بربع الدرهم
إن الزنا دين إذا استقرضته كان الوفاء من أهل بيتك فاعلم
فكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً، قال الله تعالى: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } 11.
أقول ماسمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه
أيها المسلمون: إن هذه المجالس التي يجتمع فيها الناس ويتحدث فيها بعضهم إلى بعض في غالبها لا يذكرون الله – تعالى-، بل يغلب فيها الكذب والغيبة والنميمة، وقول الزور والفحش، والسباب واللعان، وغيرها من المنكرات، وما اجتمع قوم في مكان لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة، والبعض يجلسون للعب بالبلوت، والشطرنج، والنرد، والكيرم، وغير ذلك من الألعاب التي تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، قال الله - تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } 12.(34/2)
أيها الأخوة: إن في الجلوس على الطرقات أذية للمارة، وتضييق للطريق على المسافرين، وفي منعه صلى الله عليه وسلم للجلوس على الطرقات منعاً لكثير من المفاسد؛ كالعادات القبيحة التي يتعلمها الجالسون على الطرقات؛ ومنها التدخين، ومضغ القات، والمظاهر الشاذة في اللباس أو الشعر، وغيرها من الأخلاق السيئة، وإلف المعصية؛ وذلك لكثرة ما يرى من المعاصي والمنكرات فيصبح لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، أو يزيد البلاء بلاء فيسمي المعروف منكرا والمنكر معروفا! أو يرتقي به الحال فيصير يفتخر بالمعصية ويتباهى بها، ويحدث بها من لم يعلم الناس أنه عملها!
ومن المفاسد تعود البطالة وقتل العمر، والاستهانة بالوقت؛ فأرخص شيء عند هؤلاء هو الوقت، فساعات تهدر، وأيام تضيع، وأعمار تذبح على مذبح اللهو واللعب... وما أكثر ما نسمع على لسان هؤلاء عبارات: نريد أن نقتل الوقت، نحن فارغون ماذا نفعل؟ نحن في إجازة! ونسوا أو تناسوا أن الله أمر الفارغ من العبادة بخلاف ذلك، فقال تعالى: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ } 13 فكيف بمن هو في لهو دائم والله المستعان.
ومن المفاسد أيضا التهيؤ للجريمة وأسبابها وممارستها والاحتيال على الناس، مما يتعلمه الكثيرون من مثل هذه المجالس ، فيبدأ الأمر باحتيال على صاحب البقالة أو صاحب سيارة الأجرة، وينتهي إلى السرقة المنظمة! أويبدأ الأمر بسماع الأغاني الخليعة الفاجرة الماجنة، ثم مشاهدة الأفلام العارية، وينتهي إلى فعل الفاحشة- والعياذ بالله-. أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يجمع لنا خير الآخرة والأولى، وأن يتوفانا وهو راض عنا، وأن لا يسلط علينا من لا يخافه فينا ولا يرحمنا، وأن يجعل الجنة هي دارنا، وأن لا يجعل إلى النار مصيرنا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين...
والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - سورة النساء(1).
2 - سورة آل عمران(102)
3 - سورة الأحزاب (70) (71).
4 - سورة الفرقان(63).
5 - سورة الإسراء(37).
6 - سورة لقمان(18).
7 - سورة القصص(55).
8 - رواه البخاري ومسلم.
9 - رواه الترمذي والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان، وصححه الألباني في الصحيحة برقم(572).
10 - أخرجه الترمذي وحسنه الألباني في غاية المرام رقم(420).
11 - سورة النحل (118) .
12 - سورة المائدة(90-91).
13 - الشرح(7).(34/3)
آداب المسجد
المساجد بيوت الله تعالى، ومن أحب الله تعالى أحب بيوته، وأكثر من زيارته فيها. قال تعالى:{ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)} الجن.
والضيف إذا نزل بساحة الكرماء، و منازل العظماء، أصابه جودهم وفضلهم، ونال من أعطياتهم وغنم من إكرامهم، فكيف بضيف نزل بأكرم الأكرمين، وحلّ على رب العالمين..؟
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه:{ إنّ بيوتي في أرضي المساجد، وإنّ زوّاري فيها عمّارها، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره} رواه أبو نعيم.
ولا شك أن أعظم هذه الكرامات، وأفضل هذه الأعطيات، أن يذيقه الله تعالى لذة قربه وحلاوة مناجاته، وأن يمنحه شهادة الإيمان.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى:{ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر.. الآية} } . رواه الترمذي.
وفي منازل القيامة، وكربات مواقفها، وأهوال مشاهدها، يكون في ظل عرش الرحمن، آمنا مطمئنا. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله ـ وعد منهم ـ ورجل قلبه معلق بالمساجد} متفق عليه.
ثم يصله تعالى بنعمة الجنة، وما أعده له فيها من نعيم مقيم، وفضل عميم.. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ من غدا الى المسجد أو راح، أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح}. متفق عليه.
والمساجد ليست معابد تؤدى فيها طقوس العبادات، وحركات الصلوات فحسب، فالأرض كلها جعلت لأمة النبي صلى الله عليه وسلم مسجدا وطهورا، وتصلح لأداء الأركان والواجبات، قال أبو ذر رضي الله عنه: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولا؟ قال:"المسجد الحرام". قلت: ثم أي؟ قال:{ ثم المسجد الأقصى} قلت: كم بينهما؟ قال:{ أربعون عاما}. ثما قال:{ أينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد} رواه الجماعة.
ولكن المساجد بيوت الله يأوي اليها المسلم منقطعا عن صخب الحياة المادية، ومتحررا من قيود الهموم الدنيوية، فيجد فيها مراتع من رياض الجنة، ورياحين الفردوس..
فتارة في مجلس ذكر لله تعالى، وتلاوة القرآن الكريم يصل فيها الى صفاء الروح، ولقائها بخالقها، وصلتها بمصدر الخير والكمال، ونهلها من منبع الحكمة والمعرفة والإيمان..
وتارة في مجلس وعظ وإرشاد تتزكى فيه النفس من نقائصها، وتتطهر من رذائلها، وتتحلى بفضائلها ومكارم أخلاقها..
وتارة في مجلس علم وفقه في الدين تتفتح فيه آفاق العقل على عظمة التشريع، وتتنوّر دروب الحياة بهدي التعاليم الإلهية، فيتضح صراط الله المستقيم..
كل ذلك في مجتمع إيماني كريم، يشد بعضه أزر بعض، ويحقق فيه المؤمنون قوله تعالى:{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} المائدة 2. ويجنون من الثمرات ما ورد في الحديث الشريف: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:{ ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده} رواه مسلم.
وإذا كان حق الضيف إكرامه، فإن من واجبه معرفة قدر من يزور، والاستعداد لزيارته، والتأدب في حضرته بما يليق وجلال المزور وعظمته..
ومن الآداب الإسلامية لزيارة بيوت الله تبارك وتعالى نذكر منها ما يلي:
1»»> محبة المساجد وتقديرها، والنظر إليها بعين التكريم والتعظيم والتقديس والاحترام، لأنها بيوت الله تعالى التي بنيت لذكره وعبادته، وتلاوة كتابه وأداء رسالته، ونشر تعاليمه وتبليغ منهجه، وتعارف أتباعه ولقائهم على مائدة العلم والحكمة ومكارم الأخلاق..
قال تعالى:{ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} الحج.
وقال سبحانه:{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} النور.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ المسجد بيت كل تقيّ وتكفل الله لمن كان المسجد بيته بالروح والرحمة والجواز على الصراط الى رضوان الله الى الجنة} رواه الطبراني والبزار.
2»»> العمل على إشادتها، والقيام بما يستطيع من جهد مادي أو جسدي لبنائها، وتشجيع الناس على التبرع لاستكمالها وتجهيزها بما يليق ومكانتها، وابتغاء وجه الله تعالى في كل ذلك.(35/1)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها ـ أي بقدر الموضع الذي يبيض فيه طائر القطاة ـ بنى الله له بيتا في الجنة} رواه أحمد وان حبان.
وعن أنس رضي الله عنه قال: من أسرج سراجا في مسجد لم تزل الملائكة وحملة المسجد يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد صوؤه.
3»»> المحافظة على ارتياد المساجد ولو كانت بعيدة عن منزله، والمشي إليها ولو تحمل في سبيل ذلك الحّر والبرد، وظلمة الليل ومشقة الطريق.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرا من الذي يصليها ثم ينام} متفق عليه.
وعن أبي بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ بشّروا المشّائين في الظلم الى المساجد بالنور التام يوم القيامة} رواه أبو داود والترمذي.
وعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار لا أعلم أحدا أبعد من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حمارا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرّني أن منزلي الى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي الى المسجد ورجوعي إذا رجعت الى أهلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ قد جمع الله لك ذلك كله} رواه مسلم.
4»»> التهيؤ للذهاب الى المسجد بالطهارة وحسن الوضوء والتسوّك، ولبس الثياب النظيفة، وتقليم الأظافر وترجيل الشعر، والتجمّل والتطيّب.
قال تعالى:{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الأعراف 31.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ من تطهر في بيته ثم مضى الى بيت من بيوت الله، ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداها تحطّ خطيئة والأخرى ترفع درجة} رواه مسلم.
5»»> إنهاء جميع الأعمال الدنيوية، وإيقاف كافة الأشغال المادية عند سماع الأذان، والمسارعة الى تلبية النداء، والتوجه الى المسجد مهما كانت الأعذار.
قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} الأنفال 24.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل اعمى فقال: يا رسول الله ليس لي قائد يقودني الى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخّص له فيصلي في بيته، فرخّص له، فلما ولى دعاه فقال له: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال:" فأجب" }. رواه مسلم.
6»»> الدخول الى المسجد مقدما الرجل اليمنى قائلا: بسم الله، اللهم صل على سيدنا محمد، اللهم افتح لي أبواب رحمتك.
كما يستحب أن ينوي الاعتكاف فإنه يصح ولو لم يمكث إلا فترة قليلة، فيقول: نويت الاعتكاف في هذا المسجد ما دمت فيه.
7»»> الخروج مقدما الرجل اليسرى واضعا حذاءه أمامه بهدوء قائلا: اللهم صل على سيدنا محمد، اللهم إني أسألك من فضلك.
عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك}. رواه مسلم وأبو داود.
8»»> صلاة ركعتين سنة تحية المسجد قبل الجلوس، إذا لم يكن وقت صلاة راتبة، ومن لم يتمكن من الصلاة لحدث أو شغل.. فليقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثلاث مرات.
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ إذا دخل أحكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} متفق عليه.
9»»> خلع الحذاء وإزالة ما علق به من أوساخ خارج المسجد، وإطباقه ووضعه في أقرب مكان مخصص والحذر من رفعه فوق الرؤوس، أو تلويث المسجد به، ثم إطباق باب المسجد بهدوء عند الدخول.
10»»> الانتباه الى طهارة الجوارب ونظافتها، قبل المشي بها على سجاد المسجد.
11»»> تجنب أكل الثوم أو البصل، وما له رائحة كريهة، والدخول الى المسجد قبل إزالتها، بتنظيف الفم بالماء والفرشاة والمعجون.
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا} متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:{ من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم} متفق عليه.
12»»> تجنب تلويث المسجد بشيء من القاذورات أو النجاسات، كالمرور بأرجل عليها نجاسة، أو تلويثه بالقليل من الدم، كما يحرم البول في المسجد ولو كان في وعاء ويحرم الاستنجاء فيه.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي بال في المسجد:{ إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن} رواه مسلم.(35/2)
13»»> تجنب تلويث المسجد بالبصاق أو المخاط أو النخامة، وخاصة عند عتبات المسجد أو على بابه أو في أماكن الوضوء، والقيام على إزالته إن وجد.
عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{ البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها} متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها{ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في جدار القبلة مخاطا أو بزاقا أو نخامة فحكّه}. متفق عليه.
14»»> تجنب اللهو واللعب والجري، واللغو والثرثرة، ورفع الأصوات ولو بقراءة القرآن على وجه يشوّش على المصلين أو الذاكرين أو المتدارسين للعلم.
عن السائب بن يزيد الصحابي قال: كنت في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من أهل الطائف فقال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر وقال:{ ألا كلكم مناج ربه فلا يؤذينّ بعضكم بعضا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة}. رواه النسائي وأبو أحمد.
15»»> تجنب الخصومات والاشتغال بأمور الدنيا، والبيع والشراء، والبحث عن ضائع، وإنشاد الشعر المتضمن فحشا أو هجاء لمسلم أو ظلما أو غزلا، ولا بأس فيما تضمن حكمة أو خيرا.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تنشد فيه الضالة}. رواه الخمسة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:{ إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا لا ردّ الله عليك} رواه الترمذي.
وقال سعيد بن المسيّب: من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه، فحقه ألا يقول إلا خيرا.
16»»> تجنب الاحتباء وتشبيك الأصابع وفرقعتها والعبث بها في المسجد وإثناء انتظار الصلاة.
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: دخلت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رجل جالس وسط المسجد محتبيا مشبّكا أصابعه بعضها على بعض فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفطن لإشارته، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:{ إذا كان أحدكم في المسجد فلا يشبّكنّ فإنّ التشبيك من الشيطان، وإنّ أحدكم لا يزال في صلاة ما كان في المسجد حتى يخرج منه} رواه أحمد.
17»»> تجنب الخروج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر حتى يصلي المكتوبة.
عن أبي الشعثاء قال: كنا قعودا عند أبي هريرة رضي الله عنه في المسجد فأذّن المؤذن فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
18»»> تجنب تناول الأطعمة في المسجد وجعلها أمكنة للراحة أو القيلولة أو السمر، وتجنب الوقوع في المحرمات كالغيبة والنميمة والكذب وتنفقيص الناس.
19»»> تجنب الدخول الى المسجد للمرور فيه كطريق، أو الدخول والخروج منه من غير صلاة أو ذكر أو تسبيح أو عبادة أو أمر بالمعروف أو نهي عن منكر أو طلب للعلم.
20»»> القيام بصيانة المسجد، والحفاظ على نظافته وأناقته، وأثاثه وأمتعته، وكتبه ومصاحفه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور ـ أي في الأماكن التي تبنى فيها البيوت ـ وأن تنظف وتطيّب. رواه أحمد وأبو داود.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ عرضت عليّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد} رواه الترمذي وأبو داود.
21»»> صيانة المسجد من الأطفال والمجانين، وتشجيع الصبية الذين تجاوزوا السابعة وإحضارهم الى المسجد تعويدا لهم على العبادة، وتحبيبهم بالمساجد مع تعليمهم آدابها قبل دخولها، والإشراف عليهم أثناء وجودهم فيها لتوجيههم وتنبيههم عند الإخلال بحرمتها أو مخالفة آدابها والحذر من إهانتهم أو طردهم منها.
22»»> تجنب التطيب والتزين والتبرّج للمرأة التي تشهد المساجد، ودخولها وخروجها من المكان المخصص للنساء، دون اختلاطها بالرجال أو مزاحمتهم.
عن زينب الثقفية رضي الله عنها قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{ إذا شهدت إحداكنّ المسجد فلا تمسّ طيّبا} رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد إذ دخلت إمرأة من مزينة ترفل في زينة لها في المسجد، فقال صلى الله عليه وسلم:{ يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبختروا في المساجد} رواه ابن ماجه.
http://www.alqafelah.com/ ...(35/3)
آداب المشي إلى الصلاة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن المسلم بحاجة ماسة لمعرفة الآداب المشروعة التي تسبق الصلاة، استعداداً لها؛ لإن الصلاة عبادة عظيمة ينبغي أن يسبقها استعداد وتهيؤ مناسب، ليدخل المسلم في هذه العبادة على أحسن الهيئات. فمن تلك الآداب ما يلي:
المشي بسكينة ووقار:
إذا مشى المسلم إلى المسجد ليؤدي الصلاة مع جماعة المسلمين، فليكن ذلك بسكينة ووقار، والسكينة: هي الطمأنينة والتأني في المشي، والوقار: الرزانة والحلم وغض البصر وخفض الصوت وقلة الاتفات(1).
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أنه قال: (إذا نودي بالصلاة فأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)(2)، وفي لفظ: (إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)(3)، وفي لفظ: (إذا ثوب للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة)(4).
التبكير بالخروج إلى المسجد:
من الأفضل للمسلم أن يخرج إلى المسجد مبكراً ليدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام، ويحضر الصلاة من أولها، فإن في المحافظة على الصلاة من أولها مع الإمام فضيلة عظيمة، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)(5).
المقاربة بين الخطا:
المقاربة بين الخطا في المشي إلى الصلاة من طرق تكثير الحسنات، فكلما كثرت الخطوات التي يمشي بها المصلي إلى المسجد كثرت حسناته، ورفعت درجاته، ومحيت كثير من سيئاته، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أحدكم إذا توضأ فأحسن وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحط عنه خطيئة، حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي عليه الملائكة ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث فيه)(6)، وعنه -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكم الرباط)(7)، وعن أبي موسى قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم، والذي ينظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصليها ثم ينام) وفي رواية أبي كريب: (حتى يصليها مع الإمام في جماعة)(8).
حتى رجوع المصلي من الصلاة له به أجر، والدليل على ذلك، حديث أبي بن كعب قال: كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة، فقيل له، أو قلت له: لو اشتريت حماراً تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (قد جمع الله لك ذلك كله)(9). قال الإمام النووي -رحمه الله-: (فيه إثبات الثواب في الخطا في الرجوع من الصلاة كما يثبت في الذهاب)(10)، وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لبني سلمة عندما أرادوا أن يبيعوا بيوتهم التي كانت بعيدة عن المسجد ويتحولون إلى قرب المسجد فقال لهم: (يا بني سلمة! ديارَكم تكتب آثاركم، ديارَكم تكتب آثاركم)(11).
ذكر الذكر الوارد:
عن عبد الله بن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى الصلاة وهو يقول: (اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي لساني نوراً، واجعل في سمعي نوراً، واجعل في بصري نوراً، واجعل من خلفي نوراً، ومن أمامي نوراً، واجعل من فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم أعطني نوراً)(12).
تقديم الرجل اليمنى عند دخول المسجد، واليسرى عند الخروج:
إذا وصل المصلي إلى باب المسجد فيقدم رجله اليمنى عند الدخول، ويقول: (بسم الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم(13)، اللهم صلى على محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك)، وإذا أراد الخروج؛ قدم رجله اليسرى، وقال: (بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك)(14).
صلاة ركعتين تحية المسجد:
فإذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)(15).
الإكثار من ذكر الله:(36/1)
فيكثر المسلم في المسجد وهو ينتظر الصلاة من ذكر الله، والدعاء، وقراءة القرآن، ويتجنب العبث؛ كتشبيك الأصابع وغيره؛ فقد ورد النهي عنه في حق منتظر الصلاة، فعن كعب بن عجرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك؛ فإنك في صلاة)(16).
الحرص على الصف الأول:
يحرص المصلي على أن يصلي في الصف الأول، لما لذلك من الأجر العظيم فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لا يجدون إلا أن يستهموا عليه لا ستهموا)(17)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (خير صفوف الرجال أولها)(18)، ويحرص على القرب من الإمام؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (ليَلِني منكم أولو الأحلام والنهى)(19)، وهذا بالنسبة للرجال، وأما النساء فالصف الأخير من صفوف النساء أفضل لها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وخير صفوف النساء آخرها)(20)؛ لأن ذلك أبعد لها عن رؤية الرجال(21).
اللهم وفقنا وسدد خطانا، واجعلنا من الراشدين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - راجع الملخص الفقهي (صـ 87).
2 - متفق عليه.
3 - رواه البخاري.
4 - رواه مسلم.
5 - رواه الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي رقم (200) ومشكاة المصابيح رقم (1102).
6 - رواه البخاري.
7 - رواه مسلم.
8 - رواه مسلم.
9 - رواه مسلم.
10 - شرح النووي على صحيح مسلم (5/168).
11 - رواه مسلم.
12 - رواه مسلم.
13 - رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه، وأحمد، وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (485).
14 - سنن ابن ماجه، وروى أبو داود والنسائي نحوه، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه رقم (625)، وعند مسلم: (إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك).
15 - متفق عليه.
16 - رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الترمذي رقم (316).
17 - متفق عليه.
18 - رواه مسلم، وأصحاب السنن، وأحمد.
19 - رواه مسلم، وأصحاب السنن، وأحمد.
20 - رواه مسلم، وأصحاب السنن، وأحمد.
21 - راجع: الملخص الفقهي (صـ 89).(36/2)
آداب معلم القرآن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد الصادق الأمين، وبعد:
فإن الله –تعالى - لما أنزل القرآن على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليقوم به في العالمين، أرشد فيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آداب كثيرة، يجب أن يتحلى بها كل من يقرأ القرآن، وهذا بعض ما يجب أن يتأدب به حامل القرآن، ومعلمه، إذ أن الأدب هو الثمرة، وهو حلقة الوصل بين المعلم والمتعلم، فمتى كانت السلسلة بينهما صحيحة سليمة كان النفوذ خلالها سهلاً ويسيراً ومفيداً وصحيحاً.
آداب معلم القرآن:
ينبغي على من علمه الله –تعالى - القرآن، وفضله على غيره ممن لم يحمِّله كتابه، وأحب أن يكون من أهل القرآن، وأهل الله وخاصته، وممن وعده الله من فضله العظيم، وممن قال الله - تعالى - فيه: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ)1.وقد قيل في تفسيرها: يعملون به حق عمله، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (الذي يقرأ القرآن وهو ما هر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران)2، قال بشر بن الحارث: (سمعت عيسى بن يونس يقول: إذا ختم العبد قبَّل الملك بين عينيه)3، فينبغي له أن يجعل القرآن ربيعاً لقلبه، يعمر به ما خرب من قلبه، يتأدب بآداب القرآن، ويتخلق بأخلاق شريفة يتميز بها عن سائر الناس ممن لا يقرأ القرآن، فأول ما ينبغي له:
أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية، وذلك باستعمال الورع في مطعمه، ومشربه، وملبسه، فيكون بصيراً بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه، مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره، حافظاً لسانه، مميزاً لكلامه، إن تكلم تكلم بعلم إذا رأى الكلام صواباً، وإن سكت سكت بعلم إذا رأى السكوت صواباً، قليل الخوض فيما لا يعنيه، يخاف من لسانه أشد مما يخاف من عدوه، يحبس لسانه كحبسه لعدوه ليأمن شره وسوء عاقبته، قليل الضحك فيما يضحك منه الناس؛ لسوء عاقبة الضحك، إن سُرَّ بشيءٍ مما يوافق الحق تبسم، يكره المزاح خوفاً من اللعب، فإن مزح قال حقاً، باسط الوجه، طيب الكلام، لا يمدح نفسه بما فيه فكيف بما ليس فيه، يحذر من نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يسخط مولاه، ولا يغتاب أحداً، ولا يحقر أحداً، ولا يشمت بمصيبة، ولا يبغي على أحد ولا يحسده، ولا يسيء الظن بأحد بمن يستحق، يحسد بعلم 4، ويظن بعلم، ويتكلم بما في الإنسان من عيب بعلم، ويسكت عن حقيقة ما فيه بعلم، قد جعل القرآن والسنة والفقه دليله إلى كل خلق حسن جميل، حافظاً لجميع جوارحه عما نهي عنه، إن مشى مشى بعلم، وإن قعد قعد بعلم، يجتهد ليسلم الناس من لسانه ويده، لا يجهل، وإن جُهل عليه حلم، لا يظلم، وإن ظُلم عفا، لا يبغي على أحد، وإن بُغِيَ عليه صبر، يكظم غيظه ليرضي ربه ويغيظ عدوه، متواضع في نفسه، إذا قيل له الحق قَبِله من صغير وكبير، يطلب الرفعة من الله لا من المخلوقين، ماقت للكبر خائفاً على نفسه منه، لا يتأكَّل بالقرآن، ولا يحب أن تقضى له به الحوائج، ولا يسعى به إلى أبناء الملوك، ولا يجالس به الأغنياء ليكرموه، إن كسب الناس من الدنيا الكثير بلا فقه ولا بصيرة، كسب هو القليل بفقه وعلم، إن لبس الناس الليِّن الفاخر لبس هو من الحلال ما يستر عورته، إن وُسِّع عليه وَسَّع، وإن أُمسك عنه أَمسَك، يقنع بالقليل فيكفيه، ويحذر على نفسه من الدنيا ما يطغيه، يتبع واجبات القرآن والسنة، يأكل الطعام بعلم، يلبس بعلم، وينام بعلم، ويجامع بعلم، ويصحب الإخوان بعلم، ويزورهم بعلم، ويستأذن عليهم بعلم، ويسلِّم عليهم بعلم، يجاور جاره بعلم، يلزم نفسه بر والديه، فيخفض لهما جناحه، ويخفض لصوتهما صوته، ويبذل لهما ماله، وينظر لهما بعين الوقار والرحمة، يدعو لهما بالبقاء، ويشكر لهما عند الكبر، ولا يضجر بهما ولا يحرمهما، إن استعانا به على طاعة الله أعانهما، وإن استعانا به على معصيته لم يعنهما، ورفق بهما في معصيته إياهما، يحسن الأدب ليرجعا عن قبيح ما أرادا مما لا يحسن بهما فعله، يصل الرحم، ويكره القطيعة، من قطعه لم يقطعه، ومن عصى الله فيه أطاع الله فيه، يصحب المؤمنين بعلم، ويجالسهم بعلم، من صحبه نفعه، حسن المجالسة لمن جالس، إن علم غيره رفق به، لا يعنف من أخطأ ولا يخجله، رفيق في أموره، صبور على تعليم الخير، يأنس به المتعلم، ويفرح به المُجالس، مجالسته تفيد خيراً، مؤدب لمن جالسه بأدب القرآن والسنة، أن أصيب بمصيبة فالقرآن والسنة له مؤدبان، يحزن بعلم، ويبكي بعلم، ويصبر بعلم، ويتطهر بعلم، ويصلي بعلم، ويزكي بعلم، وينفق بعلم، ويتمسك في الأمور بعلم، وينقبض عنهما بعلم، قد أدبه القرآن والسنة.(37/1)
يتصفح القرآن ليؤدب به نفسه، لا يرضى من نفسه أن يؤدي ما فرض الله عليه بجهل، قد جعل العلم والفقه دليله إلى كل خير، إذا درس القرآن فبخصوص فهم وعقل، همته إيقاع الفهم لما ألزمه الله من اتباع ما أمر، والانتهاء عما نهى، ليس همه متى أختم السورة، همته متى استغني بالله عن غيره، متى أكون من المتوكلين، متى أكون من المتقين، متى أكون من المحسنين، متى أكون من الخاشعين، متى أكون من الصابرين، متى أكون من الصادقين، متى أكون من الخائفين، متى أكون من الراجعين، متى أزهد في الدنيا، متى أرغب في الآخرة، متى أتوب من الذنوب، متى أعرف قدر النعم المتواترة، متى أشكره عليها، متى أعقل عن الله الخطاب، متى أفقه ما أتلو، متى أغلب نفسي على ما تهوى، متى أجاهد في الله حق جهاده، متى أحفظ لساني، متى أغض طرفي، متى أحفظ فرجي، متى أستحيي من الله حق الحياء، متى أشتغل بعيبي عن عيوب الناس، متى أصلح ما فسد من أمري، متى أحاسب نفسي، متى أتزود ليوم معادي، متى أكون عند الله راضيا، متى أكون بالله راضيا، متى أكون بالله واثقاً، متى أكون بزجر القرآن متعظا، متى أكون بذكره عن ذكر غيره مشتغلاً، متى أُحب ما أَحب، متى أُبغض ما أَبغض، متى أنصح لله، متى أخلص لله عملي، متى أقصر أملي، متى أتأهب ليوم موتي وقد غُيِّب عني أجلي، متى أعمر قبري، متى أفكر في الموقف وشدته، متى أفكر في خلوتي مع ربي، متى أفكر في المنقلب، متى أحذر مما حذرني منه ربي، من نار حرها شديد، وقعرها بعيد5، وغمها طويل، لا يموت أهلها فيستريحون، ولا تقال عثرتهم، ولا ترحم عبرتهم، يحذر أن يغفل عن الله ما افترض الله عليه، وما عهده إليه أن يُضيعَه، ويحفظ ما استرعاه من حدوده، إذا تلا القرآن استعرضه فكان كالمرآة يرى ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذره مولاه حذره، وما خُوفه به من عقابه خافه، وما رغبه مولاه فيه رغب فيه ورجاه.
أخلاق معلم القرآن أثناء تعليمه:
ينبغي لمن علمه الله كتابه؛ أن يجلس في المسجد يقرئ القرآن لله - عز وجل - ويعلمه للناس، أن يغتنم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه)6، فينبغي له أن يستخدم من الأخلاق الشريفة ما يدل على فضله وشرفه وصدقه، وأن يتواضع في نفسه إذا جلس في مجلسه، ولا يتعاظم في نفسه، وأن يستقبل القبلة في مجلسه، قال مكحول: (أفضل المجالس ما استقبل به القبلة)7، ويتواضع لمن يلقنه القرآن، ويقبل عليه إقبالاً جميل8.
وينبغي له أن يستعمل مع كل إنسان يعلمه ما يصلح لمثله، إذا كان يتعلم عليه الصغير والكبير، والحدث، والغني والفقير، فينبغي له أن يوفي كل ذي حق حقه، ويعتقد الإنصاف إن كان يريد الله بتلقينه القرآن، فلا ينبغي له أن يقرب الغني، ويبعد الفقير، ولا ينبغي له أن يرفق بالغني ويخرق بالفقير، فإن فعل هذا فقد جار في فعله، فحكمه أن يعدل بينهما، ثم ينبغي له أن يحذر على نفسه التواضع للغني، والتكبر على الفقير، بل يكون متواضعاً للفقير، مقرباً لمجلسه متعطفاً عليه، يتحبب إلى الله بذلك.
جاء في سبب نزول قوله تعالى: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ)9. عن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع صهيب، وبلال وعمار وخباب قاعداً في أناس ضعفاء من المؤمنين، فقالوا: إنا نريد منك مجلساً تعرف لنا به العرب، فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فنحِّهم عنا، (أو كما قالا)، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، فقال: نعم، فقالا: فاكتب لنا عليك كتاباً، قال: فدعا بالصحيفة ودعا علياً؛ ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبريل فقال: (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم....) الآية.(37/2)
قال محمد بن الحسين: وأحب له إذا جاءه من يريد أن يقرأ عليه من صغير أو كبير، أن يعتبر كل واحد منهم - قبل أن يلقنه من سورة البقرة - يعتبره بأنه يعرف ما معه من الحمد إلى مقدار: ربع، وسبع، أو أكثر مما يؤدي به إلى صلاته، ويصح أن يؤم به في الصلوات، إذا احتيج إليه، فإن كان يحسنه، وكان تعلَّمه في الكتاب أصلح من لسانه وقوَّمه، حتى يصلح أن يؤدي به الفرائض، ثم يبتدي ويلقنه من سورة البقر10 ويستحب كذلك لمن يلقن إذا قرئ عليه أن يحسن الاستماع إلى من يقرأ عليه، ولا يشتغل عنه بحديث ولا غيره، فالأحرى أن ينتفع به من يقرأ عليه، وكذلك ينتفع هو أيضاً، ويتدبر ما يسمع من غيره، وربما كان سماعه للقرآن من غيره فيه زيادة منفعة وأجرٌ عظيم، ويتأول قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)11 أن لا يدرس عليه وقت الدرس إلا واحد، ولا يكون ثانياً معه، فهو أنفع للجميع، وأما التلقين فلا باس أن يلقن الجماعة.
وينبغي لمن قرأ عليه فأخطأ، أو غلط أن لا يعنفه، وأن يرفق به، ولا يجفو عليه، فإنه لا يؤمن أن ينفر عنه، فلا يعود.
(وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له حاجة إلى أحدٍ من الناس، لا إلى الخليفة فما دون ذلك، وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه، قاله الفضيل بن عياض - رحمه الله - ) 12
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة13.
فمن كانت هذه صفته، أو ما قارب هذه الصفة، فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهداً، وشفيعاً، وأنيساً، وحرزاً، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه، ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده بكل خير في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 -البقرة: (121).
2 - أخرجه مسلم، رقم 244، (1/549).
3 - الحلية 8/355.
4 - المقصود بالحسد هنا: تمني بلوغ الخير الذي مع الغير، لا تمني زواله؛ كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)، رواه البخاري، ومسلم، واللفظ له.-
5 -(أخلاق حملة القرآن) أبي بكر أحمد بن الحسين الأجري - م سنة 360. ط1، 1408هـ - 1987م - مكتبة الدار بالمدينة المنورة - تحقيق عبد العزيز القارئ ص28.
6 - رواه أحمد 1/257، 58 ، 91 - وأبو داود (1/335) والترمذي (4/246)، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني (1173).
7 - مصنف بن أبي شيبة (6/164).
8 - أخلاق أهل القرآن - أبي بكر الأجري صـ111، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان - ط1، 1406هـ - 1986م.
9 - الأنعام (152).
10 - أخلاق أهل القرآن 117.
11 التوبة 204.
12 - أخلاق أهل القرآن 125.
13 - رواه أحمد (2/338) وأبو داود (2/289) وابن ماجه وغيرهم ,صححه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (227) .(37/3)
آذان صاحب الصوت الندي
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإنَّ من الصفات المستحبة في المؤذن، أن يكون صيتاً، حسن الصوت فصيحاً، وهذه صفة اتفق الفقهاء على استحبابه1. واستدلوا على ذلك بحديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت به فإنه أندى صوتاً منك)2. ومعنى: (أندى) أي أرفع وأعلى وأبعد، وقيل أحسن وأعذب3. واستدلوا كذلك بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- اختار أبا محذورة للآذان لكونه صيتاً، وذلك في قصة إسلامه، وطلب أبو محذورة من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يجعله مؤذناً بمكة- فقال: (قد أمرتك به)4. واستدلوا أيضاً بما روي أن مؤذناً أذن فطرَّب في أذانه، فقال له عمر بن عبد العزيز-رحمه الله-: أذِّن أذاناً سمحاً و إلاَّ فاعتزلن5. واستدلوا أيضاً بأن المقصود من الأذان الإعلام، وإذا كان المؤذن صيتاً ما أبلغ في الإسماع6. ولأن المؤذن إذا كان حسن الصوت فإنه يكون أرق لسامعيه، فيميلون إلى الإجابة7. فصاحب الصوت الحسن له تأثير عجيب في جذب قلوب الناس، وهز في قلوبهم الشوق إلى علام الغيوب، ومن ثم إتيانهم إلى المسجد لأداء الصلاة. فمن المشاهد أن المصلين في المسجد الذي مؤذنه حسن الصوت أكثر عدداً من غيره. ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يختار للأذان مؤذنين ذوي أصوات حسنة، كبلال بن رباح، وأبي محذورة، وابن أم مكتوم، ولذلك لما أذَّن بلال في عهد عمر ارتجت المدينة بالبكاء، وخرج الرجال والنساء إلى سكك المدينة، متذكرين وسائلين هل بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فما أجمل تلك الأصوات التي تجلل بالنداء من فوق تلك المنائر الشامخة شموخ الكلمات المنبعثة منها؟. إنها توحد الله، وتدعو إليه، وتعلم بدخول وقت الصلاة، التي أجل العبادات عند الله ومن أجلها شرع الآذان.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________
1 - راجع بدائع الصنائع(1/149). وفتح القدير(1/248). والمهذب مع المجموع(3/110). والمغني(2/70).
2 - أخرجه أبو داود في متاب الصلاة، باب كيف الآذان( سنن أبي داود(1/244 رقم(499)). وغيره. وحسنه الألباني في صحيح أبي داود(1/98) رقم(469). وفي إرواء الغليل(1/50) رقم(246).
3 - النهاية(5/32). ولسان العرب(14/97).
4 - القصة رواها مسلم مختصرة (1/287) رقم (379)، وأحمد مطولة (3/409). وغيرهما.
5 - أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(1/207 برقم(2375).
6 - مواهب الجليل(1/437). ومغني المحتاج(1/138) والكافي لابن قدامة( 103).
7 - الأم(1/87) المغني(2/70). ومغني المحتاج(1/138).(38/1)
آفات . . تقضي على المجتمعات
...
عبد الله عزام
بيشاور
سبع الليل
محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- سورة الحجرات تحوي أساس البناء الاجتماعي الإسلامي. 2- التحذير من السخرية. 3- التحذير من لمز المسلمين. 4- التنابز بالألقاب. 5- التحذير من آفات اللسان.
الخطبة الأولى
يا من رضيتم بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبياً ورسولاً، اعلموا أن الله قد أنزل في محكم التنزيل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم:
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون.
في سورة الحجرات، حيث تمثل أحد الأركان الأساسية في البناء الاجتماعي الإسلامي. إذ أن النظام الاجتماعي في الإسلام وترتيب الأسرة، وآداب الزيارة واللباس، وغير ذلك إنما يؤخذ من ثلاث سور: يؤخذ من سورة الحجرات، ومن سورة النور، ومن سورة الأحزاب.
وهذه السورة (الحجرات) على قصرها وعلى قلة آياتها إلا أنها ثقيلة جداً في ميزان الرحمن.. وثقيلة جداً في بناء الإنسان.. بناء هذا الكيان الذي تمثل مجموع لبناته المجتمع المسلم، ولن يكون مجتمع أبداً سواء كان جاهلياً أو إسلامياً ما لم يتمشّ المجتمع على خطوات هذا النظم الكريم، ويتبع هذه الآيات العظيمة الثقيلة في ميزان الله في الدنيا والآخرة.
إن المجتمع مكون من أشخاص، ولن يكون هنالك مجتمع أبداً ما لم تكن بينه روابط قوية، ووشائج وثيقة، وصلات عميقة، تحفظ هذا البنيان من الانهيار وتحميه من التحطم والاندثار.
آيتان فقط...
آيتان فقط في هذه السورة أشارت إلى معانٍ عميقة في الحياة الإنسانية.. كيف يكون الإنسان ضمن المجموعة المسلمة؟ كيف يعيش الفرد ضمن إطار المجتمع المسلم؟ الذي بناؤه المحبة.. صلاته المودة؟ وإلا، إن لم تتبع الحركة الإسلامية هذا النظام، وإن لم تلتزمه منهجاً – وخاصة هاتين الآيتين – فلم يكون بيت مسلم، ولن تكون حركة إسلامية، ولن تصل في يوم من الأيام إلى مراميها، ولن تجد مرادها في واقع الأرض أبداً.
آيتان فقط...
إن الصلات بين المسلم والمسلم قائمة – كما قلنا – على المحبة، فإذا أراد البيت المسلم بعداده الذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وإذا أرادت الحركة الإسلامية التي لا تتجاوز بعدادها المئات أو الآلاف، وإذا أراد المجتمع المسلم الذي يكوّن نواة حية للعالم كله.. إذا أراد هؤلاء أن يقوموا على قواعد وثيقة، وأن يضربوا في الأرض جذوراً عميقة، لابد أن يلتزموا هاتين الآيتين.
آيتان فقط...
فإذا لم تنتبه الأسرة المسلمة إلى هاتين الآيتين، تنقلب الأسرة إلى شركة اقتصادية، وأحياناً بلا رواتب فيها، كل يؤدي دوره متثاقلاً، الملل يقتله، والسآمة تزهق روحه، ويتمنى الوقت الذي يتخلص من هذا العش الذي يجب أن يكون هادئاً.
وإذا لم تنتبه الحركة الإسلامية إلى هاتين الآيتين . . . فكذلك تتحول إلى شركة اقتصادية، لا رأس مال لها، ولا رواتب في داخلها، كل يأتي إلى دوره المكلف به متثائباً متثاقلاً، يشعر أن مسئوله فوق صدره كحجر الطاحون، وأن دعوته التي يعمل فيها كأنها فكي رحى تسحق كيانه، وتبيد حياته، وتهدد وجوده.
لا يمكن أبداً لحركة إسلامية، ولا لبيت مسلم يعيش في هذا الحال، أن يستمر دواماً. . . لابد أن يتفلت أفراده، وأن يتشتت أعضاؤه، وأن يتمزق لقاؤه، وأن يذرى هباءً أدراج الرياح.
والآيتان الكريمتان:
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم [الحجرات:13].
ثلاث نواهٍ تضمنتها الآية الأولى.
الأولى: عدم السخرية.
والثانية: عدم اللمز.
والثالثة: عدم التنابز بالألقاب.
الأولى: عدم السخرية: والنهي في القواعد الأصولية يقتضي التحريم، ما لم تصرفه عن التحريم قرينة إلى الكراهية، ولم يقل أحد بأن السخرية بالمسلم مكروهة، بل كادت الأمة تجمع أن السخرية محرمة بالإجماع، وأنها من الكبائر، وأنها لا يكفرها الاستغفار البسيط، بل لابد لها من توبة بشروطها.
ويكفينا حديث مسلم الذي خرج من فم النبوة الشريف: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره (لا يتوانى عن نصرته ولا يحقره).. التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره صلى لله عليه وسلم (ثلاث مرات) – بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)) – يكفيه شراً، ويكفيه إثماً. . . أي ليس بعد هذا الإثم إثم – ((بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه))[1].(39/1)
والعرض ليس فقط العورة المغلظة، بل العرض هو محل الذم أو المدح من الإنسان.. فإذا اغتبت إنساناً فقد نلت من عرضه، وإذا نممت على إنسان فقد جرحت عرضه، وإذا سخرت منه فقد انتقصت من عرضه ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)).
ولم يغفل رسول الله عن هذه القضية المهمة في بناء المجتمع المسلم، فلقد كانت ركناً ركيناً في خطبته التي ودع بها أصحابه والدنيا، يوم أن وقف يوم الحج الأكبر يسألهم: أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ أليس اليوم الحرام؟! فقالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))، ولم يكتف بذلك، بل قال أخيراً: ((ألآ هل بلغت، قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد))[2].
إن المحبة لن تقوم بين شخصين ما لم تحفظ ضروراته الخمس التي جاء كل دين ليحفظها. . جاء كل دين ليحافظ على ضرورات الإنسان الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال. فإذا أردت أن تبقى الصلة قائمة بينك وبين أخيك، - إن لم تفده ولم تنصره ولم تقدم له ولم تحفظه – فلا أقل من أن تكف عنه أذاك، وأن تبعد عنه شرك. فإن انتقصت من عرضه، أو نلت من شرفه، أو أكلت ماله، أو سفكت دمه، فكيف لك بقلب هذا أن يميل إليك؟!.
هذه الضرورات الخمس، أقل الصلة الحفاظ عليها، وعدم المساس بحرمتها.
قاعدة أصيلة في بناء المجتمع المسلم.
قاعدة أساسية في بقاء البيت المسلم، والحركة المسلمة، والمجتمع المسلم، والأمة الإسلامية كلها.
ولماذا السخرية؟ لن تنتج السخرية من الصغار بالكبار، إن السخرية ناتجة عن شعور بالغرور والكبر إزاء الآخرين، الذين تنظر إليهم بعين الانتقاص والازدراء، إن الصغار لا يسخرون من الملوك، بل السخرية تأتي من الكبار إلى الصغار، ومن أنت؟ هل ترفعت على الناس وتكبرت عليهم بمالك أو بجاهك أو بعزك؟ من أين أخذت هذا؟ أليس الذي وهبك يستطيع أن يسلبك؟!! ألم تعلم أنه يعز من يشاء ويذل من يشاء، يخفض القسط ويرفعه، يرفع أناساً ويضع آخرين؟ ألم تعلم أنك وإن كنت ملكاً فإذا سخرت من الناس فإنك تعصي الله بهذا، وكما قال الحسن: (إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه).
ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاءْ [الحج:18].
على من تترفع؟ على هذا المسكين والضعيف؟!! ألم تعلم أن رسول الله قال: ((رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره)) وفي رواية: ((منهم البراء بن مالك))[3] حيث كانوا إذا اشتد الوطيس، واحمر الحدق، ودارت الدائرة على المسلمين، يأتون إلى البراء يقولون: يا براء أنت الذي قال فيك : ((رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره)) فينظر إلى السماء يشير بإصبعه يقسم على الله ليهزمن القوم.. أقسمت عليك لتمنحنا أكتافهم إلا منحتنا أكتافهم، فلا يرد يديه إلى الأرض إلا وتبدأ هزيمة الأعداء، هؤلاء المدفوعون بالأبواب، هم الذين يحمون المجتمعات من الدمار، من الزلزلة الإلهية، من العذاب الرباني. . ((خير الناس الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة عمياء مظلمة))[4].
ثم من أنت في ميزان الله عز وجل؟ أما بلغك حديث البخاري يوم أن مر رجل أمام النبي فقال لرجل عنده: ((ماذا تقول في هذا؟، فشهد الصحابي: هذا حري به إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفّع، فسكت رسول الله ، ثم مر رجل فقال : ما رأيك في هذا؟ قال: حري به إن خطب ألا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع له، فقال : خير من ملء الأرض من ذاك)) والاثنان ممن صحب رسول الله . ((خذا خير من ملء الأرض من ذاك)). لأن ظاهرهما الإسلام. . الرجلان ظاهرهما الإسلام. . ولا يوجد شيء أفضل من ألف شيء من جنسه سوى الإنسان.
فكم رجل يعد بألف رجل وكم ألف تمر بلا عداد
ولن تجد فرساً أفضل من ألف فرس، ولا بعيراً أفضل من ألف بعير، ولا حماراً أفضل من ألف حمار. . ولكن الإنسان قد يعدل ملء الأرض من مثله من جنسه. ((هذا خير من ملء الأرض من ذاك)).
ثم يا أخي: لماذا تتكبر؟ ولماذا الغرور؟ ألم تعلم بأن المعصية بسبب الغرور يخشى أن لا تغفر، والمعصية بسبب الشهوات والذنوب قد تغفر. . ألم تعلم أن إبليس قد عصى الله بغرور فلم يغفر الله له، وآدم عليه السلام عصى الله بشهوة فغفر الله له. . إياكم والغرور، وفي الصحيح: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر))[5].
لماذا تترفع على الآخرين؟! ولماذا تعيبهم؟ ألا تنظر إلى نفسك؟! عدد عيوبك يا أخي قبل أن تعدد عيوب الآخرين، وانظر إلى نقائصك قبل أن تنتقص الآخرين.
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى وحظك موفورٌ وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلك عوراتٌ وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً يوماً فقل يا عين للناس أعين(39/2)
فصاحب بمعروفٍ وسامح من اعتدى وفارق ولكن بالتي هي أحسن
ألم تعلم أن النار خصت بالمتكبرين، والجنة خصت بالمستضعفين.. في صحيح البخاري ((تحاجت الجنة والنار – تجادلت الجنة والنار – قالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم، فقال الله تعالى للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء.. وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل ملؤها))[6].
لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم.
وغالباً يكونون خيراً منهم، المسخور منهم خير من الذين سخروا بهم.
الثانية: عدم اللمز.
ولا تلمزوا أنفسكم، واللمز والهمز تعرض إليهما رب العزة كثيراً في كتابه، واللمز هو المعيبة باللسان، والهمز بغير اللسان. . بالإشارة أو اليد أو غير ذلك. أو اللمز في الوجه، والهمز في الغيبة. . اللمز الطعن في الوجه في حضور المطعون به، والهمز في غيبته وفي عدم حضرته. . والله عز وجل يقول: ويل لكل همزة لمزة والله عز وجل يقول: ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتدٍ أثيم عتلّ بعد ذلك زنيم [القلم:10-13].
ولا تلمزوا أنفسكم. تعبير رباني لا يقدر عليه البشر، لأنك عندما تلمز أخاك وتعيبه إنما تعيب نفسك، لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان و((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[7].
الأمة المسلمة جسد واحد لا تشتغل إلا كلا: فأحدٌ عينها، وآخر أذنها، وثالث قلبها، ورابع يدها، وخامس رجلها. وأي عضو أو شلو من الأشلاء يفقد، إنما تنتقص الأمة المسلمة في إنتاجها وعطائها وبذلها وتضحيتها. . فعندما تلمز أحداً من المسلمين إنما تلمز نفسك.
إن ذوي الألباب الضيقة لا ينظرون إلى الإسلام إلا من خلال مجتمعهم الصغير. . إلا من خلال مجموعتهم القليلة، وهذا لعمر الله ضرر بالإسلام وضرر بالإنسان. . ضرر بالإنسان الذي يظن أن إصبع رجله بعيد عن إصبع يده، لأنك أنت ومجموعتك أو أنت وتنظيمك، وأنت وحزبك، إنما تمثل من الإسلام والمسلمين. . ماذا؟! إنما تمثل جزءاً قليلاً من رأس أنملة، فإذا أخذت سكيناً حاداً، أو سيفاً ماضياً وقطعت إصبع رجلك لأن إصبع الرِجل بعيد عن إصبع اليد، إنما تقطع جزءاً من أجزائك، وتنفي شلوا من أشلائك، وتبعد كياناً وجارحة من جوارحك. . هذه تفيدك في السراء والضراء. . في أيام الشدة والرخاء، لا تستغني عنها، فإذا قطعت إصبع الرجل تبدأ الجراثيم والآلام تغزو جسمك من هذا الجزء الذي كان ثغراً محمياً بأخيك، فتبدأ الجراثيم تدخل دمك حتى تصل إلى مجموعتك فتنهكها وتهلكها وتشلها وتنهيها.
المسلم والأمة المسلمة كيان واحد. . جسدٌ واحد.
وكيف لك أن تطلق عينك بالسخرية والنظر باحتقار وازدراء للناس، وتطلق لسانك بالنميمة واللمز وغير ذلك، إنما أنت يا مسكين تقطع أعضاءك وتعمل في أمعائك، كجبار يمسك سكيناً بيده، قد بلغ به الغيظ أبلغ مداه، فيعمل في بقر بطنه، وعلى لوك أمعائه، ويلوكها بمرارة وحقد ليشبع حقده. . وماذا؟
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ وكذلك أنزلنه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد [الحج:15-16].
في مسند أحمد: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته)).
ونتيجة تتبع عورات المسلمين باللمز والهمز ثلاث نتائج ظاهرة:
النتيجة الأولى: أنها علامة النفاق. ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم..)) فالطعن بالناس إنما هي علامة النفاق وليست علامة الإيمان ((ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا بالبذيء ولا بالفاحش ولا بالمتفحش)) [حديث صحيح[8]. ولذلك عندما دخل اليهود على رسول الله وردوا عليه السلام قالوا: السام – يعني الموت – عليك يا أبا القاسم، فسمعت عائشة رضي الله عنها لفظ اليهود فقالت: وعليكم السام والذام واللعنة، فقال: ((يا عائشة – صلى الله عليك يا رسول الله -: إن الله يكره الفحش والتفحش، ألم تسمعي ما قلت: لقد قلت لهم: وعليكم، قالوا: السام عليك، قلت: وعليكم))[9]. فلم يقبل من عائشة رضي الله عنها أن ترد عليهم زيادة بل أن تخرج لفظا واحداً بذيئاً من فمها الطاهر، قال: إن الله يكره الفحش والتفحش عندما قالت – ماذا-؟ (وعليكم السام والذام واللعنة).
ثم العيب قسمان: إما أن يكون صحيحاً في أخيك إذ لمزته في وجهه، وإما ألا يكون فيه.. فإن لم يكن فيه فويل لك ثم ويل لك.(39/3)
اسمع ماذا يقول في الحديث الذي رواه الطبراني وهو صحيح: ((من ذكر امرئٍ بشيء فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه))[10]. حتى يحقق ما قال فيه، ولن يتحقق أبداً، كيف وهو كذب؟! ((من ذكر امرئً بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ ما قال فيه)).
ولذلك يا أخي الحبيب إياك ولسانك..
احذر لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه قد كان هاب لقاءه الشجعان
وكَلم اللسان أنكى من كلم السنان، لأن كلم السنان يبرأ لأنه في الجلد، وأما كلم اللسان فلا يبرأ لأنه يكسر القلوب، ومن الصعب أن تعود القلوب سليمة بعد كسرها.
اسمع رواية البخاري عن بلال بن الحارث المزني قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة))[11].
يُلقي الرجل الكلمة لا يُلقي لها بالاً وهو يحتسي القوة والشاي ويريد أن يملأ فراغه ويضحك خلاّنه أو يسر الذين يسامرونه وجلساءه، فيتكلم الكلمة سخرية من أخيه المسلم أو لمزاً أو همزاً، هذه الكلمة يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم القيامة، قال علقمة: (كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث أن أقوله). . (كم من كلام منعنيه أن أقوله حديث بلال بن الحارث). . كلمة. . والحديث في البخاري ورواه أحمد، يعني حديث صحيح لا مراء فيه ولا شك.
الثالثة: عدم التنابز بالألقاب.
ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب. . وقد نزلت هذه الآية في بني سلمة. . قدم المدينة المنورة، فوجد للصحابة الأنصار مجموعة من الأسماء، فكان إذا دعا صحابياً باسمه يقولون: له يا رسول الله إن هذا اللقب يكرهه هذا الأخ، فنزلت الآية لتمنعهم من الألقاب الكريهة.. وماذا يضرك لو تكلمت بكلمة طيبة؟ قد حرمك الله الخير كله.
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
قلبك – نعوذ بالله منه – ملئ بالحسد والحقد والبغضاء والضغينة على المسلمين، لسانك لا يتكلم بخير، وجهك لا يتفرد عن ابتسامة. . محروم من الخير كله، وهذا حرمان ليس بعده حرمان، ماذا عليك لو بسطت وجهك وفردت أساريرك في وجه أخيك؟ وتبسمك في وجه أخيك لك صدقة. . ماذا عليك لو دعوت أخاك بأحب الأسماء إليه لتدخل السرور على هذا القلب الذي قد يكون منكسراً فتجبره هذه الكلمة، وقد يكون متألماً فتشفيه هذه اللفظة، ماذا عليك؟ ((أشحة عليكم)) بخيل حتى بالكلام! بخيل حتى بالسلام! بخيل حتى بطيب الكلام! ((ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))، ((وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)). ((ولا يزيد في العمر إلا البر))، إلا العمل الطيب، فاملأ قلبك محبة، إنما بهذا تمد على نفسك ينبوعاً صافياً من الحسنات لا يتكدر، فالحسنات تتصبب عليك وأنت في بيتك، لا تتحرك ولا تعمل بحبك للمؤمن، في الصحيح: ((وما أحب عبد أخاه إلا كان أحبهما إلى الله أكثرهما حباً لأخيه))، ((عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به))، ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك))، – الحديث صحيح في الترمذي – ((وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مسلماً، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً))[12].
ثلاث نواه كلها محرمة: السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، ونتيجة أية واحدة من الثلاث جزاؤها شيئان عند الله: تأخذ من الله اسمين وتفقد اسماً عظيماً، كان اسمك عند الله مؤمنا، فأعطاك الله بدله اسم الفسق والفسوق، وإذا لم تتب بسرعة فيعطيك لقباً آخر: الفسق والظلم.
بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون.
هل اشتريت باسم المؤمن عند الله اسم الفاسق؟ّ! بعت اسم المؤمن واشتريت اسم الفاسق والظالم معا. . بماذا؟! بهمزات لسان، وومضات شفاه، أو تلمظ شفاه على أخيك، أو حركات قلب نحوه، تعس من تخلى عن اسم مؤمن، وأخذ من رب العزة – الذي لا معقب لكلماته، ولا راد لقوله، ولا معقب على حكمه – اسمين اثنين: اسم الفسق، واسم الظلم، بئس.. أي لعنة هذه البيعة التي بعت بها إيماناً واشتريت بها فسقاً وظلما!!.
وأما الآية الثانية فلم يعد عندنا وقت لها، ولعل الله عز وجل يمد في أعمارنا ويبارك بها – إن شاء الله – فنلتقي بكم في خطبة أخرى لنلتقي ونعيش في ظلال هذه الآية الكريمة من سورة الحجرات.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.. .
[1] صحيح مسلم 16/120.
[2] أصل الحديث في الصحيحين وانظر ((صحيح الجامع الصغير)) 2068.
[3] ورد في ((صحيح الجمع الصغير)) بنحوه 4573.
[4] هذا القول ورد به أثر كما في ابن ماجة والبيهقي في الزهد والحاكم وقال: صحيح ولا علة له (انظر الترغيب والترهيب 3/444).(39/4)
[5] جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه أنر صحيح الجامع الصغير 7674).
[6] رواه البخاري بنحوه (أنظر صحيح الجامع الصغير 2919).
[7] رواه البخاري في صحيحه (أنظر صحيح الجامع الصغير 5849).
[8] رواه بنحوه في صحيح الجامع الصغير 5381.
[9] أصل القصة في البخاري وانظر صحيح الجامع الصغير 187.
[10] رواه الطبراني بأسناد جيد كما في الغريب والترهيب 3/515.
[11] الحديث روي نحوه في الصحيحين وهذه رواية الترمذي وهي صحيحة (أنظر صحيح الجامع الصغير1619).
[12] الحديث صحيح مع زيادة ((ولا تكثر من الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) (صحيح الجامع100).
الخطبة الثانية
الحمد لله ثم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، رحم الله امرئً عرف حده فوقف عنده و((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)).
ويل لكل همزة لمزة.
وويلٌ: كلمة عذاب وتهديد، وقال بعض المفسرين: واد في جهنم.
نحن إخوة، وكل مسلم في أرجاء الأرض إنما هو أخوك تجمعك به هذه الوشيجة، وشيجة الإسلام، ولا تظننّ أن الصيام والصلاة والزكاة أعظم عند الله من صون حرمات المسلم ونصرته وعدم خذلانه، ولا تظننّ أن الزنا والربا أعظم حرمة من عرض المسلم في الصحيح ((الربا بضع وسبعون شعبة، أدناها كأن يزني الرجل بأمه تحت ستار الكعبة)) – حديث صحيح – ((وإن أربا الربا استطالة المسلم في عرض أخيه المسلم))[1]. أعظم من هذا!!. . أعظم من نكاح أمه تحت ظلال الكعبة، والله لقد كنت أظن أن الحديث ضعيف حتى رأيته في سلسلة الأحاديث الصحيحة أو في صحيح الجامع الصغير للألباني، وأربا الربا إستطالة المسلم في عرض أخيه.
قطعة صغيرة لا تتعدى بضعة سنتيمترات، تقبل أن تجرك إلى النار وأنت راض، قطعت صغيرة، قطعة لحم، مضغة قد جعلها الله بين سجنين عظميين، في داخل أربعة سجون، سجون عظميّة، فكين عظميين وشفتين، حتى تنتبه إلى الخلقة الربانية فلا تطلقها على عنانها، وجعل لك ربك أذنين اثنتين، أذنين اثنتين ولساناً واحداً حتى تسمع أكثر مما تقول: ((وبحسب امرئ من الكذب أن يحدث بكل ما سمع)) من حدث بكل ما سمع فهو كاذب.
يا أخي الحبيب!
ما الذي شتتنا؟ ما الذي مزق كياننا؟ ما الذي فرق جماعتنا؟ ما الذي دمّر مجتمعاتنا؟ ما الذي أضرنا وهز وجودنا إلا هذا اللسان؟ إلا هذه المضغة التي لا ترعى فيها بمسلم إلاً ولا ذمة؟.
فيا أخي إن حدثتك نفسك أن تعيب أخاك فانظر إلى عيوبك، وكما قال عيسى بن مريم عليه السلام عندما جئ بامرأة زانية، فأخذ القوم كلهم يتولون ويتحوقلون ويسترجعون ويستنكرون، فقال لهم سيدنا عيسى عليه السلام من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها.
والحمد لله أن رائحة الذنوب لا نشمها، فقد جاء في بعض الآثار قرأتها في فتاوى ابن تيمية (مجموع الفتاوى) على أن العبد إذا أذنب ذنباً تباعد عنه الملك ميلاً من رائحة الذنوب، الحمد لله أننا لا نشم ذوبنا وإلا فرائحتنا تزكم الأنوف، ومقدار ذنوبنا يطبق الأرض نتنا، وهل كلامُنا أقل من كلمة عائشة رضي الله عنها في حديث رواه أبو داود عن رسول الله عندما قالت للرسول عن صفية؟ قالت له: حسبك من صفية كذا وكذا تعني أنها قصيرة فقال : ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته))[2]. أي لو اختلطت بماء البحر لأنتن البحر كله، والبحر لا ينتن لأن أملاحه كثيرة، ولكن هذه الكلمة – إنها قصيرة وهي تُرى قصيرة – أنتنت ماء البحر لو مزجت به.
يا أخي إياك ولسانك، لا تنظر إلى عيوب أخيك، انظر إلى عيوبك قبله، أو كما قال في الصحيح: ((يرى أحدكم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه))، القذى الصغير في عين أخيه يراه ويكبره، ولا يرى الجذع الذي هو في داخل عينه، يعني أن ذنوبك ومعايبك ونقائصك أكبر وأعظم من أن تنظر إلى زلة من زلات أخيك، والمسلم لا يتتبع الزلات لأن المروءة تقتضي أن يعفى عن الزلات، وكما قال : ((أقيلوا – يعني اسمحوا واغفروا – أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم، فوالذي نفسي بيده إن أحدهم ليعثر ويده بيد الرحمن))[3].
ومن هنا قرر المالكية أن الدعاوى على المعروفين بالصلاح لا تقبل من المستهترين والفساق، وإذا جاء فاسق يرفع دعوى – إلى محكمة إسلامية – على رجل معروف بصلاحه وتقواه يسجن هذا المستهتر الفاسق حتى لا يتطاول الأشرار على الأبرار، وحتى لا تستطيل ألسنة الفساق في أعراض الخيار الذين عرفوا بصلاحهم وتقواهم.
احفظوا ألسنتكم وافتحوا صفحة جديدة مع ربكم، ولسوف نكمل الحديث إن شاء الله، فنلتقي بالغيبة وبآثارها وبالتجسس ومصائبه على المجتمع المسلم وبالظن السيء وآثاره التي نكبت الأسر والمجتمعات والحركات، حتى نصل إليها، عاهد ربك أن تفتح صفحة جديدة وأن تمسك هذا اللسان بلجام.(39/5)
وكما كان بعض الصحابة أحياناً يضع حصاة صغيرة في فمه حتى لا يتكلم، وأحيانا يمسك بلسانه ويقول: (هذا الذي أوردني المهالك)، وإنك هالك – ولا محالة – إذا أتبعت نفسك هواها وأطلقت للسانك عنانه، وكما قال معاذ لرسول الله : أو نؤاخذ على كلامنا يا رسول الله؟ قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم))[4].
وإذا كثرت الفتن فابك على خطيئتك وأمسك عليك لسانك.
[1] نص الحديث (الربا اثنان وسبعون باب أدناها مثل إتيان الرجل أمه ، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه) صحيح الجامع 3537.
[2] صحيح الجامع 5140.
[3] الحديث صحيح دون زيادة ((فوالذي نفسي . . )) أنظر صحيح الجامع1185.
[4] جزء من حديث معاذ الطويل رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(39/6)
... ... ...
آفات اللسان ... ... ...
عبدالحميد الداغستاني ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. 2- رب كلمة وضعت صاحبها في النار. 3- الحث على قلة الكلام. 4- خطر اللسان على صاحبه وعلى بقية جوارحه. 5- أقوال الصحابة في حبس اللسان. 6- من آفات اللسان السب واللعن والفحش والكذب والبذاءة. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد: يقول الله عز وجل: إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:17-18].
أيها المسلمون: في هذه الآية تذكير للمؤمنين برقابة الله عز وجل التي لا تتركه لحظة من اللحظات، ولا تغفل عنه في حال من الأحوال، حتى فيما يصدر عنه من أقوال، وما يخرج من فمه من كلمات؛ كل قول محسوب له أو عليه، وكل كلمة مرصودة في سجل أعماله: ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ق:17-18]. يسجله الملكان في الدنيا ويوم القيامة ينكشف الحساب ويكون الجزاء .
روى الإمام أحمد والترمذي عن بلال بن الحارث رضي الله عنه قال :
قال رسول الله : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه ))(2).
ولذلك كان علقمة رحمه الله وهو أحد رواة هذا الحديث يقول: (كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث) فكان يمتنع عن كثير من الكلام حتى لا يسجل عليه قول أو ترصد عليه كلمة من اللغو الذي لا فائدة فيه: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون [المؤمنون:1-3].
ومن هنا أيها الأخوة كان حرياً بالمسلم أن يضبط لسانه، ويسائل نفسه قبل أن يتحدث عن جدوى الحديث وفائدته؟
فإن كان خيراً تكلم وإلا سكت والسكوت في هذه الحالة عبادة يؤجر عليها، وصدق رسول الله إذ يقول: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) رواه البخاري ومسلم(2).
واللسان هو ترجمان القلب، وقد كلفنا الله عز وجل أن نحافظ على استقامة قلوبنا واستقامة القلب مرتبطة باستقامة اللسان، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ))(3).
وروى الترمذي عن رسول الله قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا ))(4).
أيها الأخوة في الله :
إن كثيراً من الأمراض التي تصيب العلاقات الاجتماعية من غيبة، ونميمة، وسب، وشتم، وقذف، وخصام، وكذب، وزور وغيرها … فللسان فيها أكبر النصيب، وإذا سمح الإنسان للسانه أن يلغو في هذه الأعراض وغيرها كان عرضة للنهاية التعيسة والإفلاس في الآخرة، وشتان بين إفلاس الدنيا وإفلاس الآخرة.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: المفلس من أمتي من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ))(1)
وروى الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ. وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟ ))(2) أي جزاء ما تكلموا به من الحرام .
وبالمقابل أيها الأخوة فإن ضبط المؤمن للسانه ومحافظته عليه وسيلة لضمان الجنة بإذن الله، وهذا وعد رسول الله : ((من يضمن لى ما بين لحييه (يعني لسانه) وما بين رجليه (يعني فرجه) أضمن له الجنة ))(3) أخرجه البخاري .
أيها المسلمون :
لقد كان خوف السلف من آفات اللسان عظيماً. فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (وما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان ). وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعلت أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تكلم به .
وقال عمر رضي الله عنه: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به.
وكان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بلسانه ويقول: ويحك قل خيرا تغنم، واسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم .
فاتقوا الله عباد الله واضبطوا ألسنتكم، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تتلفظوا، فما كان خيراً فتكلموا به، وما كان سوءاً فدعوه، واحذروا من آفات اللسان فإنها لا تزال بالمرء حتى تهلكه .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [الأحزاب:70-71].(40/1)
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
(2) صحيح البخارى : كتاب الأدب ، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره 7/ 79 . وصحيح مسلم : كتاب الإيمان ، باب الحث على إكرام الجار والضيف 2/ 18 .
(3) المسند 3/ 198 .
(4) سنن الترمذى : كتاب الزهد باب ما جاء فى اللسان 4/ 605 .
(1) صحيح مسلم : كتاب البر والصلة ، باب تحريم الظلم 16 / 135 .
(2) سنن الترمذى : كتاب الإيمان ، باب ما جاء فى حرمة الصلاة 5/ 12 .
(3) صحيح البخارى : كتاب الرقاق ، باب حفظ اللسان 7/ 184 . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم واقتدى بهم إلى يوم الدين .
أما بعد فيا عباد الله :
إن آفات اللسان كثيرة ومتنوعة، منها ما نلاحظه في بعض المجالس والاجتماعات من بذاءة في الألفاظ وفحش فى الكلام، ومن سب ولعن وشتم بأساليب عديدة، تجري على الألسنة بسهولة ويسر، ودون تفكير في العاقبة، ولا تطيب المجالس عند البعض، ولا يحلو الحديث إلا بهذه الأساليب الساقطة التي تناقض الحياء الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، والأنكى من ذلك والأشد أن بعض النفوس استمرأت عليه، ويرون أنه من باب المزاح والتسلية وقضاء الأوقات وتحلية المجالس، وما علم هؤلاء أنهم وقعوا بذلك في الفسق وأضاعوا أوقاتهم، وحملوا أنفسهم الأوزار .
يقول رسول الله : ((سباب المسلم فسوق ))(1)رواه البخاري ومسلم.
وفي الحديث الذي يرويه البيهقي: ((إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليضحك بها المجلس يهوى به أبعد ما بين السماء والأرض، وإن المرء ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه ))(2).
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: ((إياكم والفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ))(3).
ويقول فيما روى الترمذي: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء ))(1).
ويقول فيما يرويه البخاري: ((وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم ))(2).
نسأل الله العافية .
فاتقوا الله أيها المسلمون وراقبوا أقوالكم وأعمالكم ولا تدعوا للشيطان عليكم سبيلاً: وقل لعبادى يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً [الإسراء:53].
اللهم اجعل في قلوبنا نوراً وفي ألسنتنا نوراً وفي أسماعنا نوراً وفي أبصارنا نوراً برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت .
اللهم طهر قلوبنا من النفاق وألسنتنا من الكذب والفحش يارب العالمين .
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
(1) صحيح البخارى : كتاب الإيمان ، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر 1/ 17 . وصحيح مسلم : كتاب الإيمان باب سباب المسلم فسوق وقتاله كفر 2/ 54 .
(2) الجامع لشعب الإيمان 9/ 127 .
(3) صحيح مسلم : كتاب السلام باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام 14 / 147 .
(1) سنن الترمذى : كتاب البر والصلة باب ما جاء في اللعنة 4/ 350 .
(2) صحيح البخارى : كتاب الرقاق ، باب حفظ اللسان . 7/ 185 . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(40/2)
آفة الإستعجال
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبدالرحمن الحوالي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد:
فنحمد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي وفقنا للإيمان به، والتمسك بكتابه، واتباع سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما نحمده حيث يسَّر المراكز التي احتضنت الشباب فربتهم وغذتهم، ووسعت مداركهم، وفقهتهم في دينهم، وحفَّظهم من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونمّت عقولهم وأجسامهم، فشكر الله تعالى للقائمين عليها، وأجزل مثوبتهم عنده، ووفق جميع الآباء والطلاب للالتحاق بها وبأمثالها إنه سميع مجيب.
ثم إن من الموضوعات المهمة: منهج الدعوة، والأسلوب الصحيح في إنكار المنكر، وفي فقه الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي طلب العلم، وكل ما من شأنه أن يكون منهجاً مسدداً صائباً وفق منهج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من الموضوعات المهمة في فقه الدعوة: ما يتعلق بالاستعجال، فهذا أمر جدير بالبحث والمطارحة والمناقشة من الجميع، وسوف أذكر إن شاء الله ما يسر الله لي ولو بإشارات إلى رءوس الموضوعات.
أول ما نقوله في هذا الشأن: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]، وقال عز وجل: وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً [الإسراء:11] فالإنسان بطبيعته عجول، والنفس الإنسانية بطبيعتها عجلة، وهذا أمر جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها لحكمة عظيمة، لا نستطيع الآن أن نستعرضها، ولكن حكمة الله أن يكون في الإنسان هذا الطبع وهذه الصفة وهذه الغريزة.
ولو أن الناس لم يمنحهم الله تبارك وتعالى العقل والأناة، لأكلوا الثمار قبل أن تنضج، ولربما أكلوا الطعام قبل أن ينضج، إذ في الإنسان هذا الطبع، فإذا كان في طبع الإنسان باعتباره إنساناً أياً كان مؤمناً أو كافراً أن يستعجل، وخلق من عجل، فهذا يوضع في الاعتبار بالنسبة للإخوة الدعاة وبالنسبة للناس المدعوين.
أما بالنسبة للدعاة فيجب أن يحمل بعضنا بعضاً على المحمل الحسن، وإذا رأينا هذا الاستعجال من أنفسنا أو من إخواننا الدعاة، فلنعلم أن الطبيعة البشرية قد غلبت جانباً آخر، فلنذكِّر أنفسنا به، وهو "الحكمة والأناة"، حتى لا تغلبنا هذه النزعة وهذه العاطفة.
وبالنسبة للمدعوين نحتاج إلى أناة، إننا نريد أن نقول الكلمة اليوم فنرى أثرها عاجلاً الآن أو غداً، نريد أن نقول للناس: هذا حرام، فينتهي الجميع عنه، أو نقول لهم: هذا واجب، فسرعان ما نجدهم قد فعلوه، وامتثلوا أمر الله فيه.
والأمر ليس كذلك أبداً، فلِكَوْنِ الاستعجال من طبيعة البشر، ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في القرآن بياناً شافياً كافياً له احتى يغير به الأمور والأحوال.
ومن ذلك ما ذكره الله في آيٍ كثيرة أن الرسل الكرام عندما يدعون أقوامهم إلى الله وتوحيده يخوفونهم من عذاب الله، وينذرونهم عاقبة المعاصي، والظلم، والجور، والفساد، فإن الجواب عند كثير من الأمم هو استعجال العذاب وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
انظر حلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسنن الله! يستعجلون أن تحل بهم العقوبة، ولهذا جاء الرد عليهم في آيٍ كثيرة، قال الله تبارك وتعالى: أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:204-207].
سبحان الله! يستعجلون بالعذاب اليوم، لو فكروا كم سيعيشون، أرأيت إن أمهلهم الله وجعلهم يتقلبون في البلاد؟! أهذا يعني أنه لن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر؟! سبحان الله! أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ [الشعراء:205] هب أن الأمر كان كذلك ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:206-207] هنا المحك، وهنا المعيار.
سل من تمتع وتقلب في أنواع الملذات العمر كله، لحظة أخذ الله له أخذ عزيز مقتدر، هل أغنى عنه ذلك المتاع شيئاً؟! قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [يونس:50]، فإذا أتاه العذاب تذهب تلك النعمة، وتلك اللذات والشهوات، ولهذا في الحديث الصحيح: {أنه يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الأرض من أهل الدنيا، وهو من أهل النار، فيغمس في النار غمسة واحدة، فيقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ هل ذقت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله، ما ذقت نعيماً قط والعكس، يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة واحدة، يقال له: هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله! ما ذقت بؤساً قط }.
إذاً العبرة بالنتائج، فلماذا نستعجل؟(41/1)
فالمشركون يستعجلون العذاب في معرض التحدي للرسل، وأن الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- غير صادقين فيما يعدون به من العذاب، والرسل الكرام يحذرونهم ويبينون لهم أن هذا الإمهال ليس إهمالاً، وأن التأخير ليس إغفالاً، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يمهلهم، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته؛ ولذلك يضرب المثل بالأمم التي سبقت من قبلنا تنعمت وعصت أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:6-14]، فلم الاستعجال إذاً؟!
ألا ترون ما فعل الله بحضارة عاد؟! وهي من الحضارات المندثرة، التي يحكى عنها الغرائب، كما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه لما دخل مدينة دمشق ورأى ما فيها من النعمة والترف بالنسبة إلى ما كان يراه في المدينة ، [[يا أهل دمشق ، ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون؟! إن الأمم قبلكم قد بنوا فشادوا، وجمعوا فأوعوا، وإنه قد بلغنا عن عاد أنهم بنوا لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، فمن منكم يشتري تركة آل عاد بدرهمين؟ ]] لا أحد، لأنه لا وجود لها، فقد محيت، وذهب بها الله.
و الحضارة الفرعونية إلى الآن، لم يصل العلم الحديث إلى كثير مما كانوا يتعاملون به مع التقنية واستخدام العلم، مثل تحنيط الموتى، ومثل تفريغ الهواء.
فإلى الآن يعجب العلم الحديث كيف وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وهم الآن قد ذهبوا، وقد كانوا يستعجلون العذاب! كما أن الكفار في كل زمان ومكان يستعجلون العذاب، ويرون أنه تأخر.
وإذا طال عليهم الأمد وقست قلوبهم ونسوا وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ووعيده، ركنوا إلى الدنيا وإلى الملذات والشهوات، وغفلوا عن كل ما جاء من عند الله فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44] تأتيهم الخيرات -وهذا الواقع الآن- الحضارة الغربية اليوم عندما نقول للناس: إن الغرب سيسقط، إن الغرب ليس بدائم؛ لأنه يعصي الله، ولأن عذاب الله تعالى الذي دمر الحضارات جميعاً سيدمره، يرى بعض المتفرنجين أو المتربين على آرائهم وأفكارهم، أن هذه الحضارة تملك مقومات الأبدية أو شبه الأبدية، نعم فيها مقومات لأن تستمر إلى ما شاء الله، لكن لا بد من يوم يأخذهم الله تبارك وتعالى فيه إلا أن يؤمنوا بالله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا كل حضارة وكل أمة.
فالكفار يستعجلون العذاب، وهو واقع بهم لا محالة، ويرون ما أعده الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من العذاب بعيداً، سواءً عذاب الدنيا أم عذاب الآخرة، وهو أشد قال تعالى: وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46]، وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً*وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:7-8] هذا شأنهم وهذا حالهم.
وأما ما يتعلق بالمؤمنين فإن استعجالهم من نوع آخر، وهو استبطاء النصر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، فهو قريب لكنهم يستعجلون.
{ولهذا جاءوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد في ظل الكعبة، فقالوا: يا رسول الله! ادع الله على قريش! وشكوا إليه ما وجدوا، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله ليتمن الله هذا الأمر حتى تسير الظعينة أو الراحلة من صنعاء إلى حضرموت ، ولكنكم قوم تستعجلون }، لا تستعجلوا، وقد أتم الله تعالى هذا الدين.
{جاء سراقة بن مالك وقد منَّى نفسه بالمائة ناقة، وتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد أن حدثت الآية العظيمة، وساخت قوائم فرسه، يقول له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أبشر بسواري كسرى، يا سراقة أمن أجل الدنيا تأتي }.
فوعده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسواري كسرى، خيال!!! سواري كسرى! من يحلم أن يرى كسرى؟! من كان يطمع من العرب أن يذكر كلمة كسرى؟! وكسرى أين هو؟!
شيء فوق الخيال! وهذا الأعرابي يُوعَد به.
وممن يُوعَد به؟!!
يوعد به من رجل خرج خائفاً لينجو بنفسه صلوات الله وسلامه عليه، ومعه الصديق ، خرجوا خشية أن يقتلهم الذين كفروا أو يثبتوهم، سبحان الله!
في هذه الحالة! وهل أمنت على نفسك؟!
هذا هو المنطق البشري، منطق الذين يقولون دائماً: الأمر حسابات، واعتبارات وخطط.(41/2)
أنت الآن تريدني أن أرجع، حتى لا أقبض عليك، وحتى لا أدل قريشاً عليك، وتعدني مع ذلك بسواري كسرى!
ولم يقل بعد جيل أو جيلين، انظروا إلى أين يؤدي ضعف الإيمان دائماً والاتكال على الأسباب المادية، وعلى النظرة المادية مهما كان عمق التخطيط، كما يظن، فلله تعالى حكم وسنن أعظم من ذلك كله، وفعلاً: لبس سراقة سواري كسرى. الله أكبر!
وعندما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحفر الخندق هو وأصحابه، بشرهم أيضاً بفتح كسرى، وإيوانه.
قال المنافقون: هذا محمد وأصحابه يعجز أحدهم أن يقضي حاجته، ويعدهم بقصور كسرى!
انظروا ضعف الإيمان، وضعف الثقة بالله، والنفاق!! ومع ذلك حقق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك، كما تعلمون -والحمد لله- وصدق فيهم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبشارته: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل }.
لا تستعجلوا..! الكنوز والحضارات التي تبنى، والمليارات التي يملكها الكفار، والذي نفسي بيده إن صدقنا مع الله لتنفقن في سبيل الله!
هذه التي جمعت من حرام، أو ربما جمعها الكفار من أموال المسلمين، لا نستعجل: { والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل }، فيكون الأمر عكس ما أملوا، جمعوها ليقاوموا بها الدين والإسلام، فالله عز وجل يجعلها غنيمة للإسلام والمسلمين. يستعينون بها على الجهاد في سبيل الله.
لو خرج المسلمون يريدون أن يأكلوها أو يتمتعوا بها ما أُورثوها، ولذلك في هذا الحديث تنبيه للمؤمنين، { لتنفقن كنوزهما في سبيل الله } فإن قاتلنا فلله، وإن غضبنا فلله، وإن دعونا فلله، وإن رضينا فلله، الكل في سبيل الله، لو خرجوا يطلبون الغنائم، والمتاع الدنيوي ما أُعطوا شيئاً، أو لو كانوا عند أول غنيمة، اقتسموها واختصموا فيها، وما الذي وقع في بلاط الشهداء؟
أثقلوا بالغنائم حتى عجزوا عن حملها!
وأقول: استعجال المؤمنين أو استبطاؤهم لنصر الله هذا -أيضاً- مما يجب أن يبين بالأدلة وفقه الدعوة الصحيح أنه مخالف لسنة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن كان هو حق قال تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف:110]، نعم يأتي اليأس، ويأتي الشعور بأن الأمر قد فرغ، وأنه لا حيلة بعد ذلك، وربما وقع في القلوب أن النصر قد تأخر.. ولكن نقول: لا يجوز للإنسان أن يفقد أمله في الله، وأن يستبطئ نصر الله ووعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
على الإخوة الدعاة -وفقنا الله وإياهم- أن يعالجوا هذا الأمر مع الأحداث النازلة هذه، وفي كل حدث وفي كل موقف، ومع كل إنسان يدعوه، وأن يعالجوا هذه الغريزة وهذه العاطفة بعدم الاستعجال في أي شيء في تكوينك الشخصي والعلمي وغيره.
بعض الإخوان يقول: أريد أن أحفظ القرآن كله، وأن أكون في العلم إلى حد كذا وكذا، يستعجل ليصل إلى مستوى معين من العلم، فإذا لم يتسن له ذلك -ولن يتسنى طبعاً إلا وفق سنة ربانية معينة- ما جعله الله فيه من مواهب ومن طاقات، وما أعطاه من وقت وإمكانيات، فإذا لم يأته لِمَا أراد واستعجل، فربما قنط، وربما ترك ذلك ولم يكمله.. ففي معالجتك لأي حدث من الأحداث لا تستعجل!
لِمَ الاستعجال، قبل أن ترى الحدث كله وأبعاده وما وراءه، قبل أن تلقى أو تسأل من هو أعرف منك، وأبصر منك بهذا الأمر؟! لا تستعجل في الحكم، ولا تتسرع.
هناك خصلتان يحبهما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أشج عبد القيس الحلم والأناة، فقال: {إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة }، الأناة: الروية، لا يندم الإنسان عليها أبداً، فإذا دعوت إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فكن حليماً ولا تستعجل.
رُبَّ مجرم ينقلب خيراً للدعوة -وهذا ما وقع والله- وينقلب سيفاً بتاراً على أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعلى دعاة الشر والفساد، لكن بعد صبر من الدعاة عليه، حتى يفقه الحق، وحتى يستجيب له، وحتى يعرف أنه لم يُدع إلا إلى خير الدنيا والآخرة، فلا بد من الأناة.
أما الاستعجال في القرارات الفردية الشخصية، بأن يستعجل الإنسان في قرار ما، ثم يندم عليه، وكذلك الاستعجال في قرارات الدعوة، فيريد أن يرى الإجابة فوراً، ويريد الاستقامة حالاً، أو الاستعجال في سنن الله التي لم تتغير أبداً.
لقد وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المؤمنين بالنصر إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر:51] لكن الإنسان يقول: لماذا لم يأتٍ النصر؟!! يريده الآن..!
فهذا الاستعجال آفة يبتلى بها الناس ولا ينبغي للدعاة بالذات، ولكل من يقرأ كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقع فيها، وإنما الواجب من الجميع أن يتأملوا سنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في تغيير الأنفس وفي تغيير المجتمعات.(41/3)
إننا نحن اليوم والأمة الإسلامية تواجه أعداءها من الشرق والغرب أنستعجل النصر، ونستعجل ما عند الله، وما وعد الله به المؤمنين، ونستعجل كيف نعمل وماذا نعمل؟! مع أن الواجب أن نأخذ الأمور بحكمة وبهدوء وبروية، ونقرأ التاريخ، فنأخذ منه العبرة والعظة، كيف غيَّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأحوال؟! عندما كانت حملات التتار، أو الحروب الصليبية، أو ما كان قبلها من المعارك أو ما بعدها، لقد جعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سنناً للتغيير، وقد ألمحت إلى هذا في محاضرة عن الحروب الصليبية.
مما رأيته من سنن الله تعالى أن جيل الهزيمة لا ينتصر هو لكن ينبثق النصر منه.
فهو أول من يشعر بمرارة الهزيمة ومرارة الذل، وهذه من نعم الله.
وربما صحت الأجساد بالعلل
فتأتي مصيبة، وتأتي نكبة، وتأتي مشكلة، فيبدأ الشعور بالتقصير، والشعور بوجوب الأخذ بما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فتبدأ الانطلاقة من هنا، ولكي يكون النصر نهائياً يحتاج إلى أمد بعيد وإلى زمن طويل، لا نحدده ولا نقيده بسنوات معينة، لكن هو على أية حال يحتاج إلى صبر وإلى أناة.
ومن هنا كان الواجب أنه في كل حدث، وفي كل مرحلة، وفي كل وقت، ألاَّ ننسى دائماً القواعد الأساسية التي عليها يبنى أي عمل مهما كان.
ومن أعظم القواعد في ذلك، أن توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الأساس الذي يكون منه الانطلاق في الدعوة، والجهاد، وأن التوبة، والإنابة، والضراعة، والاستغفار، وترك الذنوب والمعاصي، والإقلاع عما حرم الله ومحاسبة النفس، كل هذا لا بد أن نستصحبه في كل حال.
إذا اراد الفرد في ذاته أن يطلب العلم، فالاستعجال بالتوحيد أول واجب.
إذا أراد أن يجاهد فالتوحيد أول واجب.
إذا أراد أن يدعو فالتوحيد أول واجب.
إذا أراد أي أمر من أمور دنياه فأول شيء لا بد أن يبدأ بالتوحيد، ثم بعده يأخذ بسنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في التغيير، ولله تعالى سنن في ذلك.
فالجيل الأول جيل الهزيمة أو جيل السقوط لا يفعل شيئاً، ولهذا رأينا الهزيمة المدمرة التي مرت بالعالم الإسلامي، كما حدث عام (67) الأيام الستة وما تسمى نكبة وهزيمة ونكسة، إلى آخر ما قيل، فابتداءً منها ولدت الصحوة الإسلامية والعودة إلى الله.
انهارت النظم القومية والاشتراكية، والدعاوى الباطلة، الوافدة المستوردة، وبدأ الناس يفيقون، ويفكرون بالعودة إلى الله.
ولننظر كم نحتاج؟ فإلى الآن لم نصل إلى حد أن نكون أهلاً للنصر؛ لأن المسألة تحتاج إلى طول وقت، ولذلك لما أُخذت القدس في الحروب الصليبية الأولى، وقبل أن يأخذوا القدس أخذوا مناطق أنطاكية ، وأجزاء الشام العليا.
ومرت سنوات حتى ظهر نور الدين ، ثم جاء بعد نور الدين ، صلاح الدين .
ثم كانت حطين في النهاية، ثم بعد حطين كان دخول بيت المقدس .
إنها سنن وإعداد مادي، وإعداد علمي، وإعداد أدبي، فعند قدوم الصليبيين كانت هناك مدرسة واحدة في دمشق تعادل كلية كما نسميها اليوم، ودمشق عاصمة الشام ، ولم يكن فيها إلا مدرسة واحدة للعلم وللحديث.
فلما كانت أيام صلاح الدين ، كانت المدارس تقارب مائة مدرسة، فلماذا نغفل عن هذا الجانب؟!
ننظر دائماً أن صلاح الدين جمع الجيوش وانتصر، هذا حق وهذا جانب لا يمكن أن يغفل، لكن هل يمكن أن يكون هذا النصر وهذا الجيش لولا أن هناك أمراً آخر حدث في الأمة؟!
لقد حدث تغيير أساسي في الأمة، وهو رجوعها إلى العلم وإلى طلب العلم، وإلى الدعوة وإلى الخير.
وهؤلاء العلماء وهؤلاء الدعاة هم الذين حرَّكوا الأمة، فهم العصب الذي يحرك هذه الأمة ويجمعها، ويوحدها على الخير بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد كان ابن قدامة رحمه الله صاحب المغني في ميمنة صلاح الدين .. فاجتمع العلماء على الكتاب والسنة، واجتمع حولهم طلبة العلم على ما اجتمعوا عليه من الحق، فاجتمعت القيادة المؤمنة، مع الدعاة الصادقين، مع طلبة العلم، فكان النصر بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهذا الذي يجب أن نفكر فيه دائماً، وأن نسعى إليه دائماً، وألاَّ نتيح لأنفسنا ولعواطفنا مجالاً للاستعجال، وقطف الثمرة قبل أن تنضج، مهما كان الأمر، ومهما كانت رغبتنا في تحقيقها وفي قطفها، فهذه سنن ربانية، ولا بد أن تتحقق بالنسبة للفرد وبالنسبة للمجتمع، وكل العالم يدرك هذه السنن نوعاً من الإدراك.
فعندما بدأت اليابان تخطو خطواتها في ملاحقة الغرب، بدأت -وهي تدرك هذا الشيء- وصبرت على الابتعاث وعلى التبعية للغرب، حتى أصبحت منافساً له.
بدأت كوريا من نفس النقطة، وبدأت غيرها من الدول، وهي دول لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، لكن أدركت السنن، وأنه لابد من إعداد خطة أو منهج، ثم الصبر عليه حتى يؤتي ثماره، دون استعجال تكون فيه النهاية، وتكون فيه الانتكاسة والبدء من جديد.(41/4)
أقول: إن الاستعجال يحتاج إلى حديث طويل، فنحتاج إلى أن نتحدث عن الاستعجال في أمورنا الخاصة، كالاستعجال في الزواج أحياناً، والاستعجال في قرار دخول الكلية، الاستعجال في قرار يتعلق بحياتك الشخصية، أو بإقامتك لمشروع ما، أو بأي عمل من الأعمال، لكن هذا مجاله طويل.
وقد حاولت أن أركز الحديث في القضية الأساسية التي يجب أن تكون دائماً محور حديثنا وموضوعنا.
المواطن المحمودة للاستعجال
السؤال: هل توجد مَوَاطن محمودة للاستعجال؟
الجواب: الاستعجال الذي تكلمنا عنه، غير المبادرة إلى اتخاذ العمل الصائب والقرار الصائب في وقته المناسب، فلا يفهم أننا كنا نتكلم عن ذلك، فمثلاً من أكثر الناس حلماً الأحنف بن قيس رضي الله عنه، كان مشهوراً بالحلم في الجاهلية والإسلام، حتى ذكر في سيرته أنه كان يوماً محتبياً، فجيء له بابنه وقد قتله ابن أخيه، فلم يفك حبوته.
وقال يا بني، قتلت أخوك!
ثم قال: اذهبوا إلى أم فلان، فإن رضيت، وإلا فأعطوها الدية، ولم يحل حبوته.
وقيل له: نراك حليماً! قال: "نعم إلا في ثلاث": وهذه الأشياء لا بد فيها من المبادرة وغيرها كثير، لكن هذه يذكرها على سبيل المثال:
- الضيف إذا قدم: فهل تقعد وتتكئ والرجل واقف عند الباب؟! هذا ليس بحلم! ولاتقل: هذا من الاستعجال، بل قم وانهض، ورحب.
- وعند الجنازة: وهذه هي السنة، الاستعجال في الدفن، وألاَّ تتأخر.
- والبنت إذا أدركت: البنت إذا أدركت تُزوج، وهذه مفقودة الآن، إذا جاءها الخطيب، قال وليها: لا، حتى تكمل الكلية، بينما هي أدركت في المتوسطة.
وهذا في التعامل الشخصي، وكل إنسان منا يمكن أن تحصل له مثل هذه الأمور.
فالحلم والأناة لهما موضعهما، وأما المبادرة فأحياناً يحتاج الأمر إلى مبادرة، ويحتاج إلى عجلة لئلا يفوت؛ لأن هناك أموراً حاسمة، لو فاتت وذهب وقتها، لم تعد تجدي شيئاً.
ومن ذلك: أمور مجابهة أعداء الله تعالى في الحرب، وقد ضرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أروع المثل في ذلك.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء في يوم بدر ، ونزل إلى الماء، وجعل الماء من ورائه، وسبق قريشاً إليه.
وهناك أمور وخطط، فيجب أن نواجه أعداء الله ونبادر إلى ذلك، ونحث الهمة ونرفعها، ونجتهد في أن نحقق أكبر قدر، وأكبر نصيب من الخير قبل أن يسبقنا عليه الآخرون، فلا تعارض بين هذا وهذا، بل الحكمة المطلوبة دائماً أن تكون الأناة في موضعها، وأن يكون الاستعجال في موضعه.
ولكن لما كان الاستعجال من حيث هو طبع غالب، فهو الذي يحتاج الحديث عنه لتقف النفوس عند مواقف معينة، فلا تغلبها هذه الطبيعة وهذا الدافع، فتنسى ما ينبغي أن تكون عليه، إذ الأصل أن يكون الإنسان حليماً، وكما نرى أي إنسان منا يذهب إلى آخر، ويراه يتعامل مع قضية بهدوء وبأناة، ثم ينتجها ويحكمها، يُسَرُّ منه، أكثر مما لو رآى أحداً استعجل ثم لم تثمر عجلته شيئاًًً.
سبل معالجة الاستعجال
السؤال: ما هي السبل أو الأسس التي يستطيع بها الإنسان أن يعالج الاستعجال؟
الجواب: هذا يحتاج إلى التربية والتكوين، فالفرد منا -وكذلك الأمة- يحتاج إلى تربية، وإلى تكوين يستطيع به أن يميز بين مواضع العجلة ومواضع الأناة ومواضع المبادرة، بحيث يستطيع أن يضع الشيء في موضعه، فلذلك لا بد من هذا التكوين للفرد، ولا بد منه للأمة.
ومن ذلك أن ندرس ونقرأ ونتأمل سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة الأنبياء وجهادهم -صلوات الله وسلامه عليهم- وجهاد الصحابة والتابعين وصبرهم، وسير العلماء.
فالإنسان منا عندما يقرأ في صفة الصفوة ، أو طبقات ابن سعد ، ويرى هذه السير، يجد العجب العجاب، ويجد أمثلة حية.
أولئك الرجال الذين وهبهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذه القلوب الكبيرة، وهذه النفوس العالية، وهذه الهمم العظيمة، مع الأناة والهدوء وعدم الاستعجال، حققوا ما لم تحققه أجيال ولا أعمار!
فلو أعطي أمثالنا أو من المتأخرين أضعاف أعمار أولئك، ما حققوا مثلما حققوا، فسبحان الله العظيم! كيف كان هؤلاء الناس؟!
أقول: هذه النماذج مما يكوّن لدينا ذلك التكوين والتربية عليه، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، وإنما الصبر بالتصبر }.
كل إنسان يحاول أن يطبع نفسه، إذا كان يعرف أنه عجل -وكل إنسان عجول- ولكن بعض الناس يعرف أن عجلته زائدة عن القدر اللازم، فإنما الحلم بالتحلم، فيعود نفسه أن يكون حليماً، ويصبر نفسه أن يتحمل، وإن كان الموقف لا يطاق، وإن كان لا يستطيع أن يتحمل، لكنه يُعود نفسه على ذلك، وقد يكون الإنسان حليماً عن صفة طبعه الله عليها، وقد يكون حليماً عن صفة هو تخلق بها وتعودها، حتى صارت صفة فيه.(41/5)
ومن أعطاه الله الحلم والأناة من عنده فتلك سجية عظيمة، ومنة كبيرة، لكن لا يعني ذلك أن من لم يؤتها لا يصبر نفسه حتى يكون ممن يتحلى بها، بل يجتهد الإنسان في ذلك، والله تعالى سيوفقه، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، فمجاهدة النفس في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لتكون مستقيمة على أمر الله هذه عبادة، وتأذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمن فعلها، واتخذ هذا السبب أن يحقق له النتيجة بإذن الله.
المبادرة مع الخشية من الوقوع في الزلات
السؤال: أحياناً تكون المبادرة في بعض الأعمال مما يحقق مكاسب للدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن الإنسان يخشى أحياناً أن يبادر فيقع في بعض الزلات أو الأخطاء، كأن مثلاً يُدعى إلى جهاد أو إلى عمل في منطقة ما، فيخشى إذا تأخر أن تفوته فرصة العمل لهذا الدين ونشر منهجه الصحيح، وإذا بادر فإنه أيضاً يخشى أن يقع في زلات أو أخطاء، فكيف الحل في مثل هذا؟
الجواب: الحل سهل والحمد لله، فنحن لا نعني بالمبادرة أن يتخذ قراراً اللحظة أو الآن، كما لا نعني بالأناة أن يؤجل الأمر سنة، فهو يستطيع في أيام أو في أسابيع أن يستشير وأن يفكر وأن يخطط، ثم يمشي على بينة.
كثير من الشباب الذين يدفعهم الاستعجال في مواقف معينة، كإنكار منكر قد يؤدي إلى منكر أعظم منه، وفي أمور قد يظن أن فيها خيراً للدعوة وتكون شراً، فالمراد هو الاستعجال الآني: أن تكون الفكرة وليدة اللحظة.
أما إذا كان هناك أمر أنت مهيأ له، ثم جاءتك فرصته، فقمت، فليس هذا من باب الاستعجال، بل هذا الذي نسميه (المبادرة).
مثلاً: هناك إنسان مقبل على الله، وأنت تريد أن تهديه وأن تدعوه، ولكنك تتمهل، وتقول: حتى تأتي فرصة مناسبة..!
يقول أحدهم: اليوم أريد أن أعتمر، فلا تقل: دعها إلى الأسبوع الآتي ونفكر، وننظر، أو نكون مع بعض، فهذه مشكلة.
لكن إذا كان القرار موجوداً والمبادرة هذا وقتها، فانطلق أنت وإياه في أقرب وقت ممكن.
وشخص آخر يريد أن يتوب، وقال: أنا عندي بنك ربوي، وأفكر أن أتخلص منه، فلا تقل: انتظر حتى نعمل لك دراسة، ونعطي لك خبراً بعد شهرين..!
هذا لا ينبغي يصلح، بل نقول: ابدأ واستغفر الله، واعمل كذا، والآن آتيك وأتصل ببعض العلماء، لتعرف ماذا تعمل، وكيف، هذه هي المبادرة.
فالمبادرة تكون في الشيء الواضح، أما الشيء الذي يحتاج إلى روية، فلا بد من الروية والتفكير والاستشارة، لكن كم مدة الاستشارة؟!
أيضاً قد جعل الله لكل شيء قدراً، بالمعروف والحكمة، فتكون فترة محددة، ثم بعد ذلك يكون القرار الصائب بإذن الله.
الفرق بين الحكمة والتساهل في الدعوة إلى الله
السؤال: قد يختلط على الإنسان أحياناً التفريق بين الحكمة والتساهل في الدعوة إلى الله، فربما يتخذ مسألة الحكمة وعدم الاستعجال سبيلاً إلى التهاون والتساهل، فهل من توضيح لهذا؟
الجواب: هذه مع الأسف حقيقةً! وأصبح ذلك ذريعة للتهاون، فإذا نصحت إنساناً، فإنه يقول: يا أخي! الدعوة تكون بالحكمة.
بعض الذين يقولون هذا الكلام، لا نراه يدعو أبداً، فإذا وجد داعية يدعو، قال: لا بد من الحكمة، إلى متى الحكمة؟! وما معنى الحكمة؟!
ثم هو لا يقول الحق، ولا يأمر بالحق ولا يظهره، فإذا تكلم إنسان، وقال كلمة الحق، قال: يا أخي! لا بد أن يكون بالحكمة!
وهذا مما يعانيه الشباب ويعانيه الدعاة، أن هناك من يعكس الأمر.
الحكمة لا يجوز أن تكون سلاحاً في وجه من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله؛ لأن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دائماً معارضة لرغبات الناس ولشهواتهم؛ فالجنة حفت بالمكاره، وأما النار فحفت بالشهوات، فالإنسان إذا دعا إلى الله، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فلابد أن يصادم رغبات الناس، فالناس يريدون أن يناموا إلى ما شاءوا، لا يريدون القيام لصلاة الفجر، فإذا قلت له: يا أخي! جزاك الله خيراً، قم صلِّ الفجر، جاءك شخص، وقال: يا أخي بالحكمة، فهل قصده ألا تكلمه البتة؟!
وإذا نصحت إنساناً -زوجته متبرجة- بالأسلوب الحسن، وهو عكس رغبتها؛ لأنها تريد أن تخرج، تريد أن تذهب إلى السوق، لا نتوقع أن الأسلوب ما دام حسناً وما دام حكيماً أن الزوج يقول: جزاك الله خيراً، والمرأة تتحجب..!
بل ربما ينكرون ويصيحون!
ويأتيك أحدهم يعاتبك، وما سمع بالقصة، ويقول: يا أخي، لو دعوت بالحكمة!
وأي منكر أنكرته، أو كلمة حق أظهرتها وقلتها، فإنهم يأتونك ويقولون: لو كانت بالحكمة!
لكن ما هي الحكمة؟
الإنسان قد يستنفد كل أسباب الحكمة، ومع ذلك لا يُقبل، ويكون مخالفاً لرغبات الناس، فالناس دائماً تريد المدح، وتحب الثناء، قال تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران:188].
فإذا قلت له: أنت على خير، وأنت طيب، سُر من ذلك وهو يعرف أن هذا غير صحيح.(41/6)
لكن لو قلت: يا أخي! أنت وأنت، ومدحته، ثم قلت له: هناك أمر أريد أن أنبهك عليه، وأتيته بأسلوب.. كأنك تحدثه عن شخص غيره وقال: يا شيخ لو كلمته بحكمة!
وهذه مشكلة! فيجب علينا نحن أن نضبط عواطفنا ونفسياتنا، ولا نترك الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر ولا كلمة الحق، وأي شيء نرى فعلاً أنه بحكمة، نجتهد في ذلك، ونتوكل على الله، وعليه التكلان دائماً قبل العمل وبعده، فنتوكل عليه ونجتهد في الحكمة.
فإذا جاء إنسان وقال: هذا خلاف الحكمة.
نقول له: بَصِّرْنا كيف نعمل! فإن كان عنده بصيرة، أو رأي جزاه الله خيراً، وإن كان كما نلاحظ هذه الأيام، يريدون ألا نقول ولا نعمل ولا ندعو؛ باسم الحكمة! فهذه ليست حكمة، بل هذا خذلان وتثبيط، وترك لما أوجب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يجوز أن نقر الناس على هذا.
حقاً إن الحكمة أصبحت سلاحاً يشهر به في وجه من يدعو إلى الله، ويقول كلمة الحق، وإن كانت بأحكم ما يمكن أن تكون من الحكمة، والله المستعان! والنفوس لا تقبل الحق، وهكذا جبلت، وهكذا طبعت، لكن لا بد من الصبر عليها، ولله عاقبة الأمور.
الاستعجال في تطبيق الفتوى مما يسبب الإرباك
السؤال: بعض الإخوة يقرأ فتوى أو حديثاً، فيتعجل ويعمل بها، وربما يلزم الناس بها، مما يسبب إرباكاً له ولغيره، فما نصيحتكم لمثل هذا؟
الجواب: نعم هذا من الاستعجال، أن الإنسان يقرأ شيئاً من العلم أو من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من كتاب الله، أو من كلام أهل العلم، فيستعجل في فهمه، ويستعجل أيضاً في تطبيقه وفي العمل به، فلا يتأنى ليتبين له ما معناه، وما ملحظه.
النصوص قد تعب فيها العلماء الجهابذة الكبار، في تخريجها، وفي بيان ألفاظها ومعانيها، وفي تنزيلها على مواقعها.
العلماء يقولون: لا بد من تحقيق المناط، ومن تنقيح المناط، ومن تخريج المناط، في أي نص من النصوص، لكننا الآن نقرأ النص رأساً، ولا شك أن من الخير والفضل أن يبادر الإنسان بالعمل، لكن لا بد أن تفهمه وتفهم موضعه، وأين دلالته، وما مقتضى دلالته، فكونك تستعجل وتنفذ فوراً، هو لا شك مطلوب، لكن بعد أن تفهم ما المقصود منه، وماذا يراد به، ولهذا يقول تعالى: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
علينا أن نسأل وأن نتبين ما المقصود بهذه الآية وهذا الحديث وهذا النص، فيما يشكل علينا معناه؟ وليس هذا في أمور عباداتنا بالذات، فالأمور واضحة ومدروسة، ولكن أقول أيضاً: إن هناك أموراً خاصة في الوقائع والنوازل لا بد أن نتأنى فيها، وأن نسأل العلماء، وأن نأخذ كلامهم، وأن نستفهم ماذا أردت بهذا الدليل؟ ماذا أردت بهذه العبارة؟
ثم بعد ذلك يكون عملنا على بصيرة، والإنسان لا بأس أن يسأل عالماً أو عالمين، ويسأل من يطمئن إلى من يتحقق فيه أمران، وهما: معرفة الدليل الشرعي من جهة، ومعرفة الواقع المسئول عنه من جهة أخرى.
فإذا سألتُ إنساناً عن طبيعة عملي، -فمثلاً- أنا أعمل في بنك، فعليّ أن اسأل يعرف طبيعة البنوك، بالإضافة إلى أنه يعرف أحكام الربا، فلا بد من الشرط الثاني، كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ، عندما سئل عن قتال التتار، قال: إن الأمر يتعلق بأمرين: الأول: معرفة حالهم، والآخر: معرفة حكم الله في مثلهم، فننزل الحكم على محله، فيكون الحكم صحيحاً.
حال من يشكو من صراع نفسي
السؤال: يقول السائل: إن هناك صراعاً نفسياً يصاحبه -وعبَّر أنه يصاحب كل ملتزم بهذا الدين- فهل هذا الصراع من الابتلاء الذي ابتلاه الله عز وجل به؟ ويقول: إنه ساءت نفسيته بشكل شديد جداً، حتى أصبح يطلب النصر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لشدة ما يعانيه هذا المبتلى، فبماذا تنصحون هذا الأخ؟
الجواب: ليس كل تائب، وكل مقبل، وكل منيب إلى الله، يعاني من ذلك، ولكن عموماً كل من دعا إلى الله أو أقبل على الله وتاب، لا بد أن يجد ما يشق على النفس، أو ما يجهدها، من داخل النفس أو خارجها، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31]، وللنفس دائماً ثلاث حالات لا تخلو عنها:
إما النفس الأمارة بالسوء، أو النفس اللوامة، أو النفس المطمئنة، فالأمارة بالسوء -وهذه عند أكثر الناس إلا من رحم الله- دائماً أنفسهم تأمرهم بالسوء.
و المؤمن نفسه لوامة، تأمره بالسوء أول الأمر فيفعله، ثم تلومه عليه: لماذا ذهبت إلى السوق من غير غرض شرعي؟
لماذا نظرت النظرة المحرمة؟
لماذا قلت الكلمة الآثمة؟
فتلومه -كما فسرها السلف - على ما فرط وما بدر منه.
الثالثة هي: النفس المطمئنة وهذه هي الدرجة العالية.
والنفوس المطمئنة: هي التي يصبح الخير والحق هو همها، وهو ديدنها وهو حياتها، وهذه من نعم الله إذا منَّ الله تعالى على الإنسان، بأن تصبح نفسه مطمئنة.(41/7)
فالأخ المهتدي والمستقيم في مرحلة النفس اللوامة، يجد ربما ما يسميه بعض الإخوة الصراع النفسي، وأنه متردد، تأتيه دوافع للقنوط، ودوافع للرجاء والأمل، الخوف والرجاء دائماً يتصارعان في نفسه.
و يأتيه حب الخير والإقدام عليه من جهة، ومثبطات ومخذلات من جهة تكبله.
يريد أن يحفظ القرآن وأن يتعلم العلم، ولكن يأتيه ما يعيقه.
فتجده يعاني ما يعاني من الصراع.
فالأب والأم والأهل والزوجة، والأقارب والزملاء في العمل يريدهم أن يهتدوا، هذا من جهة، ومن جهة قد لا يمتلك أسباباً تعينه في الدعوة، فيعاني هذا الصراع.
وكل إنسان يعانيه، لكن علينا أن نأخذ بالأسباب وبما أمر الله ونجتهد، ونصبر حتى نستكمل ما أراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن لم يصل الإنسان إلى مرحلة النفس المطمئنة، فعلى الأقل يلقى الله، وهو يجاهد نفسه لكي تكون مطمئنة.
وما ذكره الأخ من الضراعة في الدعاء لطلب النصر، هذه نعمة، فشعورك بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ابتلاك بهذه البلوى، وتضرُّعك ولجوءك إليه نعمة، كما قال ابن القيم رحمه الله:''إن الإنسان يلجأ إلى الله ويتضرع إليه، فيجد من حلاوة مناجاة الله ومن لذة الدعاء، والتذلل، والتضرع إلى الله، والانكسار بين يديه، نعمة تنسيه النقمة التي يدعو الله أن تزول عنه، أو تنسيه النعمة التي يطلبها من المنعم'' .
التضرع والدعاء نعمة، والذكر نعمة، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ : ''إنه ليأتي عليَّ أحوال، فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي نعيم'' ويشعر الإنسان أنه مع الله، وأن عمله مع الله، وأنه مستمسك بحبل الله وبالعروة الوثقى من عند الله، ويصل إليها الإنسان المؤمن بإذن الله بمثل هذه الحالات، بمرض، وبمحن، وبالآلام.
وكل رسول، وكل داعية يبتلى ويمتحن ويفتن ويُؤْذى، فيجد مثل هذه النعمة في طريقه إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
حال الشباب المذبذبين
السؤال: بعض الشباب هداهم الله تتذبذب آراؤهم في كل حين، فتراه في الليل له رأي، وفي النهار له رأي، وينتقلون أحياناً من النقيض إلى النقيض الآخر، فما نصيحتكم لهؤلاء الشباب؟
الجواب: هذه علامة من علامات الاستعجال: عدم الانضباط، التذبذب، وهو مرض في بعض الناس حتى إنه في قراراته الشخصية اليومية يتعب، وبعض الناس يمهد لنفسه أن يصاب بهذا المرض، وذلك لأنه لا يحسن الأمر، ولا يأخذه من أبوابه، بل عجلته في اتخاذ قرار معين هي التي تجعله يندم، ثم تجعله يستعجل في القرار المضاد، ثم يستعجل بضده.. وهكذا.
من أعظم صفات المؤمنين الاطمئنان والسكينة، ولذلك فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما امتن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل عليه سورة الفتح قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ [الفتح:4].
وقد كانت النفوس جياشة، كيف يكون هذا الصلح؟! أنرضى بالدنية في ديننا؟!
وكانت القلوب تغلي من الحدث، فلما أنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى السكينة في قلوبهم، واطمأنوا وتأملوا، وأيقنوا أن ما وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الخير، وأن ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الخير.
ثم ثبت ذلك في العام الذي بعده، فما بعده، وإذا به فعلاً يكون الخير ويكون الفتح المبين كما قال تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1]، فهذا فضل عظيم، وفرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جداً لما نزلت عليه هذه السورة.
الطمأنينة والسكينة من صفات النفوس المؤمنة، ويجب أن نسعى إلى أن تكون نفوسنا إن شاء الله كذلك، فنطمئن دائماً بذكر الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
تطمئن أيضاً القلوب وتسكن بالتفكر في وعد الله، وفي أنَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن أملى وإن أمهل فإنه لا يهمل أبداً، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لن يخلف وعده، وأن نصره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متحقق، وأن عافيته ستأتي وإن كنا في حال البلاء، وأن نصره سيأتي وإن كنا في حال الهزيمة، وأن عزه سيأتي وإن كنا في حالة ضعف، وهذا مما يطمئن الإنسان به نفسه، ويجتهد في ذلك حتى يأتي الفرج بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما أن تكون صفة الشباب هي التذبذب، فهذا دليل على أنه ليس لديه ثبات علمي، ولا ثبات في الرأي، ولا استشارة ممن يملكون الرأي، وأحياناً قد يشار عليه ولكنه لا يفعل، ولا يريد أن يفعل، فينقلب ويتخبط، وهذه آفة نسأل الله تبارك وتعالى أن يرفعها عن الشباب وأن يبعدها عنهم.
الكلام حول التنظيم الأصولي والإرهاب
السؤال: في جريدة الحياة كتب أحدهم موضوعاً عن فشل التنظيم الأصولي -كما يسميه- ثم بعد أن تكلم عن هذا قال: إنه سيتكلم في عدد لاحق عن كيفية مواجهة الإرهاب، يقول السائل: من المقصودون بهذا؟(41/8)
الجواب: الأصوليون أنتم... وأنتم المقصودون، كان الغرب يتكلم عن الأصولية الإيرانية كما تسمى أيام الخميني ، ثم عرفها وعرف حقيقتها، وعرف ما قدمت له من رصيد لمحاربة الإسلام من أفعالها ومن تصرفاتها.
والآن إذاعة لندن تسمعونها قبل أحداث الخليج ومن سنوات تتكلم بذلك، وكذلك مونتكارلو، وصوت أمريكا.
الكلمة البديلة، والتي يخشون من ظلالها، والأصولية الحقيقية التي يخافونها هي ما يسمونها بالوهابية .
يقولون: الجهاد الإسلامي في أفغانستان نوعان، التنظيمات الوهابية ، وهذه التي لا تقبل مساومة.
وأما التنظيمات الأخرى فهي التنظيمات المعتدلة، بمعنى أنها تقبل الحكم الديمقراطي والنيابي، وهذا هو المعتدل عندهم.
الأصولي: من يرجع إلى الأصول، أي: إلى قال الله وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم لا يريدون إلا المعتدل في نظرهم، والوسط على مزاجهم، أما الذي يريد الحق كما أمر الله، وكما أنزل الله، فلتأته التهم، ومنها أنه أصولي، ويربطون بين الإرهاب والأصولية.
باول شميدس في كتابه الإسلام قوة الغد العالمية ، يقول عبارة خطيرة جداً لكنها حقيقة، يقول:
''إنه قد تبين من التاريخ أو من استقرائه أنه أينما وجدت الحركة الوهابية ، فإنه يوجد معها مقاومة الغرب ومقاومة الاستعمار'' .
لأن منهجهم قال الله، قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنهج الغرب وحضارة الغرب وإلحاده وكفره شيء آخر، فلا يجتمعان، وقد وجدوها هم في جزيرة العرب وهي منبع ومهبط الدعوة.
في الهند عندما كان عباد الأبقار قد استسلموا للإنجليز حتى كان الإنجليزي -خاصة من أهل اسكتلندا - من شحه لا يركب قطاراً ولا يركب حماراً بل يركب على ظهر الهندي، ويمشي به مسافة بعيدة.
وأما المسلمون فكثير منهم من تخاذل وركن إلى الدنيا، ومن جاهد وقاوم الاستعمار الإنجليزي وجدوا أنه متأثر بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أو على منهجه. وجدوهم في نيجيريا : عثمان بن فودي ومن معه.
وجدوهم في الصومال وجاهدوهم.
حتى مهدي السودان أصل دعوته كانت على منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب من التوحيد وهدم القبور، ثم دخله الفساد -والعياذ بالله-، لكن أول دعوته كانت محاربة الشرك والبدع.
وكذلك عمر المختار في ليبيا .
والأصولية الوهابية التي ترجع إلى الكتاب والسنة، أو الحنبلية كما تسمى أحياناً، وهي ألقاب ينبزون بها من يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الأحداث الأخيرة غطت على ما حدث في الجزائر ، بغض النظر عن رأينا الكلي فيها حدث. وهناك عبرة معينة أريد أن أسلط الضوء عليها الآن:
لقد انزعجت الصحافة الفرنسية وانزعج الغرب انزعجوا جداً من انتشار الأصولية في الجزائر ؛ لأنهم عرفوا دعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله، وأنه أقام الدعوة على أساس التوحيد، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كما جاء بها، وكتب عن الشرك والبدع والخرافات.
وكان من منهج الشيخ عبد الحميد أن أول ما يبدأ به هو محاربة البدع والخرافات عند الشعب، حتى ينتشر العلم الشرعي، ثم الولاء والبراء، ثم الجهاد، وهي مرحلية لم يفطن لها الاستعمار، ولهذا تركوه أول الأمر يدعو، وتركوه يفتح الصحف، وما فطنوا إلى أنه لا يرضى بالوجود الفرنسي.
لكنه -رحمه الله- يريد أن يبدأ بالأساسيات، مرحلة الدعوة أولاً.
نقول: تحليلات خطيرة جداً غطت عليها الأحداث الأخيرة، وكانت دائماً ترددالأصولية في الجزائر ، الأصولية هنا، والحادث الذي جرى في جزر ترينداد ، ربطوه بالأصولية وبالجزائر ، وقالوا: الأصولية خطر يهدد العالم، لكن جاءت أحداث أخيرة وطغت على ذلك، والله المستعان!
المستعجلون من الشباب في طلب العلم
السؤال: بعض الشباب يستعجل في الوصول إلى أعلى درجات العلم والعلماء، حتى إنهم يقولون على الله بغير علم، ويفتون بغير علم، وبعضهم يقرأ كتباً أعلى من مستواه، ومن مستوى إدراكه، فما نصيحتكم لهؤلاء؟
الجواب: هذا من أنواع الاستعجال: الاستعجال في طلب العلم، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه لما فسر الربانيين وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79] قال: [[و من يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ]].
ولا يعني بالصغر والكبر أن الصغيرة النوافل والكبيرة التوحيد.
إنما يعني بالصغار: البديهيات والمسلمَّات الواضحة، والكبار: هي الأمور المعقدة والصعبة، ودائماً أقول للإخوة الكرام: ابدءوا العلوم بدراسة متون معينة، مبسطة، ثم خذ شرحاً مبسطاً عليها، ثم توسع فيما بعد ذلك.. وهكذا.
لكن عندما يأتي بعض الإخوان يريد أن يبدأ في طلب العلم، فيبدأ في الكتب الكبيرة، فبعضهم قال: بدأنا بفتح الباري ، والأخ الثاني يقول: بدأنا بمجموع الفتاوى .(41/9)
سبحان الله! إنني عندما أقرأ في فتح الباري ، أجد أنني أحتاج في صفحة واحدة إلى أن أراجع عدة كتب، وأن أنقب، وأن أفتش، وأن أكلم المشايخ بالتلفون، فالمسألة ليست سهلة، ويمكن أن يكون هناك من فتح الله عليه، لكن أنا أقول فيما نرى وما نعلم من تكويننا وتربيتنا جميعاً؛ لأن دراستنا دراسة نظامية، وهي لا تعطينا الزاد الكافي لمثل هذه الأمور.
كذلك مجموع الفتاوى لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ، بعض الكلمات مع الأسف مطبوعة خطأ، ويأتي من يشرحها، وقد تمرس على كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية ، فيشرحها خطأ.
وأحياناً تكون غير مشروحة في الهامش، أو غير واضحة، أو واضحة، لكن لم يفهمها؛ لأنه رجل عميق، يكتب في بحور من العلم عميقة وغزيرة، يحتاج كلامه إلى أن يفهم على مستوى معين، فلا نستعجل فنطمر الأمور طمراً.
إذا بدأنا بفتح الباري ، ومجموع الفتاوى ننتهي بعمدة الفقه ، أو بالأربعين النووية .. بدأنا السنة من أعلاها، ولم نأخذ الأمور من أولها.
بعض الإخوة يبدأ بالقراءات، ولا أعترض على من لديه دراسة منهجية يمكن أن يحفظ القرآن بالقراءات، لكن بالنسبة للحالات العادية، وهي من كان مثل حالة معظم الإخوة، الذين يعيشون طبيعة دراسية نظامية مع عمل وأسرة، فهذا أقول له: ابدأ بما أمكن أن تبدأ به وأتقنه، ثم انتقل إلى ما بعده.
والسلف الصالح رضي الله عنهم ضربوا لنا المثل في عدم العجلة فقد كانوا يطلبون العلم ويرحلون في طلبه، ثم يحدثون، لا تجد أحداً من العلماء ابتدأ يحدث، بل تعلم وحفظ وطلب العلم، ثم حدث.
السيرة النبوية ومراحل الدعوة
السؤال: لا شك أن قراءة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودراستها مما يقي الإنسان من الوقوع في العجلة وفي الاستعجال، ولكن هل يلزم الداعية إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يدعو سنين دعوة سرية كما فعل عليه الصلاة والسلام، ثم ينتقل إلى الأقربين.. وهكذا، أي ثلاث عشرة سنة مثلاً بحال معين، وأخرى بحال أخرى، أم أن الاستفادة تكون عامة؟
الجواب: لا شك أن دراسة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرورية، وهي الأساس الذي يجب على كل داعية أن يتخذه منهجاً في دعوته، فهو الأسوة الحسنة لنا، لكن فرق بين التقيد الحرفي بوقت الدعوة، بمددها ومراحلها، كما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين أن ننظر إلى ثمرة المرحلة، ونهاية المرحلة، وغاية المرحلة، فالوضع غير الوضع.
فقد بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوم كفار، كما هو معلوم، ولكن نحن الآن في أمة مسلمة، ولكنها تحتاج إلى تصحيح، هذا أحد الفوارق وأهمها، وهناك فوارق أخرى.
فننظر إلى الثمرة، فما هي ثمرة المرحلة الأولى؟ وما غايتها؟
غاية المرحلة الأولى السرية هي إيجاد أناس إذا ظهروا فيما بعد يكون لديهم قوة، لا يستطيع الأعداء أن يستأصلوهم، وإن كانوا سيؤذون، وقد أوذوا، فإذا وجدت الدعوة في بيئة لا تحتاج إلى هذه المرحلة؛ لأن الفئة المؤمنة يمكن أن تظهر أو هي ظاهرة، بمعنى أنها واضحة، ومع ذلك لم تستأصل، فهذا خير.
إذاً: لا نحتاج إلى المرحلة الأولى لأن ثمرتها موجودة والهدف منها موجود.
مرحلة الجهاد: نقول أيضاً: لو وجدت أمة تعيش في مرحلة يمكن أن ننقلها رأساً إلى مرحلة الجهاد، نقول: على هذه الأمة أن تجاهد، وننقلها إلى الجهاد، ونستكمل بعض أمور التربية في الجهاد، وهذا صحيح.
لكن إذا وجد أن الأمة تحتاج أولاً إلى الدعوة والعلم والإعداد للجهاد، والجهاد لا نقصد به جهاداً معيناً في بلد معين، بل الجهاد باعتباره حالة دائمة، فالأمة الإسلامية في جميع عصورها في حالة استنفار دائم، ويجب أن تكون مناهجها مناهج جهادية، وحياتها حياة جهادية، فجهاد الطلب عندنا هو الأساس.
ومفروض أننا نصلح أوضاع الأمة هذه، ثم نقوم بجهاد الطلب، ونقاتل.
وجهاد الطلب غير جهاد الدفع، فجهاد الطلب: أن نذهب إلى الصين ، إلى الروم ، نغزوهم في بلادهم، لندخلهم في دين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهكذا يجب أن تكون حياة المسلمين جميعاً، فنعد العدة لهذا الجهاد.
نعد الأمة في مرحلة الدعوة لهذه المرحلة التي هي آخر المراحل وهي مرحلة الجهاد، فيبسط الله سلطان هذا الدين في الأرض، ويُمكّن له، ويورث الأرض عباده الصالحين كما وعد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويمكّن لهم، ويورثهم الأرض بهذا الأمر.
إذاً: يكون الأمر بحسب البيئات وبحسب أحوال الناس، وبحسب المقصود بتلك المرحلة، أما التقيد الحرفي فليس صحيحاً كما يظن بعض الإخوة.
بعض الجماعات أو الدعوات فهمت تكفير المجتمع بناء على المرحلة المكية، وأسقطت كثيراً من التكاليف، وقالوا: نحن في المرحلة المكية، وهذا من أكبر الأخطاء الدعوية.
ومن جملة ما فيه من أخطاء: أنه نسخ أحكاماً ثابتة قطعية، بدعوى أو بزعم الرجوع إلى مرحلة قد نسخت وانتهت.(41/10)
فلا بد من إدراك متأنٍ ومتفقه، في مسألة الفرق بين هذه المراحل، وبين ضرورة الإفادة من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا شك أنها الأساس، والصحابة الكرام -رضوان الله تعالى عليهم- كانوا ينظرون إلى واقع الأمة، فيبنون على الواقع الموجود، فعندما وصلت الأمة إلى مرحلة الصفر، كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما بدأ دعوته من مرحلة الصفر، ومثل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، حيث جاء والأمة قد نزلت إلى الصفر إلى الشرك، فما بعد الشرك شيء، وابتدأ يدعو كما دعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى التوحيد، وابتدأ قليلاً قليلاً ثم قامت من جديد ولله الحمد!
لكن في عهد الإمام أحمد كان الانحراف في مسائل معينة كلامية مثل خلق القرآن وما أشبهه، فقاومها، وقضى عليها، والحمد لله! الأمة صالحة.. وهكذا، فالمرحلية يجب أن تفهم فهماً صحيحاً.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
موقع صيد الفوائد(41/11)
... ... ...
آفة العين وطرق الوقاية والعلاج ... ... ...
سليمان حمدالعودة ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أدلة حقيقة العين من الكتاب والسنة. 2- موضوع الإصابة بالعين بين إفراط وتفريط. 3- الفرق بين العين والحسد. 4- ذكر الله والقرآن الكريم حصنان حصينان من العين. 5-التبريك يبعد المرء عن حسد إخوانه. 6- اغتسال العائن وعلاج العين. 7- التطير والتشاؤم. 8- المصائب سببها الذنوب. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
فأما بعد فأوصى نفسى وإياكم، معاشر المسلمين، بتقوى الله امتثالا لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [الحشر:18].
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً 2 .
أيها المسلمين، وحديث اليوم امتداد للحديث السابق عن الآفات والعلل التى تصيب بعض بنى الإنسان، وكيف يحفظ الله منها.
حديث اليوم عن آفة تستنزل الفارس عن فرسه و ((تورد الرجل القبر وتدخل الجمل القدر3))
إنها "العين" و ((العين حق، ولو كان شىء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغتسلوا4)) كذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم.
جاءت الإشارة إلى العين فى القرآن الكريم على لسان يعقوب عليه السلام حين خاف على أبنائه فقال: وقال يابنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شىء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه يتوكل المتوكلون 5.
وهكذا يفعل المؤمنون بالأسباب، ويبقى التوكل على الله ملاذا آمنا، ومعتقدا صادقا، يأخذون بالحيطة والحذر، ويؤمنون بالقضاء والقدر، ويثقون بقدرة الواحد الأحد وما أغنى عنكم من الله من شيء .
وجاء فى القرآن أيضا إخبار من الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم عن حسد الكافرين له، ومحاولة إنفاذه بأبصارهم وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون 6 .
قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: ( ليزلقونك ) أى يعينونك بأبصارهم، بمعنى يحسدونك... قال ابن كثير: وفى هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة(3).
إخوة الإيمان: وينبغى أن يعلم أن العين إنسية وجنية، بمعنى إنها تصيب من الجن كما تصيب من الإنس، فعن أم سلمة، رضى الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجارية فى بيتها، رأى فى وجهها سفعة: ((بها نظرة استرق لها (4))) .
والسفعة علامة من الشيطان، وقيل ضربة واحدة منه(5). والمعنى: بها عين أصابتها نظرة من الجن أنفذ من أسنة الرماح (6).
ولهذا ((كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان، ومن عين الإنسان حتى إذا نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك(1))).
عباد الله: ومع ثبوت العين وأثرها بإذن الله، حتى قال عليه الصلاة والسلام ((أكثر من يموت من أمتى بعد قضاء الله وقدره بالعين (2))).
فلا ينبغى الإفراط ولا التفريط بشأنها، وكما لا يسوغ إنكارها.. فلا يسوغ الإسراف بشأنها ونسبة كل شىء إليها..
وفوق ما مضى من الأدلة يرد ابن القيم رحمه الله على المنكرين لأثر العين بقوله: (فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمر العين وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابا، وأكثفهم طباعا، وأبعدهم معرفة عن الأرواح والنفوس وصفاتها وأفعالها وتأثيراتها، وعقلاء الأمم على أختلاف مللهم ونحلهم، لا تدفع أمر العين ولا تنكره، وإن اختلفوا فى سببه، وجهة تأثير العين (3)..).
أما المسرفون بأمر العين فتطاردهم الأوهام، ويحاصرهم القلق، ويضعف عندهم اليقين، ويختل ميزان التوكل. أولئك يعظمون البسيط، وينسبون كل إخفاق أو فشل إلى العين، وإن لم يكن بهم عين، وربما استدرجهم الشيطان فأمرضهم وما بهم مرض، وأقعدهم عن العمل وما بهم علة، ذلكم لأن نسبة العجز والكسل إلى الآخرين أسهل من الاعتراف به وتحمل لوم الآخرين.
وبين هؤلاء الجفاة والغلاة تقف طائفة من الناس موقفا وسطا، تؤمن بالعين وتصدق بآثارها نقلا وعقلا، ولا تغالى فتنسب كل شىء إليها، تتقى العين قبل وقوعها، وتفعل الأسباب المأذون بها شرعا بعد وقوعها.
أيها المسلمون، وإذا كان هذا كله يقال ((للمعين)) فيقال للعائن: اتق الله، ولا تضر أحدا من إخوانك المسلمين، وإياك والحسد فإنه منفذ للعين، فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنا، ولما كان الحاسد أعم من العائن كما فى قوله تعالى ومن شر حاسد إذا حسد (1).(42/1)
والعائن ربما فاتته نفسه أحيانا، فوقعت منه العين، وإن لم يردها، وقد يكون العائن صالحا، وربما أصاب أقرب الناس إليه، وإن لم يقصد، من والد أو ولد. ولذا يوصى المسلم عموما، والعائن خصوصا بذكر الله والتبريك حينما يعجبه شىء، وتلك وصية من وصايا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يأمرنا بها حين يقول:
((إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة، فإن العين حق(2)))
إن النفوس المؤمنة لا يفارقها الذكر، ولا ترضى للآخرين بالضر، ويصاحبها الدعاء والتبريك والشكر ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله (3)...
على أن المسلم نفسه ينبغى أن يحتاط لنفسه، ويدفع غوائل الشر عنه ما استطاع، وإذا كانت العين سهما تخرج من نفس الحاسد أو العائن نحو المحسود والمعين فهى تصيب تارة وتخطئ تارة، فإن صادفته مكشوفا لا وقاية عليه أثرت فيه لابد، وإن صادفته حذرا شاكى السلاح لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه (4) كذا قال العارفون.
فإن قلت: وكيف أتقى العين؟ وما أعظم سلاح ألوذ به؟
أجبت بأن الأذكار والأوراد الشرعية أعظم ما يحفظ الله بها الإنسان، فاسم الله الأعلى لا يضر معه شىء، و قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس ما تعوذ متعوذ بمثلهما، وقراءة آية الكرسى والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة يحفظ الله بهما عباده المؤمنين، وقد سبق لك البيان ... إلى غير ذلك من أوراد الصباح والمساء التى بسطها العلماء فى كتب الأذكار.
قال ابن القيم: ومما يدفع به إصابة العين قول: ماشاء الله لا قوة إلا بالله، روى هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال: ماشاء الله ولا قوة إلا بالله. ومنها رقية جبريل عليه السلام للنبى صلى الله عليه وسلم التى رواها مسلم فى صحيحه ((بسم الله أرقيك من كل شىء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك(1))).
ولقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم بالرقية، وقال لأسماء بنت عميس، رضى الله عنها: ((مالى أرى أجسام بنى أخى ضارعة - أى نحيفة ؟ يصيبهم الحاجة؟ قالت: لا، ولكن العين تسرع إليهم، فقال: ارقيهم، فعرضت عليه فقال: ارقيهم(2))).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات فى العقد ومن شر حاسد إذا حسد .
نفعنى الله وإياكم بهدى الكتاب، وسنة المصطفى عليه السلام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لى ولكم.
2 الأحزاب / 70 ، 71 .
3 رواه أبو نعيم فى الحلية ، وحسنه الألبانى فى صحيح الجامع ( 4023 ) .
4 رواه مسلم فى صحيحه فى كتاب السلام ، باب الطب والرقى .
5 (1) يوسف / 67 .
6 (2) القلم / 51 .
(3) تفسير ابن كثير 8 / 227 .
(4) رواه البخارى ومسلم [ خ 10 / 171 ، م ( 97 ) ] .ِ
(5) النهاية 2 / 375 .
(6) شرح السنة 12 / 163 .
(1) أخرجه الترمذى ، وحسنه وأخرجه غيره ( 2059 / زاد المعاد / 4 / 165 ) .
(2) رواه البخارى فى التاريخ ، وحسنه الألبانى فى صحيح الجامع ( 1217 ) .
(3) زاد المعاد 4 / 165 .
(1) الفلق / 5 .
(2) رواه أبو يعلى فى مسنده ، والطبرانى فى الكبير ، والحاكم فى مستدركه بسند صحيح ( صحيح الجامع الصغير 1 / 212 .
(3) الكهف / 39 .
(4) ابن القيم ( زادالمعاد 4 / 167 ) .
(1) مسلم 2185 فى السلام / باب الطب .
(2) رواه مسلم ، كتاب السلام 2198 . ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى وأشكره، وأثنى عليه الخير كله، وهو أهل الثناء والحمد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أيها المسلمون، ومن وسائل اتقاء العين أيضا التبريك، وهو قولك: (اللهم بارك عليه) للشىء تراه أو يذكر لك فيعجبك، إذ قد تقع منك العين وإن لم تردها، فعن أبى إمامة بن سهل بن حنيف قال: ((اغتسل أبي، سهل بن حنيف، بالخرار(1) فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض، حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم، ولا جلد مخبأة عذراء، فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوعكه فقيل له: ما يرفع رأسه، فقال: هل تتهمون له أحدا؟ قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ عليه فقال: علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت، اغتسل له فغسل عامر وجهه ويديه، ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه، ودخلة إزاره فى قدح، ثم صب عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته ))(2).
عباد الله: وإذا كان التبريك سببا واقيا بإذن الله عن وقوع العين، فإن اغتسال العائن ووضوءه بماء يصب على المعين شفاء له بإذن الله كما سمعتم بقصة سهل بن حنيف وعامر بن ربيعة، رضى الله عنهما، وهو مفسر لقوله صلى الله عليه وسلم،((وإذا استغسلتم فاغتسلوا))(3)(42/2)
ولذا، فينبغي للمسلم ألا يمتنع عن الاغتسال إذا اتهمه أهل المعين، أو أحس هو من نفسه أنه عان أحدا من المسلمين.
أيها المسلمون: وثمة وقاية من العين، بإذن الله، يغفل عنها كثير من الناس، ألا وهى: ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه، فقد ذكر البغوي فى شرح السنة أن عثمان رضى الله عنه، رأى صبيا مليحا، فقال: (دسموا نونته كيلا تصيبه العين).
ثم شرحه بقوله: ومعنى دسموا: أى سودوا، والنونة: الثقبة أو النقرة التى تكون فى ذقن الصبي الصغير(1).
إخوة الإيمان، ويبقى بعد ذلك أمران مهمان: يحسن التنبية إليهما حين الحديث عن العين.
الأول منهما: ألا تكثر من التطير والتشاؤم وأن وتحسن الظن بالله، وتقوى جانب التوكل عليه، وأن يلازمنا الفأل الحسن، فقد كان عليه الصلاة والسلام يعجبه الفأل، ونهى عن الطيرة فقال: ((الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن يذهبه الله بالتوكل(2))). وفى قوله: وما منا إلا ولكن: أى وما منا إلا ويعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهة له. ولكن الله يذهبه بالتوكل، ولا يؤاخذه الله بما عرض له، ولم يعبأ له وسلم أمره لله(3).
ثانيا: ألا ننسى حظوظ النفس وآثار المعاصى فى وقوع المصائب والكوارث لبنى الإنسان، فكثير من الناس إذا وقع لهم مرض أو أتته مصيبة عزاه للعين مباشرة دون أن يتهم نفسه، أو يفتش فى أحواله وعلاقته بربه.
صحيح أن العين حق وقد سبق البيان، ولا يمارى فى ذلك مسلم يؤمن بنصوص الكتاب والسنة، ولا عاقل يرى أثر العين رأى العين... ولكن الذى ينبغى ألا ينسى أن للذنوب أثرا فى وقوع المصائب، كيف لا؟ والحق تبارك وتعالى يقول:
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير(1) .
قال الحسن: لما نزلت هذه الآية قال النبى صلى الله عليه وسلم: ((وما من اختلاج عرق، ولا خدش عود، ولا نكبة حجر إلا بذنب، ولما يعفو الله عنه أكثر(2))).
وقال عكرمة: (ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها، أو لينال درجة لم يكن ليوصله إليها إلا بها(3)) .
ويقول تعالى: من يعمل سوءً يجز به (4) .
روى الإمام مسلم، عن أبى هريرة، رضى الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ((قاربوا وسددوا، ففى كل ما يصاب به الإنسان كفارة، حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشوكها))(5).
قال ابن عبد البر، رحمه الله: (الذنوب تكفرها المصائب والآلم، والأمراض والأسقام، وهذا أمر مجتمع عليه(6)).
أيها المسلمون: ولا يقف الأمر فى المصائب التى يبتلى الله بها عباده عند حدود تكفير السيئات، بل فيها زيادة حسنات ورفعة درجات، فعن أم المؤمنين، عائشة رضى الله عنها قالت: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عن خطيئته، وكتب له حسنة، ورفع له درجة(1))).
ألا فاحتسبوا ما يقدر الله عليكم من المصائب والأسقام.. واستغفروا ربكم واشكروه، ولا تحيلوا كل شىء للعين وإن كانت العين حقا.
عصمنى الله وإياكم من الذنوب والأثام، وعافانا والمسلمين من كيد الفجار، وحسد الحساد.
(1) من أودية المدينة .
(2) رواه مالك وأحمد والنسائى وابن ماجه بسند صحيح ( انظر : صحيح الجامع الصغير 3908 وحاشية زاد المعاد 4 / 163 هامش 4 .
(3) رواه مسلم فى كتاب السلام / باب الطب والرقى .
(1) شرح السنة 12 / 166 ، ابن القيم : زاد المعاد 4 / 173 .
(2) رواه أبو داود والترمذى ، وقال : حديث حسن صحيح ، واللفظ لأبى داود ( 3910 ، 1614 ) .
(3) لعل الله ييسر الحديث عن هذه الظاهرة السيئة والخلل فى العقيدة بشىء من الإيضاح والبيان .
(1) الشورى / 30 .
(2) تفسير القرطبى 16 / 31 .
(3) تفسير القرطبى 16 / 31 .
(4) النساء / 123 .
(5) رواه مسلم : ( 4 / 1993 ، ح 2574 ) .
(6) التمهيد 23 / 26 .
(1) أخرجه الطبرانى فى الأوسط ، والحاكم وصححه وأقره الذهبى ، وحسن سنده المنذرى وغيره ( المستدرك 1 / 147 ، الترغيب 4 / 150 ) تحفة المريض / 17 . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(42/3)
آل البيت. . فضلهم ومنزلتهم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وأفضل النبيين، وقائد الغر المحجلين، وشافع الناس يوم الدين، وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين. . أما بعد:
فإن الشرف كل الشرف، والعزة كل العزة، والفخر كل الفخر، بالقرب من الله، وحبه سبحانه للعبد، ووضع القبول له في الأرض، وهذا الحب وهذا الشرف وهذا القبول لا يتأتى بالدعاوى الفارغة من الحقيقة، أو بمجرد الانتساب إلى الدين أو الانتساب إلى بيت النبوة، دون عمل صالح يقرب من الله! { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } المؤمنون: 101. فإذا اجتمع إلى تقوى الله-تعالى- شرف الانتساب إلى البيت النبوي، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، أما أن يدعي مدعٍ أنه من آل البيت النبوي وهو بعيد كل البعد عن النبي ودينه وسنته وخُلقه وأعماله، فذاك ليس من الله ولا من رسوله في شيء!.. وفي هذا الموضوع المختصر سنبين فضل آل البيت وخصائصهم وموقف أهل السنة منهم، وحكم عصاة أهل البيت.. والله نسأل أن يتقبل منا إنه هو السميع العليم.
المقصود بآل البيت:
الآل في اللغة: من الأَوْل، وهو: الرجوع. وآلُ الرجل: أهل بيته وعياله؛ لأنه إليه مآلهم، وإليهم مآله. 1
وقد اختلف العلماءُ في المقصودِ بآلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم على قولينِ:
القول الأول: أنهم الذين حرمت عليهم الصدقة، وهم: بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، أو بنو هاشم خاصة، أو بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب؛وهذا القول هو اختيار الأكثرين. ولا شك أن بعضهم أخصُّ بكونه من آل البيت من بعض، فعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين أخص من غيرهم. 2
ومن أدلة هذا القول:
أ- حديث (غدير خمّ) عن زيد بن أرقم أن النبي- صلى الله عليه وسلم- خطبهم، وفيه: أنه حث على التمسك بكتاب الله ورغب فيه، ثم قال:(وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)، فقال له: حصين: ومَنْ أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟ قال: نعم. وفي رواية: قيل مَنْ أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا، وايم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته: أصله وعَصَبَتُهُ الذين حرموا الصَّدقة مِنْ بعدِهِ). 3
ب- حديث عمر بن أبي سلمة قال: نزلت هذه الآية على النبي-صلى الله عليه وسلم-: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } الأحزاب: 33، في بيت أم سلمة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء، وعلي خلف ظهره فجلله بكساء، ثم قال:(اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهِب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً)4
القول الثاني: أنهم ذريته وأزواجه خاصة:ومن أدلة هذا القول:
أ- قوله -تعالى-: { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ. . . } حتى قوله: { وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } الأحزاب: 30-33 فدخلن في آل البيت ؛ لأن هذا الخطاب كله في سياق ذكرهن، فلا يجوز إخراجهن من شيء منه.
ب - ما جاء في روايات حديث الصلاة على النبي-صلى الله عليه وسلم- بعد التشهد: (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد)، قالوا: فإنه مفسر بمثل حديث أبي حميد:(اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته)5 ، فجعل مكان الآل: الأزواج، والذرية؛ مُفسِّراً له بذلك.
ج - أن الله-تعالى-جعل امرأة إبراهيم من آله، فقال:{ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ. . } هود: 73، كما جعل امرأة لوط من أهله، فقال: { إنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إلاَّ امْرَأَتَكَ. . } العنكبوت: 33.
وقيل في معنى (الآل) أقوال أخرى لا تصح.
والقول الصحيح الراجح: شمول الآل للقرابة والأزواج، وهو الذي تجتمع عنده الأدلة السابقة، والعجب مِن تعصُّب كلٍّ لقوله! مع أنه لم يرد حصر الآل في أحد القولين السابقين، والقول بأحد القولين يقتضي إهمال بعض الأدلة أو تأويلها، ومعلوم أن الجمع بين الأدلة مع الإمكان أولى من إهمال بعضها، وهذا القول هو اختيارُ كثيرٍ من أهلِ العِلْمِ، وصححه ابن تيمية. 6
ثانياً: خصائصهم ومناقبهم:
1- خصائصهم:
أ- تحريم أكل الصدقة عليهم، قال-صلى الله عليه وسلم-: (إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد). 7(43/1)
ب- إعطاؤهم خُمُس خمس الغنيمة، وخمس الفيء، قال -تعالى-: { واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. . } الأنفال: 41، وقال: { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. . } الحشر: 7.
ج- فضل النسب وطهارة الحسب، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفاني من بني هاشم). 8
2- فضائلهم العامة:
أ- تخصيصهم بالصلاة عليهم: وذلك كما في التشهد في الصلاة عليه وعلى آله.
ب- وصية الرسول بهم: كما تقدم.
جـ - أن بقاؤهم أمان للأمة واقتفاؤهم نجاة لها :
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أَما بعد أَلا أيها الناس فإنما أَنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أَولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي) وفي لفظ: (كتاب الله هو حبل الله المتين من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة) رواه مسلم.
د- تنزيههم عن الأعمال الخبيثة:
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه مجموع المؤلفات (كتاب الطهارة) (1/5).
(الطهارة تارة تكون من الأعيان النجسة، وتارة من الأعمال الخبيثة، وتارة من الأعمال المانعة، فمن الأول قوله تعالى:
? وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ? المدثر:4 على أحد الأقوال.
ومن الثاني قوله تعالى: ? إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ? الأحزاب:33.
ومن الثالث قوله تعالى: ? وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ? المائدة:6. انتهى كلامه رحمه الله.
فدلل رحمه من الآية على أن الله قد طهر أهل البيت عليهم السلام من الأعمال الخبيثة.
د- زيادة محبتهم وموالاتهم على سائر الناس:
فلهم على الأمة حق لا يشركهم فيه غيرهم ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة مالا يستحق غيرهم
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتابه (مسائل لخصها (1/51): (لآله صلى الله عليه وسلم على الأمة حق لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة مالا يستحق سائر قريش وقريش يستحقون مالا يستحق غيرهم من القبائل، كما أن جنس العرب يستحقون من ذلك ما لا يستحقه سائر أجناس بني آدم -إلى أن قال- ولهذا كان في بني هاشم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش، وفي قريش الخلفاء وغيرهم ما لا نظير له في العرب وفي العرب من السابقين الأولين ما لا نظير له في سائر الأجناس).
يا أهل بيت رسول الله حُبكم فرضٌ من الله في القرآنِ أنزله
يكفيكم من عظيم الفخر أنكم من لم يصل عليكم لا صلاة له
وغير ذلك من الخصائص العامة لهم، ويجب التنبه الحذر هنا من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ودسائس المبتدعة في فضائل أهل البيت.
3- المناقب والفضائل الخاصة ببعض آل البيت:
قد ثبت لكثير من أفراد آل البيت مناقب كثيرة، حفظتها السنة، ففضائل علي أشهر من أن تذكر، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وخديجة خير النساء، وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وحمزة سيد الشهداء يوم القيامة. . . وقد وردت في كل ذلك أحاديث صحيحة.
ثالثاً: عقيدة أهل السنة والجماعة في آل البيت:
تتلخص عقيدة أهل السنة في آل البيت في أنهم يحبون المؤمنين من آل البيت، ويرون أن المؤمن من آل البيت له حقان عليهم: حق إيمانه، وحق قرابته.
ويرون أنهم ما شرفوا إلا لقربهم من الرسول، وليس هو الذي شَرُف بهم، ويتبرؤون من طريقة الروافض، ومن طريقة النواصب، ويحفظون فيهم وصية الرسول، ولازم هذه المحبة: توليهم ونصرتهم، وهي من لوازم حفظ الوصية فيهم.
ويرون أنهم مراتب ومنازل، وأنهم وإن تميزوا فلا يعني أن لهم الفضل المطلق على من فضلهم في العلم والإيمان، فالثلاثة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، أفضل من علي، وإن امتاز عنهم بخصوصيات؛ لأن هناك فرقاً بين الإطلاق والتقييد.
(وكذلك يرون تعظيم قدر أزواجه -رضي الله عنهن- والدعاء لهن، ومعرفة فضلهن، والإقرار بأنهن أمهات المؤمنين). 9
قال ابن كثير-رحمه الله-:(ولا ننكر الوَصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم، وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً، ولاسيما إذا كانوا مُتبعين للسنةِ النبويةِ الصحيحةِ الواضحةِ الجليَّةِ، كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعلي وأهل بيته وذريته، رضي الله عنهم أجمعين). 10(43/2)
ويبين الطحاوي أن البراءة من النفاق لا تكون إلا بسلامة المعتقد في آل البيت فيقول: (ومن أحسنَ القولَ في أصحاب رسول الله وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق). 11
ولقد كانت حياة سلف الأمة شاهدة على رعايتهم وصية رسول الله في أهل بيته، والوقائع كثيرة، وهاك شيئاً منها:
قال أبو بكر-رضي الله عنه-:(ارقبوا محمداً في آل بيته) يخاطب الناس بذلك ويوصيهم به، يقول: احفظوه فيهم ؛ فلا تُؤذوهم ، ولا تُسيئوا إليهم. 12
وقال-رضي الله عنه-:(واللهِ، لَقرابةُ رسولِ اللهِ أحبُّ إليَّ أنْ أصلَ مِنْ قرابتي). 13
وقال عمر للعباس-رضي الله عنهما-:(والله، لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم؛ لأن إسلامَك كان أحبَّ إلى رسول الله من إسلام الخطاب). 14
هذه بعض الشواهد، و إلا فإن الأمر أوسع من هذا. . كما شملت هذه الرعاية أزواجَ النبي؛ فإن أهل السنة يعرفون لهن حقّهن، فإنهن أمهات المؤمنين بنص القرآن، وأفضلهن: خديجة وعائشة -رضي الله عنهن أجمعين-.
وقد كان بقية آل البيت فضلاً عن سائر الصحابة يعرفون مكانتهن؛ فقد قيل لابن عباس -رضي الله عنهما-بعد صلاة الصبح: ماتت فلانة، لبعض أزواج النبي فسجد، قيل له: أتسجد في هذه الساعة ؟ فقال: أليس قال رسول الله:(إذا رأيتم آية فاسجدوا)، فأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي-صلى الله عليه وسلم-؟. 15
ولما كان صحابة رسول الله يحفظون لآل البيت قدرهم، فقد كان آل البيت -أيضاً- يعرفون منزلة إخوانهم من الصحابة، ويقدرون صاحب الفضل منهم-رضي الله عن الجميع، فعن ابن عباس، قال:(إني لواقف في قوم، ندعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره، إذا رجل من خلفي قد وضع مرفقه على منكبي فقال: رحمك الله، إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله يقول:(كنتُ وأبو بكر وعمر، وفعلتُ وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر) فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما، فالتفتُّ فإذا عليُّ بن أبي طالب). 16 فهذا علي -رضي الله عنه- الذي يرفعه الرافضة فوق منزلته، ويزعمون ظلم الصحابة له، وسلبهم حقوقه! يرد عليهم بفعله وقوله. ومن أجمل ما في هذا الباب: رسالة للشوكاني سماها(إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي)، ذكر فيها إجماع أهل البيت على تحريم سب الصحابة، من اثني عشر طريقاً، ثم سردها عن جماعة من أكابرهم. ثم ذكر طائفة من أقوالهم، تبين معتقدهم في صحابة رسول الله، والترضي عنهم، وتحريم سبهم، وأن السب إنما هو من فعل الروافض الضُلاَّل، ومن تشبه بهم في فعلتهم هلك معهم، وذكر في آخر رسالته أن من لم يقنع بما ذكر من الأدلة والإجماع فهو: إما جاهل، أو مكابر. وصدق -يرحمه الله-. 17
من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه:
هذا العنوان هو نصُّ حديثٍ عن النَّبيِّ-صلى الله عليه وسلم-. 18 وهدفنا من الإتيان به بيان أن الإنسان لا يبلغ الدرجات العُلى والفضل العظيم عند الله-تعالى- إلا بعمله الصالح، وأن نسبه-ولو كان من آل البيت- لا يُغني عنه من الله شيئاً إذا كان فاسقاً فاجراً، يعمل الموبقات والمعاصي، ويترك الواجبات من صلاة وصيام وزكاة وغير ذلك، وقد فهم بعض من ينتسبون إلى البيت النبوي وهم–آل البيت- أن مجرد نسبه يُعَدُّ منقبةً له وشَرَفاً عند الله، وأنه مهما عمل من المعاصي والسيئات، وترك من الطاعات والقربات، فإن ذلك لا يضره، ما دام أنه مُنتسبٌ إلى بيت النبوة! وهذا فهم خاطئ وخطير يُودي بصاحبه إلى الهَلَكَةِ؛ لأنه جمع بين الجهل وبين الأمن من مكر الله-سبحانه-، وقد سئل الإمام الشوكاني -رحمه الله وأكرم مثواه-عما قيل في أن العصاة من أهل بيت النبوة لا يُعاقَبون على ما يرتكبون من الذنوب، بل هم من أهل الجنة على كل حال تكريماً وتشريفاً! هل ذلك صحيح أم لا ؟.(43/3)
فأجاب بقوله:(أقول: لاشك ولا ريب أنَّ أهل هذا البيت المطهَّر لهم من المزايا والخصائص والمناقب ما ليس لغيرهم، وقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية شاهدة لهم بما خصهم الله به من التشريف والتكريم، والتبجيل والتعظيم، وأما القول برفع العقوبات عن عصاتهم، وأنهم لا يُخاطَبون بما اقترفوه من المآثم، ولا يُطالَبُون بما جنوه من العظائم، فهذه مقالة باطلة ليس عليها أَثارةٌ من علم، ولم يصح في ذلك عن الله ولا عن رسوله -صلى الله عليه وسلم- حرف واحد، وجميع ما أورده علماء السوء المتقربون إلى المتعلِّقين بالرياسات من أهل هذا البيت الشريف فهو إما باطل موضوع، أو خارج عن محل النزاع؛ بل القرآن أعدل شاهد وأصدق دليل على زجر قول كل مكابر جاحد، فإنه قال-عز وجل-في نساء النبي-صلى الله عليه وسلم-:{ مَن يَأتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } الأحزاب: 30، وليس ذلك إلا لما لهن من رفعة القدر، وشرافة المحل بالقرب من رسول الله-صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: ولو كان الأمر كما زعم هذا الزاعم لم يكن لقوله تعالى: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } الشعراء: 214، معنى ولا كبير فائدة، وإذا كان المصطفى يقول لفاطمة البتول-التي هي بضعة منه، يغضبه ما يغضبها ويرضيه ما يرضيها-:(يا فاطمة بنت محمد لا أُغني عنكِ من الله شيئاً)19 فليت شعري مَنْ هذا مِن أولادها الذي خصه الله بما لم يخصها، ورفعه إلى درجة قصَّرت عنها؟! فأبعد الله علماء السوء وقلَّل عددهم؛ فإن العاصي من أهل هذا البيت الشريف المطهر إذا لم يكن مستحقاً على معصيته مضاعفة العقوبة، فأقل الأحوال أن يكون كسائر الناس.
فيا من شرفه الله بهذا النسب الشريف! إياك أن تغتر بما ينمقه لك أهل التبديل التحريف" انتهت الفتوى. 20
وبعد: فقد اتضح لنا من خلال هذا الموضوع منزلة آل البيت وفضلهم، وموقف أهل السنة منهم، وتبين لنا أن مجرد الانتساب إلى بيت النبوة لا يكون شرفاً بحد ذاته، إذا لم يصاحبه عمل صالح يقرب صاحبه من الله -تعالى-، وكم من أناس صالحين من خارج النسب النبوي أفضل من كثير ممن هم من سلالة آل البيت الذين لا يعرفون من الدين إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه! وهل أغنى عن أبي لهب قربه من الرسول-صلى الله عليه وسلم-؟! وهل أغنى عن أبي طالب قربه من رسول الله وقد مات على ملة الأسياد والآباء من قريش؟! وقد قال الحسن بن الحسن لرجل يغلو فيهم:(ويحك! أحبونا لله، فإن أطعنا الله فأحبونا، وإن عصينا الله فأبغضونا، ولو كان الله نافعاً أحداً بقرابة من رسول الله بغير طاعة، لنفع بذلك أباه وأمه، قولوا فينا الحق، فإنه أبلغ فيما تريدون، ونحن نرضى منكم). 21 ، وقد أحسن من قال:
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب
لقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارس وقد وضع الشركُ الشقيَّ أبا لهب
فما الحسب الموروث إن در دره لمحتسبٍ إلا بآخر مكتسب
إذا الغصن لم يثمر وإن كان شعبة من الثمرات اعتده الناس في الحطب
نسأل الله العلي الكبير أن يتوفنا مسلمين، وأن يلحقنا بالصالحين، وأن يميتنا شهداء في سبيله؛حتى ننال الأجر الكبير يوم العرض عليه. . إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
________________________________________
1- لسان العرب 1/171.
2- انظر منهاج السنة (7 /75-78).
3- رواه مسلم في صحيحه (2408) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل على بن أبي طالب.
4- رواه الترمذي (3205). ورواه مسلم بمعناه (2424).
5- رواه البخاري (6360) كتاب الدعوات، باب هل يصلى على غير النبي صلى الله عليه وسلم؟. ومسلم (407) كتاب الصلاة ، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد.
6- منهاج السنة (7 /76) (4 /24).
7- رواه مسلم (1072) كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة.
8- رواه مسلم (2276) كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة.
9- انظر شرح مقدمة التفسير، لابن عثيمين ص108.
10- تفسير ابن كثير (4/113).
11- انظر أواخر متن العقيدة الطحاوية.
12- شرح الطحاوية (2/737).
13- رواه البخاري (3712) كتاب المناقب، باب مناقب قرابة الرسول ومنقبة فاطمة بنت النبي. ومسلم (1759) كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي: لا نورث ما تركنا فهو صدقة.
14- انظر السيرة النبوية لابن هشام وغيره عند سياقهم لغزوة فتح مكة.
15- رواه الترمذي (3891) وأبو داود (1197) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (564) وفي غيره.
16- رواه البخاري (3677) كتاب المناقب، قاب قول النبي: لو كنت متخذاً خليلاً. ومسلم (2389) كتاب فضائل الصحابة.(43/4)
17- انظر (مجلة البيان) العدد100 ص8 وما بعدها، بتصرف وزيادات للأهمية.
18- رواه أحمد (7379) ومسلم (2699) والترمذي (2945) وأبو داود (3643) وابن ماجه (225) والدارمي (344).
19- رواه البخاري (2753)، ومسلم (206).
20- انظر كتاب الشوكاني: (إرشاد السائل إلى دليل المسائل)
21- أخرجه اللالكائي (7/1400).(43/5)
أثر الإسلام في تغيير النفس الإنسانية
م. عبد اللطيف البريجاوي
الإسلام ذلك الدين العظيم الذي ارتضاه الله للبشرية جمعاء دينا قيما خالدا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ,حيث قال فيه :" اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .."(3) المائدة
هذا الدين العظيم كان له الأثر الواضح في تغيير النفوس والأفكار نحو الأفضل و الأصلح بالنسبة لمعتنقيه " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم .... " الإسراء
و ليس هذا في الأجيال المتلاحقة إنما في نفس الجيل و حتى في نفس الشخصية , وإن المتتبع لمن أسلم وحسن إسلامهم في مختلف الأزمان يلاحظ مستغربا كيف انقلبت حال هؤلاء الأشخاص من حال إلى حال , وكيف نبذوا ما حملوه من أفكار وقيم بمجرد الدخول في هذا الدين, وفور تسلل شعاع النور إلى قلوبهم
وما الصحابة رضوان الله عليهم في مجملهم إلا مثالا واضحا لما نقول, فقد كان الواحد منهم في الجاهلية جلفا , قاسيا , شحيحا , لكنه ينقلب رأسا على عقب بمجرد أن يصدع بالحق , ويعلن الدخول في الإسلام .
ومن أمثلة هذا الذي نذكره , تلك المرأة العربية التي سميت بالخنساء و اسمها ( تماضر بنت عمرو ونسبها ينتهي إلى مضر ) فقد مرت بحالتين متشابهتين لكن تصرفها تجاه كل حالة كان مختلفا مع سابقتها أشد الاختلاف , متنافرا أكبر التنافر , أولاهما في الجاهلية , وثانيهما في الإسلام وإن الذي لا يعرف السبب يستغرب من تصرف هذه المرأة .
- أما الحالة الأولى فقد كانت في الجاهلية يوم سمعت نبأ مقتل أخيها صخر , فوقع الخبر على قلبها كالصاعقة في الهشيم , فلبت النار به , وتوقدت جمرات قلبها حزنا عليه , ونطق لسانها بمرثيات له بلغت عشرات القصائد, وكان مما قالته :
قذى بعينك أم بالعين عوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار
كأن عيني لذكراه إذا خطرت فيض يسيل على الخدين مدرار
وإن صخرا لوالينا وسيدنا وإن صخرا إذا نشتو لنحار
وإن صخرا لمقدام إذا ركبوا وإن صخرا إذا جاعوا لعقار
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
حمال ألوية هباط أودية شهاد أندية للجيش جرار
ومما قالته أيضا :
أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجرئ الجميل ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العماد ساد عشيرته أمردا
وكان مما قالته أيضا :
ياعين جودي بالدموع السجول وابكي على صخر بدمع همول
لا تخذليني عند جد البكا فليس ذا يا عين وقت الخذول
ومما فعلته حزنا على أخويها صخر ومعاوية ما روي عن عمر أنه شاهدها تطوف حول البيت وهي محلوقة الرأس , تلطم خديها , وقد علقت نعل صخر في خمارها ( ديوان الخنساء طبعة بيروت قافية القاف ) .
- أما الحالة الثانية التي مرت بها هذه المرأة والتي هي بعيدة كل البعد عن الحالة الأولى فيوم نادى المنادي أن هبي جيوش الإسلام للدفاع عن الدين والعقيدة ونشر الإسلام
فجمعت أولادها الأربعة وحثتهم على القتال والجهاد في سبيل الله
لكن الغريب في الأمر يوم بلغها نبأ استشهادهم , فما نطق لسانها برثائهم وهم فلذات أكبادها , ولا لطمت الخدود ولا شقت الجيوب , وإنما قالت برباطة جأش وعزيمة وثقة :
" الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم , وإني أسأل الله أن يجمعني معهم في مستقر رحمته "
ومن لا يعرف السبب الذي حول هذه المرأة من حال إلى حال يظل مستغربا , ويبقى في حيرة من أمره
فهذه المرأة تسلل إلى قلبها أمر غير حياتها , وقلب أفكارها , ورأب صدع قلبها , إنها باختصار دخلت في الإسلام , نعم دخلت في الإسلام الذي أعطى مفاهيم جديدة لكل شيء , مفاهيم جديدة عن الموت والحياة والصبر والخلود .
فانتقلت من حال اليأس والقنوط إلى حال التفاؤل والأمل
وانتقلت من حال القلق والاضطراب إلى حال الطمأنينة والاستقرار
وانتقلت من حالة الشرود والضياع إلى حالة الوضوح في الأهداف , وتوجيه الجهود إلى مرضاة رب العالمين
نعم هذا هو الإسلام الذي ينقل الإنسان من حال إلى حال , ويرقى به إلى مصاف الكمال , فيتخلى عن كل الرذائل , ويتحلى بكل الشمائل , ليقف ثابتا في وجه الزمن , ويتخطى آلام المحن ,و ليحقق الخلافة الحقيقية التي أرادها الله للإنسان خليفة على وجه الأرض .
وما حال الخنساء حال فريد على مر الأزمان و العصور , بل هو حال كل إنسان اعتنق الإسلام وأيقن بالجنة والنار والحساب والجزاء
وما جرجة الروماني الذي كان أحد قادة جيوش الروم في معركة اليرموك إلا امتدادا للتحول الكبير الذي يحدثه الإسلام , فقد دعاه خالد بن الوليد قبل بدء المعركة إلى الإسلام فأعجب به وصدح لسانه بالشهادتين , وخر قلبه ساجدا لخالق السماء والأرض فتحول ليقاتل مع جيوش المسلمين واستشهد في تلك الغزوة فكان من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين وكان من القلائل الذي استشهدوا ولم يسجدوا لله سجدة واحدة .(44/1)
وفي العصر الحديث كثير ممن أسلموا وحسن إسلامهم فنبذ كل الأفكار والقيم والمعتقدات البالية وما قصة جيفري لانك ومحمد أسد والمغني البريطاني الشهير كات ستيفنز والذي صار اسمه فيما بعد يوسف إسلام وغيرهم إلا شاهد لما يحدثه الإسلام من تغيرات في النفس الإنسانية نحو الأحسن والأفضل .
نعم إنه الإسلام , هذا الدواء الناجع الذي أرسله الله لنا شفاء لما في النفوس , وتصحيحا لما في العقول من مفاهيم , وانقلابا جذريا على واقع ملؤه العادات البالية والمعتقدات الفاسدة .
هذا هو الإسلام الذي يذلل الصعاب , ويوحد الجهود , ويرقى بالإمكانيات , ويقول للإنسان غير نفسك تغير العالم .
نعم لقد تسلل الإسلام إلى قلوب الكثيرين في الماضي والحاضر , فجعل منهم أنموذجا حيا وواضحا لأثره وتأثيره في التغيير , فنقلهم من ذل المعصية إلى عز الطاعة , ومن حدود الدنيا إلى حدود الخلود , ومن قسوة القلب إلى حشا سويداؤه الحب والرحمة وشغافه الخشية والخضوع فكانوا بذلك خير مثال لخير دين .
نعم إنه الإسلام الذي أعرض العالم عنه وقصر المسلمون في تبليغه بصورته البيضاء الناصعة فضاع العالم كله وماج بالفتن والمحن وظهرت دعوات الباطل بدلا من دعوة الحق وما ذلك إلا لأننا نسينا وصية رسول الله " وليبلغ الشاهد منكم الغائب "
والحمد لله رب العالمين .(44/2)
أثر الذنوب والمعاصي
154
آثار الذنوب والمعاصي
علي بن عبد الله النمي
الرياض
خبيب بن عدي رضي الله عنه
ملخص الخطبة
1- ضرر المعاصي على القلب كضرر السموم على البدن 2- ما نزل بلاء إلا بذنب , ولا رُفع إلا بتوبة 3- شؤم المعصية يتعدى المذنب إلى غيره من المخلوقات 4- عاقبة الذنوب في الدنيا 5- فضيلة الاستغفار والتوبة
الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه في السر والعلن ولا تعصوه، واعلموا أن الذنوب والمعاصي – تضر في الحال والمآل، وأن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان.
وما في الدنيا والآخرة شر وداء، إلا وسببه الذنوب والمعاصي فبسببها أخرج آدم عليه السلام من الجنة، وأخرج إبليس من ملكوت السموات، وأغرق قوم نوح، وسلطت الريح العقيم على قوم عاد، وأرسلت الصيحة على قوم ثمود، ورفعت قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم قلبها الله عليهم، فجعل عاليها سافلها، وأرسل على قوم شعيب سحب العذاب كالظلل.
فسبب المصائب والفتن كلها الذنوب فالذنوب والمعاصي ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، ولا في نفوس إلا أفسدتها.
وللمعاصي آثار وشؤم، تزيل النعم، وتحل النقم.
قال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه -: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة.
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]. فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160].
روى أحمد عن ثوبان – رضي الله عنه -: ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ))([1]). وفي الحديث الآخر: ((الذنوب تنقص العمر)).
ومن شؤم المعصية أنها تمنع القطر، وتسلط السلطان، ففي سنن ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤن وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القِطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا))([2]). وقال مجاهد في قوله تعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ [البقرة:159]. قال: دواب الأرض تلعنهم، يقولون: يمنع عنا القطر بخطاياهم.
وقال عكرمة: دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ((إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم)).
وشؤم المعصية بلغ البر والبحر، كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
ومن شؤم المعصية أنها تورث الذل، وتفسد العقل،و تورث الهم، وتضعف الجوارح، وتعمي البصيرة، وأعظم من ذلك كله تأثيرها على القلب.
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه. وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله في القرآن))، كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
وقال حذيفة رضي الله عنه: القلب هكذا مثل الكف فيذنب الذنب فينقبض منه ثم يذنب الذنب فينقبض منه حتى يختم عليه فيسمع الخير، فلا يجد له مساغاً([3]).
وقال الحسن: الذنب على الذنب، ثم الذنب على الذنب حتى يغمر القلب فيموت([4]). فإذا مات قلب الإنسان لم ينتفع به صاحبه. قال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
والأحسن من هذا قول الله عز وجل: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القبر، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق.
وقال سليمان التميمي: إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته.
ومن خطورة المعاصي أنها تضعف الحفظ، وربما أذهبته، وتحرم صاحبها العلم، كما قال الشافعي – رحمه الله -:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي(45/1)
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يعطاه عاصي
اتقوا الله - عباد الله - ولا تقترفوا الذنوب، ولا تستهينوا بها، قالت عائشة رضي الله عنها: أقلوا الذنوب، فإنكم لن تلقوا الله عز وجل بشيء أفضل من قلة الذنوب.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
قال بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت.
وقال بشر: لو تفكر الناس في عظمة الله، ما عصوا الله عز وجل.
قال وهيب بن الورد: اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك.
ومن خطورة السيئة وشؤمها فعل السيئة بعدها: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].
قال أبو الحسن المزين: الذنب عقوبة الذنب.
وكما قال القائل:
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
وقد بين الله عز وجل أن سبب كفر بني إسرائيل وقتلهم الأنبياء أنهم اقترفوا المعاصي قال الله عز وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61].
واعلموا – عباد الله – أن الذنب دين في ذمة فاعله لا بد من أدائه. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: البر لا يبلى والإثم لا ينسى.
قال الفضيل بن عياض: ما عملت ذنباً إلا وجدته في خلق زوجتي ودابتي.
ونظر أحد العباد إلى صبي فتأمل محاسنه، فأتي في منامه وقيل له: لتجدن غبها بعد أربعين سنة.
وقال ابن سيرين حين ركبه الدين واغتم لذلك: إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة. وقال أحد السلف: نسيت القرآن بذنب عملته منذ أربعين سنة.
ومن أضرار الذنوب والمعاصي أنها تثخن صاحبها عن العبادة، كما قال رجل للحسن: يا أبا سعيد! إني أبيت معافى، وأحب قيام الليل، وأعد طهوري، فما بالي لا أقوم؟ فقال: ذنوبك قيدتك.
وقال الحسن أيضاً: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل.
وقال الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته.
وقال بعض السلف: كم من أكلة – يعني من حرام – منعت قيام ليلة، وكم من نظرة – يعني حرام – منعت قراءة سورة.
وقال أبو سليمان الداراني: لا تفوت أحد صلاة الجماعة إلا بذنب.
لذا فإن المؤمن العاقل يجتهد في البعد عن الذنوب، ويهجر أهل الذنوب والمعاصي، فإن شؤم معصيتهم يبلغه.
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، قال: قلت: يا رسول الله! يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم))([5]).
ولما تزلزلت المدينة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: والله لئن عادت مرة أخرى لا أساكنكم فيها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات، والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
([1]) قال في الفتح الرباني (14/2066): خرجه النسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، وصححه وأقره الذهبي. وقال البوصيري في الزوائد (3/247): إسناد حسن.
([2]) قال البوصيري في الزوائد (3/246): رواه الحاكم، وقال: حديث صحيح الإسناد. قال البوصيري: هذا حديث صالح العمل به.
([3]) الدر المنثور (8/446).
([4]) الدر المنثور (8/447).
([5]) البخاري (4/284)، ومسلم (2884).
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد:
عباد الله: فكما أن الذنوب والمعاصي تمحق بركة العمر، وبركة الرزق والعلم، كذلك الاستقامة والتقوى تجلب البركة على العباد والبلاد، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96] وقال تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسقَيْنَاهُمْ مَاءً غدقاً [الجن:16].
قال الحسن: لو استقاموا على طاعة الله، وما أمروا به لأكثر الله لهم الأموال حتى يغتنوا بها. ثم يقول الحسن: والله إن كان أصحاب محمد لكذلك، كانوا سامعين لله مطيعين له، فتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر([1]).
وقال نوح عليه السلام لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الخلق.(45/2)
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إلى الله يقول النبي : ((يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة)) رواه مسلم([2]). وقال الله عز وجل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. وعلى العبد المؤمن أن يأخذ بأسباب المغفرة وأجلها التوبة النصوح والاستغفار والاعتراف بالذنب والندم عليه.
يقول النبي : ((ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضأ، فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله لذلك الذنب، إلا غفر الله له)) رواه الخمسة([3]).
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رجلاً أذنب ذنباً فقال: أي رب! أذنبت ذنباً. أو قال: عملت عملاً، فاغفر لي، فقال تبارك وتعالى: عبدي عمل ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب. قد غفرت لعبدي))([4]) متفق عليه.
وقال النبي : ((يا عائشةَ إن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي، فإن العبد إذا أذنب ثم استغفر الله غفر الله له)) رواه أحمد، وصححه ابن حبان.
([1]) الدر المنثور (8/305).
([2]) رواه مسلم (2702)، وأبو داود (1515).
([3]) أحمد (1/10)، وأبو داود (1521)، والترمذي (309)، وابن ماجه (1395)، والنسائي، وصححه ابن حبان كما في الترغيب (2/269).
([4]) البخاري (13/393)، ومسلم (2758).(45/3)
... ... ...
أثر القرآن الكريم ... ... ...
سليمان حمدالعودة ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- القرآن الكريم معجزة رسول الإسلام الخالدة 2- تحدي العرب أن يأتوا بمثل القرآن أو بعضه 3- القرآن يهز أعماق رؤوس الشرك في مكة 4- الجن والملائكة يستمعون القرآن 5- توبة الفضيل لسماعه بعض القرآن 6- أثر القرآن في الصحابة الكرام 7- فضل قراءة القرآن وفضل بعض سوره ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد
فاتقوا الله معاشر المسلمين ، وتمسكوا بحبله المتين ، واستقيموا على صراطه المستقيم .
ألا وإن القلوب تصدأ، وجلاؤها القرآن الكريم ، والقرآن هو النبع الحقيقى الذى لا ينضب ، وهو الدستور الذى يحق للامة المسلمة أن تفاخر به فى الوقت الذى تساق فيه الأمم والشعوب الأخرى سوقا إلى الدساتير الوضعية والقوانين البشرية .
القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة لهذا الدين ، وهو الكتاب الحكم الذى أنزل على النبي الكريم، وإذا كان الأنبياء السابقون عليهم السلام قد اوتوا من المعجزات ما آمن عليه البشر فى وقتهم ثم انتهت هذه المعجزات بموتهم وفناء أقوامهم ، فإن الذي أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم ظل وسيظل معجزة يدركها اللاحقون بعد السابقين ، ويراها المتأخرون كما رأها المتقدمون .. ..
وتلك وربي معجزة تتناسب وطبيعة هذا الدين الذى أراد الله له أن يكون آخر الأديان ، وتتناسب مع القرآن الذى اراد الله أن يكون اخر كتاب ينزل من السماء ، يقول النبى صلى الله عليه وسلم فى ذلك كله (( ما في الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )) (2).
و لما كان العرب أرباب الفصاحة و الحوار والمفاخرة.. نزل القرآن ليتحداهم جميعا ، إنسهم ، وجهنم قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً [م1] .
وفوق ذلك فقد استطاع القرآن الكريم أن يخترق قلوبهم وهم بعد على الكفر والضلال ، ومازال يؤثر فيها حتى قاد أصحابها إلى الهدى والايمان ، يقول جبير بن مطعم بن عدي القرشي النوفلي رضي الله عنه وكان من أكابر قريش وعلماء النسب فيها : قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ( وذلك فى وفد أسارى بدر ) وسمعته يقرأ فى المغرب بالطور ، فلما بلغ الآية أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون . كاد قلبي يطير (( كما روى ذلك الشيخان في صحيحيهما )) (1) .
وفى رواية ((كان ذلك أول من دخل الإيمان في قلبي)) وإن كان قد تأخر إسلامه إلى ما بين الحديبية والفتح (2)).
وقبل خيبر كانت قصة عتبة بين ربيعة ، وهى مشهورة ، وإسنادها حسن ، وخلاصتها أن قريش بعد ما رأت انتشار الإسلام اختارت أحسن رجالاتها ليكلم النبى صلى الله عليه وسلم ، فجاء أبو وليد عتبة بن ربيعة ، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ، وهو منصت له ، فلما فرغ قال : ((أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ، قال: أنصت ، فقرأ عليه مطلع سورة فصلت حتى بلغ قوله تعالى فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم)) ، ورجع إلى أهله ، واحتبس عن قريش فترة.
وفي بعض الروايات أنه جاء إليهم . فقال بعضهم لبعض : نُقسم ، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك ؟ قال: ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني وإجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصيبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر عليهم، فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا : سحرك يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم(3).
وكان للقرآن أثره البالغ على أفئدة قساوسة النصارى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (4) [المائدة:.
بل تأثر مردة الجان الذين كانوا قبل نزوله يسترقون السمع ، فقالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً (5) .(46/1)
وأخرج الحاكم وغيره بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال : هبطوا – يعنى الجن – على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه قال أنصتوا قالوا: صه !وكانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، فأنزل الله عز وجل : وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولّوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين [الأحقاف:29-32].
وإذا كان هذا منطق الجن اتجاه القرآن فللملائكة كذلك شأن مع القرآن الكريم ، فقد أخرج البخارى ومسلم فى صحيحيهما واللفظ للبخاري عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال : بينما هو يقرأ القرآن من الليل سورة البقرة ، وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكتت، فقرأ فجالت الفرس ، فسكت فسكتت الفرس ، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف ، وكان ابنه يحيى قريبا منها، فأشفق أن تصيبه ، فلما اجتروا – يعني ولده حتى لا تطأه الفرس – رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : ((أقرأ يا ابن حضير. أقرأ يا ابن حضير ، قال : فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريبا، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح ، فخرجت حتى أراها قال : وتدرى ما ذاك ؟ قال : لا ، قال : تلك الملائكة دنت لصوتك ولو أنك قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى عنهم (2))) .
وفى صحيح مسلم – أيضا – عن البراء قال : ((كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين (والشطن : الحبل الطويل المضطرب) ، وإنما ربطه بشطنين لقوته وشدته فتغشته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال : تلك السكينة تنزلت للقرآن (3))).
إخوة الإيمان : وكذلك يكون أثر القرآن حين يتلى ، وليس بمستغرب أن يحول القرآن قلوب اللصوص المجرمين إلى قلوب علماء متميزين ، وعباد صالحين.
والفضيل بن عياض العالم العابد – عليه رحمة الله – نموذج واضح لما أقول، وقد حكى الذهبى فى سير أعلام النبلاء قصة توبته وتأثره بالقرآن فقال: كان الفضيل بن عياض شاطرا ، ( يقطع الطريق ) بين أبيورد وسرجس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية ، فبينما هو يرتقى الجدران إليها إذ سمع تاليا يتلو ألم يأن للذين أمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله .. الآية (1) فلما سمعها قال : بلى يا رب، قد آن، فرجع، فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة (أي مسافرون) فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل فى المعاصي وقوم من المسلمين هنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.(2)
رحم الله الفضيل حجة زمانه، وعابد دهره، وأورع الناس من حوله .. وأكرم وأعظم بهذا الكتاب الذى أحيا أمة بعد أن كانت فى عداد الموتى .
وصدق الله وهو أصدق القائلين لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون (3)
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه .. وألان قلوبنا وفقهها لمحكم ترتيله .. أقول هذا وأستغفر الله .
(2)د الحديث اخرجه مسلم ج1 / 134 .
(1) البخارى ( مع الفتح 8 / 603 ، ومسلم 1 / 338 ، الإصابة 2 / 65 ، 66 ) .
(2) ( الإصابة 2 / 66 ) .
(3) تفسير ابن كثير 7 / 151 ، 152 .
(4) المائدة / 83 .
(5) الجن / 1 .
(2) الفتح 9 / 61 ، مسلم 1 / 5548 .
(3) مسلم 1 / 547 ، 548 .
(1) الحديد / 16 .
(2) السير 8 / 373 .
(3) الحشر / 21 .
[م1] ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله رب العالمين نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فى ربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء.
أيها المسلمون: ولأثر القرآن على النفوس خشي المشركون على أبنائهم أن يتأثروا به حين يسمعونه من المسلمين الخاشعين لتلاوته.(46/2)
وقصة أبى بكر رضى الله عنه مع ابن الدغنة تكشف عن هذا ، وذلك حين خرج أبو بكر مع من خرج يريد الهجرة إلى الحبشة فلقيه ( ابن الدغنة ) فقال : مثلك لا يَخرج ولا يُخرج يا أبا بكر وأنا جار لك، ثم جاء ابن الدغنة إلى قريش فى ناديها وأعلن جواره له، فلم تكذبه قريش لكن قالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه فى داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا فى ذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نسائنا وأبنائنا، فقال ذلك لأبي بكر، فمكث فترة كذلك، ثم بدا لأبى بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقذف ( يجتمع ) عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه، وينظرون إليه – وكان أبو بكر رجلا بكاء لايملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين فأرسلوا إلى ابن الدغنة يشتكون أبا بكر إليه ، ويقولون إنا خشينا أن يفتن نسائنا وأبنائنا فانهه .... الخ القصة التي رواها البخاري في الصحيح (1) .
إذا كان أثر القرآن وهو غيض من فيض، وقليل من كثير، فالسؤال هنا الذى يجب أن نسأله أنفسنا : ما هو أثر القرآن علينا نحن المسلمين فى هذه الأزمة ؟ وقبل هذا السؤال سؤال آخر: ما هو نصيبنا من قراءة القرآن ؟ وما حظنا من الخشوع والتدبر حين يتلى القرآن ؟ .
إن واقع كثير من المسلمين اليوم واقع مر ، يرثي له مع الأسف الشديد، فالمصاحف تشكو من تراكم الغبار عليها ، والهجر أصبح ديدن المسلمين إلا من رحم الله، البضاعة من كتاب الله مزجاة، ويرحم الله زمانا كان الشيخ الكبير يأتي إلى النبى صلى الله عليه وسلم ويقول : ((أقرئني يا رسول الله ؟ قال له : أقرأ ثلاثا من ذات (الر) . فقال الرجل :كبرت سنا واشتد قلبي وغلظ لساني ، قال : فاقرأ من ذات (حم) فقال مثل مقالته الأولى، فقال: أقرأ ثلاثا من المسبحات، فقال مثل مقالته، فقال الرجل: ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة، فأقرأه إذا زلزلت الأرض حتى إذا فرغ منها قال الرجل: والذى بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدا، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح الرويجل، أفلح الرويجل (1))) ..
وإذا كان فضل سورة (الزلزلة) هذا، فما بال من تتوفر لهم الأداة لقراءة القرآن كله، ويتوفر لهم من النشاط والقوة ما يمكنهم من إعادة قراءة القرآن مرة تلو المرة؟ اللهم لاتحرمنا فضلك، ولا تصدنا بسبب ضعف نفوسنا وغلبة شهواتنا عن كتابك.
إخوة الإسلام: هل نسينا أن الحسنة بعشرة أمثالها وأن (الم) فيها ثلاثة أحرف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)) .. فكيف سيكون تعداد الحروف فى الصفحة الواحدة ، وكم سيكون عدد الحسنات فيها؟
ألا إن فضل الله واسع: ولكن هل من ساع إلى الخير جهده؟ أليس من اللائق بك أخي المسلم أن تبكر فى المجيء إلى الصلوات الخمس لتحظى بقراءة قسط من القرآن وتحصل على رصيد كبير من الحسنات، فإن أبيت، بكرت فيما تستطيع التبكير منها، فإن تكاسلت أليس يجدر بك أن تبكر يوم الجمعة لتقرأ ما تيسر من القرآن، وخاصة سورة الكهف التى أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن ((من قرأها يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدميه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين)) (2) .
أيها المسلمون: صلوا على النبي صلى الله عليه وسلم .
(1) الفتح 6 / 230 ، 231 .
(1) الحديث رواه أحمد والحاكم وأبو داود وغيرهم بإسناد صحيح . ( المسند 10 / 8 ح 6575 ) .
(2) حديث صحيح أخرجه الحاكم وغيره . زاد المعاد 1 / 277 . ... ... ...
... ... ...
... ... ...(46/3)
أثر علو الهمة في إصلاح الفرد والأمة
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }1، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}2 ،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}3 .أما بعد:
أيها المسلمون: ففي قرن وبعض قرن، وثب المسلمون وثبةً ملأوا بها الأرض قوة وبأساً، وحكمةً وعلماً، ونوراً وهداية، وهاضوا الممالك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا، وهامات أفريقيا، وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشريعتهم ولغتهم، وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب، وتتقلب بها الألسنة، وتحقق فيهم النموذج الفريد، والمثل الأعلى للبشرية، وأنهم خير أمة أخرجت للناس بعد أن كانوا طرائق قدداًًًًًًًًًًًً، لا نظام ولا قوام ولا علم ولا شريعة.
إنها الهمة العالية التي تجعل العبد بقدميه على الأرض وروحه وقلبه معلق بالله تعالى وجنة عرضها السموات والأرض.
أيها المسلمون: والناظر اليوم إلى حال المسلمين يرى ضعفاً وتفرقاً وتخلفاً، وعيش في مؤخرة الأمم.
إن الهمة العالية هي سلم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب الخير، وهي من وسائل خلاص المسلمين مما هم فيه اليوم. لا سيما الهمة في باب العلم والجهاد، اللذين هما سبب ارتفاع الدرجات، فمن تحلى بها لان له كل صعب، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها معاني الإيمان، إذ أن همم الرجال تزيل الجبال .
همم الأحرار تحيي الرمما نفخة الأبرار تحيي الأمما
إن أصحاب الهمة العالية فحسب هم الذين يقومون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، وهم الذين يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم. لا المولعين " بإحراز الترقيات الدنيوية، وجاهدون في سبيليها ليل نهار، ولا يقبلون في السوق إلا على من يساومهم بأثمان مرتفعة، وما بلغوا من تعلقهم بالدعوة إلى الاستعداد للتضحية في سبيلها بمنافعهم، بل ولا بمجرد إمكانيات منافعهم، فإذا كنتم ترجون معتمدين على هذه العاطفة الباردة للتضحية أن تتغلبوا في الحرب على أولئك المفسدين في الأرض الذين يضحون بالملايين من الجنيهات كل يوم في سبيل غايتهم الباطلة، فما ذلك إلا حماقة4.
أيها المسلمون إن أصحاب الهمم العالية هم القلة التي تنقذ المواقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة الانتشال السريع من وحل الوهن، ووهدة الإحباط.
لا تنظرن إلى العباس من صفر في السن وانظر إلى الجد الذي شادا
إن النجوم نجوم الأفق أصغرها في العين أذهبها في الجو إصعادا
ولقد توارت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، وتنوعت أساليب القرآن الكريم في ذلك:(47/1)
فمنها: ذم ساقطي الهمة، وتصويرهم في أبشع صورة: كما قص الله علينا من قول موسى عليه السلام لقومه:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}5. وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}6. وذم الله تعالى المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم وقناعتهم بالدون فقال تعالى في شأنهم:{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ}7. وبين سبحانه أنهم لسقوط همتهم قعد واعن الجهاد فقال:{وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}8. وشنع عز وجل الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر هممهم، وغاية علمهم، باعتبار هذا الإيثار من أسوأ مظاهر خسة الهمة وبين أن هذا الركون إلى الدنيا تسفل ونزول يترفع عنه المؤمن:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}9.
وأثنى الله تعالى على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}10. وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما ذكره الله عز وجل في قصص الأنبياء لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولقد ذكر الله تعالى أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف الرجال في مواطن البأس والجلد والعزيمة والثبات على الطاعة والقوة في دين الله فقال عز وجل : {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}11. وقال سبحانه :{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} 12، وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}13.
ولقد أمر الله تعالى المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات فقال عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}14. وقال تعالى:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}15. وقال: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتٌِ}16. وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}17. وقال تعالى:{لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}18.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والكسل، وقال لأصحابه: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها"19.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أكمل حالات المؤمن ألا يكون له هم إلا الاستعداد للآخرة ، فقال صلى الله عليه وسلم: من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له20.
وعامة نصوص الترغيب والترهيب في الوحيين الشريفين إنما ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجهه إلى إقامة الطاعات، وتجنب المعاصي والمخالفات، وإلى بعث الهمة وتحريكها، واستحثاثها للتنافس في الخيرات.(47/2)
قال صلى الله عليه وسلم : إذا سألتم الله فأسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة21.
أيها المسلمون: إن من سجايا الإسلام التحلي بعلو الهمة وذلك يجلب خيراً غير مجذوذ، ويجري في العروق دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل.
إن التحلي بعلو الهمة يسلب سفاسف الآمال والأعمال، ويجتث شجرة الذل والهوان، والتملق والمداهنة ، قال الشنقدي:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها لمن خاف القلى متحول
أديم مطال الجوع حتى أميته وأصرف عنه الذكر صفحاً فأذهل
وأستف ترب الأرض كي لا يرى له علي من الطول امرؤ متطول
بارك الله لي ولكم في القران العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد:
أيها المسلمون: لا يظنن ظان أن حديثنا عن علو الهمة، وأننا عندما نتحدث عن علو همة أسلافنا العظام يعني الانطواء في الماضي وقطع الصلة بالحاضر والمستقبل، وإلا صرنا كالترجمان الذي يتوقف أمام الآثار ويشيد بالماضي فحسب، دون أن يقدم شيئاً للحاضر.
ولا يظنن ظان أننا بهذا الحديث عن علو همة سلفنا الصالح، وعن مجدهم وعزهم أننا نرجع إلى الوراء في زمن تسابق فيه الأمم نحو المستقبل، فإن اقتداءنا بخير أمةٍ أخرجت للناس هو ترق وصعود وارتفاع إلى مستوى ذلك الجيل الفريد الذي لم تعرف البشرية له نظيراً، وإن إبراز هذه النماذج أقرب طريق إلى إيقاظ الهمم نحو إصلاح هذه الأمة التي لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها قال تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ }22. وباب المجد والمكرمات لم يزل مفتوحاً يرحب بكل راغب:
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منه ما يعجبك
فليس لدى المجد والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
فيا من يروم ولوج هذا الباب واجه الحقائق، وتبصر موقع قدمك، ولا تفزع إلى انتظار خراب العالم على أمل أن ينهض المسلمون على أنقاضه، ولا تهرب إلى افتراض حصول خوارق للسنن التي لا تحابي من لا يحترمها، قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}23. وتذكر يوم بدر حين خرج ثلاثة من الأنصار فقالوا: والله لا نطعن في أحسابهم ولا أنسابهم، ولكن أخرج لنا أكفاءنا من قريش، فأخرج لهم علياً وحمزة وأبا سفيان بن الحارث فقتلوهم وكذلك الناس دوماً ، تحب المكافأة حتى إذ هم يقتلون، والقرشية اليوم تتمثل في الصروح العلمية، والمجامع الأدبية، والمؤسسات الصحفية والمعاهد السياسية والدور الوثائقية، والشركات الصناعية، والقاعات المصرفية، وعلى دعاة الإسلام اليوم أن ينطلقوا منها للمبارزة 24
هذا زمان لا توسط عنده يبغى المغامر عالياً وجليلا
كن سابقاً فيه أو ابق بمعزل ليس التوسط للنبوغ سبيلا
وأنت أنت أيها المصلح المرتقب، والمجدد المنتظر، ستخرج إلى الحياة بإذن الله مهما حاول الفرعون أن يتقيك، ومهما وأد من الصبية كي يبدل وعد الله الذي لا يخلف، قد تكون الآن كامناً في ضمير الغيب، أو حقيقة في عالم الشهادة، قد تكون رضيعاً في المهد، أو لعلك نشئت تقرأ الآن هذه السطور:
أنت نشء وكلامي شعل عل شدودي مضرم حريقا
ليس في قلبي إلا أن أرى قطرة فيك غدت بحراً عميقا
لاعرى الروح هدوء ولتكن بحياة الكدر والكدح خليقا
إن أمتك المسلمة تترقب منك جذبة عمرية توقد في قلبها مصباح الهمة في ديجور هذه الغفلة المدلهمة، وتنتظر منك صيحة أيوبية تغرس بذرة الأمل في بيداء اليأس وعلى قدر المئونة تأتي من الله المعونة، فاستعن بالله ولا تعجز.
قد نهضنا للمعالي ومضى عنا الجمود
ورسمناها خطى للـ ـعز والنصر تعود
فتقدم يا أخا الإسـ ـلام قد سار الجنود
ومضوا للمسجد إن المجد بالعزم يعود
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}25. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:مثل أمتي مثل المطر لا يدري آخره خير أم أوله وقال صلى الله عليه وسلم: لا يزال الله في هذا الدين غرساً، يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة26.
وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله زوي لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي يبلغ ملكها ما زوي لي منه27
وقال صلى الله عليه وسلم:ليبلغ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعزل الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر28.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وآله وصحبه.29
________________________________________
1 -(102) سورة آل عمران.
2 -(1) سورة النساء.
3 -(70)-(71) سورة الأحزاب.(47/3)
4 - علو الهمة لمحمد إسماعيل مقدم ص411 نقلا ً عن (تذكرة دعاة الإسلام ص56).
5 - سورة البقرة: 61
6 - سورة الأعراف: 175 -176
7 سورة التوبة 87
8 - سورة التوبة 46
9 - سورة التوبة 38
10 - سورة الأحقاف 35
11 - سورة التوبة 108
12 - سورة النور 36 -37
13 - سورة الأحزاب 23
14 - سورة الحديد 21
15 - سورة آل عمران 133
16 - سورة البقرة 148
17 - سورة الذاريات 50
18 - سورة النساء 95
19 - رواه الطبراني من حديث الحسين بن علي رضي الله عنه وصححه الألباني.
20 - رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه وصححه الألباني.
21 - رواه البخاري.
22 - سورة الأنبياء 10
23 - سورة الرعد 11
24- علو الهمة لمحمد أحمد إسماعيل المقدم عن (صناعة الحياة) ص51 بتصرف .
25 - سورة الشورى 28
26- رواه أحمد، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6/231)
27- رواه مسلم.
28- رواه أحمد، والطبراني في الكبير والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
29 -المرجع: كتاب علو الهمة للشيخ/ محمد أحمد إسماعيل المقدم.(47/4)
أجيالنا بين الواقع والأمل المنشود
الحمد لله الملك الجليل ، المنزه عن النظير والعديل ، المنعم بقبول القليل ، المتكرم بإعطاء الجزيل ، تقدس عما يقول أهل التعطيل ، وتعالى عما يعتقد أهل التمثيل ، نصب للعقل على وجوده أوضح دليل ، وهدى إلى وجوده أبين سبيل .
أحمده كلما نطق بحمده وقيل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنزه عمَّا عنه قيل ، وأصلى على نبيه محمد الصادق النبيل ، وعلى أبى بكر الذي لا يبغضه إلا ثقيل ، وعلى عمر وفضل عمر فضل طويل ، وعلى عثمان ، وكم لعثمان من فعل جميل ، وعلى عليّ وجحد قدر علي تغفيل .
إخوتاه …
أجيالنا بين الواقع والأمل المنشود ، تلك ـ لعمر الله ـ قضية تثير الأسى ، والكلام عنها ذو شجون ، فإنَّ الصحوة الإسلامية منذ بدأت وهي تهفو لإيجاد جيل " التمكين " ، الجيل الذي وعد الله تعالى بقوله : " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا "
الجيل الذي وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ــ " بشر هذه الأمة بالسناء والدين و الرفعة و النصر و التمكين في الأرض " [1]
وكلما أتى جيل ترقب أن تكون النصرة فيمن يليه ، فإذا الجيل الناشيء أسوأ ممن كان قبله ، قالوا : لعل الأبناء الذين سينشأون في بيت الملتزمين تأتي النصرة على أيديهم ، فإذا الأولاد أسوأ من الآباء ، وذلك لأنَّ الآباء لم يربوا تربية إسلامية صحيحة ، وذلك لأنَّ الالتزام الأجوف صار ظاهرة مريرة ، وصارت كل معاني الالتزام مبتسرة في المظهر فضاع الجوهر ، وحقيقة الأمر على أنَّ الدين كل واحد " ادخلوا في السلم كافة " أي الإسلام ، فالاهتمام بالجانبين حتم لازم ، فمظهر يدل على جوهر ، وجوهر يدلل عليه حسن المظهر ، عقيدة راسخة وإيمان قوي يصدقه عمل وطاعة لله تعالى ، يقين بالله وحسن توكل عليه يفرز عبادة وقربات إلى الله تعالى ، توحيد بالله وإخلاص يشده اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم وتمسك بسنته الغراء ، تزكية للنفوس وتربية للقلوب تنتج برًا وحسن خلق .
كذا كان الأمل المنشود أن يستوعب أهل الصحوة حقيقة تلك الأمور في حياتهم وعند تربيتهم لأولادهم ، ولكن يبدو أنَّ المفاهيم اختلطت ، ومع كثرة الجدل ونفث الأعداء للشبهات ضاعت الحقيقة ، وتعددت المناهج ، وكان يقال بالأمس : إنَّ الأهداف مشتركة والوسائل مختلفة ، وإنَّي لأجزم الآن بأنَّ الأهداف بين أهل الصحوة قد اختلفت ، ساعد على ذلك اختلاف المنابع والمشارب ، لذلك دعونا الآن نطرح هذه القضية من جديد ، بداية من تحديد الأهداف وجلائها ووضوحها عند الجميع ، مرورًا بتفسير الواقع ودراسة الظواهر السلبية ، واقتراحات العلاج سائلين الله تعالى الهداية والتوفيق والرشاد .
أولاً : الهدف المنشود
تحديد الهدف هو أصل هذا الإشكال ، فكثير من الشباب يعيشون اليوم بلا هدف ، فإذا سألت واحدًا منهم ما هدفك ؟ ماذا تريد ؟ ما أقصى آمالك وأمانيك ؟ ما هي أحلامك ورغباتك ؟
فإمَّا أن يجيب بإجابات إنشائية لا يفقهها ، أو أن يردد أقوالاً سمعها من هنا أو هناك ولم يؤمن بها ولا صدقها ، وإنما يستعملها عند الحاجة إليها ، والدليل على ذلك ما يأتينا من أنَّ علامة وضوح الهدف في الأذهان أن يصير كقطب الرحى تدور حوله جميع حركاتك وسكناتك ، جميع أقوالك وأفعالك ، كلها في خدمة هذا الهدف .
أمَّا الغالبية الصادقة مع أنفسها فستقول : لا أدري .. لا أعرف .. ربما كذا …أو كذا .
أحبتي في الله ..
يجب على المسلم المعاصر أن يجعل له هدفاً محدداً ، أن يجعل لوجوده غاية عظمى ، أن يجعل لحياته رسالة سامية ..
إننا ـ أحبتي في الله ـ ما لم تتجسد في حياتنا قيم الإسلام ومثله العليا ، إذا لم يصبح الإسلام مقياس كل حكم ومفتاح كل قضية ، ومصدر كل تصور عندنا ؛ فلن يطول الزمن حتى يميل بنا الهوى ، وتعبث بنا النَّوَّات ؛ لأننا نعيش ـ وللأسف ـ في مجتمع جاهلي لا يمتُّ إلى جوهر الدين بصلة ، إننا نعيش في مجتمع بعيد عن القيم ، مجتمع تعطلت فيه كل حواس الخير ، نعيش في مجتمع ازدحمت فيه عوامل الإفساد ، فإن لم يكن شبابنا على قدر كبير من العقيدة وسمو الخلق ، وقوة الإيمان ؛ فإنهم سيضيعون حتماً لا محالة ، نسأل الله أن يثبتنا وشباب المسلمين على الإيمان ، اللهم ثبت الإيمان في قلوبنا .
نعم ! إن لم تكونوا ـ إخوتي الشباب ـ مُهَدِّفِينَ حياتكم ، شديدي المحاسبة لأنفسكم ، دائمي المراقبة لربكم ؛ فستزل بكم الأقدام بعد ثبوتها ، وتذقوا السوء ، فإن لم تكونوا متورعين عن الشبهات ، مقبلين على الطاعات ، حريصين على النوافل والعبادات ؛ فستصابون حتماً بلوثات هذا المجتمع الذي تعيشون فيه ، وسيصيبكم نصيب كبير من شذوذه وانحرافه ، فما أنتم إلا جزء من هذا المجتمع .
إخوتاه ..(48/1)
إنَّ أهل الدنيا قد اختاروها هدفًا ينشدونه ، فأسرار الكون عند علمائهم غاية ، والرفاهية والرخاء والظفر بملذات الحياة عند ساستهم وعوامهم هدفًا ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى سوء عاقبة هؤلاء فقال ـ تعالى ـ : " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم " وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الحرص على الدنيا وجعلها هدفًا ضد اتجاه المؤمن ، قال صلى الله عليه وسلم : " و لا يزداد الناس على الدنيا إلا حرصا و لا يزدادون من الله إلا بعدا " [2]
فلا يجوز للمسلم المعاصر الذي يعيش التحدي العالمي الكبير ، أن يعيش هكذا ضائعاً مهملاً ، أو مشغولاً بالطعام والشراب والجنس والشهوة ..لا ينبغي أن يكون شعاره في الدنيا قول الشاعر :
إنما الحياة طعام وشراب ومنام فإن فاتك هذه فعلى الدنيا السلام
فالمسلم صاحب رسالة ، صاحب هدف ، يجعل حياته وقفاً على هدفه ، ولسان حاله :
يهون علينا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
إخوتاه ..
ما هدفنا إذن ؟ القرآن الكريم يهدِّف حياتك ، ويدلك على الوسائل لتحقيق هذا الهدف في عبارات موجزة ، جامعة شافية كافية .
يقول ربي ـ وأحق القول قول ربي ـ : " يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم "
خذ الهدف : " وتكونوا شهداء على الناس " هذا هو هدفك نص عليه القرآن .
إنك خلقت وبعثت لهذه الأمة ؛ لكي تكون شهيداً على العالم ، بل على العالمين ، لما يبعث نبي الله نوح يقول الله له : هل بلغت ؟ ، يقول : نعم ، فيقال : من يشهد لك ؟ ، يقول : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهل أنت جاهز للشهادة على قدرها ؟!!
" ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " هذا هدفك ينص عليه القرآن .
" ليكون الرسول شهيداً وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم المصير " هذه هي دعوة القرآن لتهديف الحياة .
إخوتاه ..
إن أخطر ما في قضية اليوم أن المسلمين ـ وللأسف الشديد ـ صار في قلوبهم شعور أن في هذه الدنيا من هو أفضل منه ، وهو أخطر ما يحطم القلب ، كثيراً ما أحرص وأقول لكم : إنكم ـ أحبتي في الله ـ أفضل من على ظهر الأرض ، أنتم ومن مثلكم ، ينبغي أن تعتقدوا هذه ، ورضي الله عن عمر حين قال : كنا أذل قوم ، فأعزنا الله بالإسلام ، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله .
" الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " ، إننا ينبغي أن نوقن بذلك ، أن نؤمن بذلك ، أن نعيش لذلك ، أننا شهداء على الناس .
هل عرفتم هدفكم ؟
هدفك : دينك لحمك دمك وإن قتلت أو حرقت ، فإننا لا نعيش لأنفسنا بل نعيش لديننا ، هذا هدفي .
أما الغاية فهي رضا الله والجنة ، غايتك رضا الله ، أن تصل إلى رضا الله من خلال هذا الهدف ، " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله "
هذا هو هدف إخراجك ، أن تكون لترضي الله ، هذا هدفك ، أن تعيش لدينك .
إخوتاه ..
إننا بحاجة اليوم إلى أن نعيش الإسلام وبالإسلام وللإسلام ، ومن العجيب أنك اليوم تجد من لا يزال يجادل في أهمية طلب العلم والدعوة إلى الله ، المسألة لا تحتاج إلى نقاش .. اليوم لازلت تجد امرأة تجادل : أنعمل خارج البيت أم لا ؟ ! ، تجادل في أوامر الله !! ، الله يقول : " وقرن في بيوتكن " فانتهت القضية ، وهكذا شأن المؤمنين والمؤمنات أن يذعنوا لأوامر ربهم " وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير "
والسؤال الآن :
(1) : التركيز في الهدف ( تعلق القلب بالهدف )
إن الشاب الذي في المرحلة الثانوية ويريد أن يلتحق بكلية الطب مثلاً ، ينبغي أن يكون الالتحاق بكلية الطب هدفاً يرمي إليه ، ولكي يكون صاحب هدف فلابد أولاً من التركيز في الهدف ، بأن يكون هدفه نصب عينيه دائماً ، فلا يفارق مَخِيلَتَه ، عندما يأتي لينام يتذكر يوم النتيجة ، ويرى أقرانه وقد حصدوا أعلى الدرجات فتثور حميته وغيرته فينتفض جالساً ، ويكبُّ على كتبه ، فيكون هدفه نصب عينيه أمامه يدور دائماً في مخيلته .
نعم ـ إخوتاه ـ ..
حين تركز في الهدف فيصبح الإسلام غاية تتراءى لك ، فسوف يحدث انقلابًا جذريًا في حياتك ، وتعالوا نصدق مع أنفسنا : هل نحن نعيش لله أم لأنفسنا أم لأنفسنا ولله ؟!!
أسألكم بربكم .. هل حلمت ـ ولو مرة ـ أنك ستؤذن وتؤم في كل بقعة من الأرض لم تعلَ فيها راية الإسلام ؟ ، هل حدث مثل ذلك ؟ لماذا الإسلام ليس على بالك ؟، لماذا ليس على بالك دينك ؟ ، لماذا التمكين ليس في رأسك ؟
أخي الكريم …(48/2)
ماذا تريد ـ يا عبد الله ـ الآن ، سل نفسك هذا السؤال ، ما الذي يدور بخلدك ؟ ما هي أحلامك وطموحاتك ؟ ماذا تنشد ؟ إنك ـ وللأسف ـ تريد أن تملك شقة واسعة ، وزوجة جميلة ، ومرتباً عالياً ، وسيارة فارهة ، تريد ملابس جميلة ، تريد أن يكون لك احترام وتوقير عند الناس ، أليست هذه وغيرها من الفانيات هي آمال السواد الأعظم من المسلمين اليوم ، فكيف بالله تتكلمون عن نصرة وتمكين ، إنها مجرد خواطر عابرة ، أو حماسات قلبية سرعان ما تفتر أمام مغريات الدنيا الزائلة ، نعم يا أخي ، صارت هذه همومنا ، آمالنا ، أحلامنا ، رغباتنا ، أهواؤنا ، أمَّا النبي محمد صلى الله عليه وسلم فكان هدفه نشر الدين ، وكان يربط قلوب صحابته رضوان الله عليهم بهذا الهدف بحيث لا يفارقهم .
قال لسراقة في قصة الهجرة الشهيرة : كيف بك إذا لبست سواري كسرى ، وهو بعد مطارد ، ولم يكن قد مكِّن لرسول الله في الأرض .
وفي غزوة الأحزاب التي يقول عنها ربنا تبارك وتعالى : " إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً "
و رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ المعول ويضرب صخرة عرضت للصحابة فلم تنفع فيها المعاول : فقال صلى الله عليه وسلم: "بسم الله" فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر ، وقال: " الله أكبر أُعطيت مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا".
ثم قال: "بسم الله" وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر فقال: " الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا".
ثم قال: "بسم الله" وضرب ضربة أخرى فقطع بقية الحجر فقال: "الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا"[3].
نعم فقلبه -صلى الله عليه وسلم - متعلق بالهدف ، يحفر الخندق وهم محاصرون خائفون قد أضرَّ بهم زمهرير البرد ، وهو ينظر إلى قصور الشام والمدائن واليمن ، أعرفت كيف ربى النبي أصحابه وفي أشد الصعاب جعل مفتاح النصر هو تعلق القلب بالهدف ، واليقين بأنَّ الله ما كان مخلف وعده رسله ، والثبات والصبر الذي هو ثمرة الاعتقاد الجازم .
(2) : أن يعيش حياته طبقاً لهدفه .
إخوتاه ..
إذا كان الإسلام عزيزاً عليكم ، وإذا كنتم قد جعلتموه هدفكم الذي تعيشون من أجله ، وتموتون من أجله ،فيلزمكم أن تجعلوا علاقاتكم وأعمالكم ومشاغلكم اليومية تتفق وتتطابق مع الإسلام في حياتكم العملية ، وألا يوجد بين معيشتكم وبين هدفكم أي نوع من التضارب أو التضاد .
إذا جعلت الإسلام هدفك ؛ فلن يكون هناك تضارب بين حياتك وبين الإسلام إطلاقاً
أريدك إذاً أن تعيش حياتك للإسلام ، فإنَّ الذين يعيشون اليوم باسم الإسلام لا يحتاجون مجرد إرشادهم ووعظهم وتذكيرهم ، وإصدار الصحف والنشرات لهم ؛ بل يحتاجون من ينتشلهم من الجاهلية التي تضغط على حسهم بالأمر الواقع ؛ ليعيشوا الإسلام ، ليعيشوه حقيقة لا ليتمنوه ، ولا ليعجبوا به ، ولا ليتكلموا عنه ، بل ليعيشوه ، نريد أن نعيش الإسلام ، نعيشه عيشة حقيقية ، أن نعيش الحياة كما عاشها النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، كما رسمها لتا ، نعيش لله ، فالطعام والشراب للتقوي على طاعة الله وعبادته ، وطلب الرزق للكفاف ، والزواج عفة وإحصان من غوائل الشيطان ، وفي بضع أحدكم صدقة ، والأخلاق السمحة أصل في التعامل مع الناس برهم وفاجرهم ،المسلم والكافر ، وعلو الهمة صفة لازمة ، وطلب العلم من المهد إلى اللحد ، والعبادة قربة " اسجد واقترب " فاستكثر من الوصال ، إنها حياة واقعية إلى أبعد حد ولكن الشيطان يثبطنا عنها ويصعبها لنا ، فيطرد عن ذهنك إرادتها فاستعينوا بالله ولا تعجزوا ، فالأمر بالله جد يسير .
إخوتاه ..
من علامات من يعيش وفق هدفه : أنْ يزيح من أمامه كل ما عارض هذا الهدف ، إنها التصفية والتخلية ، لذلك قال حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح مسلم ـ : " ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع "
فإذا عشت الإسلام ، فكل ما يعارضه فتحت النعل ، لابد أن يكون الأمر هكذا ، فلا تنشغل بالترهات والشبهات التي ينفث بها أعداء الإسلام من حين لآخر ، ولا تستوقفك الدنايا مما يقع من سفاسف الأمور ، ولا تُعر اهتمامًا بأصحاب الدنيا وخلانها ، ولا تقع في وحل شهوة دنية ، وخذ الأمر بعزة وكبرياء المؤمن ، قل لنفسك حينها : أ أقع في مثل درهم أو غانية ، تالله ما لهذا خلقتُ ؟ إنَّ هذا ليصدني عن السبيل وما كنت لأذهب ديني وأضيع عمري ونفسي في مثل هذه الدنايا التي أربا بنفسي من الوقوع فيها .(48/3)
وهذا مثال واقعي : فالطالب المتفوق في دراسته تجده يقوم وينام على هدفه أن يكون الأول على دفعته ، فانظر لمثل هذا إن جاءه زميل ثرثار أو جاءت فتاة تطلب منه أن يشرح لها كذا وكذا ليلة الامتحان ، إنني ما أتصور إلا أنه سيغلق الباب أمامها أو ينهي الحديث معها سريعًا ، ويقول : كيف لي أن أضيع مستقبلي من أجل هذا أو تلك ؟!!
وهذا أليق بك ـ أيها المؤمن ـ فمستقبلك معرض للخطر مع كثرة الالتفات ، " فاترك البحر رهوًا " ، تجاوز تلك العقبات ، امض في سيرك ، وهذا المعنى علمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلمنا إذا صلينا ألا نتلفت بحواسنا ولا بقلوبنا " و إذا قمتم إلى الصلاة فلا تلتفتوا فإن الله عز و جل يقبل بوجهه على عبده ما لم يلتفت " [4]
وقال صلى الله عليه وسلم : " الشهداء الذين يقاتلون في سبيل الله في الصف الأول و لا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا فأولئك يلقون في الغرف العلا من الجنة يضحك إليهم ربك إن الله تعالى إذا ضحك إلى عبده المؤمن فلا حساب عليه" [5]
فأعلى الناس منزلة عند الله أكثرهم استقامة على أهدافهم ، الذين لا يلتفتون بوجوههم لأي عارض ، وعلى هذا فكن فإنَّ هذا السبيل سيقطع علينا من البداية الخوض في مشاكل كثيرة ، فبهذه العزيمة والهمة العالية والاعتزاز بالانتماء لهذا الدين ستتخلص من عقبات كثيرة ، كل منها قد يودي بك ويقطع عنك السبيل إلى ربك لو تمهلت ونظرت فالتفتت فحذار حذار .
إخوتاه ..
من علامات الحياة وفق الهدف : الاستعداد الجاد والمراقبة المستمرة
فهدف المسلم يحتاج إلى ذكاء ، يحتاج إلى مراقبة كل ما يصدر عنه من حركات وأعمال ، ولابد له من إعداد العدة ، فللسبيل شروط للسير وقواعد للمرور لابد من الانضباط بها .
انظر ـ على سبيل المثال ـ من يريد أن يقوم الليل لابد أنْ يتواصى بعدة أمور :
يقول ابن الجوزي : " لقيام الليل شروط ظاهرة ، وشروط باطنة .
أما الشروط الظاهرة :
1- التقليل من الأكل والشرب ما أمكن .
( فالذي هدفه قيام الليل لا يملأ معدته بكثير من الأكل والشرب ، ويقول أريد أن أقوم الليل ، لا يمكن أن تستطيع ذلك ، بل ربما لا تقوم للفجر ، فلابد إذاً أن تعيش حياتك لهدفك ولما تريد ) .
2ـ ألا يرهق جسده بالنهار . 3ـ أن يستعين بالقيلولة ..
ثم يقول ابن الجوزي : وله شروط باطنة وهي :
أولها : سلامة الصدر للمسلمين . ( فمثلاً : قد تغتاب إنسانًا فتحرم قيام الليل شهراً )
ثانياً : أن يكون عنده حب مقلق أو شوق مزعج ( فعندما تحب ربك ، فإنك ستقوم له ، أو شوق مزعج ، فتشتاق للقاء الله ، فيزعجك الشوق فتقوم)
إخوتاه ..
كذلك المسلم الذي يريد أن ينصر دينه ، صاحب هدف غالٍ ، إنَّ هذا الهدف النبيل يحتاج منك أن تراقب نشاطاتك ، فأي كلام ، أو أي حركات ، أو أي سكنات تنافي الإسلام ؛ فيجب أن تتخلص منها ، وإلا فإن الإنسان إن لم يراقب حركاته وسكناته ؛ فإنَّه من الممكن أن يجد نفسه في هذه الدنيا داخل شباك ، يبدو في الظاهر أنه يعيش ، إلا أنه ـ في الحقيقة ـ قد انتحر ، وقتل هدفه .
إن الحياة الجميلة الطيبة هي أن تحيا لهدفك ، أن تعيش لله رب العالمين ، قال الله تعالى : " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " نريدك أن تعيش لله ، نريدك رجلاً بحق
قال عمر يوماً لأصحابه تمنوا ، فقال أحدهم : أتمنى ملء هذا البيت ذهباً أنفقه في سبيل الله ، وقال الآخر : أتمنى ملء هذا البيت عبيداً أحررهم لله ، وقال عمر : أما أنا فأتمنى ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة أستعملهم في طاعة الله .
ولما قدم عمر الشام فتلقاه أمراء الأجناد فقال أين أخي أبو عبيدة فقالوا يأتي الآن فجاء على ناقة مخطومة بحبل فسلم عليه وساءله حتى أتى منزله فلم نر فيه شيئا إلا سيفه وترسه ورحله فقال له عمر لو اتخذت متاعا قال يا أمير المؤمنين إن هذا يبلغنا المقيل . أي يبلغنا الجنة .
هذا هو هدفك .. أن تصل للجنَّة ، وبعد ذلك انتهى كل شيء ، وليكن شعارك : ( ما لي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها ) ، نعم أن يعيش حياته طبقاً لهدفه .
(3) : وجود روح الهدف :
إخوتاه ..
ما أحوجنا لوجود روح الهدف في العمل . إن لكل قول حقيقة ، فهناك فرق كبير بين العمل الذي يخرج حقيقة من خلال عاطفة الدعوة لدين الله ، وبين العمل الذي يتم بصورة تقليدية ، أو مجرد أداء الواجب ، نعم إننا في هذا العصر قد رضينا بعبادات قد تحولت إلى عادات ، صرنا نؤدي الصلاة بطريقة روتينية ، نحتاج إلى وجود روح ، نحتاج إلى حماسة القلب ، فإنَّ الله يريد منا شعورنا الحي ، وإرادتنا الواعية .
في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم : " ــ إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم و أموالكم و لكن إنما ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم "(48/4)
وفي الحديث إشارة واضحة إلى أنَّ القلب محل نظر الرب ، فيا عجباً ممن يهتم بوجهه الذي هو نظر الخَلْق فيغسله وينظفه من القذر والدنس ويزينه بما أمكن لئلا يطَّلع فيه مخلوق على عيب ، ولا يهتم بقلبه الذي هو محل نظر الخالق فيطهره ويزينه لئلا يطلع ربه على دنس أو غيره فيه .
وقال صلى الله عليه وسلم " و اعلموا أنَّ الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه …." [6]
فلا يعبأ بسؤال سائل غافل عن الحضور مع مولاه مشغوف بما أهمه من دنياه ، فالله يريد منك قلبك وروحك ؛ أن يكون في العمل روح .
إخوتاه .. ليست الضجة الشكلية للعمل هي المطلوبة ، قال الله ـ تعالىـ : " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن ينالها التقوى منكم "
ينبغي أثناء العمل أن تتحرك مشاعرنا بقدر ما تعتلج هذه الأعمال في مكنونات نفوسنا ، الغذاء الحسي الذي تناله قلوبنا وأرواحنا هو هدفنا الأساسي ، حين ينبض الهدف بالحياة ؛ يصبح العمل حياً ، وحين يموت الهدف يصبح العمل إجراءاً لا روح فيه .
إخوتاه ..
إن مجرد فهم الإنسان للهدف واطمئنانه بصحته عقلاً إنما هو خطوة البداية بسلوك هذا الطريق ، وهي وحدها لا تسمن ولا تغني من جوع ، إلا أن يكون في قلبك نارٌ متقدة لنصرة الدين ، تكون على الأقل في ضرامها مثل تلك النار التي توجد في قلب أحدكم حين يجد ابناً له مريضاً ، فلا يدعه حتى يسرع به إلى الطبيب ، الأمة مريضة ، إنني أريد أن توقد في قلوبكم نار ، نار الإسلام ، الغيرة على الإسلام وللإسلام ، هذه النار تأكل مشاغلكم عن الإسلام ، وكما قالوا : حب الله : نارٌ في القلب تأكل كل ما سوى المحبوب ، نعم نارٌ تأكل كل ما سوى الهدف .
ثانيًا : واقع المسلمين ورصد للظواهر السلبية
(1) الخلل في التكوين الاعتقادي السليم
من أخطر الظواهر السلبية في حياة المسلمين اليوم ، ظاهرة " الخلل الاعتقادي " فتجد عقائد فاسدة ، وإيمان متذبذب ، وعقيدة يتشدق بها كثيرون ولا أثر لها في الواقع ، وشركيات خطيرة يقع فيها السواد الأعظم من المسلمين ، فلا زلنا نعاني من " شرك القبور " ولا زلنا نسمع في شوارع المسلمين سبًا لله وللرسول وللدين ، ولا يزال شرع الله مهمشًا لا يتحاكم إليه في أغلب بلاد المسلمين ، وأغلب الناس يقع في عقيدة القضاء والقدر ، أمَّا الولاء والبراء فحدِّث ولا حرج ، فنوالي للمصلحة الشخصية والانتماء القومي وإنْ كان من أشد أعداء الدين ، ونعادي من لا يوافقنا في طريقتنا ، ومن يخالف مصالحنا وإنْ كان من أولياء الله الصالحين .
إنَّه غياب الوعي بحقيقة التوحيد ، فليس المهم أن تلمَّ بصورة التوحيد فحسب ، فإسلام الكلمة سرعان ما يزول أو يذوب عند أول فتنة ، بل أن تعي حقيقة التوحيد فينتج هذا الوعي إيمانًا قلبيًا راسخًا تصدقه الأعمال الصالحة الظاهرة ، والخلل في هذا الجانب هو السبب الحقيقي وراء هذه الظاهرة الخطيرة .
إخوتاه ..
المسلم المعاصر يواجه تحديًا عقديًا رهيبًا ، وتيارات عاصفة من الشبهات ، وليس ثمَّ سبيل سوى أن يعي المسلم حقائق الحياة بصورة صحيحة ، فتتفتح أمامه منافذ البصر و البصيرة و حوافز العمل و التحدي ليكون أقدر على الثبات في مجال الصراع و الإغراء 0
هذا الوعي المنشود يجعل المسلم يفهم معنى الإيمان و حقائق الإسلام فيرتبط العمل بمرضاة الله و يقيم المسلم سلوكه على هدى شريعة الله ، و يهذب المسلم عواطفه حتى لا يندفع في حب الفتنة و مظاهر الفساد ، فالوعي ميزة مهمة للأمة تنمو بنمو الإيمان و عمقه في نفس المسلم ، و تزداد بتزايد يقظة الوجدان الذي يراقب الله سبحانه ، و يظل ينظر إلى يوم الدين و يحسب حساب الآخرة ،و تتوسع مع توسع العلم و المعرفة و التجربة
ولتدارك هذا الخلل لابد من رصد الأسباب التي أدت إليه
أسباب الخلل الاعتقادي في المجتمع الإسلامي
(1) الغزو الثقافي و تيارات التبشير والتغريب
فمنذ فشل الحملات الصليبية تغيرت استراتيجية الصراع بين الغرب الكافر والشرق الإسلامي ، وتحول إلى الميدان الثقافي والفكري .
وقد ظهرت وثيقة خطيرة للويس التاسع ملك فرنسا وقائد الحملة الصليبية الثامنة التي منيت بالفشل أشار فيها إلى أنَّه لا سبيل إلى النصر على المسلمين عن طريق القوة الحربية ؛ لأنَّ تدينهم بالإسلام يدفعهم إلى المقاومة والجهاد صونًا لدينهم وأعراضهم ، وأنَّ السبيل الناجع هو : تطوير التفكير الإسلامي وترويض المسلمين عن طريق الفكر بدراسة ثقافتهم على يد العلماء الأوربيين ليأخذوا منها السلاح الذي نغزو به المسلمين مستقبلاً .
وتبنى هذا الاتجاه جماعة من المستشرقين والمبشرين ، وعمد هؤلاء إلى تشكيك المسلمين في دينهم ، وإبعادهم عن مبادئه ، وتفتيت وحدتهم ، وتهيئة أذهانهم لقبول الفكر الغربي تمهيدًا للغزو العسكري .(48/5)
وتحرك هؤلاء يدفعهم حقد دفين تجاه الإسلام والمسلمين حتى قال قائلهم (وليم جيفورد ) : " متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب ، يمكننا حينئذٍ أنْ نرى العربي يتدرج في سبيل حضارتنا التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه ".
وانتشرت البعثات التبشيرية في أرجاء العالم الإسلامي ورصدت لها المليارات من الدولارات ، وافتتحت المدارس التبشيرية في كل مكان ، وشجعت البعثات العلمية من أبناء الدول الإسلامية إلى الدول النصرانية الغربية .
وقد ذكر الأستاذ محمد الصواف في كتابه "المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام " أنَّ " تحت سلطة التبشير والمبشرين أكثر من 500 جامعة ومعهد وكلية ، وأنَّ عدد الذين يشرف عليهم المبشرون في توجيههم وتعليمهم من أبناء المسلمين أكثر من 5 مليون و حوالي 200 ألف " وهذه الإحصائية في السبعينيات من القرن الماضي فلعلها الآن أضعاف مضاعفة
وعقدت المؤتمرات التبشيرية ووضعت المخططات كما نطق بها القسيس " زويمر " الذي قال : يجب إقناع المسلمين بأنَّ النصارى ليسوا أعداءً لهم ، وينبغي أنْ يتبنى التبشير رجال من المسلمين لأنَّ الشجرة لابد أن يقطعها أحد أعضائها ، ولا يجب أن يتسرب اليأس إلى المبشرين إذا كانت النتائج ضعيفة في البداية "
بل ودخلت النساء الأوربيات مجال التبشير لتنصير النساء المسلمات .
وإذا كان التبشير لم ينجح في تنصير المسلمين فإنَّه ـ بلا ريب ـ ساعد على تخلي المسلمين عن عقائدهم ومبادئ دينهم ، وخلق أجيال مستهترة بالقيم الدينية ، وهذا هو الهدف الأساسي الذي سعى له الغرب ، يقول القس زويمر في مؤتمر للمبشرين :
" مهمة التبشير التي ندبتكم دول النصرانية للقيام بها في البلاد المحمدية ، ليس هو إدخال المسلمين ي النصرانية ، فإنَّ في هذا هداية لهم وتكريمًا ، وإنما مهمتكم أنْ تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقًا لا صلة له بالله " [7].
وعلى نفس المنوال سارت حركة الاستشراق ، فعملت على تشويه صورة الإسلام وحجب محاسنه عن الشعوب النصرانية للحيلولة بينهم وبين الدخول فيه ، وعمدوا إلى تفتيت الوحدة الإسلامية ، وتحطيم المقاومة ـ كما هو الحال اليوم ـ وقاموا بتثبيط همة المسلمين ، وصرف أنظارهم إلى متع الحياة ليشتغلوا بها عن الجهاد في سبيل الله ودفع الغزاة ، وقاموا بدراسة الشخصية الإسلامية بقراءة متعمقة في تراث المسلمين ، وعملوا على إضعاف روح الإخاء الإسلامي بين المسلمين في مختلف الأقطار .
ومن بعدها تفشت تيارات التغريب في البلاد الإسلامية ، ودعوا إلى أن يسير المسلمون سيرة الغربيين ويسلكوا مسلكهم في حياتهم بالفكر الغربي بكل نظمه وتقاليده وعاداته وتصوراته ، وعمد ت تلك التيارات إلى زعزعة الثقة بين الشباب المسلم في دينهم ، والزعم بأنَّ تخلف المسلمين من جراء اعتقاداتهم البالية ، فركزوا جهودهم في تفريغ العقل والقلب المسلم من القيم الإسلامية المستمدة من التوحيد والإيمان بالله ، ودفع هذه القلوب عارية أمام عاصفة هوجاء تحمل معها السموم عن طريق التعليم والصحافة والكتابة والسينما والمسرح وبيوت الأزياء ، وللأسف نجحوا في ذلك إلى حد بعيد ، ومن ثمَّ خرج هذا الجيل المنهزم نفسيًا والذي حمل معول الهدم في صرح المجتمع الإسلامي ، وسار بالأمة تحت شعارات فارغة كالتقدم والمدنية والحضارة ، ولا هي تقدمت ولا هي تمدنت وإنَّما صارت بلا هوية ، فلا دين ولا ثقافة ولا علم ، وإنَّما تبعية للغرب الكافر .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر أو ذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قالوا : اليهود و النصارى ؟ قال : فمن ؟ "
من أسباب الخلل الاعتقادي أيضًا
(2) انتشار العقائد الفاسدة على يد المبتدعة
فمن ذلك : انتشار " عقيدة الجبر" رغم بعدها عن عقيدة الإسلام الصافية ، وكان انتشار هذه الفكرة بين المسلمين في عصور الانحطاط والبعد عن صفاء الاعتقاد الذي كان عهد السلف الصالح ، وأدى ذلك لإشاعة روح التواكل والكسل ، والقعود عن العمل ، وأنت لا زلت تسمع من عامة النَّاس أننا مسيرون لا مخيرون .
ومن ذلك : انحراف التصوف ونشره للبدع ، لاسيما في عصر التصوف الفلسفي ورواج مذاهب " وحدة الوجود " و " الحلول والاتحاد " و"فكرة الظاهر والباطن " و"إسقاط التكاليف الشرعية " وهي الأفكار التي لا زال كثير من المسلمين يؤمن بها ، فأنت تراهم يصورون الحلاج المقتول ردة على أنَّه شهيد الاستبداد ، ولا زالوا يعظمون من قدر شخص كابن عربي القائل بوحدة الوجود ، ويرى الساسة إلى يومنا هذا أنَّ الصوفية أفضل التيارات والاتجاهات الإسلامية لأنَّها تدعو إلى التعامل مع الأحداث بسلبية ، وتدعو للتواكل ، وعلى كلٍ فقد نبتت البدع والخرافات ، وظهرت الطرق الصوفية التي انحدرت إلى هوة سحبقة ، وةلا تزال البلاد الإسلامية تشهد أنواعًا من الشرك العلني بتعظيم قبور الصالحين ، والتوسل إليهم ، وشد الرحال إلى قبورهم .(48/6)
(3) انتشار الجدل الكلامي
فمع ظهور الفرق المحدثة كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية ونحوهم ، دار جدل كبير حول مسائل الاعتقاد ، نعم اندرست أغلب هذه الفرق بمسمياتها القديمة ، لكن من ورائها قضايا ومشكلات عقدية مزعومة ، كالبحث في صفات الله تعالى هل هي عين الذات أو غير ذلك ؟ وتوارث الأجيال هذه المسائل ، وصارت تدرس إلى يومنا هذا في كثير من جامعات ومعاهد المسلمين ، و : أنَّ خروج هذه البدع شغل المسلمين بمشاكل عقدية مزعومة ، وصار هناك من يرى أنَّ عقيدة السلف أسلم وعقيدة الخلف أعلم ، وليتهم رضوا بالسلامة ، وردوا الأمر إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، إذن لذهبت كثير من تلك الجدليات هباءً منثورًا ، ولصفا للنَّاس اعتقادهم ، فهذا أصحاب المذاهب العقلية يقولون بعد طول بحث في مسائل علم الكلام : ولم نستفد من علمنا طول عمرنا إلا قيل وقالوا .
من الأسباب التي أدت لهذا الخلل الاعتقادي في بنية المجتمع الإسلامي
(4) انحراف رجال الدين وانفصام العمل عن العلم
الأمر الذي أذاع روح الشك والريبة في صدور كثير من المسلمين ، وجعلهم يعيدون النظر في كل شيء ،حتى في معتقداتهم ، فقد ظهر بين علماء المسلمين من يقول ما لا يفعل ، ومن صار الدين عنده كجملة الصناعات التي يتكسب من ورائها ، فانحرفوا عن روح الإسلام ، وفصلوا بين العقيدة والعمل ، وانصرفوا إلى الجدل ، والمناقشة في الجزئيات والفروع ، وتملق الولاة والحكام ، وجعلوا الدين مطية للدنيا .
وقد أخبر الصادق المصدوق ـ كما في الصحيحين وغيرهما ـ عن ذلك فقال: ـ" إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد و لكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسًا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا و أضلوا "
وهذا تحذير من ترئيس الجهلة ، وذم من يقدم عليها بلا علم ، فلا شيء أوجب على الأمة من رعاية أحوال المتصدين للرياسة بالعلم ، فمنْ الإخلال بها ينتشر الشر ، ويكثر الأشرار ، ويقع بين الناس التباغض والتنافر
(5) القهر واستبداد بعض الحكام
لا شك أنَّ الضرب بيد من حديد للاتجاهات الدينية كان من شأنه الحيلولة بين كثير ممن يودون الالتزام بشريعة الإسلام وبين دينهم ، فتربى الكثير على المداهنة والمداراة وإيثار السلامة والخوف من كل ما سوى الله تبارك وتعالى ، وركب آخرون الموجة فباع دينه موالاة للطغاة ، ومن شأن هذا أن يحدث خللا عميقًا في البناء الاعتقادي للمجتمع ، لأنَّ اليقين يتزعزع ، ويوالى أعداء الله تعالى ، ويتأول الدين لأهواء الأمراء .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الأئمة من قريش ، أبرارها أمراء أبرارها ، و فجارها أمراء فجارها ، و إن أمرت عليكم قريش عبدا حبشيا مجدعا فاسمعوا له و أطيعوا ما لم يخير أحدكم بين إسلامه و ضرب عنقه فإنْ خير بين إسلامه و ضرب عنقه فليقدم عنقه " [8]
فإذا صلح الناس وبروا وليهم الأخيار ، وإذا فسدوا وفجروا وليهم الأشرار ، فكما تكونوا يولى عليكم ، والدين هو لحمك ودمك وهدفك في الحياة ـ كما قدمنا ـ فلا يباع الدين بعرض من الدنيا زائل ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق بحال .
" أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه " فخاف الناس من قهر الطغاة ، ولم يستعينوا بربهم على أمرائهم ، فلما ذلوا لهم وخضغوا لهم وخافوا منهم أكثر من خوفهم بربهم ، وكلهم الله إلى أنفسهم ، وأعرض عنهم ، وأذاقهم العذاب الهون ، وخوفهم من كل شيء ، لمَّا فسد اعتقادهم به جل وعلا ، والأيام خير دليل فاعتبروا يا أولي الأبصار .
الأمل المنشود في إعادة البناء الاعتقادي السليم
إخوتاه ..
هذا بعض من كل ، وغيض من فيض من جملة الأسباب التي تسببت في إحداث الخلل في البناء الاعتقادي السليم للأمة الإسلامية .
وبقي أنْ نقف أمام الأمل المنشود في إعادة صياغة هذا البناء كما كان راسخًا قويًا ، نحتاج أنْ يوجد فينا " رجل العقيدة " الشامخ بأنفه ، المعتز بانتمائه لهذا الدين ، الذي يعمل له آناء الليل وأطراف النهار ، وإيجاد هذا النموذج الفريد يحتاج منَّا أن نعود للنبع الصافي الذي كان ، نعود إلى العصر الذهبي للإسلام ، عصر النبوة والخلافة الراشدة ، ونربي أجيالنا القادمة كما ربى النبي أصحابه ، نزرع فيهم اليقين برب العالمين ، والعزة بهذا الدين ، وننصب أمام أعينهم نماذج الأسوة والقدوة من سلفنا الصالح ، نحصنهم بكتاب الله تعالى قراءة وحفظًا ومدارسة وتدبرًا ، نجعل معينهم الذي لا ينضب ورودهم عليه من مشكاة سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، نعلمهم حب النبي و الصحابة ، نربط قلوبهم استعانة وتوكلًا على الله عز وجل .(48/7)
انظر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يربي ابن عمه " عبد الله بن عباس " وهو بعد غلام صغير فيقول له في نصيحة غالية : ــ " يا غلام !! إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، و إذا استعنت فاستعن بالله ، و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، و لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك جفت الأقلام ورفعت الصحف "
هذا الحديث فيه كل ما يمكن أن ندندن حوله ، إذ يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهمّ أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه.
انظر إلى هذه التربية الإيمانية الخالصة :
" احفظ الله "
1) ربط القلوب بعلام الغيوب .
2) مراقبة الله تعالى في السر والعلن .
قال الله عزّ وجلّ: " واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه " [ البقرة - 235 ]
وقال جل وعلا : " إنَّ السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا "
و قال صلى الله عليه وسلم : " استحيوا من الله تعالى حق الحياء من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس و ما وعى و ليحفظ البطن و ما حوى و ليذكر الموت و البلا .." [9]
3) امتثال الأوامر واجتناب المناهي ، كمال الخضوع والذل والحب شرط ذلك . وهذه هو ( توحيد الألوهية )
" يحفظك "
4) الله ربك وخالقك ، وشأن الرب أن يرعى ربيبه ويحفظه ، فالله أحق بالتعظيم والمودة والإجلال والخضوع والذل من أبيك الذي يرعاك . ( توحيد الربوبية )
5) الطريق موحشة ، والزاد قليل ، والصعاب كثيرة ، فقل من ينجو ، وليس إلا حفظ الله للعبد في دينه وإيمانه فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة ومن الشهوات المحرّمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان .
في الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أمره أن يقول عند منامه: " إن قبضت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين "
وفي حديث عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول: اللهمّ احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تطمع في عدواً ولا حاسداً [10].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يودع من أراد سفراً فيقول : " استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك "
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله إذا استودع شيئاً حفظه " [11]
فتتعلم الناشئة صدق اللجأ والإخبات وهذه من " أعمال القلوب "
" احفظ الله تجده تجاهك "
6) زرع محبة الله في القلوب ، فالله ذو الجلال والجمال والكمال ، لله الأسماء الحسنى والصفات العلى ، من تقرب منه شبرًا تقرب منه باعًا ، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة ، فحري بك أن تحبه ، وإذا أحببته أطعته وإذا أطعته لم يخذلك ، فكن لله كما يريد يكن لك فوق ما تريد . ( توحيد الأسماء والصفات )
7) الإيمان بمعية الله الخاصة لأوليائه " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون "
قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل.
ويقتضي ذلك أنْ يربى الغلام على الخوف من الجليل وحده ، ورجاء ما عنده منه وحده ، فإن كان الله معك فمن تخاف ؟ وإن كان عليك فمن ترجو ؟
ومن ثمرة ذلك أيضًا أن يربى الولد على الأنس بالله وحده .
روي عن نبهان الحمال أنه دخل البرية وحده على طريق تبوك، فاستوحش فهتف به هاتف: لم تستوحش أليس حبيبك معك ؟.
وقيل لبعضهم: ألا تستوحش وحدك ؟ فقال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني.
وقيل لآخر: نراك وحدك ؟ فقال: من يكن الله معه كيف يكون وحده ؟.
وقيل لآخر: أما معك مؤنس؟ قال بلى، قيل أين هو ؟ قال أمامي ومعي وخلفي وعن يميني وعن شمالي وفوقي.
" تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة "
8) الدنيا دار ابتلاء فتعرف على الله تعالى في الرخاء ليكن لك سندًا وقت الشدة . ( السنن الكونية )
9) القلوب متقلبة ضعيفة ، والفتن خطافة ، وليس ثمَّ إلا ميل القلب إليه بالكلية والانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه والهيبة له .
" إذا سألت فاسأل الله"
10) الفقر هي أهم خصائصك ، وما عرف الله بشيء مثلما عرف بشدة الاحتياج إليه .
11) وهذه حقيقة العبادة لتضمن المسألة الخضوع والذل والرجاء والحب واليقين بما عند الله ومشاهدة لأسمائه الحسنى فأنت لا تسال إلا " الغني " " الملك " " المنعم " " المعطي المانع " " الضار النافع "
12) وهو أصل في معاملة الخلائق ،فلا تسال النَّاس شيئًا فيحبونك ، ويصلح ما بينك وبينهم .
13) تحقيق معنى قول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن المعنى لا تحوّل للعبد من حال إلى حال ولا قوة له على ذلك إلا بالله ( التبرؤ من الحول والقوة )
" إذا استعنت فاستعن بالله "(48/8)
14) النقصان وصف لازم لبني آدم ، واحتياجك لغيرك شرط لصلاح الأرض ، " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " ، فلا تغتر بسبب عن مسبب الأسباب .
15) حقيقة الخذلان أن تفتقر إلى فقير ، وأن يكلك الغني إلى فقير مثلك . (الافتقار والتوفيق )
كتب الحسن إلى عمر بن العزيز: لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه.
ومن كلام بعض السلف: يا ربّ عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك وعجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك .
" و اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، و لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك جفت الأقلام ورفعت الصحف "
16) تحقيق عقيدة " القضاء والقدر" الإيمان الجازم بعلم الله ما كان وما يكون وما لم يكن لوكان كيف كان ، وأنَّ ما أصاك لم يكن ليخطئك ، وأنَّ البلاء من جراء الزلل والخطايا ، وأنَّ النعم محض فضل الله تعالى ، وكل ميسر لما خلق له .
17) " الرضا " مفتاح اعتقادك بالله تعالى " رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً "
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: " أسألك الرضا بعد القضاء "
وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، و ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، و كان خيرا له ، و إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له "
فلا تتهم الله في قضائه ، فإن الله إذا قضى قضاء أحبّ أن يرضى به.
قال ابن مسعود : إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط .
18) " الصبر" صفة عباد الله الصالحين ، لأنَّ الدار دار بلاء لا دار خلود ، وتجرع مرارة الهجر فيها مستلزم للصبر حتى يقضي الله بالوصال .
يقول ابن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ :
مدار الوصية في هذا الحديث على هذا الأصل وما ذكر قبله وبعده فهو متفرع عليه وراجع إليه، فإنَّ العبد إذا علم أن لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير وشرّ ونفع وضرّ وأن اجتهاد الخلق كلهم على خلاف المقدور غير مفيد البتة : علم حينئذ أن الله وحده هو الضارّ النافع المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه عز وجل ، وإفراده بالطاعة ، وحفظ حدوده، فإنَّ المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله من يعبد من لا ينفع ولا يضر ، ولا يغني عن عابده شيئاً، فمن يعلم أنه لا ينفع ولا يضرّ ولا يعطي ولا يمنع غير الله ، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرع والدعاء ، وتقديم طاعته على طاعة الخلق جميعاً ، وأن يتقي سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً ، وإفراده بالاستعانة به ، والسؤال له ، وإخلاص الدعاء له في حال الشدة وحال الرخاء، خلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد ونسيانه في الرخاء ودعاء من يرجون نفعه من دونه.
إخوتاه ..
دينك دينك ، فإنْ سلم لك دينك سلمتُ فإنَّه لحمك ودمك ، ةإن تكن الأخرى فإنها نار لا تطفئ ، ونفس لا تموت ، إنَّك معروض على ربك ومرتهن بعملك ، فخذ مما في يديك ، لما بين يديك عند الموت ، وعندها يأتيك الخبر.
إخوتاه ..
ترك الخطيئة أهون من معالجة التوبة ، فلا تعلق قلبك بالدنيا فتعلقه بشر مُعلَّق ، قطِّع عنك حبالها ، وأغلق عنك بابها ، حسبك ما بلغك المقيل .
أسال الله الهداية والرشاد
والله من وراء القصد له الحمد في الأول والآخر والحمد لله رب العالمين .
* هذه كانت محاضرة ألقاها فضيلته فى أحدى المؤتمرات التى أقيمت بأمريكا.
----------
[1] أخرجه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وصححه الألباني (2825) في صحيح الجامع .
[2] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وحسنه الالباني (1146)
[3] رواه أحمد وفيه ميمون أبو عبد الله وثقه ابن حبان وضعفه جماعة،وبقية رجاله ثقات.
[4] أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه والنسائي في سننه وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك ، وصححه الالباني (1724) في صحيح الجامع .
[5] اخرجه الطبراني في الأوسط وصححه الألباني (3740) في صحيح الجامع .
[6] أخرجه الترمذي في جامعه والحاكم في المستدرك وحسنه الالباني (245) في صحيح الجامع .
[7] المخططات الاستعمارية ـ محمد الصواف ـ ص 217
[8] أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه وتعقبه الذهبي فقال: منكر ، لكن صححه الألباني (2757) في صحيح الجامع .
[9] أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه والحاكم في المستدرك والبيهقي في سننه وحسنه الالباني (935) في صحيح الجامع .
[10] أخرجه ابن حبان في صحيحه
[11] أخرجه ابن حبان في صحيحه ، والبيهقي في سننه ، وصححه الألباني (1708) في صحيح الجامع .
محمد بن حسين بن يعقوب
غفر الله له ولأهله وأحفاده والمسلمين أجمعين .(48/9)
أجيبوا داعي الله
الحمد لله الكريم الوهَّاب، الرحيم التَّواب، غافر الذنب, وقابل التوب, شديد العقاب، يحبُّ التوَّابين والمتطهِّرين، ويغفرُ للمُنيبين والمستغفرين، ويقيلُ عثرات العاثرين، ويقبلُ اعتذارَ المعتذرين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي الصَّالحين، وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ، وصفيُّهُ من خلقِهِ وخليلُهُ، خاتمُ الأنبياء، وسيِّدُ الأصفياءِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ الأتقياء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102) {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف:31).
وبعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ وخيرُ الهدي هديُ محمَّدٍ-صلى الله عليه وسلم-,وشر الأمورِ محدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعةٌ, وكل بدعةٍ ضلالةٌ, وكل ضلالةٍ في النَّار.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ الله-سبحانه وتعالى-أرسلَ الرُّسلَ, وأنزلَ عليهم الكتبَ، وأيَّدهم بالمعجزاتِ، كل ذلك من أجلِ أنْ يكونَ النَّاسُ على بينة من دينهم، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: من الآية165), فيستجيبوا لله ولرسوله، فيفوزون بالجنَّةِ، ولكن حكمة الله-سبحانه وتعالى-قضت أن يكون فريقان؛فريق في الجنة,وفريق في السَّعير،فريق مطيع،وفريق عاص،فريق اهتدى،وفريق ضلَّ،ومع هذا فالله-سبحانه وتعالى-قد بيَّن طريقَ الخيرِ وطريقَ الشَّرِّ على أيدي رسوله وأنبيائه، وجعل الإنسان مخيراً بين أن يسلكَ طريقَ الخيرِ، أو أنْ يسلكَ طريقَ الشَّرِّ.
أيها المسلمون: إنَّ كثيراً من الناس اليوم أعرض عن دين الله، وابتعد عنه، واتبع شهواته، وإن الكثير منهم لم يدخلوا في دين الله،ولم يستجيبوا لدينه, ونبيه, وشرعه، بل كفروا به، وكذبوه، ولم يؤمنوا به وهؤلاء هم أهل الكفر والنفاق.
أما عصاة المسلمين الذين أسرفوا على أنفسهم فما أحوجهم إلى أن يتنبهوا من غفلتهم فيجيبوا داعي الله، فيستجيبوا لله ولرسوله، أليس الله ورسوله قد حرَّما الزنا، وهناك من أبناء الإسلام مَن يزني، أليس الله ورسوله قد حرَّما الربا، وهناك من أبناء المسلمين من يتعامل بالربا، أليس الله ورسوله حرَّما الغش, والخداع, وهناك من أبناء المسلمين من يعمل كل هذا، أليس الله-تعالى- حرَّم الحكم بغير شريعته ومنهجه, فوجد من أبناء المسلمين من يتحاكم إلى غير شرع الله، أليس هؤلاء ابتعدوا عن شرع الله، أيكون هؤلاء مطيعين لله، مستجيبين لأمره, وهم على هذا الحال؟.
عباد الله: إن الله-سبحانه وتعالى-يقول في كتابه الكريم حاكياً عن الجن-: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف:30-31). قال ابن كثير-رحمه الله-: "فيه دلالةٌ على أنه-تعالى-أرسلَ محمَّداً-صلى الله عليه وسلم-إلى الثَّقلينِ الجنِّ والإنس، حيث دعاهم إلى اللهِ-تعالى-"(1). فقد اعتبروا نزولَ هذا الكتابِ إلى الأرضِ دعوةَ اللهِ لكل من بلغته من إنس وجن، واعتبروا محمَّداً-صلى الله عليه وسلم-داعياً لهم إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآنِ واستماع الثَّقلين له: فنادوا قومهم: "يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به"(2)
ثم إن الله-سبحانه وتعالى-يُنادي المؤمنين بأنْ يستجيبوا لأمره وأمر رسوله،وينتهوا عن نهيه ونهي رسوله,فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (لأنفال:24). يأمر الله-تعالى- عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان منهم،وهو: الاستجابة لله ورسوله، أي: الانقياد لما أمر به، والمبادرة إلى ذلك، والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه، والنهي عنه"(3).(49/1)
ولهذا فقد وضَّحَ-سبحانه وتعالى-الصِّراطَ المستقيم، وبيَّن رسولُهُ الطَّريقَ المؤدية إليه,فقال-صلى الله عليه وسلم-كما جاء من حديث النَّوَّاس بن سمعان-رضي الله عنه-,عن رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-قال: "إنَّ الله ضرب مثلاً صراطاً مُستقيماً, على كتفي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة, وعلى الصراط داع يدعو يقول: "يا أيها الناس اسلكوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا,وداعٍ يدعُو على الصراط فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب,قال: "ويلكَ لا تفتحْهُ فإنك إنْ تفتحه تلجه" فالصراط الإسلام, والستور حدود الله,والأبواب المفتحة محارم الله,والداعي الذي على رأس الصراط كتاب الله,والداعي من فوق واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم"(4). ففي هذا المثل الذي ضربه النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-أنَّ الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر اللهُ بالاستقامةِ عليهِ-والاستجابة له، ونهى عن مجاوزة حدوده، ومن ارتكب شيئاً من المحرمات فقد تعدى حدوده"(5).
فالاستجابة لله ولرسوله: هي امتثال أمره من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وغيرها من الأعمال التي أمر الله بها، والاستجابة هي: اجتناب نهيه أيضاً، فلا تعصيه فتشرب الخمر، وتتعامل بالربا، وتأكل أموال الناس بالباطل، وتتحاكم إلى غير شريعته، وغيرها من الأعمال التي نهى الله ورسوله عنها.
أيها المسلمون: يا من قصر في طاعة الله!، ويا من سار في معصية الله!، ويا من عصى أوامر الله ورسوله!، إن الله-سبحانه وتعالى-يدعوك للاستجابة لأمره وأمر رسوله، فيناديك بأحسن الأسماء وأرفعها منزلة، إنها منزلة الإيمان، فيقول-سبحانه-:{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول}، وهذا الخطاب هو لأصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إلا أنه عام لكل مؤمن ومؤمنة، ولكل مسلم ومسلمة.
ثم اعلم عبد الله: أن الله-سبحانه وتعالى-لما أمرنا بالاستجابة لأمره وأمر رسوله، إنما ذلك رحمة بنا، لكي لا نهلك بالذنوب والمعاصي التي نقترفها ليلاً ونهاراً، فالثمار التي يجنيها العبد من وراء استجابته لأمر الله وأمر رسوله عظيمة وجليلة، لا يمكن للإنسان أن يستغني عنها, بل إنها هي الحياة الحقيقية، إذ كيف يتصور للإنسان أن يعيش حياة هو فيها غير مستجيب لله ولرسوله، لك أن تتخيل هذه الحياة، إنها حياة بهيمية، أما حياة المستجيب فإن لها ثماراً عديدة ومُتنوِّعة,فمن هذه الثمار والفوائد ما ذكره ابنُ القيِّم-رحمه الله-في تفسيرِهِ القيِّم، عند قوله-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (لأنفال:24). قال: تضمنت هذه الآية أموراً:
أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل باستجابة لله ولرسوله,فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له... فالحياة الحقيقة الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً,فهؤلاء هم الأحياء،وإنْ ماتُوا. وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول-صلى الله عليه وسلم-,فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة,فمن فاته جزءٌ منه فاته جزءٌ من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.
قال مجاهد( لما يحييكم)أي: للحق. وقال قتادة: هو هذا القرآن، فيه الحياة, والثقة, والنجاة, والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال السدي: هو الإسلام، أحياهم به بعد موتهم بالكفر,وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة,وهي القيام بما جاء به الرسول-صلى الله عليه وسلم- ظاهراً وباطناً.
فالإيمان, والإسلام, والقرآن, والجهاد, يحي القلوب الحياة الطيبة،وكمال الحياة في الجنة،والرسول داع إلى الإيمان وإلى الجنة,وهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة"(6).
فاتقوا الله عباد الله: واستجيبوا لأمر الله وأمر رسوله، فإن فيهما فلاح العبد وفوزه في الدنيا والآخرة، وإن بالإعراض عنهما ومخالفة أمرهما خسارة الدنيا والآخرة. والله أعلم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين،ولا عدوان إلا على الظالمين،والعاقبة للمتقين،والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ:
فإن من فوائد وثمار الاستجابة لله ولرسوله-صلى الله عليه وسلم-: أن الاستجابة لله ولرسوله إنما تكون على عقيدة صحيحة وسليمة, وبهذه العقيدة تحيى القلوب, والعقول، وتطلقها من قيود الجهل والخرافة، ومن ضغط الوهم والأسطورة، ومن العبودية لغير الله.
ثم إن الاستجابة هي أن يلتزم المسلم شريعة الله وحده, ويعلن التحرر من قوانين المخلوقين، فيقف المسلمون صفاً واحداً، لا يتحكم فيهم فرد، ولا طبقة، ولا جنس، ولا قوم، ولكن تحكمهم شريعة الله رب العباد"(7).(49/2)
قال البخاري:"استجيبوا" أجيبوا "لما يحييكم" أي لما يصلحكم. عن أبي سعد المعلى-رضي الله عنه-قال كنت أصلي فمر بي النبي-صلى الله عليه وسلم–فدعاني فلم آتيه حتى صليت، ثم أتيته، فقال: "ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}, ثم قال لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج" فذهب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ليخرج فذكرت له"(8).
أيها المسلمون: إن قوله- تعالى-:"لما يحييكم", وصف ملازم، لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته،فإن حياة القلب، والروح،بعبودية الله-تعالى-،ولزوم طاعته،وطاعة رسوله،على الدوام، ثم حذر من عدم الاستجابة لله وللرسول فقال: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} فإياكم أن تردوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه، إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها، أنى شاء. فليكثر العبد قول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب،اصرف قلبي إلى طاعتك"(9).
ثم اعلموا عباد الله: أن من فوائد وثمار الاستجابة لله-سبحانه وتعالى-ولرسوله-صلى الله عليه وسلم-هي مغفرة الذنوب,قال-تعالى-على لسان الجنِّ: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف: من الآية31). أجيبوا داعي الله، أي: أجيبوا رسولَ اللهِ محمَّداً إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله,وآمنوا به يقول: وصدقوه فيما جاءكم به وقومه من أمر الله ونهيه, وغير ذلك مما دعاكم إلى التصديق به, يغفر لكم,يقول: يسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته إياكم عليها. ثم هي الحياة الحقيقية في الجنة فالجنة هي دار الحيوان، هي الدار التي تفيض بالحياة الحقيقية والحيوية، وفيها يتحدد مصير الإنسان الأبدي، بعد أن ينتقل من هذه الحياة الدنيا، فالدار الآخرة هي المتاع الذي ينبغي أن يحرص عليه المرء ولا يرضى به بديلاً، ولا يبغي عنه حولاً، ولذلك ينبغي الاستعداد والتأهُّب لتلك النهاية التي يصير إليها المرء، وعندئذ تنفتح أمامه آفاق سامية، وآماد بعيدة, ويرتفع إلى مستوى لائق بكرامته وإيمانه: {ومَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَهْوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت : 64 .
ثم يقول-سبحانه-:"ويجركم من عذاب أليم" أي ينقذكم من عذاب موجع إذا أنتم تبتم من ذنوبكم وأنبتم من كفركم إلى الإيمان بالله"(10). فالذين يرفضون الاستجابة لله والرسول فإنهم يرفضون الحياة الكريمة اللائقة بالإنسان، فليس لهم إلا الذل ومصيرهم الهلاك، ومآلهم الدمار والبوار: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبِئْسَ القَرَارُ} إبراهيم : 28-29 . فما أعظم خسارة أولئك الذين آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية الدائمة! وما أعظم ضلال أولئك الذين حصروا الوجود فيما تقع عليه حواسُّهم قريباً في الدنيا، ويحسبون أن وجودهم محصور فيها فلا يعملون لغيرها:
خُلِق النّاسُ للبقاءِ فضلِّت أمّةٌ يحسبونهم للنَّفاد
إنما يُنقلون من دار أعما ٍل إلى دار شقوة أو رشاد !
عباد الله: يقول الإمام ابن القيم: رحمه الله-: " فإن الإيمان, والإسلام, والقرآن, والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة. وكمال الحياة في الجنة, والرسول داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنة، فهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة)(11), فهل تستجيب لهذه الدعوة الكريمة التي وجَّهها إليك رب العزة، جل جلاله؛ لتظفر بهذه الحياة الكريمة، فتكون مَعْلَماً من معالم الطريق، وتكون مؤمناً بالله ورسوله، ولن يكون مؤمناً ذاك الذي يُعرض عن دعوة الله، ولا يستجيب لها، فإن الاستجابة لله وللرسول-صلى الله عليه وسلم-، هي المحكُّ الحقيقي والمظهر العملي للإيمان,قال الله-تعالى-: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} آل عمران : 169 . والمؤمن يستجيبُ لنداءِ الإيمانِ من فورِهِ:{رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ*رَبَّنَا وآتِنَا مَا وعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ
المِيعَادَ } آل عمران : 192 - 193 .قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: (إذا سمعت الله-تعالى-يقول: "يا أيها الذين آمنوا! فأرْعِها سمعك، فإنه إما خيرٌ تؤمر به، وإما شرٌ تنهى عنه" .
اللهم اجعلنا من المستجيبين لأمرك وأمر رسولك.(49/3)
اللهم وفقنا لطاعتك والعمل على مرضاتك، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - تفسير ابن كثير(4-171).
2 - في ظلال القرآن (6-3274).
3 - راجع: تفسير السعدي(2/196).
4 -
5 - جامع العلوم والحكم(1-26).
6 - تفسير ابن القيم ص(288-289).
7 - في ظلال القرآن (3-1494).
8 - البخاري.
9 - تفسير السعدي(2/196-197).
10 - راجع: تفسير الطبري (26-34).
11 - الفوائد لابن القيم : ص 116 .(49/4)
أجيبوا داعي الله
المقدمة:
الحمد لله الكريم الوهَّاب، الرحيم التَّواب، غافر الذنب, وقابل التوب, شديد العقاب، يحبُّ التوَّابين والمتطهِّرين، ويغفرُ للمُنيبين والمستغفرين، ويقيلُ عثرات العاثرين، ويقبلُ اعتذارَ المعتذرين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي الصَّالحين، وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ، وصفيُّهُ من خلقِهِ وخليلُهُ، خاتمُ الأنبياء، وسيِّدُ الأصفياءِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ الأتقياء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}آل عمران:102{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}الأحقاف:31.
وبعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ وخيرُ الهدي هديُ محمَّدٍ-صلى الله عليه وسلم-,وشر الأمورِ محدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعةٌ, وكل بدعةٍ ضلالةٌ, وكل ضلالةٍ في النَّار.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ الله-سبحانه وتعالى-أرسلَ الرُّسلَ, وأنزلَ عليهم الكتبَ، وأيَّدهم بالمعجزاتِ، كل ذلك من أجلِ أنْ يكونَ النَّاسُ على بينة من دينهم،{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}النساء: من الآية 165, فيستجيبوا لله ولرسوله، فيفوزون بالجنَّةِ، ولكن حكمة الله-سبحانه وتعالى-قضت أن يكون فريقان؛فريق في الجنة,وفريق في السَّعير،فريق مطيع،وفريق عاص،فريق اهتدى،وفريق ضلَّ،ومع هذا فالله-سبحانه وتعالى-قد بيَّن طريقَ الخيرِ وطريقَ الشَّرِّ على أيدي رسوله وأنبيائه، وجعل الإنسان مخيراً بين أن يسلكَ طريقَ الخيرِ، أو أنْ يسلكَ طريقَ الشَّرِّ.
أيها المسلمون: إنَّ كثيراً من الناس اليوم أعرض عن دين الله، وابتعد عنه، واتبع شهواته، وإن الكثير منهم لم يدخلوا في دين الله،ولم يستجيبوا لدينه, ونبيه, وشرعه، بل كفروا به، وكذبوه، ولم يؤمنوا به وهؤلاء هم أهل الكفر والنفاق.
أما عصاة المسلمين الذين أسرفوا على أنفسهم فما أحوجهم إلى أن يتنبهوا من غفلتهم فيجيبوا داعي الله، فيستجيبوا لله ولرسوله، أليس الله ورسوله قد حرَّما الزنا، وهناك من أبناء الإسلام مَن يزني، أليس الله ورسوله قد حرَّما الربا، وهناك من أبناء المسلمين من يتعامل بالربا، أليس الله ورسوله حرَّما الغش, والخداع, وهناك من أبناء المسلمين من يعمل كل هذا، أليس الله-تعالى- حرَّم الحكم بغير شريعته ومنهجه, فوجد من أبناء المسلمين من يتحاكم إلى غير شرع الله، أليس هؤلاء ابتعدوا عن شرع الله، أيكون هؤلاء مطيعين لله، مستجيبين لأمره, وهم على هذا الحال؟.
عباد الله: إن الله-سبحانه وتعالى-يقول في كتابه الكريم حاكياً عن الجن-:{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}الأحقاف:30-31.قال ابن كثير-رحمه الله-: "فيه دلالةٌ على أنه-تعالى-أرسلَ محمَّداً-صلى الله عليه وسلم-إلى الثَّقلينِ الجنِّ والإنس، حيث دعاهم إلى اللهِ-تعالى-1. فقد اعتبروا نزولَ هذا الكتابِ إلى الأرضِ دعوةَ اللهِ لكل من بلغته من إنس وجن، واعتبروا محمَّداً-صلى الله عليه وسلم-داعياً لهم إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآنِ واستماع الثَّقلين له: فنادوا قومهم: "يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به".
ثم إن الله-سبحانه وتعالى-يُنادي المؤمنين بأنْ يستجيبوا لأمره وأمر رسوله،وينتهوا عن نهيه ونهي رسوله,فيقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}الأنفال:24. يأمر الله-تعالى- عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان منهم،وهو: الاستجابة لله ورسوله، أي: الانقياد لما أمر به، والمبادرة إلى ذلك، والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه، والنهي عنه"2.(50/1)
ولهذا فقد وضَّحَ-سبحانه وتعالى-الصِّراطَ المستقيم، وبيَّن رسولُهُ الطَّريقَ المؤدية إليه,فقال-صلى الله عليه وسلم-كما جاء من حديث النَّوَّاس بن سمعان-رضي الله عنه-,عن رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-قال: "إنَّ الله ضرب مثلاً صراطاً مُستقيماً, على كتفي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة, وعلى الصراط داع يدعو يقول: "يا أيها الناس اسلكوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا,وداعٍ يدعُو على الصراط فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب,قال: "ويلكَ لا تفتحْهُ فإنك إنْ تفتحه تلجه" فالصراط الإسلام, والستور حدود الله,والأبواب المفتحة محارم الله,والداعي الذي على رأس الصراط كتاب الله,والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم"3. ففي هذا المثل الذي ضربه النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-أنَّ الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر اللهُ بالاستقامةِ عليهِ-والاستجابة له، ونهى عن مجاوزة حدوده، ومن ارتكب شيئاً من المحرمات فقد تعدى حدوده"4.
فالاستجابة لله ولرسوله: هي امتثال أمره من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وغيرها من الأعمال التي أمر الله بها، والاستجابة هي: اجتناب نهيه أيضاً، فلا تعصيه فتشرب الخمر، وتتعامل بالربا، وتأكل أموال الناس بالباطل، وتتحاكم إلى غير شريعته، وغيرها من الأعمال التي نهى الله ورسوله عنها.
أيها المسلمون: يا من قصر في طاعة الله!، ويا من سار في معصية الله!، ويا من عصى أوامر الله ورسوله!، إن الله-سبحانه وتعالى-يدعوك للاستجابة لأمره وأمر رسوله، فيناديك بأحسن الأسماء وأرفعها منزلة، إنها منزلة الإيمان، فيقول-سبحانه-:"يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول"، وهذا الخطاب هو لأصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إلا أنه عام لكل مؤمن ومؤمنة، ولكل مسلم ومسلمة.
ثم اعلم عبد الله: أن الله-سبحانه وتعالى-لما أمرنا بالاستجابة لأمره وأمر رسوله، إنما ذلك رحمة بنا، لكي لا نهلك بالذنوب والمعاصي التي نقترفها ليلاً ونهاراً، فالثمار التي يجنيها العبد من وراء استجابته لأمر الله وأمر رسوله عظيمة وجليلة، لا يمكن للإنسان أن يستغني عنها, بل إنها هي الحياة الحقيقية، إذ كيف يتصور للإنسان أن يعيش حياة هو فيها غير مستجيب لله ولرسوله، لك أن تتخيل هذه الحياة، إنها حياة بهيمية، أما حياة المستجيب فإن لها ثماراً عديدة ومُتنوِّعة,فمن هذه الثمار والفوائد ما ذكره ابنُ القيِّم-رحمه الله-في تفسيرِهِ القيِّم، عند قوله-تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}الأنفال:24. قال: تضمنت هذه الآية أموراً:
أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل باستجابة لله ولرسوله,فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له... فالحياة الحقيقة الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً,فهؤلاء هم الأحياء،وإنْ ماتُوا. وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول-صلى الله عليه وسلم-,فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة,فمن فاته جزءٌ منه فاته جزءٌ من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.
قال مجاهد" لما يحييكم"أي: للحق. وقال قتادة: هو هذا القرآن، فيه الحياة, والثقة, والنجاة, والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال السدي: هو الإسلام، أحياهم به بعد موتهم بالكفر,وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة,وهي القيام بما جاء به الرسول-صلى الله عليه وسلم- ظاهراً وباطناً.
فالإيمان, والإسلام, والقرآن, والجهاد, يحي القلوب الحياة الطيبة،وكمال الحياة في الجنة،والرسول داع إلى الإيمان وإلى الجنة,وهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة"5.
فاتقوا الله عباد الله: واستجيبوا لأمر الله وأمر رسوله، فإن فيهما فلاح العبد وفوزه في الدنيا والآخرة، وإن بالإعراض عنهما ومخالفة أمرهما خسارة الدنيا والآخرة. والله أعلم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين،ولا عدوان إلا على الظالمين،والعاقبة للمتقين،والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ:
فإن من فوائد وثمار الاستجابة لله ولرسوله-صلى الله عليه وسلم-: أن الاستجابة لله ولرسوله إنما تكون على عقيدة صحيحة وسليمة, وبهذه العقيدة تحيى القلوب, والعقول، وتطلقها من قيود الجهل والخرافة، ومن ضغط الوهم والأسطورة، ومن العبودية لغير الله.
ثم إن الاستجابة هي أن يلتزم المسلم شريعة الله وحده, ويعلن التحرر من قوانين المخلوقين، فيقف المسلمون صفاً واحداً، لا يتحكم فيهم فرد، ولا طبقة، ولا جنس، ولا قوم، ولكن تحكمهم شريعة الله رب العباد.(50/2)
قال البخاري:"استجيبوا" أجيبوا "لما يحييكم" أي لما يصلحكم. عن أبي سعد المعلى-رضي الله عنه-قال كنت أصلي فمر بي النبي-صلى الله عليه وسلم–فدعاني فلم آتيه حتى صليت، ثم أتيته، فقال: "ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم", ثم قال لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج" فذهب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ليخرج فذكرت له"6.
أيها المسلمون: إن قوله- تعالى-:"لما يحييكم", وصف ملازم، لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته،فإن حياة القلب، والروح،بعبودية الله-تعالى-،ولزوم طاعته،وطاعة رسوله،على الدوام، ثم حذر من عدم الاستجابة لله وللرسول فقال: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" فإياكم أن تردوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه، إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها، أنى شاء. فليكثر العبد قول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب،اصرف قلبي إلى طاعتك"7.
ثم اعلموا عباد الله: أن من فوائد وثمار الاستجابة لله-سبحانه وتعالى-ولرسوله-صلى الله عليه وسلم-هي مغفرة الذنوب,قال-تعالى-على لسان الجنِّ: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}الأحقاف: من الآية31. أجيبوا داعي الله، أي: أجيبوا رسولَ اللهِ محمَّداً إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله,وآمنوا به يقول: وصدقوه فيما جاءكم به وقومه من أمر الله ونهيه, وغير ذلك مما دعاكم إلى التصديق به, يغفر لكم,يقول: يسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته إياكم عليها. ثم هي الحياة الحقيقية في الجنة فالجنة هي دار الحيوان، هي الدار التي تفيض بالحياة الحقيقية والحيوية، وفيها يتحدد مصير الإنسان الأبدي، بعد أن ينتقل من هذه الحياة الدنيا، فالدار الآخرة هي المتاع الذي ينبغي أن يحرص عليه المرء ولا يرضى به بديلاً، ولا يبغي عنه حولاً، ولذلك ينبغي الاستعداد والتأهُّب لتلك النهاية التي يصير إليها المرء، وعندئذ تنفتح أمامه آفاق سامية، وآماد بعيدة, ويرتفع إلى مستوى لائق بكرامته وإيمانه:{ ومَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَهْوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت : 64 .
ثم يقول-سبحانه-:"ويجركم من عذاب أليم" أي ينقذكم من عذاب موجع إذا أنتم تبتم من ذنوبكم وأنبتم من كفركم إلى الإيمان بالله"8. فالذين يرفضون الاستجابة لله والرسول فإنهم يرفضون الحياة الكريمة اللائقة بالإنسان، فليس لهم إلا الذل ومصيرهم الهلاك، ومآلهم الدمار والبوار: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبِئْسَ القَرَارُ} إبراهيم : 28-29 . فما أعظم خسارة أولئك الذين آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية الدائمة! وما أعظم ضلال أولئك الذين حصروا الوجود فيما تقع عليه حواسُّهم قريباً في الدنيا، ويحسبون أن وجودهم محصور فيها فلا يعملون لغيرها:
خُلِق النّاسُ للبقاءِ فضلِّت * أمّةٌ يحسبونهم للنَّفاد
إنما يُنقلون من دار أعما * ٍل إلى دار شقوة أو رشاد !
عباد الله: يقول الإمام ابن القيم: رحمه الله-: " فإن الإيمان, والإسلام, والقرآن, والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة. وكمال الحياة في الجنة, والرسول داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنة، فهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة9, فهل تستجيب لهذه الدعوة الكريمة التي وجَّهها إليك رب العزة، جل جلاله؛ لتظفر بهذه الحياة الكريمة، فتكون مَعْلَماً من معالم الطريق، وتكون مؤمناً بالله ورسوله، ولن يكون مؤمناً ذاك الذي يُعرض عن دعوة الله، ولا يستجيب لها، فإن الاستجابة لله وللرسول-صلى الله عليه وسلم-، هي المحكُّ الحقيقي والمظهر العملي للإيمان,قال الله-تعالى-: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} آل عمران : 169 .والمؤمن يستجيبُ لنداءِ الإيمانِ من فورِهِ:{رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ*رَبَّنَا وآتِنَا مَا وعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ
المِيعَادَ } آل عمران : 192 - 193 .قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا سمعت الله-تعالى-يقول: "يا أيها الذين آمنوا! فأرْعِها سمعك، فإنه إما خيرٌ تؤمر به، وإما شرٌ تنهى عنه" .
اللهم اجعلنا من المستجيبين لأمرك وأمر رسولك.(50/3)
اللهم وفقنا لطاعتك والعمل على مرضاتك، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين،،،
________________________________________
1 - تفسير ابن كثير(4-171).
2 - راجع: تفسير السعدي(2/196).
3 - رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني.
4 - جامع العلوم والحكم(1-26).
5 - تفسير ابن القيم ص(288-289).
6 - البخاري.
7 - تفسير السعدي(2/196-197).
8 - راجع: تفسير الطبري (26-34).
9 - الفوائد لابن القيم : ص 116 .(50/4)
أجيبوا داعي الله
الحمد لله الكريم الوهَّاب، الرحيم التَّواب، غافر الذنب, وقابل التوب, شديد العقاب، يحبُّ التوَّابين والمتطهِّرين، ويغفرُ للمُنيبين والمستغفرين، ويقيلُ عثرات العاثرين، ويقبلُ اعتذارَ المعتذرين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله ولي الصَّالحين، وأشهدُ أنَّ مُحمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ، وصفيُّهُ من خلقِهِ وخليلُهُ، خاتمُ الأنبياء، وسيِّدُ الأصفياءِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ الأتقياء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102) {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف:31).
وبعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ وخيرُ الهدي هديُ محمَّدٍ-صلى الله عليه وسلم-,وشر الأمورِ محدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعةٌ, وكل بدعةٍ ضلالةٌ, وكل ضلالةٍ في النَّار.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ الله-سبحانه وتعالى-أرسلَ الرُّسلَ, وأنزلَ عليهم الكتبَ، وأيَّدهم بالمعجزاتِ، كل ذلك من أجلِ أنْ يكونَ النَّاسُ على بينة من دينهم، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: من الآية165), فيستجيبوا لله ولرسوله، فيفوزون بالجنَّةِ، ولكن حكمة الله-سبحانه وتعالى-قضت أن يكون فريقان؛فريق في الجنة,وفريق في السَّعير،فريق مطيع،وفريق عاص،فريق اهتدى،وفريق ضلَّ،ومع هذا فالله-سبحانه وتعالى-قد بيَّن طريقَ الخيرِ وطريقَ الشَّرِّ على أيدي رسوله وأنبيائه، وجعل الإنسان مخيراً بين أن يسلكَ طريقَ الخيرِ، أو أنْ يسلكَ طريقَ الشَّرِّ.
أيها المسلمون: إنَّ كثيراً من الناس اليوم أعرض عن دين الله، وابتعد عنه، واتبع شهواته، وإن الكثير منهم لم يدخلوا في دين الله،ولم يستجيبوا لدينه, ونبيه, وشرعه، بل كفروا به، وكذبوه، ولم يؤمنوا به وهؤلاء هم أهل الكفر والنفاق.
أما عصاة المسلمين الذين أسرفوا على أنفسهم فما أحوجهم إلى أن يتنبهوا من غفلتهم فيجيبوا داعي الله، فيستجيبوا لله ولرسوله، أليس الله ورسوله قد حرَّما الزنا، وهناك من أبناء الإسلام مَن يزني، أليس الله ورسوله قد حرَّما الربا، وهناك من أبناء المسلمين من يتعامل بالربا، أليس الله ورسوله حرَّما الغش, والخداع, وهناك من أبناء المسلمين من يعمل كل هذا، أليس الله-تعالى- حرَّم الحكم بغير شريعته ومنهجه, فوجد من أبناء المسلمين من يتحاكم إلى غير شرع الله، أليس هؤلاء ابتعدوا عن شرع الله، أيكون هؤلاء مطيعين لله، مستجيبين لأمره, وهم على هذا الحال؟.
عباد الله: إن الله-سبحانه وتعالى-يقول في كتابه الكريم حاكياً عن الجن-: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف:30-31). قال ابن كثير-رحمه الله-: "فيه دلالةٌ على أنه-تعالى-أرسلَ محمَّداً-صلى الله عليه وسلم-إلى الثَّقلينِ الجنِّ والإنس، حيث دعاهم إلى اللهِ-تعالى-"(1). فقد اعتبروا نزولَ هذا الكتابِ إلى الأرضِ دعوةَ اللهِ لكل من بلغته من إنس وجن، واعتبروا محمَّداً-صلى الله عليه وسلم-داعياً لهم إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآنِ واستماع الثَّقلين له: فنادوا قومهم: "يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به"(2)
ثم إن الله-سبحانه وتعالى-يُنادي المؤمنين بأنْ يستجيبوا لأمره وأمر رسوله،وينتهوا عن نهيه ونهي رسوله,فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (لأنفال:24). يأمر الله-تعالى- عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان منهم،وهو: الاستجابة لله ورسوله، أي: الانقياد لما أمر به، والمبادرة إلى ذلك، والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه، والنهي عنه"(3).(51/1)
ولهذا فقد وضَّحَ-سبحانه وتعالى-الصِّراطَ المستقيم، وبيَّن رسولُهُ الطَّريقَ المؤدية إليه,فقال-صلى الله عليه وسلم-كما جاء من حديث النَّوَّاس بن سمعان-رضي الله عنه-,عن رسولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم-قال: "إنَّ الله ضرب مثلاً صراطاً مُستقيماً, على كتفي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة, وعلى الصراط داع يدعو يقول: "يا أيها الناس اسلكوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا,وداعٍ يدعُو على الصراط فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب,قال: "ويلكَ لا تفتحْهُ فإنك إنْ تفتحه تلجه" فالصراط الإسلام, والستور حدود الله,والأبواب المفتحة محارم الله,والداعي الذي على رأس الصراط كتاب الله,والداعي من فوق واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم"(4). ففي هذا المثل الذي ضربه النَّبيُّ-صلى الله عليه وسلم-أنَّ الإسلام هو الصراط المستقيم الذي أمر اللهُ بالاستقامةِ عليهِ-والاستجابة له، ونهى عن مجاوزة حدوده، ومن ارتكب شيئاً من المحرمات فقد تعدى حدوده"(5).
فالاستجابة لله ولرسوله: هي امتثال أمره من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وغيرها من الأعمال التي أمر الله بها، والاستجابة هي: اجتناب نهيه أيضاً، فلا تعصيه فتشرب الخمر، وتتعامل بالربا، وتأكل أموال الناس بالباطل، وتتحاكم إلى غير شريعته، وغيرها من الأعمال التي نهى الله ورسوله عنها.
أيها المسلمون: يا من قصر في طاعة الله!، ويا من سار في معصية الله!، ويا من عصى أوامر الله ورسوله!، إن الله-سبحانه وتعالى-يدعوك للاستجابة لأمره وأمر رسوله، فيناديك بأحسن الأسماء وأرفعها منزلة، إنها منزلة الإيمان، فيقول-سبحانه-:{يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول}، وهذا الخطاب هو لأصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-إلا أنه عام لكل مؤمن ومؤمنة، ولكل مسلم ومسلمة.
ثم اعلم عبد الله: أن الله-سبحانه وتعالى-لما أمرنا بالاستجابة لأمره وأمر رسوله، إنما ذلك رحمة بنا، لكي لا نهلك بالذنوب والمعاصي التي نقترفها ليلاً ونهاراً، فالثمار التي يجنيها العبد من وراء استجابته لأمر الله وأمر رسوله عظيمة وجليلة، لا يمكن للإنسان أن يستغني عنها, بل إنها هي الحياة الحقيقية، إذ كيف يتصور للإنسان أن يعيش حياة هو فيها غير مستجيب لله ولرسوله، لك أن تتخيل هذه الحياة، إنها حياة بهيمية، أما حياة المستجيب فإن لها ثماراً عديدة ومُتنوِّعة,فمن هذه الثمار والفوائد ما ذكره ابنُ القيِّم-رحمه الله-في تفسيرِهِ القيِّم، عند قوله-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (لأنفال:24). قال: تضمنت هذه الآية أموراً:
أحدها: أن الحياة النافعة إنما تحصل باستجابة لله ولرسوله,فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له... فالحياة الحقيقة الطيبة هي حياة من استجاب لله ولرسوله ظاهراً وباطناً,فهؤلاء هم الأحياء،وإنْ ماتُوا. وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول-صلى الله عليه وسلم-,فإن كل ما دعا إليه ففيه الحياة,فمن فاته جزءٌ منه فاته جزءٌ من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.
قال مجاهد( لما يحييكم)أي: للحق. وقال قتادة: هو هذا القرآن، فيه الحياة, والثقة, والنجاة, والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال السدي: هو الإسلام، أحياهم به بعد موتهم بالكفر,وهذه كلها عبارات عن حقيقة واحدة,وهي القيام بما جاء به الرسول-صلى الله عليه وسلم- ظاهراً وباطناً.
فالإيمان, والإسلام, والقرآن, والجهاد, يحي القلوب الحياة الطيبة،وكمال الحياة في الجنة،والرسول داع إلى الإيمان وإلى الجنة,وهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة"(6).
فاتقوا الله عباد الله: واستجيبوا لأمر الله وأمر رسوله، فإن فيهما فلاح العبد وفوزه في الدنيا والآخرة، وإن بالإعراض عنهما ومخالفة أمرهما خسارة الدنيا والآخرة. والله أعلم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين،ولا عدوان إلا على الظالمين،والعاقبة للمتقين،والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بعدُ:
فإن من فوائد وثمار الاستجابة لله ولرسوله-صلى الله عليه وسلم-: أن الاستجابة لله ولرسوله إنما تكون على عقيدة صحيحة وسليمة, وبهذه العقيدة تحيى القلوب, والعقول، وتطلقها من قيود الجهل والخرافة، ومن ضغط الوهم والأسطورة، ومن العبودية لغير الله.
ثم إن الاستجابة هي أن يلتزم المسلم شريعة الله وحده, ويعلن التحرر من قوانين المخلوقين، فيقف المسلمون صفاً واحداً، لا يتحكم فيهم فرد، ولا طبقة، ولا جنس، ولا قوم، ولكن تحكمهم شريعة الله رب العباد"(7).(51/2)
قال البخاري:"استجيبوا" أجيبوا "لما يحييكم" أي لما يصلحكم. عن أبي سعد المعلى-رضي الله عنه-قال كنت أصلي فمر بي النبي-صلى الله عليه وسلم–فدعاني فلم آتيه حتى صليت، ثم أتيته، فقال: "ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}, ثم قال لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج" فذهب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ليخرج فذكرت له"(8).
أيها المسلمون: إن قوله- تعالى-:"لما يحييكم", وصف ملازم، لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته،فإن حياة القلب، والروح،بعبودية الله-تعالى-،ولزوم طاعته،وطاعة رسوله،على الدوام، ثم حذر من عدم الاستجابة لله وللرسول فقال: {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} فإياكم أن تردوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه، إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها، أنى شاء. فليكثر العبد قول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب،اصرف قلبي إلى طاعتك"(9).
ثم اعلموا عباد الله: أن من فوائد وثمار الاستجابة لله-سبحانه وتعالى-ولرسوله-صلى الله عليه وسلم-هي مغفرة الذنوب,قال-تعالى-على لسان الجنِّ: {أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأحقاف: من الآية31). أجيبوا داعي الله، أي: أجيبوا رسولَ اللهِ محمَّداً إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله,وآمنوا به يقول: وصدقوه فيما جاءكم به وقومه من أمر الله ونهيه, وغير ذلك مما دعاكم إلى التصديق به, يغفر لكم,يقول: يسترها لكم ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته إياكم عليها. ثم هي الحياة الحقيقية في الجنة فالجنة هي دار الحيوان، هي الدار التي تفيض بالحياة الحقيقية والحيوية، وفيها يتحدد مصير الإنسان الأبدي، بعد أن ينتقل من هذه الحياة الدنيا، فالدار الآخرة هي المتاع الذي ينبغي أن يحرص عليه المرء ولا يرضى به بديلاً، ولا يبغي عنه حولاً، ولذلك ينبغي الاستعداد والتأهُّب لتلك النهاية التي يصير إليها المرء، وعندئذ تنفتح أمامه آفاق سامية، وآماد بعيدة, ويرتفع إلى مستوى لائق بكرامته وإيمانه: {ومَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ لَهْوٌ ولَعِبٌ وإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت : 64 .
ثم يقول-سبحانه-:"ويجركم من عذاب أليم" أي ينقذكم من عذاب موجع إذا أنتم تبتم من ذنوبكم وأنبتم من كفركم إلى الإيمان بالله"(10). فالذين يرفضون الاستجابة لله والرسول فإنهم يرفضون الحياة الكريمة اللائقة بالإنسان، فليس لهم إلا الذل ومصيرهم الهلاك، ومآلهم الدمار والبوار: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وبِئْسَ القَرَارُ} إبراهيم : 28-29 . فما أعظم خسارة أولئك الذين آثروا الدنيا الفانية على الآخرة الباقية الدائمة! وما أعظم ضلال أولئك الذين حصروا الوجود فيما تقع عليه حواسُّهم قريباً في الدنيا، ويحسبون أن وجودهم محصور فيها فلا يعملون لغيرها:
خُلِق النّاسُ للبقاءِ فضلِّت أمّةٌ يحسبونهم للنَّفاد
إنما يُنقلون من دار أعما ٍل إلى دار شقوة أو رشاد !
عباد الله: يقول الإمام ابن القيم: رحمه الله-: " فإن الإيمان, والإسلام, والقرآن, والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة. وكمال الحياة في الجنة, والرسول داعٍ إلى الإيمان وإلى الجنة، فهو داعٍ إلى الحياة في الدنيا والآخرة)(11), فهل تستجيب لهذه الدعوة الكريمة التي وجَّهها إليك رب العزة، جل جلاله؛ لتظفر بهذه الحياة الكريمة، فتكون مَعْلَماً من معالم الطريق، وتكون مؤمناً بالله ورسوله، ولن يكون مؤمناً ذاك الذي يُعرض عن دعوة الله، ولا يستجيب لها، فإن الاستجابة لله وللرسول-صلى الله عليه وسلم-، هي المحكُّ الحقيقي والمظهر العملي للإيمان,قال الله-تعالى-: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} آل عمران : 169 . والمؤمن يستجيبُ لنداءِ الإيمانِ من فورِهِ:{رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ*رَبَّنَا وآتِنَا مَا وعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إنَّكَ لا تُخْلِفُ
المِيعَادَ } آل عمران : 192 - 193 .قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: (إذا سمعت الله-تعالى-يقول: "يا أيها الذين آمنوا! فأرْعِها سمعك، فإنه إما خيرٌ تؤمر به، وإما شرٌ تنهى عنه" .
اللهم اجعلنا من المستجيبين لأمرك وأمر رسولك.(51/3)
اللهم وفقنا لطاعتك والعمل على مرضاتك، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين،،،
00000000000
1 - تفسير ابن كثير(4-171).
2 - في ظلال القرآن (6-3274).
3 - راجع: تفسير السعدي(2/196).
4 -
5 - جامع العلوم والحكم(1-26).
6 - تفسير ابن القيم ص(288-289).
7 - في ظلال القرآن (3-1494).
8 - البخاري.
9 - تفسير السعدي(2/196-197).
10 - راجع: تفسير الطبري (26-34).
11 - الفوائد لابن القيم : ص 116 .(51/4)
أحداث العصر وبشائر المستقبل
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
المقدمة
إن المتأمل في واقع الأمة المسلمة اليوم ، وفيما يجري في هذا العالم وفي ديار الإسلام على وجه الخصوص ، يرى ظواهر تلفت الأنظار ، وتستحق التحليل ، ويظهر فيها ومنها كثير من الأمور التي تبعث الأمل ، والتي يُرجى بإذن الله - سبحانه وتعالى - وبتوفيقه أن تكون عاقبتها خيراً وفلاحاً ونصراً وعزاً وتمكيناً للإسلام والمسلمين .
فإن الصحوة الإسلامية اليوم كثيرٌ عددها ، وبادي خيرها ، وفاشي أمرها ، ومتكاثر في كل الساحات حضورها ، وإن أجيالها لترسم صورة مشرقة وضَّاءة ، لا تبرؤ في الحقيقة من نقص أو عيب ، ولكنها تبشِّر بصورة وبمستقبل أفضل عما كان عليه الحال في أزمنة خلت ، تردَّت فيها أجيال الأمة في مهاوي الضياع ، واتبعت كل ناعق ، وانصرفت عن نهج الله - سبحانه وتعالى -، فلم تحقق خيراً لدينها ، ولم تحقق فلاحاً ولا نجاحاً في دنياها ، والمعلوم من سنّة الله - سبحانه وتعالى - أن هذه الحياة فيها مكابدة ومجاهدة ، وأن المسلم لا بدّ له من ثلاثة أمور :
أولاً : الثبات على منهج الله سبحانه وتعالى .
ثانياً : الثقة بنصر الله سبحانه وتعالى .
ثالثاً : الصبر وطول النفَس وعدم تعجل النصر
الثبات على منهج الله - عز وجل - هو أعظم أسباب حصول الفرج والنصر والعزّ والتمكين ، والله - سبحانه وتعالى - بيَّن لنا أن نهج المسلم في هذه الحياة مرسوم محدد المعالم لا يحتاج إلى أن يأخذ من شرق أو من غرب ؛ فإن ما في دين الله - سبحانه وتعالى - كافٍ شافٍ .. { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } وهذا النهج ينبغي أن لا يكون هناك شك فيه ، ولا موازنة لغيره به ؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - يقول على لسان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنِ وسبحان الله وما أنا من المشركين } . هذه السبيل واحدة : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } فهو خط واحد ، ونهج واحد ينبغي أن يكون في القلوب يقين بأنه الكمال والتمام ، وأنه ينبغي أن لا يكون عنه بعد ولا انفصام .
ولذلك أيضاً في قول الله - عز وجل - على لسان النبي - عليه الصلاة والسلام - : { قل إني على بيّنة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقصُّ الحق وهو خير الفاصلين } والمتأمل في الآية يرى قوة اليقين بالمنهج ..{ قل إني على بينة من ربي } بيّنة واضحة ظاهرة على هذا النهج وصحته { وكذّبتم به } ، وإن كذبتم به وإن تخلى عنه كل أهل الأرض ، وإن حاربه الشرق والغرب يبقى هو المنهج الكامل الصائب المحكم الحكيم ؛ لأنه من عند الله - سبحانه وتعالى - .. { ما عندي ما تستعجلون به } إن طلبتم أمور مادية محسوسة ، أو معجزات ، أو طلبتم تغييرات أو مداهنات فليس عندي من شيء من ذلك .. { ودّوا لو تدهن فيدهنون } لكن كان النهج والثبات {إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين } أي أن سنته تقتضي الفصل بين أهل الحق والباطل، وإن العاقبة في الآخرة للمتقين .
فلا بد أولاً في الثبات على المنهج ، ثم الثقة بالنصر - سبحانه وتعالى – { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } وقوله - سبحانه وتعالى – { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ـ إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } المؤمن إن اشتد الكرب ، وإن أظلمت الدنيا ، يعلم أن مع العسر يسراً ، وأن بعد الكرب فرجاً ، وإن العاقبة للمتقين ،فلا يدفعه البلاء إلى أن يغير منهجه ؛ لأنه واثق بنصر الله - عز وجل - : { إن تنصروا الله ينصركم ويثبت الله أقدامكم } وقوله تعالى : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } وكذلك لا بد أن يتحلّى بصدق وطول النفس ويعلم أن سنّة الله الجارية قد مضى على هذه السُنن ، وهذا الطريق الرسل والأنبياء قتلوا وكذبوا ، وأوذوا ونشروا بالمناشير ما صدّهم عن دين الله ولا استعجلوا بنصر الله - سبحانه وتعالى - وذلك كما قال - جل وعلا - : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } وقربه إنما يكون بعظمة اليقين في القلب .(52/1)
هذه المقدمة إنما أحببت أن أجعلها بين يدي الموضوع ؛ لأن بعض الناس يرى ضراوة العداوة للإسلام ويرى دماء المسلمين تجري أنهار في كل مكان ، ويرى المؤامرات على أمة الإسلام وهي تدار وتحاك ، فتظلم الدنيا في وجهه وتسودَّ الصورة أمام عينيه ، فكأنه لا يرى بصيصاً من أمل ، أو كأنه أحياناً يقع فيما نهى عنه النبي - عليه الصلاة والسلام - حينما قال : ( لا يتمنى أحدكم الموت لضُرٍ نزل به ؛ فإن كان لا بد فاعله فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرٌ لي ، وتوفني ما كانت الوفاة خير لي ) هذه الصورة إنما جاءت ربما من ضعف اليقين أو من عدم المعرفة بسنة الله - عز وجل - التي أخبر بها القرآن الكريم ، أو بعدم استقراء التاريخ واستنطاقه ، وفيه من هو خيراً منا، رسلاً وأنبياء دعاة ومصلحين علماء وأئمة مر بهم من الكرب ما قد يكون أشد وأنكى .
وقد رأينا كيف كانت الأمور تشتد ، ثم عندما تفيء الأمة إلى ربها ، وتعود إلى دينها ما أسرع ما يأتي فرج الله ونصره من حيث لا يحتسب الناس ، وقد مثّلت لذلك بأمثلة أعلن النبي - عليه الصلاة والسلام - فيها النصر قبل وقوع المعركة ، كما فعل في بدر ، ونحن في أيام رمضان وذكرى بدر تحل علينا قريب ، وكما فعل ذلك - عليه الصلاة والسلام - في يوم الخندق في وقت الشدة ، وكما حصل للمسلمين بعد سقوط بيت المقدس لم تمضى إلا سنتان ثم بعد ذلك عادت قوة الإسلام وضربوا النصارى ضربة موجعة ، ثم تتبعت الحرب سجال حتى كتب الله النصر في زمن في عمر الأمم ليس بطويل تسعين عاماً فقط، بينما رفرفت رايات الإسلام عليها أكثر من خمسة قرون ومن بعد ذلك دهراً طويل ، وكذلك في فتنة ومأساة المغول والتتار لما دخلوا بغداد بعد عامين اثنين كسروا وهزموا هزيمة شنعاء ، هذا الأمر هو ا لذي نحب أن نتحدث عنه ، ونظراً لأن الصورة السوداء يبدو أنها متوفرة بكثرة ، فلا نحتاج أصلاً أن نتحدث عنها ما يزال المتحدثون يتحدثون عن مآسي المسلمين وعن فضائح أعدائهم ، وعن المؤامرات وعن كذا ، حتى كأنه لن تقوم الإسلام والمسلمين قائمة ، لكن الذي أحب أن أشير إليه هو الجانب الآخر؛ فإن ظواهر كثيرة تبعث الأمل وتحليلها يدل - بإذن الله سبحانه وتعالى - على أن النصر آتٍ لا محالة وذلك وعد من الله لا يتخلف .
ولكن بوادره ومبشراته تدل أن نسمائه تهب قريباً ، وحينما نقول : قريب ؛ فإن الأمر في قدر الله - سبحانه وتعالى - ، وإن الأمر -كما أشرت - يقاس بأعمال الأمم وبأعمال الدول ، وبعمر الصراع بين الأجيال والعقائد والأديان . فليست المسألة سنوات معدودة ، وإنما بالنسبة لما مضي يكون الأمر فيه القرب بإذن الله - سبحانه وتعالى- ، وأستعرض هنا في هذا الدرس ظواهر أقسمها إلى قسمين :
القسم الأول : ظواهر الهبوط
والقسم الثاني: ظواهر الصعود
ظواهر الهبوط
هي فما يتعلق في صفوف الأعداء ، وفي القوى المتربصة بأمة الإسلام والمسلمين ، والمذاهب التي نخرت في جسد الأمة ، وأما صور الصعود فهي الإيجابيات التي ظهرت في ديار الإسلام ، وفي أجيال الأمة المسلمة ، فمن الظواهر المتعلقة بالهبوط أو السقوط أربعة ظواهر .
وهذا الموضوع بالجملة عبارة عن تحليل واستشفاف وتأمل في بعض الأحداث ، فليس هو موضوع علمي ، وليس هو موضوعٌ يرجع فيه إلى المراجع أو كذا ، وإنما هو من الواقع ومما يرى الإنسان جمع لهذه الأحداث ، وربط بينها ، وإلقاء بعض الضوء عليها يكون فيه - إن شاء الله - بعض الفائدة بإذن الله - سبحانه وتعالى - .
ظواهر الهبوط
الظاهرة الأولى : سقوط المذاهب الفكرية نظرياً وتطبيقياً
وأعني بذلك المذاهب التي تبعها واعتنقها واغتر بها وخاض فيها أجيال من أمة الإسلام ردحاً من الزمن طويلاً ، وهذه - لا شك - أنها كانت من أسباب منع الرحمة من الله - سبحانه وتعالى - ، وكانت لوناً من ألوان الصد والإعراض عن الله - عز وجل -، وكانت صورة من صورة المحادة والمحاربة لله - سبحانه وتعالى - ، فانقشاعها أو ضعفها وذهاب أثرها مؤذن برحمة من الله ، وبنصر من الله - سبحانه وتعالى - .
القومية - على سبيل المثال - التي كانت ديناً عند من اعتنقوها ، واستبدلوا بها دين الله - سبحانه وتعالى - هذه كانت في وقت من الأوقات ملء الزمان وملء السمع والبصر ، وكان كثير من الناس اغتروا بها عن صدق ، وحتى أن بعضهم دفع من أجلها دمه وروحه - عياذاً بالله سبحانه وتعالى - ، ما هي صورتها اليوم ؟ .. في جملة من الوقائع - ليست مترتبة تاريخياً - نجد أنها فقدت مصداقيتها نظرياً ؛ لأنها بذاتها لم تحقق مضمونها ولا أهدافها ولا الغايات التي كانت تزخرفها للناس ، مثلاً القومية تدّعي أنها تريد أن توّحد أمة العرب ، ومنذ أن بدأت وإلى اليوم ، وهي تعمل على مزيد من الفرقة والانشقاق ، والتشرذم ، والحرب والخصام ، ما رأينا أنها جاءت في ذلك بخير أو بتجربة صادقة .(52/2)
لها تجربة دلّت على الفشل التطبيقي - أيضاً - وهي تجربة الوحدة التي كانت بين مصر وسوريا في 1961 م مثل المعارك والأشياء التي ذكرناها زواج سريع الطلاق مباشرة ، بعد أقل من سنتين لم يكن بعد ذلك فقط انفصال ! وإنما كان نوعاً من التصادم والتعارض يدلل على أن هذا ليس أساساً تبنى عليه وحده الأمة ، وكذلك يدلل على أن النوايا ليست صادقة وعلى أن الخيانات والمكائد كلها كانت تحف وتحيط بمثل هذه التصورات والمذاهب .
والقومية تريد أن تجعل اللغة العربية أساساً لجمع الأمة الناطقة بالضاد ، وإذا بها في حقيقة أمرها ومن خلال أعمالها ، ومن خلال صحافتها تضرب في صميم اللغة العربية ضرباً موجعاً ، حتى صاح حافظ إبراهيم في ذلك الوقت - وهو شاعر فحل من شعراء مصر - يصيح وهو ينعي اللغة العربية ، ويدافع عنها ضد من يريدون أن يصوِّروا ضعفها ، أو أن يبينوا عجزها أو شيء من ذلك ، وأيضاً هذه القومية التي كانت تدَّعي أنها لا تعارض الإسلام كانت صورتها الواضحة الجلية التي كشفت عنها الأيام ، وأظهرتها التواريخ ، وأثبتتها الوثائق أنها كانت أشد حرباً على الإسلام والمسلمين ، ربما أحياناً من الكفرة الملحدين بل حتى من اليهود ألد أعداء الدين .
فإننا نعلم كيف كانت كثير من هذه الدول التي تدعي هذه القومية كيف صبّت جام غضبها ، وعظيم بطشها على دعاة الإسلام ، زجاً بهم في السجون ، تعليقاً على المشانق ، وتشريداً لهم في شرق الأرض وغربها، وما رأي المسلمون من ورائها خيراً . ثم كذلك هذه القوميات أو القومية التي كانت تدعي أنها تعطي أمثلة من السياسة الحكيمة ، أو غير ذلك من ما يدعوا أنه يجمع أو يهيئ للأمة أعظم المصالح ، ويدفع عنها المضار .
في الحقيقة كانت نموذجاً للسياسات الخرقاء ولإتباع الأهواء ، وأظهر مثل على ذلك نضربه عن مصر ؛ لأن زعيمها في ذلك الوقت هو الذي كان يُدعى بزعيم القومية العربية ، وزعيم العرب ومن غير ذلك العبارات التي كانت يسمى بها، وكان الشيخ الدوسري - رحمة الله عليه – يسميه : " العبد الخاسر " ، من السياسات الخرقاء أنه أضاع فئة من أهل مصر في معركة وحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، ولا مصلحة لا لدين ولا لقومية ، وذهبوا ضحية في أرض اليمن في الجبال الوعرة التي لا يعرفونها ، وفي الوديان التي لم يروا مثلها في ديارهم ، فكانت دائرة عليهم شديدة الوقع ، وكانت دلالة سياسات خرقاء وإتباع الأهواء والغطرسة والجبروت .
وأعظم ما منيت هذه القومية من فضائح لا يمكن أن تسترها أية قوة ، أو لا أي تزييف تلك الجرائم النكراء التي مُنيت بها الأمة العربية ولا نقول الإسلامية ؛ لأنها لم تكن رافعة للراية الإسلام منيت بها أمام اليهود، أرذل خلق الله - عز وجل - وأحقرهم وأجبنهم ، وإذا بهم مرة بعد مرة ، وجوْلةً بعد جولة يتفوقون وينتصرون ، وينهزمون ، ويقتلون ، ولا يستطيع أحدٌ أن يقف أمامهم ، وإنما هي الخطب الرنانة ، والوعود الفارغة ، والبطولات الكاذبة التي هي عبارة عن البالون الكبير ، بمجرد شوكة يذهب هباءً ولا يبقى منه أثر .
ولذلك تفننوا في التسميات التي لحقت بهذه الهزائم تلطيفاً أو تخفيفاً من هذه النكبات ، وإضافةً إلى التزوير في التاريخ وإلقاء التبعات هنا وهناك ، ولكن التاريخ - كما يقولون - لا يرحم .. ظهرت الحقائق جليَّة وواضحة ، وقد كانت - أيضاً - هناك إشارات في درس الحرب والسلام على ما كان في هذه الحروب كلها، مما يعري هذا أو هذه الفكرة التي -كما أشرت - كانت فترة من الزمان هي شاغلة الدول والحكومات والشعوب ، وكانت -كما أشرت - بلاءً في جملتها على الأمة في دينها وكذلك في دنياها .
ولو أخذنا أمثلة أخرى سريعة أيضاً ؛ البعثية التي كانت تريد أن تتميز عن القومية ، وجعلت أيضاً البعث ديناً تدين به وتكفر دين الله - سبحانه وتعالى -، أيضاً كانت أعظم صورة لصور حرب الإسلام ، واجتثاثه من جذوره ، إنما ظهرت في دول البعث على اختلاف أنواعها وأقطارها ؛ فإنك عندما تقرأ وتتابع ، لا ترى هجمة شرسة ليس فيها أي معلم ولا ملمح ، لا من قريب ولا من بعيد ، لا للرحمة ولا للعقل ولا للمنطق ؛ فإنك واجدها بأعظم صورة في حكومات البعث على اختلاف أنواعها وأقطارها كما أشرت .
وكذلك تجسدت في البعثية أعظم صور الظلم والطغيان كما في أحداث كثيرة .. في حادثة حلبجة وغيرها، ثم كان آخرها وأظهرها ما كان في حرب الخليج أو في اعتداء العراق على الكويت ، وظهرت أيضاً أن هذه الادعاءات في كل صورة من وحدة ، أو من حرص على الأمة ، أو من دفاع عنها ، أو من محاربة يهود ، كل هذه لما مرت الفترات الماضية القريبة ، كلها ظهرت كذباً في كذب ، ودجلاً في دجل ، وتزييف على الناس .(52/3)
والعلمانية أيضاً تلحق بهذا ، فهي اليوم تحتاج أن نشبهها - إذا صح التعبير - أنها طفقت تقصف عليها من الورق ، تستر عليها سوءاتها الباقية ؛ لأنها كل يوم تنزع أو ينزعوا منها ورقة أو لباس ،حتى انكشفت على حقيقتها أمام العامة والبسطاء والدهماء قبل المتعلمين والمثقفين ، فإنها أيضاً أرادت أن تقول للناس أن الدين له أن يحكم شؤون الزواج والطلاق وكذا، ولكن ليس له أن يحكم شؤون الاقتصاد والسياسة ، وسنأتي لهذا بأنظمة العصر ونحل بها المشكلات .
وكل الدول العلمانية بلا استثناء في العالم الثالث ، كلها تشكل خط انحدار في النواحي الاقتصادية ، وفي النواحي الأمنية ، وفي النواحي السياسية ، في جملة تتردّى من هاوية إلى هاوية، وكل ما يتصل بهذه السياسات يظهر في أمثلة كثيرة ، حتى إنها تناقض ذاتها كل مرة تستحدث نظاماً جديد ، وإذا ما جاءت حكومة كلما دخلت أمة لعنت أختها ، واتهمت التي قبلها بأنها لم تكن على نهج سوي ، وبأنهم كانوا مزيفين ، وبأنهم كانوا سارقين ، وبأنهم كانوا كذا .. حتى أظهر كل جيل بكذب الجيل الأول ، وهؤلاء أظهروا زيف هؤلاء ، وأولئك أظهروا زيف الآخرون ، وظهر الجميع كلهم كذبة خونة ، وكذلك كان أعظم شعارات العلمانية أنها توفر الحرية ، وأن السلطة الدينية - كما يصورون - فيها نوع من الكبت ، والقهر ، والتسلط . وما نرى في أغلب الدول التي تدَّعي مثل هذا إلا كل صور التجبر ووأد الحرِّيات .
ويكفي أن نضرب بعض الدول التي تدعي هذه الديموقراطيات ، والحكم العلماني وهي من أكبر الدول العربية ، لها إلى الآن نحو خمسة عشر سنة بقانون الطوارئ .. قانون الطوارئ الذي يعني في أسوء الأحوال المفروض أن لا يتجاوز أشهراً معدودات ما يزال يجدد ويجدد والديموقراطية تمارس تحت قانون الطوارئ الذي يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يشاء، أي الحاكم أو السلطة التي تتولى تنفيذ العقوبات ، وتتولى الاعتداء على الناس بكل الصور وشتّى المظاهر .
وأيضاً ظهرت في نواحي السياسات لهذه العلمانية ظهرت فيها الخيانات والتحالفات التي كانت لحساب أفراد ، وكانت ضد مصالح عموم الأمة ، فشاهد الحال نقول : بإيجاز في المعلم إن هذه كلها وغيرها اصبح الإنسان المسلم العادي البسيط لا يقتنع بها ولا يتفاعل معها، بل هو من أعمق أعماق قلبه يلعنها، لأنه ذاق من مرارتها فقراً ، وبؤساً ، وظلماً ، وعدواناً ، وجهلاً ، وتجهيلاً ما رأى في سنوات طوال ، إلا أنه يطحن ويدور كما يدور الحمار في الرحى ، ولا يخرج بنتيجة ولا بطائل .
فلذلك الآن كل هذه الشعارات لا تلفت الأنظار ، ولا تجلب الجماهير كما يقولون ، وهذا الذي يجمع الوقائع ويرى الشواهد ، ربما أيضاً تتضح في الصور المقابلة يرى الأمر لا يحتاج إلى ذكاء كبير ولا إلى استنباط دقيق وهو واضح جداً ويمكن حتى للإنسان أن يجرب تجربة فيسأل أي إنسان عامي عن مثل هذه الأمور بفطرته السليمة، المعلومات الكبيرة التي ظهرت تجعله يعرف حقائق مثل هذه الأمور هذا الجانب أو هذه الظاهرة الأولى .
الظاهرة الثانية : سقوط الشيوعية
ولماذا فصلت الشيوعية على وجه النصوص ؛ لأنها كانت كيان كبير وقوة عظمى وهي عاثت في الأرض فساداً وضمت إليها من ديار الإسلام في فكرها وكفرها أقطاراً عديدة ، هذه الشيوعية حينما سقطت أيضاً أعطت الأمة دروساً ومن أعظم هذه الدروس أن الشيوعية اجتمع فيها أعظم أسباب سقوط الدول وانهيارها ، وهما سببان : الأول الكفر والثاني الظلم ؛ فإن هذين إذا اجتمعا قطعاً وجزماً لا يبقي للمتشبث بهما أو المعتمد عليهما قائمة إن طال الزمان أو قصر ؛ لأنه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية : أن الدولة الكافرة إذا كانت عادلة تدوم أطول أحياناً من الدولة المؤمنة إذا كانت ظالمة ؛ لأن العدل أساس الملك والعدل يوفر أحياناًً الرضا عند الناس ، ويوفر الاطمئنان ، ويوفر شيء مما يقوى به الكيان ويستمر ويطول ، وعلى العكس من ذلك الظلم ، ثم الكفر والإيمان ، لا شك أنه له أثر ، إما إذا اجتمع الكفر والظلم فهي ظلمات بعضها فوق بعض .(52/4)
فهؤلاء أعلنوا الحرب على الله سبحانه وتعالى ، وأنكروا وجوده ، و أنكروا الأديان ، ثم أيضاً كانوا صورة كاملة للظلم ، الذي ربما لم يرى الناس مثله إلا في هذه الشيوعية ، ثم كذلك ظهر من خلال ذلك أيضاً اليقين بتدبير الله سبحانه وتعالى وتدميره لأعدائه ؛ فإن أحداً لا يدعي أنه كان هو المخطط والمدبر ، وأنه هو الفاعل والمؤثر في سقوط هذه الشيوعية ، لا القوى الكبرى ولا المسلمين ولا غيرهم ، نعم هناك أسباب من هنا ومن هناك بشكل أو بآخر ، مثل الجهاد الأفغاني ، أو مثل الحصار الغربي ، والسياسات التي كانت تهدف إلى الزعزعة الداخلية ونحو ذلك ، لكن ما كان أحد لا من المحللين ولا من المراقبين يتوقع هذا السقوط ، وإنما كان هذا آية من آيات الله - سبحانه وتعالى - تدل على أن الله - جل وعلا - له حكمة بالغة ، وأن قدره يجري ، وأن نصره ينزل من حيث لا يحتسب الناس ، وتنفس الناس الصعداء ، ورأى المسلمون أن أموراً تجري بقدر الله وبإذن الله يكون فيها الخير ، وما يكون ذلك إلا بأمر الله - عز وجل - وربما أيضاً بناء أو فيه صلة أو به صلة بسلوك الناس واستقامتهم ، أو رجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى .
دروس مستفادة من سقوط الشيوعية
منها ظهور فطرية وأصالة هذا الدين العظيم ؛ فإنه رغم سنوات سبعين عجاف ، ورغم قهر وعسف .. لا يُتصور مع ذلك بقية تلك الأجيال المسلمة التي طحنتها الشيوعية ، والتي مُزقت وشُتت في شرق الأرض وغربها ، ومنع منها القرآن ، واللغة العربية ، والعلوم الشرعية ، والمدارس والمساجد ، وإذا بها الآن كأنها تبعث من جديد كأنها تخرج من تحت الأنقاض ، وإذا القلوب مملوءة بالإيمان ، وإذا الإسلام منشرحة به الصدور ، وإذا الألسن تنطق بالعربية الفصيحة ، وإذا القرآن محفوظ في الصدور يشكل ظاهرة عجيبة .. تبين أن هذا الدين بفطريته ، وبأنه إذا خالط شغاف القلب لا يمكن أن تنزعه قوة مهما بلغت في هذه الأرض ، وهذا أعطى للناس أن هؤلاء على مدى سبعين سنة من الاضطهاد بقيت لهم هذه الأصول الإسلامية ، والروح الإيمانية ، فكيف بالآخرين ؟ اضطهاد ولسنوات عارضات أو في أجزاء محدودة من حياتهم .. أعطى هذا قوة لنفوس الأمة المسلمة أن تكون أكثر وأقوى تشبثاً بدينها وارتباطاً به ، وأنه في آخر الأمر ينتصر بإذن الله سبحانه وتعالى .
وأظهرت طبعاً من بعد ذلك ومن قبله كشوف الإجرام ضد الإسلام والمسلمين على وجه الخصوص ، وأيضاً كان درس المسلمون المنسيون عرج على ذلك في تاريخ ووقائع كثيرة ، هذا أيضاً عامل من العوامل التي لو تأمل الإنسان فيها ورآها من بشائر النصر والخير .
الظاهرة الثالثة : عوامل الضعف في المعسكر الغربي
أو الحضارة الغربية الآن بعد أن سقطت الشيوعية ، والمعسكر الشرقي كما يقولون ، ظهرت القوة العظمة الوحيدة المنفردة ، أو ظهر بما يسمى بنظام العالم الجديد، وبعض الناس ينفخ في هذا المسمَّى ؛ حتى يجعله يشمل الدنيا بل أكبر من هذه الدنيا ، وبعض الناس يصوِّر أن هذه القوة أصبحت تهيمن على كل شيء ، وتسيِّر كل شيء ، وتعرف كل شيء ، عياذاً بالله كأننا فقدنا الإيمان بالله سبحانه وتعالى ، كأنه ليس هناك رب يدير هذا الكون ، ويصرف أموره ، ويقصم ظهور الظالمين ، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وكأننا نسينا أيضاً أن الله - سبحانه وتعالى - له سنن في هذا الكون ، وأن الإيمان به من حقائق الإيمان البدهية ، فهذه الصورة التي يضخمها كثير من الناس ، وللأسف أيضاً الصحف والإذاعات تكرس هذا ، وتكرس أن هذا النظام هو الذي سيهيمن ، وأنه لا يمكن لقوة أن تقف أمامه ، وأنه لا بد للجميع أن يُخضعوا له الرقاب ، وأن يدخلوا في سلكه ، وأن ينضموا في إطاره ، وأن يدور في فلكه .
هذه التصورات في الحقيقة بمنطق الإيمان ليست صحيحة ؛ لأن الكفر ملة واحدة .. شيوعية .. نصرانية .. يهودية .. الكفر ملة واحدة .
ذكر الله - جل وعلا - من تكفير الملل والنحل ما هو أصرح من الصريح : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } وقال تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } ، وذكر الله - جل وعلا - في القرآن آيات لا تحتاج إلى بيان ولا إلى شرح .(52/5)
ثم أيضاً الأمر الذي ينبغي أن نلتفت إليه هو أن نعرف بواطن الأمور ، وحقائقها في داخلها ، وألا نتأثر بالتضخيم والتهويل ؛ فإن هذا التضخيم والتهويل قد مرّت له أمثلة في أزمة الخليج ، وفي غيرها ، الناس تنفعل بالدعايات وكذا ، وحتى في أيام حرب الأيام الستة - كما يقولون - كانت الإذاعات العربية تذيع :" سنضرب إسرائيل .. سنقذف فيها في البحر " ، وتبدأ في اليوم الأول : " أسقطنا عشرة .. عشرين .. مائة .. مائتين " ثم في منتصف الطريق وقف حمار الشيخ في العقبة كما يقولون ، هذه الدعايات ينبغي للإنسان المؤمن أن يعلم أن الله أعطاه ميزاناً في كتاب الله ، وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وذكر وبيَّن له سنن في مجريات هذه الأحداث ، ينبغي أن لا يغفل عنها ، وأنه يمكن أن يلبس عليه بغيرها ، فهناك هذه القوة في الحضارة الغربية لا شك أن فيها قوة ، وأن من يقول بغير ذلك فهو إما مكابر أو جاهل ، لكن لا بد أيضاً أن نعطي الأمر قدره وميزانه .
فإن هناك أيضاً صور من الضعف لا تستطيع دائماً أن تحكم أو أن تتصور متى سيؤدي هذا الضعف ، إلى الأثر المحتوم والسريع والمتسارع ، كما أشرنا في الدول الشيوعية منذ زمن والناس يعرفون أن الشعوب متذمرة من الشيوعية ، وأنها ترى أنها مقهورة وكذا ، ولكن ما كان أحد يتصور تتابع الأحداث وأنها ستأتي وكأننا في أحلام !! سقطت اليوم ألمانيا الشرقية ، وانهدم السور ، وبعد ذلك حدث ما حدث ، كأن الإنسان يقص القصة من الخيال ، وليس الأمر ببعيد أن يكون أوان تكون صورة قريبة من هذه الصور في الحضارة الغربية ؛ لأن فيها - كما يقولون - مسامير مدقوقة أو مضروبة في نعشها .
صور الضعف والانهزام في المعسكر الغربي
1 ـ الكفر بالله ، والإعراض عن دين الله ، ومحاداة الله ، والاعتداء على عباد الله المؤمنين .. هذه في حد ذاتها عند الإنسان المؤمن كافية أن تكون الدائرة ، طبعاً ليس معنى ذلك أن ينام المسلمون ، ويأكلون ، ويشربون ، ويقولون : ننتظر أن يقصف الله ، وأن يقصم الله ظهور الظالمين ، ولكن لوجود الأسباب الأخرى ، ويقين المؤمن أن هذا الأمر إلى زوال ، وأن المكر والكيد إلى إحباط بإذن الله سبحانه وتعالى .
وكذلك هناك أيضاً المشكلات الاقتصادية العويصة التي تواجه هذه الدول ، وقد يعني هناك تقارير وتفصيلات عند الاقتصاديين والخبراء ليس من تخصصنا ، ولا من مجالنا ، لكن بعض الناس يقول إن أمريكا هي صاحبة الأموال ، ودول الغرب هي صاحبة كذا ، هم يعانون من مشكلات اقتصادية ضخمة جداً ، وأعداد البطالة تتزايد عندهم بشكل رهيب ، وتبلغ بالملايين ليست فقط بالآلاف ، ولا بعشرات الآلاف ، بل بملايين ، تضخم الاقتصاد بعد عام 73 م كان نحو أربعة أضعاف ، وفي بداية الثمانينات وبعد بداية حرب الخليج بين العراق وإيران زاد التضخم إلى ستة أضعاف ، وما يزال الناس يعرفون من الناحية الاقتصادية أن هذا التضخم يشكل عبئاً كبير على الدول الغربية أو الدول الحضارة الغربية .
والحقيقة أن هذا العامل هو من أبرز العوامل التي تتحكم في سياساتهم وانتخاباتهم ، الآن الانتخابات الأمريكية محورها الأساسي على الناحية الاقتصادية ، والإنعاش الاقتصادي في داخل أمريكا ، وهو الذي يذكر انه سيكون المرشِّح والمرجِّح لفريق على فريق ، أو لشخص على شخص .
2 ـ الانحلال الأخلاقي الرهيب
والعجيب الذي من إحصائيات تقشعر لها الأبدان ، ولا تظن أن هذا الأمور عارضة ، أو أن هذه الأمور بسيطة لا تؤثر في الدول ولا في الحضارات ، كلا ! فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - قد أخبر عن من يتنكبون أمر الله - عز وجل - أنه يصيبهم الأوجاع والأدواء التي لم تكن فيمن قبلهم ، الآن يحصد الإيدز مئات ، بل الأعداد بالآلاف ،بل بعشرات الألاف حصداً أو موتاً ، بالإضافة إلى المرض والإنهاك والإضعاف .
إضافة إلى الملايين بل الآن إلى بلايين الدولارات ، التي تصرف في الأبحاث ، والدراسات ، والإعلانات ، والدعايات ، وهذا كله نوع من الاستنزاف ، لا تظن هذه الأمور سهلة ، هذه الأمور تستنزف وتنخر في المجتمع ، وتحتاج إلى وقت من الزمن حتى تفعل فعلها .. الإحصاءات في الجريمة الناتجة عن هذا الانحلال الأخلاقي عجيبة جداً ، الإحصاءات تقول : " أن في أمريكا في كل دقيقة تحصل ثلاث جرائم : جريمة اغتصاب ، وجريمة سرقة ، وجريمة قتل " فتصور هذا المجتمع بهذه البشاعة وبهذه الصورة ! .
لا شك أن هذه المؤشرات لا ليست هذا من قولنا بل من قول عقلائهم ، ليس هذا أيضاً في هذه العصور ، بل في عصورٍ منذ سنوات ، يعني ليست بقريبة منذ أكثر من عشرات السنوات ، وزعمائهم وحكمائهم يؤكدوا ويشيروا إلى خطورة هذه الأمور .(52/6)
هذه سنن جارية في هذا الكون .. هناك كاتب غربي اسمه : " ولسن " ، له كتابان يصوِّران هذه الحقيقة تصويراً كاملاً .. كتاب اسمه : "سقوط الحضارة" والآخر اسمه : "رحلة نحو البداية" ..كلها تصوِّر المجتمع الغربي والمؤثرات التي تنخر فيه ويحذر من هذه الظواهر ، طبعاً هناك الجوانب جوانب أخرى .
3 ـ الضعف في الجانب النفسي والفراغ الروحي
وهو يكتسح في جانبين اثنين : الجانب الأول يكتسح في جوانب من الانتحار ، وجوانب من خواء الروح والجنون والصداع والصور العجيبة التي يظهرون بها ، والجانب الثاني : أن هذا الفراغ أحياناً أصبح مؤهلاً أن يغزوا الإسلام تلك القلوب ، وأن يجدها فارغة ويتمكن منها ، وهذا حاصل وظاهر أيضاً في الظواهر التي سنشير إلى بعض ٍمنها ، فهذه الصور التي بإيجاز ذكرت بعض جوانبها في سنة الله - عز وجل - وفي ميزان الإنسان المسلم ، تدل على أن هذا ضعفٌ مؤذنٌ - أيضاً - بمزيد يتوالى من الضعف ، وبقوة من المسلمين ، وبحول من الله ستكون دائرة يظهر فيها هذا الدين ، ويظهر أهله بإذن الله سبحانه وتعالى .
الظاهرة الرابعة : ظهور العداء للإسلام والمسلمين بشكل واضح ومحدد ومخصص
فكل ما يعلن من أمور في ظاهرها رحمة أو فيها خير سواء إن كانت مطالبة بعدالة ، أو كانت المطالبة بديموقراطية ، أو كانت مطالبة بحقوق الإنسان ، أو كانت المطالبة بالإغاثة والإعانة ، كل هذا كله فيما يتعلق بالمسلمين ، ينقلب رأساً على عقب ويتغير تغيراً واضح .
ونرى أن الموازين في هذا جائرة ، وهذا كله أعطى صورة واضحة أن المسلمين مستهدفون ، وأنهم من بين كل الناس شر وغرب مميزون .. يعني لو كان المسلم بين آلاف هو المخصوص بكل ظلم وكل اعتداء وكل مؤامرة ، فهذا أيضاً يدل على استماتة ، وهذا ليس علامة قوة ، بل علامة ضعف ؛ لأن الخوف من الإسلام والمسلمين يدل على أن الرعب قد ملأ قلوبهم ، وعلى أن عقولهم هاجسها الأول والأخير هو هذا الإسلام ، الذي بدأت تعلو رايته وتُسمع كلماته ، وتبدو بعض جولاته التي يُحقَّق فيها النصر .
وأيضاً قد مرّ في درس " القراءة في دفاتر المذعورين " كيف كانت الصيحات والمؤتمرات في دول الغرب ، وفي دول الشرق كلها تعكف على درء خطر المسلمين ، رغم أن المسلمين حتى الآن ليس عندهم لا قوة عسكرية ولا حرية .. ليس عندهم غير بعض من بصيص الأمل مما ظهر من خيرات هذه الصحوة الإسلامية ، ومع ذلك بهذا القدر القليل ، وبالحجارة البسيطة ، وبالأسلحة النادرة ، وبالكلمات القليلة ، وإذا برعب يزلزل القلوب ، وإذا بالأرض تميل تحت الأقدام ، وإذا بهم يصبون كل القوة في مواجهة الإسلام .
هذا دليل على الاستماتة مثل الإنسان في آخر رمق حياته ، أو في حينما يكون يخشى من شيء يجعل كل قوته ، وماله ، وفكره ، وعقله في مواجهته ، فإذا خسر خسر مرة واحدة ، وهذا هو الذي يرجى ويؤمل بإذن الله سبحانه وتعالى .
ظواهر الصعود
ظواهر الصعود هي الظواهر الإيجابية في المجتمع المسلم ، وفي ديار الإسلام ، وهي كثيرة
، لكن اخترت منها ما أرى أنه كبير الحجم وظاهر وبشكل بارز .
الظاهرة الأولى : ظهور الإسلام كخيار للأمة وموجه للفرد
وهذا أصبح أمراً بيناً أذكر له أمثلة ، هي من أسباب ما حصل من رغبة وخوف من هذا الإسلام ، حينما نرى أن الآلاف المؤلفة و الشعوب والجماهير ، تقول بقولها ، وبفعلها ، وبموقفها ، وبثباتها ضد أعدائها أنها تريد هذا الإسلام ، أضرب لذلك أمثلة تعتبر من أمثلة الاستفتاء الناطقة ، التي لا تحتاج لا إلى إعلانات ، ولا إلى دعايات ؛ لأنها بنفسها تفرض نفسها .
لما كانت قبل بضع سنوات يمكن نحو سنتين ونصف أو أكثر في الجزائر ، قامت مظاهره نسائية من نحو ثلاث مائة امرأة يطالبن ببعض الحرية في البغاء ، وممارسة الفاحشة ونحو ذلك .. قامت في مقابلها مظاهرة نسائية إسلامية تلتزم الحجاب ، وترفع رايات الآيات القرآنية التي تأمر النساء بالحجاب ، وتذكر آداب المرأة في المجتمع المسلم ، وإذا العدد الذي كان هناك ثلاث مائة يكون في المقابل نحو سبعمائة ألف امرأة محجبة ، وترفع هذه الآيات القرآنية ، وتقول بشكل واضح وصارخ يذهل العقول : " إن هذا هو خيار الأمة " .. إنها تريد أن تلتزم بدينها ، وأن تطبق شرع ربها ، وأنها لا تقبل عن ذلك بديلاً ، و لا تجعل له مثيلاً .(52/7)
والأمثلة في ذلك أيضاً كثيرة ، وكان المسلمون في اليمن أيضاً أكدوا ذلك في مسيرة أُطلق عليه اسم : " المسيرة المليونية " أيضا تُرفع شعارات ، وتطلب تطبيق الشريعة الإسلامية ، ولو سِرت في بلاد الإسلام الآن ، من استطاع أن يقول كلمته ؛ فإنه يقول : "هو الإسلام وليس شيء غير الإسلام " ، من لم يقلها إيماناً وعقيدةً ؛ فإنه يقولها تجربة ، يقول : "جربنا كل شيء .. جربنا العلمانية ، وجربنا القومية وجربنا كذا على أقل التقدير ـ وان كان هذا ليس منهجاً إيمانياً ـ فلنجرب الإسلام وما يقوله هؤلاء المسلمون " يعني إذا استطعنا أن نتحمل عشرات السنين في تجارب ، وكأننا يعني مثل حيوانات التجارب ، كل مرة تجربة تنجح أو تفشل ، فليكن على أقل التقدير أن يكون الإسلام تجربة من هذه التجارب .
رغم أن الإسلام منزل من عند الله - سبحانه وتعالى - فهو محكم كامل في كل جوانبه . لكن من لم يقل ذلك اعتقاداً ويقيناً ؛ فإنه يقول تجربة أو يسأم من كل شيء ، قد ظهر له عواره وجربه ، ومارسه ، فيريد أن يرى صورة أخرى ، ومثال آخر وتجربة جديدة ، والذي يتأمل يجد هذه الظاهرة قوية في كثير من البلاد ، حتى في البلاد التي جاءت أو ظهرت حديثاً في دول آسيا الوسطى ، التي ظهرت في أعقاب سقوط الإتحاد السوفيتي .. الذي يتأمل يجد أنهم لا يريدون المحافظة على الإسلام فقط وأنهم يريدون المساجد ، ولكن هم يقولون : نريد تطبيق الشريعة الإسلامية ، ونريد قيام الدولة الإسلامية ، ونريد أن يكون الإسلام مهيمن على الاقتصاد ، والسياسة ، والاجتماع ، وكل جوانب الحياة ، فأصبح هذا مطلب كثير من البرلمانات في الدولة الإسلامية والعربية .
كل القضايا التي تناقش وتطرح ، ويطالب بها هي : تطبيق الشريعة الإسلامية ، فالإسلام هو خيار الأمة اليوم بلا منازع ، والذي يقول بغير ذلك هو مكابر .
وأيضاً انتخابات الجزائر الأخيرة ، والنسبة العالية رغم الدعايات المحاربة ، ورغم كل شيء كانت أيضاً تدل على أن الشعوب المؤمنة تريد أن ترجع إلى ربها ، وأن تحكم شرع ربها ، فالإسلام خيار الأمة ، وكذلك هو هوية الفرد ، يعني ليست القضية مطالبة عامة ، الآن ترى في المجتمع المسلم ظواهر مهمة جداً ، والذي يتأمل ويحلل يرى أنها تشكل ظاهرة إيجابية كبيرة جداً ، وهي أن الناس يأتون اليوم لا يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى إلا وهم يفكرون ما هو حكم الإسلام في هذا .
ليس في القضايا العامة فحسب بل في القضايا الخاصة أيضاً ؛ لأنه يأتي من يسأل ويقول : " لي جار لا يصلي في المسجد ، أو كذا ، أو يقول مثل كذا ، أو يفعل بعض الأمور ، هل أكون على صلة به أم أقاطعه ؟ هل يحل لي أن آكله أو أشاربه ؟ " هذا يدل على أن سيطرة الإيمان والإسلام أصبحت بدرجة جيدة مرضية طيبة ، حتى أنها تريد - وهذا الأمر مطلوب - أن تحكم كل صغيرة وكبيرة في حياة الفرد المسلم .
ويأتي هذا حيال المساهمة في البنوك ، والآخر يقول : "لو أعطيت اسمي للإنسان يريد أن يساهم في البنك " .. وأمور دقيقة جداً تدل على أن الناس والمسلمين اليوم كثيرون منهم أصبحوا يريدون حكم الإسلام في كل دقيقة وكبيرة من الأمور الشخصية ، في بيته ، وفي أهله ، وفي علاقاته ، وفي عمله ، وكم من الناس حينما يرون إمرأة في العمل يتركونه ، وآخرون يرون إمرأة في المهنة فيتركونها وكذا وكذا ، وهذا يدل أن تغلغل هذا الروح ، هو الذي يؤذن بالصد عن كل شيء غير دين الله عز وجل ، فلتأتي كل المذاهب ، وكل الأحكام ، وكل الشرائع ، إذا كانت النفوس لا ترضاها ، والقلوب تريد أن لا تقدِّم ولا تؤخِّر إلا بأمر الله سبحانه وتعالى فتسقط ، ولن يكون لها أي شيء ، ولا أي قبول ، وهذا معلم بارز من المعالم المهمة .
الظاهرة الثانية : ظهور الأمثلة الحية لتطبيق الإسلام في مجالات الحياة المختلفة
أعني بذلك أن المسلمين ، والدعاة ، والعلماء يقولون : " الإسلام يحل جميع المشكلات ، له نظام اقتصادي كامل ، ونظام إسلامي شامل ، ونظام اجتماعي نافع ، وكذا هذا كلام، الآونة الأخيرة جسدت هذا في صور عملية ، وهذا لا شك أنه من أقوى الأسباب التي تحرك الأمة نحو ارتباطها بدينها ، وترسخ قناعتها بهذه النظريات المطروحة .
فإننا نجد اليوم - والحمد لله - تجارب البنوك الإسلامية ، والاقتصاد الإسلامي ، والمصارف الإسلامية جيدة ، طبعاً ذكر الإيجابيات لا يعني أنه ليس هناك سلبيات ولا أخطاء ، على العكس من ذلك ، هناك أخطاء ، ليس هناك كمال مطلق ، خاصة وأن الأمور بعضها في أوائلها ، لكن خيرها غلب شرها ، وما تزال تتحسن عافيتها ، وتتصوب مسيرتها بشكل أو بآخر ، فهذه الآن أصبحت تشكل ليس فقط جانباً بديلاً بل جانباً أصيلاً .(52/8)
يعني في الأول الناس كانوا يقولون : " نريد البديل الإسلامي عن شيء معين شيء بديل على أقل يسد الثغرة " .. أصبح هذا البديل يشمخ ويكبر ، حتى أصبح أصيلاً ، بل أصبح منافساً ، فالبنوك الإسلامية تعطي نسبة من الأرباح أكبر حالياً من البنوك الربوية ، وهذا واقع عملي محسوس ، إضافة إلى أنها تنأى بالمسلم عن الحرام ، فهي كذلك تقدم له المنفعة الدنيوية ، والناس تريد أن تعرف أن هذا الإسلام يحقق لها منافع الدنيا .
الله - سبحانه وتعالى - جعل هذا الدين والإيمان والإسلام يحقق خير الدنيا والآخر ، قال تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } ، وقال تعالى : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً } .
هذا الدين إذا طبق في واقع الحياة كما كان في عهد عمر بن عبد العزيز لما طبق تطبيقاً اقتصادياً كاملاً عمّ الخير الأمة كلها ، حتى لم يبقى فقير .. حتى لم يجدوا من يعطونه الزكاة .. حتى أعطيت الزكاة لمن يريد أن يتزوج ، فإذا انتهى المتزوجون أعطيت الزكاة لمن يقود العميان ، ثم لم يجدوا من يعطونه الزكاة . هذا التطبيق الكامل الشامل حينما بدت الآن ظواهره ـ ولله الحمد ـ تبرز تعطي اليقين والقوة في هذا الجانب .
الناحية الاجتماعية أيضاً ظاهرة بشكل جيد ، الناحية التعليمية وقيام مؤسسات تعليم إسلامي سواء كان في مراحل التعليم الأولى أو مراحل التعليم الجامعي ؛ فإن هذه المناهج التي كانت يدّعي بعض الناس والعلمانيين أنه لا يمكن أن يكون هناك تعليم ديني ، وأنه جعل الدين في جانب وكذا ، أصبحت المطالبة أن يكون التعليم إسلامياً مرتبطاً بالدين ، غير خارجٍ عنه ولا محاربٍ له ، يعني مطالبة قوية ، بل تجد كل ما جاء كتاب مقرر وفيه مخالفة شرعية ، وإن كان هو في تخصص غير مباشر في الأحكام الشرعية ، تجد هناك من يقف له ، ومن يطالب بتغييره ، ومن يفضح عواره .
وكل المناهج التي تتغير بصورة أو بأخرى ، وفيها انحرافات فيما يتصل بالناحية الإسلامية ، تجد أنها غير مقبولة بل مرفوضة ، بل إن الناس الآن يذهبوا أبناءهم إلى التعليم في المدارس التي قد يكون فيها مناهج فاسدة ، ثم يعلمون أبناءهم في بيوتهم أو في المساجد ، و في معاهد إسلامية ، أو في تعليم آخر يربطهم بالله سبحانه وتعالى .
وكذا التجارب السياسية التي خاضها أو خاضتها أجيال الصحوة ، وقيادات الصحوة في ديار الإسلام المختلفة ، أيضاً أثبتت نجاحاً كبيراً ، وأظهرت صورة - لا نقول أيضاً بأنها كلها إيجابية - لكنها كانت أكثر إيجابية من غيرها ، وكانت أكثر مصداقية من غيرها .
الظاهرة الثالثة : ظهور الأعمال الإسلامية الإغاثية
والتي تجسد وحدة الأمة والتي تكون سبباً من أسباب تثبيت المسلمين والمؤمنين ، من خلال نصرتهم ، ومن خلال الدفاع عنهم .
قبل سنوات قليلة لم يكن مثل هذا الأمر موجوداً .. هذه الهيئات التي قامت في كثير من بلاد الإسلام ، وأصبحت تؤكد عملياً وحدة الأمة المسلمة، وأنه إذا أصيب المسلم في مشارق الأرض ينبغي أن يتنادى المسلمون في مغارب الأرض من نجدته ونصرته عملياً ، وأصبح المسلمون يزور بعضهم بعضاً ، وتقوم هذه الهيئات بعمل التقارير ، والزيارة ، وإنشاء المدارس ، وإنشاء الملاجئ ، وبتقديم المعونات .
هذه الصورة أيضاً قوية في تأثيرها بالنسبة للمسلمين ، والذي يسافر أو يشارك في بعض هذا العمل ، يرى هذا الأثر حينما تذهب إلى بلد نائي من بلاد الإسلام ، أو إلى أقلية من أقليات الإسلام من المسلمين في بعض الديار ، ويرون أنك تأتيهم لتعلمهم أو لتعطيهم بعض الصدقات ، أو بعض المساعدات ، كم يكون أثر هذا عظيماً في تثبيت الإيمان ، وفي تلاحم وترابط بين أمة الإسلام والمسلمين .
لو أنا تصورنا أن ظهور الدولة الإسلامية التي جاءت بعد الإتحاد السوفيتي كان قبل عشر سنوات ، هل كانت ستجد هذا التعاطف والاهتمام ، رغم أنه ضعيف وغير مقبول ، ومطلوب أكثر من ذلك ، لكن لو كانت في فترة خلت قبل ذلك لظلت في طي النسيان .. لن يكون هناك فرق بين كونها في الإتحاد السوفيتي ولا في غير الإتحاد السوفيتي ،لم يسمع لها أحداً ذكراً ، أو لم يأبه أحد ولم يمد لها احدٌ يداً ، أما اليوم هذه تجسد الوحدة ، وتجسد النصرة ، وتعمل صورة عملية للدعاة ، ولتثبت الإيمان ، ولمحاربة التنصير والتبشير .(52/9)
أضرب لذلك أمثلة ، والأمثلة كثيرة ليست الأمثلة لما أذكره للتقليل ، وليس للحصر ، والهيئات الكثير مثل الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية في الكويت ، أو هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية هنا في المملكة ، أو غيرها ، كلها أصبحت الآن كأنها الذي يزور هذه الهيئات ، كأنه يدخل في مبناها إلى العالم الإسلامي ، هنا أفريقيا ، وهنا آسيا ، وهنا بلغاريا ، وهنا أمريكا ، وهنا كذا .. كل البلاد كأنها الآن تمثل هذا الديار الإسلام في مكان واحد ، وكل عضو في هذا المكان كأنه يمثل شعبة أو قطعة من هذه البلد ، يعرفها ويعرف أهلها ، ويعرف احتياجاتها ويزورها ويعيش فيها ويعيش مأساتها هذه الصورة يعني عظيمة جداً .
أضرب لذلك مثلاً واحداً للتأثير الدعوي والإيماني : " لجنة مسلمي أفريقيا في الكويت " هذه لجنة واحدة تخصصت في العمل الإسلامي في أفريقيا ، وأفريقيا نحن نعلم أنها من أكبر القارات التي صب التنصير والتبشير فيها جهوده ، وهذه جمعية واحدة وإمكانياتها مقارنة بتلك الإمكانيات الرهيبة التي كما أشرنا مرة في إحصائية تعتبر ضئيلة أمامها .. وأعيد فقط الأرقام من الأرقام هذه الإحصائية أن أجهزة الكمبيوتر فقط العاملة في أجهزة البشر أربعة مليون ونصف مليون جهاز كمبيوتر يعمل في هذه المؤسسات .
فإذا كان هذه أعداد الأجهزة ، فكيف أعداد البشر ، وأعداد الإدارات ، وما يلحق بذلك ، أقول : هذه اللجنة أقضت مضاجعهم ، وساروا يخشون منها ، ويرفعون التقارير فيها مرة بعد أخرى .. أدركونا.. أغيثونا .. وهي اللجنة واحدة ، وهم عندهم لجان كثيرة .
وهذه الهيئات واللجان بدأت تأخذ أعمال إيجابية ، وأعمال حديثة وتقنية ، ليس هكذا .. أخذت إذاعة تبث على ستة عشر دولة أفريقية ، وكان من وراء ذلك خيرٌ كبير ، وما يزال هذا الأثر يصد من هذا التبشير ، ويفتح آفاقاً في تثبيت الإسلام في تلك الديار ، وفي قلوب أهلها ، وهذه إيجابيات كبيرة ، وأؤكد مرة أخرى أن السلبيات موجودة ، ولكن الخير أكثر ، ومن يعمل هو الذي يخطئ ، أما الذي يقعد وينام هذا لم يخطئ ؛ لأنه لم يعمل عمل حتى يخطئ . هذا الإيجابية كما أشرت تجسد الوحدة وتثبت الإسلام في كثير من المواقع والديار .
الظاهرة الرابعة : النهضة العلمية الشرعية
الذي يلاحظ الساحة الإسلامية وأجيال الصحوة الإسلامي في كثير من الديار يرى أنها الآن
في عودٍ حميدٍ إلى مصادر هذا الدين ..كتاب الله سبحانه وتعالى وتفاسيره .. سنة المصطفى - صلى الله علي وسلم – وشروحها .. كتب الأئمة والعلماء ، والكتب التي كانوا يسمونها بالكتب الصفراء ، والتي كانوا يريدون أن تزين بها المكتبات ، أو أن تسعر أو أن توقد بها النيران .. أصبحت الآن هي التي تطبع ، وتحقق ، وتنشر ، وتدرس ، ويقرأ فيها حتى يرى حتى أمثلة جيدة جداً ، وتلفت النظر ، حتى المكفوفين الآن غير محرومين من هذا ، بل الرغبات والاندفاع ، وهذا الاهتمام أصبحت تسجل هذه الكتب تسجيلاً كاملاً على أشرطة ، ويسمعها هؤلاء ، إضافة إلى انتشار الأشرطة والتسجيلات والمحاضرات والدروس .. لا تظن هذا في هذه البلاد وإن كان في هذا البلاد ربما أفضل وأكثر صورة واضحة في هذا الأمر انتشاراً ، وكثرةً ، وأصالةً ، وخيراً .. لكن في كل البلاد وقد لقيت وقابلت بعض ونماذج من بلاد أخرى مختلفة ، تجد العناية بالعلم ، والأصالة الإسلامية ، والارتباط بالكتاب والسنة ما يثلج الصدر .
وتجد أن البلاد عاشت في التغريب سنوات عجاف ، ودرست لغة غير لغة العربية ، وتأدبت بآداب غير آدابها ، وإذا بك ترى شبابها الذين عاشوا في هذه الأجيال ، وإذا بهم يحدثونك عن الإمام أحمد بن حنبل ، وأقوال البخاري وروايات مسلم ، وفي المسألة قولان ، ونحو ذلك من الأمور مما تعجب منه ، وكأن هؤلاء نبتة غريبة .. نبات في غير أرضه يعني في غير البيئة التي كانت حوله ، وهذه ظاهرة الذي يحللها يجد أنها ظاهرة كبيرة جداً .
حتى الكتب الآن أيضاً تترجم إلى اللغات التي ينطق بها المسلمون غير الناطقين بالعربية ، وإذا بها أيضاً تطبع بالآلاف ومئات الآلاف ، ورغم أن هذا أيضاً كما ذكرت ، وأشير وأكرر ليس بالعدد المطلوب ، لكن هو شكَّل نهضة تنير القلوب ، وتحيي العقول وتربط الناس أيضاً مرة أخرى وبشكل قويّ وبشكل منهجيّ لا عاطفي لا عاطفي وأنا أؤكد على هذا الجانب ؛ لأن العواطف لا تستمر طويلاً ، تحتاج إلى العلم الذي يوضح المنهج ، ويربط الناس به ، فهذا أيضاً ظاهرة طيبة ، ولها صور كثيرة ربما يضيق الوقت عن حصرها .
الظاهرة الخامسة : ظهور أجيال الصحوة في كل ميدان من ميادين الحياة(52/10)
في السابق قبل سنوات ربما عشر أو عشرين ، كان الناس يعرفون الشخص الملتزم والمطوِّع هو الذي درس الدراسات الشرعية فقط ، أما المهندس فلا بد في الغالب أن يكون مدنياً ، كما كان أهل مصر يسمونه " أفندي " وَ " أزهري " يعني هذا في طريق وهذا في طريق ، فكانت دائرة الدين والالتزام به محصورة في طائفة معينة ، وهذا كان يكرس الانفصام ، وكان يكرس التباعد بين حقيقة هذه الدنيا ومجالات العمل فيها ، وبين حقيقة هذا الدين وفاعليته في هذه المجالات وهذه الحياة .
أما اليوم ؛ فإنك تجد في أعقد التخصصات ، وفي كل الميادين الحياة من هو ملتزم بها الدين يظهر أبهى صوره ، ويظهر كمال هذا الدين ، وفي نفس الوقت هو مبدع ، وأصيل ومبرز في عمله ، فكم هو الآن من الملتزمون من أبناء الصحوة من الأطباء ، والمهندسون ، وأهل الزراعة ، وأهل الاقتصاد وكذا .. وإلا ما قامت تلك الأعمال التي ذكرناها ؛ لأنها كانت تفتقر إلى هذه العلوم والتخصصات ، لكن كتب الله - سبحانه وتعالى – البركة في هذه الأوقات ، والله أعلم أنه ما من ميدان إلا وللإسلام له فيه نصيب ، وله فيه رجال ، وهذا يبشر بأن المسلمين ، وأجيال الصحوة ، وأمة الإسلام ، تستطيع أن تقود الحياة ، لماذا ؟ لأنها ليست فقط تحفظ القرآن ، وتحفظ الأحاديث ، بل هي تعرف الفيزياء وتطبق الكيمياء وهي خبيرة بالطب وعالمة بالهندسة ، وتستطيع أن تقاوم القوة بالقوة : { وأعدوا لهم ما استطعم من قوة } كل ألوان القوة الإيمانية ، والقوة العسكرية ، والقوة الصناعية ، والقوة العلمية كلها بوادرها وأسسها . وأقول ليس هو الكمال الموجود حالياً ، لكن الأمل والظواهر تبشر بخير كثير .
الظاهرة السادسة : ظهور التراجع في المجالات الإفسادية
والتي كانت وبالاً على الأمة ، واعني بذلك نموذجاً واضحاً في توبة الفنانين والفنانات وغيرهم من أصحاب بعض الأعمال التي فيها حرمة ومخالفة أمر الله سبحانه وتعالى ، هذه الظاهرة - أحبتي الكرام - ليست هي مجرد واحد أو اثنين ، أو امرأة أو امرأتين ، أو عشرة أو عشرين ، هي ظهور للحق من الباطل ، وإلغاء للتزييف والتدجيل الذي كان يمارس على الناس ، ويقال إن الفن لا يخالف الدين ، وإن كذا لا يعارض الدين ، وإن الربا ليس فيه حرمة ، وإن الفوائد كذا . هذا الأمر حينما يقوله أصحابه ويلبِّسونه على الناس قد يمر على الناس هذا الأمر ، فتأتي أنت وتعارض ، أنت أصلاً في صف المعارضة ، لكن كما يقولون : " الحق ما شهدت به الأعداء " والذي ينطق من أبناء المهنة هو أعرف بها ، وهو الذي قد مارسها فحينما ينطق بلسانه بعوارها ، وحرمتها ، وفضائحها ، وآثارها السيئة وبلائها الذي حل بالأمة وأفسد فيها ، لا شك أن هذا كما يقولون سحب البساط الآن في هذه المواقع التي كانت مواقع إفساد ولا تزال .
لكن هذه أصبحت تهز هذه المواضع ، ويعني تجعلها على شفا جرف هار نسأل الله أن ينهار سريعاً ، وهذه الظاهرة أيضاً أرى أنها من أكبر الظواهر المبشرة بالخير ، والخير يتوالي وهذا يؤثر في هذا ، ثم أيضاً هذه تشكل عائق صد ، إذا الآن كان الإقبال كبيراً ومنتشراً ودائماً، وليس هناك لا تحذير ، ولا قول يعارض ، ولا أحداً ينسحب ، تبقي المسيرة مستمرة ، أما الآن فالتي كانت تراوده نفسه ، والتي كان يقدِّم رجلاً ، ويؤخِّر أخرى حينما يسمع ، وحينما يرى ، وحينما يلاقي هؤلاء ، قطعاً هذا يخفِّف من بهرج هذه الأمور واستقطابها للناس ، وزيفها الذي تبدو فيه أنه لا خلاف بينها وبين أمر الله سبحانه وتعالى . وهذه الظاهرة أيضاً بينة ومتتابعة ومتوالية . والحقيقة أنها لا تشمل فقط مجال الفن أيضاً في مجال الاقتصاد ، ومجال الربا على وجه الخصوص فيها يعني شواهد كثيرة .
الظاهرة السابعة : النماذج الجهادية
التي قامت في أمة الإسلام ، وما أفرزته من دروس عظيمة انتفعت بها الأمة ، وجعلت عندها حقائق الإيمان التي كانت مقروءة جعلتها منظورة ظاهرة ، أمثلة كثيرة سواء في أفغانستان أو في فلسطين أو غيرها أعطت هذه الأمثلة دروساً كثيرة .
أولاً الثبات وطول النفس ، حتى لا يقال أنها مسألة عاطفة ، أو أنها ردة فعل أو كذا ، المجاهدون الأفغان انهوا اثنتي عشر سنة وهم في الجهاد وما يزالون ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتهم ويعجل نصرهم .
القضية الفلسطينية جلست عشرات أو ظلت عشرات السنوات ، تدور تحت الشعارات والمزايدات ، ولم يظهر أثر صادق للمقاومة يهز ، ويؤثر ، ويقلق ويرعب مثلما ظهر ، حينما ظهرت هذه المقاومة من المساجد ، ورفعت راية الإسلام وهتفت بـ " الله أكبر " ، وجاءت بالعجب العجاب ، الذي ما يزال يحير الناس ، ويملأ قلوب اليهود رعباً .(52/11)
والمتأمل في الإحصائيات ربما يرى أن هذه الحجارة ، وتلك الخناجر الصغيرة والضعيفة ، والعصي القليلة قتلت من اليهود ما لم تقتله الدول العربية في سنوات طويلة خلت ، وأثَّرت في اقتصادهم ما لم يؤثر ذلك العداء من تلك الدول ، ويعني أقضّت مضاجعهم وأرعبتهم أكثر مما ترعبهم تلك الخطب التي يحفظها الناس ، وعرفوا أسلوبها وإلقائها ، ونبرات صوتها والقائلين لها ، فما عادت تُغني ولا تجدي شيئاً .
هذا التجربة أعطت جانباً مهماً ، وهو أثر وأهمية التربية الإسلامية طويلة المدى .. المواجهة الإسلامي لا تحتاج إلى عاطفة ، أو خطبة عصماء ، وحماسة قوية ، ثم بعد ذلك إذا قيل نريد أن نتقدم خطوة ؛ فإن الذين يتقدمون ربما النصف ، فإذا قيل أنها خطوتان يتقدمون الربع ، وإذا قيل أكثر من ذلك كما هو المثل في قصة طالوت : { فلما فصل طالوت بجنوده قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم } القليل هؤلاء { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } جزء منهم { قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } وجاءت البقية الباقية { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين * ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } إلى آخر الآيات .
هذا الشأن لو كانت الانتفاضة - مثلاً - عبارة عن حماس أو ردة فعل للظلم لما كانت تستمر ، طبعاً فضل الله - سبحانه وتعالى - وتوفيقه قبل ذلك وأثناء ذلك ، لكن التربية والمدى الطويل ، والتعليم الإسلامي ، والتربية الإيمانية ، والعبادة والإخلاص لله سبحانه وتعالى ، والارتباط باليقين ، والنصرة ، واستجداء النصر من الله عز وجل على المدى الطويل أنبت هذا النبات ، وهذا الكيان الذي استعصى على هذا الاستئصال .
رغم أن المكافأة منعدمة بعشرات ومئات الدرجات ، مع ذلك هذا استمرار إنما يدل على بناء قوي ، وعلى تربية أصيلة تبشر ، وإن كانت في أجيال إن شاء الله كثيرة أنها تستطيع أن تواصل مسيرتها ، وأن تدافع عن ذاتها .
الظاهرة الثامنة : ظهور قوة الإسلام في ديار الغرب
وهذا قد أشرت إليه سابقاً في الحديث عن "الخوف من الإسلام والمذعورين منه" حتى إن هناك من ألّف كتباً تحذر من الإسلام ، ويسمى مثلاً فرنسا بلد الإسلام ، أو بلد الألف مأذنة أو كذا ، هذا التنامي الآن الذي يظهر للإسلام هو أيضاً مبشِّر من مبشِّرات الخير .
والذي يقرأ أو يسافر يرى ظواهر قوية جداً في هذا الشأن في كثير من البلاد ، وهذه الظواهر كلها مبشرات الخير .
الظاهرة التاسعة : تجمع اليهود من شرق الأرض وغربها
الهجرات المستمرة والاستيطان القادم على قدم وساق ، كأنه ينبئ عن تجمعهم للجولة الفاصلة ، التي يُرجى أن تكون ونحن نعتقد بكونها كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام ، وكما ورد في القرآن الكريم : { فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوْا تتبيراً } وكما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام : ( لتقاتلنّ اليهود ) هذه الظاهرة مع استعلاء غطرسة اليهود وعلوَّهم ؛ فإنهم - كما يقولون - ليس بعد الارتفاع إلا الهبوط ، وليس بعد كمال القوة والازدهار إلا كمال الضعف .
وهذا يظهر في النفوس المؤمنة التي كلما مرّ الوقت ، كلما ثبت إيمانها في قلبها ، وترسَّخ عدائها لليهود ، وعلم حقيقة ما أخبر به القرآن عنهم من نقضهم للمواثيق ، ومن عدائهم العميق للإسلام والمسلمين ، ومن حقدهم الأسود على كل من هو غير يهودي .
كل هذه الظواهر لو كان الأمر كما كان قبل سنوات ، الآن في الأمة حماس وعداء وتحفز ضد اليهود ما لم يكن من قبل في الناس ، بطبيعة ما يجري الله - عز وجل - من قدره في هذه الصورة والتجمع ، وما يلحق بهذا الأمر .(52/12)
أقول : هذه الظواهر تبشر بالخير ، وهذه الأحداث حينما بالفعل ربما يفصل الإنسان فيها ، ويستقصي خبرها ، ويجمع أرقامها وأحداثها ، سيجد بالفعل أنها أكثر مما ذكرتْ في دلالتها على الخير ، وتبشيرها بالمستقبل ، وعندنا بعد ذلك وقبله ما هو أقوى منه هذا ، وهو ما يتعلق بالبشارات القرآنية والنبوية ؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - يقول : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } .. وعدٌ من الله ووعد الله لا يتخلّف ، { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وبمجرد تحقق هذا بالقدر الذي يستنزل نصر الله ؛ فإن الأمر يتحقق على ما ذكر الله جل وعلا : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً } وقوله جل وعلا : {إنا للنصر رسلنا والذين آمنوا } وقوله سبحانه وتعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلون * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون } .
هذا اليقين عند المسلم لا يتبدل ، وهي بشارات وآيات كثيرة في هذا الجانب تؤكد هذا ، والنبي - عليه الصلاة والسلام - أيضاً أخبر المبشرات : ( لتقاتلنّ اليهود حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا ورائي يهودي فتعال فاقتله ) . وقد أخبر النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال : ( تفتحوا أو تفتحون قسطنطينة ورومية ) وأثنى على فاتح القسطنطينة فقال : ( فنعم الأمير أميرها ) ، وقد فتحت القسطنطينية وروما لم تفتح ، وهي من بشارات المستقبل ، ولا نقول المستقبل البعيد ؛ فإن أمور الغيب بيد الله سبحانه وتعالى ، لكن في المستقبل القريب هناك ما يدل على أن هذا الإسلام قادم بإذن الله سبحانه وتعالى ، وأن الدائرة له ، وأن له الجولة القادمة بإذن الله عز وجل ، ثم بجهد وإخلاص وعمل العلماء ، والدعاة ، والمصلحين ، وعامة الأمة ، إخلاصاً لله - عز وجل - وعبادة كاملة له سبحانه وتعالى ، وصلحاً معه ودعوة إلى دينه .
هذه كلها أسباب تجتمع ، لا يستطيع الإنسان أن يعرفها ، ولا أن يحصرها ؛ فإنها تتراكم تراكماً جزئياً مع مرور الزمن والأعوام ، ثم أنها هي أيضاً تجري بقدر الله لا تعرف من أين يبزغ نورها ، ولا من أين ينطلق شرارها ، فكم من بلد ظنّ الناس أن الإسلام فيه لن تقوم له قائمة ، فإذا به يظهر فيه من العمل والجد والجهاد مالم يكن في غيره ؛ فإنها في جملتها إرهاصات تنبئ عن مستقبل نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله قريباً ، ومشرقاً وضَّاءً ، وأن ينفع به أمة الإسلام والمسلمين .
هذه الظواهر التي أحببت الإشارة إليها وأحسب أنها في أحداث هذا العصر والزمن القريب تُنبئ إن شاء الله عن بشائر وآمال ، نسأل الله عز وجل أن يعجِّل بها ، وأن يكملها لنا ، إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلي اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
...(52/13)
أحداث الهجرة
أولاً: الهجرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
1 ـ الهجرة الأولى إلى الحبشة.
2 ـ الهجرة الثانية إلى الحبشة.
3 ـ الهجرة من مكة إلى المدينة.
ثانياً: الرواية الصحيحة للهجرة النبوية من مكة إلى المدينة.
ثالثاً: دروس وعبر من حادثة الهجرة.
رابعاً: التأريخ الهجري.
أولاً: الهجرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث هجرات مشهورة:
1- الهجرة الأولى إلى الحبشة:
كانت هذه الهجرة في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، حيث خرج أحد عشر رجلاً وأربع نسوة مشاة إلى البحر فاستأجروا سفينة بنصف دينار فنزلوا بخير دار إلى خير جار أمنوا على دينهم ولم يخشوا ظلما([1]).
2- الهجرة الثانية إلى الحبشة:
بلغ المسلمين وهم بأرض الحبشة أن أهل مكة أسلموا، فرجع ناس منهم عثمان بن مظعون إلى مكة، فلم يجدوا ما أخبروا به صحيحاً، فرجعوا وسار معهم جماعة إلى الحبشة، وكانوا أكثر من ثمانين رجلاً، وهي الهجرة الثانية([2]).
3- الهجرة من مكة إلى المدينة النبوية:
وسنفرد لها فصلاً خاصاً بها.
([1]) انظر: فتح الباري (7/ 188).
([2]) انظر: فتح الباري (7/ 189).
ثانياً: أحداث هجرة النبي صلى الله عليه وسلم:
· كان اختيار المدينة مهاجراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم : ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وَهَلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب)) ([1])، وقال صلى الله عليه وسلم : ((إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين)) ([2]).
قال ابن المنير: "كأن النبي صلى الله عليه وسلم أُرِي دار الهجرة بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم أُري الصفة المختصة بالمدينة فتعينت".
· وأول من هاجر إلى المدينة كما تذكر كتب السير هو أبو سلمة بن عبد الأسد، وكان ذلك قبل بيعة العقبة بسنة، وكذلك كان مصعب بن عمير وابن أم مكتوم من أوائل المهاجرين حيث كانا يقرئان الناس القرآن، ثم تتابع المهاجرون فقدم المدينة بلال بن رباح وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر ثم عمر بن الخطاب في عشرين من الصحابة([3]).
· أراد أبو بكر أن يهاجر إلى المدينة وتجهز لذلك فقال له النبي : ((على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي)).وكان ذلك قبل الهجرة بأربعة شهر.
ولم يهاجر أبو بكر رضي الله عنه رجاء أن يكون في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم إن أذن له في الهجرة([4]).
· أجمعت قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر القرآن: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ}[الأنفال:30].
· أذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة فجاء إلى الصديق في وقت الظهيرة، تقول عائشة: فلما أذن له في الخروج إلى المدينة لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهراً . . قال : ((أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج؟!))، قال: الصحبةَ يا رسول الله؟ قال: ((الصحبة)) ([5]).
وكان الصديق قد أعد ناقتين فعرض إحداهما على رسول الله يركبها فقبل وقال: ((بالثمن)) ([6]).
· وبدأ آل أبي بكر بالتجهيز السريع للرحلة، قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب([7]).
· وقد كان خروجهم من مكة ليلاً يقول الصديق: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة([8]).
قال ابن حجر: "أسريت: في سير الليل"([9]).
وكان ذلك في يوم الاثنين أو الخميس، قال الحاكم: "تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين".
قال ابن حجر: "خروجه من مكة كان يوم الخميس، وخروجه من الغار كان ليلة الاثنين"([10]). فكأنه اعتبر بداية رحلة الهجرة.
· وأوى رسول الله إلى بئر ميمون (في طريق منى) حيث واعد الصديق، ثم دخلا الغار فيما بقي علي بن أبي طالب في فراش النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعمي على قريش خروج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وقد كانت قريش ترميه بالحجارة، وهي تظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم([11]).
· كَمَنَ صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة، فيسمع أخبار قريش، فإذا جاء الظلام انطلق إلى الغار يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأخبار قريش، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، فيما كان عامر بن فهيرة يرعى بغنمه عليهما فيشربان من ألبانها، ويعود عند الغلس إلى رعيان قريش([12]).
· وصلت قريش باقتفاء الأثر إلى غار ثور حتى وقفوا على باب الغار يقول أبو بكر: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا قال : ((ما ظنك باثنين ـ يا أبا بكر ـ الله ثالثهما))([13]).
· وبعد المكث في الغار ثلاثة أيام انطلق النبي وصاحبه صباحاً بصحبة الدليل الليثي وعامر بن فهيرة وقد خلا الطريق لا يمر فيه أحد ([14]) .(53/1)
· وقصد رسول الله وصاحبه صخرة طويلة وإذا براع لرجل من أهل مكة، فحلب لهما ورسول الله نائم، فبرده الصديق له، فاستيقظ رسول الله فشرب ثم شرب الصديق([15]).
· ومر رسول الله وصاحبه بخيمة أم معبد بقُديد، وطلبا منها القِرى، فاعتذرت لهم لعدم وجود طعام عندها، وعندها شاة هزيلة لا تدر لبناً، فأخذ رسول الله الشاة فمسح ضرعها بيده، ودعا الله وحلب في إناء، حتى علت الرغوة، وشرب منه الجميع([16]).
· وانطلق الركب من طريق الساحل، وشعرت قريش بخيبتها فجعلت لمن قتل رسول الله وصاحبه ديتين فلما جازا قديداً أدركهما سراقة بن مالك المدلجي يقول : فركبت فرسي .. تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عُثَان ساطع في السماء مثل الدخان . . فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت وجئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: ((أخف عنا))، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أديم([17]).
· وأما الطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته فقد ذكره ابن إسحاق والحاكم فرويا عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار مهاجراً ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة مردفه أبو بكر، وخلفه عبد الله بن أريقط الليثي فسلك بهما أسفل من مكة، ثم مضى بهما حتى هبط بهما على الساحل أسفل من عسفان، ثم استجاز بهما على أسفل أمج، ثم عارض الطريق بعد أن أجاز قديداً، ثم سلك بهما الحجاز، ثم أجاز بهما ثنية المرار، ثم سلك بهما الحفياء، ثم أجاز بهما مدلجة ثقف ثم استبطن بهما مدلجة صحاح ثم سلك بهما مذحج ثم ببطن مذحج من ذي الغصن ثم ببطن ذي كشد ثم أخذ الجباجب ثم سلك ذي سلم من بطن أعلى مدلجة ثم أخذ القاحة ثم هبط العرج ثم سلك ثنية الغائر عن يمين ركوبه ثم هبط بطن ريم فقدم قباء على بني عمرو بن عوف([18]).
وفي الطريق كان الصديق إذا سئل عن النبي قال: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني طريق الخير([19]).
· وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل([20]) .
وقد كان الصحابة يخرجون كل يوم ينتظرون مقدم النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا ارتفعت الشمس عادوا إلى بيوتهم.
· ولما أتى النبي قباء كانت الشمس قد اشتدت فدخلوا بيوتهم، وقدم رسول الله فبصر به يهودي فصرخ : يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون([21]). فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتاً، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة([22]).
· وبلغ عدد مستقبليه صلى الله عليه وسلم حين جاء المدينة-كما جاء في بعض الروايات- خمسمائة من الأنصار، ودخل والرجال والنساء فوق البيوت، والغلمان في الطرقات يقولون : يا محمد يا رسول الله([23]). يقول البراء: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله([24]).
يقول أنس: فشهدته يوم دخل المدينة، فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه([25]).
· ومشى موكب النبي صلى الله عليه وسلم في طرقات المدينة، وتطلع زعماء الأنصار إلى استضافة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكلما مر بأحدهم دعوه للنزول عندهم، فكان يقول لهم: ((دعوا الناقة فإنها مأمورة))، فبركت على باب أبي أيوب([26]).(53/2)
وكانت داره طابقين، يقول أبو أيوب : لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو، فقلت له : يا نبي الله – بأبي أنت وأمي – إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظهر أنت، فكن في العلو، وننزل نحن فنكون في السفل. فقال: ((يا أبا أيوب، إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت))، قال: فلقد انكسر حب لنا فيه ماء، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا، وما لنا لحاف غيرها، ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله منه شيء يؤذيه([27]) .
وفي رواية ضعيفة لابن سعد أن مقام النبي في دار أبي أيوب استمر سبعة أشهر([28]).
([1]) أخرجه البخاري ح (6629) ومسلم ح (2272).
([2]) أخرجه البخاري ح3694.
([3]) أخرجه البخاري ح (4657).
([4]) أخرجه البخاري ح (2176).
([5]) أخرجه البخاري ح (2318).
([6]) أخرجه البخاري ح (2318).
([7]) أخرجه البخاري ح (3906).
([8]) أخرجه البخاري ح (1365).
([9]) فتح الباري ح (6/ 623).
([10]) فتح الباري ح (7/ 237).
([11]) أخرجه أحمد ح (3052) وإسناده صحيح.
([12]) أخرجه البخاري ح (3906).
([13]) أخرجه البخاري ح (3653)، ومسلم ح (2381).
([14]) أخرجه البخاري ح (3615).
([15]) أخرجه البخاري ح (3615)، ومسلم ح (2009).
([16]) أخرجه الحاكم ح (4274)، ووافقه الذهبي على تصحيحه.
([17]) أخرجه البخاري ح (3906).
([18]) أخرجه الحاكم ح (4272) وصححه، وسكت عنه الذهبي، وصحح ابن حجر إسناده في الفتح (7/238).
([19]) أخرجه البخاري ح (3911).
([20]) أخرجه الحاكم (3/ 8).
([21]) أخرجه البخاري ح (3906).
([22]) أخرجه البخاري ح (3906).
([23]) أخرجه مسلم ح (2009).
([24]) أخرجه البخاري ح (3925).
([25]) أخرجه أحمد ح (13110).
([26]) أخرجه الطبراني وفيه راو ضعيف.
([27]) أخرجه الحاكم ح (5939) وصححه ووافقه الذهبي.
([28]) الطبقات (1/ 237).
ثالثاً: دروس وعبر من حادثة الهجرة:
- معية الله لأوليائه المؤمنين ونصرته لهم، ويتجلى هذا في حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار من أن تناله أيدي المشركين ثم نجاته من سراقة بن مالك.
- الثقة المطلقة بالله وبنصره وتأييده، ويتجلى هذا الدرس في قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما))، ثم في عدم تلفته عندما لحقه سراقة، وكأن الأمر لا يعنيه صلى الله عليه وسلم، ثم في إعطائه صلى الله عليه وسلم سراقة كتاب أمان، وهو الذي يخرج من بلده مهاجراً، لكنه كان يرى نصر الله له ويرقبه ويتيقنه كما يتيقن الشمس في رابعة النهار.
- الأخذ بالأسباب المادية لا ينافي التوكل، فها هو صلى الله عليه وسلم حال هجرته يأخذ شتى الوسائل المادية المتاحة له، فيستخفي بالظهيرة ثم بسواد الليل ثم بتجويف الغار، ويسلك طريقاً غير معتادة، وينطلق جهة الجنوب ومقصده الشمال، ويستعين بكافر قد أمنه ... لكن ذلك كله لم ينسه أن يتوكل على ربه ويعتمد عليه.
وهذه الأسباب التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن كافية لإبعاد قريش عنه، فقد وصلت قريش إلى غار ثور، لكن الله حجبه عنهم فلم يصلوا إليه بسوء.
يقول ابن حجر: "فالتّوكّل لا ينافي تعاطي الأسباب لأنّ التّوكّل عمل القلب وهي عمل البدن، وقد قال إبراهيم عليه السّلام: {وَلَاكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى}[البقرة:260] وقال عليه الصّلاة والسّلام: ((اعقلها وتوكّل))" ([1]).
وقال الشّيخ أبو محمّد بن أبي جمرة رحمه الله: "مهما أمكن المكلّف فعل شيء من الأسباب المشروعة لا يتوكّل إلا بعد عملها، لئلا يخالف الحكمة, فإذا لم يقدر عليه وطّن نفسه على الرّضا بما قدّره عليه مولاه، ولا يتكلّف من الأسباب ما لا طاقة به له".
قال ابن حجر: الأسباب إذا لم تصادف القدر لا تجدي"([2]).
وقال بعد أن ذكر أقوال العلماء في العلاقة بين الأسباب والتوكل: "والحقّ أنّ من وثق باللّه وأيقن أنّ قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكّله تعاطيه الأسباب اتّباعًا لسنّته وسنّة رسوله, فقد ظاهر صلّى اللّه عليه وسلّم في الحرب بين درعين, ولبس على رأسه المغفر, وأقعد الرّماة على فم الشّعب, وخندق حول المدينة, وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة, وهاجر هو, وتعاطى أسباب الأكل والشّرب, وادّخر لأهله قوتهم ولم ينتظر أن ينزل عليه من السّماء, وهو كان أحقّ الخلق أن يحصل له ذلك, وقال الّذي سأله : أعقل ناقتي أو أدعها ؟ قال : ((اعقلها وتوكّل)) فأشار إلى أنّ الاحتراز لا يدفع التّوكّل, واللّه أعلم"([3]).
- جواز استخدام المعاريض في دفع الشر والبلاء كما صنع الصديق حين كان يخبر من قابله في طريق الهجرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم دليله في الطريق، فيفهم المخاطب أنه طريق السفر، وهو يقصد الطريق إلى الجنة.(53/3)
قال ابن تيمية في بيان جواز استخدام المعاريض في بعض المواطن، بل وجوبها: "وقد يكون واجباً إذا كان دفع ذلك الضرر واجباً ولا يندفع إلا بذلك، مثل التعريض عن دم معصوم وغير ذلك، وتعريض أبي بكر الصديق رضي الله عنه قد يكون من هذا السبيل"([4]).
وبين رحمه الله الفيصل بين ما يحل وما يحرم من المعاريض فقال: "والضابط أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام لأنه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على الإنسان والعقود بأسرها، ووصف العقود عليه والفتيا والتحديث والقضاء إلى غير ذلك، وكل ما حرم بيانه فالتعريض فيه جائز بل واجب"([5]).
قال ابن حجر: "ومحلّ الجواز فيما يخلّص من الظّلم أو يحصّل الحقّ, وأمّا استعمالها في عكس ذلك من إبطال الحقّ أو تحصيل الباطل فلا يجوز"([6]).
وقال النووي: "استعمال المعاريض عند الحاجة .... وشرط المعاريض المباحة ألا يضيع بها حقّ أحد"([7]).
- العفة والزهد فيما عند الناس رغم الحاجة إليه درس آخر من دروس الهجرة، حيث عرض سراقة بن مالك عليه الزاد والعون وهو صلى الله عليه وسلم أحوج الناس يومذاك إليه، يقول سراقة: وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: ((أخف عنا)) ([8]).
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله)) ([9]).
- جواز الاستعانة بالمشرك إذا أمن شره ومكره، فقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أرقط فكان دليله في سفره وكان (هادياً خرّيتاً – والخريت الماهر بالهداية – قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه([10]) .
- بذل الصحابة أنفسهم وأموالهم وأهليهم فداء لنبي الله صلى الله عليه وسلم فقد نام علي في فراشه ليلة خروجه، وكان الصديق شريكه في أهوال رحلة الهجرة، فيما جهد ولداه عبد الله وأسماء ومولاه عامر في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من علامات الإيمان وضروراته، قال صلى الله عليه وسلم (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين))([11]).
- دلائل صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ثباته في الغار، وحين دهمهم سراقة، وذلك لا يتأتى إلا لمن علم أن ربه لا يسلمه إلى عدوه.
ومنه أيضاً معجزاته عليه الصلاة والسلام فقد ساخت يدَا فرس سراقة لما همه بالسوء، كما حلبت شاة أم معبد وهي عجفاء لم يطرقها فحل -كما جاء في بعض الروايات – لما مسّ صلى الله عليه وسلم ضرعها.
- الاستفادة من الطاقات المختلفة، وكل حسب نوعه وسنه، فقد كان الصديق بحكمته خير رفيق للرسول صلى الله عليه وسلم، فيما تولى الشاب عبد الله بن أبي بكر مهمة تحسس أخبار قريش، وتولى عامر بن فهيرة الخدمة، وتولت أسماء إعداد الجهاز والطعام لهذا الركب.
- استحباب الرفقة في السفر، وأن يكونوا أكثر من واحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب))([12]).
قال الخطابي : "والمنفرد في السّفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه, ولا عنده من يوصي إليه في ماله ويحمل تركته إلى أهله ويورد خبره إليهم, ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة, فإذا كانوا ثلاثةً تعاونوا وتناوبوا المهنة والحراسة وصلّوا الجماعة وأحرزوا الحظّ فيها"([13]).
- فضل عبادة الهجرة وعظم ثواب المهاجر حيث قال صلى الله عليه وسلم مخاطباً مكة: ((والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)) ([14])، وفي بيان ما فيها من بلاء قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} [النساء:66]، فجعل ترك الديار والأوطان قرين القتل والموت.
- فضل الصديق وشدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان له أنيساً وصاحباً في الهجرة وخادماً، فقد كان يحرسه ويخاف عليه ويبرد له اللبن ويؤثره على نفسه ويظله إذا قامت الشمس.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "نطقت بفضله الآيات والأخبار، واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، فيا مبغضيه في قلوبكم من ذكره نار، كلما تليت فضائله علا عليهم الصغار، أترى لم يسمع الروافض الكفار: {ثاني ... الغار} [التوبة: 40]؟!
دعا إلى الإسلام فما تلعثم ولا أبى، وسار على المحبة فما زل ولا كبا، وصبر في مدته من مدى العدى على وقع الشبا، وأكثر في الإنفاق فما قلل حتى تخلل بالعبا([15]) .
تا لله لقد زاد على السبك في كل دينار دينار، {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ}.
من كان قرين النبي في شبابه؟! من ذا الذي سبق إلى الإيمان من أصحابه؟! من الذي أفتى بحضرته سريعًا في جوابه؟! من أول من صلى معه؟! من آخر من صلى به؟! من الذي ضاجعه بعد الموت في ترابه؟! فاعرفوا حق الجار.(53/4)
نهض يوم الردة بفهم واستيقاظ، وأبان من نص الكتاب معنى دق عن حديد الألحاظ، فالمحب يفرح بفضائله والمبغض يغتاظ، حسرة الرافضي أن يفر من مجلس ذكره، ولكن أين الفرار؟!.
كم وقى الرسول بالمال والنفس، وكان أخص به في حياته وهو ضجيعه في الرمس، فضائله جلية وهي خلية عن اللبس، يا عجبًا! من يغطي عين ضوء الشمس في نصف النهار، لقد دخلا غارًا لا يسكنه لابث، فاستوحش الصديق من خوف الحوادث، فقال الرسول: ((ما ظنك باثنين الله الثالث)) فنزلت السكينة فارتفع خوف الحادث، فزال القلق وطاب عيش الماكث، فقام مؤذن النصر ينادي على رؤوس منائر الأمصار (ثاني اثنين إذ هما في الغار).
حبه ـ والله ـ رأس الحنيفية، وبغضه يدل على خبث الطوية، فهو خير الصحابة والقرابة والحجة على ذلك قوية، لولا صحة إمامته ما قيل: ابن الحنفية، مهلاً مهلاً، فإن دم الروافض قد فار.
والله ما أحببناه لهوانا، ولا نعتقد في غيره هوانًا، ولكن أخذنا بقول علي وكفانا: (رضيك رسول الله لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا؟!).
تا الله لقد أخذت من الروافض بالثأر، تا لله لقد وجب حق الصديق علينا، فنحن نقضي بمدائحه ونقر بما نقر به من السني عينًا، فمن كان رافضيًا فلا يعد إلينا وليقل: لي أعذار([16]).
- اختلف العلماء في توجيه شرب النبي صلى الله عليه وسلم من لبن الراعي في الطريق، قال المهلّب بن أبي صفرة : "إنّما شرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من لبن تلك الغنم لأنّه كان حينئذ في زمن المكارمة, ولا يعارضه حديثه: ((لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه))، لأنّ ذلك وقع في زمن التّشاحّ, أو الثّاني محمول على التّسوّر والاختلاس، والأوّل لم يقع فيه ذلك بل قدّم أبو بكر سؤال الرّاعي: هل أنت حالب؟ فقال: نعم, كأنّه سأله هل أذن لك صاحب الغنم في حلبها لمن يرد عليك؟ فقال: نعم، أو جرى على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك والإذن في الحلب على المارّ ولابن السّبيل, فكان كلّ راع مأذونًا له في ذلك .
وقال الدّاوديّ : إنّما شرب من ذلك على أنّه ابن سبيل وله شرب ذلك إذا احتاج, ولا سيّما النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم"([17]).
- أهمية المسجد ودوره في الإسلام، حيث حرص النبي صلى الله عليه وسلم عليه أينما حل، فقد بنى مسجد قباء قبل وصوله المدينة، وكان بناء المسجد النبوي أول أعماله صلى الله عليه وسلم حين وصل المدينة.
وليس هذا آخر الدروس والعبر المستفادة من حادثة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
([1]) رواه الترمذي 2517، فتح الباري (6/ 82).
([2]) فتح الباري (9/ 120).
([3]) فتح الباري (10/ 212).
([4]) الفتاوى الكبرى (3/ 205).
([5]) الفتاوى الكبرى (3/ 206).
([6]) فتح الباري (10/ 594).
([7]) شرح النووي على مسلم (2144).
([8]) أخرجه البخاري ح (3694).
([9]) أخرجه البخاري ح (1361).
([10]) أخرجه البخاري ح (3694).
([11]) أخرجه البخاري ح (15).
([12]) أخرجه أبو داود ح (2107)، والترمذي ح (1174).
([13]) تحفة الأحوذي 5/ 260.
([14]) رواه الترمذي ح (3925) وقال: "حديث حسن غريب صحيح".
([15]) أي: حتى توفي.
([16]) الفوائد (ص 100 ـ 101).
([17]) انظر: فتح الباري لابن حجر (7/ 10).
رابعاً: التأريخ الهجري:
إن من المؤسف جدًا أن نجد اليوم أكثر المسلمين يجهلون التأريخ الهجري ويجهلون الشهور العربية، ولا يحسبون إلا بالتاريخ الإفرنجي أو غيره من التواريخ المبدلة المحرفة، يقول الشيخ أبو يعلى الزواوي رحمه الله: "ومن هنا اعتمد الصحابة التاريخ الهجري منتبهين ومستنبطين، حين استشارهم العبقري الذي يفري الأمور فريًا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنهم، فاتفقوا أن يكون التاريخ من عام الهجرة، وكانوا يؤرخون بالحوادث المشهورة كعام الفيل... ومن الجهل والغفلة بل من العار والشنار أن يؤرخ عربي مسلم بتاريخ جوان وجوليت وحزيران وأغسطس وبشنس وهلم جرا، وبالميلاد المنسوخ بالهجرة، فيترك الناسخ ويجعل الهجرة مهجورة والعياذ بالله، وإن بعض الحكومات كمصر تعمل بهذا وهي مسلمة ويا للغفلة!! والمطلوب كل المطلوب أن تعتبر الهجرة وصاحب الهجرة صلى الله عليه وعلى وآله وصحبه وسلم ومن تبعه وتبعهم من أمته إلى يوم الدين"([1]).
([1]) الثمرة الأولى لجمعية الطلبة الجزائريين الزيتونيين (ص 41، 42).(53/5)
أحزان العراق
خطبة جمعة بمسجد محمد الفاتح
أعدها
أبو البراء عادل باناعمة
6/7/1423هـ
الحمد لله ذي القدرة القاهرة ، و الآيات الباهرة ، و الآلاء الظاهرة ، و النعم المتظاهرة ، حمدا يؤذن بمزيد نعمه ، و يكون حصنا مانعا من نقمه ، وصلى الله على خير الأولين و الآخرين ، من النبيين و الصديقين ، سيدنا محمد النبي ، و الرسول الأمي ، ذي الشرف العلي ، و الخلق السني ، و الكرم المرضي ، و على آله الكرام ، و أتباعه سرج الظلام ، ما امتد الدهر و تعاقبت الأيام .
و بعد فإن الله أمر بالتقوى ، في السر و الجهر ، و الخفاء و العلن ، لأنه سبحانه يسمع النجوى ، و يعلم السر و أخفى .
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته … }
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم … }
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا … }
اللهم إنا نعوذ بك من أن قول كلمة لا ترضاها ، و نبرأ إليك من كل زلة غفل عنها القلب أو طاش بها الرأي ، و نضرع إليك أن تجعل حياتنا كلها و أوقاتنا كلها و أعمارنا كلها خدمة لك و لدينك ولكتابك .
وبعد ،،،
قبل ألف عام وقف الخليفة العباسي الرشيد على ربى بغداد يخاطب سحابة جازتها فلم تمطر ويقول لها : أمطري حيث شئت فسيأتينا خراجك .
وقبل أيام وقف الرئيس الأمريكي على منبر الأمم المتحدة يهدد العراق بعد أن حرمها خيرات سحابها وهضابها .
وبين الوقفتين تاريخ طويل يمتد لأكثر من ألف عام .
تاريخ طويل عرفت فيه العراق ألوانا من المجد ، وأشكالا من الذل .
تاريخ طويل ضحكت فيه العراق ملء مزارعها ونخيلها ، وبكت دموعا ملء دجلة والفرات .
وكلما امتد بالعراق الزمن تقلصت مساحات الفرح ، واتسعت دوائر الأسى ، وتورمت الأحزان .
حتى بات العراق والحزن كلمتين رديفتين ... لا تدري أيهما أصل في التعبير عن الأسى والجراح !!
وحتى التقت على أرض العراق النقائض ...
فبلد دجلة والفرات يبيت يتشكى الظمأ !!
وأرض النخيل والسواد تئن من الجوع !!
ومخازن النفط والغاز تفتقد حبة الدواء وإبرة الشفاء !!
" وفي العراق جوع
وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبع الغربان والجراد
رحى تدور في الحقول .. حولها بشرْ
وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع
ثم اعتللنا خوف أن نلام بالمطرْ !!
ومنذ أن كنا صغارا كانت السماء
تغيم في الشتاء
ويهطل المطر
وكل عام حين يعشب الثرى نجوعْ
ما مر يوم ليس في العراق جوع " [ السياب 1/478 ]
كانت بداية الحزن عام 656هـ ... حين انقض على بغداد طوفان التتار المهول ... فكان ماكان من الأهوال التي قال عنها ابن الأثير " فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله سبحانه آدم وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صادقا ... ولم ينل المسلمين أذى وشدة منذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل مادفعوا إليه الآن ... فياليت أمي لم تلدني ، وياليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيا منسيا " [ الكامل 12/358 ] .
وإليكم ما وصف به ابن كثير تلك الحادثة الفظيعة ، قال رحمه الله : " ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان .
ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش وقني الوسخ وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون ، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ، ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم في الأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة فإنا لله وإنا إليه راجعون وكذلك في المساجد والجوامع والربط ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة .
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين فقيل : ثمانمائة ألف وقيل : ألف ألف وثمانمائة ألف وقيل : بلغت القتلى ألفي ألف نفس فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ولما انقضى أمد الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ولما نودى ببغداد بالأمان خرج من تحت الارض من كان بالمطامير والقني والمغاير كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضا ، فلا يعرف الوالد ولده ، ولا الأخ أخاه وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا ولحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا في البلى تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى " [ البداية والنهاية 13 ] .(54/1)
هكذا عانت بغداد ... وهكذا بكى بلد الرشيد ومنطلق جيوش الفتوحات .
وتمر الأزمنة ... وتلتقي العراق بحزن جديد .. حزن كبير ماتزال ترزح تحته إلى اليوم ...
بدأ ذلك في السابع عشر من تموز عام 1979م حين تولى صدام رئاسة العراق وبدأ في تصفية الرفاق الذين وقف في صف سلفه البكر .
كان ذلك اليوم بداية سيمفونية جديدة من الآلام مختلفة الإيقاع عما سبقها ، لحنها ورتلها حزب البعث .
كان الشعرة الأولى في الريشة التي رسمت قتامة العراق المعاصر ، وخطت ملامح بؤسه وشقائه .
كان العراق أميرة عربية ... فتك الطغاة بها فمال المئزرُ
صهل الأسى في رافديه وحمحمت ... خيل البغاة وفاسق متنمر
بعثوا الخطيئة فاستوت في أرضنا ... حزبا عليه الملحدون تأمروا
[ قلبي على وطني ، السماوي 53 ]
أنا لا أريد أن أكون عاطفيا مبالغا .. أريد فقط أن أنقل لكم بعض الحقائق لتدركوا كم بكى العراق وكم تألم ...
" لقد ظلت التقارير ترد على نطاق واسع عن تعذيب السجناء ، وإساءة معاملتهم وكان بينهم معتقلون دون الثامنة عشرةمن العرم ، قيل إنهم تعرضوا للضرب والجلد بالسياط ، والاعتداء الجنسي ، والتعذيب بالصدمات الكهربائية ، والحرمان من الطعام ، وجاء في شهادة سجين سابق أن السجينات كنت يعلقن رأسا على عقب من أقدامهن أثناء فترة الحيض ، كما كان يجري إدخال أشياء في مهبل الفتيات مما يؤدي إلى فض بكارتهن .
وكان مصير حوالي 178 شخصا اختفنونا وهم قيد الاعتقال بين عام 80 و 85 لا يزال مجهولا وبينهم 17 ولدا تتراوح أعمارهم بين الثانية عشرة والسابعة عشرة !
ومن أغرب أنواع العدل البعثي في الإعدام استدعاء الضحية ثم مص دمه بواسطة أجهزة طبية وتحت إشراف طبي حتى يموت ثم تخزين هذا الدم لإرساله إلى المستشفيات الميدانية لإسعاف الجنودالمصابين " [ حزب البعث ، الغامدي 33 ]
وفي كردستان العراق فصل آخر من فصول هذا الحزن .. كان ذلك في الساعة العاشرة وأربعين دقيقة صباح السادس عشر من فبراير عام 1988م حين بدأت طائرات العراق تضرب العراق .. حيا تلو حي ، ولم تكد تذهب هذه الطائرات حتى جاءت ست أخرى تلقي القنابل الخارقة للصوت لتهدم النوافذ والأبواب وتكسر الزجاج وتخرج صفوف المنازل .. وكان هذا تمهيدا للضربة الكبرى ..
في الساعة الثالثة ظهرا أقبل سرب من طائرات الميراج وانفجرت القنابل وظهرت طبقة كثيفة من الدخان الأبيض والأصفر تخرج منها روائح نتنة .. وفجأة بدأ الناس يشعرون بضيق في التنفس واحمرار في العيون وفقدان للبصر وتقيؤ وإغماء ، فخرج منهم من استطاع .. وكان يوما مهولا يفر فيه كل أحد من كل أحد .. لقد أدركوا ساعتها أنهم ضربوا بالقنابل الكيماوية .. وبينا هم في ذلك الأمر المريج إذ أقبلتا الطائرات من جديد ترش أطراف المدينة كلها بالغازات فسقط الناس كالجراد المباد .. هذا أب يحتض ابنه لينقذه وإذا به يموت معه ، وهذه امرأة تحمل علىكتفها طفلة وتجر خلفها أخرى وإذا بهم يسقطون جميعا ، وهذه عجوز تطلب الماء ولا مجيب .. ومن وصل إلى الماء لم يكن أسعد حظا لأن الطائرات ملأت الجداول والأنهار بالخردل والسيانيد فمات الناس مع أول شربة " [ الشعب الكردي المسلم 19 ]
هكذا بكت حلبجة العراقية طويلا طويلا ... ولم يستمع لبكائها أحد ..
وهكذا أباد الشعب من كان يفترض أن يكون حاميا له ..
آه على زمن تعثر فجره ... فاستعبدت أرض الأسود تيوس
فإذا ابن طاهرة الثياب مشرد... وإذا ابن خالعة الإزار رئيس
وإذا العراق مدينة غجرية ... ومن المآذن يشهق الناقوس
[ قلبي على وطني 90 ]
وتمضي الأيام وتستمر المآسي ...
وتبدء لوحة حزن أخرى في الظهور .. لوحة رسمها الحصار الاقتصادي الظالم ، الذي كافأ الجلاد وعاقب الضحية !!!
أتراكم سمعت صريخ أطفال العراق ؟
أتراكم تنبهت إلى أكثر من مليون طفل عراقي ماتوا جوعا ومرضا ؟
بل بلغ معدل الوفيات في جنوب العراق 5000 طفل في الشهر الواحد !!
أتراكم عرفتم كيف صار حال المستشفيات في العراق ؟
" لا تصل المستشفيات إلا المياه الملوثة،و لا تشم للأدوات المتهالكة رائحة التعقيم، ولا يوجد أَسِرة حديدية جيدة.. على كل مريض أن يحضر ومعه سريره الخاص به إن أمكن أو يشارك الآخرين في مرتبة واحدة.. المصاعد والمكيفات معطلة، الأسقف والشبابيك تتدلى منها القاذورات، معظم المواد الطبية ثنائية الغرض ممنوعة بمقتضى العقوبات، فأجهزة القلب والرئة والأشعة،وحضانات الأطفال الخدج، وعربات الإسعاف، حتى لا تستخدم كعربات عسكرية، كل هذا ممنوع استيراده.. أما الأدوية مثل المضادات الحيوية والمسكنات وأدوية التخدير والعلاج الكيميائي وكثير من التطعيمات بل ومواد معامل التحاليل محظورة بأمر من مجلس الأمن حتى لا تتحول إلى أسلحة بيولوجية أو كيميائية، حتى الأدوية العادية المنقذة للحياة، من محاليل الجفاف إلى الأنسولين عادة غير متواجدة.. الإبر والقفازات تغسل ويعاد استخدامها !(54/2)
وكثيرا ما يضطر الأطباء لإجراء العمليات فتسمع أروقة هذه المستشفيات صرخات الألم الموجعة.
أما الأطباء والممرضات فحدث عنهم ولا حرج.. فقبل عام 1990، كانت المستشفيات تضج بالمنظفات والممرضات من كل مكان ، ولكن مع العقوبات رجع كلٌّ إلى بلاده. لا تكاد ترى ممرضة في هذه الأماكن، الممرضة الآن هي أم الطفل المريض نفسه أو جدته.. تحضر ومعها الطعام والمياه المغلية ويشرفون على تشغيل الماكينات وأعمال التمريض الخفيفة.
الأطباء الذين تَلقى الكثير منهم دراسته في أمريكا وبريطانيا.. رواتبهم لا تتعدى 2-4 دولار شهريًّا! ويشتركون في نُسخ متهالكة من الكتب الطبية القديمة.. فلا يوجد بحث علمي.. ولا إنترنت.. بل إن بعضهم يُضطر للعمل كسائق تاكسي مساء لتلبية الاحتياجات الأسرية" [ إسلام أون لاين ]
هذا ما فعله الحصار الجائر الظالم بالعراق ... والجلادون مازلوا يبتنون القصور ويتنعمون بالمال الوفير !!
واليوم تتبدى ملامح لوحة حزن جديدة يراد للعراق أن يعيشها ..
لكأنما كتب على هذا الشعب المسكين أن يتجرع كأس البؤس حتى الثمالة ..
اليوم تقف أمريكا رأس حربة ضد العراق تريد أن تدمره وتضرب شعبه بحجة الأسلحة الكيماوية ذات الأسلحة التي ضربت بها أمريكا اليابان .
" ومن الخطأ بل من السذاجة المتناهية أن نتصور أن المعركة بين رجلين ، أو بين النظام البعثي في العراق وبين الحكومة في أمريكا، إن هذا التحليل مع ما يحمله من غفلة وحماقة، قد يجر إلى السلبية القاتلة نحو ما سيجري هناك، بل قد يدفع البعض إلى أن يضع يده في يد أمريكا، أملاً وطمعاً في التخلص من صدّام وحزبه الذي جرّ على الأُمّة ويلاتٍ ونكبات.
إن حقيقة المعركة تتمثل في أهداف أمريكا تجاه العالم الإسلامي فهي حلقة من سلسلة الحروب الصليبية التي أعلنها بوش وبدون مُوارَبَة في العام الماضي، فقد أعلن أن معركته الأولى في أفغانستان والثانية في العراق وهلمّ جَرّا .
ولئن كانت إدارة بوش تردد الحديث عن خطورة نظام صدام وخطورة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل وتتعمد إثارة البلبلة الإعلامية حول خططها الحربية العسكرية وتوقيتها، فإنه من الأهمية التساؤل عن مبرر إثارة هذه القضيّة الآن وفي هذا التوقيت بالذات؟ أليس العدو الصهيوني يمتلك ترسانة من الأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل أكثر مما يملك العراق؟
إن الذي يظهر من التسريبات الصحفية والأجواء العالمية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر يشير إلى أن القضية أبعد من إسقاط نظام صدام أو حتى التحكم في منتوجاته النفطية على أهمية ذلك.
إن الهدف الأكبر هو إيجاد نظام بديل أكثر طواعية وعمالة، يكون صنيعة أمريكية بحتة، سواءً بالأسلوب العسكري أو الأمني الاستخباري، وهذا بدوره سوف يدخل المنطقة بل العالم في طور جديد من النفوذ الأمريكي إذا سمح له أن يمر دون مقاومة " [ من كلام ناصرالعمر في مقالة نشرت بالانترنت ] .
ومن الأهداف كذلك التدخل المباشر في مقومات الأمة المسلمة علىمستوى التعليم والتربية وغيرها . إضافة إلى القضاء على علماء الأمة في مجالات الذرة والفيزياء النووية .
" ولو أن الرأي العام الإسلامي كان على ثقة بأن ما تريده الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو -كما يتحدث عنه الإعلام الأميركي اليوم بمناسبة الإعداد للحرب وإضفاء المشروعية عليها- تخليص العراق من الدكتاتورية وإقامة نظم ديمقراطية وطمأنة الأقليات وتحرير المنطقة من عوامل السيطرة والهيمنة والقهر في سبيل تحقيق الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط لجميع الدول والشعوب، لكان يمكن أن نتمحل عذرا لمن يعطي مباركته لواشنطن أو لأي قوة دولية أخرى في المنطقة أو خارجها " [ من مقالة لبرهان غليون في موقع الجزيرة ]، ولكان يمكن أن نتمحل عذرا كذلك لشحاذي كراسي الحكم من أبناء الشعب العراقي، الذين توافدوا إلى أبواب البيت الأبيض، طامعين في نقلهم على دبابات أمريكية إلى قصور الحكم في بغداد ؟!!
الخطبة الثانية
إن الواجب على جميع المسلمين – وبخاصة العرب منهم - أن يقفوا ضد الغزو الصليبي الصهيوني للشعب العراقي، وأن ينصروا هذا الشعب المظلوم - الذي دمرته المعارك، وسحقته المقاطعة الظالمة - على من يعتدي عليه من أعداء الله وأعداء دينه، فذلك هو واجبهم شرعاً.
قال تعالى ))ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً (( [النساء 75 ] .
وفي حديث أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ([ صحيح البخاري 1/182 وصحيح مسلم [4/1999]
وفي حدبث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (( [ صحيح البخاري 5/2238 وصحيح مسلم 4/19999 ] .(54/3)
وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة( [ صحيح البخاري2/862 ، وصحيح مسلم4/1996 ]
ومعنى "لا يُسلمه" ما قاله الحافظ ابن حجر في شرح الحديث:
"أسلم فلان فلاناً إذا ألقاه إلى الهلكة ولم يحمه من عدوه".
وقال بعد ذلك: "ولا يسلمه أي لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه بل ينصره ويدفع عنه" [فتح الباري 5/97 ]
فإذا ورد النهي عن إسلام المسلم أخاه المسلم، لظالمه، فكيف به إذا ظلمه؟ وكم من الزمن مر على شعب العراق وهو يعاني من الظلم، وبعضنا يؤيد ظالمه عليه، وبعضنا يتركه يُظلم، فلا ينصره؟
وعلى المسلم الذي يعلم من نفسه – بينه وبين ربه – أنه لا يستطيع نصر هذا الشعب على من يعتدي عليه، أن يبتعد عن إعانة المعتدين عليه، وأن يعلم أنه إذا أعان المعتدي على إخوانه المسلمين، فإن الدائرة ستعود عليه، وسيذوق يوماً مَّا، ما أذاق غيره وكما تدين تدان: (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) والعدو الذي تعينه على أخيك المسلم، سيتعين عليك به أو بغيره، لأنه لا ولاء له إلا مصالحه المادية" [ د.الأهدل ـ الساحات ]
أيها الإخوة .. هذا واجبنا تجاه العراق ..
عراق الأمجاد والمفاخر ... عراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وبشر الحافي وغيرهم من أعلام الأمة .
عراق أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والمعتصم .
عذرا حبيبي ياعراق فإنني ... دنف وإن البعد عنك لموجع
عذرا سنرجع ياحبيب قلوبنا ... وسيلتقي الأحباب مهما ودعوا
القائمون إلى الصباح تهيأوا ... وطبول فجر الناسكين ستقرع
سنعود بالشجر الوريق وبالندى ... للجائعين فما يعود مروع
[ قلبي على وطني ـ السماوي ](54/4)
أحكام الذبائح
إعداد/ سعيد عامر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق اللَّه محمد بن عبد اللَّه ومن والاه. أما بعد:
فقد سبق الحديث عن الأحكام الخاصة بالهدي والأضاحي والفدية والعقيقة، وإليك الأحكام الخاصة بالوليمة.
5- أحكام الوليمة:
أولاً: تعريفها:
الوليمة: طعامُ العُرْس، أو كُلُّ طعامٍ صُنِعَ لدعوةٍ وغيرها. القاموس المحيط، للفيروز آبادي (ص1902).
ثانيًا: حكمها:
جمهور العلماء على أن الوليمة سنة مؤكدة، وهو مشهور مذهب المالكية، والحنابلة، وبعض الشافعية.
ثالثًا: حكمة مشروعيتها:
الإسلام دين المحبة والمودة والإخاء، دين الترابط والتكاتف والتعاون والتراحم، يحث على كل ما يحقق هذه الأهداف السامية، ويرغب في الوسائل المؤدية إليها، وأهم هذه الركائز إطعام الطعام، وقد عبر الحديث الصحيح أوضح تعبير عن هذه الوسيلة حين سئل صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف».
والدعوة إلى الوليمة تجمع الأمرين: السلام والطعام، والإجابة إليها تجمع الأمرين: السلام والطعام، وقد شرع الإسلام الدعوة إلى الطعام في كل وقت بصفة عامة، وزادها تأكيدًا في مناسبات خاصة، وجعلها أساسًا من أسس إشهار النكاح وإعلانه، فكانت وليمة العرس، ومن بعدها وليمة الولادة «العقيقة»، وعند كل فرح وسرور ونعمة كبرى.
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم من يدعى إلى ضيافة من هذه الضيافات أن يجيب، وليعلم أن ما بعث الداعي إلى الدعوة إلا صدق المحبة والسرور بحضور المدعو، والتحبب إليه بالمؤاكلة، وإقامة الطعام كعهد أمان بينهما.
رابعًا: وقت الوليمة:
اختلف السلف في وقت الوليمة، هل هو عند العقد، أو عقبه، أو عند الدخول، أو عقبه، أو من ابتداء العقد إلى انتهاء الدخول؟
قال الإمام النووي: اختلفوا، فحكى القاضي عياض أن الأصح عند المالكية استحبابها بعد الدخول. قال السبكي: والمنقول من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أنها بعد الدخول.
روى البخاري والبيهقي من حديث أنس رضي الله عنه قال: بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة فأرسلني، فدعوت رجالاً على الطعام.
وروى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى بصفية فدعوت المسلمين إلى وليمته.
خامسًا: إجابة الدعوة:
جمهور العلماء على أن إجابة الدعوة إلى الوليمة واجبة وجوبًا عينيًا عند المالكية والشافعية والحنابلة حيث لا عذر من نحو برد وحر وشغل.
روى مسلم وغيره من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دُعي أحدكُم إلى الوليمة فليأتها». وفي رواية: «فليجب». وفي رواية: «إذا دعي أحدكم إلى وليمة عُرس فليجب».
وفي الحديث المتفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها عرسًا كان أو نحوه». «ومن لم يجب الدعوة، فقد عصى اللَّه ورسوله».
وفيه دليل على وجوب الإجابة لأن العصيان لا يطلق إلا على ترك الواجب. راجع الفتح.
ونقل القاضي عياض: اتفاق العلماء على وجوب الإجابة في وليمة العرس. قال: واختلفوا فيما سواها.
فقال مالك والجمهور: لا تجب الإجابة إليها (أي الولائم غير وليمة العرس)، وقال أهل الظاهر: تجب الإجابة لكل دعوة من عرس وغيره، وبه قال بعض السلف. فتح المنعم (9/569).
وإذا دعي وكان صائمًا فيجب أن يجيب، روى مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دُعي أحدكم فليجب، فإن كان صائمًا فَيْلُصَلِّ، وإن كان مفطرًا فَلْيَطْعَمْ». ومعنى: «فليصل» أي فليدع، فالمقصود بالصلاة هنا الدعاء.
والصائم لا يجب عليه الأكل، لكن فإن كان صومه فرضًا لم يجز له الأكل لأن الفرض لا يجوز الخروج منه.
وإن كان نفلاً جاز له الفطر وتركه، والبعض قال باستحباب الفطر على رأي من يُجوِّز الخروج من صوم النفل، وخاصة إذا أَلَحَّ عليه الداعي. ويؤيد ذلك ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما: «إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليُجب، فإن شاء طَعِم، وإن شاء ترك».
وروى الطيالسي والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد، قال: دعا رجل إلى طعام، فقال رجل: إني صائم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعاكم أخوكم وتكلف لكم، أفطر وصم يومًا مكانه إن شئت».
وروى النسائي والحاكم والبيهقي والحديث صحيح الإسناد «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر» ولا يجب قضاء يوم النفل.
ويستحب لمن حضر الدعوة الدعاء لصاحب الدعوة، والسلام عليهم:
روى أحمد وأبو داود والبيهقي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور الأنصار فأتى إلى باب سعد بن عبادة، فقال: السلام عليكم ورحمة اللَّه، ثم أدخله البيت، فقرب له زبيبًا، فأكل نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم فلما فرغ قال: «أكل طَعَامَكُم الأبْرَارُ، وصلت عليكم الملائكةُ، وأفطرَ عندكمُ الصائمون».(55/1)
وروى مسلم وأبو داود من حديث عبد اللَّه بن بسر أن أباه صنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعامًا فدعاه، فأجابه، فلما فرغ من طعامه قال: «اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وبارك لهم فيما رزقتهم».
وروى مسلم وأحمد من حديث المقداد بن الأسود، وفيه: «اللهم أطعم من أطعمني، وأسق من سقاني».
وروى الطبراني بسند حسن: «اللهم بارك فيهما وبارك لهما في بنائهما».
وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي والألباني، وفيه: «بارك اللَّه لك، وبارك اللَّه عليك، وجمع بينكما في خير - على خير».
- تكره إجابةُ من كان ماله حرامًا، كما يكره قبول هديته وهبته وصدقته، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته.
- إن كان المكان فيه منكر من معازف أو خمر، فلا يجوز حضور الدعوة إذا اشتملت على معصية، إلا أن يقصدَ إنكارَها ومحاولةَ إزالتِها، وإن لم يقدر على إزالتها لا يحضر.
قال الإمام الأوزاعي: لا ندخل وليمة فيها طبل ولا معازف.
وكذلك لو كان في الموضع ستائر بها تصاوير ذوات الأرواح أو كانت منقوشة على الحائط.
روى البيهقي وسنده صحيح من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو أن رجلاً صنع له طعامًا، فدعاه، فقال: أفي البيت صورة؟ قال: نعم، فأبى أن يدخل حتى كسر الصورة، ثم دخل.
سادسًا: الأعذار المبيحة لعدم الحضور:
أ- العذر الذي يبيح التخلف عن الجمعة: مثل كثرة المطر، أو خوف على مال، أو مرض، أو تمريض قريب ونحوها يبيح التخلف عن الوليمة.
د- تخصيص الأغنياء بالدعوة:
لا يجوز أن يخص بالدعوة الأغنياء دون الفقراء، روى مسلم وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شرُّ الطعام طعامُ الوليمة، يُمنعها من يأتيها ويُدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى اللَّه ورسوله». وفي رواية: «بئس الطعام طعام الوليمة يُدعى إليه الأغنياء ويُترك المساكين».
ومن ذلك أخذ بعض العلماء أن دعوة الأغنياء دون الفقراء عذر في عدم الحضور، قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا خص الغني وترك الفقير أمرنا أن لا نجيب».
قال ابن بطال: إذا ميز الداعي بين الأغنياء والفقراء، فأطعم كلا على حدة لم يكن به بأس، وقد فعله ابن عمر. انظر فتح المنعم (5/570).
ويستحب مشاركة الأغنياء بمالهم في الوليمة «من كان عنده شيء فليجيء به»، «من كان عنده فضل زاد فليأتنا به» متفق عليه.
سابعًا: جواز الوليمة بغير لحم:
يجوز أن تؤدى الوليمة بأي طعام تيسر، ولو لم يكن فيه لحم، لحديث أنس، وقد سبق «أقام النبي صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمدينة ثلاث ليالي يبنى عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم، وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبُسطت. (وفي رواية: فحصت الأرض أفاحيص، وجيء بالأنطاع فوضعت فيها، فألقى عليها التمر والأقط والسمن فشبع الناس». البخاري (7/387)، انظر آداب الزفاف (ص42).
والأنطاع: جمع نطع، وهو بساط متخذ من الأديم وهو الجلد المدبوغ.
أفاحيص: جمع أفحوص القطاة، وهو موضعها الذي تجثم فيه وتبيض كأنها تفحص عند التراب: أي تكشفه.
والحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلامًا على إمام الأنبياء.(55/2)
... أحكام الزكاة
...
تعريف الزكاة
تعرف الزكاة بأنها الجزء المخصص للفقير والمحتاج من أموال الغنى . وتحسب الزكاة كنسبة 2.5% من المدخرات السنوية إذا تعدت قيمة معينة تعرف بالنصاب .
الزكاة مشتقة في اللغة العربية من زكا والتى تعنى النماء والطهارة والبركة . فإخراج الزكاة طهرة لأموال المسلم وقربة إلى الله تعالى يزداد بها ومجتمعه بركة وصلاحا .
فالزكاة طهرة للمجتمع من التحاسد والتباغض وعنصر هام لزيادة التواد والتكافل بين أفراد المجتمع .
أهمية الزكاة
الزكاة ركن من أركان الإسلام الأساسية وهى فريضة على كل مسلم تتوفر فيه شروطها فيجب عليه إخراجها لمستحقيها . وقد ورد لفظ الزكاة فى القرآن الكريم مع الصلاة فى أكثر من (80) آية .
" إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (البقرة 2-آية 277)
أعلى الصفحة
حكمة الزكاة
المسلم الغنى ينظر إلى ثروته وأمواله كأمانة استأمنه الله عليها ينبغي عليه أن يؤدى حقها ويستعملها فيما يرضى الله تعالى .
ويحث الله تعالى المسلمين على الإنفاق من أموالهم ليسدوا حاجات الفقراء والمحتاجين "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون " ( البقرة 2- آية 245 )
والزكاة في الإسلام هى أول نظام عرفته البشرية لتحقيق الرعاية للمحتاجين والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع حيث يعاد توزيع جزء من ثروات الأغنياء على الطبقات الفقيرة والمحتاجين .
والزكاة طهرة لأموال المزكيَ وطهرة لنفسه من الأنانية والطمع والحرص وعدم المبالاة بمعاناة الغير
.
وهى كذلك طهرة لنفس الفقير أو المحتاج من الغيرة والحسد والكراهية لأصحاب الثروات .
وتؤدى الزكاة إلى زيادة تماسك المجتمع وتكافل أفراده والقضاء على الفقر وما يرتبط به من مشاكل اجتماعية واقتصادية وأخلاقية إذا أحسن استغلال أموال الزكاة وصرفها لمستحقيها .
أعلى الصفحة
النصاب
والنصاب هو مقدار معين من المال محدد شرعا لا تجب الزكاة في أقل منه وتختلف قيمة النصاب حسب نوع المال .
وقد حدد النبى صلى الله عليه وسلم النصاب بعشرين مثقالا من الذهب وهي تساوى (85) جراما من الذهب الخالص – وحدد نصاب الفضة بمائتى درهم وهى تساوى ( 595) جراما من الفضة الخالصة .
ونصاب العملات الورقية هو ما يكافئ (85) جراما من الذهب الخالص ويتغير بتغير قيمة العملة . وحاليا يساوى النصاب (340) دينارا كويتيا أو (740) جنيها استرلينيا أو (1150 ) دولارا أمريكيا .
ويعد الشخص غنيا إذا امتلك النصاب زيادة على حاجاته الرئيسه وحاجات عائلته ومن تحت رعايته بالنسبة للطعام والشراب والملبس والمركب والمسكن وأدوات عمله والضرورات الأخرى .
ومتى امتلك الشخص النصاب زيادة على حاجاته وحاجات أسرته الأساسية لمدة سنة قمرية وجب عليه إخراج الزكاة .
وتجب الزكاة أيضا بمعدلات متفاوتة فى الثروة الحيوانية والزروع والثمار والثروة المعدنية
.
أعلى الصفحة
الأموال تجب عنها الزكاة
فرض الإسلام الزكاة فى الذهب والفضة ويقاس عليهما العملات المختلفة وكذلك عروض التجارة والزروع والثمار والأنغام والركاز والمعادن .
وهذه بعض الملاحظات على الأموال الواجب فيها الزكاة وقيمة النصاب فيها:
الذهب والفضة
يبلغ نصاب الذهب 85 جراما من الذهب الخالص
ونصاب الفضة 595 جراما من الفضة الخالصة
والذهب الخالص هو السبائك الذهبية ( 999)
الذهب والفضة تستحق الزكاة متى ما بلغت النصاب وحال عليها الحول. وقيمة الزكاة فيها 2.5% من قيمتها الخالصة حسب سعر الذهب والفضة يوم وجوب الزكاة .
زكاة الحلى من الذهب والفضة
الحلى المصنعة من غير الذهب والفضة لا زكاة فيها .
حلى المرأة المعدة للاستعمال الشخصي لا زكاة فيها إذا لم تزد عن القدر المعتاد للبس المرأة بين مثيلاتها فى المستوى الاجتماعي لها .
أما ما زاد عن القدر المعتاد لبسه فيجب تزكيته لأنه صار فيه معنى الاكتناز والادخار وكذلك تزكى المرأة ما عزفت عن لبسه من الحلي لقدم طرازه أو نحو ذلك من الأسباب .
وتجب الزكاة فى الحلى مهما بلغت إذا اشترتها المرأة بنية الادخار أو الاستثمار .
وتحسب زكاة حلى الذهب والفضة حسب وزن الذهب والفضة الخالصين ولا اعتبار بالقيمة ولا زيادتها بسبب الصياغة والصناعة ولا بقيمة الأحجار الكريمة والقطع المضافة من غير لذهب والفضة .
الحلى المصنوعة من غير الذهب الخالص يسقط من وزنها مقدار ما يخالطها من غير الذهب .
فى الذهب عيار (21) قيراطا يسقط مقدار الثمن ويزكى عن الباقي .
والذهب عيار (18) قيراطا يسقط مقدار الربع ويزكى عن الباقى .
أعلى الصفحة
المقتنيات من الذهب والفضة
المقتنيات من الذهب والفضة وإن حرمت تجب الزكاة فيها . ومثال ذلك ما اتخذه الرجل من الزينة المحرمة كسوار الذهب للساعة أو قلم ذهبى أو ساعة ذهبية أو خاتم ذهبى .(56/1)
وحلى المرأة من الذهب والفضة التى تتخذها تشبها بالرجال ، وكذلك آنية الذهب والفضة ونحوها.
ويضم الذهب بعضه الى بعض وتضم الفضة بعضها إلى بعض فإن بلغ النصاب وجبت الزكاة .
ملاحظة :
إذا لم يرغب الشخص فى إخراج القدر الواجب عليه ذهبا أو فضة يجوز أن يخرج قيمتها بالعملات الورقية .
العملات الورقية
تعامل العملات الورقية معاملة الذهب والفضة من حيث النصاب .
قيمة النصاب فى أى عملة ورقية هو ما يساوى قيمة (85) جراما من الذهب الخالص.
ويدخل فى حساب مدخراتك من العملات الورقية ما تمتلكه نقدا والحسابات البنكية والقيمة السوقية للأسهم والسندات وكذلك الدين المرجو السداد .
زكاة العقارات
لا يدخل فى حساب الزكاة قيمة المنزل المعد للسكن وكذلك أثاثه
تجب الزكاة على إيرادات العقارات المؤجرة ، فيضم المالك ايرادها الى أمواله فإن لغت نصابا يؤدي زكاتها 2.5% .
العقارات التى تتخذ للاستثمار تجب الزكاة على قيمتها السوقية وكذلك الإيرادات المتحصلة منها .
زكاة عروض التجارة
تجب الزكاة في جميع الأموال التى اشتريت بنية المتاجرة بها سواء كانت عقارا أو مواد غذائية أو زراعية أو مواشى أو غيرها .
ولا تجب الزكاة فى العروض التى ينوى التاجر أو الشركة الاحتفاظ بها كأدوات إنتاج مثل المبانى والآلات والسيارات والمعدات والأراضى التى ليس الغرض بيعها والمتاجرة فيها .
كيف تزكى عروض التجارة
عند حولان الحول يقيم التاجر ما عنده من بضاعة ويضمها الى ما لديه من نقود ثم يضيف إليها ماله من ديون مرجوة السداد ثم يطرح منها الديون التى عليه ثم يزكى الباقى بنسبة ربع العشر2.5 % ويقيم التاجر سلعته بسعر السوق الحالى سواء كان منخفضا عن سعر الشراء أو مرتفعا . ويجوز إخراج الزكاة من أعيان البضائع تيسيرا على الناس .
زكاة الثروة الصناعية
لا زكاة فى المبانى والمعدات وأدوات الانتاج المعدة للتصنيع .
وتخرج الزكاة على الربح الذى يدره المصنع وكذلك على المواد الخام المستخدمة في التصنيع إذا حال عليها الحول وكذلك المواد المصنعة التى لم يتم بيعها بعد وتقيم بما فيها من المواد الخام ولا عبرة بما زادته الصنعة فى قيمتها .
زكاة الديون
يقسم الفقهاء الديون إلى قسمين:
1. دين مرجو الأداء
وهو ما كان على مقر بالدين قادر على أدائه أو جاحد للدين ولكن عليه بينة أو دليل بحيث لو رفع أمره للقضاء استطاع التاجر استرداده .
تجب الزكاة فى هذا القسم من الديون .
2. دين غير مرجو الأداء
وهو ما كان على جاحد أو منكر وليس عليه بينة أو كان على مقر بالدين ولكن كان مماطلا أو معسرا لا يقدر على السداد .
لا تجب الزكاة فى هذا القسم من الديون إلا بعد قبضه فعلا فيزكى سنة واحدة وإن بقى عند المدين سنين .
كيفية حساب الزكاة
تحدد قيمة النصاب وهى ما يكافئ قيمة 85 جم من الذهب الخالص والتى تساوى حاليا ما يقرب من 340د.ك أو 1150 دولار أمريكى أو ما يعادلها بالعملات الأخرى .
تحدد أنواع الأموال التى تجب فيها الزكاة كما هى موضحة فى الجدول التالى.
تضاف الأموال الزكوية ثم يطرح منها الديون المستحقة حالا .
تحسب قيمة الزكاة بنسبة ربع العشر من الناتج .
الزكاة = (مجموع الأموال الزكوية – الديون المستحقة حالا) x 2.5%
النية :
النية ركن هام فى الزكاة . ينبغى عقد النية على أن هذا المال المستخرج هو الزكاة الواجبة إرضاء لله تعالى وإتماما للدين
وقت الزكاة:
تجب الزكاة فورا عند حولان الحول ولا يجوز تأخيرها . ويجوز إخراج الزكاة قبل وقتها .
الأموال الزكوية ... القيمة
أموال نقدية ...
حسابات بنكية ...
القيمة السوقية للأسهم والسندات ...
ذهب ...
فضة ...
ديون مرجوة الأداء ...
عروض معدة للتجارة ...
عقارات وأراض للتجارة ...
مجموع الأموال الزكوية ...
الديون الحالية ...
ما تجب فيه الزكاة ...
قيمة الزكاة ...
أنواع أخرى من أموال الزكاة
زكاة الزروع والثمار
ثبت وجوب الزكاة فى الثروة الزراعية بالقرآن والسنة والإجماع. يقول الله تعالى " كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده " الانعام (141)
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض (البقرة 2- 267)
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت الأنهار والغيم العشور وفيما سقي بالساقية نصف العشر " ( رواه مسلم ).
هل تزكى جميع الحاصلات الزراعية ؟
اختلف فقهاء المسلمين قديما وحديثا فى الحاصلات الزراعية التى تجب فيها الزكاة على عدة أقوال :
• يرى الإمام أبو حنيفة أن الزكاة واجبة فى جميع ما تنتجه الأرض من محاصيل وثمار وفاكهة وخضار ونحوها . وهذا الرأى هو الذى أختارته الهيئة الشرعية لبيت الزكاة فى الكويت .
• ذهب آخرون الى أن الزكاة واجبة فقط في كل ما يتخذه الناس قوتا يعيشون به حال الأختيار لا الاضطرار مثل الحنطة والأرز والذرة ونحوها .
• وذهب آخرون الى أن الزكاة واجبة فى كل ما ييبس ويبقى ويكال فقط .
نصاب المحاصيل الزراعية(56/2)
جاء فى الحديث الصحيح :" ليس فى دون خمسة أو سق صدقة" والخمسة أوسق تعادل ما وزنه ( 653) كيلوجراما من القمح ونحوه .
وقت إخراج زكاة المحاصيل الزراعية :
لا يراعى الحول في زكاة الزروع ، بل يراعى الموسم والمحصول لقوله عزوجل : "وآتو حقه يوم حصاده" . فلو أخرجت الأرض أكثر من محصول فى السنة وجب على صاحبها إخراج الزكاة عن كل محصول .
مقدار زكاة الزروع :
يختلف مقدار زكاة الزروع بحسب الجهد المبذول فى الرى على النحو التالي :-
فى حالة الرى بدون تكلفة يكون المقدار الواجب هو العشر 10% .
فى حالة الرى بوسيلة فيها كلفة يكون مقدار الزكاة هو نصف العشر أى 5%
فى حالة الرى المشترك بين النوعين يكون المقدار الواجب ثلاثة أرباع العشر أى 7.5% .
ملاحظات :-
الأصل أن تخرج الزكاة من أصل المحصول ويرى بعض العلماء جواز إخراج القيمة وذلك بأن يحسب قيمة الزكاة الواجبة فى المحصول ثم يقدر قيمتها بالسوق ويخرجها نقدا .
يضم الزرع الواحد بعضه إلى بعض ولو اختلفت الأرض التى زرع فيها .
تضم الأصناف من الجنس الواحد من الزروع والثمار بعضها إلى بعض ولا يضم جنس إلي آخر .
زكاة الأنعام
تجب الزكاة فى الإبل والبقر والغنم
شروط وجوب الزكاة فى الأنعام :
1. أن تبلغ النصاب وهو الحد الأدنى لما تجب فيها الزكاة وهو كالآتى :-
• نصاب الإبل خمسة وليس فيما كان أقل من ذلك زكاة .
• نصاب الغنم أربعون وليس فيما كان أقل من ذلك زكاة .
• ونصاب البقر ثلاثون وليس فيما كان أقل من ذلك زكاة .
2. أن يحول عليها الحول وتضم أولاد الأنعام الى أمهاتها وتتبعها فى الحول .
3. أن تكون سائمة .
4. ويقصد بالسائمة لغة الراعية وشرعا هى المكتفية بالرعى أكثر أيام السنة من الكلأ المباح عن أن تعلف .
5. فأما إن كانت معلوفة فلا زكاة فيها .
6. وكذلك لا زكاة فى الإبل والبقر العاملة وهى التى يستخدمها صاحبها فى الحرث أو السقى أو الحمل وما شابه ذلك من الأشغال .
مقدار الزكاة من الأنعام
الجدول الآتى توضح قيمة النصاب والزكاة الواجبة فى كل نوع من الأنعام .
نصاب الإبل ومقدار الزكاة فيها
عدد الإبل
من - الى ... القدر الواجب فيه
4 – 1 ... لا شئ فيها
9 – 5 ... 1شاة
10- 14 ... 2شاتان
15-19 ... 3 شاه
20- 24 ... 4شياه
25- 35 ... 1بنت مخاض (هى أنثى الإبل التى أتمت سنة وقد دخلت فى الثانية، سميت بذلك لأن أمها لحقت بالمخاض وهى الحوامل)
36- 45 ... 1بنت لبون أو هى أنثى الابل التى أتمت سنتين ودخلت فى الثالثة . سميت بذلك لأن أمها تكون قد وضعت غيرها فى الغالب وصارت ذات لبن .
46- 60 ... 1حقة (وهي أنثى الابل التى أتمت ثلاث سنين ودخلت الرابعة . سميت حقة لأنها استحقت أن يطرقها الفحل
61- 75 ... 1جذعة (هى انثى الابل التى أتمت اربع سنين ودخلت الخامسة)
76- 90 ... 2بنتا لبون
91- 120 ... حقتان
121- 129 ... 3 بنات لبون
130- 139 ... 1حقة + 2 بنتا لبون
140- 149 ... 2حقة + 1 بنت لبون
159 – 150 ... 3 حقات
160 – 169 ... 4 بنات لبون
170- 179 ... 3بنات لبون + 1 حقة
180–189 ... 2 بنتا لبون + حقتان
190 –199 ... 3 حقات + 1 بنت لبون
200-209 ... 4 حقات أو 5 بنات لبون
وهكذا ما زاد على ذلك يكون فى كل خمسين حقة وفى كل أربعين بنت لبون.
نصاب زكاة البقر ومقدار الزكاة فيها على النحو التالي :
عدد البقر
من – الى ... القدر الواجب فيه
1- 29 ... لا شيء فيه
39 -30 ... تبيع (التبيع ما أتم من البقر سنة ودخل الثانية ذكرا كان أو أنثى )
- 40 59 ... مسنة (انثى من البقر أتمت سنتين ودخلت فى الثالثة)
60- 69 ... تبيعان أو تبيعتان
70- 79 ... مسنة وتبيع
80- 89 ... مسنتان
90- 99 ... ثلاثة أتبعة
-100 109 ... مسنة وتبيعان
110 – 119 ... مسنتان وتبيعان
120 - 129 ... ثلاث مسنات أو أربعة أتبعة
وهكذا ما زاد عن ذلك فى كل ثلاثين تبيع أو تبيعة . وفى كل أربعين مسنة .
والجواميس صنف من أصناف البقر ينبغى ضمها الى ما عنده من البقر واخراج زكاتها .
نصاب الغنم والقدر الواجب فيها
يكون نصاب الغنم ومقدار الزكاة فيه على النحو التالي :-
النصاب من الغنم القدر الواجب منه
عدد الأغنام
من - إلى ... القدر الواجب فيه
1- 39 ... لا شئ فيه
40- 120 ... شاه واحدة (انثى من الغنم لا تقل عن سنة)
121 - 200 ... شاتان
201- 399 ... ثلاث شياه
400- 499 ... أربع شياه
500- 599 ... خمس شياه
وهكذا ما زاد على ذلك فى كل مائة شاة شاة واحدة.
ملاحظات:
1. الانعام المعدة للتجارة(56/3)
تعامل الأنعام المعدة للتجارة معاملة عروض التجارة ، وتحسب زكاتها بالقيمة لا بعدد الرؤوس المملوكة ، لذا لا يشترط النصاب المذكور سالفا لوجوب الزكاة فيها ، بل يكفى أن تبلغ قيمتها نصاب زكاة النقود (وهو ما قيمته 85 غم من الذهب الخالص ) لتجب الزكاة فيها ، فيضمها مالكها الى ما عنده من عروض التجارة والنقود ويخرج الزكاة عنها بنسبة ربع العشر (2.5%) متى ما استوفت شروط وجوب زكاة التجارة من بلوغ النصاب وحولان الحول .
2. زكاة غير الأنعام :-
لا زكاة فى شئ من الحيوانات غير الإبل والبقر والغنم . فلا زكاة فى الخيل والبغال والحمير إلا إذا كانت للتجارة .
زكاة الركاز والمعدن :
ذهب العلماء إلى وجوب الزكاة بنسبة الخمس في الركاز والمعدن المستخرج من الأرض لقول النبي صلى الله عليه وسلم "وفى الركاز الخمس ولقوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ".
فكل ما استخرج من الأرض مما له قيمة كالذهب والفضة والحديد والنحاس والنفط والياقوت والكبريت ونحو ذلك يجب إخراج خمسه زكاة من قليله وكثيره عند وقت استخراجه .
واشترط البعض أن يبلغ نصابا.
مصارف الزكاة :
مصارف الزكاة ثمانية أصناف محصورة فى قوله تعالى "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم " (التوبة –9 آية60)
هذا بيان لأصناف الزكاة الثمانية المذكورة فى الآية الكريمة :
1,2 الفقراء والمساكين :
وهم المحتاجون الذين لا يجدون كفايتهم . والمساكين قسم خاص من الفقراء وهم الذين يتعففون عن السؤال ولا يفطن لهم الناس .
ويعطى الفقراء والمساكين من الزكاة ما يسد حاجتهم ويخرجهم من الحاجة الى الكفاية .
3- العاملون على الزكاة :
وهم الذين يتولون العمل على جمع الزكاة ولو كانوا من الأغنياء ويدخل فيهم الجباة والحفظة لها والرعاة للأنعام منها والكتبة لديوانها .
- 4 المؤلفة قلوبهم :-
وهم الذين يراد تأليف قلوبهم وجمعها على الإسلام أو تثبيتها عليه ، لضعف إٍسلامهم ، أو كف شرهم عن المسلمين أو جلب نفعهم فى الدفاع عنهم .
5- وفى الرقاب :
ويشمل المكاتبين والأرقاء فيعان المكاتبون بمال الصدقة لفك رقابهم من الرق ويشترى به العبيد ويعتقون .
6- الغارمون :
وهم الذين تحملوا الديون وتعذر عليهم أداؤها فيأخذون من الزكاة ما يفى بديونهم .
7- وفى سبيل الله :
المراد المجاهدون فى سبيل الله فيعطون من الزكاة سواء كانوا أغنياء أم فقراء . وينفق من الزكاة على الإعداد للحرب وشراء السلاح وأغذية و احتياجات الجند .
"وفى سبيل الله " هو مصرف عام يشتمل على كل ما من شأنه إعلاء كلمة الله . ويدخل فيها إعداد الدعاة وبناء المدارس والمساجد فى غير بلاد المسلمين والنفقة على المدارس الشرعية وغير ذلك .
8- وابن السبيل :
وهو المسافر المنقطع عن بلده فيعطى من الزكاة ما يستعين به على تحقيق مقصده نظرا لفقره العارض .
• ويحرم إعطاء الزكاة للزوجة والآباء والأبناء والأغنياء وغير المسلمين .
• ويستحب أعطاؤها للأقارب والزوج وطلبة العلم .
• ويجوز نقل الزكاة من بلد الى آخر إذا استغنى أهل البلد عنها .
صدقة التطوع
• يقصد بالصدقة التبرعات النقدية أو العينية سوى الزكاة .
• وتشمل التبرع بالأموال والطعام والملابس والدواء والأثاث وكل ما له قيمة .
• الصدقة هي عنصر أصيل في الثقافة الإسلامية وقيمة عليا من قيم المجتمعات الإسلامية.
• وتعد الصدقة وسيلة ضرورية لتربية النفس وإصلاحها وإثارة معانى الخير والبر فيها وحضها على الإحسان إلى الغير .يقول الله تعالى " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم "(آل عمران92)
• ويتصدق المسلم غالبا شكرا لله تعالى على نعمه و فى المناسبات السارة كالزواج والولادة ورجوع الغائب والنجاح فى العمل ونحو ذلك .
• كذلك يتصدق المسلم عن الميت ليصله ثواب الصدقة .
• ويمكن أن تكون الصدقة بديلا لبعض الممارسات الحديثة مثل إقامة الحفلات وإرسال بطاقات التهنئة والورود والتى غالبا ما ينفق فيها الكثير من الأموال بلا جدوى ولا منفعة للفقير .
زكاة الفطر
وهى الزكاة التي تجب بالفطر من رمضان .
وهى واجبة على كل فرد من المسلمين ، صغير أو كبير ، ذكر أو أنثى ، حر أو عبد .
وحكمتها تطهير الصائم مما عسى أن يكون قد وقع فيه أثناء الصيام من لغو أو رفث وكذلك لتكون عونا للفقراء والمحتاجين على شراء احتياجات العبد ليشاركوا المسلمين فرحتهم .
على من تجب ؟
- تجب على كل مسلم يكون لديه ما يزيد عن قوته وقوت عياله وعن حاجاته الأصلية .
- ويلزم المسلم أن يخرج زكاة الفطر عن نفسه وزوجته وعن كل من تلزمه نفقتهم.
مقدار زكاة الفطر :
الواجب فى زكاة الفطر صاع من أرز أو قمح أو شعير ونحو ذلك مما يعتبر قوتا يتقوت به .(56/4)
والصاع مكيال يتسع لما مقداره (2.5) كيلو جرام من الأرز . ويختلف الوزن بالنسبة لغير الأرز من الأقوات .
ويجوز إخراج زكاة الفطر نقدا بمقدار قيمتها العينية وتقدر قيمتها بمبلغ دينار كويتى أو2.5 جنيه استرلينى أو 5 دولارات أمريكية .
وقت زكاة الفطر :
تجب زكاة الفطر بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان ، والسنة إخراجها يوم الفطر قبل صلاة العيد .
ويجوز تعجيل إخراجها من أول أيام رمضان ولا سيما إذا سلمت لمؤسسة خيرية حتى يتسنى لها الوقت الكافى لتوزيعها .
وتصرف زكاة الفطر مصرف الزكاة الواجبة أى توزع على الأصناف الثمانية المذكورة سابقا .
فدية الإفطار
هى مبلغ من المال يؤديه العاجز عن الصوم للفقراء بدلا عن الصيام وذلك لقوله تعالى " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ".
وتجب الفدية على من فقد القدرة على الصوم أبدا ويحصل ذلك بالشيخوخة والمرض الذى لا يرجى برؤه .
مقدار الفدية :
- الأصل فى الفدية أن تكون بإطعام فقير واحد عن كل يوم .
- فيطعم فقيرا واحدا طعاما جاهزا وجبتين مشبعتين عن كل يوم أفطره .
- ويجوز أن يخرج الطعام عينا بأن يخرج صاعا من قوت أهل البلد عن كل يوم .
- وله أن يخرج قيمة الطعام نقدا وتقدر بدينار كويتى عن كل يوم .
استفسارات عن الزكاة
س : اشتريت قطعة أرض بنية الاستثمار فهل يجب حساب الزكاة تبعا لقيمتها الشرائية أو السوقية ؟
ج: عند حولان الحول قدر قيمة الأرض تبعا لسعر السوق ثم أخرج زكاتها 2.5% من قيمتها السوقية ؟
س : هل تجزئ الضرائب التى تخصمها الدولة عن الزكاة ؟
ج: الضرائب لا تجزئ عن الزكاة فهى تختلف عن الزكاة من وجوه متعددة وفى الغالب لا تنفق فى مصارف الزكاة .
س : أعرت أخى قطعة أرض ليزرعها فعلى من تجب زكاتها علي أم عليه ؟
ج: إذا كان أخوك يزرعها لنفسه فيجب عليه إخراج زكاتها . أما إن كان أخوك يزرعها لك فتجب عليك زكاتها .
س : امتلك النصاب أول الحول ثم نقص ماله أثناء العام عن النصاب ثم كمل النصاب فمتى تجب عليه الزكاة ؟
ج: عند أبى حنيفة أن المعتبر هو وجود النصاب أول الحول وآخره و لا يضر نقصه بينهما .
وذهب البعض الى أنه لو نقض النصاب أثناء الحول ثم كمل اعتبر اكتمال الحول من يوم كماله .
س : مات وعليه زكاة فهل تجب الزكاة فى التركة ؟
ج: تجب الزكاة فى ماله وتقدم على الدين والوصية والورثة . لقوله تعالى "من بعد وصية يوصى بها أو دين " والزكاة دين قائم لله تعالى ولقول النبى صلى الله عليه وسلم " فدين الله أحق أن يقضى "
س : كيف يزكى المال المشترك ؟
ج: إذا كان المال مشتركا بين شريكين أو أكثر لا تجب الزكاة على واحد منهم حتى يكون لكل واحد منهم نصاب كامل وإن بلغ المال المشترك نصابا .
س : هل يجوز إعطاء الزكاة للزوجة والوالدين والأبناء ؟
ج: يحرم إعطاء الزكاة للزوجة والآباء وإن علوا والأبناء وإن نزلوا وذلك لأنه مكلف بالنفقة عليهم .
س : هل يجوز إعطاء غير المسلم من الزكاة ؟
ج: لا يجوز إعطاء غير المسلم من الزكاة .
إنما يجوز إعطاؤهم من الصدقة .
الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية
P.O. Box 3434
13035 الصفاة - الكويت
http://www.iico.org(56/5)
... ... ...
أحكام السفر المباح ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- فوائد السفر المباح 2- ما الذي ينبغي للمسلم أن يفعله إذا أراد السفر 3- بعض أحكام السفر 4- آداب المسافر المتعلقة برجوعه من سفره ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
إن الحديث عن السفر والسياحة هو حديث الساعة، وقد تحدثنا في الجمعة الماضية عن السفر والسياحة المحرمة، ثم تعرضنا للسياحة الجائزة وذكرنا بعض المحاذير في ذلك. ولوع الناس بالسفر في الإجازات، حتى كأن الإجازة من غير سفر لا تكون. صار لزاماً ذكر بعض الأحكام والآداب المتعلقة بالسفر المباح والسياحة الجائزة. اعلموا رحمني الله وإياكم بأن السفر له فوائد كثيرة أشار إليها الشافعي رحمه الله في قوله:
تغرب عن الأوطان تكتسب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج همٍّ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد
فان قيل في الأسفار ذل وشدة وقطع الفيافي وارتكاب الشدائد
فموت الفتى خير له من حياته بدار هوان بين واش وحاسد
فالشافعي رحمه الله عدّ من فوائد السفر خمس فوائد: وهي: انفراج الهم، واكتساب المعيشة، وحصول العلم، والآداب، وصحبة الأخيار والأمجاد. وقال الثعالبي: من فضائل السفر، أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومن بدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى، وقال أبو الحسن القيرواني: كتب إلى بعض أخواني: مثل الرجل القاعد كمثل الماء الراكد، إن ترك تغير، وإن تحرك تكدر، وفي هذا يقول الشافعي:
سافر تجد عوضا عمن تفارقه وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني وجدت وقوف الماء يفسده والعود في أرضه نوع من الحطب
وعن فوائد الأسفار العزيزة، إنه يرفع الذل عن الإنسان إذا كان بين قوم لئام، وإذا عاش في وسط يكيدون به، ويتربصون به، وكان هذا الإنسان ذا شأن فليبحث له عن أرض يعرفون قيمته، وقد ورد عن الشافعي أيضا حول هذا المعنى: أنه قال:
ارحل بنفسك من =رض تضام بها ولا تكن من فراق الأهل في حرق
فالعنبر الخام روث في مواطنه وفي التغرب محمول على العنق
والكحل نوع من الأحجار تنظره وفي أرضه وهو مرمي على الطرق
لما تغرب حاز الفضل أجمعه فصار يحمل بين الجفن والحدق
أيها الأحبة في الله :
من عزم على السفر فليبدأ بالتوبة من المعاصي ويخرج من مظالم الخلق ويقضي ما أمكنه من ديونهم، ويرد الودائع ثم يستحل ممن كان بينه وبينه مماطلة في شيء أو مصاحبة. ويكتب وصيته ويوكل من يقضي دينه ما لم يتمكن من قضائه ويترك لأهله ما يلزمهم من نفقة ونحوها. ويستحب له أن يطلب رفيقاً موافقا راغبا بالخير عارفاً في الشر، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه. ويستحب السفر يوم الخميس، لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر إلا في يوم الخميس. رواه أبو داود. والسنة أن يخرج باكراً، لحديث صخر بن وداعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها، وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم من أول النهار))، وكان صخر تاجرا فكان يبعث تجارته أول النهار، فأثرى وكثر ماله، أخرجه أبو داود والترمذي. ونهى عن سفر الإنسان لوحده، لحديث عبد الله بن عمر رضي عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الناس يعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده)) رواه البخاري. وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب)) رواه أبو داود والترمذي. والسنة أن يؤمروا أحدهم، لما رواه أبو داود عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)) قال نافع: فقلت لأبى سلمة، فأنت أميرنا.
ومن أحكام السفر، أن المسافر قد يحتاج إلى الراحة بعض الوقت أثناء الطريق، خصوصا آخر الليل، فعليه أن يجتنب الطريق، لما أخرج مالك في الموطأ حديث خالد بن معدان يرفعه ((ثم قال: وعليكم بسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوى بالنهار، وإياكم والتعريس على الطرق – والتعريس نزول المسافر آخر الليل ساعة للاستراحة - فإنها طرق الدواب ومأوى الحيات)).
ولا ينسى في أول سفره دعاء السفر: ((اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل)).(57/1)
ومن فضل الله أن الأعمال التي كان يعملها العبد من الأعمال الصالحة والتي تفوته بسبب سفره، فإنها تكتب له وإن لم يعملها، روى البخاري في صحيحه عن أبى موسى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمله مقيما صحيحا)) وأيضا المسافر مستجاب الدعوة فعن أبى هريرة يرفعه ((ثلاث دعوات مستجابات، لاشك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة الوالد، ودعوة المسافر)) رواه أبو داود والترمذي. والرسول صلى الله عليه وسلم كان في سفره إذا علا على شرف كبر، وإذا هبط واديا سبح، فيشرع للمسافر التكبير إذا ارتفعت به الأرض، والتسبيح إذا انخفضت به الأرض. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كنا إذا صعدنا كبرنا، وإذا نزلنا سبحنا) رواه البخاري. قال أهل العلم: التكبير عند إشراف الجبال استشعار لكبرياء الله عندما تقع عليه العين من عظم خلق الله، إنه أكبر من كل شيء، وأما تسبيحه في بطون الأودية فقيل انه مستنبط من قصة يونس عليه السلام وتسبيحه في بطن الحوت قال تعالى: فلولا انه كان من المسبحين وقيل معنى التسبيح عند الهبوط: استشعار تنزيه الله تعالى عن صفات الانخفاض والضعة والنقص. وإذا خاف المسافر من قوم أثناء سفره دعا بما رواه أبو داود عن أبى موسى رضي الله تعالى عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوما قال: ((اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم)). ومن أحكام السفر: المسح على الخفين، فعن صفوان بن عسال قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة ايام ولياليهن، رواه الترمذي وغيره، فيجوز للمسافر أن يمسح على الجوارب وهو مسافر ثلاثة ايام بلياليهن يبتدأ المسح، من أول مسحة يمسحها. ومن الأحكام: التيمم، فإن الله جعل التراب بدلا عن الماء عند انعدامه أو تعذره، فالمسافر قد ينقطع به الماء فلا يجوز له تأخير الصلاة، بل يتيمم بالتراب ويصلي، فيضرب الصعيد ضربة واحدة يمسح بهما كفيه ووجهه، والتراب يرفع الحدث الأصغر والأكبر.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا إنك أنت العزيز الحكيم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
ومن أحكام السفر أيضا: جواز الفطر في رمضان قال الله تعالى: ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فافطر الناس)) متفق عليه. والإنسان مخير بين الصيام والفطر بحسب مقدرته فعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن حمزة بن عمر الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم والسلام أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال: ((إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)) متفق عليه. وعن أنس بن مالك قال: ((كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعِب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم)) متفق عليه.
ومن أحكام السفر وهذا من رخص الله عز وجل علينا قصر الصلاة وجمعها، فإن المسافر يجوز له أن يقصر الصلاة ويجمع أيضا مادام أنه مسافراحتى يرجع إلى بلده، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كنا نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة لا نخاف إلا الله عز وجل نصلي ركعتين)) رواه النسائي بسند صحيح، وعن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم اصلي مع الأمام؟ فقال: ((ركعتين، سنة أبى القاسم صلى الله عليه وسلم)) رواه مسلم.
فالمسافر يجوز له قصر الرباعية ركعتين، وله الجمع أيضا سواء جد به السير أم لم يجد به السير مادام أنه مسافر لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن وائله أن معاذ بن جبل أخبره: أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء قال: فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاًًً ثم دخل، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً.
ويسقط عن المسافر السنن الرواتب التي كان يصليها مقيما وهي راتبة الظهر والمغرب والعشاء، وباقي السنن التي كان يحافظ عليها حال إقامته يفعلها في السفر أيضا. أما راتبة الفجر والوتر فما كان يدعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حضرا ولا سفرا.
ومن أحكام السفر، جواز أداء النوافل وكذلك الوتر على الدابة أو السيارة وهي تسير، وإن لم تكن إلى جهة القبلة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى السفر على راحلته حيث توجهت به، يومئ إيماءً صلاة الليل إلا الفرائض، ويوتر على راحلته)) متفق عليه. وعن جابر بن عبد الله ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على راحلته نحو المشرق فإذا أراد إن يصلي المكتوبة نزل فاستقبل القبلة)) رواه البخاري.(57/2)
ومن أحكام السفر، أن المصلي حال الجمع يصلى بأذان واحد وإقامتين. وإذا صلى المسافر خلف إمام مقيم فإنه يتم الصلاة معه.
ثم هاهنا بعض الأحكام والآداب المتعلقة برجوع المسافر من سفره: ينبغي للمسافر سرعة العودة إلى أهله إذا قضى حاجته من سفره، عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نهمته فليعجل إلى أهله)) رواه البخاري. وجاء النهي من طرق الرجل أهله ليلاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرقن أهله ليلاً))، وفي رواية: ((نهى أن يطرق أهله ليلا))، زاد في رواية: ((لئلا يتخونهم أو يطلب عثراتهم)). وفي رواية: ((حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة)). وهذه كلها روايات البخاري ومسلم. وفي رواية أبى داود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فلما ذهبنا لندخل قال: ((أمهلوا حتى لا ندخل ليلا، لكي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة)). وفي رواية له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحسن ما دخل الرجل على أهله إذا قدم من سفر أول الليل)).
ولا بأس بالخروج لتلقى المسافر، يقول السائب بن يزيد رضي الله عنه: (أذكر أني خرجت مع الصبيان، نتلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثنية الوداع عند مقدمه من تبوك) أخرجه البخاري. ويسن للمسافر أن يدعو بما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من سفر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بظهر المدينة قال: ((آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون))، فلم يزل يقول ذلك حتى قدمنا المدينة. رواه مسلم.
ومن السنة، أن يبدأ المسافر عند رجوعه بالمسجد فيركع فيه ركعتين، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من حجته دخل المدينة، فأناخ على باب مسجده، ثم دخله فركع فيه ركعتين، ثم انصرف إلى بيته قال نافع: فكان ابن عمر كذلك يصنع)) أخرجه أبو داود بسند صحيح. وله عن كعب بن مالك رضى الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس)). ... ... ...
... ... ...
... ... ...(57/3)
أحكام العيد وآدابه
إعداد : صلاح نجيب الدق
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينًا، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه كلمات موجزة حول أحكام العيد وآدابه، فنقول وبالله التوفيق:
سبب التسمية:
سمي العيد عيدًا لعوده وتكرره، وقيل لأنه يعود كل عام بفرح مُجَدَّدٍ، وقيل تفاؤلاً بعوده على من أدركه. {لسان العرب: 4-3159}
أعياد المسلمين:
من المعلوم أن الأعياد في الإسلام اثنان فقط وهما: عيد الفطر وعيد الأضحى، وهذان يتكرران في كل عام، وهناك عيد ثالث يأتي في ختام كل أسبوع وهو يوم الجمعة، وليس في الإسلام عيد بمناسبة مرور ذكرى كغزوة بدر الكبرى، أو غزوة الفتح أو غيرها من الغزوات العظيمة التي انتصر فيها المسلمون انتصارًا باهرًا، وكل ما سوى هذه الأعياد الثلاثة، فهو بدعة محدثة في دين الله، ما أنزل الله بها من سلطان ولا شرعها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ومن زعم غير ذلك فقد أعظم على الله الفرية، وكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
{المحلى ج5 ص81، شرح زاد المستقنع لابن عثيمين ج5 ص145}
حكمة العيد: إن الله تعالى قد شرع العيدين لحكم جليلة سامية، فبالنسبة لعيد الفطر، فإن الناس قد أدوا فريضة من فرائض الإسلام وهي الصيام، فجعل الله لهم يوم عيد يفرحون فيه، ويفعلون فيه من السرور واللعب المباح ما يكون فيه إظهارٌ لهذا العيد، وشكرٌ لله على هذه النعمة، فيفرحون لأنهم تخلصوا بالصوم من الذنوب والمعاصي التي ارتكبوها، فجعل الله يوم الفطر عيدًا ليفرح المسلم بنعمة مغفرة الذنوب ورفع الدرجات وزيادة الحسنات بعد هذا الموسم من الطاعات، وأما بالنسبة لعيد الأضحى فإنه يأتي في ختام عشر ذي الحجة التي يسن فيها الإكثار من الطاعات وذكر الله، وفيها يوم عرفة الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن صيامه يكفر ذنوب سنتين، وأما بالنسبة للحجاج الواقفين على جبل عرفة، فإن الله يطلَّع عليهم ويشهد الملائكة بأنه قد غفر لهم ذنوبهم، فكان يوم عيد الأضحى الذي يلي يوم عرفة، يومًا للمسلمين يفرحون فيه بمغفرة الله، ويشكرونه على هذه النعمة العظيمة. {شرح زاد المستنقع لابن عثيمين" (ج5 ص211)}
مشروعية صلاة العيد:
شُرعت صلاة العيد في السنة الأولى من الهجرة. روى أبو داود عن أنس قال: قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم عيدان يلعبون فيهما، فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن الله قد أبدلكم بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر".
{حديث صحيح. صحيح أبي داود للألباني (1004)}
وصلاة العيد مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. "المغني لابن قدامة ج3 ص253 .
حكم صلاة العيد: صلاة العيد سنة مؤكدة واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده.
روى الشيخان عن طلحة بن عبيد الله أن أعرابيًا جاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثائر الرأس فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصلاة؟ فقال: الصلوات الخمس إلا أن تطوع شيئًا.
{البخاري حديث 1891، مسلم حديث 11}
قال النووي: جماهير العلماء من السلف والخلف على أن صلاة العيد سنة. {الاستذكار لابن عبد البر ج7 ص12- المحلى لابن حزم ج5 ص89- المجموع للنووي ج5 ص2، 3}
وقت صلاة العيد: يبدأ وقت صلاة العيد بعد شروق الشمس بربع ساعة تقريبًا وينتهي بدخول وقت صلاة الظهر.
{الشرح الممتع لابن عثيمين ج5 ص154}
تقديم الصلاة في الأضحى وتأخيرها في الفطر: قال ابن قدامة: "يُسنُ تقديم الأضحى ليتسع وقت التضحية، وتأخير الفطر ليتسع وقت إخراج صدقة الفطر". {المغني ج5 ص267}
مكان إقامة صلاة العيد: من السنة إقامة صلاة العيد في مصلى واسع قريب، خارج البلد، حتى يسهل على الناس الذهاب إليه، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى. {البخاري 956}
تعدد مصلى العيد: يجوز تعدد أماكن مصلى العيد في البلد الواحد عند الضرورة.
إقامة صلاة العيد في المساجد: يجوز إقامة صلاة العيد في المسجد بسبب العذر: مثل البرد الشديد أو المطر أو ما شابه ذلك، ومن صلى في المسجد بغير عذر، فصلاته صحيحة بفضل الله ورحمته ولكنه خالف السنة، وترك الأفضل.
آداب الخروج إلى مصلى العيد:
إن للخروج إلى مصلى العيد آدابًا يمكن أن نوجزها فيما يلي:
1- الاغتسال وارتداء أفضل الثياب، وأما وضع العطور فيكون للرجال فقط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تخرج من بيتها متعطرة ولو كانت ذاهبة للصلاة في المسجد.
2- تناول الطعام يوم عيد الفطر قبل الذهاب إلى المصلى، وتأخيره يوم الأضحى حتى يؤدي صلاة العيد ويأكل من أضحيته.
3- التبكير إلى مصلى العيد والسير على الأقدام إذا لم يترتب على ذلك مشقة.(58/1)
4- الخروج إلى مصلى العيد من طريق والعودة من طريق أخرى.
5- يرفع الرجال أصواتهم بالتكبير، مع مراعاة أن يكبر كل شخص بنفسه، مع الابتعاد عن التكبير الجماعي حتى يقوم الإمام لصلاة العيد.
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة.
7- غض البصر عن محارم الله والابتعاد عن الاختلاط بين الرجال والنساء من غير المحارم.
وقت التكبير في العيدين: يبدأ التكبير في عيد الفطر من ثبوت رؤية هلال شوال حتى يقوم الإمام لأداء صلاة العيد.
ويبدأ التكبير في عيد الأضحى من فجر يوم عرفة حتى آخر أيام التشريق "وهو الثالث عشر من ذي الحجة".
{الشرح الممتع لابن عثيمين ج5 ص221}
صفة التكبير: يمكن لكل مسلم أن يردد إحدى صيغ التكبير التالية:
- الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
- الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
- الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر وأجل، الله أكبر ولله الحمد.
{مصنف ابن أبي شيبة ج2 ص83}
صلاة العيد ليس لها سنة قبلية ولا بعدية: روى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين، لم يصل قبلها ولا بعدها. {البخاري 964}
صلاة العيد ليس لها أذان ولا إقامة: روى مسلم عن جابر بن سَمُرة قال: صليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة بغير أذان ولا إقامة. {مسلم حديث 887}
قال ابن القيم: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهى إلى المصلى، أخذ في الصلاة من غير أذان ولا إقامة ولا قول: الصلاة جامعة، والسنة أنه لا يُفعل شيء من ذلك". {زاد المعاد ج1 ص442}
صفة صلاة العيد: صلاة العيد ركعتان، يُسنُ للمصلي أن يُكبِّر في الركعة الأولى سبع تكبيرات بعد تكبيرة الإحرام، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات بعد تكبيرة القيام للركعة الثانية، مع رفع اليدين مع كل تكبيرة، ولم يرد ذِكْر مخصوص يقال بين التكبيرات، ويجوز أن يقول بين التكبيرات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن شك في عدد التكبيرات بنى على العدد الأقل.
ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسورة الأعلى، ويقرأ في الثانية بعد الفاتحة بسورة الغاشية، أو يقرأ في الركعة الأولى بسورة "ق"، وفي الركعة الثانية بسورة "القمر". {مسلم حديث 878/891} مع مراعاة جهر الإمام بالقراءة. {الأم للشافعي ج1 ص236، ج3 ص271}
حكم من فاتته بعض التكبيرات مع الإمام:
من حضر إلى صلاة العيد وأدرك الإمام، ولكن قد فاتته بعض التكبيرات، فإنه يكبر تكبيرة الإحرام ويتابع الإمام فيما بقي من التكبيرات، ويسقط عنه ما مضى.
{المغني ج3 ص275}
خطبة العيد:
يُسنُ للإمام بعد أداء صلاة العيد أن يخطب في الناس خطبة جامعة، ويستحب أن يفتتحها بحمد الله ويسن له كذلك الإكثار من التكبير أثناء الخطبة ويذكر الناس بفضل الله عليهم وحثهم على التوبة النصوح وتقوى الله في السر والعلانية والإكثار من أعمال البر والتمسك بالكتاب والسنة وتحذيرهم من البدع، ويسن لمن حضر الخطبة أن ينصت للإمام ومن أراد أن ينصرف بعد الصلاة فلا حرج عليه.
روى أبو داود عن عبد الله بن السائب قال: شهدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العيد، فلما قضى صلاته قال: "إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب".
{صحيح: صحيح أبي داود 1024}
قضاء صلاة العيد: يُستحب لمن فاتته صلاة العيد مع الإمام أن يقضيها قبل الظهر على هيئتها وبنفس العدد من التكبيرات.
{الأم للشافعي ج1 ص240، المغني ج3 ص285}
روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: "من فاتته الصلاة يوم الفطر، صلى كما يصلي الإمام". {إسناده صحيح: مصنف عبد الرزاق ج2 ص300}
التهنئة بالعيد:
إن العيد مناسبة مباركة، يجمع الله بها شمل المسلمين ويؤلف بها بين قلوبهم، فيقابل بعضهم بعضًا في مصلى العيد وفي الطرقات أو الأسواق فيتصافحون ابتغاء وجه الله وطمعًا في مغفرته، ويُستحب أن يُهنئ المسلم أخاه قائلاً: "تقبَّل الله منا ومنكم".
اجتماع العيد مع الجمعة:
إذا اجتمع العيد مع الجمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، وتكفيه صلاة الظهر، ويُستحب للإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء حضورها ومن لم يصلّ العيد.
{فتاوى ابن تيمية ج24 ص211}
روى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون".
{حديث صحيح: صحيح أبي داود 948}
العيد موسم لأعمال البّر: إن العيد مناسبة طيبة ينبغي للمسلم أن يستفيد منها ليرفع رصيده من الحسنات، وذلك بالحرص على الطاعات، والتي يمكن أن نوجزها في ما يلي:
1- بر الوالدين وصلة الأرحام والتوسعة عليهم بقدر المستطاع.
2- زيارة الجيران والأصدقاء والتوسعة على الفقراء واليتامى ومشاركتهم بهجة العيد.(58/2)
3- الصلح بين المتخاصمين من الناس مع بيان منزلة من يبدأ بالصلح ابتغاء وجه الله تعالى.
4- الإكثار من ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن الكريم.
وقفة مع زيارة المقابر يوم العيد:
أخي الكريم إن الله شرع لنا العيد لكي نفرح ونبتعد عن الأحزان في يوم العيد، ولذا فإن قيام كثير من المسلمين بزيارة المقابر يوم العيد وتجديد الأحزان، عملٌ مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج مع الصحابة إلى الصحراء لصلاة العيد، وكان يذهب من طريق ويرجع من أخرى، ولم يثبت أنه زار قبرًا في ذهابه أو إيابه مع وقوع المقابر في طريقه.
روى البخاري عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا". {البخاري (965)}
إن زيارة المقابر يوم العيد بدعة وهي من تلبيس الشيطان، فإنه لا يأمر الناس بترك سنة حتى يعوضهم عنها بشيء يخيله لهم أنه قربة إلى الله تعالى، فزين للناس زيارة القبور في يوم العيد وأن ذلك من البر بالأموات.
{الإبداع في مضار الابتداع ص263}
وختامًا: ينبغي لنا أن نتبع سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأن نرضى بشرع الله ورسوله في جميع أمور حياتنا، قال تعالى: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون {النور: 51}.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(58/3)
أحكام اللباس (5)
محاذير في لباس الرجال (2)
إعداد/ محمد فتحي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وبعد:
فقد أَفَضْنَا في الحديث عن
الإسبال كمحذور من محاذير اللباس عند الرجال، ونكمل إن شاء اللَّه تعالى بقية
محاذير اللباس عند الرجال في هذه الحلقة:
2- ثوب الشهرة:
والشهرة في اللباس تكون في الإسبال، وفي التشمير المخل، وفي السعة، واللون، والهيئة، والصفة، و كل
ما خرج عن العادة والعرف الشرعي. خرَّج أبو داود بسنده عن ابن عمر يرفعه إلى
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله"، "ثم تلهب
فيه النار". [حسنه الألباني]
قال شيخ الإسلام: وتكره الشهرة من الثياب وهو
المترفع الخارج عن العادة، والمنخفض الخارج عن العادة، فإن السلف كانوا يكرهون
الشهرتين المترفع والمنخفض، وفى الحديث: «من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم
القيامة ثوب مذلة» [صحيح سنن ابن ماجه للألباني]. وخيار الأمور أوساطها والفعل
الواحد في الظاهر يثاب الإنسان على فعله مع النية الصالحة ويعاقب على فعله مع
النية الفاسدة.
قال الشيخ بكر أبوزيد: وتحصل الشهرة بتميز عن المعتاد: بلون،
أو صفة تفصيل للثوب، وشكل له، أوهيئة في اللبس، أو مرتفع أو منخفض عن العادة،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يحرم لبس الشهرة، وهو ما قصد به
الارتفاع، وإظهار الترفع، أو إظهار التواضع والزهد، لكراهة السلف لذلك.
وقال غير واحد من السلف: لباس الشهرة مما يزري بصاحبه ويسقط مروءته.
ويدخل في ثوب الشهرة خلاف زيه المعتاد كمن لبس ثوبا مقلوبا أو تفصيلاً غريباً غير مألوف كما
يفعله بعض أهل الجفاء والسخافة. ويكره لبس خلاف زي أهل بلده ـ إذا كان زيهم
مشروعاً ـ لأنه من الشهرة فإن قصد به الارتفاع أو إظهار التواضع حرم لأنه رياء
ومن راءى؛ راءى الله به ومن سمع؛ سمع الله به. [رواه مسلم]
وسبب المنع من ذلك
ما يشتهر به عند الناس لئلا يكون ذلك سببا إلى حملهم على غِيبَتِهِ فيشاركهم في
إثم الغِيبة كما قاله غير واحد من أهل العلم.
ويلحق بثوب الشهرة أيضاً التنطع
والتكلف في اللباس.
قال شيخ الإسلام: ويكره تقصير الثوب الساتر عن نصف الساق
قال إسحاق بن إبراهيم دخلت على أبي عبد الله وعليَّ قميص قصير أسفل من الركبة و
فوق نصف الساق فقال: أيشٍ هذا، وأنكره. وفي رواية أيشٍ هذا، لِمَ تُشهر نفسك؟
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أنَّ: «حد أُزرة المؤمن بأنها إلى نصف الساق» وأمر
بذلك وفعله، ففي زيادة الكشف تعرية لما يشرع ستره لا سيما إن فعله تدينا، فإن
ذلك تنطع وخروج عن حد السنة واستحباب لما لم يستحبه صلى الله عليه وسلم.
3ـ لبس ما فيه تصاويرومن المحاذير في اللباس أيضاً لبس ما فيه تصاوير لذوات الأرواح، ولقد
شاع ذلك في اللباس حتى رأينا كثيراً من هذه الألبسة التي يلبسها الشباب؛ بل
وبعض الرجال؛ عليها صور ماجنين من المغنين والمغنيات، وشبه ذلك، حتى أن بعضهم
أحياناً يدخلون بها المساجد للصلاة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال البهوتي: ويحرم على ذكر وأنثى لبس ما فيه صورة حيوان لحديث أبي طلحة قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة أو كلب» متفق عليه. وقال شيخ الإسلام: ولا يجوز لبس ما فيه صور الحيوان من الدواب والطير وغير ذلك، ولا يلبسه الرجل ولا المرأة، ولا يعلق ستر فيه صورة وكذلك جميع أنواع اللباس إلا الافتراش فانه يجوز افتراشها، هذا قول أكثر أصحابنا وهو المشهور عن أحمد، قال في رواية صالح:
الصورة لا ينبغي لبسها، وقال في رواية الأثرم: وسُئل عن الستر عليه يكون صورة؟ قال: لا، وما لم يكن له رأس فهو أهون، وإن كان له رأس فلا.
4ـ التشبه بالكفار
اعلم وفقني الله وإياك لمرضاته؛ أن قضية التشبه بالكفار، وخاصة في باب
اللباس، من المسائل الدقيقة التي زلت فيها أقدام، وضلت فيها أفهام، وغالى فيها
أقوام، وتهاون فيها آخرون، والسعيد من تمسك بما دلت عليه النصوص المحكمة من
الكتاب والسنة، والفهم الصحيح للعلماء الربانيين من سلف هذه الأمة، وترك
المتشابه ورده إلى عالمه، وترك التضييق على الأمة بإلزامهم بقول مختلف فيه يتسع
له الدليل والنظر، وأقوال أهل العلم الربانيين المعروف عنهم الاشتغال بالفقه
والأثر، ووجوب التفريق بين فتوى الحلال والحرام، وفتوى الأولى والأورع.
واعلم
أنَّ من اللباس ما هو مختصٌّ بالكفَّار وعلامة لهم؛ كطاقية اليهود، أو عمامة
السيخ، أو لباس الرهبان، ونحو ذلك مما هو مرتبط بدياناتهم وعقائدهم، فهذا لا شك
في تحريم لبسه للمسلمين؛ حتى ولو لم يقصدوا التشبه بالكافرين، على هذا اجتمعت
كلمة أهل العلم المعتبرين.
وهناك من اللباس ما اشتهر في بلاد الكافرين ومنها انتقل إلى ديار المسلمين وصار من لباس العامة، غير أنه مشتمل على محظور من محظورات اللباس، ككونه ضيقاً يصف، أو رقيقاً يشف، أو فيه صلبان أو تصاوير، أو(59/1)
فيه أصناف وأنواع من التفصيل لا تُعرف إلاَّ عند الكفَّار ومن أعجب بهم من فسقة
المسلمين، معروف أن من يتحراها يتشبه بلبس فلان من الساقطين الذين أحدثوها،
فهذا أيضاً لا خلاف في تحريمه ومنعه. ما اللباس المسمى بـ ( البدلة ) والقميص
(الإفرنجي) والبنطال، لكنه بنطال واسع فضفاض يستر العورة، فهذا النوع من اللباس
اختلف فيه العلماء بين مانع ومجيز، وخلاصة القول فيه أن يخرج المسلم من الخلاف،
وأن يبتعد عن هذا اللباس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إلا أن تلجئه الحاجة إليه،
وأن لا ينكر على المخالف، وأن يسعه ما وسع أسلافه من العلماء المتقدمين
والمتأخرين، وأن ذلك من مسائل الخلاف التي لا يصح فيها التهاجر والتفرق
والاختلاف بسببها. وأما رباط العنق (الكرفتَّة أو الببيونة) وما شابههما
فالخلاف في ذلك قوي، والسلامة البعد عن ذلك والفرار منه سواءً قيل إن النصارى
استعاضوه مكان الصليب الذي كان يثقل أعناقهم أم لا.
وانظر ـ رحمني الله وإياك ـ إلى ما أفتى به العلماء المعتبرون في هذا الزمان، في مسألة عظم فيها الخلاف، وكثر فيها الشقاق، وهي مسألة لبس البدلة والبنطال، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم [النساء]. سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء عن حكم لبس البدلة والبنطال؟ فأجابت:(أما لبس البنطلون والبدلة وأمثالهما من اللباس، فالأصل في أنواع اللباس الإباحة، لأنَّهُ من أمور العادات، قال تعالى:
قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية. ويستثنى من ذلك ما دلَّ الدليل الشرعي
على تحريمه أو كراهته كالحرير للرجال، والذي يصف العورة لكونه شفافاً، يرى من ورائه لون الجلد، أو لكونه ضيقاً يحدد العورة، لأنه حينئذ في حكم كشفها، وكشفها لا يجوز، وكالملابس التي هي من سيما الكفار فلا يجوز لبسها لا للرجال ولا للنساء لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم، وكلبس الرجال ملابس النساء ولبس النساء ملابس الرجال لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال.
وليس اللباس المسمى بالبنطلون مما يختصُّ بالكفار، بل هو لباس عام في المسلمين
والكافرين في كثير من البلاد والدول، وإنما تنفر النفوس من لبس ذلك في بعض البلاد ولعدم الإلف ومخالفة عادة سكانها في اللباس، وإن كان ذلك موافقاً لعادة غيرهم من المسلمين.لكن الأولى بالمسلم إذا كان في بلد لم يعتد أهلها ذلك اللباس ألاَّ يلبسه في الصلاة ولا في المجامع العامة ولا في الطرقات. وبالله
التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
«اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء».
5 ـ لبس الحرير
لبس الحرير للرجال حرام بالكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب فعموم الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه انتهوا وأن كلامه وحي من الله قال تعالى: وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى.
وأما السنة فقد استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم لبس الحرير
للرجال والتحذير من ذلك. ن عبد الله بن زرير يعني الغافقي أنه سمع علي بن أبي
طالب رضي الله عنه يقول: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا فجعله في يمينه وأخذ ذهبا
فجعله في شماله ثم قال: «إن هذين حرام على ذكور أمتي». صحيح سنن أبي داود للألباني]
عن نافع أن عبد الله بن عمر أخبره أن عمر بن الخطاب رأى حلة
سِيَرَاءَ من حرير فقال: يا رسول الله، لو ابتعت هذه الحلة للوفد وليوم الجمعة
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة». [رواه
البخاري]
وعن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا
الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في
الدنيا وهي لكم في الآخرة». (متفق عليه).
وعن عمر وأنس وابن الزبير وأبي أمامة
رضي الله عنهم أجمعين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في
الآخرة». (متفق عليه)
أما الإجماع على ذلك فقد نقله غير واحد من الأئمة.
قال شيخ الإسلام: ولبس الحرير حرام على الرجال بسنة رسول الله وإجماع العلماء وإن
كان مبطنا بقطن أو كتان. والعلة في تحريم الحرير على الرجال ذكرها غير واحد من
أهل العلم، واختلفوا في تحديدها.
قال ابن القيم: فإن قيل: فإذا كان لباس الحرير أعدل اللباس وأوفقه للبدن فلماذا حرمته الشريعة الكاملة الفاضلة التي
أباحت الطيبات وحرمت الخبائث؟ يل: هذا السؤال يجيب عنه كل طائفة من طوائف
المسلمين بجواب. منكروا الحكم والتعليل لما رفعت قاعدة التعليل من أصلها لم
تحتج إلى جواب هذا السؤال.(59/2)
ومثبتوا التعليل والحكم وهم الأكثرون منهم من يجيب عن هذا بأن الشريعة حرمته لتصبر النفوس عنه وتتركه لله فتثاب على ذلك لا سيما ولها عوض عنه بغيره.ومنهم من يجيب عنه بأنه خلق في الأصل للنساء كالحلية
بالذهب فحرم على الرجال لما فيه من مفسدة تشبه الرجال بالنساء.
ومنهم من قال: حرم لما يورثه من الفخر والخيلاء والعجب. منهم من قال: حرم لما يورثه للبدن
لملاسته من الأنوثية والتخنث وضد الشهامة والرجولة فإن لبسه يكسب القلب صفة من
صفات الإناث ولهذا لا تكاد تجد من يلبسه في الأكثر إلا وعلى شمائله من التخنث
والتأنث والرخاوة ما لا يخفى، حتى لو كان من أشهم الناس وأكثرهم فحولة ورجولة
فلا بد أن ينقصه لبس الحرير منها وإن لم يذهبها.
ومن غلظت طباعه وكثفت عن فهم هذا فليسلم للشارع الحكيم.
والأصل في المسلم أن يمتثل أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم
وإن لم تظهر العلة وهذا مقتضى التسليم والاستسلام، قال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [الأحزاب].ولما كان الحرير مباحاً
للنساء من أجل الحاجة وهي التزين للزوج؛ كان إباحة الحرير للرجال من أجل الحاجة
كالتداوي من الحكة ونحوها، أو لدفع برد شديد وليس عنده غيره، أو لإرهاب أعداء
الله في القتال إذا كان ذلك يغيظهم، ونحو ذلك مما تدعو إليه الحاجة بشرط أن لا
تتعدى الحاجة موضعها، فقد أباح الشرع ذلك.
قال شيخ الإسلام: وإذا احتاج إلى لبس
الحرير لدفع حر أو برد أو ستر عورة أو تحصن من العدو ولم يقم غيره مقامه أبيح؛
قولاً واحدًا، لأنه إذا أبيح للنساء لعموم حاجتهن إليه للزينة فلأن يباح عند
الضرورة أولى، فإن الضرورة الخاصة أبلغ من الحاجة العامة، ولأنه إذا اضطر إلى
ما حرم من الأطعمة أبيح له فكذلك المحرم من اللباس لأنهما يشتركان في الاضطرار.
وقال ابن القيم: الذي استقرت عليه سنته صلى الله عليه وسلم إباحة الحرير للنساء مطلقا وتحريمه
على الرجال إلا لحاجة أو مصلحة راجحة فالحاجة إما من شدة البرد ولا يجد غيره أو
لا يجد سترة سواه، ومنها إلباسه للحرب والمرض والحكة وكثرة القمل كما دل عليه
حديث أنس.
وكل ما حرم لبسه حرم الاستمتاع به، وافتراشه، والجلوس عليه،
والاستناد إليه، واستعماله كمنديل ومنشفة، ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام: ومن حرم
عليه لبسه حرم عليه سائر وجوه الاستمتاع به مثل الجلوس عليه والاستناد إليه
وتعليقه ستورا، فان لفظ اللباس يشمل ذلك بدليل قول أنس: ولنا حصير قد اسود من
طول ما لبس وقد جاء ذلك صريحا فروى أبو أمامة أنه دخل على خالد بن يزيد فألقى
له وسادة فظن أبو أمامة أنها حرير فتنحى وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يستمتع
بالحرير من يرجو أيام الله». رواه أحمد.
قال أحمد في رواية صالح وجعفر: افتراش
الحرير كلبسه وكذا الاستناد إليه.
وعن ابن سيرين قال: قلت لعبيدة: افتراش
الحرير كلبسه؟ قال: نعم.
والحرير المحرم هو الحرير الطبيعي - حرير دود القز -
وليس الحرير الصناعي، فإن الصناعي ليس بحرير على الصحيح، وإن كان الأولى ترك ما
يشتبه على الناس وترك ما يكون سبباً في افتتانهم، أو وقوعهم في الغيبة.
6 ـ لبس الأحمر المصمت:
قال شيخ الإسلام: ولهذا كره العلماء الأحمر المشبع حمرة كما جاء
النهى عن الميثرة الحمراء، وقال عمر بن الخطاب: دعوا هذه البراقات للنساء
والآثار فى هذا ونحوه كثيرة.
قال البهوتي: ويكره للرجل لبس أحمر مصمت لما ورد
عن عبد الله بن عمر قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل عليه ثوبان، أحمران، فسلم عليه فلم
يرد النبي صلى الله عليه وسلم. [رواه أبو داود، وضعفه الألباني]، قال أحمد يقال أول من لبسه آل
قارون أو آل فرعون. الحمد لله أولا وآخرًا(59/3)
أحكام اللباس لباس النبي صلى الله عليه وسلم
إعداد : محمد فتحي عبدالعزيز
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على
كان هديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي وأحسنه وأعدله، فلباسه أحسن اللباس وأجمله من غير سرف ولا مخيلة.
وقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم ما تيسر له من اللباس؛ من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة، ولبس البرود اليمانية (جمع بُردة، وهي كساء مخطط يًلتحف به)، ولبس الجبة (وهي ثوب سابغ واسع الكُمّين مشقوق المُقَدّم، يُلبس فوق الثياب)، والقباء (ثوب يُلبس فوق الثياب أو القميص ويُتَمنطق عليه أي يُشدَ وَسَطُه بالمِنْطَقَة)، والقميص (لباس يستر البدن كله)، والسراويل (لباس يغطي السُّرة والركبتين وما بينهما)، والإزار (ثوب يحيط بالنصف الأسفل من البدن) والرداء (وهو ما يُلبس فوق الثياب كالجُبْة والعَبَاءة، وهو الثوب يستر الجزء الأعلى من الجسم فوق الإزار)، والخف (ما يُلبس في الرِّجل من جلد رقيق) والنعل، ولبس العمامة وأرخى الذؤابة (وهو طرف العمامة المتدلي).
قال شيخ الإسلام: كان صلى الله عليه وسلم يلبس القميص والعمامة، ويلبس الإزار والرداء، ويلبس الجبة والفروج (أو الفَرَجِيّة: ثوب واسع طويل الكُمَّين يتزيَّى به علماء الدين)، وكان يلبس من القطن والصوف وغير ذلك، لبس في السفر جبة صوف، وكان يلبس مما يجلب من اليمن وغيرها، وغالب ذلك مصنوع من القطن، وكانوا يلبسون من قباطي مصر وهي منسوجة من الكتان، فسنته في ذلك تقتضي أن يلبس الرجل ويطعم مما يسره الله ببلده من الطعام واللباس؛ وهذا يتنوع بتنوع الأمصار. مجموع الفتاوى (ج22 ص311).
وقال العلامة ابن القيم: وكان هديه في لبسه لما يلبسه؛ أنفع شيء للبدن، فإنه لم يكن يطيل أكمامه ويوسعها، بل كان كم قميصه إلى الرسغ، لا تجاوز اليد، فتشق على لابسها، وتمنعه خفة الحركة والبطش، ولا تقصُرُ عن هذه فتبرز للحر والبرد، وكان ذيل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين، لم يتجاوز الكعبين، فيؤذي الماشي ويؤوده، ويجعله كالمقيد، ولم يقصر عن عضلة ساقه فتنكشف فيتأذى بالحر والبرد، ولم تكن عمامته بالكبيرة التي يؤذي الرأسَ حملُها ويضعفه، ويجعله عُرضة للضعف والآفات كما يشاهد من حال أصحابها، ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد، بل وسط بين ذلك. الطب النبوي (ص242).
وقد جمع العلامة ابن القيم هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس في كلام جامع لا مزيد عليه ننقله لعظيم فائدته وشموله.
قال رحمه الله: فصل في ملابسه صلى الله عليه وسلم :
1- كانت له عمامة تسمى السحاب كساها عليًا، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة (لباس للرأس مختلف الأنواع والأشكال)، وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة، وكان إذا اعتم أرخى عمامته بين كتفيه كما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه.
2- ولبس القميص وكان أحب الثياب إليه وكان كمه إلى الرسغ (هو المفصل الذي بين السعد والكف).
3- ولبس الجبة والفروج وهو شبه القباء والفرجية، ولبس القباء أيضًا ولبس في السفر جبة ضيقة الكمين.
4- ولبس الإزار والرداء، قال الواقدي: كان رداؤه وبرده طول ستة أذرع في ثلاثة وشبر، وإزاره من نسج عمان طول أربعة أذرع وشبر في عرض ذراعين وشبر.
ولبس حلة حمراء، والحلة: إزار ورداء، ولا تكون الحلة إلا اسمًا للثوبين معًا، وغلط من ظن أنها كانت حمراء بحتًا لا يخالطها غيره وإنما الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود كسائر البرود اليمنية وهي معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط الحمر، وإلا فالأحمر البحت منهي عنه أشد النهي، ففي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المياثر الحمر، والمياثر: قال ابن حجر: قال أبو عبيد: والمياثر الحمر التي جاء النهي عنها كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير، وتقييدها بالأحمر أخص من مطلق الحرير، فيمتنع وإن كانت حريرًا، ويتأكد المنع إن كانت مع ذلك حمراء. {باختصار من فتح الباري (10-354ظ371}
5- ولبس الخميصة (كساء أسود مُرَبّع) المعلمة والساذجة (غير المنقوشة)، ولبس ثوبًا أسود، ولبس الفروة المكفوفة بالسندس (فروة في أطرافها ديباج رقيق).
6- واشترى سراويل والظاهر أنه إنما اشتراها ليلبسها، وقد روى في غير حديث أنه لبس السراويل وكانوا يلبسون السراويلات بإذنه.
7- ولبس الخفين ولبس النعل الذي يسمى "التاسوسة".
8- ولبس الخاتم واختلفت الأحاديث هل كان في يمناه أو يسراه وكلها صحيحة السند.
9- ولبس البيضة التي تسمى الخوذة، ولبس الدرع التي تسمى الزردية وظاهر يوم أحد بين الدرعين.(60/1)
10- وكان قميصه من قطن وكان قصير الطول قصير الكمين، وأما هذه الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البتة وهي مخالفة لسنته وفي جوازها نظر فإنها من جنس الخيلاء.
11- وكان أحب الثياب إليه القميص والحبرة، وهي ضرب من البرود فيه حمرة.
12- وكان أحب الألوان إليه البياض. وقال: هي من خير ثيابكم فالبسوها وكفنوا فيها موتاكم. {رواه أبو داود (3878) والترمذي (994 <<
13- ولبس خاتمًا من ذهب ثم رمى به، ونهى عن التختم بالذهب ثم اتخذ خاتمًا من فضة ولم ينه عنه، وكان يجعل فص خاتمه مما يلي باطن كفه، وذكر الترمذي أنه كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه. وأنكره أبو داود. زاد المعاد. {ص135- بتصرف يسير ص144}
إذن فقد لبس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سائر الألوان، ولكنه استحب البياض للأحياء والأموات، ولبس سائر اللباس المشروع، ولكنه كان يستحب القميص، فهديه صلى الله عليه وسلم أكمل الهدي وأحسنه.(60/2)
أحكام اللباس (6)
ما يجزئ للرجال من لباس الرجال
إعداد/ محمد فتحي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللَّه وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
تحدثنا في العدد السابق عن محاذير في لباس الرجال وفي هذا العدد نتناول إن شاء الله الحديث عن ما يجزئ من اللباس للرجال، فنقول مستعنين بالله:
اللباس في الصلاة
أقل ما يجزئ المصلي الواجد للباس ثوب واحد يستر به عورته، والأفضل أن يصلي في ثوبين، قميص وسراويل، أو إزار ورداء، وإن زاد على ذلك مثل أن يأخذ ثوبًا أو قلنسوة أو عمامة كان حسنًا.
قال ابن قدامة: وجملة ذلك أن الكلام في اللباس أربعة فصول الفصل الأول فيما يجزئ، والثاني في الفضيلة، والثالث فيما يكره، والرابع فيما يحرم.
وهذا تقسيم في غاية الحسن منه رحمه الله، فإن ستر العورة شرط من شروط صحة الصلاة، فإذا حصل ستر العورة حصل المقصود وهو الإجزاء، غير أن هناك مطلوبًا آخر للصلاة وهو أخذ الزينة.
قال الكاساني: ولأن ستر العورة إن حصل فقد لا تحصل الزينة، وقد قال الله تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد. وروي أن رجلاً سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن الصلاة في ثوب، وقال: أرأيت لو أرسلتك في حاجة أكنت منطلقًا في ثوب واحد ؟ فقال: لا، فقال: الله أحق أن تتزين له.
أما إجزاء الصلاة في الثوب الواحد الذي يستر العورة فهو الموافق للنصوص الصحيحة الصريحة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في ثوب واحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَوَ لِكُلِّكُمْ ثوبان؟».
من الحديث يتبين جواز الصلاة في الثوب الواحد إذا كان يستر العورة.
وهذا القول هو مذهب جماهير العلماء من السلف والخلف.
قال السيوطي: ويستفاد منه - أي من حديث أبي هريرة - الحكم بجواز الصلاة في ثوب واحد وهو مذهب الجمهور من العلماء. انتهى.
قال العيني: كل ما رُوي من منع الصلاة في ثوب واحد فهو محمول على الأفضل لا على عدم الجواز، وقيل هو محمول على التنزيه.
قال ابن قدامة: فإن لم يكن إلا ثوب واحد فالقميص (وهو الثوب ذو الأكمام)؛ لأنه أعم في الستر فإنه يستر جميع الجسد إلا الرأس والرجلين، ثم الرداء (وهو ما يُلبس أعلى الجسم على أن يطول حتى يستر العورة)، لأنه يليه في الستر، ثم المئزر (وهو ما يلبس على أسفل الجسم)، ثم السراويل، ولا يجزئ من ذلك كله إلا ما ستر العورة عن غيره وعن نفسه، فلو صلى في قميص واسع الجيب بحيث لو ركع أو سجد رأى عورته أو كانت بحيث يراها لم تصح صلاته.
وأما الأفضل والأكمل فهو أخذ الزينة للصلاة وهو شيء زائد على ستر العورة.
عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن إلا ثوب واحد فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود».
[أخرجه أبو داود (635)، وصححه الألباني]
وأما المكروه فهو أن يصلي في إزار واحد أو سروال واحد يغطي من السرة إلى الركبة من غير أن يكون على كتفيه شيء؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «نهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء». ولأن ستر العورة إن حصل فقد لا تحصل الزينة التي أمر اللَّه بأخذها.
قال السيوطي: والحكمة في ذلك أن لا يخلو العاتق من شيء لأنه أقرب إلى الأدب وأنسب إلى الحياء من الرب وأكمل في أخذ الزينة والله أعلم. قال النووي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي والجمهور: هذا الأمر للندب لا للوجوب ولو صلى في ثوب واحد ساترًا عورته ليس على عاتقه شيء صحت صلاته مع الكراهة، وأما أحمد وبعض السلف فذهبوا إلى أنه لا يصح صلاته عملاً بظاهر الحديث. أما تغطية الرأس بالقلنسوة أو العمامة فقد استحبه بعض أهل العلم.
قال شيخ الإسلام: ويستحب له أيضا تخمير الرأس بالعمامة ونحوها لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي كذلك وهو من تمام الزينة والله تعالى أحق من تُزين له.
وأما أنه يترتب على كشف الرأس بطلان الصلاة أو كراهتها فقول بعيد مخالف لما عليه جمهور العلماء.
وهناك أمور في لباس الرجل في الصلاة وردت النصوص بالنهي عنها والتحذير منها ومن ذلك:
1- السدل:
وهو وضع الرجل الثوب على كتفيه لا يرد طرفه على كتفه الآخر، أي إرخاء الثوب وإرساله من غير ضم جانبيه؛ وقيل: هو إسبال الثوب على الأرض وقيل: وضعه وسط الرداء على رأسه وإرساله من ورائه على ظهره وهي لبسة اليهود، وقيل: هو وضع الثوب على كتفيه من غير أن يدخل يديه في كُميه، فهو إرسال للثوب من غير أن يلبسه.
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى كراهة السدل في الصلاة.
فإن كان السدل بدون السراويل فكراهته لاحتمال كشف العورة عند الركوع والسجود، وإن كان مع الإزار فكراهته لأجل التشبه بأهل الكتاب.
قال شيخ الإسلام: وعلى هذا فانه يكره السدل سواء كان تحته ثوب أو لم يكن.
2- اشتمال الصماء:
اشتمال الصماء في الصلاة وهو أن يلف بثوب واحد رأسه وسائر بدنه ولا يدع منفذا ليديه(61/1)
قال الجوهري: هي أن يتجلل الرجل بثوبه، ولا يرفع منه جانباً، يكون فيه فرجة فيخرج منها يده، وإنما سُمِّيت صماء لأنه إذا اشتمل بها سَدَّ على يديه المنافذ كلها كالصخرة الصماء التي ليس فيها خرق ولا شق.
واللبسة الأخرى المنهي عنها احتباؤه بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء (والاحتباء هو جلوس الرجل على مقعدته رافعًا ركبتيه أمامه واضعًا قدميه على الأرض ويلف ذراعيه على ركبتيه مشبكًا أصابعه).
وعن جابر بن عبد الله أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترتدوا الصماء في ثوب واحد». [رواه أحمد]، واشتمال الصماء عند أحمد وأصحابه أن يضطبع بالثوب و هو أن يجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن و طرفيه فوق عاتقه الأيسر أو بالعكس- كما يفعل الحاج عند طواف القدوم-.
3- التلثم وتغطية الفم:
يكره للمصلي أن يتلثم بثوب أوعمامة أو أن يغطي فاه لغير ضرورة.
عن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغطي الرجل فاه في الصلاة.[رواه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني]
قال شيخ الإسلام: يكره للمصلي تغطية الوجه سواء كان رجلاً أو امرأة، فيكره النقاب والبرقع للمرأة في الصلاة لأن مباشرة المصلي بالجبهة والأنف إما واجب أو مؤكد الاستحباب، ولأن الرجل إذا قام إلى الصلاة فإن الله تعالى قِبَلَ وجهه وإن الرحمة تواجهه، فينبغي له أن يباشر ذلك بوجهه. وقد كره له تغميض العين فتغطية الوجه أولى، وقد ذكر الفقهاء في كتبهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا غطى لحيته في الصلاة فقال: «اكشف لحيتك فان اللحية من الوجه». ويكره التلثم على الفم لما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى إن يغطي الرجل فاه في الصلاة» [رواه أبو داود و ابن ماجة]
ولأنه تشبه بفعل المجوس في عبادة النيران، ويُخاف معه من ترك تجويد القراءة والذكر والدعاء، وهل يُكره التلثم على الأنف؟ على روايتين: إحداهما: يكره لأن ابن عمر كره تغطية الأنف ولأنه عضو في الوجه يسجد عليه فأشبه الجبهة، ولأن مباشرته إذا قلنا إن السجود عليه واجب أو سنة مؤكدة فان سجد على الحائل كان مكروهًا، وإن حسر اللثام احتاج إلى عمل، ولأنه ربما حصلت معه غنة في الحروف، ولأنه من الوجه وهو أبلغ من اللحية، والثانية: لا يكره تغطيته لأن النهي إنما جاء في الفم.
4- كف الثوب:
أما كف الثوب فهو تشميره أو ضم بعضه إلى بعض حتى لا يسجد معه فقد ورد النهي عنه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولا أكف ثوبًا ولا شعرًا. [متفق عليه]
قال النووي: اتفق العلماء على النهي عن الصلاة وثوبه مشمر أو كُمه أو نحوه أو ورأسه معقوص، أو مردود شعره تحت عمامته أو نحو ذلك، فكل هذا منهي عنه باتفاق العلماء، وهو كراهة تنزيه، فلو صلى كذلك فقد أساء وصحت صلاته، واحتج في ذلك أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بإجماع العلماء وحكى ابن المنذر الإعادة فيه عن الحسن البصري، ثم مذهب الجمهور أن النهي مطلقًا لمن صلى كذلك سواء تعمده للصلاة أم كان قبلها وليس لها، بل لمعنى آخر، قال العلماء: والحكمة في النهي عن كف الثوب والشعر أن الشعر والثوب يسجدان معه، ولهذا مثله بالذي يصلي وهو مكتوف.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.(61/2)
أحكام المحتضر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن ديننا الحنيف قد حثنا على تذكر الموت والاستعداد له بالعمل الصالح وأمرنا أن نكثر من ذكره، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " أكثروا ذكر هاذم اللذات" يعني الموت1.
حسن الظن بالله:
ينبغي أن يذكر المريض سعة رحمة الله، ويحسن ظنه بربه لأن الله -عز وجل- يقول كما في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي"2، وعن جابر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل موته بثلاث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله"3، وعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على شاب وهو في الموت، فقال: "كيف تجدك؟" قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف"4.
ويغلِّب المريض في مثل هذه الحالة جانب الرجاء على جانب الخوف، وأما في حالة الصحة؛ فيكون خوفه ورجاؤه متساويين؛ لأن من غلب عليه الخوف أوقعه في نوع من اليأس، ومن غلب عليه الرجاء؛ أوقعه في نوع من الأمن من مكر الله5.
أما من يحضره من الزائرين فيستحب أن يطمِّعوه في رحمة الله وعفوه، ويذكروه بأن الله رحيم يغفر الذنب ويتجاوز عن السيئات ويعفو عن الزلات.
ما يسن عند الاحتضار
1- تلقين المحتضر "لا إله إلا الله" فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله"6، وذلك لأجل أن يموت على كلمة الإخلاص، فتكون ختام كلامه؛ فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة"7، والعاجز عن الكلام يردد الشهادة في نفسه، ويكون التلقين برفق، ولا يكثر عليه، لئلا يضجر وهو في هذه الحالة8.
2- توجيه المحتضر إلى القبلة:
يوجه المحتضر إلى القبلة مضطجعاً على شقه الأيمن، قال الشوكاني: وقد اختلف في الصفة التي يكون التوجه إلى القبلة عليها، فقيل: يكون مستلقياً ليستقبلها بكل وجهه؛ وقيل: على جنبه الأيمن وهو الأولى9، فعن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة، سأل عن البراء بن معرور؟ فقالوا: تُوفيَ، وأوصى بثلث ماله لك، وأن يوجه للقبلة لما احتضر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أصاب الفطرة، وقد رددت ثلثه على ولده"، ثم ذهب فصلى عليه وقال: "اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك وقد فعلتَ"10.
3- تغميض عينيه إذا مات:
روى مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على أبي سلمة، وقد شق بصره، فأغمضه ثم قال: "إن الروح إذا قبض تبعه البصر".
4- تسجية الميت:
يسن تسجية الميت بثوب صينانة له عن الانكشاف وستراً لصورته المتغيرة عن الأعين، فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين توفي سجي ببرد حبرة11. ويجوز تقبيل الميت، فقد قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن مظعون وهو ميت، وقبل أبو بكر رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بعد موته بين عينيه.
5- المبادرة بتجهيزه:
ينبغي بعد التحقق من موته أن يسارع الولي في تجهيزه، بغسله وتكفينه، والصلاة عليه ودفنه، وذلك حفظاً للميت من التغير، فعن الحصين بن وحوح أن طلحة بن البراء -رضي الله عنه- مرض فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يعوده، فقال: "إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله"12. ولا بأس أن يُنتظر بالميت حتى يحضر وليه أو قريبه إذا لم يخش عليه من التغير13.
6- الإعلام بموت المسلم:
يباح الإعلام بموت المسلم؛ ليبادر بتهيئته، وحضور جنازته، والصلاة عليه، والدعاء له، وأما الإعلام بموت الميت على صفة الجزع وتعداد مفاخره، فذلك من فعل الجاهلية، ومنه حفلات التأبين وإقامة المآتم14.
7- الإسراع بقضاء الدين:
يجب الإسراع بقضاء ديونه سواء كانت لله تعالى من زكاة وحج أو نذر طاعة أو كفارة، أو كانت الديون لآدمي كرد الأمانات والغصوب والعارية، وسواء أوصى بذلك أم لم يوص به؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه"15, أي مطالبة بما عليه من الدين محبوسة، ففي هذا الحث على الإسراع في قضاء الدين على الميت، وهذا فيمن له مال يقضى منه دينه، ومن لا مال له ومات عازماً على القضاء؛ فإن الله يؤدي عنه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله"16.
8- تنفيذ الوصية:
يستحب الإسراع في تنفيذ الوصية؛ لما فيه من تعجيل الأجر، وقد قدمها الله في الذكر على الدين؛ اهتماماً بشأنها؛ وحثاً على إخراجه17.(62/1)
نسأل الله أن يحسن خاتمتنا، وألا يتوفنا إلا وهو راضٍ عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1210).
2 - متفق عليه.
3 - رواه مسلم.
4 - رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الألباني: "حسن صحيح" صحيح الترغيب والترهيب رقم (3383).
5 - راجع: الملخص الفقهي (صـ 211).
6 - رواه مسلم.
7 - رواه أبو داود، وأحمد والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6355).
8 - راجع الملخص الفقهي (صـ 211)، وفقه السنة (1/367).
9 - الدراري المضية (1/293).
10 - رواه البيهقي والحاكم وصححه، وصححه ابن الملقن في تحفة المحتاج رقم (1/580).
11 - متفق عليه.
12 - رواه أبو داود والبيهقي، وضعفه الألباني في "ضعيف أبي داود" (692).
13 - راجع: الملخص الفقهي (صـ 212).
14 - الملخص الفقهي (صـ 212).
15 - رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الترمذي رقم (860)، وصحيح الجامع (6779).
16 - رواه البخاري.
17 - الملخص الفقهي (صـ 213).(62/2)
أحكام تتعلق بالمصحف
الحمد لله رب العالمين، القائل: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُون * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} (77-80) سورة الواقعة، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله - سبحانه وتعالى- أنزل كتابه الكريم على النبي – صلى الله عليه وسلم- ولم يكن مجموعاً حينها في مصحف بل كان محفوظاً في صدور الرجال، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم- كل ما نزلت عليه آيات أمر بكتابتها، فكان القرآن في صحف وأوراق، وكان مرتباً كما هو الآن في سوره وآياته إلا أنه كان في صحف لا في مصحف.
ولما جمع المصحف في عهد عثمان -رضي الله عنه- كان الأمر جديداً بالنسبة للصحابة –رضي الله عنهم-، فأشكلت عليهم أمور تتعلق بكتاب الله في شكله الجديد، فأثروها بعلمهم ونقاشهم، ودرج على ذلك علماء الإسلام من بعدهم، وها نحن - إن شاء الله- في معرض بعض من تلك الأحكام:
أولاً: كتابة المصحف وجمعه:
في المصحف ثلاث لغات: ضم الميم "المُصحف"، وكسرها "المِصحف" وفتحها "المَصحف" فالضم والكسر مشهورتان والفتح ذكرها أبو جعفر النحاس وغيره(1).
عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه-: أن النبي -صلى الله عليه و سلم- قال : (لا تكتبوا عني شيئاً سوى القرآن من كتب عني شيئاً سوى القرآن فليمحه). قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه(2).
وكان بعد أن استشار أبو بكر الصحابة -رضي الله عنهم- في جمعه في مصحف، فأشاروا بذلك، فكتبه في مصحف، وجعله في بيت حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنها-.
فلما كان في زمن عثمان -رضي الله عنه- وانتشر الإسلام، خاف عثمان –رضي الله عنه- وقوع الاختلاف المؤدي إلى ترك شيء من القرآن، أو الزيادة فيه، فنسخ من ذلك المجموع الذي عن حفصة الذي أجمعت الصحابة عليه مصاحفَ، وبعث بها إلى البلدان، وأمر بإتلاف ما خالفها، وكان فعله هذا باتفاق منه ومن على بن أبي طالب وسائر الصحابة -رضي الله عنهم-(3).
وعليه فيستحب كتابة المصحف، وتحسين كتابته وتبيينها وإيضاحها وتحقيق الخط(4).
أخذ الأجرة على كتابة المصحف:
العلماء على قولين:
- الكراهة: وقد جاء عن ابن سيرين أنه قال: نكره لكاتب المصحف أن يأخذ على كتابها أجراً(5).
- الجواز: فعن ابن عباس –رضي الله عنهما- أنه سئل عن أجرة كتابة المصحف فقال: لا بأس إنما هم مصورون، وإنهم إنما يأكلون من عمل أيديهم(6)، وعن مجاهد وابن المسيب والحسن أنهم قالوا: لا بأس به على غير شرط(7).
وأحق الناس بكتابة المصاحف مضر: فقد أخرج ابن أبي داود عن إبراهيم التيمي، قال عبد الله: لا يكتب المصاحف إلا مضري(8).
نقط المصحف:
قال النووي: نقط المصحف وشكله مستحب؛ لأنه صيانة له من اللحن والتحريف (9)، وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط، فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفاً من التغيير فيه وقد أمن ذلك اليوم فلا منع(10).
رسم المصحف:
رسم المصحف يراد به الوضع الذي ارتضاه عثمان -رضي الله عنه- في كتابة كلمات القرآن وحروفه، والأصل في المكتوب: أن يكون موافقًا تمام الموافقة للمنطوق من غير زيادة ولا نقص ولا تبديل ولا تغيير(11). ويجب أن تتَّبع القواعد التي ذكرها العلماء في هذا الباب، ولا يخرج عنها.
ترتيب السور والآيات:
قد وقع خلاف كبير بين العلماء هل هو بالنص أو بالاجتهاد، قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية: ترتيب السور بالاجتهاد لا بالنص في قول جمهور العلماء من الحنابلة والمالكية والشافعية فيجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة(12)، وأما ترتيب آيات السور فهو منزل منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية في الرسم كما قدموا سورة على سورة؛ لأن ترتيب الآيات مأمور به نصاً(13).
ثانياً: بيع المصاحف:
العلماء في حكم بيع المصاحف على ثلاثة أقوال:
- الكراهة مطلقاً، كما جاء عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يشددون في بيع المصاحف، وعن النخعي قال: المصحف لا يباع ولا يورث. وعن ابن المسيب: أنه كره بيع المصاحف، وقال: أعِن أخاك بالكتاب أو هب له.
- كراهة البيع دون الشراء كما جاء عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال اشتر المصاحف ولا تبعها. وعن مجاهد أنه نهى عن بيع المصاحف ورخص في شرائها.
- الجواز مطلقاً، كما جاء عن ابن الحنفية: أنه سئل عن بيع المصحف، قال: لا بأس، إنما تبيع الورق وعن سعيد بن جبير: أنه سئل عن بيع المصاحف، فقال: لا بأس، إنما يأخذون أجور أيديهم(14). وعن الحسن، قال: لا بأس ببيعها وشرائها(15). وغيرهم من السلف جوزوا ذلك؛ للحاجة، ولأنه إنما تباع الورق وعمل اليد(16).
إجارة المصحف:
وفي إجارة المصحف وجهان:(63/1)
- لا تصح إجارته مبنيًا على أنه لا يصح بيعه، إجلالاً لكلام الله وكتابه عن المعارضة به، وابتذاله بالثمن في البيع، والأجر في الإجارة، ومقتضى مذهب أبي حنيفة أنه لا تجوز إجارته؛ لأنه فقط ينظر إليه، ولا يجوز أن يؤجر شيء للنظر.
- تجوز إجارته وهو مذهب الشافعي وأحمد؛ لأنه انتفاع مباح، تجوز الإعارة من أجله، ولأنه يحتاج إليه، فجازت فيه الإجارة، كسائر الكتب والمنافع(17).
ثالثاً: مس المصحف وحمله:
يجوز مس المصحف لكل امرئ مسلم طاهر من الحدث الأصغر والأكبر، وفيما يلي الكلام على كل من هؤلاء:
مس الكافر المصحف:
جوز بعض السلف أن يمس الكافر المصحف بعلاقته(18).
مس المحدث المصحف: فيه أقوال للعلماء:
- يجوز أن يمسه المحدث؛ لما روي عن جماعة من السلف منهم ابن عباس و الشعبي وغيرهما وهو رواية عن أبي حنيفة.
- يمنع مسه على غير وضوء؛ لحديث عمرو بن حزم الذي كتب له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان في كتابه: (ألا يمس القرآن إلا طاهر)(19)، قال به جماعة من الصحابة وهو مذهب الجمهور(20).
- يجوز مس ظاهره وحواشيه، وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر وهو رواية عن أبي حنيفة(21). وقد جوز بعض السلف للجنب والحائض أخذه بعلاقته(22).
مس الصبيان المصحف: فيه قولان:
- المنع؛ اعتبارًا بالبالغ -في حال حدثه-.
- الجواز؛ لأنه لو منع لم يحفظ القرآن؛ لأن تعلمه حال الصغر، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة؛ لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة، جاز أن يحمله محدثًا(23).
مس المستحاضة المصحف:
حكم الاستحاضة ومن به مرض مستديم كسلس البول: أنهم لا يمنعون شيئًا من الأشياء التي يمنعها الحيض والنفاس: كقراءة القرآن ومس المصحف(24)، لكن لا بد أن ينوي استباحة الصلاة أو مس المصحف أو غير ذلك مما يتوقف على الوضوء(25).
حمل المحدث للمصحف: فيه قولان:
- لا يجوز حمل المحدث إياه بعلاقة ولا على وسادة، وهذا مذهب الشافعية والمالكية.
- لا بأس بذلك ولا يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل(26).
تطييب المصحف:
يستحب تطييب المصحف وجعله على كرسي، ويجوز تحليته بالفضة؛ إكرامًا له على الصحيح، وأما بالذهب فالأصح أنه يباح للمرأة دون الرجل، وخص بعضهم الجواز بنفس المصحف دون علاقته المنفصلة عنه والأظهر التسوية.
ويحرم توسد المصحف؛ لأن فيه إذلالاً وامتهانًا، وكذلك مد الرجلين إلى شيء من القرآن(27).
تقبيل المصحف:
في ذلك أقوال:
- يستحب تقبيل المصحف؛ لأن عكرمة بن أبى جهل –رضي الله عنه- كان يقبله، وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود، ولأنه هدية الله لعباده، فشرع تقبيله، كما يستحب تقبيل الولد الصغير. وعن أحمد ثلاث روايات الجواز والاستحباب والتوقف(28).
- لا يستحب لعدم ورود الدليل على ذلك، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: القيام للمصحف وتقبيله لا نعلم فيه شيئًا مأثورًا عن السلف(29).
رابعاً: حرق المصحف ودفنه:
إذا احتيج إلى تعطيل بعض أوراق المصحف لبِلىً ونحوه، فلا يجوز وضعها في شَقٍ أو غيره؛ لأنه قد يسقط، ويوطأ، ولا يجوز تمزيقها لما فيه من تقطيع الحروف، وتفرقة الكلم، وفي ذلك إزراء بالمكتوب.
وفي إتلافها عند الحاجة إليه عدة أقوال:
- غسلها بالماء، وإحراقها بالنار لا بأس؛ فقد أحرق عثمان مصاحف كان فيها آيات، وقراءات منسوخة ولم ينكر عليه، ذكره الحليمي.
- الإحراق أولى من الغسل: لأن الغُسالة قد تقع على الأرض.
- يحرم الإحراق؛ لأنه خلاف الاحترام، جزم به القاضي حسين في تعليقه.
- يكره الإحراق ولا يحرم، ذكره النووي.
- وفي بعض كتب الحنفية أن المصحف إذا بلي لا يحرق بل يحفر له في الأرض ويدفن. وفيه نظر؛ لتعرضه للوطء بالأقدام(30).
السفر بالمصحف إلى أرض العدو:
- يحرم السفر بالقرآن إلى أرض العدو؛ لحديث ابن عمر –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تسافروا بالقرآن؛ فإني لا آمن أن يناله العدو)(31).
- لا يحرم إذا كثر الغزاة، وأُمن استيلاؤهم عليه؛ لقوله: (أن يناله العدو)(32).
الإمامة بالمصحف:
يجوز الائتمام بالمصحف؛ لما روي أن عائشة -رضي الله عنها- كان يؤمها عبد لها في مصحف. وقال الحسن لا بأس أن يؤم في المصحف إذا لم يجد يعني من يقرأ بهم. ومثله عن عطاء والزهري وغيرهم(33).
هذا ما تيسر جمعه من الأحكام المتعلقة بالمصحف باختصار، وإلا فثمت أحكام أخرى مذكورة في كتب أهل العلم.
والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - التبيان في آداب حملة القرآن: (110).
2 - مسند أحمد: (3/12 برقم: 11100).المستدرك على الصحيحين: لأبي عبد الله الحاكم: ط: الأولى دار الكتب العلمية-بيروت ت: مصطفى عبد القادر عطا: (1/216 برقم: 437). وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7434 ).
3 - التبيان في آداب حملة القرآن(110).
4 -الإتقان في علوم القرآن: للسيوطي: (2/453).
5 - المصاحف:لابن أبي داود: (3/133).(63/2)
6 - مشكاة المصابيح: (2/128برقم:2782).
7 - المصاحف: (3/132).
8 - المرجع السابق: (3/135).
9 - الإتقان:(2/456) بتصرف.
10 - التبيان في آداب حملة القرآن: (110).
11 - مناهل العرفان:(1/255).
12 - قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن: لمرعي بن يوسف الكرمي: ط: دار القرآن الكريم - الكويت ت: سامي عطا حسن: (1/232).
13 - فتاوى ابن تيمية:(13/396).
14 - الإتقان: (2/457).
15 - المصاحف: (4/143).
16 - المصاحف: (5/175-177).
17 - المغني لابن قدامة المقدسي: دار الفكر:ط: الأولى: (6/143) بتصرف.
18 - المصاحف: (183-184).
19 - رواه ما لك في الموطأ: (1/199برقم: 469) وابن حبان في صحيحه : (14/501برقم: 6559). وهو حديث صحيح كما ذكر الألباني في صحيح الجامع (7780).
20 - تفسير القرطبي:(17/193) وفتح القدير: (5/227) والإتقان: (2/459).
21 - تفسير القرطبي:(17/193).
22 - المصاحف: (5/184).
23 - تفسير القرطبي:(17/193).
24 - الفقه على المذاهب الأربعة: (1/109).
25 - المرجع السابق: (1/53).
26 -المغني: (1/169).
27 - البرهان في علوم القرآن: (1/478).
28 - الموضع السابق.
29 - مجموع الفتاوى: (23/65).
30 - الإتقان: (2/459) وانظر المصاحف:(5/195).
31 - صحيح مسلم: (3/1490برقم: 1869).
32 - انظر البرهان: (1/478)بتصرف.
33 - المصاحف: (5/192-193).(63/3)
أحكام تسمية المولود
2112
الأبناء, قضايا الأسرة
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
ملخص الخطبة
1- الأسماء التي لا يجوز التسمي بها. 2- أهمية الاسم للمسمى. 3- أحب الأسماء إلى الله. 4- شروط التسمية وآدابها. 4- التحذير من الأسماء الأعجمية والدخيلة.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن الله ائتمننا على هذه الذرية التي رزقنا إياها واسترعانا لها وأمرنا بالقيام بحق تلك الرعاية، وهو سائلنا عن هذه الذرية يوم القيامة هل قمنا برعايتها أم لم نقم؟ ومحاسبنا على ذلك.
وإن لهذه الذرية من أبناء وبنات حقوقاً كثيرة تحتاج إلى خطب عديدة للحديث عنها. لكننا اليوم نقف مع حق واحد من حقوق هذه الذرية، وهذا الحق هو حق التسمية. وأعني بذلك حق اختيار الاسم الحسن للمولود.
ولكن... لماذا الحديث عن هذا الأمر في خطبة جمعة؟ ولعلنا نجد الإجابة على هذا السؤال المهم في ثنايا الخطبة.
إخوتي في الله لنعلم أن الاسم عنوان المسمى ودليل عليه وضرورة للتفاهم معه ومنه وإليه، وهو للمولود زينة ووعاء، وشعار يدعى به في الآخرة والأولى وإشارة إلى الدين و إشعار بأنه من أهله، وانظر إلى من يدخل في دين الله ـ الإسلام. كيف يغير اسمه إلى اسم شرعي لأنه شعار لصاحبه. ثم هو رمز يعبر عن والده ومعيار دقيق لديانته.
ولهذا صار من يملك حق التسمية وهو الأب مأسوراً في قالب الشريعة ولسانها العربي المبين حتى لا يجني على مولوده باسم يشينه.
ومن أبرز سماته أن لا يكون في الاسم تشبه بأعداء الله، ذلك النوع من الاسماء الذي تسابق إليه بعض أهل ملتنا نتيجة اتصال المشارق بالمغارب وغفلة بعض المسلمين وجهل آخرين، وسبحان الله كم وقع في حبائل مثل هذه التسميات من أناس. إلا أنه يرثى لحالهم إذ كيف تراه متسلسلاً من أصلاب إسلامية كالسبيكة الذهبية ثم تموج به الأهواء فيصبغ مولوده بهدية أجنبية، مسمياً له بأسماء قوم غضب الله عليهم من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر.
فعلى المسلمين عامة العناية بتسمية مواليدهم بما لا يخالف الشريعة بوجه ولا يخرج عن لغة العرب. أما تلك الأسماء الأعجمية المولدة لأمم الكفر المرفوضة لغة وشرعاً فينبغي علينا البعد عنها والتحذير منها.
وعلينا جميعاً أن نتقي الله ونلتزم بأدب الإسلام وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وأن لا يؤذوا السمع والبصر بتلكم الأسماء المرذولة وأن لا يؤذوا أولادهم بها، فيحجبوا بذلك عنهم زينتهم من الأسماء الشرعية.
وعجيب والله أن ترى الآباء المسلمين يتهافتون على تسمية الأبناء بأسماء أعداء الله. وإذا كان الكتاب يقرأ من عنوانه فإن المولود يعرف دينه من اسمه، فكيف نميز أبناء المسلمين وفينا من يسميهم بأسماء الكافرين.
وعجيب اختيار تلك الأسماء الأعجمية والخروج عن لغة العرب ولغة القرآن وكأنها ضاقت علينا لغتنا نحن العرب لغة القرآن فلم نجد فيها ما يتسع لاسم مولود.
وقديماً قال بعضهم يهجو رجلاً اسمه خنجر: أمن عوز الأسماء سميت خنجراً. ونحن نقول للمتهافتين على تلك الأسماء:
أمن عوز الأسماء سميت فالياً وشر سمات المسلمين الكوافر
وأعجب من هذا أنك لا ترى منتشراً في الكافرين من يتسمى بالأسماء الخاصة بالمسلمين إلا أن هذه عزة الكافر وهي مرذولة، أما عزة المسلم فهي محمودة فكيف نفرط فيها.
وعليه فهذه كلمات ضابطة نهديها لكل مسلم له مولود لتدله على هدي النبوة وأنوارها وميدان العربية ولسانها في تسمية المولود وله من عاجل البشرى في ذلك أجر ومثوبة على حسن الاختيار وفضل الاقتداء بالإسلام والسنة لكي ننتشله من دائرة التبعية الماسخة والمتابعة المذلة في أدواء المشابهة والأسماء الغثة المائعة، وتلك التي قد يبدو لها بريق وجرس وهي تحمل معاني سيئة مخذولة.
وأول الأصول في تسمية المولود: أهمية الاسم. وقديماً قيل الأسماء قوالب للمعاني ودالة عليها. ومن المنتشر قولهم: "لكل مسمى من اسمه نصيب".
واعلم أخي الكريم أن للاسماء تأثيراً في المسميات من الحسن والقبح والخفة والثقل. فأحسن بارك الله فيك في اختيار اسم حسن لمولودك في لفظه ومعناه. والاسم يربط المولود بهدي الشريعة وآدابها ويكون الوليد مباركاً فيذكر اسمه بالمسمى عليه من نبي أو عبد صالح يحصل فضل الاقتداء بالسلف الصالح.
وفيه إشباع لنفس المولود بالعزة والكرامة فإنه إذا كبر وسأل: لماذا سميتني بهذا الاسم؟ ولماذا اخترت هذا الاسم؟ وما معناه؟ وجدت لذلك جواباً شافياً إن كنت أحسنت الاختيار أو تقع في ورطة إن كنت أسأت الاختيار.
الأصل الثاني في التسمية وقت التسمية: وقد جاءت السنة في ذلك على ثلاثة وجوه:
1- تسميته يوم ولادته.
2- تسميته إلى ثلاثة أيام من ولادته.
3- تسميته يوم السابع.
وهو اختلاف تنوع يدل على أن في الأمر سعة.
الأصل الثالث: التسمية حق للأب وكم وقع البلاء بسبب تسمية النساء.(64/1)
الأصل الرابع: مراتب الأسماء في الأفضلية .. ((أحب الأسماء عبد الله وعبد الرحمن)) التسمي بأسماء الأنبياء ورد الحديث بذلك عند أبي داود والترمذي. التسمي بأسماء الصالحين من المسلمين (الصحابة والتابعين).
الأصل الخامس: شروط التسمية وآدابها:
الشرط الأول: أن يكون عربياً.
الثاني: أن يكون حسن المبنى والمعنى، وهذا أخذ من تغيير الرسول صلى الله عليه وسلم لأسماء كثير من أصحابه.
الأصل السادس: الأسماء المحرمة.
1- كل اسم عبد لغير الله.
2- التسمية باسم من أسماء الله تبارك وتعالى مما يختص به الرب سبحانه مثل: الرحمن الرحيم الخالق البارئ، وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم ما وقع من التسمية بذلك.
3- التسمية بالأسماء الأعجمية المولدة للكافرين الخاصة بهم.
4- التسمي بأسماء الأصنام المعبودة من دون الله ومنها: اللات، العزى، إساف، نائلة، هبل.
5- كل اسم فيه دعوى ما ليس لمسمى فيحمل الدعوى والتزكية والكذب. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك)) [في الصحيحين].
6- التسمية بأسماء الشياطين مثل: خنزب والولهان والأعور والأجدب.
الأصل السابع: المخرج من الأسماء المحرمة والمكروهة التغيير.
هذه عباد الله معالم في تسمية الأبناء وأنتم أيها الأباء مسئولون عن هذا أمام الله جل وعلا وتلك أمانة ائتمنكم الله عليها، فإياكم والتفريط.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، والحمد لله على ما قدره بحكمته من دقيق الأمر وجله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
وبعد:
فإن مما ابتليت به هذه الأمة في زماننا هذا ذلك التقليد المقيت والمتابعة المذمومة لأمة الكفر في لهفة عجيبة وسعار غريب لكل ما يرد إلينا من تقاليد وعادات، وأفكار وترهات، يندفع إليها أبناء أمتنا اندفاع الظمآن للماء البارد في القيظ. ومما حصل فيه المتابعة تلك الأسماء المرذولة المبنى، الخالية من المعنى، التي إن دلت على شيء فإنما تدل على فقد الشخصية الإسلامية عند من سمى أو تسمى.
إخوة الإيمان، لقد انتشرت أسماء أعجمية غريبة عند بعض المسلمين هداهم الله، ولا سيما في أوساط النساء من مثل شيريهان، شيرين، جولي، ديانا، سوزان، لارا. وطائفة أخرى تافهة لا معنى لها من مثل زوزو، فيفي، ميمي، وغير ذلك. كل تلك الأسماء لم تكن لتوجد لو أن الأب - وهو الذي سمى- التزم بالأدب الشرعي في تسمية مولوده.
وهذا البلاء اخوة الإيمان هو أحد إفرازات التموجات الفكرية التي ذهبت ببعض الآباء كل مذهب، كل بقدر ما تأثر به من ثقافة وافدة.
أيها المؤمن، إن حجب الاسم الشرعي عن المولود سابقة لتفريغه من ذاتيته، وانقطاع للعنوان الإسلامي في عمود نسبه، فضلاً عما يتبع ذلك من الإثم والجناح.
إننا عباد الله نحمل تراثاً مجيداً في هذا الجانب المهم الذي هو جزء من الهوية الإسلامية التي يتميز بها المسلم. فكيف نرضى بالتنازل عن هويتنا فنلبس لباس غيرنا ونتدثر بدثار عدونا.
فأين اليوم تلك الأسماء التي دلنا عليها رسولنا ، ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)) وعند أبي داود عن أبي وهب الجشمي وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة)).
فأين هذه الأسماء اليوم؟ أين عبدالله؟ وأين عبدالرحمن؟ وأين الحارث؟ وأين همام؟ وأين أسماء الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه.
وأين في أسماء النساء خديجة وعائشة وحفصة وميمونة وفاطمة وغيرها من أسماء الصحابيات رضي الله عنهن وأرضاهن؟
لقد اختفت هذه الأسماء من واقعنا اليوم وحلت محلها تلك الأسماء الرخوة التافهة معنى ومضموناً.
فيا أيها الآباء هذه مسئوليتكم وتلك مهمتكم فاتقوا الله في هذه الذرية واختاروا لهم الأسماء الإسلامية العربية التي تحمل المعنى الجميل وتدل على الهوية الإسلامية، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.(64/2)
أحكام لباس المرأة المسلمة وزينتها
دار الوطن
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، أما بعد:
أختي المسلمة:
للناس في دروب الحياة، وشعابها غايات شتى، وأهداف متعددة وآمال متغايرة. فمنهم من يريد المال، فتجده ينفق ساعات عمره وأيامه في جمعه، ولا يبالي أمِنْ حلال أم من حرام. ومن الناس من غايته اللهو واللعب والسفر والتجوال بحثاً عن المتعة أينما وجدت، ومن النساء من غايتها تضييع الوقت وإهدار ساعات العمر فيما يغضب الله عز وجل من مجالس السوء التي فيها الغيبة والنميمة والكذب والاستهزاء بالآخرين، فإذا نُصحت إحداهن قالت: وماذا نفعل، إننا نتسلى ونوسِّع صدورنا !! ومنهنَّ من غايتها الأكل والشرب وقضاء الوطر، ثم إنها لا تعرف شيئاً بعد ذلك عن صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا حج، وكأنها تقول بلسان الحال: [المؤمنون:37]، أو تقول: ما الأمر إلا أرحام تٌدفع، وأرضٌ تبلع !!
وهؤلاء جميعاً مآلهم الشقاء، ونهايتهم الحسرة والندم: [طه:124-126]. [النازعات:37-39].
أما أنت أيتها الأخت الفاضلة، فغايتك سامية وهدفك نبيل، إن غايتك هي رضا الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، والنجاة من النار والفوز بالجنة [النازعات:40-41]. من أجل ذلك – أختي المسلمة – فإنكِ دائماً تتطلعين إلى معرفة أحكام الله عز وجل فيما يخصك من أمور.
وهذه الصفحات سوف نجعلها للحديث عن ضوابط لباس المرأة وزينتها وتحدثها مع الرجال الأجانب، وذلك لأن اللباس والزينة من أعظم الأسلحة التي حوربت بها المرأة – بل الأمة كلها – في هذا العصر، وكان من نتائج ذلك أن تجاوزت كثير من النساء حدود الإسلام في اللباس والزينة بصورة كبيرة – ولهذا التجاوز أسباب منها:
1- أن المرأة مفطورة على حب الحليّ والزينة كما قال تعالى: [الزخرف:18]، ولكن ينبغي أن يكون ذلك وفق الضوابط الشرعية حتى لا يكون سبيلاً إلى معصية.
2- خفة التديُّن واتباع الهوى وعدم مراقبة الله تعالى لدى كثير من النساء.
3- طول الأمل ونسيان أن الموت يأتي بغتة.
4- التعلق بآيات وأحاديث الرجاء والعفو وسعة الرحمة، ونسيان أنه تعالى شديد العقاب.
5- ارتياد المرأة أماكن التجمعات العامة لغير حاجة كالأسواق.
6- الاهتمام بمجلات وبيوت الأزياء.
7- سلبية بعض الأولياء والأزواج، فلا تجد المرأة من أحدهم نصحاً أو إرشاداً أو اعتراضاً على ما ترتديه.
8- سوء عشرة بعض الأزواج لزوجاتهم، وهجرانهم لهن.
9- صديقات السوء.
10- التشجيع والثناء من بعض من لا خلاق لهم.
الفتاوى
سُئل الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله: هل المعنى الحقيقي لكلمة "الحجاب" في الإسلام هو أن لا يظهر من المرأة سوى وجهها ويديها أم هناك معنى أوسع وأعمق لكلمة الحجاب في الإسلام؟
فأجاب: الحجاب في الإسلام بيَّنه القرآن وهو: أن المرأة المسلمة ينبغي أن تكون عفيفة، وأن تكون ذات مروءة، وأن تكون بعيدة عن مواطن الشبه، بعيدة عن اختلاطها بالرجال، الأجانب،هذا هو معنى الحجاب بالإضافة إلى ستر وجهها ويديها عن الرجال الأجانب، لأن محاسنها وجمالها هو في وجهها، والحجاب وسيلة، والغاية من تلك الوسيلة هو محافظة المرأة على نفسها والبقاء على مروءتها وعفافها وإبعادها عن مواطن الشبه، وألا تفتتن بغيرها وألا يفتتن غيرها بها، فإن محاسنها وجمالها كله في وجهها، والله أعلم. [نور على الدرب]
حكم لبس النقاب والبرقع واللثام
سؤال: في الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة بين أوساط النساء بشكل ملفت للنظر، وهي ما يسمى بالنقاب، ففي بداية الأمر كان لا يظهر من الوجه إلا العينان فقط ؛ ثم بدأ النقاب بالاتساع شيئاً فشيئاً، فأصبح يظهر مع العينين جزء من الوجه مما يجلب الفتنة؛ ولا سيما أن كثير من النساء يكتحلن عند لبسه، وهن - أي النساء - إذا نوقشن في هذا الأمر احتججن بأن فضيلتكم قد أفتى بأن الأصل فيه الجواز، فنرجو توضيح هذه المسألة بشكل مفصل وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: لا شك أن النقاب كان معروفاً في عهد النبي : في المرأة إذا أحرمت: { لا تنتقب } فإن هذا يدل على أن من عادتهن لبس النقاب، ولكن في وقتنا هذا لا نفتي بجوازه ؛ بل نرى منعه، وذلك لأنه ذريعة إلى التوسع فيما لا يجوز، وهذا أمر كما قال السائل مشاهد، ولهذا لم نفت امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب أو البرقع في أوقاتنا هذه ؛ بل نرى أن يمنع منعاً باتًّا، وأن على المرأة أن تتقي ربَّها في هذا الأمر، وألا تنتقب، لأن ذلك يفتح باب شر لا يمكن إغلاقه فيما بعد. [ابن عثيمين – فتاوى نسائية]
حكم لبس العباءة المطرزة
سؤال: ما حكم لبس العباءة التي في أطرافها أو أكمامها قيطان أو غيره؟(65/1)
الجواب: محرم حيث إنه يؤدي إلى الفتنة. فيا أختي المسلمة حكِّمي عقلك وفكري ومعِّني في لبسك للعباءة، فهل يُعقل أن تستري الزينة بزينة أخرى، وهل شُرع الحجاب إلا لإخفاء تلك الزينة؟!! فلنكن على بينة من أمرنا. ولنعلم أن أعداء الإسلام يحيكون ضدنا مؤامرة على الحجاب. فيا أيتها المسلمة أنقذي نفسك فإن متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى، فلا تغتري بمالك ولا جمالك، فإن ذلك لا يغني عنك من الله شيئاً !! وأني أنذرك وأحذرك بأن النبي قال في النساء وأنت إحداهن: { اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء } وأنقذي نفسك من النار، واعلمي أنك أعجز من أن تطيقي عذاب النار، فإن الجبال لو سيرت في النار لذابت، فأين أنت من الجبال الراسيات والصم الشامخات؟ أنقذي نفسك من النار واستجيبي لمنادي الحق، واعلمي أن من ترك شيئاً لله عوَّض الله خيراً منه. وأن الآخرة هي مسعانا وإن طالت الآمال في الدنيا، فماذا تريدين من هذه العباءة المزركشة التي تشترينها بالمئات وأنت توضعين في القبر في كفن من أرخص الأقمشة، فهل تنفعك هذه العباءة في ظلمة القبر؟!! فتذكري نفسك وأنت في هذا الموضع. [الشيخ ابن عثيمين، فتاوى المرأة]
حكم لبس القصير والضيق من الثياب
سؤال: إن بعض الناس اعتادوا إلباس بناتهم ألبسة قصيرة وألبسة ضيقة تبين مفاصل الجسم، سواء كانت للبنات الكبيرات أو الصغيرات. أرجو توجيه نصيحة لمثل هؤلاء.
الجواب: يجب على الإنسان مراعاة المسئولية، فعليه أن يتقي الله ويمنع كافة من له ولاية عليهن من هذا الألبسة، فقد ثبت عنه قال: { ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء } [متفق عليه]، ففتنة النساء عظيمة لا يكاد يسلم منها أحد. [ابن عثيمين – منار الإسلام]
حكم لبس الكعب العالي ووضع المناكير
سؤال: ما حكم لبس الكعب العالي، وما حكم وضع المناكير؟
الجواب: لبس الكعب العالي محرم ؛ لأنه من التبرج الذي نهى الله عنه بقوله لنساء النبي وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى : { واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء }، ولا شك أن كل لباس يلفت النظر وتحصل به الفتنة فإنه حرام. ومعلوم أن هذا اللباس المعروف بالكاب فيه تشبه بالرجال، وفيه بيان محاسن المرأة ومفاتنها وحجم أعضائها، وكل ذلك من الأدلة على منعه والنهي عنه. وكذلك لبس النقاب الذي تبدي منه المرأة بعض وجهها كالأنف والحاجب والوجنتين، وذلك من أسباب تحديق النظر نحوها، فهو فتنة ووسيلة إلى الفساد، فهو حرام لما يسببه من الشرور والمنكرات. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [ابن جبرين – وقفات مع فتيات]
حكم التبرج أمام النساء
سؤال: شوهد أخيراً في مناسبات الزواج قيام بعض النساء بلبس الثياب التي خرجن بها عن المألوف في مجتمعنا، معللات بأن لبسها إنما يكون بين النساء فقط وهذه الثياب فيها ما هو ضيق يحدد مفاتن الجسم، ومنها ما هو مفتوح من أعلى أو أسفل بدرجة يظهر من خلالها جزء من الصدر أو الظهر، ومنها ما يكون مشقوقاً من الأسفل إلى الركبة أو قريب منها، أفتونا عن الحكم الشرعي في لبسها، وماذا على الولي في ذلك؟
الجواب: ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة : { صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا }. فقوله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ : { أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا صلاة العشاء }، ولكن لا بأس أن تأتي بالبخور لتطيب المسجد.
أما بالنسبة للزينة التي تظهرها للنساء فإن كل ما اعتيد بين النساء من الزينة المباحة فهي حلال، وأما التي لا تحل كما لو كان الثوب خفيفاً جداً يصف البشرة، أو كان ضيقاً جداً يبين مفاتن المرأة، فإن ذلك لا يجوز لدخوله في قول النبي ورضي الله عنهن: [الأحزاب:32]، والقول المعروف ما يعرفه الناس وبقدر الحاجة، أما ما زاد عن ذلك بأن كان على طريق الضحك والمباسطة، أو بصوت فاتن، أو غير ذلك، أو أن تكشف وجهها أمامه، أو تكشف ذراعيها أو كفيها ؛ فهذه كلها محرمات ومنكرات من أسباب الفتنة، ومن أسباب الوقوع في الفاحشة.
فيجب على المرأة المسلمة التي تخاف الله عز وجل أن تتقي الله، وألا تكلم الرجال الأجانب بكلام يطمعهم فيها ويفتن قلوبهم، تجتنب هذا الأمر، وإذا احتاجت إلى الذهاب إلى متجر أو إلى مكان فيه الرجال، فلتحتشم ولتتستر وتتأدب بآداب الإسلام، وإذا كلمت الرجال فلتكلمهم الكلام المعروف الذي لا فتنة ولا ريبة فيه. [المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان]
حكم لبس البنطلون(65/2)
سؤال: ما حكم لبس البنطلون للفتيات عند غير أزواجهن؟
الجواب: لا يجوز للمرأة عند غير زوجها مثل هذا اللباس ؛ لأنه يبين تفاصيل جسمها، والمرأة مأمورة أن تلبس ما يستر جميع بدنها ؛ لأنها فتنة وكل شيء يبين من جسمها يحرم إبداؤه عند الرجال أو النساء أو المحارم وغيرهم إلا الزوج الذي يحل له النظر إلى جميع بدن زوجته، فلا بأس أن تلبس عنده الرقيق أو الضيق ونحوه والله أعلم. [ابن جبرين – النخبة من الفتاوى النسائية]
حكم قص شعر الفتاة إلى كتفيها للتجميل واستعمال أدوات التجميل
سؤال: ما حكم قص شعر الفتاة إلى كتفيها للتجميل سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة، وما حكم استعمال أدوات التجميل المعروف للتجمل للزوج؟
الجواب: قص المرأة لشعرها إما أن يكون على وجه يُشبه شعر الرجال. فهذا محرم ومن كبائر الذنوب، لأن النبي لعن النامصة والمتنمصة. وكذلك وشر المرأة أسنانها للتجميل محرم ملعون فاعله. [أسئلة مهمة – للشيخ ابن عثيمين]
حكم تخفيف الحاجب وتطويل الأظافر ووضع المناكير
سؤال:
1- ما حكم تخفيف الشعر الزائد من الحاجب؟
2- ما حكم تطويل الأظافر ووضع مناكير عليها مع العلم بأنني أتوضأ قبل وضعه ويجلس 24 ساعة ثم أزيله؟
3- هل يجوز للمرأة أن تتحجب دون أن تغطي وجهها إذا سافرت للخارج؟
الجواب:
1- لا يجوز أخذ شعر الحاجبين ولا التخفيف منها، لما ثبت عن النبي صلى الله علية وسلم أنه لعن النامصة والمتنمصة. وقد بين أهل العلم أن أخذ شعر الحاجبين من النمص.
2- تطويل الأظافر خلاف السُنة، وقد ثبت عن النبي قال: { وقَّت لنا رسول الله وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ في المرأة إذا أحرمت لا تلبس القفازين و هذا يدل على أن من عادتهن لبس ذلك. [ابن عثيمين - دليل الطالبة المؤمنة]
حكم لبس العدسات اللاصقة بقصد الزينة
سؤال: ما حكم لبس بعض النساء للعدسات اللاصقة الملونة بقصد الزينة؟ كأن تلبس لباساً أخضر فتضع عدسات خضراء.
الجواب: لا يجوز هذا إذا كان بقصد الزينة، فإنه من تغيير خلق الله، ولا فائدة فيه للبصر، وربما قلل بصر العين حيث تعرض للعبث بها بالإلصاق وما بعده، ثم هو تقليد للغرب دون هائدة، ولا جمال أحسن من خلق الله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [ابن جبرين - النخبة من الفتاوى النسائية]
حكم المراسلة يبن الشباب والشابات
سؤال: إذا كان الرجل يقوم بعمل المراسلة مع المرأة الأجنبية وأصبحا متحابين هل يعتبر هذا العمل حراماً؟!
الجواب: لا يجوز هذا العمل لأنه يثير الشهوة بين الاثنين، ويدفع الغريزة إلى التماس اللقاء والاتصال، وكثيراً ما تحدث تلك المغازلة والمراسلة فتناً وتغرس حب الزنى في القلب، مما يوقع في الفواحش أو يسببها، فننصح من أراد مصلحة نفسه وحمايتها عن المراسلة والمكالمة ونحوها، حفظاً للدين والعرض والله الموفق. [ابن جبرين - فتاوى المرأة المسلمة]
حكم المكالمات الهاتفية بين الشباب والفتيات
سؤال: ما حكم فيما لو قام شاب غير متزوج وتكلم مع شابة غير متزوجة في التليفون؟
الجواب: لا يجوز التكلم مع المرأة الأجنبية بما يثير الشهوة كمغازلة وتغنج وخضوع في القول، سواء كان في التليفون أو في غيره لقوله تعالى: [الأحزاب:32]، فأما الكلام العارض لحاجة فلا بأس به إذا سلم من المفسدة ولكن بقدر الضرورة. [ابن جبرين –فتاوى المرأة]
حكم جلوس المرأة مع أخي زوجها
سؤال: تطلب مني أم زوجي أن أجلس مع أبنها - أخي زوجي - بالعباءة والغطاء أمام التلفزيون وحين يشربون الشاي فأرفض وينتقدونني، فهل أنا على حق أم لا؟!
الجواب: يحق لك الامتناع من الجلوس معهم في تلك الحال لما في ذلك من أسباب الفتنة، فأخو زوجك الذي لا يزال عزباً يعتبر أجنبياً فيعتبر سماعه لصوتك ورؤيته لشخصك من أسباب الفتنة وهكذا نظرك إليه.
حكم مصافحة غير المحارم
سؤال: نحن في قرية لها عادات سيئة من ذلك مثلاً أنه إذا جاء ضيف إلى المنزل فإن الكل يصافحونه ذكوراً وإناثاً فإذا امتنعت عن ذلك قالوا عني أنني شاذة فما الحكم؟(65/3)
الجواب: الواجب على المسلم أن يطيع الله عز وجل بامتثال أمره والبعد عن نهيه، والمتمسك بذلك ليس شاذاً، بل الشاذ هو الذي يخالف أوامر الله، وهذة العادة - المسئول عنها - عادة سيئة، فمصافحة المرأة للرجل غير المحرم سواء أكانت من وراء حائل أو مباشرة حرام، لما يفضي إليه الملمس من الفتنة، وقد وردت في ذلك أحاديث في الوعيد وإن كانت غير قوية السند، ولكن المعنى يؤيدها - والله اعلم - وأقول للسائلة: لا تصغي لذم أهلها، بل الواجب عليها أن تنصحهم بأن يقلعوا عن هذه العادة السيئة وأن يعملوا بما يرضي الله ورسوله. [ابن عثيمين - فتاوى المرأة المسلمة]
حكم شراء مجلات الأزياء
سؤال: ما حكم شراء مجلات عرض الأزياء للاستفادة منها في بعض موديلات ملابس النساء الجديدة والمتنوعة؟ وما حكم اقتنائها بعد الاستفادة منها وهي مليئة بصورة النساء؟
الجواب: لاشك أن شراء المجلات التي ليس بها إلا صور محرم ؛ لأن اقتناء الصور حرام ؛ لقول الرسول لما شاهد الصورة في النمرقة عند عائشة وقف ولم يدخل، وعُرفت الكراهية في وجهه، وهذه المجلات التي تعرض الأزياء يجب أن ينظر فيها، فما كل زيّ يكون حلالاً، قد يكون هذا الزيُّ متضمناً لظهور العورة، أما لضيقه أو لغير ذلك، وقد يكون هذا الزيُّ من ملابس الكفار التي يختصون بها، والتشبه بالكفار محرم ؛ لقول الرسول : { لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم }. وهو أخطر من كثير من الخلوات التي لا إشكال فيها ؛ لأن هذا السائق بيده التصرف في السيارة المركوبة فيمكنه أن يذهب بها إلى حيث شاء ثم يلجأها إلى ما يريد من الشر، وكذلك هي ربما تكون فاسدة أو يغريها الشيطان بسبب خلوتها مع هذا الرجل فتدعوه إلى أن يخرج بها إلى مكان ليس حولهما أحد، فيحصل الشر والفساد.
أما إذا كان معها امرأة أخرى وكان السائق أميناً فإن هذا لا بأس به ؛ لأن هذا لا يُعد خلوة. وعلى هذا فالواجب على المرأة إذا كانت تحتاج أن تذهب إلى السوق أو المدرسة أن تصطحب معها امرأة أخرى إذا لم يكن هناك محرم، ولا بد أن يكون المحرم بالغاً عاقلاً، فمن دون البلوغ لا يكفي أن يكون محرماً، وكذلك من لا عقل له، والواجب على النساء وأولياء أمورهن أن يتقين الفتنة وأسبابها حتى لا يحصل الشر والفساد. [ابن عثيمين – دليل الطالبة المؤمنة]
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=73 ...(65/4)
أحكام لباس المرأة المسلمة وزينتها
دار الوطن
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، أما بعد:
أختي المسلمة:
للناس في دروب الحياة، وشعابها غايات شتى، وأهداف متعددة وآمال متغايرة. فمنهم من يريد المال، فتجده ينفق ساعات عمره وأيامه في جمعه، ولا يبالي أمِنْ حلال أم من حرام. ومن الناس من غايته اللهو واللعب والسفر والتجوال بحثاً عن المتعة أينما وجدت، ومن النساء من غايتها تضييع الوقت وإهدار ساعات العمر فيما يغضب الله عز وجل من مجالس السوء التي فيها الغيبة والنميمة والكذب والاستهزاء بالآخرين، فإذا نُصحت إحداهن قالت: وماذا نفعل، إننا نتسلى ونوسِّع صدورنا !! ومنهنَّ من غايتها الأكل والشرب وقضاء الوطر، ثم إنها لا تعرف شيئاً بعد ذلك عن صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا حج، وكأنها تقول بلسان الحال: [المؤمنون:37]، أو تقول: ما الأمر إلا أرحام تٌدفع، وأرضٌ تبلع !!
وهؤلاء جميعاً مآلهم الشقاء، ونهايتهم الحسرة والندم: [طه:124-126]. [النازعات:37-39].
أما أنت أيتها الأخت الفاضلة، فغايتك سامية وهدفك نبيل، إن غايتك هي رضا الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، والنجاة من النار والفوز بالجنة [النازعات:40-41]. من أجل ذلك – أختي المسلمة – فإنكِ دائماً تتطلعين إلى معرفة أحكام الله عز وجل فيما يخصك من أمور.
وهذه الصفحات سوف نجعلها للحديث عن ضوابط لباس المرأة وزينتها وتحدثها مع الرجال الأجانب، وذلك لأن اللباس والزينة من أعظم الأسلحة التي حوربت بها المرأة – بل الأمة كلها – في هذا العصر، وكان من نتائج ذلك أن تجاوزت كثير من النساء حدود الإسلام في اللباس والزينة بصورة كبيرة – ولهذا التجاوز أسباب منها:
1- أن المرأة مفطورة على حب الحليّ والزينة كما قال تعالى: [الزخرف:18]، ولكن ينبغي أن يكون ذلك وفق الضوابط الشرعية حتى لا يكون سبيلاً إلى معصية.
2- خفة التديُّن واتباع الهوى وعدم مراقبة الله تعالى لدى كثير من النساء.
3- طول الأمل ونسيان أن الموت يأتي بغتة.
4- التعلق بآيات وأحاديث الرجاء والعفو وسعة الرحمة، ونسيان أنه تعالى شديد العقاب.
5- ارتياد المرأة أماكن التجمعات العامة لغير حاجة كالأسواق.
6- الاهتمام بمجلات وبيوت الأزياء.
7- سلبية بعض الأولياء والأزواج، فلا تجد المرأة من أحدهم نصحاً أو إرشاداً أو اعتراضاً على ما ترتديه.
8- سوء عشرة بعض الأزواج لزوجاتهم، وهجرانهم لهن.
9- صديقات السوء.
10- التشجيع والثناء من بعض من لا خلاق لهم.
الفتاوى
سُئل الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله: هل المعنى الحقيقي لكلمة "الحجاب" في الإسلام هو أن لا يظهر من المرأة سوى وجهها ويديها أم هناك معنى أوسع وأعمق لكلمة الحجاب في الإسلام؟
فأجاب: الحجاب في الإسلام بيَّنه القرآن وهو: أن المرأة المسلمة ينبغي أن تكون عفيفة، وأن تكون ذات مروءة، وأن تكون بعيدة عن مواطن الشبه، بعيدة عن اختلاطها بالرجال، الأجانب،هذا هو معنى الحجاب بالإضافة إلى ستر وجهها ويديها عن الرجال الأجانب، لأن محاسنها وجمالها هو في وجهها، والحجاب وسيلة، والغاية من تلك الوسيلة هو محافظة المرأة على نفسها والبقاء على مروءتها وعفافها وإبعادها عن مواطن الشبه، وألا تفتتن بغيرها وألا يفتتن غيرها بها، فإن محاسنها وجمالها كله في وجهها، والله أعلم. [نور على الدرب]
حكم لبس النقاب والبرقع واللثام
سؤال: في الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة بين أوساط النساء بشكل ملفت للنظر، وهي ما يسمى بالنقاب، ففي بداية الأمر كان لا يظهر من الوجه إلا العينان فقط ؛ ثم بدأ النقاب بالاتساع شيئاً فشيئاً، فأصبح يظهر مع العينين جزء من الوجه مما يجلب الفتنة؛ ولا سيما أن كثير من النساء يكتحلن عند لبسه، وهن - أي النساء - إذا نوقشن في هذا الأمر احتججن بأن فضيلتكم قد أفتى بأن الأصل فيه الجواز، فنرجو توضيح هذه المسألة بشكل مفصل وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: لا شك أن النقاب كان معروفاً في عهد النبي : في المرأة إذا أحرمت: { لا تنتقب } فإن هذا يدل على أن من عادتهن لبس النقاب، ولكن في وقتنا هذا لا نفتي بجوازه ؛ بل نرى منعه، وذلك لأنه ذريعة إلى التوسع فيما لا يجوز، وهذا أمر كما قال السائل مشاهد، ولهذا لم نفت امرأة من النساء لا قريبة ولا بعيدة بجواز النقاب أو البرقع في أوقاتنا هذه ؛ بل نرى أن يمنع منعاً باتًّا، وأن على المرأة أن تتقي ربَّها في هذا الأمر، وألا تنتقب، لأن ذلك يفتح باب شر لا يمكن إغلاقه فيما بعد. [ابن عثيمين – فتاوى نسائية]
حكم لبس العباءة المطرزة
سؤال: ما حكم لبس العباءة التي في أطرافها أو أكمامها قيطان أو غيره؟(66/1)
الجواب: محرم حيث إنه يؤدي إلى الفتنة. فيا أختي المسلمة حكِّمي عقلك وفكري ومعِّني في لبسك للعباءة، فهل يُعقل أن تستري الزينة بزينة أخرى، وهل شُرع الحجاب إلا لإخفاء تلك الزينة؟!! فلنكن على بينة من أمرنا. ولنعلم أن أعداء الإسلام يحيكون ضدنا مؤامرة على الحجاب. فيا أيتها المسلمة أنقذي نفسك فإن متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى، فلا تغتري بمالك ولا جمالك، فإن ذلك لا يغني عنك من الله شيئاً !! وأني أنذرك وأحذرك بأن النبي قال في النساء وأنت إحداهن: { اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء } وأنقذي نفسك من النار، واعلمي أنك أعجز من أن تطيقي عذاب النار، فإن الجبال لو سيرت في النار لذابت، فأين أنت من الجبال الراسيات والصم الشامخات؟ أنقذي نفسك من النار واستجيبي لمنادي الحق، واعلمي أن من ترك شيئاً لله عوَّض الله خيراً منه. وأن الآخرة هي مسعانا وإن طالت الآمال في الدنيا، فماذا تريدين من هذه العباءة المزركشة التي تشترينها بالمئات وأنت توضعين في القبر في كفن من أرخص الأقمشة، فهل تنفعك هذه العباءة في ظلمة القبر؟!! فتذكري نفسك وأنت في هذا الموضع. [الشيخ ابن عثيمين، فتاوى المرأة]
حكم لبس القصير والضيق من الثياب
سؤال: إن بعض الناس اعتادوا إلباس بناتهم ألبسة قصيرة وألبسة ضيقة تبين مفاصل الجسم، سواء كانت للبنات الكبيرات أو الصغيرات. أرجو توجيه نصيحة لمثل هؤلاء.
الجواب: يجب على الإنسان مراعاة المسئولية، فعليه أن يتقي الله ويمنع كافة من له ولاية عليهن من هذا الألبسة، فقد ثبت عنه قال: { ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء } [متفق عليه]، ففتنة النساء عظيمة لا يكاد يسلم منها أحد. [ابن عثيمين – منار الإسلام]
حكم لبس الكعب العالي ووضع المناكير
سؤال: ما حكم لبس الكعب العالي، وما حكم وضع المناكير؟
الجواب: لبس الكعب العالي محرم ؛ لأنه من التبرج الذي نهى الله عنه بقوله لنساء النبي وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى : { واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء }، ولا شك أن كل لباس يلفت النظر وتحصل به الفتنة فإنه حرام. ومعلوم أن هذا اللباس المعروف بالكاب فيه تشبه بالرجال، وفيه بيان محاسن المرأة ومفاتنها وحجم أعضائها، وكل ذلك من الأدلة على منعه والنهي عنه. وكذلك لبس النقاب الذي تبدي منه المرأة بعض وجهها كالأنف والحاجب والوجنتين، وذلك من أسباب تحديق النظر نحوها، فهو فتنة ووسيلة إلى الفساد، فهو حرام لما يسببه من الشرور والمنكرات. والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [ابن جبرين – وقفات مع فتيات]
حكم التبرج أمام النساء
سؤال: شوهد أخيراً في مناسبات الزواج قيام بعض النساء بلبس الثياب التي خرجن بها عن المألوف في مجتمعنا، معللات بأن لبسها إنما يكون بين النساء فقط وهذه الثياب فيها ما هو ضيق يحدد مفاتن الجسم، ومنها ما هو مفتوح من أعلى أو أسفل بدرجة يظهر من خلالها جزء من الصدر أو الظهر، ومنها ما يكون مشقوقاً من الأسفل إلى الركبة أو قريب منها، أفتونا عن الحكم الشرعي في لبسها، وماذا على الولي في ذلك؟
الجواب: ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة : { صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا }. فقوله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ : { أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا صلاة العشاء }، ولكن لا بأس أن تأتي بالبخور لتطيب المسجد.
أما بالنسبة للزينة التي تظهرها للنساء فإن كل ما اعتيد بين النساء من الزينة المباحة فهي حلال، وأما التي لا تحل كما لو كان الثوب خفيفاً جداً يصف البشرة، أو كان ضيقاً جداً يبين مفاتن المرأة، فإن ذلك لا يجوز لدخوله في قول النبي ورضي الله عنهن: [الأحزاب:32]، والقول المعروف ما يعرفه الناس وبقدر الحاجة، أما ما زاد عن ذلك بأن كان على طريق الضحك والمباسطة، أو بصوت فاتن، أو غير ذلك، أو أن تكشف وجهها أمامه، أو تكشف ذراعيها أو كفيها ؛ فهذه كلها محرمات ومنكرات من أسباب الفتنة، ومن أسباب الوقوع في الفاحشة.
فيجب على المرأة المسلمة التي تخاف الله عز وجل أن تتقي الله، وألا تكلم الرجال الأجانب بكلام يطمعهم فيها ويفتن قلوبهم، تجتنب هذا الأمر، وإذا احتاجت إلى الذهاب إلى متجر أو إلى مكان فيه الرجال، فلتحتشم ولتتستر وتتأدب بآداب الإسلام، وإذا كلمت الرجال فلتكلمهم الكلام المعروف الذي لا فتنة ولا ريبة فيه. [المنتقى من فتاوى الشيخ صالح الفوزان]
حكم لبس البنطلون(66/2)
سؤال: ما حكم لبس البنطلون للفتيات عند غير أزواجهن؟
الجواب: لا يجوز للمرأة عند غير زوجها مثل هذا اللباس ؛ لأنه يبين تفاصيل جسمها، والمرأة مأمورة أن تلبس ما يستر جميع بدنها ؛ لأنها فتنة وكل شيء يبين من جسمها يحرم إبداؤه عند الرجال أو النساء أو المحارم وغيرهم إلا الزوج الذي يحل له النظر إلى جميع بدن زوجته، فلا بأس أن تلبس عنده الرقيق أو الضيق ونحوه والله أعلم. [ابن جبرين – النخبة من الفتاوى النسائية]
حكم قص شعر الفتاة إلى كتفيها للتجميل واستعمال أدوات التجميل
سؤال: ما حكم قص شعر الفتاة إلى كتفيها للتجميل سواء كانت متزوجة أو غير متزوجة، وما حكم استعمال أدوات التجميل المعروف للتجمل للزوج؟
الجواب: قص المرأة لشعرها إما أن يكون على وجه يُشبه شعر الرجال. فهذا محرم ومن كبائر الذنوب، لأن النبي لعن النامصة والمتنمصة. وكذلك وشر المرأة أسنانها للتجميل محرم ملعون فاعله. [أسئلة مهمة – للشيخ ابن عثيمين]
حكم تخفيف الحاجب وتطويل الأظافر ووضع المناكير
سؤال:
1- ما حكم تخفيف الشعر الزائد من الحاجب؟
2- ما حكم تطويل الأظافر ووضع مناكير عليها مع العلم بأنني أتوضأ قبل وضعه ويجلس 24 ساعة ثم أزيله؟
3- هل يجوز للمرأة أن تتحجب دون أن تغطي وجهها إذا سافرت للخارج؟
الجواب:
1- لا يجوز أخذ شعر الحاجبين ولا التخفيف منها، لما ثبت عن النبي صلى الله علية وسلم أنه لعن النامصة والمتنمصة. وقد بين أهل العلم أن أخذ شعر الحاجبين من النمص.
2- تطويل الأظافر خلاف السُنة، وقد ثبت عن النبي قال: { وقَّت لنا رسول الله وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ في المرأة إذا أحرمت لا تلبس القفازين و هذا يدل على أن من عادتهن لبس ذلك. [ابن عثيمين - دليل الطالبة المؤمنة]
حكم لبس العدسات اللاصقة بقصد الزينة
سؤال: ما حكم لبس بعض النساء للعدسات اللاصقة الملونة بقصد الزينة؟ كأن تلبس لباساً أخضر فتضع عدسات خضراء.
الجواب: لا يجوز هذا إذا كان بقصد الزينة، فإنه من تغيير خلق الله، ولا فائدة فيه للبصر، وربما قلل بصر العين حيث تعرض للعبث بها بالإلصاق وما بعده، ثم هو تقليد للغرب دون هائدة، ولا جمال أحسن من خلق الله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. [ابن جبرين - النخبة من الفتاوى النسائية]
حكم المراسلة يبن الشباب والشابات
سؤال: إذا كان الرجل يقوم بعمل المراسلة مع المرأة الأجنبية وأصبحا متحابين هل يعتبر هذا العمل حراماً؟!
الجواب: لا يجوز هذا العمل لأنه يثير الشهوة بين الاثنين، ويدفع الغريزة إلى التماس اللقاء والاتصال، وكثيراً ما تحدث تلك المغازلة والمراسلة فتناً وتغرس حب الزنى في القلب، مما يوقع في الفواحش أو يسببها، فننصح من أراد مصلحة نفسه وحمايتها عن المراسلة والمكالمة ونحوها، حفظاً للدين والعرض والله الموفق. [ابن جبرين - فتاوى المرأة المسلمة]
حكم المكالمات الهاتفية بين الشباب والفتيات
سؤال: ما حكم فيما لو قام شاب غير متزوج وتكلم مع شابة غير متزوجة في التليفون؟
الجواب: لا يجوز التكلم مع المرأة الأجنبية بما يثير الشهوة كمغازلة وتغنج وخضوع في القول، سواء كان في التليفون أو في غيره لقوله تعالى: [الأحزاب:32]، فأما الكلام العارض لحاجة فلا بأس به إذا سلم من المفسدة ولكن بقدر الضرورة. [ابن جبرين –فتاوى المرأة]
حكم جلوس المرأة مع أخي زوجها
سؤال: تطلب مني أم زوجي أن أجلس مع أبنها - أخي زوجي - بالعباءة والغطاء أمام التلفزيون وحين يشربون الشاي فأرفض وينتقدونني، فهل أنا على حق أم لا؟!
الجواب: يحق لك الامتناع من الجلوس معهم في تلك الحال لما في ذلك من أسباب الفتنة، فأخو زوجك الذي لا يزال عزباً يعتبر أجنبياً فيعتبر سماعه لصوتك ورؤيته لشخصك من أسباب الفتنة وهكذا نظرك إليه.
حكم مصافحة غير المحارم
سؤال: نحن في قرية لها عادات سيئة من ذلك مثلاً أنه إذا جاء ضيف إلى المنزل فإن الكل يصافحونه ذكوراً وإناثاً فإذا امتنعت عن ذلك قالوا عني أنني شاذة فما الحكم؟(66/3)
الجواب: الواجب على المسلم أن يطيع الله عز وجل بامتثال أمره والبعد عن نهيه، والمتمسك بذلك ليس شاذاً، بل الشاذ هو الذي يخالف أوامر الله، وهذة العادة - المسئول عنها - عادة سيئة، فمصافحة المرأة للرجل غير المحرم سواء أكانت من وراء حائل أو مباشرة حرام، لما يفضي إليه الملمس من الفتنة، وقد وردت في ذلك أحاديث في الوعيد وإن كانت غير قوية السند، ولكن المعنى يؤيدها - والله اعلم - وأقول للسائلة: لا تصغي لذم أهلها، بل الواجب عليها أن تنصحهم بأن يقلعوا عن هذه العادة السيئة وأن يعملوا بما يرضي الله ورسوله. [ابن عثيمين - فتاوى المرأة المسلمة]
حكم شراء مجلات الأزياء
سؤال: ما حكم شراء مجلات عرض الأزياء للاستفادة منها في بعض موديلات ملابس النساء الجديدة والمتنوعة؟ وما حكم اقتنائها بعد الاستفادة منها وهي مليئة بصورة النساء؟
الجواب: لاشك أن شراء المجلات التي ليس بها إلا صور محرم ؛ لأن اقتناء الصور حرام ؛ لقول الرسول لما شاهد الصورة في النمرقة عند عائشة وقف ولم يدخل، وعُرفت الكراهية في وجهه، وهذه المجلات التي تعرض الأزياء يجب أن ينظر فيها، فما كل زيّ يكون حلالاً، قد يكون هذا الزيُّ متضمناً لظهور العورة، أما لضيقه أو لغير ذلك، وقد يكون هذا الزيُّ من ملابس الكفار التي يختصون بها، والتشبه بالكفار محرم ؛ لقول الرسول : { لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم }. وهو أخطر من كثير من الخلوات التي لا إشكال فيها ؛ لأن هذا السائق بيده التصرف في السيارة المركوبة فيمكنه أن يذهب بها إلى حيث شاء ثم يلجأها إلى ما يريد من الشر، وكذلك هي ربما تكون فاسدة أو يغريها الشيطان بسبب خلوتها مع هذا الرجل فتدعوه إلى أن يخرج بها إلى مكان ليس حولهما أحد، فيحصل الشر والفساد.
أما إذا كان معها امرأة أخرى وكان السائق أميناً فإن هذا لا بأس به ؛ لأن هذا لا يُعد خلوة. وعلى هذا فالواجب على المرأة إذا كانت تحتاج أن تذهب إلى السوق أو المدرسة أن تصطحب معها امرأة أخرى إذا لم يكن هناك محرم، ولا بد أن يكون المحرم بالغاً عاقلاً، فمن دون البلوغ لا يكفي أن يكون محرماً، وكذلك من لا عقل له، والواجب على النساء وأولياء أمورهن أن يتقين الفتنة وأسبابها حتى لا يحصل الشر والفساد. [ابن عثيمين – دليل الطالبة المؤمنة]
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=73 ...(66/4)
أحكام السوق
(1-3)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله على سيد الأولين والآخرين، والمبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنّ لله لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا سدى وهملاً، بل خلقنا ليأمرنا وينهانا؛ كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} سورة الذاريات(56).
والأمر والنهي ليس مقصوراً على بعض الأمور التعبدية، كما قد يفهم البعض، أو في مكان دون مكان، وزمان دون زمان، بل الأمر والنهي يكون معنا حيث كنا في المسجد وفي البيت وفي السوق وفي الوظيفة وفي الحضر وفي السفر، وفي كل شأن من شؤون حياتنا.
وكما أن للمسجد والبيت أداباً وأحكاماً، فإن للسوق أداباً وأحكاماً؛ لذلك فإننا – بحول الله وقوته – سنذكر بعض آداب وأحكام السوق فنقول:
* تعريف السوق:
لغة:السوق بضم العين هي موضع البياعات، أو التي يتعامل فيها، وهي تذكر وتؤنث، والجمع أسواق، قال الله – تعالى:{وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} سورة الفرقان20. وتسوق القوم: إذا باعوا واشتروا وأصل اشتقاق السوق من سوق الناس إليها بضائعهم.[1]
واصطلاحاً: هو اسم لكل مكان وقع فيه التبايع بين من يتعاطى البيع والشراء.[2]
* نبذة عن السوق في الإسلام:
يعد السوق قديماً قدم الإنسان، وذلك لأن الإنسان لا بد له من أمور يسد بها حاجته وحاجة من يعول، وأماكن وجود ذلك هي الأسواق، سواء كانت صغيرة أو كبيرة.
ولقد أولى الإسلام الأسواق العناية الفائقة، والاهتمام البالغ؛ وذلك لأن الإسلام ذا رسالة خالدة، وأسس عامة شاملة للإنسان والحياة والكون وما يتعلق بهما.
وقد تمثل عناية الإسلام بالسوق في حثه على السعي في الأرض، والذهاب إلى الأسواق للتجارة وطلب الرزق الحلال، قال الله - تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء(29). وقال: { وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} سورة البقرة 275.
بل لقد قرن الله العاملين في الأرض للتجارة بالمجاهدين في سبيله، فقال: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } سورة المزمل(20). وقال الله - تعالى-: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} سورة القصص(77).
وكان النبي – عليه الصلاة والسلام - يذهب إلى الأسواق كسباً للرزق، وطلباً للقوت الضروري؛ حتى أن المشركين عابوه بذلك كما حكى الله عنهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} سورة الفرقان(7).
وقد أقيمت في عهده - صلى الله عليه وسلم – أسواق واسعة، لابناء فيها ولا ظل، وحظيت باهتمامه الواسع، وعنايته الخاصة - صلى الله عليه وسلم -، فكان يتعهدها بالمراقبة، ووضع لها الضوابط الشرعية، فحرّم بيوع الجاهلية المشتملة على الغرور والربا والمكر والخداع والغبن.
إضافة إلى ذلك فقد حرّم بيع المحرمات فيها، كالخمر والخنزير وغير ذلك.
وكان يتفقد السوق بين الفينة والأخرى مع بعض أصحابه، ثم اقتدى به أصحابه من بعده في كل شيء، فكانوا يذهبون إلى الأسواق فيبيعون ويشترون، كما هو معروف عن أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم - ثم من سار على طريقتهم من التابعين، والملوك والخلفاء إلى يومنا هذا.
* بعض آداب السوق:
1 - الإكثار من ذكر الله:
فعن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير، كتبت له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتاً في الجنة" رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم(1817) ويستدل أيضا لذلك بالآيات والأحاديث الداعية إلى ذكر الله عموماً في كل وقت وفي كل مكان، ما عدا الأماكن التي لا يجوز ذكر الله فيها كالحمامات وما أشبه ذلك.
2 - ترك الخصام واللجاج:(67/1)
فقد ورد في صفته - عليه الصلاة والسلام – كما في البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - في صفة النبي- صلى الله عليه وسلم-:" أنه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولايدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً".
وأما في زمننا حيث فسد الناس، وانتشر فيهم الجهل، وقل فيهم مراقبة الله - إلا من رحم ربي- فما أكثر السخب والسخط في الأسواق، والمهاترات والمشاجرات؛ بل ربما وصل ببعضهم الحد إلى سفك دم أخيه المسلم من أجل كلمة قالها، أو صوتٍ رفعه عليه!!.
ألا فليتق الله ذوي الألسنة الطويلة، والأيادي الباطشة، وليدعوا تحرشاتهم بالمسلين ، وليصونوا ألسنتهم وليحفظوا أيديهم من هتك أعراض المسلمين وسفك دمائهم.
3 بذل السلام:
ذلك لأن السلام مما يوجب المحبة ويزيد الألفة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" رواه أحمد ومسلم.
وذلك لأن فيه الأجر الكثير، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن من موجبات المغفرة بذل السلام، وحسن الكلام" أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق، وهو في السلسلة الصحيحة برقم (1035).
4 - عدم أذية المسلمين:
فقد جاء في البخاري ومسلم عن أبي موسى - رضي الله عنه – قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مر أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا ومعه نبل فليمسك على نصالها، أو قال: فليقبض بكفه أن يصيب أحداً من المسلمين منها شيء".
ويقاس على النبل غيرها من سائر الأسلحة؛ وخاصة في هذا الزمن الذي تعددت الأسلحة فيه، وكثر حمل الناس لها، مع ما فيها من الخطر المحقق، وخاصة عند مزاحمة الناس.
ويدخل في الأذية جميع صور الأذى.
5- الابتعاد عن قراءة القرآن خاصة في الأسواق المزدحمة:
وذلك لأن الأسواق يغلب عليه الصياح والانشغال بالبيع والشراء، ولأنه قد يكون بجوار أماكن مستقذرة، فينبغي أن ينزه القرآن عن تلك الأماكن.
وأما إذا كانت القراءة في مكان هادئ ونظيف، وهناك من يسمع وينصت لمن يقرأ فلا بأس بذلك، بل هو فعل حسن، وذلك لأنه ربما قرأ القاري الآيات التي فيها الدعوة إلى المحافظة على الصلوات، فيتأثر التارك للصلاة والمتهاون بها فيحافظ عليها، وربما قرأ الآيات المحذرة من الربا، فيتأثر المتعامل بالربا فيترك التعامل بالربا، وربما قرأ الآيات التي فيها الدعوة إلى العفة والحياء، فيتأثر فمن كان فيه نوع من قلة العفة و الحياء، فيعف نفسه، ويستحي من خالقه وبني جنسه.
6- غض البصر:
إن الله - تعالى- قد جعل العين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره، غضّ القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق العبد بصره، أطلق القلب شهوته وإرادته، فقد أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله - عز وجل - كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، واللسان يزني وزناه النطق، والرجل تزني وزناها الخطى، واليد تزني وزناها البطش، والقلب يهوي ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " فبدأ بزنا العين، لأنه أصل زنا اليد والرجل والقلب والفرج.
قال الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُو نَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} سورة النور} (30) (31) ومن المعلوم أن السوق من أحب الأماكن لشياطين الأنس والجن، وبالتالي فلابد للإنسان من غض بصره عن النظر إلى ما حرم الله، والتحصن عند دخوله السوق بالأذكار الشرعية، ولإن النساء في زمننا هذا أكثرنا من الخروج من بيوتهن وولوجهن إلى الأسواق، وعلقت صور النساء على مداخلا لأسواق، والأماكن العامة، فيجب غض البصر، وكف الأذى.
7- الوفاء بالعهود والعقود:
لقد حث الإسلام على الوفاء بالعهود والعقود ، وحذر من التقصير فيهما، قال الله - تعالى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} سورة المائدة1. وقال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} سورة النحل(91).
وذلك لأن الخيانة والغدر، وعدم الوفاء بالعهود والعقود، مما يفقد الثقة بين الناس، فيحصل من الشر ما لا يعلمه إلا الله.
ولشدة عناية الإسلام بالعقود والعهود، أوجب الأشهاد على ذلك، حفاظاً على أموال الناس، وكما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} سورة البقرة (282).
8- الصدق والبيان وعدم الكتمان لعيب السلعة:(67/2)
لقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم – ذلك من أسباب البركة، كما في حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو قال: حتى يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما" رواه البخاري ومسلم.
وأثنى على التاجر الصدوق في بيعه وشرائه، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء" رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن، ورواه الدارقطني بزيادة "يوم القيامة ".
وذم التاجر الكاذب الفاجر، فعن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن جده، أنه خرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم – إلى المصلي فرأى الناس يتبايعون فقال: "يا معشر التجار!" فاستجابوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم – ورفعوا أعناقهم، وأبصارهم إليه، فقال: "إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من اتقى الله وبر وصدق " أخرجه الترمذي وابن ماجه.
9- إيفاء المكيال والميزان والحذر من بخسهما:
أثنى الله على الموفين لهما، فقال: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} سورة الإسراء(35).
وتوعد المطففين بالعذاب المهين، فقال تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} سورة المطففين(1- 6).
وقد عدّ العلماء ذلك من كبائر الذنوب.
10- منع بيع كل مبيعات محرمة:
كآلات اللهو المحرم، والخمر، والصور ذات الأرواح، والأشرطة الماجنة، والأفلام الخليعة، وأوراق اليانصيب، ويدخل في ذلك منع الدجالين والمشعوذين من الجلوس على مداخل الأسواق لإفساد عقيدة الناس، والنصب والاحتيال لأخذ أموال الناس بالباطل.
11- الحذر عن بيع كل ما فيه خصومة كالأدوات المسروقة والمغصوبة:
قال الله - تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} سورة النساء(29). فالإسلام طيب، فلا يحب من الكسب إلا الطيب.
12- يجب على التجار تعلم كل ما يخص تجارتهم من أحكام فقهية:
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه –: لا بيع في سوقنا إلا من تفقه في الدين.
وهذا ما يؤكد عليه العلماء عند تقسيم العلوم الشرعية إلى علم يجب تعلمه، ويمثلون لذلك بتعلم المسلم أحكام الطهارة، والصلاة، وعلم يجب تعلمه على كل من تخصص فيه، فالتاجر يجب عليه تعلم أحكام البيع والشراء، وهكذا.
13- السماحة في البيع والشراء:
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله عبداً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا اقتضى"رواه البخاري.
14- عدم خروج النساء إلى الأسواق إلا لضرورة:
إن على النساء التحلي بخلق الحياء والحشمة، وأن يتقين الله - تعالى- في كل وقت وفي كل مكان، وليجلعن هذا الحديث نصب أعينهن فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:" صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا "رواه البخاري.
وعلى المرأة أن لا تكون خراجة ولاجة، بل عليها القرار في بيتها، والإعتناء بتربية أبنائها، والمحافظة على صلاتها، وطاعة زوجها، وصوم شهرها، وحفظ لسانها إلا من خير، فإذا فعلت ذلك دخلت الجنة - بإذن ربها-.
ولكن إذا كان لديك أيتها المرأة حاجة ضرورية إلى السوق، وليس هناك من يقوم بها غيرك، فلا بأس أن تخرجي، مع التزامك بالآداب الشرعية، ومنها ارتداء الحجاب الشرعي الساتر لجميع الجسم، والبعد عن الخلوة بالرجال، وغيرها من الآداب.
وعلى الرجال كذلك تقوى الله، وعدم مضايقة النساء ومزاحمتهن في الأسواق، والالتزام بآداب وأخلاق المسلمين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وأله وصحبه وسلم.
000000000000000
[1]- انظر جمرة اللغة بن دريد باب السين والقاف، مادة سقو 5/43. ط: مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر إياد- الطبعة الأولى. ولسان العرب لابن منظور فصل السين- حرف القاف- مادة سوق. ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس مادة سوق 3/117 نشر دار إحياء التراث العربية..
[2]- فتح الباري لابن حجر 5/246. ط: مصطفى الحلبي وأولاده سنة 1378هـ.(67/3)
أخا الصدق والوفاء حبيبا
د. عبد الحي يوسف*
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
أننا في زمان أكثر الناس فيه من الحديث عن أموات وأحياء، هم بميزان الشرع ليسوا أهلاً لأن ينوَّه بذكرهم ولا أن يقتدى بهم، فحريٌ بنا أن نتحدث عمن كان لله تقياً، وبأهل العلم حفياً، وعمن ورث المكارم كابراً عن كابر، نحسبه
فقد كان من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم أن يثني على من توفاه الله من أصحابه بما يعلم عنهم من خير وبر؛ فقال عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه بعدما دفنه ووضع على قبره حجراً (علامة أعرف بها قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي) وقال عن سعد بن معاذ رضي الله عنه (لقد اهتز عرش الرحمن لموته) وقال عن صاحبه جليبيب رضي الله عنه (قتل سبعة ثم قتلوه؛ هذا مني وأنا منه) وقال عن زوجه خديجة رضي الله عنها (والله ما أبدلني الله خيراً منها؛ لقد صدَّقتني إذ كذَّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء) وجرياً على هذه السنة النبوية فإنني أكتب اليوم عن صاحبي وأخي وحبيبي في الله تعالى/ محمد الحبيب أحمد الطيب الذي وافته المنية صبيحة الأربعاء الثاني والعشرين من صفر عام سبع وعشرين وأربعمائة وألف، بعدما ترك سيرة عطرة، وذكراً حسناً، وعملاً باراً، نحسبه كذلك ولا أزكيه على الله، وإنما أكتب عن الحبيب:
أولاً: وفاءً ببعض حقه عليَّ بعدما تتابع إحسانه وعمَّ بره وتواتر خيره، فكان ـ رحمه الله ـ آية من آيات الله في صدق الأخوة وطيب المعاشرة
وثانياً: شحذاً لهمتي وهمة إخواني في الاقتداء بهذا البرِّ الكريم في حَسَن صفاته وكريم خصاله وطيِّب أفعاله
وثالثاً: توثيقاً لتلك المآثر التي تُروى عنه، والتي رأيت كثيراً منها رأي العين، وعاصرت صاحبها ـ عن قرب ـ بضعة عشر عاماً
ولو أردت أن أعدد مناقب الحبيب ما وسعتني مقالة ولا مقالات، لكنني أنبه على بعضها؛ (ليزداد الذين آمنوا إيماناً)، وليعلم الناس أن في الأمة أخياراً وأبراراً وأطهاراً، وأن الخير لم ينقطع بعد
ورابعاً: تعزية للآل والأصحاب والإخوان ممن آلمهم فراقه، وشق عليهم موته؛ فلم تجفَّ منهم المآقي بعدُ، ولا كفت العبرات، ولولا عزاؤهم بموت محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأخيار من هذه الأمة من قبلُ؛ لعظُم جزعُهم وقلَّ صبرُهم، ولكن كما قال الأول:
اصبر لكل مصيبة وتجلَّدِ ** واعلم بأن المرء غير مخلد
وإذا ذكرتَ محمداً ومصابَه ** فاذكُر مصابك بالنبي محمد
وخامساً: إحياء لشرعة محمد صلى الله عليه وسلم في تخليد مآثر الطيبين والحديث عن أخلاق الصالحين، وقد أنزل الله عليه في القرآن (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة) وأنزل عليه (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) وأنزل عليه (وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه) إلى غير ذلك من آيات كثيرة نوَّهت بذكرهم، ورفعت من قدرهم
وسادساً: لأننا في زمان أكثر الناس فيه من الحديث عن أموات وأحياء، هم بميزان الشرع ليسوا أهلاً لأن ينوَّه بذكرهم ولا أن يقتدى بهم، فحريٌ بنا أن نتحدث عمن كان لله تقياً، وبأهل العلم حفياً، وعمن ورث المكارم كابراً عن كابر، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله تعالى.
الحبيب آية من آيات الله في البذل وحب المساكين، لا يكل ولا يمل، يقف أهل الحاجات بباب مكتبه وباب منزله، ويتربصون به حال خروجه من المسجد، ويلحُّون عليه فما غيَّر ذلك من خلقه شيئاً
لا أتحدث عن الحبيب غلواً فيه ـ معاذ الله ـ ولا مجاملة له أو مبالغة في مدحه، وقد عاد مرتهناً بعمله في قبره، بعدما فارق دنيانا فاستراح من نصبها وكدها (وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) وإنما أتحدث عنه حديث من عرفه عن قرب بعد أن ألَّف الله بين قلبينا، وواءم بين روحينا، (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) فلله كم جمعتنا مجالسُ وخلوات، ولله كم ضمَّنا ثرى مزدلفة وعرفات، ولله كم كنا معاً في سفر وحضر، وصحة وسقم، وعسر ويسر، وفي تلك المواطن كلها كان الحبيب حبيباً لم تؤثر فيه السنون، ولم يطغه المال، أو تبدِّله الأيام: قرة عين، وطيب نفس، وطمأنينة قلب، وحسن خلق، وكرم أصل، بل كان الحبيب عطاءً وفيضاً، إيماناً وشكراً، صلاة وذكراً، قرآناً وبراً، حناناً وعطفاً، بل ـ والله ـ كنت في كل يوم أزداد يقيناً بأن الحبيب ليس إلا أخاً لي لم تلده أمي؛ لما وجدت من نصحه لي وحرصه عليَّ ورغبته في نفعي، وأرى فيه صورة تقرِّب إلى ذهني ما كان بين المهاجرين والأنصار من أخوة في الله وإيثار على النفس، وإن كان الحبيب ـ في حاله معي ـ هو الأنصاريُ والمهاجريُ معاً، قدس الله روح الحبيب، ونوَّر الله قبر الحبيب، وجبر الله مصابنا في الحبيب (وإن في الله تعالى عوضاً من كل تالف، وخلفاً من كل هالك)(68/1)
ولو أردت أن أعدد مناقب الحبيب ما وسعتني مقالة ولا مقالات، لكنني أنبه على بعضها؛ (ليزداد الذين آمنوا إيماناً)، وليعلم الناس أن في الأمة أخياراً وأبراراً وأطهاراً، وأن الخير لم ينقطع بعد والحمد لله، بل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالخيرات زاخرة، وبالمبرات عامرة:
أولاً: قال علماؤنا: البركة هي الخير والنماء والكثرة، وقد كنت ألمس ذلك في شخص الحبيب؛ حيث كان رحمه الله يدير تجارة ضخمة، تستلزم سفراً كثيراً وسعياً حثيثاً وعملاً دؤوباً، ومع ذلك تجده في المسجد مع الجماعة، وفي حلقة القرآن مع التالين، وفي مجلس العلم مع المتذاكرين، وفي المستشفى مع العائدين، وفي الجنائز مع المشيِّعين، فإن فاته ذلك لم تفقده في بيت العزاء مع المواسين، وفي الأعراس مع المهنئين، مع ممارسة للرياضة، وضرب في مناكب الأرض، وقضاء لمصالح الناس، وصلة للأرحام، وإحسان للجيران، ولا أجد لذلك تفسيراً سوى أنها البركة التي يختص الله بها من شاء من عباده
ثانياً: كان رحمه الله من العُبَّاد؛ فما فاتته الصلاة مع الجماعة قط، لا أقول مطلق الجماعة بل جماعة المسجد، حتى في مرضه العضال لما أُقعد عن الحركة، بلغ من علو همته وصدق عزيمته وحسن استعداده للقاء ربه، أن أقام في بيته وفي المسجد طريقاً زَلَقاً يستطيع أن يسير عليه بدراجته؛ لئلا يفوته فضل الجماعة، ولما أكثر الناس من لومه وطلبوا منه أن يصلي في بيته اشتد إباؤه، وكان ـ رحمه الله ـ يمكث في المسجد بين العشاءين؛ تخفيفاً للمشقة وطلباً للثواب، كما كان صواماً لا يخل بصيام الاثنين والخميس إلا لمرض أو سفر، حريصاً على نافلة الحج والعمرة ـ خاصة في رمضان ـ وله من الليل نصيب، وقد رأيت ذلك منه في بعض أسفاري معه؛ فلله دره من عابد.
ثالثاً: الحبيب آية من آيات الله في البذل وحب المساكين، لا يكل ولا يمل، يقف أهل الحاجات بباب مكتبه وباب منزله، ويتربصون به حال خروجه من المسجد، ويلحُّون عليه فما غيَّر ذلك من خلقه شيئاً، وكان رحمه الله يحرص على أن يحصي زكاته بنفسه، ويوزِّع بعضها أو أكثرها بنفسه، ولا يعلم باباً من أبواب الخير إلا حرص على أن يضرب فيه بحظ وافر، ويلوم إخوانه إذا سعوا في باب من أبواب الخير ولم يخبروه، وكأني به ممن عناهم ابن القيم رحمه الله حين قال ((احرص على أن تضرب مع أهل كل عبودية بسهم)) وقد شاد رحمه الله من المساجد الكثير الذي لا نعلمه ـ الله يعلمه ـ وطرق أبواباً من الخير حرص على أن تكون سراً بينه وبين الله تعالى، حتى إن إخوانه وخاصة أهله ما كان لهم بها علم، ولما كنا في عزائه رحمه الله جاء ناس يقولون: إن حبيباً بنى لنا مسجداً في الحتانة، وآخرون يقولون: بنى لنا مسجداً بمحلة كذا، وناس من جامعة الخرطوم يقولون: بنى مركزاً للنساء والتوليد بسوبا، وهذه ـ إن شاء الله ـ علامة الإخلاص ودليل الرقي العبادي الذي يستوجب به الحبيب ـ إن شاء الله ـ ظل عرش ربنا جل جلاله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه) ولما كنا على شفير قبره جاء رجل يعزيني باكياً وقد سالت دموع عينيه على خديه قائلاً: أنا مريض بسرطان الصدر، وقد كان هذا الرجل ـ رحمه الله ـ يتعاهدني، فعظَّم الله أجر حبيب وأجزل له المثوبة، وأحسن إليه كما أحسن إلى عباده
رابعاً: كان الحبيب مثال وسطية الإسلام حقاً، فهو ناجح في عمله، بارٌّ بأهله، وصول لرحمه، محسن إلى إخوانه، محافظ على شعائر دينه، مكثر من الذكر والحج والعمرة، عامر لبيوت الله، يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة، وفي الوقت نفسه لا ينسى نصيبه من الدنيا، فهو حسن الهندام طيب الرائحة أنيق المركب والمسكن، يدير أعماله بكفاءة نادرة، وقد أحاط نفسه بخيرة من يعينه على بلوغ الكمالات، يحرص على أن يصحب زوجه وعياله في أسفار يروِّح بها عن نفسه وعنهم، يحب الطعام الجيد والعيش الهنيء، في عفة طُعمة وطيب كسب.
كان الحبيب مثال وسطية الإسلام حقاً، فهو ناجح في عمله، بارٌّ بأهله، وصول لرحمه، محسن إلى إخوانه، محافظ على شعائر دينه، مكثر من الذكر والحج والعمرة، عامر لبيوت الله، يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة، وفي الوقت نفسه لا ينسى نصيبه من الدنيا، فهو حسن الهندام طيب الرائحة أنيق المركب والمسكن، يدير أعماله بكفاءة نادرة(68/2)
خامساً: كان الحبيب نسيج وحده في تحري الحلال؛ فما كان يُدخل على نفسه حراماً أو مالاً فيه شبهة، قد أتته الدنيا وهي راغمة بعد أن بذل لها الأسباب المشروعة؛ فلم يُلهه ذلك عن طلب رضا ربه في اجتناب الشبهات، وقد كان رحمه الله فقيه النفس يحرص على السؤال قبل التلبس بالفعل، ويأخذ الدين بقوة، ولو كان على خلاف ما تهوى الأنفس، وما زلت أذكر كيف اتصل بي من تركيا ـ وقد غرقت له بضاعة في طريقها من إيطاليا ـ يسأل كيف يتصرف في مال قد وجب له؛ لأن الشركة المصدِّرة كانت قد أمَّنت على تلك البضاعة، فأفتيته بأن يأتي بالمال ليُنفق في وجوه الخير، ولم يُدخل ـ رحمه الله ـ على نفسه من ذلك المال شيئاً، ولا زلت أذكر أن ذلك المال كان يبلغ ثلاثمائة ألف دولار. وهذا ـ لعمر الله ـ هو الدين الحق الذي يميز به صاحبه الخبيث من الطيب
سادساً: الحبيب من خير الناس أخلاقاً، قد وطأ كنفه لإخوانه وخفض لهم الجناح فهو يمازحهم ويلاطفهم، يعطف عليهم ويرجو الخير لهم، لا يعرف الخصومة ولا العداوة؛ كأن الناس كلهم أحبابه، يغضي عن الزلات، مبدؤه مبدأ الصالحين الذين رفعوا شعار:
ليس الغبيُّ بسيِّد في قومه ** لكن سيِّد قومه المتغابي
يداعب الأطفال ويحنو عليهم ويهاديهم، وقد كنا نزور بعض الإخوة أحياناً؛ فينفر الصغار منا ويستوحشون من وجودنا، لكن الحبيب لا يلبث إلا قليلاً حتى يستولي على حب أولئك الأطهار، ويأسرهم بكرمه وأريحيته وطيب عشرته وجميل ابتسامته، وقد كنت ألحظ في الرجل رقة قلب لا أكاد أجدها عند كثيرين، ولا زلت أذكر صبيحة العيد ونحن بالمزدلفة، ولما نذهب بعدُ إلى منى، خرجت للوضوء؛ فتاه مني المكان، وما زلت أبحث عن الرفقة حتى كادت الشمس تطلع، ووصلت إليهم بعد عناء فلما رأوني استبشروا ـ وكلهم على خير وفضل وبر ـ سوى الحبيب الذي أقبل عليَّ ـ رحمه الله ـ يقبِّل رأسي في حركة عفوية دالة على حب وتقدير وحنان وأخوة، فاللهم أجزه عني خير ما جزيت أخاً عن أخيه وصاحباً عن صاحبه.
كان ـ رحمه الله ـ يخدم إخوانه في شعيرة الحج وكأنه أصغرهم، يرتاد لهم أطيب الأماكن ويكنهم من الحر والقر، ويسألنا إذا طعمنا: هل شبعتم أم آتيكم بزيادة!! ويقول أحياناً: اجمعوا لي ثيابكم حتى أذهب بها إلى المغسلة
وقد كان ـ رحمه الله ـ يخدم إخوانه في شعيرة الحج وكأنه أصغرهم، يرتاد لهم أطيب الأماكن ويكنهم من الحر والقر، ويسألنا إذا طعمنا: هل شبعتم أم آتيكم بزيادة!! ويقول أحياناً: اجمعوا لي ثيابكم حتى أذهب بها إلى المغسلة، فأعاد ـ والله ـ بفعاله سيرة السلف الصالحين والقوم الطيبين.
سابعاً: كلُّ ما ذكر عن الحبيب شيء، وصبره في مرضه ورضاه بأمر ربه شيء آخر، حيث ضرب لنا مثلاً في الصبر والثبات، ولقننا درساً عملياً في سلامة المعتقد وحسن الظن بالله تعالى، فقد كان رحمه الله قوياً فتياً، يمارس الرياضة غير أكول ولا شروب، ولا مكثر من السهر، أغلب نومه في العاشرة مساء، ومبدأ نشاطه منذ الفجر، تسير حياته وفق نظام دقيق، وهو ـ وفق مقاييس البشر ـ أبعد الناس عن الإصابة بالمرض، وفجأة يجد نفسه أسير داء عضال، لا يكاد يصيب من الناس إلا قليلاً، وهو يعرف تفاصيله ومآلاته، فقد كان رحمه الله مجيداً للإنجليزية، مكثراً من القراءة عن هذا المرض، وفي كل يوم يرى جسده يضمحل ويذوي، ويفقد حواسه الواحدة تلو الأخرى فلا يستطيع المشي ولا الحركة، ثم يعجز عن الكلام ويفقد شهيته للطعام، وهو في كل هذا صابر محتسب لا تفارقه ابتسامة الرضا بالقضا، وكان الناس ـ من محبيه ـ يدخلون عليه يعودونه ثم يخرجون يغالبون دموعهم، ولربما لم يستطع بعضهم لنفسه ملاكاً فيجهش بالبكاء بين يديه، وهو رحمه الله رابط الجأش قوي النفس لا تفارقه ابتسامته؛ كأنه ـ والله أعلم ـ يرى ما لا يرون، وقد أنزل الله عليه سكينته فاطمأنت نفسه وخشع قلبه، فلم يجزع ولم يفزع وقد أيقن بأن الله تعالى فعال لما يريد، بعد أن أخذ رحمه الله بالأسباب وطرق الأبواب، وهو في هذا كله متذرِّع بالتقى متدثر بالهدى، ولا زلت أذكر حين ألح َّ عليه بعض فضلاء الأطباء بالسفر إلى الصين لإجراء جراحة يغلب على الظن نجاحها وانتفاعه بها، فلم يسارع بل بقي يسأل ويستفتي ويستخير، حتى شرح الله صدره للذهاب، فأجرى تلك الجراحة وكان من أمر الله ما كان.
وفي سكرات الموت وكربات النزع طال عناءُ حبيب وعظم كربُه ـ رحمه الله ـ تطهيراً من الله له، وحسن خاتمة إن شاء الله، وقد جلس عند رأسه يلقنه الشهادة ويتلو عليه القرآن خيرة أهل القرآن ـ نحسبهم كذلك ولا نزكيهم على الله ـ فكان مجلسه ـ وهو في سكرات الموت ـ مجلس ذكر وعلم؛ لأنه ـ في حياته ـ كان محباً للقرآن والعلم، كارهاً لسقط الكلام وقيل وقال؛ فأماته الله على ما عاش عليه، وأسأله أن يبعثه على مات عليه، وأن يجيره من فتنة القبر وعذاب النار.(68/3)
وبعد: فيا أهل حبيب ويا أبناء حبيب ويا إخوانه وأصدقاءه: بالله ثقوا وإياه فارجوا؛ فإن المصاب من حُرِم الثواب، قد كان حبيب آية في حياته وهو كذلك بعد موته، أما رأيتم كيف تدافع الناس للصلاة عليه وتشييعه، ولما يمضِ على وفاته سوى ساعتين أو تزيد قليلاً؛ حتى ضاقت بهم المقابر ولم يسعهم المكان فحملت جنازته إلى ميدان فسيح للصلاة عليه؟ أما رأيتم كثرة من يدعو له من العلماء وطلبة العلم وأهل القرآن والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام؟ أما رأيتم كيف جرت ألسنة الخلق بالثناء عليه؟ لقد كان في جنازته من الخلق ما لا يحصيه إلا الله، لا يجمعهم حزب، ولا توحدهم قبيلة، ولا تؤلف بينهم مهنة، بل (من كل حدب ينسلون) قد أتى الله بهم ليشهدوا جنازة حبيب بعد أن أسرهم بحسن خلقه وكرم معدنه، ولقد جاء بعض الشيوخ الفضلاء من الجزيرة يخبر أنهم قد صلوا عليه صلاة الغائب في خلوتهم؛ لما له من أياد بيضاء على أهل القرآن في تلك البقعة، وفي خطبة الجمعة ـ بعد وفاته بيومين ـ أجرى الله ألسنة الخطباء في عدد من المساجد بالثناء عليه والدعاء له، وهذه إن شاء الله علامة القبول (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) اللهم ارحم حبيباً، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره، ونوِّر له فيه، وجازه بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وغفرانا، واجعل روحه في عليين، وتقبله في عبادك الصالحين، اللهم اجبر كسرنا في فراق حبيب، وعوضنا خيراً، وألهمنا وآله وإخوانه وأحبابه صبراً جميلاً؛ واجمعنا به في مستقر رحمتك ودار كرامتك؛ إنك أكرم مسئول وخير مأمول، والحمد لله في البدء والختام.(68/4)
أختاه هل تريدين السعادة
بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير . شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته أشهد أن محمد عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول وفتح به أعينا عميا وأذان صما وقلوب غلفا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحده وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأسأل الله الذي جمعنا وإياكم في هذه الروضة أن يجعلنا ممن تنزَّل عليه الرحمة، وتغشاه السكينة، وتحفُّه الملائكة، ويذكره الله -عز وجل- فيمن عنده. اللهم إنا نسألك ألا تصرفنا -رجالنا والنساء- من هذا المسجد إلا وقد غفرت لنا ما تقدم من ذنوبنا. اللهم لا تعذب جمعًا الْتقى فيك ولك. اللهم لا تعذب ألسنة تخبر عنك. اللهم لا تعذب أعينًا ترجو لذة النظر إلى وجهك. اللهم لا تعذب قلوبًا تشتاق إلى لقاك. ما أجمل أن تلتقي الأسر المسلمة على كتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما أجمل أن نتذاكر الله -عز وجل- جميعًا ليعم النفع للرجل والمرأة، والصغير والكبير، والذكر والأنثى. إنها لَنعمة عظيمة قد كان -صلى الله عليه وسلم- يفعلها، وذاك من هديِه وخير الهدي هديُه -صلى الله عليه وسلم- وعذرًا لكم -أيها الرجال- سيكون الخطاب هذه المرة من بين مرات كثيرة وكثيرة لطالما خوطبتم أنتم، سيكون الخطاب للنساء، عذرًا وعفوًا، وما يُقال للرجل يُقال للمرأة، وما يُقال للمرأة يُقال للرجل إلا فيما اختص به كل جنس عن جنس آخر، والذي خصَّه به شرعنا المطهر الذي أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-
أيتها الأخوات أيتها الأمهات هل تُردْن السعادة؟ هل تُردْن السكينة؟ هل تُردْن الأمن والطمأنينة؟ هل تُردْن ذلك في الدنيا والآخرة؟ أم تُردْنها في وقت غير وقت من هذه الأوقات؟ إني لأقول لَكنَّ: إن السعادة سعادتان؛ دنيوية مؤقَّتة بعمر قصير محدود، من طلبها مجردة وحدها فسينسى ذلك في غمسة واحدة يُغمسها في جهنم. يُؤتَى بأَنعَم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل مرَّ بك خير قط؟ هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. فينسى كل نعيم ولذة في الحياة بغمسة واحدة يُغمسها في النار. نعوذ بالله من النار. أما السعادة الثانية: فهي سعادة أخروية دائمة لا انقطاع لها –أبدًا- وهذه هي المطلوبة. فلو حصل للإنسان في حياته ما حصل من التعاسة والشقاء لم يكن بعد ذلك نادمًا أبدًا؛ لأن غمسة واحدة في الجنة تُنسيه تلك الآلام، وتُنسيه ذلك الشقاء وتلك التعاسة.(69/1)
ويا أيها الأحبة إن سعادة الدنيا مقرونة بسعادة الآخرة، وإنما السعادة الكاملة في الدنيا والآخرة للمؤمنين والمؤمنات، للصالحين والصالحات، للطيبين والطيبات، للقانتين والقانتات، للعابدين والعابدات، للمتقين والمتقيات؛ اسمع إلي ربك يوم يقول –سبحانه وبحمده-: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا من ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فالسعادة كلها في طاعة الله، والسعادة كلها في السير على منهج الله وعلى طريقة محمد بن عبد الله –صلى وسلم عليه الله- يقول الله –جل وعلا –: (وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) والشقاوة كلها في معصية الله، والتعاسة كلها في منهج غير منهج الله وغير منهج محمد –صلى الله عليه وسلم- (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا ). فيا أيتها الأخوات المسلمات هل تُردْن السعادة؟ إن كنتن كذلك، وما أظنكن إلا كذلك؛ فلتسمعن مني النصيحة والعتاب من مخلص في نصحِكن يرجو لَكُنَّ حُسن الثواب، يخشى على هذه الوجوه من الحميم من العذاب، أخواتنا لا تغضبن فالحق أولى أن يجاب. أيتها الأخت المسلمة بصوت المحب المشفق وكلام الناصح المنذر أدعوكِ وأدعو الكل، وأدعو نفسي إلى تقوى الله -عز وجل- وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً صالحة تُبيض وجوهنا يوم أن نلقى الله، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أكفر تم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون َ) تبيضُّ وجوهنا يوم أن نلقى الله. (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) ألا هل تُردْن النجاة؟ إن النجاة لفي تقوى الله –جل وعلا- لا غير. (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). ثم إني أدعوكِ أخرى –يا أخت الإسلام- إلى أن تحمدي الله –عز وجل- الذي أنعم عليك بنعمة الإيمان ونعمة القرآن وكرَّمكِ وطهَّركِ ورفع منزلتك أيَّ رفعة. لم تُرفَع منزلة المرأة تحت أي مظلة مثلما رُفعَت تحت مظلة لا إله إلا الله محمد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليس هذا فحسب؛ بل أنزل الله فيك وفي أخواتك سورة كاملة في قرآنه باسم سورة النساء، وسورة أخرى باسم سورة مريم، وسورة ثالثة باسم سورة المجادلة. ليس هذا فحسب بل خصَّك بأحكام عديدة في كتابه الكريم في حين كانت المرأة قبل هذا الدين سلعة رخيصة سلعة ممتهنه كسبق المتاع، عار على وليها وعار على أهلها، وعار على مجتمعها الذي تعيش فيه؛ ولذلك تعامل أحيانًا كالحشرة بل تُفضَّل البهائم عليها. لم تنالي عزَّك إلا في وسط هذا الدين يا أَمَة الله، فاستمسكي به، اسمعي إلى قول الله -عز وجل- يوم يحكى ماضينا لابد أن تتذكريه؛ فتحمدي الله أولاً وأخرًا وظاهرًا وباطنًا على ما أنتِ فيه. ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ). لا إله إلا الله، إنه ليئدُها ويقتلها ويدفنها حية أحيانًا، فاسمعي يا أمة الله؛ يُذكر أن صحابيًا اسمه[ عبد الله بن مغفل] –رضى الله عنه وأرضاه- كان إذا جلس عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ظهر على وجهه حزن وكآبة، حزن عظيم وكآبة عظيمة، فسأله النبي –صلى الله عليه وسلم- عن سبب حزنه ذلك الذي لا ينقطع أبدًا، فقال: يا رسول الله كنت في الجاهلية، وخرجت من عند زوجي وهي حامل، وذهبت في سفر طويل لم أعُدْ إلا بعد سنوات، وجئت وإذا بها قد أنجبت لي طفلة تلعب بين الصبيان كأجمل ما يكون الأطفال، قال: فأخذتها، وقلت لأمها: زيِّنيها زيِّنيها، وهي تعلم أني سأئدها وأقتلها، فقامت أمها تزينها وبها من الهمِّ ما بها. زينتها وتقول لأبيها: يا رجل لا تضيِّع الأمانة، يا رجل لا تضيِّع الأمانة، قال: ثم أخذتها كأجمل ما يكون الأطفال براءة وجمالاً، فخرجت بها إلى شِعْب من الشعاب، قال: وبقيت في ذلك الشعب أبحث عن بئر أعرفها هناك، فجئت إلى بئر قوية دوية، ليس فيها قطرة ماء، قال: فوقفت على شفير البئر، أنظر إلى تلك الصغيرة، فيرقُّ قلبي لما بها من البراءة، وليس لها من ذنب، ثم أتذكر نكاحها وسفاحها؛ فيقسو قلبي عليها، بين هاتين العاطفتين أعيش، قال: ثم استجمعت قواي، فأخذتها، فنكبتها على رأسها في وسط تلك البئر. قال: وبقيت أنتظر هل ماتت؟ وإذا بها تقول: يا أبتاه ضيعت الأمانة، يا أبتاه ضيعت(69/2)
الأمانة. ترددها وترددها حتى انقطع صوتها؛ فوالله يا رسول الله ما ذكرت تلك الحادثة إلا وعلاني الحزن والهم، وتمنيت أن لو كنت نسيًا منسيًا، لو كان ذلك في الإسلام. ثم نظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا دموعه تهراق على لحيته -صلى الله عليه وسلم-، وإذ به يقول -فيما رُوي-" يا عبد الله والله لو كنت مقيم الحد على رجل فَعَل فعلا في الجاهلية لأقمته عليك، لكن الإسلام يَجبُّ ما قبله "-أو كما قال صلى الله عليه وسلم-. ألا فاحمدي الله يا أخت الإسلام الذي هداك لهذا الدين، وشرَّفكِ بهذا الدين، وأكرمكِ بهذا الدين، ورفع قدركِ بهذا الدين، يوم ضلَّ غيرُك من نساء العاملين، ثم استمسكي بحبل الله -جل وعلا-، واعتصمي بدين الله -عز وجل-؛ فإنه الركن إن خانتكِ أركان. ثم أنقذي نفسك من النار، أنقذي نفسك من النار يا أَمَة الله، والله لستِ خيرًا من فاطمة الزهراء بنت رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وقد قال لها أبوها يومًا من الأيام –كما في صحيح مسلم-: "يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، لا أُغني عنكِ من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار لا أُغني عنكِ من الله شيئًا" وهذا إخطار لكِ أمة الله وإنذار منه –صلى الله عليه وسلم- يوم عُرضت عليه النار فرأى أكثرها النساء. ألا فاعلمي أنكِ عرضة لعذاب الله إن لم تخضعي لأوامر الله، إن لم تطيعي الله، إن لم تقفي عند أوامره وحدوده وتجتنبي نواهيَه، ألا فأنقذي نفسك من النار، واعملي بطاعة الله ولا تجعلي لكِ رقيبًا غير الله –جل وعلا- الذي ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا، إنك –والله- لأعجز من أن تطيقي عذاب النار. إن الجبال لو سُيِّرت في النار لذابت من شدة حرِّها؛ فأين أنتِ –أيتها الضعيفة- من الجبال الشمِّ الراسيات، متاع قليل، والآخرة خير لمن اتقى، لا مهرب من الله إلا إليه، ولا ملجأ منه إلا إليه، الكل راجع إليه، الكل مسئول بين يديه، الكل موقوف بين يديه، الكل سيُسأل عن الصغير والكبير والنقير والقطمير (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فماذا عسى يكون الجواب؟ ماذا عسى يكون الجواب يا أخا الإسلام ويا أخت الإسلام؟ ألا فأعدي وأعدَّ للسؤال جوابًا، ثم أعدي للجواب صوابًا، أطيعي الله يا أمة الله، وأطيعي رسوله –صلى الله عليه وسلم-، خذي من أوامر الله ما استطعتي، واجتنبي نواهيَه، وقفي عند حدوده، وتمسكي بدين الله، ثم تمسكي بحيائك –والحياء من الإيمان- ما استطعتِ إلى ذلك سبيلا؛ فإنكِ إمَّا قدوة اليوم، وإما قدوة الغد، وكلٌ سيُسأل؛ فماذا سيكون الجواب؟ أنت راعية في بيتك أَمَة الله-، وأنت راعية إن كنتِ معلمة في مدرسة، ومسؤولة عن رعيتك أيًّا كانت تلك الرعية –يا أَمَة الله- ألا فلتكوني قدوة حسنة في تربية الجيل، ألا ولتقومي بهذه المسؤولية؛ فإن الله سائلكِ عمَّن استرعيت ماذا فعلتِ؟ أَقُمتِ بالأمانة فيهم، أم ضيَّعتي الأمانة ليكون لك مثل أجور من اتبعك إن عملتي بالحق لا يُنقَص من أجورهم شيء؟ وإياكِ ثم إياكِ أن لا تكوني ،وإياك ثم إياك أن تكوني قدوة السوء للأخرى؛ فتأتين يوم القيامة تحملين أوزارك وأوزار من أضللت كاملة، ألا ساء ما تزرين. ألم تسمعي لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" ثم خصَّك أيتها المرأة، فقال: "المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها"؟ وفي الحديث الصحيح الآخر: "وما من راعٍ استرعاه الله رعية فبات غاشًّا لهم إلا حرَّم الله عليه رائحة الجنة". أنت راعية في مدرستك، وأنت راعية في بيتك؛ فاللهَ اللهَ لا يأتي يوم القيامة، ولكل ابن من أبنائك عليكِ مظلمة، ولكل بنت من بناتك عليكِ مظلمة؛ لم تأمريهم ولم تنهيهم، ولم تربيهم على قال الله، وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. إياكِ أن يأتي يوم القيامة، ولكل طالبة –إن كنت معلمة- عليكِ مظلمة؛ لأنكِ لم تربيهم على قال الله، وقال رسوله -صلى الله عليه وسلم-، عندها التعامل بالحسنات والسيئات يأخذون حسناتكِ، ثم تحملين من سيئاتهم، ثم تُطرَحين في النار، أجارَكِ الله من النار، ومن غضب الجبار وكل مسلمة ومسلم. اسمعي يوم يقف الناس في عرصات القيامة، يوم يقول الله -كما في الأثر-: "وعزتي وجلالي لا تنصرفون اليوم ولأحد عند أحد مظلمة، وعزتي وجلالي لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم "يؤخذ بِيَدِ العبد ويؤخذ بِيدِ الأَمَة يوم القيامة -كما يقول ابن مسعود-:" فيُنادَى على رؤوس الخلائق: هذا فلان أو فلانة من كان عليه حق فليأتِ إلى حقِّه، فتفرح المرأة أن يكون لها حق على أبيها أو أخيها أو زوجها أو أمها." (فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ) (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ(69/3)
شَأْنٌ يُغْنِيهِ)
فاللهَ اللهَ لا يكون أبناؤك وبناتك خصماءكِ عند الله فتهلكي، أجاركِ الله من الهلاك يا أَمَة الله. يا أيتها الأخت المسلمة هل تريدين السعادة؟ هل تريدين السعادة؟ اقتدي بالصالحات تفوزي في الحياة وفي الممات، واعملي صالحًا ثم أخلصي العمل لله –جل وعلا- تخلصي، وبلغي العلم إن كنتِ تعلمين شيئًا بلِّغيه؛ لأنكِ ستُسألين عنه بين يدَي الله –عز وجل- ماذا عملتِ في ذلك العلم، وإن لم تكوني قد تعلَّمتي من العلم شيئًا، فعليكِ أن تتعلمي ما يجب عليكِ؛ لتعبدي الله –عز وجل- على بصيرة وعلى هدى؛ فهذا واجب وفرض عين لا يسقط عن أي إنسان –كان من كان-.(69/4)
يا أمة الله إن الإنسان ليَأْلَم يوم يسمع عن عجائز في البيوت لا يُجِدْن قراءة الفاتحة، بل لا يعرفن كيف يصلين؟ بل لا يعرفن بعض أحكام النساء. أحد الرجال –كما يذكر أحد الدعاة إلى الله- يعود إلى أهله في البيت في يوم من الأيام ويُجلس أسرته ليربيهم، ويعرف ماذا وراء هذه الأسرة؟ فجلس معهم وقال لأمه العجوز قال: اقرئي لي الفاتحة –يريد أن يعرف هل هي تعرف قراءة الفاتحة التي لا تتم الصلاة إلا بها أم لا- قالت: وما الفاتحة يا بني؟ قال: إذا كبرتِ ماذا تقولين في صلاتك؟ قالت: أقول: لا جريت كتابًا ولا حسبت حسابًا فلا تعذبني يوم العذاب. عمرها سبعون سنة، وأنا أقول: ربما أنه يخرج من بيتها من يذهب إلى المتوسطة، وقد حفظ من القرآن ما حفظ، ويخرج من بيتها ويذهب إلى الثانوية، وقد حفظ ما حفظ، وتخرج من بيتها المعلمة وقد حفظت من كتاب الله ما حفظت، لكننا تعلمنا العلم لا لنعمل به، ولكن لتنال شهادة.، حاشاكِ أختي المسلمة أن يكون هذا ديدنك، إنكِ مسؤولة عن هذا " لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع؛ عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيمَ أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟." فماذا سيكون الجواب يا أمهات المستقبل ويا معلمات الجيل ويا مربيات الأمة؟ اقتدي بالصالحات –كما قلت- وتشبهي بهم، واعملي بما عملوا به، وامشي على أثرهم لِيُلحِقَكي الله عز وجل بهن. ها هي [سارة زوج الخليل] –عليه الصلاة والسلام، وعلى نبينا الصلاة والسلام- اعتصمت بالله عز وجل والْتجأت إلى الله عز وجل وحفظت الله في الرخاء فحفظها الله عز وجل في الشدة، أُخذت عن بيتها بالقوة من قِبَل زبانية طاغية مصر آنذاك، وقام إليها يريد فعل الفاحشة بها. امرأة ضعيفة لكنها عزيزة قوية يوم تستمسك بحبل العزيز القوي سبحانه وبحمده قامت وتوضأت وقامت لتصلي، واتصلت بربها سبحانه وبحمده مباشرة، لا وسائط بين أحد وبين الله سبحانه وتعالى قائلة: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي؛ فلا تسلط عليَّ هذا الكافر. اللهم اكفنيه بما شئت، فجَمُد الكافر هذا مكانه لا يستطيع أن يتحرك منه شيء، يوم لجأت إلى الله وقد حفظته في وقت الرخاء، فحفظها الله عز وجل في وقت الشدة. جمُدَ في مكانه ولم يتحرك ولم يتزحزح، ثم يُطلق بعد ذلك، فيمدُّ يدَه مرة أخرى على زوج الخليل، فتتجمد أعضاؤه مرة أخرى، ويبقى على ما كان عليه في المرة الأولى، ثم يمد الثالثة، ثم يمد الرابعة، ثم في الأخيرة يقول لهم: ما جئتموني إلا بشيطان، أرجعوها إلى إبراهيم، وأخدموها [هاجر]. لم ترجع سليمة محفوظة بحفظ الله فقط؛ بل رجعت ومعها مملوكة لها وهي هاجر عليها رضوان الله رجعت إلى إبراهيم عليه السلام وهي محفوظة بحفظ الله؛ لأن الله عز وجل قد قال : (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه) وقد قال رسوله صلى الله عليه وسلم "احفظ الله يحفظك، احفظ الله يحفظك " فالعز في كنف العزيز، ومن عبد العبيد أذلَّه الله؛ فهلا ائتسيتنَّ بها أيتها المسلمات، هلا لجأتُنَّ إلى الله وتركتنَّ ما يبعدكنَّ عن الله، وعكفتُنَّ على كتاب الله وسنة رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فتعلمتُنَّ كتاب الله وعلمتنَّ وبلغتنَّ فكنتنَّ فيمن قال فيهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". ليس هذا فحسب، هل كانت أسوتكِ أختي المسلمة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك التي تربَّت في بيت النبوة، وذاقت ما ذاقه ذاك البيت من أذى في سبيل الله -عز وجل-، ترى أباها -صلى الله عليه وسلم- وهو يقوم بالدعوة يقف صفًا واحدًا، والبشرية كلها صفٌّ ضده، تراه وهو يصلى، فيقول أحدهم: أيهم أو أيكم يمهل هذا المرائي حتى يسجد، فيأخذ سَلا جَذور بني فلان، فيضعه على ظهره -صلى الله عليه وسلم-؟ رأت المنظر وهي طفلة صغيرة تتربى على لا إله إلا الله، محمد رسول الله يسجد أبوها، والسَّلا على ظهره، والفرث والدم على ظهره –صلى الله عليه وسلم- ولم يجد نصيرًا له في تلك اللحظة بعد الله إلا ابنته فاطمة، وهي جارية صغيرة لتمتد إليه، وتأخذه من على ظهره، وتدعو عليهم، وتسبهم وتشتمهم. عاشت حياة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في أيام كان في مكة، ويوم هاجر إلى المدينة، ويوم استقرَّ إلى هناك. انظر إليها في تمسُّكها بدينها، وتمسكها بعفتها وحيائها وصبرها العظيم، تلك المرأة التي تزوجت بعلي –رضي الله عنه وأرضاه- فما حملت معها الجواهر ولا الفساتين، وما دخلت القصور ولا الدُّور، وإنما دخلت بيتًا من طين. أما جهازها –يا أمة الله- فهو وسادة محشوة بليف وسقاء وجُرَّتين ورَحَى تطحن الحبَّ عليها، وهي سيدة نساء العالمين –رضي الله عنها وأرضاها- ما ضرَّها ذلك وما أنقص من قدرها ذلك. انظر إليها يوم يتحدث عنها زوجها في(69/5)
آخر حياته يتحدث عنها علي -رضي الله عنه وأرضاه- فيقول: كانت بنت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكانت أكرم أهله عليه، جرت بالرحى تطحن الحب حتى أثر الجر في يديها، واستقت بالقربة حتى أثَّر الحبل في نحرِها –رضي الله عنها وأرضاها- وقَمَّت البيت حتى تغيَّرت هيئتها -رضي الله عنها وأرضاها- وأوقدت النار حتى تغيرت هيئتها، وأصابها من ذلك ضرٌ أيَّما ضر. اسمعي إليها يوم تقول -يومًا من الأيام-: خير للنساء ألا يَرَيْنَ الرجال، ولا يراهنَّ الرجال . بضعة منه -صلى الله عليه وسلم- أخذت من علمه وفقهه وحكمته -صلى الله عليه وسلم- انظري إليها يوم تَقمُّ البيت، وتوقد النار، وتجرُّ بالرَّحى، وتطحن الحب، وتصبر، ولم تتصخب، ولم تتشكى، ولم تسخط من قضاء الله -عز وجل- ثم فوق ذلك تربي أبناءها تربية عظيمة؛ تربيهم على كتاب الله، وعلى سنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- وألا يراقبوا أحدًا غير الله –عز وجل- فمن كان من أبنائها؟ كان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة –رضى الله عنهم أجمعين- هي بنت مَنْ؟ هي أمُّ مَنْ؟ هي زوج مَنْ؟
من ذا يساوي في الأنام علاها
أمَّا أبوها فهو أكرم مرسل
جبريل بالتوحيد قد رباها
وعليٌّ زوج لا تسأل عنه
سوى سيف غدا بيمينه تيَّاها
طلبت من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يخدمها مملوكة من المماليك، أن يخدمها إياها؛ فماذا كان منه –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا والله ما دام على الصفة فقير يحتاج إلى لقمة أو إلى كسرة" –أو كما قال –صلى الله عليه وسلم-، فذهبت إلى بيتها وقد تعبت من أعمال البيت، وجاء النبي –صلى الله عليه وسلم- إليها ليدخل بيتها وهي وزوجها في فراش واحد، ثم قال لهما –صلى الله عليه وسلم-: "أولا أدلكما على خير لكما من خادم" أولا أدلكما على خير لكما من خادم من الذي قال هذا؟ إنه من لا ينطق عن الهوى. إنْ هو إلا وحي يوحي. قال: "إذا أويتم إلى فراشكما فَسَبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا أربعًا وثلاثين؛ فذلكما خير لكما من خادم". هل فعلنا ذلك يا أيها الأحبة؟ بل هل علمنا نساءنا أن يذكروا هذا الذكر قبل أن يناموا؟ إنه من المعين على خدمة البيت. يقول عليٌّ: والله ما تركته من بعد ذلك اليوم حتى لقيت الله -جل وعلا- قالوا: حتى ولا ليلة صفِّين قال: ولا ليلة صفين في وسط المعركة وفي وسط ما حصل ما نسيه -رضي الله عنه وأرضاه-. إني أقول لكنَّ أيتها الأخوات: عليكنَّ بهذا فذلكن خير لكن من خادم. هل تعلمين يا أَمَةَ الله أن في بيوت المسلين الآن سبعمائة وخمسين ألف خادم في هذه الجزيرة ما بين مسلمة وما بين بوذية وما بين نصرانية وما بين مجوسية تولَّى هؤلاء. ماذا تولوا؟ تولوا تربية فلذات الأكباد، والله إن هذا لأعظمُ الكفر، والله إن هذا لأعظمُ ما تغشين به أطفالك ومجتمعك وأُمتك وبلادك -الجزيرة- التي لا يجوز دخول كافر إليها أبدًا. يا أيها الأحبة عليكم بهذا الدعاء فذلكما خير لكما من خادم. اذكري فاطمة يا أيتها الأخت المؤمنة، ثم اذكري ما عليه بعض أخواتك في الرغبة الملحة من النظر إلى الرجال، والحديث مع الرجال، والاختلاط بهم، وتشبههن بالكافرات في لباسهن ومشيتهن،
وبالله يا أختي المسلمة أنت قمَّة وأنت فضيلة وأنت طهر؛ قمة بالقرآن، فضيلة بالإيمان، طهر بتمسكك بهذا الدين؛ فكيف تتشبه القمة بالسافلة؟ وكيف تتشبه الفضيلة بالرذيلة؟ وكيف يتشبه الطهر بالنجس؟
يعيش المرء ما استحيا بخير *** ويبقى العود ما بقيَ اللُّحاء
فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
إني لأذكركِ مرات ومرات بتلك المؤمنة الطاهرة التي يذكرها أهل السِيَر بأنها قد قُتل لها ولد في إحدى الغزوات مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فجاءت تبحث عن ولدها بين القتلى وهي متنقبة ومتحجبة، فقيل لها: كيف تبحثين عنه وأنت متنقبة ومتحجبة قد لا تعرفينه؟! فأجابت إجابة المؤمنة، إجابة من أطاعت الله: لأَن أفقد –والله- ولدي خيرٌ من أن أفقد حيائي وديني. لأَن أفقد –والله- ولدي خير من أن أفقد حيائي وديني. إن الله خاطب رسوله قائلاً: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ) والله ما أنا بخير من أمهات المؤمنين ولا من نساء المؤمنين ولا من بناته -صلى الله عليه وسلم-.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح(69/6)
وهاهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرسل رجلا لخطبة بنت من بنات الأنصار له، ويأتي ويقول: رسول الله يطلب ابنتكم لي -وكان رجلاً فقيرًا ودميمًا- فما كان من الرجل إلا تردد، وما كان من الأم بعد ذلك إلا أن ترددت؛ فما كان منه أو من هذه المرأة التي تربت على الإيمان إلا أن خرجت، وقالت: أترُدَّان أمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ أين تذهبان من قول الله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا) ادفعوني إليه فإن الله لا يضيعني. أرأيتم –يا أيتها الأخوات- الاستجابة لله –عز وجل- إذا قضى أمرًا هو أو رسوله –صلى الله عليه وسلم- فهلا كانت هذه أُسوة لكِ.[ سميَّة] تعتنق الإسلام، وتُضَرب وتُؤذَى، يريدون أن يردُّوها عن دينها، وما نقموا منها إلا أن آمنت بالله –الذي لا إله إلا هو- فأبَتْ؛ لأنها علمت أنها على حق؛ فماذا كان منها؟ تقدم إليها الشقي بحربته ليطعنها في موطن عفَّتها، ولسانُ حالها يقول: (وَعَجِلْتُ إِلَيكَ رَبِّي لِتَرْضَى) فكانت أول شهيدة في الإسلام بإذن الله -سبحانه وبحمده-. ومن قبل هؤلاء امرأة فرعون [آسيا] التي آمنت في وسط بيت من يقول: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) لم يصدها جبروته، ولم يصدها قوته، ولم يصدها طغيانه. لما تبين إسلامها طلب منها أن ترجع عن دينها، فأَبَتْ وأنَّى لمسلم يعرف هذا الدين ثم يعود عنه وينكص على أعقابه؛ فماذا كان منه؟ أوْتدَ رجليها، وأوْتدَ يديها بأربعة أوتاد، ثم ربطها وألقاها في الشمس، ومنع عنها الطعام والشراب وضربها ضربًا مبرحًا، وآذاها ووكَّل من يؤذيها، فقالت: ماذا قالت؟ وإلي من لجأت؟ لجأت إلى فاطر السماوات والأرض (رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) روي أنها لما قالت ذلك رُفعت دونها الحُجُبُ حتى رأت بيتها في الجنة من دُرة بيضاء مُجوَّفة، فضحكت وهي تُعذَّب حتى قالوا: هذه مجنونة، تُعذَّب وتضحك؟!. يقول الضحَّاك: فأمر فرعون بعد ذلك بحجر يلقى عليها، وهي في أوتادها؛ فما وصل الحجر إليها حتى أخذ الله روحها قبل ذلك، فصارت مثلاً للذين آمنوا. أرأيتم –يا أيها الأحبة، ويا أيتها الأخوات- كيف تكون المؤمنة متعلقة بالله –عز وجل- فيحفظها سبحانه وبحمده؟ ليس هذا، قد تقولون: هؤلاء في عصر مضى، فسأذكر لكم نموذجًا من هذا العصر؛ عجوز جالست النساء، وهي تخشى الله –عز وجل- وتعلم أن هذا اللسان لطالما أردى كثيرًا من الناس في حفرة من حفر النار، وأوقعهم في أعراض المسلمين وأعراض المسلمين حفرة من حفر النار ما كان من هذه المرأة يوم أن جالستهم؛ فلم تجد فائدة إلا أن اعتزلت بيتها؛ فهي تذكر الله آناء الليل وأطراف النهار، وتقرأ القرآن، واعتزلت النساء ولم تجلس معهن، وكان لها ولد بارٌ بها، وفي ليلة من الليالي، قد كانت تقوم أكثر ليلها يوم أصبح قيامنا وقيام أهل بيتنا إلا من رحم الله على التمثيليات والمسلسلات، ونسأل الله أن يعصم قلوبنا أن نلقى الله على ذلك. يا أيها الأحبة كانت تقوم ليلها، وفي ليلةٍ من الليالي، وإذا بها تنادي ابنها في ثلث الليل الآخر، وتقول: يا بني ها أنا على وضع سجودي لا يتحرك مني عضو واحد؛ فما كان منه إلا أن أخذها وذهب بها إلى المستشفى، وهو بارٌ بها، يريد أن تعود إلى صحتها، نور في البيت تذكر الله ليلاً ونهارًا، وذهب بها إلى الأطباء، وفعلوا ما فعلوا، وأنَّى لبشر أن ينجي من قدر؟ وأنَّى لِحَذَرٍ أن ينجي من قدَر سألته بالله أن يعيدها إلى بيتها ، فأخذها وذهب بها إلى البيت، ووضَّأها، ثم قالت: أعِدني على وضع السجود كما كنت على سجادتي في آخر الليل، وإذا بها بعد فترة ليست بالطويلة تنادي ابنها وتقول: يا بني أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. لتلقى الله –عز وجل- وهي ساجدة؛ يغسلونها وهي ساجدة؛ ويكفنونها وهي ساجدة؛ ويذهبون ليصلوا عليها وهي ساجدة، تُحمل إلى المقبرة وهي ساجدة، وتدخل القبر وهي ساجدة، ومن مات على شيء بُعث عليه، تُبعث بإذن الله ساجدة. يا أيها الأحبة رجالاً ونساء امرأة تقوم من الليل ما تقوم، وبعضنا لا يقوم من ليله ولو لساعة أو نصف ساعة أو لدقائق أو لركعتين أو ثلاث يرجو بها رحمة الله، يرجو بها نفحة من نفحات الله -عز وجل-. إني أقول: تشبهوا بهذه العجوز وقد منحكم الله ما لم يمنحها من الصحة والقوة. وهاهي ابنة [سعيد بن المسيب ] -عليه رحمة الله- وهذه مثل للأخوات المتعلمات؛ لما دخل عليها زوجها –وكان من طلبة العلم- أصبح في الصباح فأخذ رداءه يريد أن يذهب ليُثنيَ ركبته في مجلس سعيد بن المسيب أبيها. فقالت: إلى أين تريد؟ قال: إلى مجلس أبيكِ سعيد أتعلمُ العلم، فقالت: له اجلس(69/7)
أعلمك علم سعيد، فوجد ما كان يتعلمه من سعيد عند ابنته. هكذا تكون المرأة المسلمة، وهكذا تكون المعلمة الفاضلة تصبح نورًا يَشِعُّ على زوجها وعلى بيتها؛ فلا يخرجون من البيت إلا طيبين وصالحين بإذن الله. وإن نسينا فلا ننسى عائشة -رضى الله عنها- تلكم العالمة التي ماتت ولم تَخْطُ بعد إلى التاسعة عشر، وملأت الأرض علمًا حتى قال فيها [الزهري]: لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل وأكثر وأفيد. طلبت العلم ولم تعزف عن الزواج، كما يفعل بعض أخواتنا في هذه الأيام يطلبون العلم، فيعزفون عن الزواج. تزوجت -يا أيها الأحبة- وهي في التاسعة أو أقل من ذلك، ولم تتعلم إلا قال الله وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-. لم تتعلم قصص الغرام، ولم تتعلم الحب، ولم تتعلم الأدب الإنجليزي، ولم تصرف وقتها إلا فيما ينجيها؛ كتاب الله وسنة نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- فرضى الله عنها وأرضاها، ووفق أخواتنا لتكون هي وأمثالها قدوة لهن. وهاهو[ أبو قدامة الشامي] يقف خطيبًا في يوم من الأيام على المنبر يَعِظ الناس ويذكرهم بفضيلة الجهاد في سبيل الله –جل وعلا- ماذا كان من هذا الرجل؟ خرج من المسجد، وقد اشْرَأَبَّتْ الأعناق للذهاب إلى القتال في سبيل الله، وخرج يمشي في شارع من شوارع مدينته، وإذا بهذه المرأة تقول: يا أبا قدامة السلام عليك، فلم يرد عليها السلام؛ لأنه خشي أن تفتنه؛ لأن نبيه –صلى الله عليه وسلم- يقول: "فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء." فلم يرد عليها الأولى، ولم يرد عليها الثانية، وفي الثالثة قالت: السلام عليك يا أبا قدامة ما هكذا يفعل الصالحون. قال: فتوقفت فتقدمت إليّ، وقالت: سمعتك وأنت تشحذ الهمم للجهاد في سبيل الله، وفتشت، فلم أجد -والله- أغلى عندي من ضفيرتَيْ شعري، فقصصتهما، فخذهما، واجعلهما لجامًا لفَرَسِك في سبيل الله؛ علَّ الله أن يكتبني من المجاهدات في سبيله. ولا إله إلا الله تقصُّ ضفائرها لجامًا لخيل الله ولجند الله. وأخرى تقص ضفائرها لتكون أشبه بالبغايا العاهرات. شتان بين مشرق ومغرب. شتان بين الفريقين –يا أيها الأحبة- من تشبَّه بقوم فهو منهم. أرأيتم هذه المرأة في اليوم الذي بعده؟ يقول أبو قدامة: وقد انطلقنا نريد الجهاد في سبيل الله، قال وإذا بهذا الطفل يأتي ويلحق بنا، ويقول: يا أبا قدامة سألتك بالله أن تجيزني في القتال في سبيل الله. قال: تطؤك الخيل بحوافرها. قال: سألتك بالله إلا أخذتني. قال: إن قُتلت تشفع لي عند الله- شرط- ؟ قال: نعم، فأخذه معه على فرسه، وانطلقوا حتى قابلوا الروم، وحينما قابلوهم قال: سألتك بالله ثلاثة أسهم. قال: تضيعها إذاً. قال: سألتك بالله ثلاثة أسهم، فأعطاه، فأخذ سهمًا، وقال: السلام عليك يا أبا قدامة، بسم الله، ثم أطلقه، فقتل روميًا، ثم أطلق الثاني فقتل روميًا، ثم أطلق الثالث فقتل روميًا ثالثًا، ثم جاءه سهم، فضربه في لبته، فأرداه من فوق الفرس وهو يقول: السلام عليك يا أبا قدامة سلام مودع، ثم سقط فسقط وراءه أبو قدامة، وقال: لا تنسَ الوصية، لا تنسَ الوصية. فما كان منه بعد ذلك إلا أن قال: خذ هذا وأعطِه أمي. قال: ومن أمك؟ قال: أمي صاحبة الضفيرتين التي أعطتك إياها بالأمس. أرأيتم إلى البيوت المسلمة يوم تُربَّى على لا إله إلا الله محمد رسول الله ، المرأة مربية الأجيال
والأم مدرسة إذا أعددتها *** أعدت شعبًا طيِّب الأعراق
هاهي [صفية بنت عبد المطلب] عمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تِلْكُم المرأة الحازمة التي ربَّتْ للأمة أول فارس سلَّ سيفًا في سبيل الله. توفي عنها زوجها وترك لها الزبير -وهو طفل صغير- فنشَّأته على الخشونة والبأس، وربَّتْه على الفروسية، لم تُنشِّئْه على التنعُّم وعلى الترفُّه وعلى الميوعة حتى أصبح الأطفال والرجال -الآن- أشباه رجال لا رجالاً، جعلت لعبَه في برْيِ السهام وإصلاح القسي، لم تجعل لعبه في لعب الكرة، وفي مطاردة الدراجات في الشوارع يمينًا وشمالاً، يتسكعون. كانت تقدمه في كل مخوفة، وكانت ترميه في كل خطر؛ تريد أن يكون لَبِنَة صالحة في هذا المجتمع؛ فإذا تردد عنها ضربته وأوجعته حتى إن أحد أعمامه يومًا من الأيام قال لها: إنكِ تضربينه ضربَ مبغضةٍ لا ضرب أم، فارتجزت قائلة:
من قال قد أبغضته فقد كذب *** وإنما أضربه لكي يَلُبَّ
ويخدم الجيش ويأتي بالسلب.(69/8)
هاجرت إلى المدينة النبوية، وهي تقفو إلى الستين من عمرها، تركت مدارج الشباب، وتركت مكة، وهاجرت بدينها فارَّةً إلى الله –جل وعلا- في المدينة، وفي يوم أُحد شاركت في يوم أُحد لما رأت ما حل بالمسلمين وهي تسقيهم بالماء هبَّت كاللبؤة، وانتزعت رمحًا من أَحَد المنهزمين، ومضَتْ تشق الصفوف به، وتزأر وتقول: ويحكم أتنهزمون عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم؟ فلما رآها النبي-صلى الله عليه وسلم- خشيَ أن ترى أخاها حمزة وقد مثَّل به المشركون؛ فما كان منه إلا أن أشار إلى ابنها الزبير، وقال: "دونك أمك" أو كما قال –صلى الله عليه وسلم-. فقال الزبير: يا أماه إليكِ، يا أماه إليكِ. قالت: تنحَّ عني، لا أمَّ لك. فقال: إن رسول الله يأمركِ أن ترجعي. قالت: الأمر أمر الله وأمر رسوله، فتوقفت، ثم قالت: والله لقد بلغني أنه مُثِّلَ بأخي حمزة ولأصبرنَّ، وذلك في ذات الله في سبيل الله، ثم انتهت المعركة، وما كان منها إلا أن وقفت على أخيها وقد بُقرَ بطنُه، وأُخرِجت كبدُه، وجُدِع أنفه وأُذناه، وشُوِّهَ وجهُه، فاستغفرت الله له، وجعلت تقول في ذات الله: لقد رضيت بقضاء الله، لقد رضيت بقضاء الله. لم تلطم خدًّا، ولم تُشق جيبًا، ولم تنُحْ، وما كان لها أن تكون كذلك، وها هي في يوم الخندق يوم وضع النبي –صلى الله عليه وسلم-. النساء في حصن حسان وهو حصن من أمنع الحصون، ولم يترك معهن من الرجال، فذهب الجيش إلى الخندق، وما كان منها إلا أن رأت يهوديًا يتسلل إلى القصر وإلى هذا الحصن يريد أن ينظر هل في الحصن رجال أم يستخلي اليهود بهذا الحصن- ليسلبوا النساء والذراري، لما رأته أخذت عمودًا من الحصن، ثم هجمت عليه حتى قتلته، ثم لم تكتفي بذلك فاحتذت رأسه واقتطعته، وأخذته وخرجت إلى أعلى الحصن، ثم رمَتْ برأسه على اليهود يتدحرج بينهم، فقالوا: قد علمنا أن محمدًا لن يترك النساء بلا رجال. رضي الله عن صفية، ربَّت وحيدها أحسن تربية وأُصيبَتْ في شقيقها، فاحتسبت ذلك وعملت لهذا الدين وحملت همَّ هذا الدين، وهكذا يكون نساء المسلمين أيتها الأخوات. إن النماذج لكثيرة كثيرة لكني أقف مع نموذج أخير أو قبل الأخير، وهو مع أم [الإمام أحمد] الذي يموت أبوه عنه، وهو صغير فتكفله أمه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة، تقوم بتربيته ،وهذا دور المرأة يوم تكون صالحة. تنتج اللَّبِنات الصالحة. نشأت ابنها على حب الله ورسوله، وعلى حب كتاب الله، يقول أحمد: حفَّظتني القرآن وعمري عشر سنوات، ومن حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيْه. يقول: كانت توقظني قبل صلاة الفجر بوقت ليس بالقصير، وتدفئ لي الماء؛ لأن الجو كان باردًا في بغداد، وتُلبسُني اللباس، ثم نصلي أنا وإياها ما شئنا، ثم ننطلق إلى المسجد وهي مختمرة؛ لأن الطريق كان بعيدًا مظلمًا موحشًا لتصلي معه صلاة الفجر في المسجد -وعمره عشر سنوات-، وتبقى معه حتى منتصف النهار لتعلمه العلم وتربيه التربية ليكون لَبِنَة صالحة ينفعها يوم تقْدمُ على الله -جل وعلا-. يقول: فلما بلغت السادسة عشرة قالت: يا بني سافِرْ في طلب الحديث؛ فإن طلب الحديث هجرة في سبيل الله. أعدت له بعض متاع السفر من أرغفة الشعير ومن صُرَّة ملح ومن بعض مستلْزَمَات السفر، ثم قالت: إن الله إذا استُودِع شيئًا حفظه، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه. ذهب من عندها إلى المدينة وإلى مكة وإلى صنعاء ليعود الإمام أحمد، وقد قدَّم للأمة ما قدم ولأمه -إن شاء الله- من الحسنات مثلما عمل أحمد ومثل من يعمل بعمل أحمد إلى أن يلقى الله بمنِّه وكرمه، والخير في الأمة كثير وكثير.
فلو كان النساء كمن ذكرنا *** لفَضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لاسم الشمس عيب *** وما التذكير فخر للهلال
هل أعجبتكِ خصال هؤلاء النساء؟
إذا أعجبتك خصال امرئ *** فكنه يكن ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات *** إذا جئتها حاجب يمنعك.(69/9)
يا أيتها الأخت المؤمنة إن أعداءك كُثْرٌ، وإنما يريدون استغلالكِ لهدم الدين والحياء والفضيلة، كُثْر كُثْر. وقد يكونون ممن يتكلمون بألسنتنا ومن بني جلدتنا، يقول أحدهم: لا تستقيم حالة الشرق إلا إذا رفعت الفتاة حجابها عن وجهها وغطت به القرآن الكريم ويقول آخر: كأس وغانية تفعلان بالأمة المحمدية ما لم تفعله المدافع والقذائف؛ فأغْرِقوهم بالشهوات والملذَّات فما موقفكِ أمَةَ الله من هؤلاء؟ إن الموقف المنتظَر مِنكن هو الاعتصام بدين الله والوقوف عند حدود الله، ولكننا نرى – ويا ليتنا ما نرى – أحيانا نرى الكاسية العارية. أحيانًا نرى أن بعض النساء تتصور أن السفور هو كشف الوجه فقط، لا، ذاك شيء، ومعه – أيضًا – السفور الذي لو غطت المرأة وجهها قد يكون أحيانا برؤيتها، وكأنها تمشي في صالة عرض، تُبدي مفاتنها، وتُخرج محاسنها. إن من السفور لبسَ الضيق. إن من السفور لبس العباءة الخفيفة الجذابة في منظرها. السفور بلبس القصير والخفيف من الملابس. أهان عليكِ - يا أختي المسلمة - أن تلبسي لباس أهل النار. ألم تسمعي قول النبي -صلى الله عليه وسلم- " صنفان من أهل النار لم أرَهما بعد..." وذكر منهن: "نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأَسْنِمَةِ البُخْت المائلة، لا يدخلْنَ الجنة ولا يجدْن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" ألا هل ترضين أن تكوني من أهل النار؟ هل ترضين أن تخرجي من آداب القرآن والسنة إلى عادات قوم أخذوها من اليهود والنصارى؟ هل ترضين أن تكون ابنتكِ وثمرة فؤادك من أهل النار؟ هل ترضين أن تُلبسي بناتك لبسًا تتعرَّى به من الحياء، والحياء من الإيمان؟! هل ترضين لابنتك أن تُعرَض كما تُعرَض السلع فاتنة ليتعلق بها كل سافل وحقير ومهين ورذيل؟. هل ترضين أن تَلبسي أو تُلبسي لباس أهل النار؟ لا –يا فتاة الإسلام- لن ترضَيْ، ولا ترضَيْ، وهذا هو المأمول، حصنكِ الحصين دينكِ العظيم يحافظ على عفتكِ وعلى حيائكِ وعلى فضيلتكِ، يأمرك بالحجاب والاحتشام متى ما تركتِ هذا الأمر كنت عرضة لعذاب الله في الآخرة، وفي الدنيا عرضة للذئاب البشرية التي تريد عفافك الذي به تشرفين، تريد أن تفجعك بعفافك لتتجرعي الغصص مدى الحياة. وبعض أخواتنا–هداهُنَّ الله- يسمعْن لنداء الذئاب، ويسعين لهم. حالهن كقول القائل: قطيع يساق إلى حتفه ويمشي ويهتف للكافرين. يا فتاة الإسلام الأيادي الماكرة الخبيثة تمتد إليكِ في صورة مقالات ساحرة، في صورة مجلات خليعة، في صورة مسلسلات فاتنة، في صورة كلمات أدبية، في أعمدة الصحف تريد إخراجكِ إلى الشقاء والتعاسة؛ فكم من مقالة تقول: إن الإيمان في القلوب، لا في ستر الوجه والجيوب، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا. إنهم يريدون منك الخطوة الأولى –وهي أصعب خطوة، ومسافة الميل تبدأ بخطوة واحدة- يريدون أن تكوني فاجرة عاهرة سافرة، حاشاكِ ذلك، ينتظرون منكِ بفارغ الصبر أن تلقي العباءة وتتخلصي من الحجاب ومن مستلزماته من الإيمان والحياء والطهر، ثم تتركي الصلاة، ويومها تقرُّ أعينهم؛ فيلعبون بكِ لَعِب الأطفال بالكرة، ويعبثون عبث الكلاب بالجِيَف. حفظكِ الله منهن، أغيظيهم بعدم الالتفات إليهم والسماع لهم. اقتليهم حسرة بتوفير حيائك وملازمة حجابك؛ فإنما أطمعهم في الوصول إلى غاياتهم ما لاحَ لهم من النجاح في سماح منكِ لمختلف الأغنيات والمسلسلات والأفلام الماجنات. أغراهم بالوصول إلى بعض فتياتنا بالخروج إلى الأسواق والوقوف أمام الباعة من غير ما ضرورة، والتجوال في الشوارع والأسواق، ألستِ تؤمنين بالله واليوم الآخر؟ ألستِ ترجين الله والدار الآخرة؟. إن عُرف هذا فاعلمي أن الله حرَّم السفور كما حرَّم الفسق والفجور، وأمر المؤمنات بغضِّ الأبصار وحفظ الفروج ونهاهنَّ عن إبداء شيء من الزينة؛ بل أمر أن يقَرْن في بيوتهن فلا يخرجن من غير ما حاجة. وإذا خرجن لحاجة فليخرجن متسترات غير متجملات ولا متعطرات وبإذن وليِّهن. "أيَّما امرأة خرجت بغير ذلك فهي في سخط الله حتى ترجع، وأيما امرأة استعطرت ومرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية". ألا فلتمشين متواضعات في أدب وحياء. ألا لا تتخذن خلاخل وما يشبه الخلاخل، ولا أحذية تضرب الأرض بقوة، فيُسمَع قرعها، وربما أوقعت في القلوب شيئًا. إن الله يقول: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) "لا تخلونَّ امرأة بغير ذي محرم لها". "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما". لا تصافحي الرجال؛ فإن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قد امتدت إليه يد امرأة تبايعه، فقال: "إني لا أصافح النساء". اتقين الله –أيتها الأخوات- فإنه لا صبر لكُنَّ على النار. إنكنَّ تصبرْنَ على الجوع وعلى الضر وعلى التكاليف، لكن –والله- لا صبر لكُنَّ على النار –أجاركن الله وكل مسلمة من النار-. أيتها الأخوات لا تتَّبعْن خطوات الشيطان؛ فإنه يأمر بالسوء والفحشاء.(69/10)
يا من آمنت بالله، ويا من سجدت لله، ويا من استترت بستر الله حذارِ حذارِ من السقوط؛ فإن السقوط إلى النار وبئس القرار. حذارِ حذار يا بنت عائشة وحفصة وسارة وزينب وأسماء أن تغتري بزيف حضارة الغرب المادية فهي زَبَدٌ اكتووا هم بنارها؛ فاستمعي واعتبري.
واعرف الشر لا للشر لكن لتوقِّيه *** ومن لا يعرف الشر من الخير يقع
فيه نشرت إحدى الصف الأمريكية استقراءً خطيرًا في إحدى جامعاتها في سنة واحدة ثبت أن عشرين ألف فتاة حملن من الزنا –نعوذ بالله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن- وأن أمريكا تستقبل مليون طفل من الزنى والسفاح سنويًا، وتعاني من مشكلة رعاية هؤلاء الأطفال الآن. وفي إحصائيات للتليفزيون الفرنسي بلغ عدد العازبات من النساء ثمانية ملايين امرأة، وبلغت حوادث اغتصاب الفتيات اثنتين وعشرين ألف حالة سنويًا، كاتب أمريكي يقول: إحصائيات عام تسعة وسبعين للميلاد تدق ناقوس الخطر؛ عدد اللواتي يلدن سنويًا دون زواج في سن المراهقة ستمائة ألف فتاة، منهن عشرة آلاف دون سن الرابعة عشرة، ومع ذلك يقولون –وكبرت كلمة تخرج من أفواههم- يقولون: إن الحجاب وعدم الاختلاط كبْتٌ جنسي، ومع ذلك تجد الواقع يكذبهم. أين اثنان وعشرون ألف حالة سنويًا من الاغتصاب عندهم؟ أين هذا الكبت الذي يقول: بأنه لا يعيشه إلا المسلمة التي تأتمر بأمر الله؟! حالات الاغتصاب –كما سمعتن- لا تُحصى، ونكاح الرجل ابنته وأمه وأخته مألوف ومشهور –عافانا الله وإياكم من الفسق والفجور-. وفي بريطانيا عشرون ألف حالة إجهاض سنويًا، ناهيك عن الأمراض التي طمَّت وعمَّتْ كالإيدز والسيلان والهربز. وصدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم- القائل –قبل أربعة عشر قرنًا-: "وما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم". (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ). يا فتاة الإسلام إنهم يريدون لمجتمعنا أن يكون كمجتمعهم (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) فانتبهي واحذري –يا أخت الإسلام- أنت أمام داعييْن: داعٍ إلى النار والعار والشنار؛ ففرِّي منه فرارك من الأسد، وداعٍ إلى الجنة وهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي جعل من أكبر اهتماماته المرأة، خاطبها، ووعظها، وبالله ذكَّرها وأبكاها. كان يصلي العيد، ثم ينتقل إلى النساء، فيعظهنَّ، ويذكرهن بالله، ويربيهن على الإيمان، وهديه –صلى الله عليه وسلم- موجود بيْن أَيْديكنَّ، وخيرُ الهدي هديُه –صلى الله عليه وسلم- فالْزموه. في وقت ستجدين فيه من يستهزئ بكِ، ويريد منكِ أن تكوني غربية سافلة ساقطة. ستجدين من يقول للحجاب: خيمة، ولقد قيل –وكبرت كلمة تخرج من أفواههم- ستجدين من يقول: عليكِ أن تبحثي عن قائد يقودك إلى المدرسة، وستجدين من يقول: آن لكِ أن تمزقي حجابك وتمشى سافرة يدعونكِ إلى جهنم إن أجبتيهم قذفوكِ فيها؛ فليكن جوابك:
اخسئوا لأني مولعة بالحق لستُ *** إلى سواه أنحو ولا في نصره أئنُّ
دعهم يعضوا على صم الحصى *** كمدًا من مات من غيظه منهم له كفن؟(69/11)
ولنقف مع نموذج هنا وهو وقفة عظيمة أخيرة وقفة تأمل وتدبر. لابد أن نقفها مع هذا النموذج إنه مع نموذج فريد. مع نموذج درس وحده لنقف مع[ أسماء] –رضى الله عنها وأرضاها- ذات النطاقين الصدِّيقة بنت الصديق التي حظيت بموقف لم تحظَ به امرأة قبلها ولا بعدها ولا حتى الرجال، ألا وهو خدمة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأبيها في الغار، في طريق الهجرة إلى المدينة النبوية، حدث لم يتكرر، وخدمة لن تتكرر، تزوجت بالزبير –رضى الله عنه وأرضاه- وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، رضيت به زوجًا؛ لأنه ابن الدعوة الذي شهد فجرها كما شهدتها هي، ولأنه ابن الدعوة الذي ذاق حلاوة الأذى في سبيلها كما ذاقتها هي، إنهما يشتركان في الإيمان والدعوة والشجاعة، انتقلت من بيت أبيها إلي بيت زوجها المتواضع، لم تحمل جواهر، ولم تحمل فساتين، وإنما تحمل همَّ مستقبل الإسلام بين أضلاعها ومصير الدعوة، تقول ذات يوم: تزوجني الزبير، وما له في الأرض مالٌ، وماله مملوك غير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وكنت أكفيه مئونته، وكنت أقوم فوق ذلك بأعباء بيته. واسمعوا –يا أيتها الأخوات- لم تكن أسماء عبئًا على زوجها الزبير بما لها من مطالب دنيوية ورغبات ذاتية؛ لأنها لم تطلب الدنيا للمتعة، ولم تطلب من زوجها أن يكون لها لوحدها يحقق رغباتها، ويسعى لتوفير السعادة لها؛ بل كانت هي في خدمة زوجها تسعده وترضيه وتقف وراءه، وتحتسب ذلك. فهو على ثغر في خارج البيت، وهي على ثغر في داخل البيت، وهذه هي القسمة العادلة، وهكذا تكون الأسرة المسلمة. فأين تقف المرأة المسلمة اليوم مع زوجها في دعوته؟ هل تتعهده بالطمأنينة؟ هل تشحنه بالعزيمة؟ هل تقف صفًّا وراءه، وتتخلى عن بعض رغباتها في سبيل الله؟ أم أنها تقف عقبة تُعيقُه في طريق دعوته، وفي طريق رسالته. إني لأدعو الأخوات إلى دفع الأزواج، وإلى دفع الأبناء، وإلى دفع الإخوان، وإلى دفع الأخوات إلى الإصلاح والدعوة والعلم ولهن في أسماء قدوة ونعم القدوة. لا زلنا نعيش مع أسماء ويرزقها الله -جل وعلا- بعبد الله، فتربيه تربية المؤمنات، تُتحفُّ سمعه وقلبه بمبادئ هذا الدين تُتْحف سمعه صباحًا ومساءً بتلاوة آيات الله البينات على آذانه، تُتْحِف سمعه وقلبه بذكر الله آناء الليل وأطراف النهار حتى شبَّ وترعرع، وأبواه لا يفتران عن تعليمه أمور الدين، وتربيته على الإسلام حتى إنه ليقتحم مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا من الأيام، وهو لا زال صغيرًا فيتبسم -صلى الله عليه وسلم- يوم جاء يبايعه، ويقول:" إنه ابن أبيه، إنه ابن أبيه "كما روى عنه -صلى الله عليه وسلم-. فهل تعي الأمهات مسؤولية الأبناء، نرجو ذلك. إن المرأة الغارقة في الرفاه والتنعم والترف والتي تستهلكها الدنيا من طعام وشراب وزينة وتفاخر ومظاهر براقة لا تربي الأطفال، ولا تربي العلماء، ولا تربي الأتقياء. إنما تربي التنابلة والبطَّالين والكسالى والخاملين والعالة على المجتمع المتسكعين أشباه الرجال ولا رجال. انظرن -يا أيتها الأخوات- لأسماء في أحْلَكِ المواقف، وقد بلغت السابعة والتسعين من عمرها، يوم حوصر ابنها في الحرم، فتدخل عليه، فيدخل هو عليها يستشيرها في الموقف؛ ماذا يفعل؟ فقالت بثبات المؤمنة المربية: أنت أعلم بنفسك يا عبد الله، إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى الحق؛ فاصبر عليه حتى تموت في سبيله، وإن كنت تريد الدنيا فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن معك. قال: يا أماه –والله- ما أردت الدنيا، وما جُرْتُ في حكم، وما ظلمتُ، وما غدرت، والله يعلم سريرتي، وما في قلبي، فقالت: الحمد لله، وإني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إن سبقتني إلى الله، تعانقَا عناق الوداع، ثم قالت: يا بني اقترب حتى أشمَّ رائحتك، وأضم جسدك، فقد يكون هذا آخر العهد بك، فأكبَّ على يديها ووجهها يلثمها ويقبلها وتشتبك دموعه بدموعها وهي تتلمسه. عمياء لا ترى، ثم ترفع يدها، وهي تقول: يا عبد الله ما هذا الذي تلبسه؟ قال: درعي. قالت يا بني ما هذا لباس من يريد الشهادة في سبيل الله، انزعه عنك؛ فهو أقوى لوثبتك، وأخفُّ لحركتك، والبس بدلا منه سراويل مضاعفة حتى إذا صُرعت لم تنكشف عورتك. نزع درعه، وشدَّ سراويله، ومضى إلى الحرم، وهو يقول: يا أماه لا تَفْتُري عن الدعاء،. فرفعت كفَّها وقلبها إلى الله قائلة: اللهم ارحم طول قيامه، وشدة نحيبه في سواد الليل، والناس نيام. اللهم ارحم جوعه وظمأه في هواجر مكة والمدينة، وهو صائم. اللهم إني قد أسلمته إليك، ورضيت بما قضيت فيه، فأثبني فيه ثواب الصابرين. ويذهب ويصلي طوال ليلته تلك، ويصلي بالناس الفجر، ثم يحمد الله، ويثني عليه، ويحرض أصحابه على القتال، ثم ينهض ليقاتل وتأتيه ضربة في وجهه، يرتعش لها ويسيل الدم على وجهه، فيقول:
ولسنا على الأعقاب تدمي كلومنا *** ولكن على أقدامنا تقطر الدم(69/12)
ثم سقط فأسرعوا إليه، فأجهزوا عليه، فارتجت مكة بالبكاء عليه -عليه رحمة الله- ثم لم يكتفوا بذلك، بل صلبوا جسمانه كالطود الشامخ في ريع الجحون.
عُلواً في الحياة وفي الممات *** بحق أنت إحدى المكرمات
كأنك واقف فيهم خطيبا *** وهم واقفون قيامًا للصلاة
وتسمع الأم الصابرة ذات السبع والتسعين سنة العمياء البصيرة، وتذهب إلى ولدها المصلوب كالطود الشامخ، وتقترب منه، وهي لا ترى وتدعو له، وإذ بقاتله يأتي إليها في هوان، ويقول: يا أمَّه إن الخليفة أوصاني بكِ خيرًا، فتصيح به: لست لك بأم، أنا أم هذا المصلوب، وعند الله تجتمع الخصوم، ويتقدم ابن عمر مخاطبًا عبد الله المصلوب: السلام عليك يا أبا خبيب، السلام عليك يا أبا خبيب، والله ما علمتك إلا صوَّامًا قوَّامًا وصولا للرحم، أما وقد قال الناس: إنك شرُّ هذه الأمة، أما والله لأمةٌ أنت شرُّها لأمة خير كلها. ثم الْتفت إلى أصحابه قائلاً: أما آن لهذا الفارس أن يترجل، ويتقدم ابن عمر إلى أسماء معزيًا مواسيًا، ثم يقول لها: اتقي الله واصبري، فقالت –بلسان الصابرة المؤمنة الواثقة بموعود الله-: يا ابن عمر، وماذا يمنعني من الصبر وأقد أهِدي رأس يحيى بن زكريا إلى بَغِيٍ من بغايا بني إسرائيل؟!. أرأيتنَّ ما أعظم الأم المربية! وما أعظم الابن المربَّى! لم تلطم خدًّا، ولم تشق جيبًا، ولم تنُح، وإنما سلَّمت الأمر لله، فلله الأمر من قبل ومن بعد. (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) انظرن –أيتها الأخوات- إلى[ أسماء] يوم يقدم ابنها المنذر، يوم يقدم ابنها [المنذر بن الزبير]، فأرسل إليها بكسوة من بلاد <مرو>، كسوة رقاق عتاق، وهي لا ترى، فقامت تتلمس هذه الكسوة، ثم قالت: أفٍ أفٍ ردوا عليه كسوته، فشقَّ ذلك على ابنها، وقال: يا أماه إنه لا يشفُّ –يعني لا يشف عما تحته- قالت: إن لم يشفّ فهو يَصِفُ، إن لم يَشفّ فهو يَصِفُ، فاشترى لها ثيابًا أخرى لا تشف وأعطاها، فقالت: مثل هذا فاكسني يا بني، مثل هذا فاكسني يا بني. رحم الله أسماء لو رأت ما يصنع بعض نساء المسلمين اليوم، وما يلبسه بعض حفيدات أسماء وخديجة وسمية وصفية ماذا يكون الجواب؟ إننا لنعجب والله من أُذن تسمع قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "صنفان من أهل النار –وذكر منهم- نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات –إلى أن قال-: لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسافة كذا وكذا وكذا". ثم لا نزال نرى في بعض المسلمات -هداهنَّ الله- من تلبس الضيق، وتلبس الشفاف، وتجمع الحشف وسوء الكيل؛ فتلبس القصير والضيق والشفاف.
كأن الثوب ظل في صباح *** يزيد تقلصًا حينًا فحينًا
تظنين الرجال بلا شعور *** لكأنك ربما لا تشعرين
إنه وعيد شديد، وزجر أليم، ماذا بعد الحرمان من الجنة ورائحتها الزكية التي توجد من مسيرة ألف عام وأكثر، إلا النار؟!. يا أيتها المسلمة إنكِ في هذه الحياة يوم تخالفين أمر الله، فتقعين في الوعيد الشديد. يوم تجوبين الأسواق سافرة، وتقفين مع باعة الأغنيات والمجلات والفيديوهات ماجنة لتحطِّي من قدركِ في هذه الحياة؛ فلا عفاف ولا حياء، والحياء من الإيمان، ثم تتنازلين شيئًا فشيئًا حتى تقعي فيما نسأل الله أن يجيرك منه، وإذا وقعتي -بالطبع- لا أحد -حتى الفجرة- يريدون رؤيتك بهذا المستوى.
إذا سقط الذباب على طعام *** رفعت يدي ونفسي تشتهيه.
وتجتنب الأسود ورود ماء *** إذا كان الكلاب ولغن فيه
فيا أيتها المسلمة المصلية الساجدة، يا من خضع رأسك للحي القيوم، وخشع له سمعك وبصرك، ألا يكفيكِ زاجرًا حديث رسول الله الذي سمعتيه آنفًا، والله إنه لعظيم لو صُبَّ على الجبال الراسيات لأذابها. فأي شيء بعد الحرمان من دار النعيم، وهل هناك دار إلا الجنة أو النار.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه *** وإن بناها بشر خاب بانيها(69/13)
فارفعي رأسك -أختي المسلمة- وانظري بعين بصيرتك إلى أمهاتك وأخواتك من خير سلف الأمة، وسلي الله اللحاق بهن واعملي عملهن علَّكِ أن تلحقي بهن؛ فتُحشَري معهن، والمرء مع من أحب. يا أمَةَ الله راقبي الله، وقومي بما أوجب الله عليكِ من تكاليف. وادعي إلى الله ما استطعتِ إلي ذلك سبيلا (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا ممن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا) وإذا قسي قلبك فتذكري كربًا بيد سواك، لا تدرين متي يغشاك، إنه الموت الذي لا بُدَّ فيه. (كُلُّ نَفْسٍ ذائقة الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) يا أمة الله تذكري يوم يأتيكِ منكر ونكير، فيسألانِك: من ربُّك؟ وما دينك؟ ومن نبيُّك؟ كيف بكِ إذا صاح إسرافيل، ونفخ في الصور، وجُمِعْتِ مع الخلائق حافية عارية ذاهلة، قد دنت الشمس منك قدر ميل، ونادى الرب أبانا آدم: يا آدم أخرج بَعْثَ النار من ذريتك، فيقول: يا رب وما بعْثُ النار؟ فيقول الله -عز وجل-: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعون. عند ذاك يشيب الصغير، وتذهل المرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سُكارَى وما هم بسكارى ولكن عذاب شديد. كيف بكِ -يا أمة الله- إذا رُجَّت الأرض، وبُثَّتِ الجبال، وشخصت الأبصار، وخشعت الأصوات للرحمن؛ فشاب الصغير، وزفرت النار، وتقطعت الأسباب، وصاح الكبير: واشيبتاه وصاح المفرِّط: واخيبتاه وأَزِفَتِ الآَزفة، وبلغت القلوب الحناجر، وتوالت المِحَن على العباد، ونُوديتي باسمك من بين الخلائق للحساب، ما حالك عندها يا أمة الله؟ لا إله إلا الله. أين عُدتُك أيتها الغافلة؟ كم في كتابك من حسنات؟ كم فيه من سيئات؟ هل تنفع الأزياء والموديلات؟ هل تنفع الأغاني والمسلسلات والتمثيليات؟ هل تنفع الفيديوهات والتليفزيونات والإكسسوارات؟ هل تنفع الجواهر والمجوهرات؟
ألا فتوبي قبل ألا تستطيعي أن تتوبي واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب.
إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
ألا فازدادي من الحسنات، والحسنات يذهبن السيئات؛ فوالله ما بعد هذه الدار من دار إلا الجنة أو النار، والله لَلْجنَّة أقرب من شِراك النعل، والنار كذلك. اتقي الله يا ابنة الإسلام. اتقي الله يا من تخرجين إلى الأسواق متبرجة. اتقي الله يا من تلبسين العباءة للزينة لا للستر. اتقي الله يا من كلَّفكِ الله بمهمة عجزت عن حملها السماوات والأرض. اتقى الله وصوني نفسك من أن تكوني ألعوبة في يد ضعاف الإيمان. اتقي الله يا من تزاحمين الرجل، وتخرجين مع الرجل الذي ليس بمحرم لكِ كالسائق وغيره. اتقي الله يا من تدخلين على الطبيب بدون محرم ودونما ضرورة. اتقي الله يا من تربي أبناءها تربية البهائم؛ فلا تذكرهم بالله ولا تَعِظُهم. اتقي الله يا من تتعطر وتخرج حتى إلى الصلاة. إن رسول الله قد نهى عن ذلك، يقول: "أيما امرأة أصابت بخورًا؛ فلا تشهدْ معنا العشاء الآخرة " كما رواه مسلم.
اتقي الله وارجعي إلى الهدى قبل يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، واعلمي أن عذاب الله شديد، وأن الدنيا ليست مقر، وأن الفضيحة أمام الأولين والآخرين عظيمة؛ فاتقي الله، ثم اتقي الله، ثم اتقي الله.وفَّقكنَّ الله جميعًا –أيتها الأخوات- لما يحب ويرضى، ووفَّقنا الله جميعًا لما يحب ويرضى. نسأل الله أن يحفظ فتيات المسلمين من كيْد الكائدين، وتربص المتربصين. اللهم اجعلهن من الصالحات، وبالصالحات مقتديات، وعن الضلال معرضات، وللكتاب والسنة مقتديات. اللهم اجمعهن -كما جمعتهن في هذه الروضة- على الإيمان، وفي الآخرة في جنات ونهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. اللهم وفِّقنا للقيام بمسئولياتنا -أيها الرجال- فنحن القوَّامون على النساء. اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن إيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بك –اللهم- أن نُغتال من تحتنا. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تم الكلام وربنا محمود *** وله المكارم والعلا والجود
وعلي النبي محمد صلواته *** ما ناح قُمَريٌ وأورق عود
الأسئلة
1-سائل يقول: هل من وصايا للمرأة الداعية؟ وما هو دورها في موقعها؟(69/14)
أقول للأخت المسلمة الداعية –والمفترض في كل أخت مسلمة أن تكون داعية؛ لأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "بلِّغوا عني ولو آية"- أقول لهذه الأخت: أوصيكِ ونفسي بتقوى الله –عز وجل- فهي جامعةُ كل خير، وهي منطلق كل داعية؛ فمتي اتقيت الله –عز وجل- نجَّاكِ الله في الدنيا والآخرة، ثم عليكِ بالرفق واللين "فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه" ثم عليكِ -يا أيتها الأخت- أن تعلمي أن وسائل الدعوة ليست بالكلام فقط، وأن وسائل الدعوة كثيرة كثيرة، وأعظمُها أن تكوني قدوة في لباسك، وفي مشيتك، وفي كلامك، وفي كل أمورك؛ فتلك -والله- هي الدعوة العظيمة، وعندها يقبل الله -عز وجل- عملك، وتقع الكلمة من الناس موقعًا جميلاً، ثم بعد ذلك إن من الوسائل الشريط، الشريط إذا رأيتِ منكرًا من المنكرات؛ فلا بأس أن تأخذي هذا الشريط، وتقدميه لأختك، وتقولي: اسمعي هذا، ولعل الله -عز وجل- أن ينفعكِ به، بالرسالة، بأمور كثيرة. ووسائل الدعوة لا تخفى علينا ولا عليكم -إن شاء الله تعالى-، وارجعوا إلى بعض الكتب التي تدعو وتوصي، وكل كتب المسلمين تدعو إلى ذلك.
2-يقول: في بعض الأحياء -وذكر الحيَّ- الزوجة تقابل أخا الزوج، وكذلك الزوج يقابل أخت الزوجة أرجو التوجيه.
أما التوجيه؛ فأقول قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "أفرأيت الحموَ يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت، الحمو الموت، الحمو الموت".
اسأل الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه وأن يحفظ علينا بيوتنا، وأن يحفظ علينا أنفسنا، وأن يحفظ علينا أولادنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
فضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني(69/15)
أخذ الأجرة للقيام بأعمال المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن العمل في المسجد من - حيث هو عمل - لا ينبغي إلا أن يكون لله - تعالى - ؛ لأنه عبادة والعبادة لا تصرف إلا لله، ولأن المسجد بني للعبادة، فأي عمل في المسجد لا يكون الغرض منه إلا تحصيل الأجر والثواب من الله - تعالى - ولا تشوب النيةَ الخالصةَ مصالحُ دنيوية.
والعاملون في المسجد عملاً تفرغوا له وجعلوه أخصَّ أعمالهم، وهم الذين يتوجه السؤال عن حكم أخذهم مبلغاً من المال مقابل ما يقومون به من عمل في المسجد، كالإمام والمؤذن والقيم وغيرهم.
والمسألة على خلاف بين أهل العلم على أقوال:
- يجوز أخذ الأجرة على الأذان ونحوه كالإمامة والتدريس وهذا عند الشافعية ورواية عن أحمد1.
- يجوز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة وعلى الإمامة إن كانت تبعًا للأذان أو للإقامة وأما أخذ الأجرة عليها استقلالا فمكروه إن كانت الأجرة من المصلين وأما إن كانت من الوقف أو بيت المال فلا تكره وهذا قال به المالكية.
- يحرم أخذ الأجرة على الأذان والإقامة إن وجد متطوع بهما وإلا رزق ولي الأمر من يقوم لهما من بيت مال المسلمين لحاجة المسلمين إليهما وهذا قول الحنابلة2والحنفية3 .
واستدل القائلون بعدم جواز أخذ الأجرة على الأذان بما جاء في الحديث عن عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - قال: (إن من آخر ما عهد إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا )4 ولأنه قربة لفاعله.
وفي الحديث أن من صفة المؤذن المأمور باتخاذه: أن لا يأخذ على أذانه أجراً: أي أجرة وهو دليل على أن من أخذ على أذانه أجراً ليس مأموراً باتخاذه5 - مؤذناً - .
قال الصنعاني: ولا يخفى أنه - يعني حديث عثمان بن أبي العاص - لا يدل على التحريم وقيل: يجوز أخذها على التأذين في محل مخصوص إذ ليست على الأذان حينئذ بل على ملازمة المكان كأجرة الرصد6
ولأن بالمسلمين حاجة إليه وقد لا يوجد متطوع به وإذا لم يدفع الرزق فيه يعطل ويرزقه الإمام من الفيء لأنه المعد للمصالح فهو كأرزاق القضاة والغزاة، وإن وجد متطوع به لم يرزق غيره لعدم الحاجة إليه7.
وأما القائم بتنظيف المسجد وإغلاقه وفتحه وغير ذلك من أعمال فإنها تدخل في باب الخير وسائر المعروف، ولا حرج في أخذ أجرة على ذلك مع عدم الاستشراف والسؤال لعموم الأدلة، ولا يهمل جانب الاحتساب في كل ما تقدم من الأعمال المتعلقة بالمسجد إذ هي عبادة والعبادة لا بد من احتساب الأجر وخلوص النية، وإلا فالعمل لغير الله وابتغاء غير وجهه حرام شرعاً لعموم أدلة الأمر بالعبادة والتي لأجلها خلق الله الخلق.
والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - المغني: (1/460).
2 - الفقه على المذاهب الأربعة: (1/498).
3 - سبل السلام: (1/27).
4 - رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد، قال الألباني في الثمر المستطاب (1/146): ورجاله كلهم ثقات إلا أن الحسن مدلس لكنه توبع عليه. وصححه في إرواء الغليل (1492).
5 - سبل السلام: (1/27).
6 - سبل السلام: (1/27).
7 - المغني: (1/460).(70/1)
أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ
جمال عبد الهادي
شاع في العصر المتأخر في كثير من محافل العلم والثقافة عدد من المغالطات والأباطيل التي يراد من ورائها زحزحة المسلمين عن دينهم وحقهم، وتشويه العقائد الخالصة لصد الناس عنها، هذه المغالطات تقدم بصورة يحسبها بعضهم علماً وما هي كذلك؛ ولهذا يجب كشف مثل هذه المغالطات وإظهار ما يهدمها من حقائق، ومن بين هذه الأخطاء:
1 أن الدين من اختراع العقل البشري، وأن الإنسان من سلالة القردة، وأنه لا إله، وأن الكون خُلِق من تلقاء نفسه.
هذه المقولات من الأباطيل الشائعة التي تمتلئ بها غالب المصادر والمراجع التاريخية المقررة والمعتمدة في دور العلم الأجنبية والعربية؛ حيث يدعى أنه ليس من إله خالق لهذا الكون، ولا ملائكة، ولا وحي ولا رسل، والكون خلق مصادفة، والإنسان من سلالة الحيوان (القردة) التي تطورت عن الأحياء الدنيا التي نشأت في البرك والمستنقعات على مدار ملايين السنين، وأن الإنسان القرد كان في بداية نشأته محدود التفكير لا يتعدى تفكيره تفكير طفل صغير بلغ الخامسة من عمره، ولم يكن يميز بين الجمادات والكائنات الحية، وأن الدين من اختراع العقل البشري، وكذلك الزراعة واستئناس الحيوانات (1).
وتزداد الأباطيل شناعة حينما يزعم أدولف ارمان في كتابه: (ديانة مصر القديمة) الذي ترجمه أ. د. محمد أنور شكري، أ. د. محمد عبد المنعم أبو بكر، أن الإنسان تعلم التدين من الحيوانات، ومنها تعلم لغة التخاطب، ومنها تعلم الزواج وإنشاء الأسرة والدولة، والملفت للنظر أن المترجمَيْن وهما من أبناء المسلمين لم يحاولا الرد أو التصحيح في ضوء التصور الإسلامي؛ على كل لقد أفضوا إلى ما قدموا.
العجيب أن هذه الترهات وغيرها تدرس لبني الإنسان في جميع أقسام التاريخ والآثار في العالم تحت مسميات: (تاريخ وحضارة الشرق الأدنى القديم، تاريخ العصر الحجري، عصور ما قبل التاريخ، بلاد ما بين النهرين، مصر الفرعونية، تاريخ الشام القديم، الجزيرة العربية قبل الإسلام، تاريخ اليونان، الرومان، إلى غير ذلك) بوصفها مقررات دراسية دون فحص أو تمحيص؛ مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
والذين قاموا ويقومون بهذا التزوير لتاريخ العقائد والكون والإنسان وهم المستشرقون ومن سار على نهجهم يهدفون من وراء ذلك إلى ما حذر الله سبحانه وتعالى منه: ولا يزالون يقاتلونكم حتى" يردوكم عن دينكم إن استطاعوا {البقرة: 217}؛ وذلك تمهيداً للسيطرة الاقتصادية والسياسية وغيرها على ثروات الشعوب والأمم.
ماذا يترتب على ذلك التفسير اللاديني لتاريخ العقائد والكون والإنسان؟
إن كُتَّاب التاريخ الديني الذين تبنوا هذا التفسير اللاديني اعتماداً على الحدس والتخمين، واستبعاداً للقرآن والسنة، حريصون وهم يتبنون ذلك التفسير على هدم الإسلام بوصفه عقيدة ونظام حياة شاملاً: اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وتعليمياً وجهادياً، وهو صالح لكل زمان ومكان، ومن ثَمَّ زعزعة ثقة بني الإنسان في رب العالمين، والملائكة والكتب والرسل عليهم السلام؛ مع تشويه تاريخ الأمة المسلمة باعتباره واقعاً تطبيقياً لذلك الدين وتزييفه وبعثرته حتى لا تهتدي الأمة إلى ذاتها وغاياتها، منطلقين في ذلك من العداء للاتجاه الديني عامة والاتجاه الإسلامي على وجه الخصوص.
ولقد ترتب على هذه المعتقدات الفاسدة قيام مقررات دراسية تتبنى هذه التصورات: علم الاجتماع، علم النفس والدراسات النفسية، علم الاقتصاد، وعلى هذه التصورات الفاسدة تقوم العلاقات الدولية وعلى سبيل المثال لا الحصر على أساس أن بني الإنسان (الحيوانات) يعيشون في غابةٍ البقاءُ فيها للأقوى لا للأصلح؛ ولعل هذا يفسر المنطق السائد الآن وهو اغتصاب أوطان بأكملها وثروات، وإبادة وتشريد لقطاع من بني الإنسان، بل واغتيال عقائد الأمم، إن هذا لا يثير حفيظة أحد خاصة إذا كان المغتصَب هو الإنسان المسلم، وإذا كان الوطن المغتصَب هو الوطن الإسلامي، والثروة المغتصبة هي الثروة التي ادخرها الله ببلاد المسلمين، لماذا؟ لأننا تعلمنا أننا في غابة مليئة بالحيوانات لا ضابط لها من دين أو خلق، والبقاء للأقوى، هذه هي المحصلة الثقافية التي تنشئها كتب التاريخ المزور في أذهان النشء على امتداد العالم.
الشيء المؤسف والمحزن أن الذين قاموا بكتابة تاريخ الكون والعقائد والإنسان يشغلون أعلى المناصب في الجامعات ومراكز البحث العلمي، والذين قاموا بترجمة هذا الفكر الفاسد يحملون أعلى الدرجات العلمية، وهم الذين تحملوا تبعة تدريس هذا الفكر التاريخي الفاسد في الجامعات العربية والإسلامية، والذين ينتسبون إلى العروبة والإسلام لم يحاولوا إلا من رحم ربي أن يصححوا هذه الأخطاء.(71/1)
إن من حق البشرية الضالة اليوم أن تحصل على صورة صحيحة لتاريخ البشر على الأرض؛ ومن الإجرام في حقها تزوير ذلك التاريخ، وإعطاؤها معلومات مضللة وخاصة في مجال العقيدة. ومن الأمانة العلمية أن يمتنع العلماء وخاصة الذين يرسمون للناس صورة القرون الخوالي عن تقديم كتابات يعلمون أنها غير صحيحة، كما أن من واجب القادرين إزالة أخطاء التاريخ وإزالة آثارها، وتصحيحها التصحيح الواجب؛ لأنه ليس من مصلحة الإنسانية أن ترى الحياة كلها من زاوية واحدة لا تكشف عن كل جوانبها، وأن تسودها فِكَر خاطئة عن ماضيها وحاضرها، وأن تجهل الدوافع الكاملة لسيرها وتحركها، والقيم الإنسانية لحياتها وحضارتها، وإن هذا الجهل لينشِئ أخطاء عميقة الأثر، لا في التصور والتفكير فحسب، ولكن في علاقات الأمم بعضها ببعض، وفي علاقات الكتل الدولية بعضها ببعض، كما ينشئ أخطاء بعيدة المدى في تكييف سياسة كل أمة وتوجيهها. هذه الأخطاء ينشأ معظمها عن سوء دراسة التاريخ البشري، وسوء تقدير الدور الذي قام به الإسلام الذي يمثله العالم الإسلامي، هذا العالم الذي يمثل وحدة إنسانية شاملة لها خصائصها المستقلة، ويمثل قوة إنسانية ثابتة لا يؤثر ضعفها العسكري الطارئ إلا تأثيراً عارضاً في وزنها الحقيقي.
وبعد: ما هو التصور الصحيح عن تاريخ العقائد وتاريخ الكون والإنسان، وكلها غيب؟ وما ينبني عليها من تكاليف؟
إن لهذا الكون إلهاً خالقاً متصفاً بكل صفات الجلال والكمال، وإنه خالق كل شيء: الكون والإنسان والملائكة والجن، وإليه يؤول مصير هذا الكون، وإن آدم هو أبو البشر خلقه الله وسواه على هذا النحو البديع، ورضي له الإسلام ديناً، واستخلفه في الأرض لمهمة وغاية وهي العبادة بمفهومها الشامل وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون {الذاريات: 56}، وأخذ عليه العهد والميثاق أن يخضع حياته لمنهاجه وشريعته. يقول الله تعالى : وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على" أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين {الأعراف: 172}.
كما إنه سبحانه وتعالى لم يترك الإنسان هملاً، وإنما تعهده بالأنبياء والرسل يعرِّفونه بربه الحق ودين الحق (الإسلام) والسلوك الحق ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت .
{النحل: 36}.
2 لم يعرف الإنسان والكون الإسلام قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم :
وهذه أيضاً من الأخطاء الشائعة في مصادر ومراجع التاريخ المعتمدة في كثير من دور العلم؛ إذ يُدّعى أن التاريخ الإسلامي يبدأ ببعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن ما قبله عبارة عن تاريخ وثني جاهلي محض لا أثر فيه للإسلام؛ أي تجاهل الكون المسلم وتجاهل الرسالات السماوية التي حملها رسل الله عبر التاريخ.. فبعض المستشرقين يثيرون أن ما يسمى ب (العرب البائدة) ومنهم عاد وثمود على سبيل المثال ليس من التاريخ الحقيقي في شيء إنما هو جزء من (الميثولوجيا العربية أو التاريخ الأسطوري) الذي يسبق عادة التاريخ الحقيقي لكل أمة؛ كما قد زعم طه حسين أن: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضاً، ولكن ورود هذه الأسماء في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودها التاريخي". وهذا غير صحيح؛ لأن نبيي الله إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كانا مسلمين وحمل الأول رسالة الإسلام إلى أهل العراق وأرض الشام وأرض مصر وأرض الحجاز: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك {البقرة: 128}.
والحقيقة التي لا مراء فيها أيضاً أن التاريخ الإسلامي يرتبط بخلق الكون والمخلوقات وكل ما فيه ما عدا الثقلين مستسلم طائع لله رب العالمين. يقول الله تعالى : تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا {الإسراء: 44}.
وفي الحديث أن نملة قرصت نبياً من أنبياء بني إسرائيل، فأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحى الله إليه: "أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح الله؟!"(1).
وثبت في صحيح البخاري عن أبي مسعود رضي الله عنه أنه قال: "كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل"(2).
وأن النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا: "إني أعرف حجراً بمكة كان يُسلم عليَّ قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن"(3).
فالكون مسلم وكله مسجد كبير تتجاوب جنباته بالتسبيح والتعظيم والتمجيد للأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. هذه هي الصورة الحقيقية للكون لا كما يراها المزيفون.. إن الإسلام أصيل أصالة هذا الوجود الذي خلقه رب العالمين.
التاريخ الإسلامي يرتبط بآدم وزوجه عليهما السلام وبنيه الذين شكلوا نواة أول مجتمع إسلامي على سطح الأرض، وبعشرة قرون على الإسلام بين آدم ونوح، عليهما السلام.(71/2)
ويرتبط أيضاً بدعوة الأنبياء والرسل المسلمين إلى دين الإسلام الذي لا يقبل الله من الأولين أو الآخرين غيره، بداية بآدم ونوح عليهما السلام أول رسل الله إلى أهل الأرض، ونهاية بخاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم . فالرسالات تتعدد والدين واحد وهو الإسلام وإن كان لكل نبي شريعته كما يقول الله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا {المائدة: 48}.
يقول الله تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى" إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى" وعيسى" وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون {البقرة: 136}.
ويقول محمد صلى الله عليه وسلم : "إنَّا معاشر الأنبياء ديننا واحد"(4).
والتاريخ الإسلامي مرتبط بدين الإسلام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين غيره. يقول رب العالمين: إن الدين عند الله الإسلام {آل عمران: 19}، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين {آل عمران: 85}.
والإسلام هو الدين الذي كان يتنزل به الوحي من السماء على جميع الأنبياء والمرسلين. يقول الله تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى" إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى" وعيسى" وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون {البقرة: 136}.
وجميع الأنبياء والمرسلين وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم ويعقوب (إسرائيل) وعيسى قد دعوا إلى دين واحد هو الإسلام، تتعدد الرسالات، والدين واحد، وإن اختلفت الشرائع. يقول الله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا {المائدة: 48}.
يقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين .
{البقرة: 130}.
ويعقوب عليه السلام (إسرائيل): أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون {البقرة: 133}.
وسليمان عليه السلام : إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم 30 ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين {النمل: 30، 31} .
وعيسى عليه السلام : فلما أحس عيسى" منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون {آل عمران: 52}.
ويقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم : "إن الدين عند الله الحنيفية المسلمة"(1).
ومن هنا كان توجيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأمته نحو الإسلام: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"(2)، و: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب"(3).
3 اليهود ورثة فلسطين عن أبيهم وجدهم إبراهيم عليه السلام:
ومن الأخطاء الشائعة في مصادر ومراجع التاريخ القديم والآثار المعتمدة في أقسام الآثار والتاريخ أيضاً، إسقاط سيرة إبراهيم عليه السلام من تاريخ العراق القديم (دولة أور الثالثة) على اعتبار أنه غير حقيقي، وبعض المصادر التي تعالج سيرته تزعم أنه كان يدين باليهودية، وأن اليهود هم شعب الله المختار، وأن الله قد وعدهم أرض فلسطين بحدود من النيل إلى الفرات بعد إخراج الكنعانيين (العرب) منها.
واستناداً إلى هذا الوعد المفترى، اغتصب اليهود فلسطين بيت المقدس على اعتبار أنهم ورثة هذا النبي الكريم إبراهيم عليه السلام في زعمهم بعد أن أبادوا وشردوا شعب فلسطين، ويعملون بجد واهتمام لاستكمال اغتصاب ما تبقى من الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، واستطاعوا بتزويرهم للحقائق التاريخية أن ينتزعوا اعتراف المجتمع الدولي.
وقد كشفت لنا المصادر الإسلامية هذا التزييف والتزوير الذي أوقعه المستشرقون ومن سار على نهجهم بتاريخ إبراهيم عليه السلام وتاريخ الوعد الرباني له، وتاريخ الأرض التي بارك الله فيها للعالمين.
القرآن الكريم يؤكد أن دين إبراهيم عليه السلام هو الإسلام: يقول رب العالمين: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد \صطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين 130 إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين 131 ووصى" بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله \صطفى" لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون {البقرة: 130 - 132}.
وينفي رب العالمين عن إبراهيم اليهودية والنصرانية: ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين .
{آل عمران: 67}.
ويؤكد رب العالمين أن أبناء إبراهيم هم المسلمون وليسوا اليهود، ويسجل القرآن الكريم دعاء إبراهيم عليه السلام : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك {البقرة: 128}.
ويسجل أيضاً: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين {آل عمران: 68}، إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .
{المائدة: 55}.(71/3)
واليهود ليسوا كذلك؛ لأنهم كفروا بالله والرسالات، وانتهكوا الحرمات، واستحلوا الدماء والأعراض والأموال، والكافر لا يرث مسلماً، وتتضح هنا الحقيقة الشرعية والتاريخية في رد الله تعالى على إبراهيم عليه السلام حينما أكرمه الله بإمامة المسلمين؛ فطلب من الله أن تكون الإمامة في عقبه من بعده، وجاء الرد: لا ينال عهدي الظالمين {البقرة: 124}. فكل من كان ظالماً، لم يكن نبياً ولا خليفة، ولا حاكماً ولا مفتياً، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام. واليهود ظلمة، ومن ثم فلا حق لهم في وراثة إبراهيم عليه السلام.
ويؤكد ذلك قول الله تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون .
{الأنبياء: 105}.
نخلص من العرض السابق إلى الحقائق الآتية الغائبة عن مصادر ومراجع التاريخ القديم: ومن ذلك:
إبراهيم عليه السلام رسول مسلم وإلى الإسلام كان يدعو، وأن أتباعه وذريته هم المسلمون، وليسوا اليهود.
إن أوْلى الناس بإبراهيم في وراثة فلسطين (المسجد الأقصى)، وأوْلى الناس بالإمامة من بعده هم المسلمون وليسوا اليهود، وليسوا ممن يدينون بغير الإسلام مهما كانت جنسياتهم.
إن اليهود مغتصبون لأرض الرسالات فلسطين والأقصى، مهما زوَّروا في حقائق التاريخ، ومهما حازوا من دعم المجرمين، ومهما نالوا من موافقات المنظمات الدولية والدول غير الإسلامية، ومهما حازوا من تنازلات من أصحاب الحق في بيت المقدس.
المراجع:
1 - الإسلام دين الله في الأرض وفي السماء (مدخل إلى الدراسات التاريخية) د. جمال عبد الهادي، د. وفاء محمد رفعت، دار الوفاء للطباعة والنشر بالمنصورة.
2 - تاريخ الأمة المسلمة الواحدة منذ أقدم عصورها وحتى القرن السابع قبل الهجرة، د. جمال عبد الهادي، د. وفاء محمد رفعت، دار الوفاء للطباعة والنشر بالمنصورة.
3 - دائرة المعارف الإسلامية، ج 15 ص: 452 454.
4 - في الشعر الجاهلي، طه حسين، القاهرة 192.
5 - الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، أ. د: محمد محمد حسين، دار النهضة العربية، بيروت 1392ه- 1972م، صفحة 299.
6 - سلسلة أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ: جزيرة العرب، ج 1، سيرة إبراهيم وإسماعيل وهاجر عليهم السلام، وتاريخ حرم الله الآمن، د. جمال عبد الهادي، د. وفاء محمد رفعت، دار الوفاء.
7 - جزيرة العرب، ج 2، سيرة هود وصالح وشعيب عليهم السلام، المؤلف نفسه ودار النشر.
8 - ذرية إبراهيم والمسجد الأقصى، المؤلف، ودار النشر السابقين.
9 - الطريق إلى بيت المقدس، ثلاثة أجزاء في مجلد واحد، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة.
10 - ليس لليهود حق في فلسطين، دار النشر السابقة.
11 - هذه قضيتك يا ولدي: القدس إسلامية (للبراعم المسلمة) دار النشر السابقة.
موقع دليل البحوث الإسلامية(71/4)
أخطاؤنا في الصلاة
1581
فقه
الصلاة
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
28/7/1418
اللحيدان
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
ملخص الخطبة
1- أهمية العناية بالصلاة والتحذير من التقصير في أدائها. 2- ذكر بعض الأخطاء التي يقع بها المصلون وتصحيح هذه الأخطاء (مسابقة الإمام – التهاون في ستر العورة – تأخير الصلاة - عدم الطمأنينة – عدم السجود على سبعة أعضاء – رفع الرأس في الصلاة).
الخطبة الأولى
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وارجوا اليوم الآخر، وحافظوا على أوامر الله وأدوها كما أمركم الله ورسوله ، واجتنبوا ما نهاكم الله عنه وما نهاكم عنه رسوله ، وليتحرّ كل مسلم الصواب في عباداته حتى تقبل منه، ويتعلم أحكام العبادات وشروطها وأركانها ونواقضها ومبطلاتها. فربما يفعل المسلم فعلاً يظنّه مسنوناً وإذا هو مبطلٌ للعبادة أو منقص لأجرها.
أيها المسلمون: وإن من أهم ما يجب الاعتناء بتعلمه والتفقه فيه، ومعرفة أحكامها وشروطها وأركانها ومبطلاتها بعد التوحيد هي أحكام الصلاة.
كيف لا: والنبي يقول: ((أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)) [رواه الطبراني في الأوسط وغيره عن أنس وصححه الألباني].
فما ظنّك أخي المسلم إذا جِئت يوم القيامة وأنت أحوج ما تكون إلى الحسنة فيُنظر في صلاتك فإذا هي فاسدة، فينظرون في صحيفتك هل فيها من نوافل؟ حتى يسدوا بعض خلل الصلاة.
فإذا أنت مقصر في النوافل أيضاً وتضيع لها، وتقع في أخطاءٍ تخلّ بجوهر الصلاة، يا لها من خسارة وندامة.
أيها الإخوة: وموضوع مثل هذا لا تكفيه خطبة ولا خطبتان، ولكنها تذكرة بأهمية هذه الشعيرة ووجوب التفقه فيها، والحمد لله قد ألفت كتب كثيرة مختصرةٌ ومطولة، في أحكام الصلاة، وأخطاء الناس فيها، ومن ذلك كتاب صفة صلاة النبي للشيخ العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله، وكتاب آخر بهذا الاسم أيضاً للشيخ العلامة محمد بن عثيمين وآخر للشيخ الألباني، ومن الكتب النافعة، التي تصوب أخطاء الناس في صلاتهم وفي طهارتهم كتاب الشيخ عبد العزيز السدحان وفقه الله وهو كتاب موجود ومبذول، فما ينقصك إلا القراءة.
وإذا كنت لا تحسن القراءة، فاسمع الأشرطة والمحاضرات التي تبين لك أحكام الصلاة وأخطاء الناس فيها.
أيها الناس: إن أخطاء الناس في الصلاة متنوعة ومتعددة، فبعضها يبطل الصلاة، وبعضها ينقص من أجرها، وبعضها خلاف السنة. وسأذكر بعض المخالفات واذكر والصواب فيها:
1- من المخالفات التي تبطل الصلاة، وتجعلها لا نفع فيها، عدم الطمأنينة في الصلاة، فلا يطمئن في ركوعها ولا سجودها، ولا جلوسها بل ينقرها نقراً، ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً.
والطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا به، فكما أن الصلاة لا تصح إلا بقراءة الفاتحة ولا تصح إلا بالركوع والسجود فكذلك لا تصح الصلاة إلا بالطمأنينة.
أما كيفية الطمأنينة في الصلاة: فقد بينها النبي ، وذلك حينما دخل المسجد مرة، فوجد أعرابياً يصلي فرآه لا يطمئن في صلاته، فدعاه النبي فقال له: ((ارجع فصل فإنك لم تصل))، أي إن صلاتك باطلة، فرجع فصل مثل الأولى، فقال له النبي : ((ارجع فصلي فإنك لم تصلي))، فرجع فصلى مثل الأوليين فقال له النبي : ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) فقال الأعرابي: يا رسول الله والذي بعثك بالحق رسولاً لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي : ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) [متفق عليه].
إنها الطمأنينة في عامة الأركان، وحتى تقضي الصلاة وليست الصلاة مجرد حركات لا يفقه المصلي فيها قولاً ولا يحسن دعاءً. ولا ترى إلا أجساداً تهوي إلى الأرض خفضاً ورفعاً.
وهل يرضيك أخي المصلي أن يصرف الله نظره عنك وأنت تصلي؟
ففي مسند الإمام أحمد أن النبي قال: ((لا ينظر الله إلى عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)).
2- ومن المخالفات التي تسبق فعل الصلاة تأخير الصلاة عن وقتها، فلا يصلي الصلاة إلا وقد خرج وقتها.
وهذا غالباً ما يكون في صلاة الفجر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة: اعلموا أنه لا يحل لمسلم أن يقدم من صلاته جزءً قبل الوقت ولا أن يؤخر منها جزءاً بعده، فكيف بمن يؤخرون جميع الصلاة عن وقتها كسلاً وتهاوناً وإيثاراً للدنيا على الآخرة، ويتنعمون بنومهم على فراشهم ويتمتعون بلهوهم ومكاسبهم كأنما خلقوا للدنيا.(72/1)
كأنهم لا يقرؤون القرآن، كأنهم لا يقرؤون قوله تعالى: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون كأنهم لم يقرءوا قوله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً وكأني بهم لم تبلغهم أحاديث النبي في وعيد من أضاع الصلاة أو لم يبالوا بذلك، لقد قال النبي : ((من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) [رواه البخاري].
أي كأنما أُصيب بفقد أهله وماله، فسبحان الله، ما أعظم الأمر وما أفدح الخسارة، الذي تفوق صلاة العصر كأنما فقد أهله وماله، فأصبح أعزباً بعد التأهل وفقيراً بعد المغنى، فأين موظفونا: الذين يخرجون من العمل قرب العصر فينامون ولا يستيقظون إلا قُرب المغرب أو بعد المغرب، اسمع يا أخي رسولك يقول لك حينما تفوتك صلاة العصر فكأنما فقدت زوجتك وأبناءك وبيتك ووظيفتك وجميع ما تملك.
فكم من عصر يفوت.؟ ولا حول ولا وقوة إلا بالله؟
3- ومن المخالفات أيضاً تهاون بعض المصلين بستر العورة: وقد قال الله تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد، ومن المعلوم أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وعورة المرأة البالغة جميع بدنها ما عدا الوجه في الصلاة فقط.
فاتقوا الله عباد الله وتستروا في الصلاة بثوب مباح طاهر لا يصف لون الجلد من ورائه، واحذروا التهاون في ذلك، فإن بعض الناس يلبسون ثياباً ناعمة رهيفة أو صافية لا تستر وليس عليهم إلا سراويل قصيرة لا تصل إلى الركبة فيبين لون الفخذ من تحت الثوب وهؤلاء لم يأتوا بواجب الستر الذي هو من شروط الصلاة.
4- ومن الأخطاء أيضاً عدم تمكين الأعضاء السبعة من السجود، وهذا خلاف الثابت عنه ، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((أمر النبي أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعراً ولا ثوباً، الجبهة واليدين والركبتين والرجلين)) [أخرجه البخاري].
والمخالفات التي تقع من الناس في هذا الخطأ أنواع منها:
أن بعض الناس إذا سجد رفع قدميه قليلاً عن الأرض أو جعل إحداهما على الأخرى وهو في هذه الحالة لم يصدق عليه أن سجد على سبعة أعظم.
ومنها: أن بعض الناس ممن يلبس العقال قد يسجد على طرف العقال فيرتفع أنفه هذا مخالف أيضاً لما سبق من حديث الأمر بالسجود على سبعة أُعظم.
وقد سُئل الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى عن المصلي إذا رفع بعض أعضاء السجود عن لمس الأرض فهل تبطل صلاته؟
فأجاب رحمه الله: إن كانت رجلُه مرفوعةً من ابتداء السجدة إلى آخرها لم تصح صلاته لأنه ترك وضع بعض الأعضاء وليس له عذر. وإن كان قد وضعها بالأرض في نفس السجدة ثم رفعها وهو في السجدة فقد أدى الركن لكن لا ينبغي له ذلك.
5- ومن المخالفات والأخطاء التي تبطل الصلاة وهي منتشرة بين الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله قيام المسبوق أي الذي فاته شيء من الصلاة لقضاء ما فاته قبل تسليم الإمام التسليمة الثانية: فما إن يسلم الإمام التسليمة الأولى وقبل أن يتمها بادر الناس بالقيام لقضاء ما فاتهم قبل أن يكمل الإمام السلام.
وهذا مخالف لقوله عليه السلام: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا..)) [الحديث رواه البخاري ومسلم].
وفي حديث آخر: ((أيها الناس إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف)) [رواه مسلم]. وعن أنس رضي الله عنه قال الحافظ النووي رحمه الله: والمراد بالانصراف السلام.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: ومن سبقه الإمام بشيء من الصلاة فلا يقوم لقضاء ما عليه إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين.
وسئل الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: هل يجوز للمسبوق أن يقوم لقضاء ما فاته قبل أن يكمل الإمام التسليم؟
فأجاب رحمه الله: لا يحل له ذلك وعليه أن يمكث حتى ينتهي الإمام من التسليمة الثانية، فان قام قبل انتهاء سلامه، ولم يرجع انقلبت صلاته نفلاً، وعليه إعادتها، لأن المأموم فرض عليه أن يبقى مع إمامه حتى تتم صلاة الإمام.
بارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله القائل: وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه.
ما زال يوصي ويقول: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
أيها المؤمنون: ومن الأخطاء الشائعة مسابقة الإمام بالركوع أو الرفع منه أو السجود أو السلام أو نحو ذلك، ويكفي في ذلك ردعاً أن يعي المصلي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار)) [متفق عليه].
وهناك خطأ آخر، وهو تابع للذي قبله:(72/2)
وهو التأخر عن الإمام، أو موافقة الإمام في القيام والقعود أو الركوع والسجود، والسنة المشروعة متابعة الإمام، فإنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا استوى الإمام راكعاً تركع. وإذا استوى ساجداً تسجد. لا تسبقه ولا توافق ولا تتأخر عنه، بل تابعه قال البراء بن عازب رضي الله عنه: كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم: ((فكان إذا انحط من قيامه للسجود لا يحني أحدٌ منا ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض)) [متفق عليه].
ورأى أحد الصحابة رجلاً يسابق إمامه فقال: (لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت).
وغالباً ما يسابق الإمام المستعجل أو من عنده شغل يريد إنهاء الصلاة حتى يؤديه، ولكن نقول لهذا كما قال ابن العزي في كتابه في شرح موطأ مالك بن أنس قال رحمه الله: وماذا يريد من يسرع في صلاته ويسابق إمامه فليسلي نفسه، إنه لن ينتهي قبل إمامه.
يعني مهما أسرعت وسابقت الإمام لن تسلم حتى يسلم سابقت أم لم تسابق أسرعت أم لم تسرع.
ومن المخالفات أيضاً وهي منتشرة في أوساط الناس أن بعض المسلمين إذا دخل المسجد والإمام راكع أسرع سرعة شديدة، وهذه مخالفة.(72/3)
... ... ...
أخطاؤنا في الصلاة ... ... ...
خالد الشارخ ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- أهمية العناية بالصلاة والتحذير من التقصير في أدائها. 2- ذكر بعض الأخطاء التي يقع بها المصلون وتصحيح هذه الأخطاء (مسابقة الإمام – التهاون في ستر العورة – تأخير الصلاة - عدم الطمأنينة – عدم السجود على سبعة أعضاء – رفع الرأس في الصلاة). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وارجوا اليوم الآخر، وحافظوا على أوامر الله وأدوها كما أمركم الله ورسوله ، واجتنبوا ما نهاكم الله عنه وما نهاكم عنه رسوله ، وليتحرّ كل مسلم الصواب في عباداته حتى تقبل منه، ويتعلم أحكام العبادات وشروطها وأركانها ونواقضها ومبطلاتها. فربما يفعل المسلم فعلاً يظنّه مسنوناً وإذا هو مبطلٌ للعبادة أو منقص لأجرها.
أيها المسلمون: وإن من أهم ما يجب الاعتناء بتعلمه والتفقه فيه، ومعرفة أحكامها وشروطها وأركانها ومبطلاتها بعد التوحيد هي أحكام الصلاة.
كيف لا: والنبي يقول: ((أول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)) [رواه الطبراني في الأوسط وغيره عن أنس وصححه الألباني].
فما ظنّك أخي المسلم إذا جِئت يوم القيامة وأنت أحوج ما تكون إلى الحسنة فيُنظر في صلاتك فإذا هي فاسدة، فينظرون في صحيفتك هل فيها من نوافل؟ حتى يسدوا بعض خلل الصلاة.
فإذا أنت مقصر في النوافل أيضاً وتضيع لها، وتقع في أخطاءٍ تخلّ بجوهر الصلاة، يا لها من خسارة وندامة.
أيها الإخوة: وموضوع مثل هذا لا تكفيه خطبة ولا خطبتان، ولكنها تذكرة بأهمية هذه الشعيرة ووجوب التفقه فيها، والحمد لله قد ألفت كتب كثيرة مختصرةٌ ومطولة، في أحكام الصلاة، وأخطاء الناس فيها، ومن ذلك كتاب صفة صلاة النبي للشيخ العلامة عبد العزيز بن باز يرحمه الله، وكتاب آخر بهذا الاسم أيضاً للشيخ العلامة محمد بن عثيمين وآخر للشيخ الألباني، ومن الكتب النافعة، التي تصوب أخطاء الناس في صلاتهم وفي طهارتهم كتاب الشيخ عبد العزيز السدحان وفقه الله وهو كتاب موجود ومبذول، فما ينقصك إلا القراءة.
وإذا كنت لا تحسن القراءة، فاسمع الأشرطة والمحاضرات التي تبين لك أحكام الصلاة وأخطاء الناس فيها.
أيها الناس: إن أخطاء الناس في الصلاة متنوعة ومتعددة، فبعضها يبطل الصلاة، وبعضها ينقص من أجرها، وبعضها خلاف السنة. وسأذكر بعض المخالفات واذكر والصواب فيها:
1- من المخالفات التي تبطل الصلاة، وتجعلها لا نفع فيها، عدم الطمأنينة في الصلاة، فلا يطمئن في ركوعها ولا سجودها، ولا جلوسها بل ينقرها نقراً، ولا يذكر الله فيها إلا قليلاً.
والطمأنينة ركنٌ من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا به، فكما أن الصلاة لا تصح إلا بقراءة الفاتحة ولا تصح إلا بالركوع والسجود فكذلك لا تصح الصلاة إلا بالطمأنينة.
أما كيفية الطمأنينة في الصلاة: فقد بينها النبي ، وذلك حينما دخل المسجد مرة، فوجد أعرابياً يصلي فرآه لا يطمئن في صلاته، فدعاه النبي فقال له: ((ارجع فصل فإنك لم تصل))، أي إن صلاتك باطلة، فرجع فصل مثل الأولى، فقال له النبي : ((ارجع فصلي فإنك لم تصلي))، فرجع فصلى مثل الأوليين فقال له النبي : ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) فقال الأعرابي: يا رسول الله والذي بعثك بالحق رسولاً لا أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي : ((إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) [متفق عليه].
إنها الطمأنينة في عامة الأركان، وحتى تقضي الصلاة وليست الصلاة مجرد حركات لا يفقه المصلي فيها قولاً ولا يحسن دعاءً. ولا ترى إلا أجساداً تهوي إلى الأرض خفضاً ورفعاً.
وهل يرضيك أخي المصلي أن يصرف الله نظره عنك وأنت تصلي؟
ففي مسند الإمام أحمد أن النبي قال: ((لا ينظر الله إلى عبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده)).
2- ومن المخالفات التي تسبق فعل الصلاة تأخير الصلاة عن وقتها، فلا يصلي الصلاة إلا وقد خرج وقتها.
وهذا غالباً ما يكون في صلاة الفجر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الإخوة: اعلموا أنه لا يحل لمسلم أن يقدم من صلاته جزءً قبل الوقت ولا أن يؤخر منها جزءاً بعده، فكيف بمن يؤخرون جميع الصلاة عن وقتها كسلاً وتهاوناً وإيثاراً للدنيا على الآخرة، ويتنعمون بنومهم على فراشهم ويتمتعون بلهوهم ومكاسبهم كأنما خلقوا للدنيا.(73/1)
كأنهم لا يقرؤون القرآن، كأنهم لا يقرؤون قوله تعالى: فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون كأنهم لم يقرءوا قوله تعالى: فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً وكأني بهم لم تبلغهم أحاديث النبي في وعيد من أضاع الصلاة أو لم يبالوا بذلك، لقد قال النبي : ((من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله)) [رواه البخاري].
أي كأنما أُصيب بفقد أهله وماله، فسبحان الله، ما أعظم الأمر وما أفدح الخسارة، الذي تفوق صلاة العصر كأنما فقد أهله وماله، فأصبح أعزباً بعد التأهل وفقيراً بعد المغنى، فأين موظفونا: الذين يخرجون من العمل قرب العصر فينامون ولا يستيقظون إلا قُرب المغرب أو بعد المغرب، اسمع يا أخي رسولك يقول لك حينما تفوتك صلاة العصر فكأنما فقدت زوجتك وأبناءك وبيتك ووظيفتك وجميع ما تملك.
فكم من عصر يفوت.؟ ولا حول ولا وقوة إلا بالله؟
3- ومن المخالفات أيضاً تهاون بعض المصلين بستر العورة: وقد قال الله تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ، ومن المعلوم أن عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وعورة المرأة البالغة جميع بدنها ما عدا الوجه في الصلاة فقط.
فاتقوا الله عباد الله وتستروا في الصلاة بثوب مباح طاهر لا يصف لون الجلد من ورائه، واحذروا التهاون في ذلك، فإن بعض الناس يلبسون ثياباً ناعمة رهيفة أو صافية لا تستر وليس عليهم إلا سراويل قصيرة لا تصل إلى الركبة فيبين لون الفخذ من تحت الثوب وهؤلاء لم يأتوا بواجب الستر الذي هو من شروط الصلاة.
4- ومن الأخطاء أيضاً عدم تمكين الأعضاء السبعة من السجود، وهذا خلاف الثابت عنه ، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ((أمر النبي أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعراً ولا ثوباً، الجبهة واليدين والركبتين والرجلين)) [أخرجه البخاري].
والمخالفات التي تقع من الناس في هذا الخطأ أنواع منها:
أن بعض الناس إذا سجد رفع قدميه قليلاً عن الأرض أو جعل إحداهما على الأخرى وهو في هذه الحالة لم يصدق عليه أن سجد على سبعة أعظم.
ومنها: أن بعض الناس ممن يلبس العقال قد يسجد على طرف العقال فيرتفع أنفه هذا مخالف أيضاً لما سبق من حديث الأمر بالسجود على سبعة أُعظم.
وقد سُئل الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى عن المصلي إذا رفع بعض أعضاء السجود عن لمس الأرض فهل تبطل صلاته؟
فأجاب رحمه الله: إن كانت رجلُه مرفوعةً من ابتداء السجدة إلى آخرها لم تصح صلاته لأنه ترك وضع بعض الأعضاء وليس له عذر. وإن كان قد وضعها بالأرض في نفس السجدة ثم رفعها وهو في السجدة فقد أدى الركن لكن لا ينبغي له ذلك.
5- ومن المخالفات والأخطاء التي تبطل الصلاة وهي منتشرة بين الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله قيام المسبوق أي الذي فاته شيء من الصلاة لقضاء ما فاته قبل تسليم الإمام التسليمة الثانية: فما إن يسلم الإمام التسليمة الأولى وقبل أن يتمها بادر الناس بالقيام لقضاء ما فاتهم قبل أن يكمل الإمام السلام.
وهذا مخالف لقوله عليه السلام: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا..)) [الحديث رواه البخاري ومسلم].
وفي حديث آخر: ((أيها الناس إني أمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالانصراف)) [رواه مسلم]. وعن أنس رضي الله عنه قال الحافظ النووي رحمه الله: والمراد بالانصراف السلام.
قال الإمام الشافعي رحمه الله: ومن سبقه الإمام بشيء من الصلاة فلا يقوم لقضاء ما عليه إلا بعد فراغ الإمام من التسليمتين.
وسئل الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: هل يجوز للمسبوق أن يقوم لقضاء ما فاته قبل أن يكمل الإمام التسليم؟
فأجاب رحمه الله: لا يحل له ذلك وعليه أن يمكث حتى ينتهي الإمام من التسليمة الثانية، فان قام قبل انتهاء سلامه، ولم يرجع انقلبت صلاته نفلاً، وعليه إعادتها، لأن المأموم فرض عليه أن يبقى مع إمامه حتى تتم صلاة الإمام.
بارك الله لي ولكم.. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
الحمد لله القائل: وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون . وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه.
ما زال يوصي ويقول: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)).
أيها المؤمنون: ومن الأخطاء الشائعة مسابقة الإمام بالركوع أو الرفع منه أو السجود أو السلام أو نحو ذلك، ويكفي في ذلك ردعاً أن يعي المصلي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار)) [متفق عليه].
وهناك خطأ آخر، وهو تابع للذي قبله:(73/2)
وهو التأخر عن الإمام، أو موافقة الإمام في القيام والقعود أو الركوع والسجود، والسنة المشروعة متابعة الإمام، فإنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا استوى الإمام راكعاً تركع. وإذا استوى ساجداً تسجد. لا تسبقه ولا توافق ولا تتأخر عنه، بل تابعه قال البراء بن عازب رضي الله عنه: كنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم: ((فكان إذا انحط من قيامه للسجود لا يحني أحدٌ منا ظهره حتى يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض)) [متفق عليه].
ورأى أحد الصحابة رجلاً يسابق إمامه فقال: (لا وحدك صليت ولا بإمامك اقتديت).
وغالباً ما يسابق الإمام المستعجل أو من عنده شغل يريد إنهاء الصلاة حتى يؤديه، ولكن نقول لهذا كما قال ابن العزي في كتابه في شرح موطأ مالك بن أنس قال رحمه الله: وماذا يريد من يسرع في صلاته ويسابق إمامه فليسلي نفسه، إنه لن ينتهي قبل إمامه.
يعني مهما أسرعت وسابقت الإمام لن تسلم حتى يسلم سابقت أم لم تسابق أسرعت أم لم تسرع.
ومن المخالفات أيضاً وهي منتشرة في أوساط الناس أن بعض المسلمين إذا دخل المسجد والإمام راكع أسرع سرعة شديدة، وهذه مخالفة. ... ... ...
... ... ...
... ... ...(73/3)
أخطائنا في التربية
فضيلة الشيخ سلمان ابن فهد العودة.
…………………………………………
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا. أما بعد أيها الأحبة الكرام فسلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الأحبة:
إن الإنسان لا يكون أحقر في عين نفسه منه في مثل هذا الموقف، فإن هذه الأعداد الكبيرة منكم التي أسرفت وأحسنت الظن فجاءت لتستمع إلى مثل هذه الكلمات.
إنها تُنبأ عن فقر عظيم في هذه الأمة، فقر إلى الرجال الأكفاء، وفقر إلى العلماء، وفقر إلى المصلحين، وإلا فأي معنى لأن تتهالك هذه الأمة على كل متحدث وكل قائل وكل مبين أو متكلم لمجرد أنه ألقى درسا، أو قام بمحاضرة أو أنه تكلم.
إن ذلك لدليل على فقر الأمة إلى الرجال الأفذاذ الحقيقيين وأنها تعيش فعلا في فترة من أحلك فتراتها.
وإنني أقولها لكم صريحة، ويعلم الله تعالى حقيقة ما أقول حسب ما أعتقده:
أننا على يقين أن الله تعالى لا يدع الصحوة ولا يدع الدعوة لأمثالنا من المقصرين والمسرفين على أنفسهم، بل إن الله تعالى يختار لها من الصادقين المخلصين من يكون فيهم الرشد والكفاية، إلى أن يصلح الله الأحوال ويتدارك بمنه وفضله وذلك فضل الله يأتيه من يشاء.
أما بعد فحديثي إليكم هذه الليلة هو عن بعض أخطائنا في التربية:
** النقطة الأولى مفهوم التربية:
التربية أيها الأخوة لها مفهوم أوسع وأعمق، إن التربية هي الحياة بكل تفاصيلها، وبكل أشخاصها، وبكل مؤسساتها، والحياة تعني وجود الإنسان من يوم أن ظهر على الأرض وإلى أن يغادرها، فهي تبدأ مع الإنسان في شهادة الميلاد، وتنتهي مع الإنسان بشهادة الدفن.
وإذا عرفنا أن التربية هي المعنى الشامل للإنسان من يوم أن ولد إلى يوم أن يموت أدركنا أن الحياة
هذه أو التربية ليست أمرا مقصورا على وجود الإنسان في منزله، أو بيته، ولا وجوده في مدرسته،
ولا وجوده في حارته أو في حيه أو مسجده.
بل هي وجود الإنسان في الحياة كلها بكل مؤسساتها من بيت ومدرسة ومسجد وإعلام وصحة وغير ذلك، بل وجود الإنسان من خلال الأناسي الذين يقابلونه في حياته بكل تناقضاتهم.
فهذا يحييه ويسلم عليه، وذاك يعيره ويشتمه، وهذا يحادثه وهذا يبايعه أو يشاريه وهذا يعلمه أو يتعلم منه، وهذا يوافقه وهذا يخالفه، وهذا يمدحه وهذا يذمه.
فالتربية تشمل الحياة كلها.
وإذا أدركنا هذا أدركنا أنه لا يمكن أن يستقل جهاز من الأجهزة أو مؤسسة من المؤسسات بتربية الإنسان، فإن الإنسان كائن مؤثر متأثر، ولا يمكن أن نستهين بشيء يواجه الإنسان.
فالجو العام في المجتمع مثلا هو عبارة عن تيار كتيار الماء أو تيار البحر يجتاح الإنسان وأحيانا يكون الإنسان مخالفا للتيار فيكون كأنه يسبح ضد الموج يتقدم بقوته الضعيفة أمتارا ثم يدفعه الموج إلى الوراء عشرات الأمتار.
ولهذا جاء الشرع بتحميل الإنسان مسئوليته الفردية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجاء الشرع أيضا بتحميل المجتمع مسؤولية القيام بالحسبة كأمة مؤمنة لا يميزها إلا الإيمان بالله الذي عليه اجتمعت ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي به قوامها وبقائها:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتأمنون بالله).
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم)
ولذلك فإن الإنسان محتاج إلى المجتمع كله ومن حوله ليتأثر بهم وينتفع منهم وينظر ما عندهم من خير فيقتبسه، أو خطأ فيتجنبه، نصيحة يعمل بها.
ثم هو محتاج أيضا إلى المؤسسات الموجودة في المجتمع والتي يتربى من خلالها، فهو يتربى قاعدا في المسجد ينتظر الصلاة، ويتربى وهو في مدرسته، ويتربى وهو في سوقه، ويتربى وهو في بيته، حتى والإنسان في متجره هو يتربى، يتربى على الأخلاق الإسلامية في المعاملة والبيع والشراء والأخذ والعطاء، وغير ذلك.
وحين يفسد الزمان وبمعنى أصح وبالاصطلاح الشرعي ينحرف الناس يؤمر الإنسان باعتزالهم حتى يسلم الإنسان من شرهم أو يسلموا هم من شره، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُأل أي الناس خير قال:
(مؤمن مجاهد في سبيل الله تعالى بماله ونفسه، قيل ثم أي قال مؤمن في شعب من الشعاب معتزل يعبد ربه ويدع الناس من شره).
إنه إنسان غير قادر على التربية لا يستفيد من الناس علما وعمل وأخلاقا، ولا يستفيد الناس منه أيضا، فهذا كان الأجدر في حقه أن يعتزل الناس، يدع الناس من شره، ليس من الناس إلا في خيره.(74/1)
فالتربية إذا عملية ضخمة وكبيرة تبدأ مع الإنسان من يوم ولد، لا بل أقول تبدأ قبل الميلاد، ومن الطرائف والنكد أن رجلا جاء لأحد العلماء فقال له:
أنا قد تزوجت، وحملت زوجتي وهي في الشهر الرابع، وأريد أن تعطيني بعض التعليمات في أسلوب تربية هذا الطفل، فقال له:
هذا الطفل قد فات عليك ما دام في الشهر الرابع، لكن أعطيك تعليمات للطفل القادم.
وهذه لا شك نكتة ولكنها لها دلالتها ولها معناها، والمقصود أن التربية تبدأ حتى من يوم اختيار الزوجة، فإن الزوجة هي الحضن السليم المناسب الذي ينشأ معه الطفل ويتربى في أحضانه ويقبس من أخلاقه، فهي تبدأ حتى قبل أن يولد الإنسان.
وفي صحيح البخاري عن أبن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قضي بينهما ولد لم يضره الشيطان).
فالشيطان يفر من ذكر الله، فالتربية تبدأ مبكرة جدا، إنه تبدأ من هذا الأوان ولا تنتهي إلا بأن يموت الإنسان قال الله عز وجل:
(واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)، الموت.
ثم هي ليست عملية مقصورة على جانب واحد من جوانب النفس الإنسانية، فهي تربية تتعلق بالخُلق وتتعلق بالعقيدة وتتعلق بالعلم وتتعلق بالعمل وتتعلق بالجسم وتتعلق بالعبادة.
وهي أيضا ليست مسؤولية جهة بعينها فحسب، فالبيت وحده لا يمكن أن يستقل بالتربية.
والمسجد وحده لا يستقل بها.
والمدرسة وحدها لا تستقل بها.
والزملاء والأصدقاء الصالحون أيضا، وإنما المجتمع كله بكل مؤسساته وكل أفراده وكل أجهزته هو مسؤول عن التربية، هذه واحدة.
** النقطة الثانية، الإنسان موضوعا.
لقد بُعث الرسل عليهم السلام، وأنزلت الكتب من السماء إلى البشر من أجل تقويم هذا الإنسان، من أجل أن يترقى حتى يتأهل لجنة عرضها السماوات والأرض، بل حتى يتأهل لرؤية الله تعالى في جنة عدن، قال الله تعالى:
(وجوه يوم إذ ناظرة إلى ربها ناظرة).
فهي تتمتع بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم في جنة عدن.
إن الإنسان يترقى بالتربية حتى يتأهل لهذا المستوى الرفيع، وقد ينحط حتى يصبح حطبا ووقودا لجهنم مع الحجارة وشبيها بالأنعام قال الله عز وجل:
(وقودها الناس والحجارة). وقال سبحانه:
(إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل). وفي الآية الأخرى:
(بل هم أضل سبيلا).
إذا بالتربية يرتقي الإنسان حتى يصبح أهلا لرؤية الله تعالى في الجنة، وبنقص التربية أو تضييعها ينحط حتى يصبح حطبا لجهنم.
إذا بناء الإنسان – أيها الأحبة – هو محط الاهتمام، وهذه القضية الكبرى التي يجب أن نرفع شعارها ونتحدث عنها ونملئ بها مجالسنا هي قضية الإنسان.
إن بناء الإنسان أهم من بناء الجسور وأهم من تعبيد الطرق.
وأهم من تشييد العمارات الشاهقة.
وأهم من توفير الخدمات مع أنني لا أهون من بناء الجسور وتعبيد الطرق وتشييد العمارات وتوفير الخدمات، ولكن لا قيمة لهذه الأشياء كلها في ضل غياب الإنسان.
إن هذه الأشياء كلها لا تعدُ أن تكون تيسيرات للإنسان وتسهيلات.
فقلي بربك أي معنى لإنسان حسن البزة حسن الثياب جميل الهيئة بهي الطلعة ممتلئ الجسم معتدل الصحة ولكنه يرصف في قيوده في أسره وسجنه.
وأي قيمة لإنسان هذا شأنه إذا كان بلا عقل.
وأي قيمة لإنسان هذا شأنه إذا كان بلا دين ولا خُلق ولا عقيدة.
إن الإنسان هو المقصد الأول من الوسائل التربوية كلها، ولا قيمة لإنسان لا يعبد ربه ولا يسجد لله تعالى ولا يمرغ جبهته خضوعا لرب العالمين، ولا يسبح بحمد ربه عز وجل.
إنه في دنياه يعيش الشقاء بكل صوره وألوانه وفي أخرته إلى نار لا يخبو أواره:
(كلما خبت زدناهم سعيرا).
إن تحقيق وجود الإنسان بالمعنى الشرعي يحقق كل المكاسب الأخرى.
فلنفترض مثلا أننا أمة فقيرة، ليس همنا أن نطلب المال لأن بناء الإنسان الصالح سيجعله قادرا بأذن الله على تحصي المال.
لنفترض أننا أمة متأخرة في المجال الصناعي والتقني كما هو الواقع فعل
إن بناء الإنسان الصالح العاقل العالم الرشيد هو السبيل إلى تطويع الصناعة وإلى الحصول على أسرار التصنيع، وإلى الوصول إلى أعلى المستويات في الحضارة المادية.
لنفترض أننا أمة متخلفة في كافة مجالات الحياة، الاجتماعية والمالية والاقتصادية وغيرها، فإن الإنسان إذا بُني وأُصلح وأعُد إعدادا صحيحا هو الذي يستطيع أن يخطو تلك الخطوات التي تحتاجها الأمة. فهو الذي يحصل على المال وهو الذي يبني ويصنع ويفكك أسرار العلم ويستطيع أن يطوعها بأذن الله عز وجل.
إذاً، المخرج من كل أزماتنا ومصائبنا التي نعيشها وتعيشها الأمة معنا هو بناء الإنسان، تتعدد لحلول ولكنها تتفق على أن الذي يمكن أن يتولى تمثيل هذه الحلول هو الإنسان ذاته.
وأقولها لك صريحة لن يحصل الإنسان على كرامته الحقيقة إلا بالتزامه بدين الله تعالى، وذلك بسبب واضح تزيدنا به الأيام بصيرة وهو أن الإسلام هو كلمة الخالق:
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).(74/2)
على حين تعترف كل الدراسات النفسية والتربوية في هذا العصر تعترف بجهلها بحقيقة الإنسان وعجزها عن إدراك خفايه وأسراره وأنه تبحث في ميدان مجهول.
أما الشرع فنزل من عند حكيم حميد يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
** النقطة الثالثة: أما حديثي الثالث فهو بعنوان أزمات تربوية.
وهذه الأزمات أزمات عامة، ليست أزمات في البيت فحسب ولا في المدرسة بل نستطيع أن نقول إنها أزمة في الأمة كلها، تبدأ من البيت وهو الدائرة الصغيرة، وتنتهي بالأمة في وجودها العام، وهذه الأزمات متعددة لها أسبابها، ومضارها ونتائجها، وأذكر شيء منها دون استيعاب.
هناك أزمة نستطيع أن نعبر عنها بأزمة الثقة:
غياب الثقة داخل الأمة
فهناك أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم، تبادل المخاوف، الشك، الظن، عدم الثقة
هناك أزمة ثقة بين الطالب والمدرس.
هناك أزمة ثقة بين الناص والمنصوح، بين جيل الشباب والشيوخ، بين الرجل والمرأة
بين المدير والموظف.
وكل هذه الأزمة مبنية على سوء الظن:
(يا أيها الذين أمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم).
جعلت الأمة تتمزق إلى طوائف شتى، وإلى فرق مختلفة وإلى طبقات متناحرة لا يثق بعضها ببعض، ولا يتعاون بعضها مع بعض، وترتب على ذلك تعطيل المهارات والكفايات وقدرات الأفراد. وأصبحت هذه الأزمة (أزمة الثقة) تكبل الفرد عن الإبداع والإنتاج والاجتهاد والتعاون وهذا مصداق ما أخبر به الرسول (صلى الله عليه وسلم) حينما قال لمعاوية:
(لا تتبع عورات الناس فإنك إن تتبعت عوراتهم أفسدتهم أو كدت تفسدهم).
إن تتبع العورات من قبل المدرس الذي يتتبع عورت الطالب، أو الابن الذي يتتبع عورات أبيه، أو الحاكم الذي يتتبع عورات الرعية، أو الرجل الذي يتتبع عورت المرأة، أو العكس في ذلك كله.
إنه دليل على فقدان الثقة، بحيث أصبح الإنسان يبحث عن العيوب، وإذا لم يجدها حاول أن يصطنعها ويختلقها وهكذا يقع الفساد العريض في المجتمع.
نموذج آخر: أزمة القدوة:
القدوة التي لا يمكن أن تتحقق التربية إلا بوجودها:
(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).
فهذه هي القدوة العظمى الإقتداء بالرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي هو المثل الكامل بهديه وأقواله وأفعاله وأخلاقه وعباداته عليه الصلاة والسلام.
ثم ما دون ذلك من القدوات التي يمكن أن تحرك الإنسان فقط إلى عمل صالح متفق عليه، كما ينبئ إلى ذلك حديث جرير وهو في الصحيح أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
(من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة).
هو لم يأتي بشيء من عنده إنما أحيا سنة قد أميتت وأثارها وحركها ودعى الناس إليها بقوله وفعله فاقتدوا به في ذلك واندفعوا إلى صدقة أو إلى جهاد أو إلى علم أو إلى عمل بسبب أنهم رأوا فلانا فعل فقلدوه وحاكوه في ذلك، وذكرهم بما كان غاب عن وجدانهم.
أزمة القدوة، القدوة الحية التي هي أصل التربية والسلوك لم تعد تتوافر في المجتمع فأحيانا لا توجد القدوة في المنزل عند الأب بالنسبة للولد، أو عند الأم بالنسبة للبنت.
لا توجد في الإعلام، فالإعلام قد يقدم مثلا الفنان على أنه قدوة.
أو يقدم اللاعب على أنه قدوة، أو يقدم الوجيه والثري على أنه قدوة
أو يقدم الشخصيات المرموقة اجتماعيا بغض النظر عن كفاءتها وبغض النظر عن موقعها في دين الله عز وجل، وبغض النظر عن التزامها في السلوك والأخلاق.
لهذا أنت لو أمسكت بأصغر طفل وقلت له:
ماذا تتمنى أن تكون؟
ما كان له إلا أن ينطق بأولئك الأشخاص الذين يمدحهم المجتمع ويفرح لهم ويعظمهم ويوقرهم ويقدرهم، فهو يحب أن يكون مثلهم.
التعامل والسلوك في المدرسة لا تقدم القدوة الصالحة أحيانا، بل قد تتوفر على النقيض من ذلك ألوان من القدوات السيئة في هذه المرافق وفي غيرها.
وهنا فراغ الساحة من القدوة يعني انعدام العمق التربوي لدى الأفراد وتنازع الفرد بين أكثر من نمط من الأنماط الغازية فهو في ذهنه فلان وفلانُ وفلان، وكل هؤلاء ليسو أهلا لأن يكونوا قدوة حسنة وغاب عنه أولئك الرجال الأفذاذ.
من الأزمات أزمة الحوافز.
الحوافز التي تدعو الإنسان إلى أن يعمل وإلى أن يضحي وإلى أن يبذل وإلى أن يشارك، وأنت تجد في شريعة الله تبارك وتعالى أولا الأجر والثواب:
(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).
هذا من الحوافز، الأجر عند الله للأعمال الصالحة، والعقوبة عند الله تعالى على الأعمال السيئة.
وكنموذج أيضا حين تنظر إلى عمل كالجهاد وما فيه من نزيف الدماء وإطاحة الرؤوس وعقر الجواد وفقدان الحياة، تجد أن الشرع جعل للإنسان حوافز في هذا العمل.
منها حوافز شرعية في فضل الجهاد والمجاهدين وما أعد الله لهم في الدار الآخرة حتى قال النبي (صلى الله عليه وسلم) كما في صحيح مسلم:(74/3)
(إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة والأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله)، وفي المقابل هناك حوافز دنيوية سريعة أيضا مثل قول النبي (صلى الله عليه وسلم) كما في غزوة حنين وغيرها:
(من قتل قتيلا فله سلبه )، له ما معه من السلاح والعتاد، وكما هو معروف في تمثيل السرايا وإعطائها جزء من الغنيمة الربع أو الخمس على ما هو معروف تفصيله.
هذا نموذج من الحوافز، ولابد أن يكون للمجتمع حوافز، فالمجتمعات الإسلامية اليوم تعاني أزمة، يعني نقصا حادا وأحيانا غيابا كاملا في الحوافز التي تدعو الإنسان إلى العمل، إلى الجهاد، إلى الدعوة، إلى التضحية، إلى البذل.
لابد من حوافز للعلماء والمبدعين تدعوهم إلى ذلك.
حوافز للمربين والمدرسين، حوافز للمجتهدين.
حوافز للمخترعين والباحثين.
حوافز لكل أصحاب المواهب.
بل لا أقول أن المجتمعات الإسلامية تخلو من الحوافز، إنما أحيانا نجد المسلمين في كل بلادهم ربما لا يميزون المبدع عن الخامل أو عن النائم، ولا تتوافر لديهم أساليب لضمان حقوق أولئك الأشخاص، سواء كانت هذه الحقوق حقوقا مالية أو معنوية أو غيرها.
من الأزمات أزمت الحقوق الشرعية.
أو ما يعبر عنها بعضهم في العصر الحاضر بأزمة الحرية، وهذا الاصطلاح ليس واردا بهذا اللفظ بالمعنى المقصود، فالأولى أن يعبر عنه بأزمة الحقوق الشرعية.
إنه لا عمل في الدنيا بدون تشجيع ولا إبداع في الدنيا بدون حرية كما يقول بعضهم، والحرية يعنون
بها الحق الشرعي المنضبط، الضمانة الصحيحة لتصحيح الأخطاء وتلافي العيوب وهي إشعار للإنسان بآدميته وكرامته التي بينها الله عز وجل:
(ولقد كرمنا بني آدم ).
بل أخطر ما تعانيه المجتمعات الإسلامية الحرية العوراء.
الحرية الناقصة التي تمنح لفئة من فئات المجتمع على حساب فئات أخرى، أو تعطى لاتجاه دون آخر، خاصة حينما يكون أولئك الذين منحة لهم الحرية وأعطوا الحق كاملا هم من الفئات المنحرفة التي تحمل أفكارا مخالفة للأسس التي قامت عليها هذه الأمة، كالأفكار العلمانية مثلا أو الأفكار الحداثية أو الأفكار الإلحادية.
فيكون للإنسان الحرية في طرحها والحديث عنها وترويجها في الكتاب والمجلة والجريدة والتلفاز والإذاعة والنادي والمنتدى والأمسية، على حين لا يملك أصحاب الحق الشرعي، أصحاب العلم وأصحاب الدعوة وأصحاب التوجيه وأصحاب الريادة وحملة الهدي السماوي لا يملكون الحق ذاته.
ومن نتائج فقدان الحرية أو فقدان الحق الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من آثار ذلك الكبت، والانطواء والعزلة والنكوص وعدم التأقلم مع المجتمع وربما يترتب على ذلك نمو مجموعات داخل المجتمعات الإسلامية، مجموعات ترفض هذا الواقع وتحاربه، فضلا عن فشو الكراهية والبغضاء بين الناس.
من ألوان الأزمات أزمة الإتقان والإحسان.
(وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
أي شيء هو الإحسان إنه الإتقان، وعند البيهقي بسند حسن أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
(إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه).
وفي الحديث الآخر حديث شداد أبن أوس وهو في الصحيح:
(إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).
هذا من الإحسان حتى المقتول الذي يغادر الحياة تقتله قتلا حسنا.
إن من عدم الإتقان ضعف الإنسان في العبادة مثلا، تأخير الصلاة أو التقصير فيها، والتقصير في الطهارة أو عدم الصلاة مع الجماعة، أو التفريط فيها.
ومثله التفريط في الصيام مثلا، أو في الحج أو في الزكاة أو في غير ذلك من العبادات التي أمر الله بها ورسوله (صلى الله عليه وسلم)، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:
( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).
فما بالك بعبدٍ يعبد ربه وكأنه ينظر إلى الله عز وجل ويراه بعينه فيكون مقبلا عليه معرضا عمن سواه، صادقا خاشعا لا يلتفت إلى المخلوقين طرفة عين، فهذا هو الإحسان في عبادة الله تعالى.
وهناك لون آخر وهو فقدان الإحسان في ما يتعلق بحقوق العباد.
مثل عدم إتقان الأعمال المنوطة بك أيها الإنسان، إهدارها، تضييعها
الحرص على شكلية العمل ومظهريته دون حقيقته ومعناه
الخواء ونمو أساليب التحايل والغش والخداع والنقص في العمل وعدم الحرص على إنجاز الأمور.
يعني أنك حريص على أن لا تُسأل عن عملك، لا يعاتبك المدير على أنك تأخرت، ولا يعاتبك المسؤول على أن هذه المعاملة جلست عندك، ولكن ما وراء ذلك فإنك لا تلتفت إلى أحد.
وهناك آلاف الأساليب والطرق التي يستطيع الإنسان فيها بالحيلة أن يتخلص من العتاب من الآخرين ومن المسؤولية ومن المحاسبة، ولكنها يعلم في قرارة نفسه أنه ما قام بالواجب.
من الأزمات أزمة الكفاءة.(74/4)
أو المحسوبية أو الطبقية أو التمييز القبلي بين الناس أو التمييز العنصري وعدم جعل المعيار في التقويم والتقديم والتوظيف والرعاية، عدم جعل المعيار هو المعيار الشرعي:
(إن خير من استأجرت القوي الأمين).
فالقوة والأمانة، القوة في الدين والقوة في العلم والقوة في الخُلق والإتقان والأمانة.
هذا من أزمة الكفاءة، ومنه إبعاد الجادين والمصلحين الصادقين لصالح الأقرباء والأصدقاء بني لعم والزملاء والجيران وسكان البلد أو المنطقة التي أنا منها.
ومن آثاره إهدار الثروات العظيمة التي على رأسها الإنسان.
إثارة البغضاء والشحناء بين الناس.
تضييع الأمانة بإيكالها إلى غير أهلها، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) لمن سأله عن الساعة:
( إذا ضيّعت الأمانة فأنتظر الساعة، قيل ومتى إضاعتها؟ قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح، إذا وسد الأمر إلى غير أهله فأنتظر الساعة).
من الأزمات أزمة التخطيط.
والتخطيط مطلب شرعي، حتى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يعتمده كثيرا.
وحادثة الهجرة مثلا مثل في ها المجال، ومثله أيضا لما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في حديث حذيفة في صحيح مسلم:
(أحصوا لي من يلفظ بالإسلام).
فأجرى النبي عليه الصلاة والسلام عملية إحصائية لعدد المسلمين وهذا كله يتعلق بموضوع التخطيط، ومحاولة الإعداد للمستقبل.
التخطيط لحل المشكلات التي يمكن أن تنجم.
التخطيط لتنمية المجتمع، التخطيط لبناء النفس.
التخطيط للوقاية من الأخطار، والأخطار المقبلة.
ونحن نعرف أن الصحابة رضوان الله عنهم كانوا يتخوفون وهم في المدينة من غسان، حتى أن رجلا لما طرق على عمر خرج إلي عمر وقال له:
ما لك؟ قال أفتح حصل أمر عظيم.
فقال ما لك هل جاءت غسّان ؟
قال وكنا نتسامع أنهم ينعلون الخيل لحربنا وقد امتلأت قلوبنا منهم رعبا.
قال لا، الأمر أعظم من ذلك، طلق رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نسائه.
والحديث طويل معروف، والشاهد أن توقع الأخطار المستقبلية والاستعداد لمدافعتها وإزالتها هو جزء مما هو مطلوب من المسلم.
ولكن انعدام الشعور الصادق بالمسؤولية
وانعدام المؤسسات والدراسات والاستطلاعات
وعدم توفر البيانات الصادقة الضرورية للعمل
وإبعاد الكفاءات المخلصة، واستيراد المخططين الأجانب من خارج دائرة المنتفعين والمستفيدين، بل من خارج دائرة أبناء الأمة كلها.
كل هذا أوجد أزمة في التخطيط على مستوى الأمة في كل مدنها ودولها ومناطقها وأنتج ذلك عواقب منها استمرار التخبط، وعد انتظام الأمة، وعدم تحقيقها لما تطمح إليه وتصبو إليه.
ومثله أيضا أن الأمة أصبحت تتعرض دائما وأبدا مفاجأة غير محسوبة، ونكبات لم تكن تنتظرها، وأهدر المال والجهد في أشياء لا تنفع الأمة في حاضرها ولا في مستقبلها.
وكم ندمت الأمة على مال بذلته، أو علاقة بنتها أو خطة رسمتها أو غير ذلك من الأشياء.
من الأزمات أزمة الأمن.
أمن الإنسان على نفسه أو على مستقبله أو على دينه قبل ذلك كله، أو على فكره أو على ماله أو على ولده أو على منصبه أو جاهه أو مكانته أو كرامته إلى غير ذلك.
ويجب أن نعلم أن الخائف لا يعمل شيئا، ولا ينتج شيئا، ولا يتعاون مع أحد، ولا يوجد أمن للإنسان دون وجود حدود فاصلة له واضحة وواقعية تبين ما للإنسان فيه حق فيفعله، وما ليس للإنسان فيه حق فيتركه.
وما لم توجد الإجراءات الكافية لحفظ حقوق الإنسان إذا ظُلم أو اعتدي عليه أو قصّر في حقه كائنا من كان هذا الظالم ومهما كان حجم الظلم الواقع عليه.
من الأزمات أزمة المنهج.
فالأمة كثيرا ما تغيب عن وعيها ولا تعرف هويتها وحقيقتها وانتمائها أو تغيب عنها قبلتها التي أمرت أن تتجه إليها، صحيح يعرف الناس الكعبة البيت الحرام فيصلون إليها في أحينا كثيرة.
لكنهم قد لا يعرفون إلى أين يتجهون في تفكيرهم
وإلى أين يتجهون في اقتصادهم
وإلى أين يتجهون في سياستهم
وإلى أين يتجهون في إعلامهم
والإسلام دين جاء ليهيمن على الحياة كلها، ولتدور في فلكه كل الأعمال والأفكار والتصورات والمواقف، لقد ظل جزء من الأمة يركض وراء الشيوعية حتى فوجئ بسقوطها.
ولا زالت أجزاء كبيرة من الأمة تركض وراء التغريب ووراء النظام الدولي الجديد
ووراء أمريكا بنظمها وسياساتها وخططها وأفكارها ومناهجها
ولا زالت أجزاء كبيرة من الأمة تنادي بالعلمانية وفصل الدين على الدين على الحياة وعن كل المجالات العملية المثمرة.
ومثل ذلك التبعية لبعض المذاهب أو النظريات القديمة ولو كانت موجودة في تاريخنا وتراثنا، فإن تاريخنا مثلا يوجد فيه الآراء المنحرفة آراء الفلاسفة آراء الجهمية، آراء المعتزلة، آراء الأمم الكثيرة التي نقلها بعض المسلمين وترجموها وتأثروا بها.
فلا بد من تحرير التبعية وأن يكون المعيار في المنهج للقرآن الكريم والسنة النبوية لا غير:
(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب).(74/5)
إن هذا المقياس يقضي على كل صور التناقض في الأمة، فما وجدناه موافقا للحق الوارد في القرآن الكريم والحديث الصحيح أخذنا به بغض النظر عن مصدره.
وما وجدناه مخالفا رفضناه ولو كان ظهر من بيننا ومن بلادنا.
من مظاهر انعدام المنهج أو ضعفه أو أزمته تذبذب الشباب وترددهم وانعدام الانسجام الفكري والثقافي وأزمة الثقة أيضا بينهم.
من أزمات أخيرا أزمة التدين.
بل لعلها أهم الأزمات ولذلك جعلتها هي الأخيرة، أزمة غياب مراقبة الله عز وجل، وغياب الخوف من لقائه وأي معنى لحياة إنسان غاب عنه الإيمان بالدار الآخرة.
قال الله عن بعض عباده المخلصين:
(إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار).
فذكر الدار الآخرة واعتبارها في عمل الإنسان وقوله وفعله هو الذي يضبط المعيار والميزان في نفسه، يجعله يقبل على الخير طواعية ويعرض عن الشر طواعية فهذا يوف عليه السلام تتيسر له كل الأسباب في بيت امرأة العزيز وهي سيدة البيت وقد أغلقت الباب وفي خلوة وقالت له:
(هيتَ لك) وفي قراءة (هئتُ لك) قال:
(معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إن لا يفلح الظالمون).
فهذا هو الأمر العظيم، الخوف من الله والتدين الذي يجعل الإنسان يعرض عن الحرام حتى ولو كان في متناول يده، ويفعل الطاعة والخير حتى ولو كان فيه حتفه وعطبه.
أولئك الذين يخوضون المعارك وتتساقط رؤوسهم هل كانوا يجهلون ذلك المصير؟
كلا.. ما جاء إنسان للمعركة وهو يعتقد أنه ذهب إلى نزهة أو سياحة، لقد عرف أنه ذاهب إلى ميدان حرب ولكنه يعلم أن تلك الضربة التي يطير به رأسه إن كان صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر هي التي يدخل به الجنة برحمة الله وإذنه.
هذه الأزمة غياب التدين وضعف مراقبة الله تعالى وعدم الخوف منه هي أهم من كل ما سبق، بل هي السبب الرئيس في كل ما سبق.
ذلك المسؤول الذي فرط في عمله أو المدرس الذي أو الطالب أو الأب أو الزوج، كل هؤلاء ما فرطوا إلا بسبب ضعف التدين، وهذا السبب له نتائج من مظاهرها:
جفاف الإنسان في روحه، في محبته لله في، إيمانه، في إشراق قلبه، في توقده،
وإيمان الكثيرين بالماديات حتى كأنها كل شيء، فأنت حين تحدث الإنسان التاجر عن البركة، يلوي رأسه وكأنه لا يؤمن بذلك، إنما يؤمن بالحسابات والدراسات الاستشارية، والأمور المبنية على أمور علمية لها نتائج، وينسى:
(ولو أن أهل الكتاب أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض).
بركات، فينزل الله البركة على عباده المؤمنين إذا صدقوا وأمنوا واتقوا.
ومن نتائج ذلك اضمحلال النية الصادقة في عمل الإنسان وفي أمره كلها، فلا يعمل إلا ما يرى أن له فيه مصلحة دنيوية عاجلة.
ومن آثر ذلك ضعف الإذعان لأمر الله وأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، فأصبح الكثيرون يسمعون الأوامر ثم يخالفونها، ويسمعون النواهي ثم يأتونها، لماذا؟
لأن ذلك القلب المندفع إلى الطاعة قد ضعف فيه الدافع والحافز
ومثل ذلك نسيان حقوق الله تعالى كلها
بل ونسيان حقوق العباد أيضا.
** النقطة الرابعة/ لماذا يحدث هذا ؟
لماذا تزداد الخطاء ؟ ولماذا تتعقد المشكلات ؟ ولماذا لا نجد لها حلا ؟
هناك أسباب كثيرة أذكرها بسرعة كسبا للوقت:
من ذلك الرضى والقناعة الموجود لدينا.
رضينا بالواقع، لا ندرك مشكلاتنا بشكل صحيح، وننكر وجودها أحيانا ونرى أحيانا أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وكل أمورنا مبنية على الكمال والتمام، ليس لدينا إحساس بحجم الفارق بيننا وبين غيرنا، والبعض منا يرغبون بالركود وعدم التجديد بحال من الأحوال.
السبب الثاني عدم إيماننا بوجود المصارحة والمناصحة في ما بيننا.
وعدم الوضوح والصراحة والمكاشفة في تعاملنا مع واقعنا، وعدم مناقشة أمرنا ومشكلاتنا بصورة صحيحة، وذلك لأننا نرغب أحيانا كما نظن في عدم الإثارة أو اتقى الفتنة،
أو المساس بالمكاسب أو غير ذلك، وننسى أنه لا يمكن تجنب الإثارة واتقى الفتنة والحفاظ على لمكاسب إلا من خلال منهج واضح صحيح للنقد والمصارحة والمكاشفة يكون مبنيا على الحقوق المتبادلة بيننا جميعا
بين الزوج وزوجته
بين الوالد وولده
بين المدرس والطالب
بين الحاكم والمحكوم وهكذا.
السبب الثالث عدم تحديد المشكلات بدقة.
فنحن أحيانا نعزل كل مشكلة على حدة كما لو كانت مخلوقا مستقلا منفردا ونحاول أن نبين أسبابها، ونقترح الحلول لها، وندرس هذه الحلول ونخلص إلى نتائج نهائية دون أن نربط ذلك بغيره من الأمور.
السبب الرابع عدم الثقة بالعلم.
وعدم البحث العلمي واعتماد الأساليب العلمية في الوصول إلى تحديد المشكلة وأساليب حلها وتسخير العلوم الممكنة لهذا الأمر.
السبب الخامس ضيق الأفق لدى البعض.
أو الركود والتعصب للمألوف والعادات والانطلاق من بعض المسلمات والبديهيات الخاصة التي ليس لها سند شرعي ولا عقلي.
فالكثيرون يقولون لك هذا الأمر لا يجادل فيه اثنان ولا ينتطح فيه عنزان
أو يقولون لك هذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار لمن أنار الله بصيرته.(74/6)
ولكن الواقع أن هذا الأمر ليس سوى أمر مألوف معروف، وهذا الضيق النفسي والعقلي الموجود لدى البعض يعميه ويصمه عن التقدم خطوة واحدة للتعرف على الأخطاء وتعديل السلوكيات وحل القضايا والمشكلات.
السبب السادس اعتقاد البعض أن مشكلاتنا تحل عن طري الأساليب العقيمة.
فمثلا الجدل والتراشق بالألفاظ والتعصب والتحيز الواضح لفكرة معينة أو استيراد الحلول الجاهزة أحيانا أو ترك المشكلة ونعتقد أن الزمن كفيل بحلها أو إلغاء الأسباب والنتائج أو إلقاء المسؤولية على الآخرين وانتظار الحل منهم، أو التعامل مع المشكلات بالعواطف، كل ذلك قد يسكن الألم أحيانا ولكنه لا يوقف النزيف على المدى الطويل.
السبب السابع والأخير هو عدم استصحاب النية الصالحة في نفع الناس.
وبذل الوسع في التعامل مع القضايا والمشكلات ونسيان الموضوعية في غمار التعصب وعدم الأنصاف والتأني إلى غير ذلك من الصفات التي ينبغي أن يتميز بها كل باحث عن الحقيقة.
** أما النقطة الخامسة وهي بيت القصيد فهي بعنوان أخطاء وحلول.
الخطاء الأول فأين الصواب إذا.
وأعني بهذا الخطاء التركيز على الأخطاء ولعل لقائل أن يقول أن محاضرتك نفسها عنوانها بعض أخطأنا في التربية ؟ فأقول نعم حتى التركيز على الأخطاء في موضوع أو درس أو محاضرة ينبغي أن يكون بقدر معتدل.
إن التركيز على الأخطاء والانحرافات لا يبني أبدا، بل الأصل هو وضع المعيار الصحيح وتمكين الإنسان أن يكتشف الخطاء بنفسه مع الثناء عليه إن أصاب وتوجيهه إذا أخطاء.
مثلا الواعظ والخطيب مربي، فينبغي له أن لا يركز على الأخطاء ويجعل كل خطبه ودروسه ومحاضراته هي عبارة عن سياط يلهب بها ظهور الناس
فيخرجون منه كل يوم وقد حميت ظهورهم من أثر هذا الكلام الذي أنحى به عليهم.
لا… ينبغي أن يكون أحيانا هناك حديث عن الصواب ليعمله الناس دون تعريض بالخطأ
وأحيانا يكون هناك ثناء على بعض الظواهر الإيجابية حتى تنمو وتكبر
وأحيانا يكون هناك تنبيه إلى بعض الأخطاء بالأسلوب الشرعي المناسب.
المدرس أو المدرسة أيضا هم من المربين، فكون المدرس أو المدرسة يركز على أخطاء الطالب، إذا أخطئ ابرز الخطأ وعلق عليه وأكد على هذا الخطأ فإن هذا يحطم الطالب ويجعله لا يفكر في المحاولة مرة أخرى.
لا….بل ينبغي أن يبرز الجانب الأخر، جانب الصواب الذي أصاب فيه، الجانب الإنساني عند الإنسان.
ومن القصص المشهورة التي تبين لك أن الإنسان يستطيع أن يؤدي المعلومة بأكثر من أسلوب:
أن خليفة رأى في المنام أن أسنانه قد سقطت، فطلب رجلا يعبر الرؤيا، فقال:
يا أمير المؤمنين يموت أهلك كلهم وتبقى أنت بعدهم
فأمر به فجلد حتى أغمي عليه ثم قال ارفعوه عني.
دعا بعابر آخر فقال له يا أمير المؤمنين أنت أطول اهلك عمرا.
فأعطه جائزة.
إن الإنسان يستطيع أن يعبر عن التوجيه والإرشاد والنصيحة بأسلوب غير مباشر أحيانا، وبأسلوب مباشر أحيان أخرى، ويمتدح الصواب في بعض الأحيان، ويمتدح فلانا لأنه أصاب، وهكذا.
الأب أيضا مربي، فكون الأب لا يحسن إلا سب أولاده وشتيمتهم والدعاء عليهم وتعييرهم، وفلان فعل وأبن فلان فعل وأنتم فيكم وفيكم
هذا لا شك لن يبني أولادا صالحين قط، بل سيجعل هؤلاء الأبناء يفقدون الثقة بأنفسهم، يعيشون إحباطا وقد يؤدي إلى كراهيتهم لأبيهم.
لكن بدلا من أن تقول أنت أخطأت، قال هذا العمل لا يعجبني، لا يناسبني أو لا يصلح، ولو قلت له هذه المرة أخطأت، المرة الثانية لابد أن تثني على الصواب
من الممكن أن تستخدم معه أساليب متعددة.
بل أقول كل إنسان في مسؤولية فهو يتناول ويتولى جزء من مسؤولية التربية.
حتى الحاكم الأعظم أو الإمام أو الخليفة أو السلطان هو أيضا مربي على نطاق أوسع، ومسئوليته في عدم تتبع الأخطاء وعدم تتبع العورات واضحة جلية.
إذا لابد أن تكون الأخطاء موضوعة بصورة معتدلة.
إن الإنسان الذي يلاحق أخطاء الناس، ويكثر من الحديث عنها ربما يكون لديه شعور بالكمال، ولذلك فهو دائما وأبدا يبحث عن الزوايا المظلمة والمناطق القاتمة في الناس.
الخطأ الثاني الشكل أم المضمون.
إن الإغراق في الشكل على حساب المضمون أو في الكم على حساب الكيف من اعظم أمراضنا، مثلا الرجل يهتم بملابسه، بغترته بحذائه
المرأة كذلك بل أشد، فتجد كل موديل جديد لدى المرأة، وتجد لديها ألوانا من تلك المجلات والكتب التي تسمى (بالبردات)، فاليوم من فرنسا وغدا من تايلاند وبعد غد وهكذا، وتجد لديها عشرات بل مئات من الملابس والثياب ربما لم تلبس منها إلا شيء قليلا وبعضها مرة واحدة أو مرتين.
وكذلك الحال بالنسبة للطفل فنحن معنيون جدا بملابسه وجماله وحذائه وغير ذلك، هذا بلا شك إذا كان في حدود الاعتدال فهو مطلوب ولا بأس به
لكن لا يجوز أن يكون ذلك على حساب العناية بصلاح الإنسان، بقلبه بأخلاقه بدينه بعلمه بثقافته بعبادته بتربيته.(74/7)
مثل ذلك قصات الشعر مثلا والتسريحات، وكنا بالأمس نحسبها للنساء فقط، فالمرأة اليوم تقص قصة، وغدا تقص قصة أخرى، وأصبحت الفتاة عندك تتابع التسريحات في العالم أولا بأول
ليست هذه المشكلة فقط بل تطور الأمر وأصبح هذا حتى بالنسبة للشباب، فأنت تجد تلك الصالونات التي كثرت أصبحت تعتني بقصات الشعر وتتخصص فيها، وربما جلس الشاب أمام المرآة وقتا طويلا من أجل تسريح شعره
لكن لو تجاوزت هذا الشعر قليلا إلى ما يوجد في داخل الرأس، معلومات عقل علم ثقافة اهتمامات ربما تجد خواء في خواء.
مثلا الأثاث المنزلي، كثيرون منا يهتمون بالأثاث المنزلي وتجديده وتنويعه وتناسق ألوانه، ومن الضروري أن يكون التلفاز موجودا وجهاز الفيديو وغرف النوم إلى غير ذلك
الكثيرون يهتمون بهذا ولكن الاهتمام بقيام المنزل على أساس السعادة الزوجية مثلا، قيام المنزل على أساس المسؤولية المشتركة، وقيام المنزل على أساس شرعي
هذا ربما لا يكون قائما في اهتمام البعض.
مثله مثلا مسألة الترفيه والرياضة، فأنت تجد الأمة تحتفل احتفالا كبيرا في الترفيه والرياضة، والرياضة لون من ألوان الترفيه لكنها أخذت من وقتنا وعمرنا واهتمامنا
أخذت شبابنا وفلذات أكبادنا فأصبح الطالب وهو في أيام الاختبار مثلا مشغولا بمتابعة دوري
أو مشغولا بمتابعة الرياضة على الشاشة أحيانا
وأصبح يحفظ أسماء أندية العالم وألوان هذه الأندية وأسماء المدربين وغير ذلك ويتابع أولا بأول وليس هذا فقط، بل يبذل من عواطفه ومشاعره واهتماماته الشيء الكثير في هذا السبيل، مثله أيضا الجانب الترفيهي الذي أصبح يأخذ وقت الكثيرين من الناس.
ولو أنهم أعطوا الناحية الشرعية أو العقلية أو الثقافية أو العلمية جزء من ذلك لنتج عنه خير كثير.
اهتمام الأمة عامة بالمباني والجسور والطرق والمعالم الحضارية كما تسمى.
اهتمام المدير في المدرسة بحضور المدرسين،
أو اهتمام الموظف بحضور مرءوسيه وقت الدوام وأن لا ينصرفوا إلا في الوقت نفسه دون أن يهتم بالعطاء وهل أنجزوا وأدوا مسئوليتهم أم أن الواحد فقط يحضر ثم لا يقوم بعمل.
اهتمام الأب ببقاء أولاده في البيت، لكن يبقون لماذا؟
هل ليتعلموا، هل ليحفظوا القرآن ؟
هل ليتربوا على مكارم الأخلاق ؟
هل يقوموا بعمل دنيوي مفيد ؟ لا يعنيه ذلك..
أم انهم جلسوا أمام التلفاز أو أمام الفيديو أو أمام أشياء أخرى قد لا تكون في مصلحتهم.
اهتمام المدرس بالمنهج، المهم أن ينتهي المنهج مع نهاية العام الدراسي، وليس المهم عنده أحيانا بناء الطالب، وإعداده وتنمية علمه وعقله وتأهيله لنزول ميدان الحياة وخدمة الأمة.
اهتمام الأمة في تعليمها بعدد الدارسين، فنحن نجد أن التعليم متاح للجميع وأي طالب لا يتعلم يعتبر ناقصا، ليس فقط للمستوى المتوسط أو الثانوي بل لا بد أن يأخذ الجامعة.
وإنني أعرف البعض من الطلاب قد يجلس زمانا طويلا في الجامعة لأنه مشغول عنها، مشغول بأموره البيتية، بتجارته ولكنه مع ذلك مصر على هذا الأمر وكأنه ليس لغيره أهلا، أو ليس لغيره مناسبا، لماذا ؟
لأن التقاليد فرضت علينا أن هذا الروتين لا بد أن يتم، ولابد لكل الجيل أن يتعلم وكأنه لا يمكن أن يخدم إلا من خلال هذه القناة.
ومع أن هذا الإنسان الذي فشل في دراسته مثلا قد يكون ناجحا جدا في ميادين أخرى لو أتجه إليها لكن هذا القانون السائد جعله يهتم بهذا الجانب دون رعاية النوعية.
حتى في دراساتنا العليا حينما يطالب الإنسان بأن يحضر ماجستير أو دكتوراه تجد أن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائيا كم صفحة رسالته ؟ كم مجلد ؟
لكن قل ما نسأل ما هي النتائج التي توصل إليها ؟
هل كان عميقا في بحثه؟
هل وصل إلى نتائج جديدة ؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتعلق بالمضمون.
مثل ذلك الإعلام العربي كله وفي بلاد العالم الإسلامي أيضا - ولا اسميه الإعلام الإسلامي- تجد هذا الإعلام يهتم بساعات البث والإرسال، أن تكون مستمرة، لكنها لا يهتم بنوعية ما يشاهده الناس، أو نوعية ما يسمعون، هل هو ينفعهم أو يضرهم ؟
هل يبني أم يهدم ؟
هل هو على حساب الأخلاق والدين ، أم يقوي ويعزز جانب الأخلاق والدين ؟
ومثله الجوانب العسكرية في العالم الإسلامي، فقد تجد أحيانا توفيرا لبعض الأجهزة، أو عناية بعدد الجنود، لكن لا تجد الاهتمام بكفاءتهم وقدراتهم
فضلا أن تجد الاهتمام بإخلاصهم ومعرفتهم للهدف الذي من أجله يتدربون ومن أجله يقاتلون ومن أجله يتربون لذلك اليوم الذي يفترض أنهم يربون له، ألا وهو مقاومة أعداء الإسلام والدفاع عن
الحرمات والدين وعن الأخلاق وعن مكتسبات الأمة الإسلامية.
إذا تتلخص اهتماماتنا كثيرا بالمادة على حساب الإنسان، حتى اهتمامنا بالإنسان عندما نهتم به، نهتم به من ناحيته المادية فحسب، فنحن قد نعامله كرقم في الإحصاء مثلا، نعده إنسانا ونعطيه رقما، ولكننا نكتفي بهذه المعاملة الرقمية العددية أو الآلية وننسى الكرامة التي هي سمته، والابتلاء الذي القي على كاهله:(74/8)
( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه، فجعلناه سميعا بصيرا).
وننسى التكليف الذي حمّله:
(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).
إن من أعظم ذلك الاهتمام بالظاهر على حساب الباطن
وفي الشريعة الإسلامية والقرآن والسنة، لا يوجد أصلا ولا يُتصور تفاوت بينهما، فكما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه:
(ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
فصلاح الظاهر حقيقة يدل على صلاح الباطن، وصلاح الباطن لا بد أن يُثمر صلاح الظاهر، لكن مما ينبغي أن نعلمه دائما وأبدا أن العقيدة هي الأصل
فالأمور العلمية الاعتقادية كمعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة اليوم الآخر والإيمان به، والملائكة والكتاب والنبيين، هذه الأشياء أصول ينبغي أن تغرس في النفوس وتبنى عليها التربية.
ثم الأعمال القلبية أيضا كمحبة الله تعالى وخوفه ورجائه والرغبة في ما عنده والخشوع له والرغبة والرهبة ولإنابة إليه وغير ذلك من المعاني العظيمة هي معاني ينبغي أن تغرس في القلوب ثم تأتي بعد ذلك الأعمال الظاهرة كالعبادات مثلا، وهي مبنية على الباطن، ولذل لو صلى الإنسان بغير نية لم تن صلاته مقبولة:
(فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهمون، الذين هم يراءون ويمنعون الماعون)
ومثله العبادات كلها.
وكذلك الاهتمام بالشكل المظهري للإنسان كالعناية مثلا بملابسه بشكله بشعره بمشيته بدخوله بخروجه وموافقة ذلك كله للشريعة.
الخطأ الثالث: إنك لا تجني من الشوك العنب.
إننا جميعا نعاني من الإهمال التربوي ومع ذلك ننتظر أحيانا نتائج طيبة، واضرب لك أمثلة، الحكومات التي تريد الحفاظ على أبنائها وعلى شعوبها تجد أنها تتعاهدهم بالرعاية والعناية والخدمة والملاحظة كما يتعاهد الإنسان غرسه أو نبته صبحا مساء، وتجد أنها تسعى إلى كسب ولائهم وتضع الخطط التربوية الناجحة لتأثير عليهم.
الأسر التي تريد الحفاظ على أبنائها أيضا، تجد أنها تحرص عليهم وتراقبهم مراقبة دقيقة وتبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس.
أما المشكلة فهي الإهمال التام عندنا لأولادنا وأسرنا وبيوتنا وشعوبنا ثم انتظار نتائج إيجابية وأحيانا نندهش ونفاجأ حينما تُخلف ظننا الأمور.
الأب المشغول بالتجارة، والآخر المشغول بالمزرعة
والثالث مشغول بوظيفته دوام صباحي ودوم مسائي
ورابع مشغول بالسفر بالإجازات وبالخميس والجمعة، ومشغول مع أصدقائه في بقية الأيام، أو مشغول بالزوجة الجديدة التي أخذت عقله ولبه وقلبه ووقته، واصبح كل همه ووجه إليها
أو حتى قل مشغول بالدعوة إلى الله تعالى ومشغول بالعلم ومشغول بالتعليم وهي خير ما شُغل به الإنسان، لكن لا ينبغي أن ينشغل بهذا ولا بذاك عن مسئوليته المباشرة التي حددها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بقوله: (ابدأ بمن تعول ).
يقول الولد لمن تتركنا ؟ وتقول الزوجة ويقول القريب.
أحيانا حتى مجرد الجلوس مع الأولاد أو الأكل معهم أو المزاح أو سؤالهم عن أحوالهم ودراستهم وأوضاعهم، حتى هذا لا يكاد يتحقق من بعض الأباء المشغولين.
وهذه مصيبة، يقول الشاعر:
ليس اليتيم من انتهاء أبواه من…….. هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له …….أما تخلت أو أبا مشغولا
ليس هذا فحسب، ليست المشكلة أن هؤلاء لم يجدوا من يربيهم، بل المشكلة أن هناك وسائل بديلة قامت بتربيتهم.
فمثلا الإعلام، التلفاز الذي يستلم الطفل أو الشاب أو الزوجة حتى، يستلمه من يوم أن يدخل المنزل وإلى أن ينام، بكل برامجه وصوره ومسلسلاته وخيره وشره.
الفيديو الذي يكمل نقص الإعلام، يستطيع الإنسان أن يحصل على آلاف الأفلام التي تصور له أوضاع الشعوب الأخرى
فهذا فلم يصور لك كيف يعيش الناس في المجتمع الأمريكي الكافر
وآخر يصور لك معيشتهم في المجتمع البريطاني الكافر
وثالث في المجتمع الفرنسي الكافر
ورابع يتحدث لك عن أوضاعهم الاقتصادية، وخامس عن الأمور الفنية، وسادس وسابع وهكذا.
إذا هذا الإعلام بصورة واضحة صريحة يقدم للناس هديا وشريعة بديلين عن هدي الله تعالى، وشريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فهو يعلم الكبير والصغير كيف يدخل ويخرج ويقوم ويقعد وينام ويتكلم، بل كيف يخاطب وكيف يحيي الناس وكيف يتعامل معهم، فتتعلم منه البنت كثير من الأخلاق السيئة، ويتعلم منه الابن والفتى والكبير والصغير.
وإذا فرض أن في أجهزة وأشرطة الفيديو الموجود نقصا وليس موجودا في تصوير ألوان التعاسة التي تعيشها المجتمعات الغربية
فإن البث المباشر الذي أصبح يطل علينا الآن سيكمل هذا النقص بكل حال، وأنت تجد إعلانات أحيانا عن بعض ألوان من الأقراص التي تستقبل ما يزيد على أربع وتسعين قناة، ومع الأسف الشديد أصبح يمكن لهذه الأشياء في بلاد المسلمين وتباع علانية، بل وتنشر لها الدعاية حتى في صناديق البريد دون تشهير ولا نكير، فضلا عن الصحف والمجلات.
إذا الجانب الإعلامي إذا غفلت أنت فهو ليس بغافل.(74/9)
الجانب الرياضي الذي يهتم ببناء الأجسام دون بناء العقول ودون بناء الأخلاق ودون بناء الروح والعلم، هذا أيضا لا يغفل، فهو قد يبني لك ولدا قويا في جسمه، ولكنه خواء في عقله وعلمه ودينه.
وأنا لا أقول إن كل من يعمل في هذا المجال هو كذلك، فنحن نعلم من الرياضيين قوما صالحين والحمد لله تعالى، ولكننا نحذر أيضا من مثل هذا المصير.
فضلا عن الجو الصاخب الهائج الذي يقع أثناء المباريات في مدرجات الرياضة أو في الأسواق أو الشوارع العامة أو المنتديات أو غيرها.
فضلا عن تلك النوعيات المتفاوتة من الكبار مع الصغار، متفاوتون في تعليمهم وفي أخلاقهم وفي سنهم وفي غير ذلك.
إذا غفلت أنت فلن يغفل قرناء السوء من ضحايا المخدرات أو محترفي الإجرام أو هواة المغامرة الذين هم في سن ولدك وقادرون على التأثير عليه وعلى إقناعه بصحبتهم ومشاركتهم في مغامراتهم وأنشطتهم.
والشارع أيضا بكل ما فيه مما أقل ما نقول فيه أنه ليس مكانا للتلقي والتربية والتوجيه، وأنه تغيب فيه الرقابة سواء الرقابة من لوالدين أو من غيرهم، فإذا غفلت فلن يغفل الشارع.
وأيضا العناصر الدخيلة، السائق مثلا الذي يذهب مع البنات إلى المدرسة، وإلى السوق وإلى مكان الترفيه، وإلى مدينة الألعاب، وإلى وإلىَ دون أن يكون هناك أي قدر من التوجيه ولا من الرقابة.
والثقة في ظن الكثيرين موجودة، ونحن نعلم أن كل أب يثق ببناته تلقائيا، ويثق بأولاده تلقائيا، لماذا ؟ لأنه يذكرهم منذ الصغر، ويذكر ما فيهم من البراءة والبعد عن هذه المعاني
ويرى أيضا ما عندهم من الحياء والخجل الذي يجعلهم لا يتكلمون أمامه بشيء
فيظن الأب أن أولاده وبناته أبرارا أطهارا ولا يتوقع أن المشاعر المتأججة التي قد تثور في نفس أي
شاب تثور عند ولده أو تثور عند بنته، فيضع هذه الأمور، سائقا مع البنات مثلا، أو يضع خادمة مع الأولاد في المنزل ويعتقد أن الثقة موجودة، ولا شك أن هذا من أخطر الأمور.
مثله أيضا المدرسة الأجنبية أو المدرسة الخاصة التي تعتبر أحيانا نوعا من الوجاهة لا غير
فيكفيني أن أقول أن ولدي يدرس في مدارس خاصة، أفاخر أنه يحسن اللغة الإنجليزية، بل إن بعض هذه المدارس تبعث شبابنا لتزلج على الجليد في سويسرا وغيرها
وبعضها تبعث بهم إلى بريطانيا ليقضوا الإجازة الصيفية عند اسر نصرانية كافرة بحجة أنهم يتعلمون اللغة الإنجليزية، بل إن بعضهم يذهبون بأولادهم إلى الخارج ويقيمونهم بفنادق خاصة بالأطفال كما أعلنت عنها عدد من الإذاعات ووسائل الإعلام تستلم الطفل
فالأب مشغول بدنياه أو بتجارته أو بصفقاته، وقد يكون مشغولا بغير ذلك مما لا نبوح به، فيدع أولاده في فندق في بلد غربي
هذا الفندق لا يسمح للأب بأن يأتي إلى ولده إلا مرة في الأسبوع ليطمئن عليه وهم يستلمونه بعد ذلك ليربوه على أخلاقيات معينة، وعقائد معينة ومفاهيم وسلوكيات معينة، ولك أن تتصور أي مستوى من الدين والشيم سوف يتربى عليها أطفالنا في مثل تلك البيئات.
إذا الجو العام يأثر تأثيرا كبيرا، والبيئة التي يعيشها الطفل، الإسكان مثلا، السفر، الغربة، الفندق، الزملاء، المدرسة إلى غير ذلك.
فأنت إذا غفلت هم لا يغفلون، ولا شك أن هذه جوانب سلبية في مجتمعنا، ولا يعني أن المجتمع يخلو من وسائل التربية الإيجابية…كلا.
فنحن ندرك مثلا أن هناك مدارس كثيرة تعتبر التربية الإسلامية فيها تربية إيجابية، فيها مدرسون ناصحون ومدراء مخلصون ومسؤولون حريصون على مصلحة الطلاب سواء كانت مدارس رسمية أو كانت مدارس أهلية.
هنالك مثلا المساجد التي هي منطلق التربية ومصدر الإشعاع وهي الجو الطبيعي لتربية المسلم على مكارم الأخلاق ومعانيها، ولقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يعيش معظم وقته مع أصحابه في المسجد، حلقات لتعليم للعبادة للصلاة للسؤال، حتى أن الرجل الجاهل يأتي فيدخل المسجد فيجد الرسول عليه الصلاة والسلام مع أصحابه فيقف بينهم فيقول:
أيكم محمد ؟
فيشيرون إليه ويقولون هو هذا، فيسأله عن ما أشكل عليه من أمر دينه أو دنياه.
القرناء الصالحون وهم بحمد الله موجودون، بل وهم كثيرون وينبغي الحرص عليهم، وأن يضع الأب ولده في دائرتهم.
الحلقات والدروس العلمية سواء كانت حلقات لتحفيظ القرآن الكريم، أو لتعليم العلم الشرعي من فقه وحديث وتفسير وفرائض ولغة وغير ذلك.
ومجالس الذكر التي يأمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر، وترقق فيها القلوب وتحرك فيها لمشاعر، كل ذلك من وسائل التربية.
أيضا الوسائل الإعلامية النافعة المفيدة مثل الكتب المفيدة النافعة، الأشرطة الإسلامية النافعة مع أنها أصبحت مع الأسف اليوم تحاصر ويقلل من انتشارها وشأنها وأهميتها
المجلات الإسلامية المفيدة إلى غير ذلك.(74/10)
المهم أن للأب وللمسؤول دورا لوصل الناس بهذه الوسائل المفيدة، ومنعهم وإبعادهم عن تلك الوسائل الضارة، وينبغي أن نعلم أن الشر خفيف على النفس والتكاليف ثقيلة والشيطان مسلط فيحتاج الإنسان إلى مراقبة ورعاية وحث وتشجيع:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على……. حب الرضاعة وإن تفطمه ينفطم.
أين الأب المدرك لمسئوليته في تربية ولده.
أين الذي يتصور قول الله عز وجل:
(والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امريء بما كسب رهين)،
فهو يراقب ولده منذ نعومة أطفاله، ومنذ طفولته وهو يسأل الله أن يحقق فيه أمنيته، وأن يجمعه معه في الجنة، وأن يرفعه إلى رتبته حتى يسعد به.
أين الأب الذي يتصور قول النبي (صلى الله عليه وسلم) في ما رواه مسلم عن أبي هريرة:
( إذا مات أبن أدم أنقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ابن صالح يدع له).
إن أعظم ما تخلفه بعدك ليس المال، فهو لوارثك
ولا الشهرة والجاه فهي لا تنفعك وأنت موسد في قبرك
وإنما عملك الصالح ومنه العمل الدائم الباقي الذي لا ينقطع أو ولد صالح يدع له.
ومن ألوان الإهمال أيضا ليس فقط إهمال الأب، بل إهمال إمام المسجد في حيه عن توجيه الناس، رعايتهم، تعليمهم أمور دينهم
حثهم على المحافظة على الصلوات
حثهم على مكارم الأخلاق، مراقبة المتخلفين عن الأعمال الصالحة ونصحهم وإرشادهم
القيام بالأعمال الخيرية وتبع المحتاجين والفقراء والمعوزين والمعدمين
مراقبة الشباب والقيام باتصالات معهم، محاولة إقامة نشاطات دروس علمية، دروس تحفيظ القرآن الكريم، مسابقات ثقافية، توزيع كتب، توزيع أشرطة إلى غير ذلك من الأعمال.
مثل ذلك المدرس في مدرسته، المسؤول في إدارته أو مدينته أو حكومته أو غير ذلك، كل هؤلاء إذا أهملوا فلا ينتظروا إلا نتائج سلبية والعمل الإيجابي المثمر يتطلب بعض الجهد وبعض البذل.
** النقطة السادسة لا نامت أعين الجبناء:
إن الشجاعة معنى كبير وسر خطير، ولقد أصبحنا نعشقها ونفرح بمن يتحلى بها، إنها هي من أسباب كون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستطيعون تحطيم سلطان العادة وطاغوت العرف ويتحدون أقوامهم وأممهم، ويصبرون ويصابرون على رغم قلة الناصر والمعين وكثرة المعاند والمخالف، وعلى رغم التلبيس والتدليس.
ما الذي جعل رجلا كموسى (صلى الله عليه وسلم)
يقف أمام طاغية متأله متجبر كفرعون ويقول له :
(لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا).
ما هو الذي جعل رجلا نبيا مختارا كإبراهيم عليه الصلاة والسلام يحطم الأصنام وهو بعد فتى في مقتبل العمر، ثم يقول لقومه وعلى رأسهم النمرود الطاغية الأكبر:
(إف لكم ولما تعبدون من دون الله ).
ما الذي جعل رجلا كمحمد (صلى الله عليه وسلم) يجمع قومه وفيهم أبو لهب وأبو جهل وعتبة وشيبة وأمية أبن خلف والملء من المستكبرين فيقف بين أيديهم منذرا محذرا:
( إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
ثم ما الذي جعل المجددين يستطيعون أن يصبروا على عملهم ويجاهدوا ويعلنوه صريحة قوية مدوية، لماذا وقف عمر أبن عبد العزيز وتحدى كل الأمور المعتادة،
حتى بني أمية الذين كان واحدا منهم وينتسب إليهم، وكانوا يخشون أن يغير ملكهم أو عادتهم أو ميراثهم فيف عمر أبن عبد العزيز رحمه الله نصيرا للحق مدافعا عنه قائما على الظلم محاربا له رادا للحقوق إلى أهلها، لا يأمر بخير إلا فعله، وكاد الأمر أن يتم لولا السم.
ما الذي جعل رجلا كالإمام أحمد أبن حنبل يقف فيقارع الظالمين في مسألة خلق القرآن
ويصبر على عقيدته التي ورثها عن الأنبياء والمرسلين ويصابر عليها ويرضى بالسجن والجلد والتعذيب والمطاردة والتضييف والحرمان من الفرص من التدريس من التعليم من المحاضرات من الإفتاء ومن غير ذلك حتى أذن الله تعالى له بالفرج وكتب له الذكر الحسن
حتى كان رحمه الله يستاء من ذلك ويكره الشهرة أشد الكراهية.
ما الذي جعل رجلا كالإمام أبن حزم يقف ويتحدى من حوله ويصبر ويصابر فإذا قيل له:
يا رجل تحفظ أنتظر لا تتعجل.
أنشئ يقول:
قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت……أقوالهم وأقاويل الورى محن
فقلت هل عيبهم لي غير أني لا…… أدين بالدجل إذ في دجلهم فتن
وأنني مولع بالحق لست إلى ……. سواه أنح ولا في نصره أهن
دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا…… من مات من غيظه منهم له كفن.
قالوا له أحرقوا كتبك ومزقوها ومنعوا تداولها وحذروا الناس منها ووصفوها بأبشع الأوصاف
فأنشئ يقول:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي….تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي……وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رق وكاغد….وقول بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا للكتاتيب بدأة…فكم دون ما تبغون لله من ستر
كذاك النصارى يحرقون إذا علت……أكفهم القرآن في مدن الثغر.(74/11)
ما الذي جعل رجلا كالإمام أبن تيمية رحمه الله يصبر ويجهر بكلمة الحق
ويتحمل الأذى في سبيلها فيسجن مرات ويؤذى بل ويضرب أحيانا في الشارع وهو إلى ذلك كله مجاهر معلن لا ينثني للرياح أبدا.
ما الذي جعل رجلا كالإمام المجدد محمد أبن عبد الوهاب يقوم في بيئة قد انتشر فيها الشرك بألوانه والبدع والخرافات والكهنة والسحرة وغير ذلك وألوان المخالفات
فيقوم جاهرا بكلمة الحق مجاهرا صابرا في ذات الله عز وجل حتى نصره الله تعالى وأصبح ما جاء به الإمام محمد أبن عبد الوهاب من الحق هو الظاهر كما قال الله عز وجل :
( فأيدنا الذين أمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين).
ما الذي جعل رجلا كالإمام الشوكاني مثلا ينتصر للحق ويناضل في سبيله ويلقى ما يلقى فيموت هو ويبقى ذكره في الآخرين.
وهكذا، إن الشجاعة قوة في القلب تجعل صاحبها لا يستوحش من الطريق ولا ينفر من الوحدة ولا يتخلى عن الحق مهما كلفته التضحيات ولا يجامل أو يحابي أو ينافق أو يداهن في دين الله عز وجل.
إنه لا مكان في التاريخ للجبناء والمرتزقة والمطبلين أبدا، فإن الناس يركلونهم ويرفضونهم ويبقى الحق هو الذي تعشقه النفوس وتتطلع إليه القلوب وقد قال الله عز وجل :
( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون).
إن من أبرز أخطائنا أن نغرس الخوف في نفوس أبناءنا، الخوف من كل شيء، نحرمهم من التجارب
ومن المحاولات بحجة أن هذا قد يودي بحياتهم فمثلا نحن قد نخيف الولد الصغير من الكهرباء أو من السيارة أن تدهسه وهذا صحيح لا شك فيه.
ولكن ما معنى أن تربيه الجدة على الخوف من (السعالي) فلا تذكر له سالفة أو قصة إلا وذكرت فيها تلك السعلات التي تأكل الأحياء من البشر وتلتهمهم وتفعل بهم وتفعل
ما الذي يجعلنا نخوف أبناءنا من تلك الأقراص الحامية التي نزعم أنها تنزل من السماء لأدنى سبب حتى لو لم يكن مخالفة شرعية ولا معصية مع أن هذا فيه من الكذب والافتراء على الله عز وجل.
ما الذي يجعلنا نخوف أطفالنا أحيانا من رجل الشرطة حتى نقول لطفل الصغير أن مجرد إشارتك بالإصبع إلى رجل الشرطة يعني أن تقطع إصبعك.
ما الذي يجعلنا نخوف أطفالنا بل ونساءنا وكبارنا أحيانا من الجن، وكأن الجن والعياذ بالله يستطيعون أن يصنعوا كل شيء.
أو من العين أو من السحر، وننسى أن نربيهم على التوكل على الله عز وجل والثقة به والاعتماد عليه وكثرة الأوراد والقراءات والأدعية التي تحفظ العبد بأذن الله تعالى من شياطين الجن والأنس.
إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول:
(إن الشيطان لا يدخل البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة).
فالبيت الذي فيه ذكر الله، وفيه الأمر بالمعروف وفيه التربية على مكارم الأخلاق لا مكان فيه للشيطان ولا مكان فيه لأولياء الشيطان من الجن ولا من الأنس.
وفي الدائرة الأوسع حينما نتجاوز دائرة البيت ودائرة الطفل نجد أن هناك تخويفا عالميا من أولياء الشيطان، من الكفار من اليهود مثلا الذين أصبحنا نتحدث عن أسلحتهم التي يملكون وخططهم التي يدبرون وقدراتهم أو التمكين لهم
أو النصارى وما يملكونه أيضا. أو غيرهم من أمم الكفر والله عز وجل يقول:
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أوليائه، فلا تخافوهم وخافوني إن كنتم مؤمنين).
يعني إنما ذلكم الشيطان يخوفكم انتم من أوليائه، يكّبر أوليائه في قلوبكم حتى ترهبوهم فلا تقوموا بعمل ولا بدعوة ولا بجهاد، لأن الإنسان الذي يخاف لا يعمل ولا ينتج.
لماذا نربي أنفسنا وشعوبنا وأممنا على الخوف من الدول العظماء وجيوشها الجرارة وأجهزتها الأمنية الضخمة وأعدادها الرهيبة.
بل لماذا نربي أنفسنا ومن تحت أيدينا من الشباب والطلاب على الخوف من أجهزة الأمن ومن رجال المباحث ومن المخابرات حتى يتخيل الإنسان أحيانا أن هذه الأجهزة تدخل إلى جوفه مع الشهيق وترسل التقرير مع الزفير كما يقول أحدهم.
ويصبح الإنسان يخاف حتى من ظله:
حتى صدى الهمسات غشاه الوهن…… لا تنطقوا إن الجدار له أُذن.
مثل ذلك أيضا من ألوان الخوف وفقدان الشجاعة الخوف من الفشل والخوف من الخطأ والخوف من الإخفاق، لا.. إن المؤسف أننا لا نحترم اجتهاد الإنسان، ولا نقدّر عمله، بل أحيانا نعاقبه على اجتهاده عقابا يحرمه ويحرم غيره في المستقبل حتى من مجرد التفكير في العمل
إنها منطقة محرمة والسلامة لا يعدلها شيء، والكثيرون يؤثرون أن يسلموا لا لهم ولا عليهم على أن يغامروا وقد تكون النتيجة غير مأمونة.
إن ذلك قتل للمواهب ووئد لطموح وقضاء على الإبداع ويجب أن نعلم أن الذي لا يخطئ لا يمكن أن يصيب أبدا.
ولكي نربي الشجاعة في نفوسنا ونفوس من تحت أيدينا من الأولاد والبنات والرجال والنساء والأمم والشعوب، يجب احترام شخصية الإنسان واحترام رأيه منذ الصغر وفي كافة المراحل وعلى كافة المستويات.
فأنا أقول لك أي معنى لأن تولي ولدك أعمالا ثم تسفه رأيه فيها، وإذا قال لك فلان قلت فلان لا يهمك، لماذا ؟ لأنه ولدك الذي تعرفه.(74/12)
لا… ينبغي أن تحترم شخصيته ورأيه واجتهاده وعمله وتسلم له تخصصه.
وأي معنى لأن تفرض على ولدك كل شيء ولا تعطيه مجالا للاختيار والتفضيل أبدا، فالثوب أنت تختاره والحذاء أنت تختاره واللعبة أنت تختارها والكتاب أنت تختاره وكل شيء أنت تختاره.
لماذا لا تغطي ولدك أو أخاك أو من تربيه فرصة في الاختيار؟
حتى المعلم أو الأستاذ أو الشيخ، لماذا لا يعطي تلميذه فرصة في اختيار الكتاب الذي يقرأه أو الطريقة التي يتعلم بها ؟
أليس الشرع جاءنا بالشورى ؟ والله تعالى يقول:
(وشاورهم بالأمر).
فيأمر بذلك رسوله (صلى الله عليه وسلم) المؤيد بالوحي من السماء، ويقول:
(وأمرهم شورى بينهم).
ذلك في وصف المؤمنين، ولم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكثيرا ما كان الصحابة أبو بكر أو عمر أو من بعدهم يقف ويقول:
(أشيروا علي أيها الناس.).
فالولد مع أبيه في عمله وتجارته وزراعته، والطالب مع مدرسه في طريقة التدريس، في أخذ المنهج وفي غير ذلك، والتلميذ مع شيخة أيضا في الكتاب المقرر وفي وقت الدرس وفي زمانه وفي مكانه
وفي غير ذلك.
بل والرعية مع حكامها في كل شيء من الأمور والهموم العامة التي لا يتحمل مسئوليتها فرد بعينه، ولا جهة بعينها بل هي قضايا الأمة كلها
تتحمل الأمة نتائجها حقا كانت أم باطلا، خطئ أو صوابا.
إن جميعا شركاء في اقتسام الإنجازات، وتعميق الشعور بالانتماء إلى هذه الأمة والقضاء على السلبية التي يشعر بها الكثيرون حين يشعرون أنهم كما قيل:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم…. ولا يستأمرون وهم شهود.
إن ثلاثمائة وأربعة عشر إنسان استطاعوا أن يواجهوا الدنيا كلها في معركة بدر، والمسلمون اليوم كما تقول الإحصائيات ألف مليون ومائتا مليون إنسان، وهم يتكاثرون بشكل سريع، فهم كما قيل عدد الرمل والحصى والتراب
لكن الفرد منهم تربى على الخوف والتردد والسلبية
وكل وسائل التربية مع الأسف تنحت فيه هذه المخاوف.
فالأم التي ترهبه دائما وتخوفه من الموت.
والأب الذي يعاتبه على كل شيء.
والزوجة التي قتلته بحبها، ومن الحب ما قتل.
والولد الذي يتعلق به:
(إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم……الآية ).
(إنكم مجبنة مبخلة).
والحاكم الذي يهدده ويوعده.
كل ذلك ينحت ويربي في الإنسان الجبن والخوف، وينزع عنه القدرة على المحاولة وعلى التجربة وعلى التفكير الصحيح.
ولقد تربى الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) على الأحداث، تربوا بالأحداث والمصائب والنكبات، كما تربوا بالنعم التي أنزلها الله تعالى عليهم.
حتى الخطأ كان تربية، وكانت الآيات تنزل ليستفيد المسلمون منه دروسا وعبرا فيتحول إلى نعمة ومنحة ومنة.
وفي معركة أحد هُزم المسلمون، فقالوا أنى هذا ؟
فأنزل الله تعالى آيات في سورة آل عمران تتحدث عن هذه المعركة ودروسها:
(أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير، وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين..) إلى أخر الآيات.
** النقطة السابعة والأخيرة التوازن المفقود.
إن التوازن مطلب شرعي؟، فالله تعالى يقول:
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين).
وفي الحديث المتفق عليه وهو معروف حديث عبد الله أبن عمر أبن العاص:
(إن لنفسك عليك حق، ولأهلك عليك حق، ولزوجك عليك حق، بل في رواية ولزورك عليك حق فآت كل ذي حق حقه).
وإن أي زيادة في جانب أو غلو يقابلها نقص أو تفريط في جانب آخر:
ولا تغلو في شيء من الأمر واقتصد….كلا طرفي قصد الأمور ذميم
والمقياس في الزيادة والنقص هو النص، إما آية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صحيح، أو إجماع من أهل العلم قائم ثابت.
قد يهتم الإنسان أحيانا بأمر من الأمور لأن جبلته وتكوينه وملكته تقتضي ذلك دون أن يلزم غيره بهذا، أو يعاتبه على ما سواه، فلا حرج في ذلك.
فأنت مثلا اهتماماتك علمية، لا حرج عليك ولا بأس.
وآخر اهتماماته جهادية، وثالث اهتماماته دعوية.
ونحن نعلم أن في الصحابة رضي الله عنهم أبا ذر الغفاري الذي لم يكن فوق الأرض ولا تحت السماء من ذي لهجة أصدق منه ولا أزهد ولا أورع في أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكنه لم يكن من أهل الولايات والإدارة.
وفيهم خالد أبن الوليد الذي كان سيفا من سيف الله تعالى كما سماه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وحديثه في الصحيح في معركة مؤته
الذي كان قويا شجاعا مقداما باسلا ما هزم في معركة قط، ولكن خالد رضي الله عنه أنشغل بالحرب والجهاد فلم بتفرغ لنشر العلم والفتي في أصحاب محمد ومن بعدهم.
وفيهم أبن عباس رضي الله عنه الذي دعا له النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال:
(اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل).(74/13)
وكان له قلب عقول ولسان سأؤول وكان من لمفتين ومن العلماء في أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) في ملأ منهم كابن الخطاب وعبد الله أبن مسعود ومعاذ أبن جبل.
وفي أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) من جمع الفضل والمجد من أطرافه كأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) يوما لأصحابه:
(من أصبح منكم صائما ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من تصدق على مسكين ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من عاد مريضا ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال من تبع منكم جنازة ؟ قال أبو بكر أنا)
(قال ما اجتمعن في امرأ إلا دخل الجنة).
وفيهم أمثال عمر أبن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
إذا لابد من الاعتدال مع مراعاة المواهب والتخصصات والملكات، المهم أن الإنسان يحرص على قدر من الاعتدال.
من الاعتدال، الاعتدال في بناء الشخصية
فيتوسط الإنسان بين الاندفاع وراء العاطفة الجياشة التي لا تنضبط أو التوقف بحجة العقل والدراسة والنظر، فإن الإنسان كل لا يتجزأ وله عقل وعاطفة ولولا وجود العاطفة لما استطاع الإنسان أن يتعامل مع الناس، ولا يأخذ ويعطي ولا يتوفر أمورهم ولا يحبهم أو يحبونه أو يتعامل معهم.
فلابد من الاعتدال في النظر بين العقل والعاطفة.
ومثله أيضا الاعتدال في تقييم الرجال فلا غلو ولا جفاء
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يربون لناس على ذلك، قال علي رضي الله عنه:
( إنه لعهد عهده إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه تهلك في فئتان، فئة غلت وفئة جفت).
وهكذا حدث فعلا، فإن ممن بعد علي رضي الله عنه من غلوا فيه حتى ادعوا له لا أقول الولاية والإمامة فهو كان أمير المؤمنين رضي الله عنه، لكن ادعوا له والعياذ بالله الألوهية وكان يقتلهم ويحرقهم بالنار، وهم يقولون له أنت أنت، يعني يزعمون له بالألوهية، وهو يقول:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا….أججت ناري ودعوت قنبرا
فكان يحرقهم رضي الله عنه.
وهلكت فيه فئة أخرى هي التي فرطت في حقه وقصرت ونسبته إلى شيء مما لا يليق بقدره ومقامه رضي الله تعالى عنه.
إن المقياس كما أسلفت هو النص، وفي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه قال:
(أقرؤنا أبُي وأقضانا علي).
فحكم أمير المؤمنين بأن اُبي هو لأقرأ وأن عليا هو الأقضى، يعني الأعلم بالقضاء، ثم قال عمر:
(وإنا لندع من قول أبُي) يعني نترك بعض ما يرويه لنا أبي أبن كعب رضي الله عنه وذلك أن أبي أبن كعب كان يقول:
(لا أدع شيئا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقد قال الله عز وجل:
(ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها…. الآية)
فأنظر إلى عمر كيف اعترف لأبي أنه هو لأقرأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
ثم بين أننا مع ذلك نرد بعض قوله لا بالتشهي ولكن بالنص الشرعي، فقال إن ابي يقول كذا وقد قال الله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأتي بخير منها أو مثلها….الآية).
فقال نرد بعض ما قاله ابي بالقرآن الكريم وليس بمجرد التشهي.
إن الأمة التي تغلو في شخص لابد أن تقصر فيه، تعظمه حتى لا تتصور أنه يخطئ، فيقع منه الخطأ فتجحف في حقه، ولا ترى له قدرا ولا مكانا، وهناك أمة تبالغ في شأن شخص إهدارا لكرامته، فيبالغ آخرون في رفع اعتباره وقيمته ومنزلته.
إذا فالاعتدال والحق فضيلة بين رذيلتين.
إن من العتدال، الاعتدال في معاملة المرؤوسين
فهناك من يحمل من تحت يده ما لا يطيق، سواء كانوا أولادا أو طلابا أو مرؤوسين أو مربَين أو الأمة كلها بشعوبها وأممها هناك من يحملهم ما لا يطيقون، فينقطعون ويدعون العمل، أو يدعوهم ذلك إلى الإعجاب والغرور بأنفسهم وبما أنجزوا وعملوا فيستكبرون.
ثم قد يهمل آخرون بحجة أن ليس لديهم مواهب، فقراء في مواهبهم ليس لديهم إبداع فيترتب عن ذلك تحطيم لهم وإثارة مشاعر السخرية والكراهية والبغضاء في نفوسهم، وكل إنسان صغر أو كبر هو مزود بملكات وقدرات إبداعية ولكن الشأن في من يستطيع أن يكتشف هذه الملكات ويعرفها ثم يوظفها توظيفا صحيحا.
إن من الاعتدال التوسط في ملاحظة النفوس وطبائعها
فهناك المربي الذي لديه حساسية شديدة، فهو يتردد في كل شيء خشية أن يجرح فلانا أو يغضب فلانا، وهناك على الطرف الآخر من لا يأبه بالآخرين حتى كأنهم عند بشر بلا مشاعر ولا أحاسيس فقد يرأس الصغير مثلا على الكبير ويحتج بأسامة أبن زيد، أو يعاتب بشدة ويحتج بموقف نبوي، أو يفضل أحدا على أحد بوضوح ويحتج بأبي بكر وعمر وهكذا، وينسى أن الأمر يتفاوت والموقف يختلف.
من الاعتدال: الاعتدال بالنصيحة والتوجيه
فليس من الحكمة حرمان الناس من النصيحة والنقد البناء الهادف الذي يكون بالأسلوب الحكيم المناسب أبدا بحجة الخوف من ذلك.
وليس من الملائم تربية الناس على الصفاقة وقلة الأدب وغياب الخلق بحجة تربيتهم على قول كلمة الحق، أو عدم المجاملة في دين الله تعالى.
ومن الاعتدال أيضا، الاعتدال في تربية النفس.(74/14)
وتربية الآخرين فلا ينبغي للإنسان أن ينشغل بنفسه عن غيره، ولا أن ينشغل بغيره عن نفسه، بل الاعتدال الاعتدال، وكما قيل:
يا أيها الرجل المعلم غيرها ….. هل لنفسك كان ذا التعليم
ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها…... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى… بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ….. عار عليك إذا فعلت عظيم.
...(74/15)
أخطار تهدد البيوت
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسئيات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله :
أما بعد .. فإن صلاح البيوت أمانة عظيمة ومسؤولية جسيمة ينبغي على كل مسلم ومسلمة أداؤها كما أمر الله والسير بها على منهج الله ، ومن وسائل تحقيق ذلك تطهير البيوت من المنكرات ، وهذه تنبيهات على أمور واقعة في بعض البيوت من المنكرات الكبيرة التي أصبحت معاول هدم في محاضن أجيال الأمة ، ومصادر تخريب في أكنان الأسرة المسلمة .
وهذه الرسالة في بيان لبعض تلك المنكرات أضيفت إليها تنبيهات على أمور من المحرمات بصيغة نصائح تحذيرية ، مهداة لكل من أراد الحق وسلوك سبيل التغيير تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) رواه مسلم في صحيحه 1/69 .
وهذه النصائح تفصيل لما سبق إجماله في فصل المنكرات من رسالة أربعون نصيحة لإصلاح البيوت .
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينفع بهذه وتلك إخواني المسلمين . والله الهادي إلى سواء السبيل .
المنكرات في البيوت
نصيحة : الحذر من دخول الأقارب غير المحارم على المرأة في البيت عند غياب زوجها :
لا تخلو بعض البيوت من وجود أقارب للزوج من غير محارم زوجته ، يعيشون معه في بيته لبعض الظروف الاجتماعية ، كإخوانه مثلاً ، ممن هو طالب أو أعزب ، ويدخل هؤلاء البيت دون غرابة ، لأنهم معروفون بين أهل الحي بقرابتهم لصاحب البيت ، فهذا أخوه أو ابن أخيه ، أو عم أو خال ، وهذه السهولة في الدخول قد تولد مفاسد شرعية تُغضب الله إذا لم تضبط بالحدود الشرعية ، والأصل في هذا حديثه صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والدخول على النساء ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله ! أفرأيت الحمو ، قال : الحمو الموت ) رواه البخاري ، فتح الباري 9/330 .
قال النووي - رحمه الله - : المراد في الحديث أقارب الزوج غير آبائه أو أبنائه ، لأنهم محارم للزوجة يجوز لهم الخلوة بها ، ولا يوصفون بالموت ، قال : وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم ، وابن العم ، وابن الأخت وغيرهم ممن يحل لها التزوج بها لو لم تكن متزوجة ، وجرت العادة بالتساهل فيه فيخلو الأخ بامرأة أخيه فشبهه بالموت ، وهو أولى بالمنع من الأجنبي . فتح الباري 9/331 .
وقوله الحمو الموت له عدة معان منها :
أن الخلوة بالحمو قد تؤدي إلى هلاك الدين إن وقعت المعصية .
أو تؤدي إلى الموت إن وقعت الفاحشة ، ووجب حد الرجم .
أو إلى هلاك المرأة بفراق زوجها لها إذا حملته الغيرة على تطليقها .
أو المقصود احذروا الخلوة بالأجنبية كما تحذرون الموت .
أو أن الخلوة مكروهة كالموت .
وقيل أي فليمت الحمو ولا يخلو بالأجنبية .
وكل هذا من حرص الشريعة على حفظ البيوت ، ومنع معاول التخريب من الوصول إليها ، فماذا تقول الآن بعد بيانه صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الأزواج الذين يقولون لزوجاتهم : ( إذا جاء أخي ولست بموجود فأدخليه المجلس ) ، أو تقول هي للضيف : ( ادخل المجلس وليس معه ولا معها أحد في البيت ) .
ونقول للذين يتذرعون بمسألة الثقة ، ويقولون أنا أثق بزوجتي ، وأثق بأخي ، وابن عمي ، نقول : لا ترفعوا ثقتكم ولا ترتابوا فيمن لا ريبة فيه ، ولكن اعلموا أن حديثه صلى الله عليه وسلم : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ) رواه الترمذي 1171 . يشمل أتقى الناس ، وأفجر الناس ، والشريعة لا تستثني من مثل هذه النصوص أحداً .
إضافة :
الآن وفي أثناء كتابة هذه السطور وردت مشكلة ، مفادها أن رجلاً تزوج امرأة فأتى بها إلى بيت أهله ، وعاشت معه سعيدة ، ثم أصبح أخوه الأصغر يدخل عليها في غياب زوجها ويكلمها بأحاديث عاطفية وغرامية ، فنشأ عن ذلك أمران : الأول كرهها لزوجها كرهاً شديداً . والثاني : تعلقها بأخيه ، فلا هي تستطيع أن تطلق زوجها ، ولا هي تستطيع أن تفعل ما تشاء مع الآخر ، وهذا هو العذاب الأليم ، وهذه القصة تمثل درجة من الفساد ، وتحتها دركات تنتهي بعمل الفاحشة وأولاد الحرام .
نصيحة : فصل النساء عن الرجال في الزيارات العائلية :
الإنسان مدني بطبعه ، واجتماعي بفطرته ، والناس لا بد لهم من أصدقاء ، والأصدقاء لابد لهم من مزاورات .
فإذا كانت الزيارة بين العوائل فلابد من سد منافذ الشر بعدم الاختلاط ، ومن أدلة تحريم الاختلاط قوله تعالى : ( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهم ) الأحزاب /53 .
وإذا تتبعنا الآثار السيئة للجلسات المختلطة في الزيارات العائلية فسنجد مفاسد كثيرة منها :(75/1)
غالب الناس في مجالس الاختلاط حجابهن معدوم أو مختل فتبدي المرأة الزينة التي نهاها الله عن إبدائها لغير من يحل لها أن تكشف عنده ، في قوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن ) ويحدث أن تتزين المرأة للأجانب في مجلس الاختلاط مالا تتزين به لزوجها مطلقاً .
رؤية الرجل للنساء في المجلس الواحد سبب لفساد الدين والخلق ، والثوران المحرم للشهوات .
ما يحدث من التنازع والتقاطع الفظيع ، عندما ينظر هذا إلى زوجة ذاك ، أو يغمز هذا زوجة ذاك ، أو يمازحها ويضاحكها والعكس ، وبعد الرجوع إلى البيت تبدأ تصفية الحسابات .
الرجل : لماذا ضحكت من كلمة فلان ، وليس في كلامه ما يضحك ؟
المرأة : وأنت لماذا غمزت فلانة ؟
الرجل : عندما يتكلم هو تفهمين كلامه بسرعة ، وكلامي أنا لا تفهمينه على الإطلاق ؟
وتتبادل الاتهامات وتنتهي المسألة بعداوات أو حالات طلاق .
يندب بعضهم أو بعضهن حظوظهم في الزواج عندما يقارن الرجل زوجته بزوجة صاحبه ، أو تقارن المرأة زوجها بزوج صاحبتها ، ويقول الرجل في نفسه : فلانة تناقش وتجيب .. ثقافتها واسعة ، وامرأتي جاهلة ، ما عندها ثقافة .. وتقول المرأة في نفسها : يا حظ فلانة زوجها أنيق ولبق ، وزوجي ثقيل الظل يرمي الكلمة دون وزن ، وهذا يفسد العلاقة الزوجية أو يؤدي إلى سوء العشرة .
تزين بعضهم لبعض بما ليس فيهم إدعاء وكذباً ، فهذا يصدر الأوامر لزوجته بين الرجال ويتظاهر بقوة شخصيته ، وإذا خلا بها في البيت فهو قط وديع ، وتلك تستعير ذهباً تلبسه لتري الجلساء أنها تملك كذا وكذا ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ) رواه البخاري ، الفتح 9/317 .
ما ينتج عن هذه السهرات المختلطة من ضياع للأوقات ، وآفات اللسان ، وترك الأولاد الصغار في البيوت ( حتى لا تُفسد السهرة بالصياح! ) .
وقد تتطور الأمور إلى اشتمال هذه السهرات المختلطة على أنواع عظيمة من الكبائر ، مثل : الخمر والميسر ، وخصوصاً في أوساط ما يسمى بالطبقة المخملية ، ومن الكبائر التي تسري عبر هذه المجالس الاقتداء بالكفار ، والتشبه بهم في الزي والعادات المختلفة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) رواه الإمام أحمد في المسند 2/50 وهو في صحيح الجامع 2828 ، وكذلك 6025 .
نصيحة : الانتباه لخطورة السائقين والخادمات في البيوت :
السعي لدرء المفاسد من الواجبات الدينية ، وسد أبواب الشر والفتنة من الأولويات الشرعية .
وقد ولج علينا من باب الخدم والسائقين كثير من الفتن والمعاصي ، وكثير من الناس لا ينتبهون ، وإذا انتبهوا لا يتعظون ، وربما لدغ أحدهم مراراً من جحر واحد ولا يتألم ، ويسمع أن قارعة حصلت قريباً من داره ولا يتعلم ، وهذا من ضعف الإيمان وبلادة حس مراقبة الله في قلوب كثير من أهل هذا الزمان ، وفي هذه العجالة نبين بعض مساوئ وجود الخادمات والسائقين في البيوت حتى تكون تذكرة لمن كان له قلب أو أراد أن يسلك في بيته مسلك الإحسان .
فتنة الإغراء والإغواء التي تحصل من الخادمات للرجال في البيوت وخصوصاً الشباب منهم ، بوسائل التزين والخلوة ، وتتوالى القصص في أسباب انحراف بعض الشباب ، والسبب : دخلت عليه أو انتهز خلو البيت فجاء إليها ، وبعضهم يصارح أهله ولا من مجيب ، أو يكتشف بعض الأهل شيئاً فيأتي جواب عديم الغيرة ( يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ) وتُترك النار بجانب الوقود ، والوضع هو هو لم يتغير ، ولقد وصل الأمر أيضاً ببعض الخادمات إلى نقل الشذوذ لبعض الفتيات في البيوت .
- تخلي ربة الأسرة الأصلية عن واجباتها ونسيانها لمهامها ، وتعوديها الكسل ، فإذا سافرت الخادمة كان العذاب الأليم .
- سوء تربية الأبناء المتمثل في أمور منها :
نقل معتقدات كفرية إلى الأطفال من الخادمات الكافرات ، النصرانيات والبوذيات ، وقد وُجد أطفال يؤشرون بعلامة التثليث على الرأس وجانبي الصدر ، كما يرون النصرانية تصلي ، وتقول للطفل : هذه الحلوى من المسيح ، ويرى الطفل الخادمة تصلي إلى تمثال بوذا ، وأخرى تحتفل بأعياد قومها ، وتنقل الفرح بذلك إلى أطفالنا ، فيعتادون المشاركة في أعياد الكفرة .
حرمان الطفل من حنان أمه اللازم في تربيته ، واستقرار نفسيته ، ولا يمكن للخادمة تعويض من ليس بولدها هذا الحنان .
تشويه لغة الطفل العربية بما يشوبها من الكلمات الأجنبية فينشأ بمركب نقص يضره أثناء العملية التعليمية .
- الإرهاق المالي الذي يحصل لبعض أرباب الأسر برواتب ونفقات السائق والخادمة .
ثم النزاعات العائلية التي تحصل في شأن من يدفع تلك النفقات ؟ وخصوصاً بين الزوج وزوجته الموظفة ، ولو جلست المرأة لتعمل في بيتها بدلاً من العمل خارج البيت ، لكفيت شراً كثيراً .
والحقيقة أننا في كثير من الأحيان ، نوجد مشكلات بأنفسنا !! ثم نطلب لها حلاً ، وكثيراً ما تكون الحلول غير حاسمة .(75/2)
إن التعود على الخادمات قد أفرز أنواعاً من الاتكالية والسلبية في الشخصيات .
وأخرى تشترط خادمة في العقد وثالثة تنوي أخذ خادمة أهلها معها بعد الزواج ، وبالتالي فقدت بناتنا القدرة على الاستقلال بشئون البيت مهما كان صغيراً .
- ولما جلبت ربات البيوت الخادمات صار لديهن وقت كثير لا يدرين كيف يقضينه ، فصارت المرأة تنام كثيراً ، ثم لا تقر في بيتها من كثرة ذهابها إلى مجالس الغيبة والنميمة وضياع الوقت ، والنهاية حسرة يوم القيامة .
- الإضرار بأهل البيت بأمور منها :
السحر والشعوذة التي تفرق بين الرجل وزوجته ، أو تضر بعافية الأبدان .
الإضرار بممتلكات أصحاب البيت بما يحصل من السرقات .
تشويه سمعة أهل البيت فكم من بين شريف كريم تحول خلال غياب أصحابه إلى وكر للفاحشة والفساد ، ولابد أنك سمعت عن بعض الخادمات اللاتي يستقبلن رجالاً في بيوت غاب أصحابها .
الكفر فيه مخالفة صريحة لنهيه صلى الله عليه وسلم عن دخول الكفار لجزيرة العرب خصوصاً وأن الوضع ليس فيه ضرورة كما ترى مع إمكان الإتيان بالمسلمين عند- تقييد حرية الرجال ( الذين يخافون الله ) داخل البيت وكذلك الدعاة الذين يحاولن إصلاح أهليهم .
ما يحصل من خلوة المرأة بالسائق الأجنبي في البيت أو السيارة ، وعدم تحفظ النساء من الخروج بالزينة والطيب أمامه ، حتى كأنه أحد المحارم أو أقرب ، وكثرة المحادثات والمشاوير تسقط الحواجز النفسية فيقع المحظور ، والوقائع المتكاثرة في المجتمع تدل أولي الألباب على خطورة الأمر .
جلب الخدم والسائقين من شتى ملل الحاجة ، فكيف إذا أضيف إلى هذا ما يحدث من تقوية اقتصاديات الكفار بتحويلات مرتبات أولئكم الكفرة من السائقين والخادمات ، مع أن المسلمين أولى وأحرى ، وتبلد إحساس المسلم بكثرة مخالطة هؤلاء الكفار يقضي تدريجياً على مفهوم الولاء والبراء في النفس ، أضف إلى ذلك الدور البشع لبعض الذين لا يخافون الله من أصحاب مكاتب الاستقدام الذين يخبرونك بعدم وجود مستخدمين مسلمين ، أو القيام بعمليات الخداع والتمويه ، ليكشف بعض أرباب البيوت بعد وصول السائق أو الخادمة الموسومين بالإسلام في الأوراق الرسمية أن المسألة كذب في تزوير ، وأن التمثيلية قد بدأت من البلد الذي قدم منه المستخدم بتلقينه بعض الكلمات الإسلامية التي يتظاهر بها أمام أهل البيت زوراً .
ما يحصل من تفسخ الأسرة بسبب علاقة صاحب البيت بالخادمة وانظر في الواقع وفكر كم نسبة حوادث الطلاق التي حصلت بسبب الخادمة ؟
وكم خادمة حملت سفاحاً ؟
ثم سائل أقسام الولادة بالمستشفيات ، وسجلات مراكز الشرطة عن المشكلات الناتجة عن أولاد الحرام بسبب الفتنة بالخادمات ، ثم حاول أن تدرك نطاق الأمراض السارية التي انتقلت إلى مجتمعنا من جراء ذلك ، لتعلم حجم الدوامة التي نحن فيها بسبب جلب الخادمات إلى البيوت .
ثم فكر في التصور الذي يأخذه هؤلاء الخدم والسائقين عن الدين الإسلامي ، وهم يرون ويعاينون تصرفات المنتسبين إليه ، واسأل نفسك أي عائق وضعناه أمامهم ، وأي صد عن سبيل الله قد فعلناه بهم ، وهل يمكن أن يدخل هؤلاء في دين هذا حال من يزعمون أنهم حملته ؟!
ومن أجل الأسباب المتقدمة وغيرها ، رأى بعض أهل العلم عدم جواز جلب الخادمات على الوجه الحاصل الآن ، وأنه يجب حسم مادة الفتنة وإغلاق منافذ الشر أنظر فتوى الشيخ محمد صالح العثيمين بشأن هذه القضية .
وحتى نكون مسترشدين بقوله تعالى : ( وإذا قلتم فاعدلوا ) فلا بد أن نشير إلى ما يلي :
أولاً : لا ننكر أن عدداً من الخدم والسائقين الكفرة قد أسلموا وحٌسن إسلام بعضهم نتيجة ما رأوه من بعض مظاهر الإسلام في بعض البيوت ، أو نتيجة لشيء من الجهود المخلصة - القليلة مع الأسف - التي بذلت في دعوتهم إلى الله .
ولا ننكر أن بعض الخدم والسائقين مسلمون حقاً ، ربما أكثر من أهل البيت ، وسمعنا عن الخادمة التي تضع مصحفاً فوق رف المطبخ لتقرأ فيه وقت فراغها من العمل ، والسائق المسلم الذي يصلي الفجر في المسجد قبل رب البيت .
ثانياً : لن نتجاهل الحاجة الماسة التي تقع أحياناً لبعض الناس من ضرورة وجود من يخدم في البيت الواسع ، مع كثرة الأولاد أو وجود مرضى مزمنين وأصحاب عاهات ، أو عمل شاق قد لا تطيقه الزوجة وحدها ، لكن السؤال أيها المسلمون : من الذي يطبق الشروط الشرعية ويراعي الاحتياطات الدينية في جلب الخدم والسائقين ؟ وكم عدد الذين سيأتون بسائق وزوجته ( الحقيقية !) ويضمن عدم خلوة إحدى نسائه بالسائق ، وعدم خلوة أحد الرجال بالخادمة ؟ ثم يأمر الخادمة بالحجاب ، ولا يتعمد النظر إلى زينتها ، وإذا جاء إلى البيت وليس فيه إلا الخادمة فلن يدخل ، وأن لا يقبل إلا مستخدمين مسلمين حقاً .. الخ(75/3)
ومن أجل ذلك فإنه لابد لكل من عنده أحد من هؤلاء في بيته أن يتأكد أنه موجود لحاجة شرعية فعلاً ، وأن وجوده بالشروط الشرعية حقاً ، وإن في قصة يوسف عليه السلام ، لعبرة في هذا الموضوع ، وفيها دلالة واضحة على الفتنة التي تحصل بوجود الخدم والسائقين في البيت وأن الشر قد يحصل من أهل المنزل ابتداءً مع كون الخدم ممن يخاف الله . ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ، وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله ) يوسف/23 .
ونقول للذين يشكون من ظروف صعبة في بيوتهم من جهة الخدمة يمكنكم عمل ما يلي :
شراء الطعام الجاهز من السوق ، استعمال الأواني الورقية وكذا استخدام المغاسل بالأجرة ، وتنظيف البيت بعمال يشرف عليهم الرجل ، والاستعانة بالأقارب لرعاية الأولاد يكون حلاً سريعاً في أوقات الحاجة ، كأن تكون الزوجة مثلاً نفساء في فراشها .
فإن لم يف ذلك بالغرض يمكن الاستعانة بخادمة مؤقتة بالشروط الشرعية ، يتم الاستغناء عنها حال انتهاء الحاجة إليها مع ما في هذا الحل من المخاطر .
الأفضل أن تكون خادمة بالساعة ، مثلاً تقوم بمهمتها ثم تغادر البيت ، وعلى أية حال الضرورة تقدر بقدرها .
وقد طال الحديث في هذه الفقرة لعموم البلاء بها في هذا المجتمع ، وقد يختلف الأمر في مجتمعات أخرى ، وقبل أن نغادر الموضوع نذكر بأمور من تقوى الله .
كل من لديه أسباب فتنة في بيته من هؤلاء وغيرهم أن يتقي الله ويخرجهم من البيت .
على كل من يظن أنه سيضع ضوابط شرعية للإتيان بالخدم أن يتقي الله ، ويعلم أن كثيراً من هذه الضوابط تتلاشى بمرور الزمن .
على كل من يوجد عنده مستخدم كافر في أرض الجزيرة أن يعرض عليه الإسلام بالأسلوب الحسن ، فإن أسلم وإلا أخرجه وأعاده من حيث أتى .
وأخيراً نختم موضوع الخدم والسائقين بذكر هذه القصة التي فيها عبر عظيمة في خطورة المستخدمين في البيوت ، وفي التحاكم إلى الكتاب والسنة ، ورفض كل حكم يُخالف الشريعة ، وسؤال أهل العلم ، وتطهير المجتمع الإسلامي بالحدود الشرعية :
عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال : أنشدك الله إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله ، فقام خصمه وكان أفقه منه ، فقال : اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي قال : قل ، قال : إن ابني هذا كان عسيفاً ( أي أجيراً ويطلق على الخادم ) على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم ، ( دفعها كتعويض له عما لحق بعرضه ) ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ( لأنه غير محصن ) وعلى امرأته الرجم ( لأنها محصنة وراضية ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، المائة شاة والخادم رد ( أي مردودة عليك ) وعلي ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها فاعترفت فرجمها . رواه البخاري الفتح 12/136 .
تنبيه : ومما يسوء كل مسلم غيور على حرمات الله ما يحدث في بعض البيوت من دخول عمال النظافة والصيانة على النساء وهن بلباس النوم والبيت ، فهل يظن أولئك النسوة أن مثل هؤلاء ليسوا رجالاً أمر الله بالاحتجاب عنهم ؟!
ومن المنكرات كذلك ما يحدث في بعض البيوت من تدريس الرجال الأجانب للفتيات البالغات ، وتدريس بعض النساء للأولاد البالغين دون حجاب .
نصيحة : أخرجوا المخنثين من بيوتكم
قال البخاري رحمه الله تعالى باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت وساق حديث ابن عباس قال : لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء ، وقال : أخرجوهم من بيوتكم قال : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلاناً وأخرج عمر فلانة . رواه البخاري في كتاب اللباس باب 62 ، الفتح 10/333 .
ثم ساق حديث أم سلمة الذي أورده في باب : ( ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة ) ونصه : عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها ، وفي البيت مخنث فقال : المخنث لأخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية إن فتح الله لكم الطائف غداً أدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتُدبر بثمان ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخلن هذا عليكم ) رواه البخاري باب 113 الفتح 9/333 .
أما تعريف المخنث : فهو من يشبه النساء في خلقته ، أو حركاته وكلامه ، وغير ذلك ، فإذا كان من أصل الخلقة فلا لوم عليه مع أنه يجب عليه أن يسعى ما استطاع لتغير هذا التشبه ، وإن كان يتشبه بالنساء عمداً فيسمى مخنثاً سواء فعل الفاحشة أو لا .
وهذا المخنث – الذي بمثابة الخادم – كان يدخل إلى أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه معدود من غير أولي الإربة من الرجال .(75/4)
فلما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الشخص التدقيق في وصف النساء ، وأنه يصف امرأة بأن لها أربع عكن من الأمام ( وهو ما تثنى من لحم البطن نتيجة السمنة ) وثمان عكن من الخلف ( أربع من كل جانب ) أمر بإخراجه ومنعه من الدخول إلى حجر نسائه ، وذلك لأنه يأتي منه مفاسد مثل احتمال أن يصف النساء اللاتي يراهن للأجانب ، أو أن يتأثر أهل البيت به فيحصل للنساء تشبه بالرجال ، أو للرجال تشبه بالنساء مثل التكسر في المشي والخنوع في الصوت أو يؤدي للوقوع في منكرات أبعد من ذلك .
وبعد هذا نتساءل اليوم ونحن نرى كثيراً من أشباه الرجال أو أشباه النساء في هؤلاء الخدم ، وخصوصاً الكفار الموجودين في بيوت المسلمين ، والذين نعلم يقياً آثارهم السيئة على أولاد وبنات المسلمين ، بل لقد ظهرت طبقة تعرف بالجنس الثالث من شباب يضعون أدوات الزينة ويلبسون ملابس النساء ، فما أعظم الرزية وما أشد البلية في أمة يراد منها أن تكون أمة جهاد !!
وإذا أردت المزيد من محاربته صلى الله عليه وسلم لهذا الجنس وغيرة الصحابة على مثل هذا الوضع ، فتدبر هذا الحديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه ( أي صبغها بالحناء كالنساء ) ، فقيل يا رسول الله ! هذا يتشبه بالنساء ، فنفاه إلى البقيع ( عقاباً له في مكان غربة ووحشة ، وحماية لغيره ) فقيل ألا تقتله ، فقال : ( إني نهيت عن قتل المصلين ) رواه أبو داود 4928 وغيره وأنظر صحيح الجامع 2502
نصيحة : احذر أخطار الشاشة :
لا يكاد يخلو بيت في هذا الزمان من نوع أو أنواع من الأجهزة المحتوية على شاشات ، والقليل من استخدامات هذه الأجهزة مفيد جيد ، والأكثر ضار مدمر وخصوصاً آلات عرض الأفلام ، ومع وصول البث المباشر إلى ديار المسلمين ، وانتشار بيع الأفلام وتبادلها صارت مسألة التحكم في هذه الأجهزة شبه مستحيلة .
وفيما يلي ذكر الأضرار والمفاسد الناتجة عن مشاهدة هذه الأجهزة ، وسيسعى للتغير بعد تأملها كل من أراد رضى الله واجتناب سخطه :
عقائدياً :
إظهار شعائر أهل الكفر ورموز أديانهم الباطلة ، كالصليب ، وبوذا ، والمعابد المقدسة ، وآلهة الحب والخير والشر ، والظلام والنور والشقاء والمطر ، وهكذا الأفلام التبشيرية الداعية إلى تعظيم دين النصارى والدخول فيه .
الإيحاء بقدرة بعض الخلق على مضاهاة الله في الخلق والإحياء والإماتة ، مثل بعض المشاهد المتضمنة لإحياء ميت باستخدام صليب أو عصا سحرية .
نشر الدجل والخرافة والشعوذة والسحر ، والعرافة والكهانة ، المنافية للتوحيد .
ما ينطبع في حس المتفرج من توقير ممثلي الأديان الباطلة ، كالأب والقسيس ، والراهبة التي تداوي المرضى وتفعل الخير !
في كثير من التمثيليات حلف بغير الله ، وتلاعب بأسماء الله كما سمى أحدهم الآخر مرة عبد القيساح .
التشكيك في قدرة الله أو خلقه ، أو تصوير الحياة على أنها صراع بين الله والإنسان .
القضاء على مفهوم البراءة من أعداء الله في نفوس المشاهدين بما يرونه من أمور تبعث على الإعجاب بشخصيات الكفار ومجتمعاتهم ، وكسر الحواجز النفسية بين المسلم والكافر ، فإذا زال البغض في الله بدأ التشبه والتلقي عن هؤلاء الكفرة .
اجتماعياً :
الإعجاب بشخصيات الكفرة عند عرضهم أبطالاً في الأفلام .
الدعوة إلى الجريمة ، بعرض مشاهد العنف والقتل والخطف والاغتصاب .
تكوين العصابات على النمط المعروف في الأفلام للاعتداء والإجرام ، وإصلاحيات الأحداث والسجون شاهدة على آثار الأفلام في هذا المجال .
تعليم فن السرقة والاحتيال والاختلاس والتزوير ، وقبض الرشاوي وغيرها من الكبائر.
الدعوة إلى تشبه النساء بالرجال ، والرجال بالنساء ، في مخالفة واضحة لحديثه صلى الله عليه وسلم في لعن من فعل ذلك ، فهذا رجل يقلد امرأة في صوتها ومشيتها ، وقد يلبس الشعر المستعار ، والحلي ويضع الأصباغ وأدوات الزينة ، وتلك امرأة تضع لحية أو شارباً مستعاراً وتخشن صوتها ، وهذا من أسباب نشر الميوعة في المجتمع وظهور الجنس الثالث .
بدلاً من النبي والصحابي والعالم والمجاهد ، صار القدوة الممثل والمغني ، والراقصة واللاعب .
زوال الشعور بالمسؤولية تجاه الأسرة ، واللامبالاة بالطلبات المهمة والولد المريض ، لأن رب السرة متسمّر أما الجهاز وقد يضرب الولد ضرباً مبرحاً إذا قطع على الأب خلوته بالفيلم .
تمرد الأبناء على الأباء التي تدعو إلى ذلك ، وعندما أصرَّ أحدهم على قبض ثمن السلعة من أبيه ذكّره الأب بحقه عليه ، فقال الولد في التمثيلية أبي يعني تسرقني ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " أنت ومالك لأبيك " . رواه أبو داود 3530
قطع الرحم بانشغال المشاهدين بالأفلام عن الزيارات العائلية ، وإن زاروا فلا يتبادلون الأحاديث المفيدة ، ولا يتداولون حلول المشكلات العائلية بقدر ما يتحلّقون حول الشاشة صامتين .
الانشغال عن إكرام الضيف .(75/5)
إشاعة الكسل والخمول ، وتعطيل الإنتاج بما تستهلكه هذه الأجهزة من أوقات المسلمين .
نشوء الخلافات الزوجية ، والكره المتبادل ، وظهور الغيرة المذمومة ، فهذا رجل يتغزّل بأوصاف امرأة على الشاشة أما زوجته ، وهي ترد عليه بذكر محاسن المذيع والممثل .
ذهاب الغيرة المحمودة من استمراء النظر إلى مشاهد الاختلاط ، وكشف الزوجة على الأجانب ، وسفور البنات والأخوات ، والتأثر بالدعوة إلى تحرير المرأة .
أخلاقياً :
إثارة الشهوات بعرض مناظر النساء للرجال ، وأشكال الرجال الفاتنين للنساء .
دعوة المجتمع إلى إظهار العورات بأنواع الملابس الفاضحة واعتياد الظهور بها .
الدعوة إلى إقامة العلاقات بين الجنسين وتعليم المشاهد كيفية التعرف ، وما هي الكلمات المتبادلة في البداية ، ووسائل تطوير العلاقة المحرمة ، وتبادل أحاديث الحب والغرام وتشابك الأيدي … الخ .
الوقوع في الزنا والفاحشة بفعل الأفلام التي تعرض ذلك ، حتى أن بعضهم يقلّد ما يحدث في الفيلم مع بعض محارمه والعياذ بالله ، أو يمارس عادات سيئة أثناء عرض هذه الأفلام .
تعليم النساء أنواع الرقص مما فيه إظهار للعورات وإغراء للرجال ، وهذا من أنواع الميوعة والانحلال .
اكتساب الشخصية الهزلية ، وانحسار الجدية ، بالإضافة إلى الضحك الكثير المفسد للقلب بفعل أفلام " الكوميديا " .
شيوع الألفاظ البذيئة مما يستخدم في كثير من الأفلام والتمثيليات .
تعبدياً :
تضيع صلاة الفجر من جراء السهر على مشاهدة ما يعرض في الشاشة .
التأخر عن أداء الصلوات في أوقاتها فضلاً عن أدائها في المساجد للرجال بسبب تعلق القلب بالمسلسل أو الفيلم أو المباراة .
التسبب في بُغض بعض الشعائر التعبدية ، كما يحدث لبعضهم إذا قطعت المباراة المثيرة بتوقف لأداء الصلاة .
إنقاص أجر بعض الصائمين ، أو ذهابه بالكلية بذنوب هذه المشاهدات المحرّمة .
الطعن في بعض ما جاءت به الشريعة من أحكام كالحجاب وتعدد الزوجات .
تاريخياً :
تشويه التاريخ الإسلامي ، وطمس الحقائق ، وإهمال ذكر منجزات المسلمين في الأفلام التي تحكي تاريخ البشرية .
تحريف الحقائق التاريخية الثابتة ، بإظهار الظالم على أنه مظلوم ، وهكذا كالزعم بأن اليهود أصحاب قضية عادلة .
التقليل من شأن أبطال الإسلام في أعين المشاهدين لبعض التمثيليات التي تمثل فيها أدوار الصحابة وقادة الفتح الإسلامي والعلماء ، وتظهر فيها هذه الشخصيات بهيئة مبتذلة ، والممثلون في الأصل فسقة وفجرة ، وتختلط بالتمثيلية مشاهد غرامية .
إيقاع المسلمين تحت وطأة الهزيمة النفسية ، وإشاعة الرعب في قلوبهم ، بما يعرض من أنواع الآلة الحربية المتقدمة لدى الكفار فيحسّ المسلم أنه لا يمكن هزيمة هؤلاء .
نفسياً :
اكتساب العنف والطبع العدواني من مشاهدة أفلام العنف والمصارعة ، ومشاهد الدماء والرصاص والأسلحة الحادة .
إشاعة الخوف في نفوس مشاهدي أفلام الرعب حتى أن أحدهم ليهب من نومه مذعوراً فزعاً ، وهو يصرخ مما رآه في نومه نتيجة مشهد علق في مخيلته .
إفساد واقعية الأطفال وغيرهم بعض المشاهد المنافية للواقع ، ولما جعله الله من النتائج المترتبة على الأسباب ، ومن أمثلة ذلك بعض ما يعرض في أفلام الكرتون ، وهذه اللاواقعية تؤثر على التصرفات في الحياة العملية .
صحياً :
الإضرار بحاسة البصر ، وهي نعمة سيسأل عنها العبد !
تسارع ضربات القلب ، وارتفاع الضغط والتوتر العصبي ونحوه عند مشاهدة أفلام الرعب وسفك الدماء !
السهر المضر براحة الجسد ، الذي سيسأل العبد عنه يوم القيامة فيم أبلاه ؟
ما يحدث من أضرار بأجساد الأطفال الذين يقلدون السوبرمان والرجل الحديدي وغيرهما ، والكبار الذين يقلدون الملاكمين والمصارعين .
مالياً :
صرف المبالغ في شراء الأجهزة والأفلام وأجرة الإصلاح ، وأجهزة التحسين والاستقبال ، وهذا المال سيسأل عنه العبد يوم القيامة فيم أنفقه ؟ !
مسارعة الكثير من الناس إلى شراء كماليات لا يحتاجون إليها ، وتنافس النساء في شراء الأزياء من جراء ما يعرض في الشاشة من المشاهد والدعايات .
نصيحة : الحذر من شر الهاتف
الهاتف من المخترعات المفيدة ، ومن حاجات العصر الحديث . فهو يوفر الأوقات ، ويقصر المسافات ، ويصلك بجميع الجهات ، ويمكن أن يستخدم في الأعمال الصالحات ، كالإيقاظ لصلاة الفجر ، أو سؤال شرعي ، واستحصال فتوى ومواعدة أهل الخير ، وصلة الرحم ، ونُصح المسلمين .
ولكنه في الوقت نفسه وسيلة لأمور من الشر عديدة ، وكم كان الهاتف سبباً لتدمير بيوت بأسرها ، وإدخال الشقاء والتعاسة على سكانها أو جرِّهم وجرِّهنَّ إلى مهاوي الرذيلة والفساد ! وتكمن الخطورة في سهولة استخدامه ، وأنه منفذ مباشر من خارج البيت إلى داخله .
ومن استخدامه في الشر :
ما يحدث بواسطته من المعاكسات المزعجة .(75/6)
تعرف المرأة بالرجل الأجنبي ، وتطور العلاقة ، قال لي شاب قد هداه الله إلى طريق التوبة : قلما تعرف شاب بفتاة بالهاتف إلا خرجت معه في النهاية ، وما يحدث بعد ذلك من دركات الفواحش المتفاوتة لا يعلمه إلا الله .
ما يحدث فيه من إفساد المرأة على زوجها أو الزوج على زوجته ، أو تأليب الأب على أولاده ، وبناته والعكس ، وذلك نتيجة مكالمات من النمامين والمخربين مبنية على الحسد وحب الشر والتفريق .
ضياع الأوقات في المحادثات التافهة المسببة لقسوة القلب ، والالتهاء عن ذكر الله ، وخصوصاً بين النساء ، فتجد المرأة فيه متنفسها .
ومن الحلول في قضايا الهاتف :
متابعة ووعظ من يسيء استعماله من داخل البيت وخارجه .
الحكمة في الرد .
إذا جاءنا خبر في مكالمة من مجهول عرضناها على كتاب الله عز وجل ونفذنا أمر الله ( فتبيَّنوا ) .
والتربية الإسلامية كفيلة بجعل استخدام هذا الجهاز صحيحاً إذا غاب الولي والراعي .
وآخر الدواء الكي بفصل الحرارة إذا صار إثمه أكبر من نفعه .
نصيحة : يجب إزالة كل ما فيه رمز الأديان الكفار الباطلة أو معبوداتهم وآلهتهم .
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئاً فيه تصاليب إلا نقضه . رواه البخاري ، فتح الباري 10/385 باب نقض الصور .
وقد بلينا في هذا الزمان بمصنوعات جاءتنا من بلاد الكفار فيها تصاوير ونقوشات ، ورسومات لآلهتم ومعبوداتهم ، ومن ذلك الصليب بأشكاله المتنوعة ، وصور مريم وعيسى ، أو صور الكنائس وتماثيل بوذا ، وآلهة الإغريق كآلهة الحب ، وآلهة الخير والشر ، وهكذا .
وبيت المسلم الموحد لا يصلح أن يكون فيه رموز للشرك الذي ينافي التوحيد ، بل ينقضه من أساسه ، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام ينقض الصلبان إذا رآها في بيته ، والنقض هو الإزالة سواء بالطمس إذا كانت مرسومة أو منقوشة ، أو الحك والتلطيخ بما يغير هيئتها أو اقتلاعها وإزالتها بالكلية .
وليس هذا من الغلو في الدين ، لأن الذي نهى عن الغلو هو الذي فعل ذلك صلى الله عليه وسلم ولأجل ذلك ينبغي على أهل البيت إذا أرادوا شراء الأواني والفرش وغيرها أن يحذروا من مثل هذا الرموز للأديان الباطلة التي تنافي التوحيد على أننا ننبه إلى أهمية الاعتدال في هذا الأمر فما لم يكن الشكل واضحاً في كونه صليباً مثلاً فلا يجب تغييره .
نصيحة : إزالة صور ذوات الأرواح
يعمد كثير من الناس إلى تزيين بيوتهم بصور تعلق على الجدارن أو تماثيل توضع على أرفف في بعض زوايا البيت ، وكثير من هذه الصور المجسمة وغير المجسمة تكون لذوات أرواح كإنسان أو طير أو دابة ونحو ذلك .
وأقوال المحققين من أهل العلم ظاهرة في تحريم صور ذوات الأرواح سواء كانت نحتاً أو رسماً أو مأخوذة بالآلة ما دامت ثابتة ليست كصورة المرآة أو الصورة في الماء ، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن المصورين وتهديدهم بتكليفهم ما لا يطيقون من نفخ الروح فيها يوم القيامة يشمل كل عامل في حقل التصوير ما لم يكن من باب الإعانة على الضرورة والحاجة كصور الإثباتات الشخصية اللازمة أو تتبع المجرمين ونحو ذلك .
وتعليق صور ذوات الأرواح فيه إثم آخر لأن ذلك يفضي إلى تعظيم صاحب الصورة ، وقد يؤدي إلى الوقوع في الشرك كما حصل في قوم نوح وأقل ما في تعليق من الأضرار تجديد الأحزان أو التباهي والتفاخر بالآباء والأجداد فلا يقل أحد من الناس نحن لا نسجد للصورة ، ومن أراد أن يحرم نفسه من الخير العظيم بدخول الملائكة بيته فليضع الصورة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن البيت الذي فيه صور لا تدخله الملائكة ) رواه البخاري 4/325 .
ولقد جاء في النهي عن التصوير عدة أحاديث فمنها :
( إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون ) رواه البخاري 1/382 . وحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يُقال لهم أحيوا ما خلقتم ) رواه البخاري 1/382 .
وحديث أبي هريرة أنه دخل داراً بالمدينة فرأى في أعلاها مصوراً يصور ( ينقش الصور في حيطان الدار التي تُبنى ) قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة فليخلقوا ذرة ) رواه البخاري 1/385 .
وحديث أبي جحيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصور رواه البخاري 1/393 .
وإليك أيها القارئ الكريم مزيداً من الإيضاح حول هذه المسألة في كلام أهل العلم .
جاء في شرح حديث لا تدخل الملائكة بيتاً : ( المراد بالبيت المكان الذي يستقر فيه الشخص ، سواء كان بناءً أو خيمة أم غير ذلك ) فتح الباري 1/393 .(75/7)
أما الصور التي تمنع الملائكة عن الدخول بسببها فهي صور ذوات الأرواح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن الفتح 1/382 ( أي يُهان ويُحتقر بالوطء عليها وغيره ) وصنع صور ذوات الأرواح فعل محدث أحدثه عباد الصور ، وما يُشعر بذلك فعل قوم نوح ، وحديث عائشة في قصة الكنيسة التي كانت بأرض الحبشة ، وما فيها من التصاوير وأنه صلى الله عليه وسلم قال : ( كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصورة ، أولئك شرار الخلق عند الله ) الفتح 1/382 .
ويضيف ابن حجر رحمه الله :
( قال النووي : قال العلماء : تصوير صورة الحيوان ( ذوات الأرواح ) حرام شديد التحريم ، وهو من الكبائر ، لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد ، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره ، فصنعه حرام بكل حال ، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها ، فأما تصوير ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام .
قلت : ويؤيد التعميم فيما له ظل وفيما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسره ، ولا صورة إلا لطخها أي طمسها ) الحديث فتح الباري 1/384
وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على تطهير بيته من الصور المحرمة ، وهذا مثال على ذلك : تحت عنوان من لم يدخل بيتاً فيه صورة روى البخاري رحمه الله حديث عائشة رضي الله عنها أنها اشترت نمرقة ( وسادة ) فيها تصاوير ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل ، فعرفت في وجهه الكراهية ، قالت : يا رسول الله ! أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت ؟ قال : ( ما بال هذه النمرقة ؟ ) فقالت : ( اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم ) وقال : ( إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة ) فتح الباري 1/392 .
وقد يقول البعض : ولماذا الإطالة في هذا الموضوع ؟ فنقول : لقد دخلنا بيوتاً وغرفاً فوجدنا صور المغنين وغيرهم ، وبعضها عارية أو شبه عارية ، معلقة على الجدران والمرايا والخزائن والأدراج والطاولات ، ينظر إليها صاحبها صباح مساء ، وصار بعضهم يقبل الصورة ، ويتخيل أموراً منكرة !! فصارت الصورة من أعظم وسائل الانحراف ، وتبين لأولي الألباب شيئاً من حكمة الشارع في تحريم صور ذوات الأرواح .
ولابد في ختام هذه الفقرة أن نشير إلى ما يلي :
يقول بعض الناس : إن الصور اليوم غزتنا في كل شيء في المعلبات الغذائية ، والكتب والمجلات والدفاتر ، وإذا أردنا طمس كل صورة فسنضيع أوقاتنا في ذلك ، فماذا نفعل ؟
نقول : احرص على شراء ما خلا من الصور – إن أمكن – والباقي : يطمس ظاهراً كالصورة على الغلاف ، ويبقى الكتاب يستفاد منه ، وإذا انتهت الفائدة كالجرائد وغيرها تخرج من البيت ، وما يتعذر طمسه كالصورة على المعلبات الغذائية مثلا ، فلا حرج إن شاء الله في تركه كما ذكره أهل العلم لأنه دخل فيما عمت به البلوى والمشقة تجلب التيسير.
إن كان ولابد من تعليق شيء لتزيين الجدران فليكن بعض المناظر الطبيعية أو صور المساجد والمشاعر الخالية من المحذورات الشرعية .
على من يعلقون الآيات القرآنية وغيرها أن ينتبهوا إلى أن القرآن لم ينزل لتزين به الجدران ، وأن من العبث تصوير الآيات على هيئة رجل ساجد أو طير ونحو ذلك ، وأن لا يقع من الشخص في المجلس محظورات شرعية تخالف الآية المعلقة فوق رأسه .
نصيحة : امنعوا التدخين في بيوتكم
يكفي دليلاً على تحريم التدخين ( بالنسبة للعقلاء ) قول الله تعالى : ( ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ) سورة الأعراف/157 فقسم الله المطعومات والمشروبات إلى قسمين لا ثالث لهما طيبات مباحة وخبائث محرمة ، ومن الذي يجرؤ أن يقول اليوم إن التدخين طيب ، بالنظر إلى رائحته والأموال التي تصرف فيه والأضرار الجسدية والمادية الناتجة عنه .
والبيت الصالح ليس فيه ولاعات سجائر ولا منافض للسجائر ، لا من الدعايات المجانية ولا غيرها فضلاً عن الشيشة ومشتقاتها .
فإذا خشيت من التدخين في بيتك فضع ملصقات للتلميح ، فإن رأيت أحداً يريد ارتكاب المنكر أمامك فليس لك بد في منع وقوعه بالأسلوب المناسب .
نصيحة : إياكم واقتناء الكلاب في البيوت(75/8)
مما وصلنا من جملة ما وصلنا من عادات الكفار اقتناء الكلاب في البيوت ، وعدد من الذين تطبعوا بطباع الكفرة في مجتمعنا يجعلون في بيوتهم كلاباً يشترونها بمبالغ وثمن الكلب حرام من حديث رواه الإمام أحمد 1/356 وهو في صحيح الجامع 3071 . وينفقون في طعامها ونظافتها أموالاً سيسألون عنها يوم القيامة ، حتى صار من شعار بيوت كثير من الأثرياء وكبار الموظفين وجود كلب في البيت ، ولعاب الكلب نجس ، وهو يلعق أهل المنزل وأمتعتهم ، ولو ولغ الكلب في إناء لوجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب ، فكيف إذا علمت أيها المسلم مقدار ما ينقص من أجر الذين يقتنون الكلاب قال صلى الله عليه وسلم : " ما من أهل بيت يرتبطون كلباً إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط ( وفي رواية مسلم قيراطان ) إلا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم " رواه الترمذي 1489 وهو في صحيح الجامع 5321 ، فالنهي عن اقتناء الكلاب يستثنى منه كلب الزرع ، والصيد والحراسة ( حراسة البيوت والمنشآت أو المواشي وغيرها ) ويدخل فيه كل ما تدعو إليه الحاجة من تتبع آثار المجرمين ، وكشف المخدرات ونحو ذلك ، كما هو مضمون كلام بعض أهل العلم . التعليق على سنن الترمذي ط.شاكر 3/267
وهذا جبريل عليه السلام يبين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم السبب الذي منعه من دخول بيته عليه الصلاة والسلام ، حسب الموعد الذي كان بينهما ، قال صلى الله عليه وسلم : (أتاني جبريل فقال : إني كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان في البيت تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر ( مثل الستارة ) فيه تماثيل وكان في البيت كلب ، فمُر برأس التمثال يقطع ، فيُصير كهيئة الشجرة ، ومر بالستر يقطع فيُجعل منه وسادتان توطئان ، ومر بالكلب فيُخرج ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم " . رواه الإمام أحمد ، صحيح الجامع رقم 68
نصيحة : الابتعاد عن تزويق البيوت
شاع في بيوت كثير من الناس اليوم أنواع التزويق والتزيين والزخرفة نتيجة الانغماس في الملذات ، والتعلق بالدنيا ، والتباهي والتفاخر .
وبعض البيوت إذا دخلتها تتذكر كلام ابن عباس : ( ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء ) ، ولا نستطيع في هذه العجالة أن نستطرد في ذكر أنواع العجائب والغرائب ، من التحف والزينات والنقوش والزخارف ، التي تزخرف بها بعض البيوت والقصور ، ولكننا نذّكر بما يلي :
قال تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكون وزخرفاً .. ) الزخرف/33 .
أي ( لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر لأجل المال ) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 7/213 . لجعلنا لبيوت الكفار سقفاً وسلالم وأقفالاً على الأبواب من فضة وذهب من متاع الحياة الفانية ، ليوافوا الله وليس عندهم حسنة ، لأنهم أخذوا نصيبهم من الدنيا .
روى الإمام مسلم – رحمه الله – عن عائشة رضي الله عنها : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزاة فأخذت نمطاً ( بساط له خمل ) فسترته على الباب ، فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهية في وجهه ، فجذبه حتى هتكه أو قطعه ، وقال : ( إن الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين ) صحيح مسلم 3/1666
روى الإمام أحمد قصة فاطمة لما قالت لعلي رضي الله عنهما ( وقد صنعوا طعاماً ) لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء فوضع يديه على عضادتي الباب فرأى قراماً ( ثوب رقيق من صوف فيه ألوان ونقوش ) فرجع ، فقالت فاطمة لعلي : ألحقه فقل له لم رجعت يا رسول الله ؟ فقال : ( إنه ليس لي ( وفي رواية : لنبي أن يدخل ) أن أدخل بيتاً مزوقاً ) رواه الإمام أحمد 5/221 وهو في صحيح الجامع 2411 .
ورواه أبو داود تحت باب : الرجل يُدعى فيرى مكروهاً سنن أبي داود 3755 .
وتحت باب : هل يرجع إذا رأى منكراً في الدعوة ، روى البخاري رحمه الله تعليقاً : ودعى ابن عمر أبا أيوب ، فرأى في البيت ستراً على الجدار ، فقال ابن عمر : ( غلبنا عليه النساء ) ، فقال : ( من كنت أخشى عليه ، فلم أكن أخشى عليك ، والله لا أطعم لكم طعاماً ) فرجع فتح الباري 9/249
وقد وصل الحديث الإمام أحمد عن سالم بن عبد بن عمر قال : ( أعرست في عهد أبي ، فآذن أبي الناس ، فكان أبو أيوب فيمن آذناه ، وقد ستروا بيتي ببجاد أخضر ، فأقبل أبو أيوب فاطلع فرآه ، فقال : يا عبد الله أتسترون الجدر ، فقال أبي واستحيا : غلبنا النساء يا أبا أيوب ، فقال : من خشيت أن تغلبه النساء … ) الحديث فتح الباري .
روى الطبراني عن أبي جحيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ستفتح عليكم الدنيا حتى تنجدوا بيوتكم كما تنجد الكعبة ، فأنتم اليوم خير من يومئذ ) صحيح الجامع 3614
وخلاصة كلام أهل العلم في زخرفة وتزويق البيوت : أنه إما مكروه أو محرم الآداب الشرعية لابن مفلح 3/421(75/9)
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
موقع الشيخ المنجد
http://www.islam-qa.com(75/10)
أدب الخلاف
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد:
فهذه جملة من الآداب التي إذا اتبعها المسلمون فيما ينشأ بينهم من خلاف اهتدوا -بحول الله ومشيئته ورحمته- إلى الحق:1
1. التثبت من قول المخالف :
أول ما يجب على المسلم أن يتثبت في النقل، وأن يعلم حقيقة قول المخالف، وذلك بالطرق الممكنة كالسماع من صاحب الرأي نفسه، أو قراءة ما ينقل عنه من كتبه لا مما يتناقله الناس شفاهاً، أو سماع كلامه من شريط مسجل أيضاً مع ملاحظة أن الأشرطة الصوتية يمكن أن يدخل عليها القطع والوصل، وحذف الكلام عن سياقه، ولذلك يجب سماع الكلام بكامله، ولو أن أهل العلم يتثبتون فيما ينقل إليهم من أخبار لزال معظم الخلاف الذي يجري بين المسلمين اليوم، وقد أمرنا الله بالتثبت كما قال -سبحانه وتعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) ( سورة الحجرات:6).
2. تحديد محل التنازع والخلاف :
كثيراً ما يقع الخلاف بين المخالفين، ويستمر النقاش والردود وهم لا يعرفون على التحديد ما نقاط الخلاف بينهم، ولذلك يجب أولاً -قبل الدخول في نقاش أو جدال- تحديد مواطن الخلاف تحديداً واضحاً؛ وكثيراً ما يكون الخلاف بين المختلفين ليس في المعاني، وإنما في الألفاظ فقط، فلو استبدل أحد المختلفين لفظة بلفظة أخرى لزال الإشكال بينهما.
3. لا تتهم النيات :
مهما كان مخالفك مخالفاً للحق في نظرك فإياك أن تتهم نيته، افترضْ في المسلم -الذي يؤمن بالقرآن والسنة ولا يخرج عن إجماع الأمة- الإخلاص، ومحبة الله ورسوله، والرغبة في الوصول إلى الحق، وناظره على هذا الأساس، وكن سليم الصدر نحوه .
لا شك أنك بهذه الطريقة ستجتهد في أن توصله إلى الحق إن كان الحق في جانبك وأما إذا افترضت فيه من البداية سوء النية، وقبح المقصد فإن نقاشك معه سيأخذ منحى آخر، وهو إرادة كشفه وإحراجه، وإخراج ما تظن أنه خبيئة عنده، وقد يبادلك مثل هذا الشعور، فينقلب النقاش عداوة، والرغبة في الوصول إلى الحق رغبة في تحطيم المخالف، وبيان ضلاله وانحرافه .
4. أخلص النية لله :
اجعل نيتك في المناظرة هو الوصول إلى الحق وإرضاء الله -سبحانه وتعالى-، وكشف غموض عن مسألة يختلف فيها المسلمون، ورأب الصدع بينهم، وجمع الكلمة، وإصلاح ذات البين.
وإذا كانت هذه نيتك فإنك تثاب على ما تبذله من جهد في هذا الصدد . قال -تعالى- : (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ( سورة الزمر:2)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ) متفق عليه.
5. ناظر وفي نيتك أن تتبع الحق وإن كان مع خصمك :
ينبغي على المسلم الذي يخالف أخاه في مسألة ويناظره فيها ألا يدخل نقاشاً معه إلا إذا نوى أن يتبع الحق أني وجده، وأنه إن تبين له أن الحق مع مخالفه اتبعه وشكر لأخيه الذي كان ظهور الحق على يده لأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس .
6. اتهم رأيك :
ينبغي على المسلم المناظر -وإن كان متأكداً من رأيه أنه صواب- أن يتهم رأيه، ويضع في الاحتمال أن الحق يمكن أن يكون مع مخالفه، وبهذا الشعور يسهل عليه تقبل الحق عندما يظهر.
7. اسمع قبل أن تُجِيب:
من آداب البحث والمناظرة أن تسمع من مخالفك قبل أن ترد، وأن تتأكد من حجته وتسمعها جيداً .
8. اجعل لمخالفك فرصة مكافئة لفرصتك :
ينبغي على كل مختلفين أن يعطي كل منهما للآخر عند النقاش فرصة مكافئة لفرصته، فإن هذا أول درجات الإنصاف .
9. اطلب الإمهال إذا ظهر ما يحتاج أن تراجع فيه نفسك :
إذا ظهر لك أن أمراً ما يجب أن تراجع فيه النفس وتتفكر فيه لتتخذ قراراً بالعدول عن رأيك أو إعادة النظر فيه، فاطلب الإمهال حتى تقلِّب وجهات النظر. وأما إذا تحققت من الحق فبادر إعلانه، والإذعان له، فإن هذا هو الواجب عليك، فالذي يخاصمك بالآية والحديث يطلب منك في الحقيقة الإذعان إلى حكم الله وحكم رسوله.
وكل من ظهر له حكم الله وحكم رسوله -صلى الله عليه وسلم- وجب عليه قبوله فوراً؛ كما قال -تعالى- : (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (سورة النور:51)
10. لا تُجادلْ ولا تُمارِ :
يجب أن يكون مقصدك معرفة الحق، أو توضيحه لمخالفك، فلا تدخل مع مسلم في جدال لا ثمرة له؛ لأن الجدال والمماراة مذمومان، والجدال والمماراة أن يكون الانتصار لرأيك ; وقطع خصمك وإثبات جهله، أو عجزه، وإثبات أنك الأعلم أو الأفهم. أو الأقدر على إثبات الحجة !(76/1)
11. أرجئ النقاش إلى وقت آخر إذا علمت أن الاستمرار فيه يؤدي إلى الشقاق والنفور :
إذا تيقنت أن الاستمرار في النقاش والحوار سيؤدي إلى الشقاق والنفور، فاطلب رفع الجلسة، وإرجاء النقاش إلى وقت آخر، وتذكر حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ) .2
12. الإبقاء على الأخوة مع الخلاف في الرأي في المسائل الخلافية أولى من دفع المخالف إلى الشقاق والعداوة :
إذا علمت من مخالفك أنه لا يبقى أخاً إلا ببقائه على ما هو عليه من أمر مرجوح ورأي مخالف للحق في نظرك، فتركه على ما هو عليه أولى من دفعه إلى الشقاق والخلاف؛ لأن بقاء المسلمين أخوة في الدين مع اختلافهم في المسائل الاجتهادية خير من تفرقهم وتمزقهم وبقائهم على خلافاتهم . .
13. إعذار المخالف وترك أمره لله -سبحانه وتعالى -:
من الآداب الشرعية إعذار من يخالفك الرأي من المسلمين في الأمور الاجتهادية ، وإيكال أمره لله ، وتنزيهه من فساد النية ، وإرادة غير الحق ما دام ظاهره هو الدين والعدل .
14. لا تشنيع ولا تفسيق ولا تبديع للمخالف في الأمور الاجتهادية :
لا يجوز اتهام المخالف، ولا التشنيع عليه، ولا ذكره من أجل مخالفته، ولا تبديعه، ولا تفسيقه. ومن صنع شيئاً من ذلك فهو المبتدع المخالف لإجماع الصحابة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات، والمناكح والمواريث والعطاء، والسياسة، وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى، ولما سئل عن ذلك قال : تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي . وهم الأئمة الذين ثَبَتَ بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم ) 3
وقال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي: ( ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه، لما سلم معنا ابن نصر، ولا ابن مندة، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، هو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة ) .4
15. لا يجوز التشنيع ولا التبديع ولا التفسيق لأحد من سلف الأمة ومجتهديها إذا خالف بعض الأمور القطعية اجتهاداً :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ( وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين مثل كون الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد لوضع الحمل، وأن الجماع المجرد عن الإنزال يوجب الغسل، وأن ربا الفضل حرام، والمتعة حرام ).5
16. يجوز بيان الحق وترجيح الصواب وإن خالف اجتهاد الآخرين :
لكل من المختلفين أن يذكر ما يراه حقاً، وينشر ما يراه صواباً، ويرجح ما يراه الراجح، وله أن يبين أن قول معارضه مرجوح؛ لأن كتمان العلم لا يجوز، وعلى كل مجتهد أن يذكر ما يعتقد أنه الحق، وإن خالف من خالف من الأئمة والعلماء والأقران .
وقد خالف ابن عمر وابن عباس وغيرهما، عمر بن الخطاب، وأبا بكر الصديق -رضي الله عنهم- في متعة الحج، وأفتيا بخلافهما، هذا مع كمال الموالاة للصديق والفاروق .
وكان كل إمام وعالم يفتي بما يراه الصواب وإن خالف غيره، وقد قال الإمام مالك: ( ما منا إلا رد ورد عليه إلا صاحب هذا القبر ) يعني النبي -صلى الله عليه وسلم-.
17. لا يجوز حمل الناس على الرأي الاجتهادي :
لا يجوز لعالم مجتهد ، ولا لإمام عام أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده .
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عمن ولي أمراً من أمور المسلمين، ومذهبُه لا يُجوِّز شركة الأبدان، فهل يجوز له منع الناس؟(76/2)
فأجاب: (ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا ما هو في معنى ذلك، لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار . وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل، ولهذا لما استشار الرشيد مالكاً أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتاباً في الاختلاف، فقال أحمد : لا تسمِّه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب السعة . ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبد العزيز يقول : ما يسرني أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غير مالك من الأئمة : ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.
ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي رحمه الله وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه، ونظائر هذه المسائل كثيرة : مثل تنازع الناس في بيع الباقلا الأخضر في قشريه، وفي بيع المقاثي جملة واحدة، وبيع المعطاة والسلم الحال، واستعمال الماء الكثير بعد وقوع النجاسة فيه إذا لم تغيره، والتوضؤ من ذلك، والقراءة بالبسملة سراً أو جهراً، وترك ذلك، وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه، أو القول بطهارة ذلك، وبيع الأعيان الغائبة بالصفة، وترك ذلك، والتيمم بضربة أو ضربتين إلى الكوعين، أو المرفقين، والتيمم لكل صلاة أو لوقت كل صلاة، أو الاكتفاء بتيمم واحد، وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، أو المنع من قبول شهادتهم . ومن هذا الباب الشركة بالعروض، وشركة الوجوه، والمساقاة على جميع أنواع الشجر والمزارعة على الأرض البيضاء، فإن هذه المسائل من جنس الأبدان بل المانعون من هذه المشاركات أكثر من المانعين من مشاركة الأبدان، ومع هذا فما زال المسلمون من عهد نبيهم وإلى اليوم في جميع الأعصار والأمصار يتعاملون بالمزارعة والمساقات، ولم ينكره عليهم أحد، ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها. ولهذا كان أبو حنيفة -رحمه الله- يفتي بأن المزارعة لا تجوز، ثم يفرع على القول بجوازها، ويقول: (إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع، ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها، كما اختار ذلك من اختار من أصحاب الشافعي وغيره ).6
فهذه بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها عند الخلاف، وإذا تأدب بها المسلمون علماء وطلاب علم وعامة زال كثير مما يحصل بينهم من شحناء وتباغض وتحاسد وتقاطع؛ بسبب إعجاب كل ذي رأي برأيه.
نسأل الله العلي الكبير أن يمن علينا بأخلاق حسنة وآداب عالية، يرفع بها درجاتنا في جناته جنات النعيم..
والحمد لله رب العالمين أولاً وآخراً.
________________________________________
1- الموضوع منقول من (القواعد الذهبية في أدب الخلاف) للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق.. بتصرف كبير.
2- رواه أبو داود في سننه، وحسنه الألباني في السلسلة (273).
3- مجموع الفتاوى (19/123) .
4- سير أعلام النبلاء (14/40).
5- الآداب الشرعية (1/186).
6- الفتاوى الكبرى 79/30-81(76/3)
أدب الخلاف
أولاً: معنى الخلاف وأنواعه:
1- الخلاف والاختلاف بمعنى واحد يشير إلى عدم الاتفاق على مسألة ما يقول الفيروز أبادي في تعريف الاختلاف: أن يأخذ كل واحد طريقاً غير طريق الآخر في حاله أو فعله. [بصائر ذوي التمييز 2/562].
2- أنواع الخلاف:
الخلاف المذموم، وهو الخلاف الذي خالف فيه المشركون والكفار الحق، فخلافهم له مذموم، وخلافنا لهم ممدوح، ومنه قول الله: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبّهِمْ} [الحج:19]. وهذا الخلاف منشؤه الهوى والتقليد الأعمى للموروثات الفاسدة خلاف غير السائغ، وهو الخلاف الذي يكون بين المنتسبين للإسلام في قطعيات العقيدة والفقه (الأصول)، وهو فرع من الخلاف المذموم، لكنه يكون بين المسلمين. ومنه خلاف الخوارج والرافضة والمعتزلة والقرآنيين، وقد يصل في بعض صوره إلى الكفر.
والمخالفون فيه خالفوا جمهور المسلمين في أصول المسائل التي يقوم عليها المعتقد والأحكام، فأصولهم فاسدة، ومن ذلك تقديم العقل على النقل، أو القول بعصمة الأولياء أو أئمة أهل البيت، أو ترك الاحتجاج بالسنة.
وهذا النوع هو الذي يؤدي إلى فرقة الأمة وتشرذمها، وجاءت النصوص القرآنية والنبوية في التحذير منه، ومن ذلك: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} [هود:118-119]. قال الرازي: المراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال. {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران :103].
{وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]. {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ} [آل عمران:105].
ومن الخلاف الذي لا يسوغ خلاف الجاهل للعالم، أو بالجملة خلاف من لا يملك أهلية الاجتهاد والنظر في الأدلة الشرعية، فليس من الخلاف المعتبر اجتهاد من ليس له بأهل.
وفيه قصة الرجل الذي أصابته جنابة في سفر وقد شج فأمره بعضهم بالاغتسال فمات فقال صلى الله عليه وسلم: ((قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال)) [رواه أبو داود ح326]. قال ابن تيمية: "أخطأوا بغير اجتهاد، إذ لم يكونوا من أهل العلم" [رفع الملام ص 48].
وفي الاجتهاد من غير أهلية يقول صلى الله عليه وسلم: ((القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضي في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل علم فقضى به، وأما اللذان في النار فرجل قضى للناس على جهل، ورجل علم الحق وقضى بخلافه)) [أبو داود ح3573 وابن ماجه ح2351، والترمذي ح1322].
الخلاف السائغ، ويكون في فروع العقيدة والفقه. ومنه خلاف المذاهب الفقهية، وخلاف الدعاة على بعض الوسائل الحديثة للدعوة، وكذلك فروع العقيدة كرؤية الرسول ربه ليلة المعراج، وكنه المعراج بنبينا، هل هو بالروح أم بالجسد.
وهذا النوع من الخلاف هو محل بحثنا، وهو أيضاً على مراتب بعضها دون بعض:
أ ) الخلاف الشاذ:
ومن صوره إباحة ربا الفضل: إذ لم يحرمه طائفة من التابعين.
ومنه إباحة إتيان النساء في المحاش فقد أجازه بعض فضلاء المدنيين.
ومنه إباحة أفاضل الكوفيين شرب غير نبيذ العنب.
ومنه تحليل نكاح المتعة حيث أباحه بعض المكيين. [رفع الملام ص64-65]
وجميع صور هذا الخلاف قام الدليل القوي والصريح على خلافها، وإنما وقع من وقع في الخلاف لعدم معرفته بدليل المسألة أو تأوله البعيد له.
ب ) الخلاف الضعيف:
ومن صوره قتل المسلم بالكافر، وإيجاب الأضحية.
ت ) الخلاف القوي:
ومن صوره وقوع طلاق الثلاث، ميراث الجد مع الإخوة.
ثانياً: التفريق بين الخلاف السائغ وغيره:
ثمة أمور يفترق فيها الخلاف الذي سوغه العلماء عن الخلاف الذي قبحه العلماء وذموه غاية الذم، ومنها:
1- أنه (أي السائغ) لا يكون في المسائل الأصولية في الدين، العقدية منها والفقهية، كالوحدانية وأصول الإيمان، وحجية السنة، وفرضية الصلاة أو فرضية الوضوء للصلاة. مثل هذه المسائل تضافرت الأدلة الصريحة على إثباتها.
يبين الشاطبي الفرق بين الخلاف المسوغ وغيره " وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق عليها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف" [الاعتصام 2/168].(77/1)
2- أن الخلاف السائغ لا يكون في المسائل التي انعقد الإجماع فيها كعلو الله وكلامه جل وعلا، فإن وقع خلاف من مجتهد في مثل هذا فهو اجتهاد يعذر فيه لكنا لا نسوغه، يقول ابن تيمية: "وقوع الغلط في مثل هذا – يعني علو الله على خلقه – يوجب ما نقوله دائماً: إن المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق فإن الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه .. نوع تقصير فهو ذنب .. فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل (الذي طلب من أهله إحراقه إذا مات) فيغفر خطأه أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه" [الاستقامة 1/163].
ويقول ابن تيمية: "من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافاً لا يعذر فيه، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع" [الفتاوى: 4/172–173].
ويقول الذهبي: "ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور" [سير أعلام النبلاء 19/322].
ويقول محمد بن عبد الوهاب: "ثم اعلموا وفقكم الله، إن كانت المسألة إجماعاً فلا نزاع، وإن كانت مسائل اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في من يسلك الاجتهاد" [الدرر السنية 1/43].
قال ابن تيمية: (وعامة ما تنازعت فيه فرقة المؤمنين من مسائل الأصول وغيرها في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك هو من هذا الباب فيه المجتهد المصيب، وفيه المجتهد المخطئ، ويكون المخطئ باغياً، وفيه الباغي من غير اجتهاد، وفيه المقصر فيما أمر به من الصبر) [الاستقامة 1/73].
3- أن يكون هذا القول صادراً عن الاجتهاد والنظر في الأدلة الشرعية المعتبرة بقصد الوصول إلى الحق الذي أراده الله ورسوله، وعليه فلا كرامة لمن صدر في رأيه عن العقل المجانب للشرع أو عن الرؤى المنامية ولا لمن صدر عن الهوى أو العصبية، قال الشاطبي: "الاجتهاد الواقع في الشريعة ضربان، أحدهما الاجتهاد المعتبر شرعاً، وهو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمعرفة ما يفتقر الاجتهاد إليه".
والثاني: غير المعتبر، وهو الصادر عمن ليس بعارف بما يفتقر الاجتهاد إليه، لأن حقيقته أنه رأي بمجرد التشهي .. فكل رأي صادر عن هذا الوجه فلا مرية في عدم اعتباره، لأنه ضد الحق الذي أنزله..." [الموافقات:4/167]
ثالثاً: هل يكون الخلاف في بعض مسائل الاعتقاد سائغاً؟
الخلاف في مسائل الاعتقاد كالخلاف في مسائل الفقه منه ما يسوغ ،وهو ما يتعلق بفروع المسائل التي لم يرد دليل قطعي الدلالة على وجه من وجوهها.
ومنه مالا يسوغ، وهو ما يتعلق بالمسائل الأصولية التي دلت عليها الأدلة القطعية الدلالة من الكتاب والسنة. فالخلاف في بعض المسائل الفرعية لا يجيز الحكم بهلكة الآخرين وبطلان أعمالهم.
قال شيخ الإسلام" فمن كان من المؤمنين مجتهداً فى طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجماهير أئمة الإسلام.
وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.
فأما التفريق بين نوع وتسميته مسائل الأصول (أي العقيدة) وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع (أي الفقه) فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم من أهل البدع.
وهو تفريق متناقض فإنه يقال لمن فرق بين النوعين: ما حد مسائل الأصول التي يكفر المخطىء فيها؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع؟
فإن قال: مسائل الأصول هي مسائل الاعتقاد ومسائل الفروع هي مسائل العمل قيل له: فتنازع الناس في محمد هل رأى ربه أم لا؟ وفى أن عثمان أفضل من علي أم على أفضل؟ وفى كثير من معاني القرآن وتصحيح بعض الأحاديث هي من المسائل الاعتقادية العلمية ولا كفر فيها بالاتفاق" [مجموع الفتاوى23/346].
ويقول: "والخطأ المغفور في الاجتهاد هو في نوعي المسائل الخبرية والعلمية كما قد بسط في غير موضع كمن اعتقد ثبوت شيء لدلالة آية أو حديث وكان لذلك ما يعارضه ويبين المراد ولم يعرفه مثل من اعتقد أن الذبيح إسحاق لحديث اعتقد ثبوته أو اعتقد أن الله لا يُرى لقوله: {لا تدركه الابصار} ولقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الشورى:51]. نقل عن بعض التابعين أن الله لا يرى، وفسروا قوله { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23]. بأنها تنتظر ثواب ربها كما نقل عن مجاهد وأبي صالح .. أو اعتقد أن الله لا يعجب كما اعتقد ذلك شريح لاعتقاده أن العجب إنما يكون من جهل السبب، والله منزه عن الجهل.(77/2)
وكما أنكر طائفة من السلف والخلف أن الله يريد المعاصي لاعتقادهم أن معناه أن الله يحب ذلك ويرضاه ويأمر به .. وكالذي قال لأهله: ((إذا أنا متُّ فأحرقوني ثم ذروني في اليم فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين)). وكثير من الناس لا يعلم ذلك إما لأنه لم تبلغه الأحاديث وإما لأنه ظن أنه كذب وغلط" [مجموع الفتاوى 20/33-36].
ويقول عن خلاف الصحابة في بعض مسائل الاعتقاد الفرعية: "وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله ورؤية محمد ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة.
وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعا،ً ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور أتباع السلف، والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه.
وهل يقال له: مصيب أو مخطىء؟ فيه نزاع. ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين ولا حكم فى نفس الأمر، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ" [مجموع الفتاوى 19/122].
رابعاً: أسباب وقوع الخلاف:
لسائل أن يسأل: لماذا يختلف المسلمون والعلماء منهم، وهم جميعاً يصدرون من الكتاب والسنة؟
وفي الإجابة نقول: للخلاف بين المسلمين أسباب أهمها:
- اختلاف العلماء في حجية بعض المصادر الفقهية أو اختلافهم في رتبة الاحتجاج بها كما في خلاف الفقهاء في حجية القراءات الشاذة والحديث المرسل والاستحسان وشرع من قبلنا وإجماع أهل المدينة.
- اختلافهم في فهم النصوص. كما في قوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} [المائدة:6]. ففسرها الجمهور بأنها الجماع، ولم يجعلوا لمس المرأة مما ينقض الوضوء، فيما أخذ الشافعي بظاهرها فجعل مجرد لمس المرأة ناقضاً للوضوء.
- الاختلاف في فهم علة الحكم كما في الخلاف في مشروعية القيام للجنازة هل هو للمؤمن أم للكافر؟ وهل يقام تعظيماً للملائكة أم لهول الموت؟ أم أنه خاص بالكافر حتى لا تعلو جنازة الكافر رأس المسلم؟
- الجهل بالدليل لعدم بلوغه، مثاله: خفي على عمر حكم دخول أرض الطاعون، بل وعلى كثير من الصحابة، فاختلفوا حتى أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
- عدم الوثوق بصحة الدليل الذي عند الآخرين، فقد يضعف العالم المخالف الحديث في حين يصححه الآخرون، لاختلاف العلماء في تعديل أحد الرواة، أو لعلة يراها في السند أو المتن تجعل الرواية شاذة أو لغير ذلك من أسباب رد الرواية مما هو مسطر في كتب علم الحديث.
ومن ذلك قصة عمر مع فاطمة بنت قيس حين رد حديثها بقوله: (لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت) [مسلم ح1480].
- الاختلاف في دلالات الألفاظ والنصوص لكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً كقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا طلاق ولا عتاق في إغلاق)) [أحمد ح25828، أبو داودح2193 وابن ماجه ح2046]. فقد اختلفوا في تفسير الإغلاق ففسره بعضهم بالإكراه، وآخرون بالغضب، وآخرون بغياب العقل بثورة الغضب. وتبعاً لذلك اختلف الفقهاء في بعض أحكام الطلاق.
ومثله قد وقع من الصحابة عام الخندق كما في الصحيحين عندما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة)) [البخاري ح946، ومسلم ح1770]. فتمسك بعضهم بظاهر النص ففاتتهم الصلاة، وتمسك الآخرون بمفهوم النص والمراد منه، وهو الإسراع فصلوا وهم في الطريق، قال ابن عمر: (ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحداً منهم).
خامساً: آداب ينبغي مراعاتها عند الخلاف:
ثمة آداب ينبغي على علماء المسلمين وعامتهم مراعاتها والقيام بحق المخالف فيها، ومنها:
1- إحسان الظن بالعلماء وأن لا يعتقد أنهم تعمدوا ترك الحق الذي بان له – وقد يكون هو المخطئ -، وعليه فلا يعتقد هلكتهم في خلافهم له ،بل يلتمس لهم العذر في ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ فله أجر)) [البخاري ح7352، ومسلم ح1716].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد منها، وإما لرأي رأوه، وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]. وفي الصحيح قال: ((قد فعلت)) [مسلم ح126] [الفتاوى 19286].
ومنه قول علي رضي الله عنه لعمر بن طلحة بن عبيد الله، وكان بينه وبين طلحة خلاف يوم الجمل: (إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك في الذين قال الله عز وجل فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]. [رواه الحاكم ح5613، والبيهقي في السنن ح16491].(77/3)
قال يحيى بن سعيد الأنصاري "ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه" [جامع بيان العلم 2/80].
ويقول الذهبي عن التابعي قتادة السدوسي: "كان يرى القدر نسأل الله العفو .. ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه .. إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك". [سير أعلام 7/271].
وفي المتأولين في خلاف شاذ (من أحل نكاح المتعة أو ربا الفضل) يقول ابن تيمية في تحقق النصوص الشرعية التي جاءت بالوعيد لمن صنع ذلك، "فلا يجوز أن يقال: إن هؤلاء مندرجون تحت الوعيد، لما كان لهم العذر الذي تأولوا به، أو لموانع أخرى.." [رفع الملام عن الأئمة الأعلام ص66].
أن لا يؤدي الخلاف إلى جفوة وفتنة بين المختلفين، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام: "كانوا يتناظرون في المسائل العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة" [الفتاوى: 4/172–173].
ويقول "فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ" [الاستقامة 1/31].
ويقول يونس الصدفي: “ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيته فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة”.
قال الذهبي: "هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون" [سير أعلام النبلاء 10/16-17].
وقال محمد بن أحمد الفنجار:" كان لابن سلام مصنفات في كل باب من العلم، وكان بينه وبين أبي حفص أحمد بن حفص الفقيه مودة وأخوة مع تخالفهما في المذهب" [سير أعلام النبلاء10/630].
وصدق الشاعر حين قال:
في الرأي تضطغن العقول وليس تضطغن الصدور
أن لا يُنكر على المجتهد في اجتهاده وعمله بهذا الاجتهاد، ولا يمنع هذا من إقامة الحجة عليه أو المحاورة معه للخروج من الخلاف والوصول إلى الحق، بل هو الأولى، إذ مازال السلف يرد بعضهم على بعض في مسائل الفقه والفروع من المعتقد، وهذا من النصيحة للمسلمين.
وقد نقل عن كثير من السلف عدم الإنكار في مسائل الخلاف إذا كان للاجتهاد فيها مساغ.
يقول سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه. [الفقيه والمتفقه 2/69].
وروى عنه الخطيب أيضاً أنه قال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً عنه من إخواني أن يأخذ به. [الفقيه المتفقه 2/69].
ويقول أحمد فيما يرويه عنه ابن مفلح: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم.
ويقول ابن مفلح: لا إنكار على من اجتهد فيما يسوغ منه خلاف في الفروع. [الآداب الشرعية 1/186].
قال النووي: "ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً" [شرح النووي على صحيح مسلم 2/24].
ويقول ابن تيمية: "مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه" [مجموع الفتاوى20/207].
وسئل القاسم بن محمد عن القراءة خلف الإمام فيما لم يجهر به فقال: إن قرأت فلك في رجال من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، وإذا لم تقرأ فلك في رجال من أصحاب رسول الله أسوة. [التمهيد، ابن عبد البر 11/54].
وعبر الفقهاء عن هذا بقاعدتهم التي تقول: الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. [الأشباه والنظائر، ابن نجيم ص105].
عن أنس قال: (إنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقصر) [البيهقي في السنن ح5225].
العمل على رفع الخلاف بالوسائل الشرعية:
الخلاف شر، وينبغي على المسلمين العمل على رفعه، طلباً للحق، وحفظاً لوحدة المسلمين، وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]، فقولنا بأن الخلاف في المسألة سائغ لا يمنع من تحري الحق، والمحاورة والمناظرة بين أهل العلم للوصول إلى مراد الشرع في المسالة. ولأجل هذا دونت مئات الكتب التي تتحدث في مواطن الاختلاف وموارد النزاع.(77/4)
وفي الحوار ينبغي على المسلم أن يتواضع لإخوانه، وأن يلتزم طلب الحق في حواره معهم كما علمنا الله بقوله في مجادلتنا للكافرين {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ} [سبأ:24]. وينبغي أن يكون جداله معهم بالتي هي أحسن فقد قال الله في جدال أهل الكتاب {وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وقال في حق غيرهم {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83] قال القرطبي: "وهذا كله حض على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس ليناً، ووجهه منبسطاً طلقاً مع البر والفاجر والسني والمبتدع من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه.
ثم قال: فيدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي" [الجامع لأحكام القرآن 2/16]. وكلام القرطبي لا يمنع ولا يرفع ما ذكره العلماء في هجر المبتدع أو الفاسق، فذلك أيضاً من وسائل الدعوة التي قد تردع عن الفسق والبدعة.
سادساً : صور من اختلاف السلف تبرز أدبهم رحمة الله عليهم:
- قال النبي لأصحابه يوم بنى قريظة: ((لا يصلين أحد العصر إلا فى بني قريظة)) فأدركتهم العصر فى الطريق فقال قوم لا نصلى إلا فى بنى قريظة وفاتتهم العصر. وقال قوم :لم يرد منا تأخير الصلاة فصلوا في الطريق ((فلم يعب واحداً من الطائفتين))، أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر. قال شيخ الإسلام:" وهذا وإن كان في الأحكام فما لم يكن من الأصول المهمة فهو ملحق بالأحكام" [مجموع الفتاوى 24/172].
- ابن مسعود وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما على كثرة التشابه بين منهجهما الفقهي أوصل ابن القيم المسائل التي اختلفوا فيها إلى مائة مسألة منها:
ابن مسعود كان ينهى عن وضع اليدين على الركب في الركوع ويأمر بالإطباق وعكسه عمر.
اختلفا في الرجل زنا بامرأة ثم تزوجها فيرى ابن مسعود أنهما لا زالا يزنيان حتى ينفصلا ويخالفه عمر. [إعلام الموقعين 2/237].
ومع ذلك انظر ثناءها على بعضهما.يقول عمر عن ابن مسعود: (كنيف ملئ فقهاً أو علماً آثرت به أهل القادسية) [سير أعلام النبلاء 1/491]. ويقول ابن مسعود عن عمر: (كان للإسلام حصناً حصيناً يدخل الناس فيه ولا يخرجون، فلما أصيب عمر انثلم الحصن) [المستدرك ح4522].
- واختلف الصحابة في توريث الإخوة مع وجود الجد، فكان زيد وعلي وابن مسعود لا يرونه، وأما ابن عباس فيخالفهم ويقول: (ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً) وقال: (لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) [مصنف عبد الرزاق ح19024].
ورغم هذه الثقة العارمة برأيه فإنه ذات يوم رأى زيداً على دابته فأخذ بخطامها وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا، فقال زيد: أرني يدك، فأخرج ابن عباس يده فقبلها زيد وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم [تقبيل اليد، أبو بكر المقري ص 95].
ولما دفن زيد قال ابن عباس: (هكذا ذهاب العلم، لقد دفن اليوم علم كثير) [البيهقي في السنن 6/211، الحاكم ح5810].
- ووقع بين الصحابة خلاف أوقع بينهم قتلاً وقتالاً، لكنه لم يمنع من ورود بعض صور محمودة منها:
1- خلو قلوبهم من الغل، ومنه قول مروان بن الحكم (ما رأيت أحداً أكرم غلبة من علي، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل وناد منادٍ: ولا يذفف (يجهز) على جريح) [رواه البيهقي في السنن ح16523].
2- ونال أحدهم من عائشة رضي الله عنها يوم الجمل وسمعه عمار فقال: (اسكت مقبوحاً منبوحاً، أتؤذي محبوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشهد أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة) [الترمذي ح3888].
3- ولما قتل ابن خيري رجلاً وجده مع زوجته، رفع الأمر إلى معاوية فأشكل ذلك عليه فكتب إلى أبي موسى أن يسأل له علياً فكتب إليه علي بالجواب. [الموطأ ح1447].
4- ولما وصف ضرار بن حمزة الكناني علياً بين يدي معاوية: بكى معاوية وجعل ينشف دموعه بكمه، ويقول لمادح علي رضي الله عنه:كذا كان أبو الحسن رحمه الله. [الاستيعاب 4/1697].
- رغم الخلاف الشديد بين أهل الرأي والحديث يقول شعبة عند وفاة أبي حنيفة (لقد ذهب معه فقه الكوفة، تفضل الله عليه وعلينا برحمته). ويقول الشافعي: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة" [سير أعلام النبلاء 6/403]
- وكذا قيل لأحمد: إن كان الإمام خرج منه الدم ولم يتوضأ هل يصلي خلفه؟ قال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب. [الفتاوى 20/364].(77/5)
- صلى الشافعي الصبح في مسجد أبي حنيفة الصبح فلم يقنت ولم يجهر ببسم الله تأدباً مع أبي حنيفة رحمهما الله [طبقات الحنفية 1/433]. قال القرطبي: "كان أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية وإن كانوا لا يقرأون البسملة لا سراً ولا جهراً وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد" [الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 23/375].
- ويتحدث الذهبي عن ابن خزيمة وتأوله حديث الصورة فيقول: "فليُعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه لقل من يسلم من الأئمة معنا" [سير أعلام النبلاء 14/374].
- يقول الذهبي في ترجمة قتادة :"وكان يرى القدر نسأل الله العفو ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده ولا يسأل عما يفعل، ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق واتسع علمه وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك" [سير أعلام النبلاء 5/271 ].
- يقول الإمام أحمد بن حنبل: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً" [سير أعلام النبلاء 11/371].
ويقول: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة" [سير أعلام النبلاء 14/40].
ويقول الذهبي في تعليقه على اختلاف الناس في أبي حامد الغزالي بين مادح وذام: "مازال العلماء يختلفون ويتكلم العالم في العالم باجتهاده، وكل منهم معذور مأجور، ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور، وإلى الله ترجع الأمور" [سير أعلام 19/322].
كتبه
د. منقذ بن محمود السقار
mongiz@maktoob.com(77/6)
أدبُ السنةِ في المرض والطب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الأمراض التي لا يكاد ينجو منها أحد، ولا يسلم منها بشر، تختلف من شخص لآخر ومن مرض لمرض، وقد جعل الله لها علاجاً عرفه من عرف وجهل من جهل، فما على المسلم إلا أن يصبر على ما أصابه ويطلب علاجها من وسائلها المشروعة.
المرض يكفر الله به الخطايا:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى، حتى الشوكة يُشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه"1، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك فقلت يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً، قال: "أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، قلت: ذلك أن لك أجرين، قال: "أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفَّر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها"2.
الصبر عند المرض:
على المسلم أن يصبر على ما يصيبه من مرض، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه، وما أعطي العبد عطاء خيراً وأوسع له من الصبر. عن صهيب بن سنان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له"3.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوَّضتُه منهما الجنة" يريد عينيه4.
عيادة المريض:
من أدب الإسلام أن يعود المسلم المريض ويتفقد حاله، فعن أبي موسى -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني"5، ومن حق أخيك المسلم عليك إذا مرض أن تعده فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "حق المسلم على المسلم ست" قيل: ما هنَّ يا رسول الله؟ قال: "إذا لقيتَه فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه"6.
فضل عيادة المريض:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من عاد مريضاً نادى مناد من السماء طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزل7.
وعن ثوبان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع"، قيل يا رسول الله: ما خرفة الجنة؟ قال: جَنَاه8.
وعن علي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة"9.
آداب العيادة:
يستحب في العيادة أن يدعو العائد للمريض، ويدخل السرور على قلبه، ويقول له: "لا بأس عليك طهور إن شاء الله"10، ولا يطيل الجلوس عنده إلا إذا كان المريض يرغب ذلك، ويرقيه بالقرآن، لا سيما سورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين11.
التَّداوي:
التَّداوي بالأدوية المباحة لا بأس به، بل ذهب بعض العلماء إلى تأكد ذلك حتى قارب به الواجب؛ فقد جاءت الأحاديث بإثبات الأسباب والمسببات، والأمر بالتداوي، فعن جابر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله"12.
وعن أسامة بن شريك قال: قالت الأعراب: يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال:"نعم يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء، أو قال: دواء، إلا داء واحد" قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال: الهرم13.
ولا بأس بالتداوي بالأدوية المباحة على أيدي الأطباء العارفين بتشخيص الأمراض وعلاجها في المستشفيات وغيره14.
حرمة التداوي بالحرام:
لا يجوز التداوي بمحرم؛ لما في الصحيح عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم15، وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تداووا بحرام"16، وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في الخمر: "إنه ليس بداوء ولكنه داء".(78/1)
وكذلك يحرم التداوي بما يمس العقيدة؛ من تعليق التمائم المشتملة على ألفاظ شركية أو أسماء مجهولة أو طلاسم أو خرز أو خيوط أو قلائد أو حلق تلبس على العضد أو الذراع أو غيره، يعتقد فيها الشفاء ودفع العين والبلاء؛ لما فيها من تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وذلك كله من الشرك أو من وسائله الموصلة إليه، ومن ذلك أيضاً التداوي عند المشعوذين من الكهان والمنجمين والسحرة والمستخدمين للجن؛ فعقيدة المسلم أهم عنده من صحته، وقد جعل الله الشفاء في المباحات النافعة للبدن والعقل والدين، وعلى رأس ذلك القرآن الكريم والرقية به والأدعية المشروعة17.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "ومن أعظم علاجات المرض فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء والتضرع إلى الله والتوبة، والتداوي بالقرآن الكريم، وتأثيره أعظم من الأدوية، لكن بحسب استعداد النفس وقبولها" انتهى18.
نسأل الله أن يعافينا في أجسامنا ويمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحيانا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
________________________________________
1 - متفق عليه.
2 - رواه البخاري.
3 - رواه مسلم.
4 - رواه البخاري.
5 - رواه البخاري، والعاني الأسير.
6 - رواه مسلم.
7 - رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني في سنن ابن ماجه (1184).
8 - رواه مسلم.
9 - رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن، وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (5767).
10 - رواه البخاري.
11 - الملخص الفقهي (صـ 21).
12 - رواه مسلم.
13 - رواه أبو داود والترمذي واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2038)، وصحيح الجامع (2930).
14 - راجع الملخص الفقهي (صـ 209-210).
15 - رواه البخاري تعليقاً.
16 - رواه أبو داود والبيهقي، وصححه الألباني في الصحيحة (1633).
17 - راجع: الملخص الفقهي (صـ210).
18 - زاد المعاد (4/130).(78/2)
أدلة اثبات المعبود لمن يبحث عنه
* محمد الأديب
لاثبات وجود المعبود الذي هو خليق وجدير بأن يكون معبوداً لهذه الانسانية، ومصدراً للهداية السماوية، ومنبعاً لكل فضيلة، ووسيلة لكل خير وحسنة، ومرشداً لكل ما فيه الخير والرفاه والسعادة الأزلية الأبدية، نورد بعض الأدلة والبراهين العقلية والعلمية التي لا يمكن أن يرفضها ذوو العقول، وأولوا الألباب وهي:
1 ـ أن كل نفس لا تخلو من جهتين:
إما أن تكون هي التي صنعت نفسها وكانت موجودة، أو صنعتها وكانت معدومة، فإن كانت صنعتها وهي موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فانك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئاً فلابد من وجود صانع صنع الأشياء ولم يصنع.
2 ـ لابد لكل مصنوع من صانع:
فكيف يمكن أن تخلق السماوات بما فيها، من النجوم والكواكب والأقمار والشموس، والأرض وما عليها من الحيوانات والنباتات وما في باطنها من الماء والمعادن فلا بد من وجود من خلقها وسواها وهو الله تعالى.
3 ـ كيف تكونت أجسام الحيوانات بهذه الصناعة البديعة؟ ولأي المقاصد وضعت أجزاؤها المختفة؟
هل يعقل أن تصنع العين الباصرة بدون علم بأصول الأبصار ونواميسه والأذن بدون المام بقوانين الصوت؟
كيف يحدث أن حركات الحيوانات تتجدد بارادتها؟
ومن أين هذا الالهام الفطري في نفوس الحيوانات؟
فان هذه الكائنات كلها في قيامها على أبدع الأشكال وأكملها، ألا تدل على وجود مَن هو منزه عن الجسمانية، حي حكيم، موجود في كل مكان، يرى حقيقة كل شيء في ذاته، فطبعاً ذلك هو الله جل شأنه.
4 ـ من الجلي الواضح بأنه لا يوجد أي سبب طبيعي استطاع أن يوجه جميع الكواكب وتوابعها للدوران في جهة واحدة وعلى مستوى واحد بدون حدوث أي تغيير يذكر، كما يصرح بهذا جميع العلماء والفلكيين بالنظر لهذا الترتيب يدل وجود حكمة سيطرت عليه وتلك هي (الله تعالى).
5 ـ ان في تكوين الأجرام السماوية التي استطاعت الذرات المبعثرة أن تنقسم إلى قسمين:
القسم المضيء منها انحاز إلى جهة لتكوين الأجرام المضيئة بذاتها كالشمس والنجوم.
والقسم المعتم تجمع في جهة أخرى لتكوين الأجرام المعتمة كالكواكب المعتمة وتوابعها (الثابت في علم الفلك) لا يعقل حصوله كما هو الظاهر إلا بفعل عقل لا حد له وهو الله عظمت قدرته.
6 ـ في مثل هذا العصر العلمي الذي وصلت درجة العلوم والمكتشفات والمخترعات إلى أعلى مراتبها، وبلغت أقصى حدودها، بما أوجدتها تلك العلوم من الأشياء والأدوات والآلات التي تحير العقول، فانها لم تتوصل ولن تتوصل إلى خلق انسان أو حيوان أو نبات بتركيبه الحقيقي قادر على القيام بميمزات الاحياء أو لاكتشاف ما يدفع عن الانسان خطر الموت.
فينظر من هذا كله انه لابد لوجود قوة جبارة قادرة فوق القوة البشرية المتصورة متصفة بصفات أرقى مما يمكن أن يتوصل البشر إلى معرفتها والتي أحدثت هذا العالم وهي (الله جل شأنه).
7 ـ من المحقق أن الحركات الحالية للكواكب لا يمكن أن تنشأ من مجرد فعل الجاذبية العامة، لأن هذه القوة تدفع الكواكب نحو الشمس فيجب لأجل أن تدور هذه الكواكب حول الشمس أن توجد يد إلهية تدفعها على الخط المماس لمداراتها.
8 ـ أن الممكنات الموجودة سواء أكانت متناهية أو غير متناهية قائمةب وجود، فذلك الوجود إما أن تكون مصدره ذات الامكان وماهيات الممكنات وهو باطل لأنه من الماهيات الممكنة بمقتضى الوجود.
فتعين أن يكون مصدره سواها وهو الواجب بالضرورة وهو الله سبحانه وتعالى.
9 ـ ان جملة الممكنات الموجودة ممكنة بداهة وكل ممكن محتاج إلى سبب يعطيه الوجود.
فثبت ان للممكنات الموجودة موجداً واجب الوجود وهو الباري جلت قدرته.
10 ـ لما كان العالم حادثاً وانه لم يوجد من ذاته لأن الحصول على الوجود حدث يقتضي له الفعل، فمن الضرورة أن يكون موجوداً أو لا أو غير العالم أخرجه من العدم إلى الوجود.
ومن استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية له يحكم العقل على أن هذا الوجود الذي اوجد العالم وما فيه هو موجود أول واجب الوجود بذاته وهو مبدأ كل موجود وهذا الموجود الأول هو الذي ندعوه (بالله تعالى).
11 ـ ان أول انسان نشأ في حضن الطبيعة ومتع النظر في هذا الكون الفسيح أذعن لأول وهلة إلى أن له مبدعاً أبدعه وموجوداً أوجده وذلك الفجر الذي يطرأ عليه عند اهتمامه بأمر نفعه الذاتي ودرأ الكوارث الطبيعية عن نفسه مهما توسعت لديه الحيلة وحصوله على ما لم يكن بحسبانه من غير داع وسقوط ما في يده بعد أشد الحرص عليه بالرغم عنه وإخضاعه لمن هو أشد منه قوة فمن هذه النقائض وفسخ العزائم ونقض الهمم ونظائرها علم بأن لهذه الارادات الخفية، والالهامات الغريبة مريداً يصرفها بمشيئته.
وذلك المريد الفعال هو الله الخالق.(79/1)
12 ـ ان نشوة الأزهار الجميلة الزاهية بألوانها ذات العطور الشذية من تلك المادة الجامدة التي لا حس لها ولا حراك وحدوث الأثمار اللذيذة الشهية من ذات هذه الجامدة على ما فيها من أريج فوّاح والتي حيرت عقول علماء الطبيعة، إذ لا يدرون كيف تستحيل هذه المواد الأرضية إلى أجزاء حية صالحة، لأن تكون أجزاء النباتات العفنة كيف لا يأخذ كل نبات إلا المواد الضرورية له دون سواه، مع ان المواد كلها موجودة في التربة على السواء.
فهل جاءت كلها على سبيل الصدفة العمياء؟
كلا! بل لابد أن يكون لها من يدبرها وهو الله المدبر الحكيم.
13 ـ لو دققنا بنظر الاختبار والتفحص بيضة طير من الطيور ولاحظنا الطبقات التي تحتوي عليها تلك البيضة من قشرة كلسية خارجية صلبة لحفظها من الطوارئ الخارجية وقشرة خفيفة هلامية ثابتة ثم طبقتي الأح والمح اللذين لا يختلطان ولا يمتزجان معاً مهما اهتزت البيضة ورجت ومهما بقيت وفي أي مكان وضعت.
فما هي يا ترى تلك القوة التي تحول دون امتزاجهما التي سببت تركيبهما على هذا الترتيب والتنسيق والنظام؟
وما هي تلك القوة التي تخرج من هذه البيضة البسيطة التي لا يمكن رؤية أي شيء منها بأية آلة كانت سوى ما ذكر من طبقاتها الملونة البيضاء والصفراء ذلك الطائر الجميل الريش كالطاووس مثلاً أو ذلك الطائر المغرد الجميل كالببغاء.
أهي الطبيعة أو الصدفة؟
كلا! ثم كلا! إذاً لو فكر ملياً لوجد أنها هي: (الله القادر البارئ المصور).
14 ـ لو وضعت قطرة من (المني) تحت المجهر لما ظهرت فيها إلا تلك الحيوانات الصغيرة.
فلو فكر الانسان في تلك القوة الجبارة التي تجعل من هذه القطرة المنوية التي ليس فيها إلا ما هو أشبه بالعلق الصغير ذلك الطفل ذو اليدين والرجلين وذو الحواس الخمس الذي تحير خلقته العقول ثم يبدأ هذا الطفل رويداً رويداً بالنمو والتكامل حتى يصبح انساناً.
أيمكن العقل أن يصدق بأنها صارت على سبيل الصدفة وعلى منهاج الطبيعة؟
أليس هناك ما يجب أن يصدقه العقل من القوة الكامنة في ما وراء هذه الطبيعة التي خلقت منها الانسان؟ والتي تدبر أموره وتسير شؤونه في الحياة؟
فان تلك القوة العظيمة الحكيمة المدبرة الخالقة هي (الله تعالى) جلت قدرته.
15 ـ ان سعة حيلة الحياة في تحقيق أغراضها يدل على تدبير عقل منبث في خلالها جميعاً.
فلم يستطع انسان ما أن يدرك كنه هذه الحياة فهي لا وزن لها ولا طول ولا عرض ولا كثافة، ولكنها تنطوي على قوة فالجذر النامي مثلاً يشق الصخر شقاً، وقد تغلبت الحياة على الماء واليابسة والجو، وسيطرت على العناصر.
فمن الذي أوجدها في الأرض (غير الله تعالى)؟
16 ـ ان حكمة الحيوان تنطق بلسان لا تردد حجته بأن لها خالقاً كريماً بث الغريزة في حيوانات صغيرةك انت ولولا هذه الغريزة لكانت أحياء عاجزة.
ان سمك السلمون الصغير، يقضي سنوات في البحر، ثم يعود إلى نهره، ويشق طريقه في النهر على الجانب الذي يصب فيه الجدول الذي ولد فيه.
فمن يرجعه إلى مسقط رأسه بمثل هذه الدقة العجيبة؟
وإذا نقلته إلى جدول آخر غير جدوله أدرك من فوره انه ضل طريقه فيكافح لكي يعود إلى مجرد النهر الكبير ثم ينقلب مواجهاً تياره ويمضي حتى ينتهي إلى غايته على أدق وجه.
والزنبور يقهر الجدجد ثم يحفر حفرة صغيرة في الأرض ويلدغ الجدجد حيث ينبغي له أن يلدغه حتى يموت بل لكي يفقد وعيه ويظل حياً يصلح للأكل، فكأنه لحم محفوظ، ثم تضع أنثى الزنابير في المكان الصالح حتى اذا انفلقت عن صغار الزنابير استطاعت أن تأكل من الجدجد دون أن تميته فان لحم الجدجد الميت يقتلها ثم تطير الأم وتموت فلا تقع عينها على صغارها أبداً ولابد أن تكون أنثى الزنابير قد أتمت كل هذا على أوفى وجه وأدقه منذ المرة الأولى وفي كل مرة، ولو لم تفعل ذلك لما كان في الدنيا زنابير.
ولا يسعنا أن تعلل هذه الأساليب الغامضة بالتكيف والملائمة بل هي ممنوحة منه سبحانه وتعالى.
17 ـ في الانسان شيء أكثر من غريزة الحيوان ذلك هو قدرة العقل التي تبرهن للانسان أنها لم تخلق صدفة بل خلقها خالق عظيم الشأن وهو الله. فبفضل العقل البشري نستطيع أن نتأمل في الرأي القائل بأننا بلغنا ما بلغنا، لأننا تلقينا قبساً من ذلك العقل الشامل.
18 ـ ان ما نراه في الطبيعةم ن أساليب التدبير يقسرنا على أن نرى أن حكمة لا حدود لها هي وحدها القادرة على أن تنفذ الغيب وتدبر الأمر بمثل هذه القدرة والرشد.
19 ـ ان قدرة الانسان على أن يتصور فكرة وجود الله هي نفسها برهان فذ على وجوده تعالى.(79/2)
فان هذا التصور ينبثق من قدرة علوية في الانسان، لا يشاركه فيها سائر الأحياء ـ هي قدرة التخيل، وبها يستطيع الانسان دون غيره من الأحياء، أن يجد الدليل على أشياء لا يراها، وان الآفاق التي تفتحها هذه القدرة أمام عينيه لهي آفاق لا حدود لها، والحق أن تخيل الانسان إذا ما دنا من مراتب الكمال، وصار حقيقة روحية، استطاع أن يتبين به من خلال دلائل النظام والقصد في الكون تلك الحقيقة العظيمة إن قدرة السماء في كل مكان وكل شيء وإن الله في كل مكان وعند كل شيء ولكنه أدنى ما يكون إلينا في قلوبنا.
المصدر :الايمان والعلم الحديث(79/3)
أربعات وخمسات
قال ابن القيم رحمه الله :
أربعة أشياء تُمرض الجسم :
الكلام الكثير * النوم الكثير * والأكل الكثير *الجماع الكثير
وأربعة تهدم البدن :
الهم * والحزن * والجوع * والسهر
وأربعة تيبّس الوجه وتذهب ماءه وبهجته :
الكذب * والوقاحة * وكثرة السؤال عن غير علم * وكثرة الفجور
وأربعة تزيد في ماء الوجه وبهجته :
التقوى * والوفاء * والكرم * والمروءة
وأربعة تجلب الرزق :
قيام الليل * وكثرة الاستغفار بالأسحار * وتعاهد الصدقة * والذكر أول النهار وآخرة
وأربعة تمنع الرزق :
نوم الصبحة * وقلة الصلاة * والكسل * والخيانة
==============
خمس وخمس
خمس يرفعن خمسا :
التواضع يرفع العلماء، والمال يرفع اللئام، والصمت يرفع الزلل، والحياء يرفع الخلق، والهزل يرفع الكلفة!
وخمس يعرفن بخمس:
الشجرة تعرف من ثمارها، والمرأة عند افتقار زوجها، والصديق عند الشدة، والمؤمن عند الابتلاء، والكريم عند الحاجة
وخمس يطمسن خمسا:
الزور يطمس الحق، والمال يطمس العيوب، والتقوى تطمس هوى النفس، والمن يطمس الصدقة، والحاجة تطمس المبادئ!
وخمس يؤدين إلى خمس:
العين إلى الزنا، والطمع إلى الندم، والقناعة إلى الرضا، وكثرة السفر إلى المعرفة، والجدل إلى الخصام!
وخمس يكبرن خمسا:
النار بالهشيم، والشك بسوء الظن، والجفاء بعدم الإحسان، والخصام بعدم الصفح، والقطيعة بعدم السؤال!
وخمس قربهن سعادة:
الابن البار، والزوجة الصالحة، والصديق الوفي، والبار المؤمن، والعالم الفقيه!
وخمس يطبن بخمس:
الصحة برغد العيش، والسفر بحسن الصحبة، والجمال بحسن الخلق، والنوم براحة البال، والليل بذكر الله!
وخمس عمرهن قصير:
الحفظ في الكبر، والكلام بالنظر، والنعيم بالبطر، والصحبة في السفر، والعظة من العبر!
وخمس يأتين بخمس:
الاستغفار يأتي بالرزق، وغض البصر يأتي بالفراسة، والحياء يأتي بالخير، ولين الكلام يأتي بالمسألة، والغضب يأتي بالندم!
وخمس يصرفن خمسا:
لين الكلام يصرف الغضب، والاستعاذة بالله تصرف الشيطان، والتاني يصرف الندامة، وإمساك اللسان يصرف الخطأ، والدعاء يصرف شر القدر(80/1)
أربعون نصيحة لإصلاح البيوت
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ... أما بعد :
البيت نعمة
قال الله تعالى : " والله جعل لكم من بيوتكم سكناً " . سورة النحل الآية 80 .
قال ابن كثير – رحمه الله - : " يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده ، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها ويستترون وينتفعون بها سائر وجوه الانتفاع " .
ماذا يمثل البيت لأحدنا ؟ أليس هو مكان أكله ونكاحه ونومه وراحته ؟ أليس هو مكان خلوته واجتماعه بأهله وأولاده ؟
أليس هو مكان ستر المرأة وصيانتها ؟! قال تعالى : " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى " سورة الأحزاب الآية : 33
وإذا تأملت أحوال الناس ممن لا بيوت لهم ممن يعيشون في الملاجئ ، أو على أرصفة الشوارع ، واللاجئين المشردين في المخيمات المؤقتة ، عرفت نعمة البيت ، وإذا سمعت مضطربا يقول ليس لي مستقر ، ولا مكان ثابت ، أنام أحيانا في بيت فلان ، وأحيانا في المقهى ، أو الحديقة أو على شاطئ البحر ، ومستودع ثيابي في سيارتي ؛ إذن لعرفت معنى التشتت الناجم عن حرمان نعمة البيت .
ولما انتقم الله من يهود بني النضير سلبهم هذه النعمة وشردهم من ديارهم فقال تعالى :
" هو الذي أخرج الذين كفروا من ديارهم لأول الحشر " . ثم قال : " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار " . سورة الحشر ، الآية : 2
والدافع عند المؤمن للاهتمام بإصلاح بيته عدة أمور :
أولا : وقاية النفس والأهل نار جهنم ، والسلامة من عذاب الحريق : " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " سورة التحريم ، الآية : 6
ثانيا : عظم المسئولية الملقاة على راعي البيت أمام الله يوم الحساب :
قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه ، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " .
ثالثا : أنه المكان لحفظ النفس ، والسلامة من الشرور وكفها عن الناس ، وهو الملجأ الشرعي عند الفتنة :
قال صلى الله عليه وسلم : " طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " خمس من فعل واحد منهن كان على الله ، من عاد مريضا ، أو خرج غازيا ، أو دخل على إمامه يريد تعزيره وتوقيره ، أو قعد في بيته فسلم الناس منه وسلم من الناس " .
وقال صلى الله عليه و سلم : " سلامة الرجل من الفتنة أن يلزم بيته " .
ويستطيع المسلم أن يلمس فائدة هذا الأمر في حال الغربة عندما لا يستطيع لكثير من المنكرات تغييرا ، فيكون لديه ملجأ إذا دخل فيه يحمي نفسه من العمل المحرم والنظر المحرم ، ويحمي أهله من التبرج والسفور ، ويحمي أولاده من قرناء السوء .
رابعا : أن الناس يقضون أكثر أوقاتهم في الغالب داخل بيوتهم ، وخصوصا في الحر الشديد والبرد الشديد والأمطار وأول النهار وآخره ، وعند الفراغ من العمل والدراسة ، ولا بد من صرف الأوقات في الطاعات ، وإلا ستضيع في المحرمات .
خامسا : وهو أهمها ، أن الاهتمام بالبيت هو الوسيلة الكبيرة لبناء المجتمع المسلم ، فإن المجتمع يتكون من بيوت هي لبناته ، والبيوت أحياء ، والأحياء مجتمع ، فلو صلحت اللبنة لكان مجتمعا قويا بأحكام الله ، صامدا في وجه أعداء الله ، يشع الخير ولا ينفذ إليه شر .
فيخرج من البيت المسلم إلى المجتمع أركان الإصلاح فيه ؛ من الداعية القدوة ، وطالب العلم، والمجاهد الصادق ، والزوجة الصالحة ، والأم المربية ، وبقية المصلحين .
فإذا كان الموضوع بهذه الأهمية ، وبيوتنا فيها منكرات كثيرة ، وتقصير كبير ، وإهمال وتفريط ؛ فهنا يأتي السؤال الكبير :
ما هي وسائل إصلاح البيوت ؟.
وإليك أيها القارئ الكريم الجواب ، نصائح في هذا المجال عسى الله أن ينفع بها ، وأن يوجه جهود أبناء الإسلام لبعث رسالة البيت المسلم من جديد .
وهذه النصائح تدور على أمرين : إما تحصيل مصالح ، وهو قيام بالمعروف ، أو درء مفاسد وهو إزالة للمنكر .
وهذا أوان الشروع في المقصود .
تكوين البيت
نصيحة "1" : حسن اختيار الزوجة
" وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم " سورة النور الآية 32
ينبغي على صاحب البيت انتقاء الزوجة الصالحة بالشروط التالية :
" تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجملها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك " متفق عليه .
"الدنيا كلها متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " رواه مسلم 1468(81/1)
" ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة " رواه أحمد " 5/282" والترمذي وابن ماجه عن ثوبان صحيح الجامع 5231
وفي رواية " وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك خير ما اكتنز الناس " رواه البيهقي صحيح الجامع 4285
" تزوجوا الودود الولود إني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة " رواه أحمد و هو صحيح الإرواء 6/ 195
" عليكم بالأبكار فإنهن أنتق رحما ، وأعذب أفواها ، وأرضى باليسير " . وفي رواية " وأقل خبا " أي : خداعا رواه ابن ماجة السلسلة الصحيحة 623
وكما أن المرأة الصالحة واحدة من أربع من السعادة ، فالمرأة السوء واحدة من أربع من الشقاء ، كما جاء في الحديث الصحيح و فيه قوله : " فمن السعادة : المرأة الصالحة تراها فتعجبك ، وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك ، ومن السقاء : المرأة التي تراها فتسوؤك ، وتحمل لسانها عليك ، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها و مالك " رواه ابن حبان وهو في السلسلة الصحيحة 282
وفي المقابل لابد من التبصر في حال الخاطب الذي يتقدم للمرأة المسلمة ، والموافقة عليه حسب الشروط التالية :
" إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض".
ولابد في كل ما سبق من حسن السؤال وتدقيق البحث وجمع المعلومات والتوثق من المصادر والأخبار حتى لا يفسد البيت أو ينهدم .
والرجل الصالح مع المرأة الصالحة يبنيان بيتا صالحا لأن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا .
نصيحة " 2 " السعي في إصلاح الزوجة
إذا كانت الزوجة صالحة فبها ونعمت وهذا من فضل الله ، وإن لم تكن بذاك الصلاح ، فإن من واجبات رب البيت السعي في إصلاحها . وقد يحدث هذا في حالات منها :
أن يتزوج الرجل امرأة غير متدينة أصلا ؛ لكونه لم يكن مهتما بموضوع التدين هو نفسه في مبدأ أمره ، أو أنه تزوجها على أمل أن يصلحها ، أو تحت ضغط أقربائه مثلا ، فهنا لابد من التشمير في عملية الإصلاح .
ولابد أن يعلم الرجل أولا أن الهداية من الله ، والله هو الذي يصلح ، ومن منه على عبده زكريا قوله فيه : " وأصلحنا له زوجه " سورة الأنبياء ، الآية 90
سواء كان إصلاحا بدنيا أو دينيا ، قال ابن عباس : كانت عاقرا لا تلد فولدت ، وقال عطاء : كان في لسانها طول فأصلحها الله ولاستصلاح الزوجة وسائل منها :
الاعتناء بتصحيح عبادتها لله بأنواعها على ما سيأتي تفصيله .
السعي لرفع إيمانها في مثل :
حضها على قيام الليل .
وتلاوة الكتاب العزيز .
وحفظ الأذكار والتذكير بأوقاتها ومناسباتها .
وحثها على الصدقة .
قراءة الكتب الإسلامية النافعة .
سماع الأشرطة الإسلامية المفيدة ؛ العلمية منها والإيمانية ومتابعة إمدادها بها .
اختيار صاحبات لها من أهل الدين تعقد معهن أواصر الاخوة ، وتتبادل معهن الأحاديث الطيبة والزيارات الهادفة .
درء الشر عنها وسد منافذه عليها ، بإبعادها عن قرينات السوء وأماكن السوء .
الإيمانيات في البيت
نصيحة " 3 " : اجعل البيت مكانا لذكر الله
قال صلى الله عليه وسلم : " مثل البيت الذي يذكر الله فيه ، والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت " .
فلابد من جعل البيت مكانا للذكر بأنواعه ؛ سواء ذكر القلب ، وذكر اللسان ، أو الصلوات وقراءة القرآن ، أو مذاكرة العلم الشرعي وقراءة كتبه المتنوعة .
وكم من بيوت المسلمين اليوم هي ميتة بعدم ذكر الله فيها ، كما جاء في الحديث ، بل ما هو حالها إذا كان ما يذكر فيها هو ألحان الشيطان من المزامير والغناء ، والغيبة والبهتان والنميمة ؟! …
وكيف حالها وهي مليئة بالمعاصي والمنكرات ، كالاختلاط المحرم والتبرج بين الأقارب من غير المحارم ، أو الجيران الذين يدخلون البيت ؟!
كيف تدخل الملائكة بيتا هذا حاله ؟! فأحيوا بيوتكم رحمكم الله بأنواع الذكر .
نصيحة " 4 " : اجعلوا بيوتكم قبلة
والمقصود اتخاذ البيت مكانا للعبادة .
قال الله – عز وجل - : " وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين " سورة يونس الآية 87
قال ابن عباس : أمروا أن يتخذوها مساجد .
قال ابن كثير : " وكان هذا - والله أعلم – لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه ، وضيقوا عليهم ، أمروا بكثرة الصلاة كما قال الله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " سورة البقرة الآية 153 . وفي الحديث : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى " .
وهذا يبين أهمية العبادة في البيوت وخصوصا في أوقات الاستضعاف ، وكذلك ما يحصل في بعض الأوضاع عندما لا يستطيع المسلمون إظهار صلاتهم أمام الكفار . ونتذكر في هذا المقام أيضا محراب مريم وهو مكان عبادتها الذي قال الله فيه : " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " سورة آل عمران الآية 37(81/2)
وكان الصحابة – رضي الله عنهم – يحرصون على الصلاة في البيوت – في غير الفريضة – وهذه قصة معبرة في ذلك : عن محمود بن الربيع الأنصاري ، أن عتبان بن مالك – وهو من أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم ، وهو ممن شهدوا بدرا من الأنصار- أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ! قد أنكرت بصري وأنا اصلي لقومي ، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم ، وددت يا رسول الله أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سأفعل – إن شاء الله - " . قال عتبان : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر حين ارتفع النهار فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذنت له ، فلم يجلس حتى دخل البيت ، ثم قال : " أين تحب أن أصلي في بيتك ؟ " قال : فأشرت له إلى ناحية من البيت ، فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فكبر ، فقمنا فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم . رواه البخاري الفتح 1/519
نصيحة " 5 " : التربية الإيمانية لأهل البيت
عن عائشة – رضي الله عنها - قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصلي من الليل فإذا أوتر قال قومي فأوتري يا عائشة " . رواه مسلم ، مسلم بشرح النووي 6/23
وقال صلى الله عليه وسلم : " رحم الله رجلا قام من الليل فصلى فأيقظ امرأته فصلت ، فإن أبت نضح في وجهها الماء " . رواه أحمد وأبو داود ، صحيح الجامع 3488
وترغيب النساء في البيت بالصدقة مما يزيد الإيمان ، وهو أمر عظيم حث عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، بقوله : " يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار " . رواه البخاري ، الفتح 1/405
ومن الأفكار المبتكرة وضع صندوق للتبرعات في البيت للفقراء والمساكين ، فيكون كل ما دخل فيه ملكا للمحتاجين ؛ لأنه وعاؤهم في بيت المسلم . وإذا رأى أهل البيت قدوة بينهم يصوم أيام البيض ، والاثنين والخميس ، وتاسوعاء ، وعاشوراء ، وعرفة ، وكثيرا من المحرم وشعبان ، فسيكون دافعا لهم على الاقتداء به .
نصيحة " 6 " : الاهتمام بالأذكار الشرعية والسنن المتعلقة بالبيوت
ومن أمثلة ذلك :
أذكار دخول المنزل
روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله تعالى حين يدخل وحين يطعم ، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء هاهنا ، وإن دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال : أدركتم المبيت ، وإن لم يذكر اسم الله عند مطعمه قال : أدركتم المبيت والعشاء " . رواه الإمام احمد ، المسند 346:3 ، و مسلم 1599:3
أذكار الخروج من المنزل
روى أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا خرج الرجل من بيته فقال : بسم الله ، توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، فيقال له : حسبك قد هديت ، وكفيت ووقيت ، فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر : كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي ؟ " . رواه أبو داود والترمذي ، وهو في صحيح الجامع رقم 499
السواك
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ، إذا دخل بيته بدأ بالسواك " رواه مسلم كتاب الطهارة باب 15 رقم 44
نصيحة " 7 " : مواصلة قراءة سورة البقرة في البيت لطرد الشيطان منه
وفي هذا عدة أحاديث ومنها :
فال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة " رواه مسلم 1/539
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقروا سورة البقرة في بيوتكم ، فإن الشيطان لا يدخل بيتا يقرأ فيه سورة البقرة " . رواه الحاكم في المستدرك 1/561 و هو في صحيح الجامع 1170
وعن فضل الآيتين الأخيرتين منها ، وأثر تلاوتهما في البيت قال عليه الصلاة والسلام : " إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام ، وهو عند العرش ، وأنه أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ، ولا يقرأن في دار ثلاث ليال فيقربها الشيطان " رواه الإمام أحمد في المسند 4/274 و غيره و هو في صحيح الجامع 1799
العلم الشرعي في البيت
نصيحة " 8 " : تعليم أهل البيت
فريضة شرعية لابد أن يقوم بها رب الأسرة إنفاذا لأمره تعالى في الآية الكريمة : " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " سورة التحريم ، الآية :6 وهذه الآية أصل في تعليم أهل البيت وتربيتهم ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، وإليك أيها القارئ الكريم بعضا مما قاله المفسرون في هذه الآية ، بشأن ما يجب على رب الأسرة :
قال قتادة : يأمرهم بطاعة الله ، وينهاهم عن معصيته ، وأن يقوم عليهم بأمر الله يأمرهم به ، ويساعدهم عليه .
وقال الضحاك ومقاتل : حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه .
وقال علي – رضي الله عنه - : علموهم وأدبوهم .(81/3)
و قال الكيا الطبري – رحمه الله - : فعلينا تعليم أولادنا وأهلينا الدين والخير ، وما لا يستغنى عنه من الأدب . وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على تعليم الإماء وهن أرقاء ؛ فما بالك بأولادك وأهلك الأحرار .
قال البخاري – رحمه الله تعالى – في صحيحه : باب تعليم الرجل أمته وأهله . ثم ساق حديثه صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لهم أجران .. ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها ، وعلمها فأحسن تعليمها ، ثم أعتقها فتزوجها فله أجران "
قال ابن حجر – رحمه الله – في شرح الحديث : مطابقة الحديث للترجمة – أي عنوان الباب – في الأمة بالنص ، وفي الأهل بالقياس ، إذ الاعتناء بالأهل الحرائر في تعليم فرائض الله وسنن رسوله آكد من الاعتناء بالإماء .
وفي غمرة مشاغل الرجل ووظيفته وارتباطاته قد يغفل عن تفريغ نفسه لتعليم أهله ، فمن الحلول لهذا أن يخصص يوما يجعله موعدا عاما لأهل البيت ، وحتى غيرهم من الأقرباء لعقد مجلس علم في البيت ، ويعلم الجميع بهذا الموعد ، فينضبط حضورهم فيه ، ويتشجعوا لإتيانه ، ويصبح ملزما أمامهم ، وعند نفسه بالحضور ، وإليك ما حصل منه صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن .
قال البخاري – رحمه الله - : باب هل يجعل للنساء يوم على حده في العلم ، وساق حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : " غلبنا عليك الرجال ، فاجعل لنا يوما من نفسك ، فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن "
قال ابن حجر : ووقع في رواية سهل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة بنحو هذه القصة فقال : " موعدكن بيت فلانة ، فأتاهن فحدثهن " . فتح الباري 1/195
ويؤخذ من الحديث تعليم النساء في البيوت ، وحرص نساء الصحابة على التعلم ، وأن توجيه الجهود إلى الرجال فقط دون النساء تقصير كبير من الدعاة وأرباب البيوت .
وقد يقول بعض القراء : هب أننا خصصنا يوما ، وأخبرنا أهلينا بذلك ، فما الذي يقدم في هذه الجلسات ؟ وكيف نبدأ ؟
وجواباً لذلك أعرض عليك أخي القارئ الكريم اقتراحا في هذا الشأن يكون منهجا مبسطا ، لتدريس أهل البيت عموما ، وللنساء خصوصا .
تفسير العلامة ابن سعدي المسمى : " تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " . ويقع في سبعة مجلدات مفصل بأسلوب ميسر ، تقرا أو تقدم منه سور ومقاطع .
رياض الصالحين مع تناول أحاديثه بشيء من التعليقات والعظات ، والفوائد المستنبطة منها ، ويمكن الرجوع في هذا إلى كتاب : نزهة المتقين .
" حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النسوة " للعلامة صديق حسن خان .
كما أن من المهم أن تعلم المرأة بعض الأحكام الفقهية ، كأحكام الطهارة ، والدماء الطبيعية ، وأحكام الصلاة والزكاة ، والصيام والحج إذا استطاعته ، وبعض أحكام الأطعمة والأشربة ، واللباس والزينة ، وسنن الفطرة والمحارم ، وحكم الغناء والتصوير وغيرها ، ومن المصادر المهمة في هذا : فتاوى أهل العلم كمجموعة فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز ( رحمه الله ) ، والشيخ محمد بن صالح العثيمين ، و غيرهما من أهل العلم ، سواء المكتوب منها أو المسجل في الأشرطة .
ومما يتضمن جدول تعليم المرأة وأهل البيت تذكيرهم بالدروس والمحاضرات العامة التي يستطيعون حضورها للعلماء ، أو طلبة العلم الثقات ، لإيجاد عدة مصادر جيدة ومتنوعة للتعليم ، ولا ينسى في هذا المجال الاستماع إلى كثير من أنشطة إذاعة القرآن الكريم ، وتوجيه الاهتمام إليها ، ويدخل في إطار توفير وسائل التعليم أيضا : تذكير أهل البيت بالأيام المخصصة لحضور النساء في معارض الكتاب الإسلامي ، والذهاب بهن إليها بالشروط الشرعية .
نصيحة " 9 " : اصنع نواة لمكتبة إسلامية في بيتك
مما يساعد في تعليم أهل البيت ، وإتاحة المجال لتفقههم في الدين وإعانتهم على الالتزام بأحكام الشريعة ؛ عمل مكتبة إسلامية في البيت . ليس بالضرورة أن تكون كبيرة ، ولكن العبرة بانتقاء الكتب المهمة ، ووضعها في مكان يسهل تناولها وحث أهل البيت على قراءتها.
ركن في مجلس البيت الداخلي نظيف ومرتب ، ومكان مناسب لشيء من الكتب ، في غرفة نوم ، وفي مجلس الضيوف ، يتيح المجال للفرد في البيت كي يقرأ باستمرار .(81/4)
ومن إتقان المكتبة – والله يحب الإتقان – أن تحتوي على مراجع تصلح لبحث المسائل المختلفة ، وتنفع الأولاد في المدارس ، وأن تحتوي على كتب ذات مستويات مختلفة ، تصلح للكبار والصغار ، والرجال والنساء ، وكتب من أجل الإهداء للضيوف وأصدقاء الأولاد ، وزوار العائلة مع الحرص على الطبعات الجذابة المحققة والمخرجة الأحاديث ، ويمكن الاستفادة من معارض الكتاب لإنشاء مكتبة البيت بعد استشارة أهل الخبرة بالكتب . ومما يساعد في العثور على الكتاب ترتيب المكتبة حسب الموضوعات ، فكتب التفسير على رف ، والحديث على آخر .. والفقه على ثالث .. وهكذا ، ويقوم أحد أفراد العائلة بعمل فهرس ألف بائي وموضوعي ، لتسهيل البحث عن الكتب . وقد يتساءل كثير من الحريصين عن أسماء كتب إسلامية لمكتبة البيت .
وهاك أخي القارئ اقتراحات بهذا الشأن :
التفسير : تفسير ابن كثير ، تفسير ابن سعدي ، زبدة التفسير للأشقر ، بدائع التفسير لابن القيم ، أصول التفسير لابن عثيمين ، لمحات في علوم القرآن لمحمد الصباغ .
الحديث : صحيح الكلم الطيب ، عمل المسلم في اليوم والليلة " أو الصحيح المسند من أذكار اليوم والليلة " ، رياض الصالحين وشرحه نزهة المتقين ، مختصر صحيح البخاري للزبيدي ، مختصر صحيح مسلم للمنذري والألباني ، صحيح الجامع الصغير ، وضعيف الجامع الصغير ، صحيح الترغيب والترهيب ، السنة ومكانتها في التشريع ، قواعد وفوائد من الأربعين النووية لناظم سلطان .
العقيدة : فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " تحقيق الأرناؤوط " ، أعلام السنة المنشورة للحكمي " محقق " ، شرح العقيدة الطحاوية تحقيق الألباني ، سلسلة العقيدة لعمر سليمان الأشقر "8" أجزاء ، أشراط الساعة د. يوسف الوابل .
الفقه : منار السبيل لابن ضويان مع إرواء الغليل للألباني ، زاد المعاد ، المغني لابن قدامة ، فقه السنة ، الملخص الفقهي لصالح الفوزان ، مجموعة فتاوى العلماء " عبد العزيز بن باز ، محمد صالح العثيمين ، عبد الله بن جبرين " ، صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني والشيخ عبد العزيز بن باز ، ومختصر أحكام الجنائز للألباني .
الأخلاق وتزكية النفوس : تهذيب مدارج السالكين ، الفوائد ، الجواب الكافي ، طريق الهجرتين وباب السعادتين ، الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيم ، لطائف المعارف لابن رجب ، تهذيب موعظة المؤمنين ، غذاء الألباب .
السير والتراجم : البداية و النهاية لابن كثير ، مختصر الشمائل المحمدية للترمذي اختصار الألباني ، الرحيق المختوم للمباركفوري ، العواصم من القواصم لابن العربي تحقيق الخطيب والاستانبولي ، المجتمع المدني 1-2 للشيخ أكرم العمري ، سير أعلام النبلاء ، منهج كتابة التاريخ الإسلامي لمحمد بن صامل السلمي .
كما أن هناك عدد من الكتب الجيدة في المجالات المختلفة ، فمنها : كتب الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وكتب العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ، وكتب الشيخ عمر بن سليمان الأشقر ، وكتب الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم ، وكتب الأستاذ محمد محمد حسين ، وكتب الشيخ محمد جميل زينو ، وكتب الأستاذ حسين العوايشة في الرقائق ، و كتاب الإيمان لمحمد نعيم ياسين ، والولاء والبراء للشيخ محمد سعيد القحطاني ، والإنحرافات العقدية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر لعلي بن بخيت الزهراني ، المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية لعبد الله الشبانة ، المرأة بين الفقه والقانون لمصطفى السباعي ، الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتليفزيون لمروان كجك ، المرأة المسلمة إعداداتها ومسئولياتها لأحمد أبا بطين ، مسئولية الأب المسلم في تربية ولده لعدنان باحارث ، وحجاب المسلمة لأحمد البرازي ، وكتاب وجاء دور المجوس لعبد الله محمد الغريب ، وكتب الشيخ بكر أبو زيد ، وأبحاث الشيخ مشهور حسن سلمان .
وغير هذا كثير من النافع الطيب ، وما ذكرناه على سبيل المثال لا الحصر ، وهناك في عالم الكتيبات أشياء كثيرة نافعة ، سيطول بنا المقام إذا أردنا السرد ، فعلى المسلم الاستشارة والتمعن للانتقاء . ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين .
نصيحة " 10 " : المكتبات الصوتية في البيت
المسجل في كل بيت ممكن أن يعمل في الخير أو في الشر ، فكيف نؤثر في استخدامه ليكون مرضيا لله ؟
من الوسائل لتحقيق ذلك : عمل مكتبة صوتية في البيت تحوي طائفة من الأشرطة الإسلامية الجيدة ، للعلماء والقراء والمحاضرين ، والخطباء والوعّاظ .
إن سماع أشرطة التلاوة الخاشعة من أصوات بعض أئمة صلاة التراويح مثلا ، له تأثير عظيم على الأهل في البيت ، من جهة تأثرهم بمعاني التنزيل ، أو حفظهم من جراء تكرار ما يسمعون ، وكذلك من جهة حمايتهم بالسماع القرآني عن السماع الشيطاني من الألحان والأغاني ، لأن الآذان والصدور لا يصلح أن يختلط فيها كلام الرحمن بمزمار الشيطان .(81/5)
وكم لأشرطة الفتاوى من أثر في تفقيه أهل البيت بالأحكام المختلفة ، التي يتعرضون لها يوميا في حياتهم ، ومما يقترح في هذا الجانب سماع الفتاوى المسجلة للعلماء أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز ، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني ، والشيخ محمد العثيمين والشيخ صالح الفوزان ، وغيرهم من الثقات في العلم والدين .
ولابد أن يعتني المسلمون بالجهة التي يأخذون عنها الفتوى ، لأن هذا دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ، فالأخذ عمن عُلم بصلاحه وتقواه ، وورعه واعتماده على الأحاديث الصحيحة ، وعدم تعصّبه المذهبي ، وسيره مع الدليل ، والتزامه بالمذهب الوسط فلا تشدد ولا تساهل ، هو الخبير الذي نسأله " الرحمن فاسأل به خبيرا " سورة الفرقان الآية : 59 .
والسماع للمحاضرين الذين يعملون على توعية الأمة ، وإقامة الحجة ، وإنكار المنكر ، أمر مهم في بناء شخصية الفرد في البيت المسلم .
والأشرطة كثيرة والمحاضرين كثر والمهم أن يعرف المسلم سمات المنهج الصحيح للمحاضر حتى يحرص على أشرطته ويطمئن لسماعها . ومن تلك السمات :
أن يكون على عقيدة الفرقة الناجية ، أهل السنة والجماعة ، ملتزما بالسنة مفارقا للبدعة ، وسطا في منهجه لا من الغالين ولا من المفرطين المتساهلين .
أن يعتمد الأحاديث الصحيحة ويحذر من الأحاديث الضعيفة والموضوعة .
أن يكون على بصيرة بحال الناس وواقع الأمّة ، يضع الدواء على موضع الداء ، ويقدّم للناس ما يحتاجون إليه .
أن يكون قوّالا للحق ما أمكنه ، لا يتكلم بالباطل ولا يرضي الناس بسخط الله
وكم وجدنا في أشرطة الأطفال من تأثير كبير عليهم ، سواء في حفظهم لسور متعددة من قارئ صغير يتلو ، أو أذكار اليوم والليلة وآداب إسلامية ، وأناشيد هادفة ، ونحو ذلك .
إن وضع الأشرطة في أدراج بطريقة مرتبة تُسهّل الوصول إليها من ناحية ، وتحافظ على الأشرطة من التلف وعبث الأطفال من ناحية أخرى ، ولابد أن نسعى في نشر الشريط الجيد إهدائه أو إعارته للغير بعد سماعه . ووجود مسجل في المطبخ يفيد ربة البيت كثيرا ، وكذا في غرفة النوم يساعد على الاستفادة من الوقت لآخر لحظة .
نصيحة " 11 " : دعوة الصالحين والأخيار وطلبة العلم للزيارة في البيت
" رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا للمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تباراً " سورة نوح الآية : 28
إن دخول أهل الإيمان بيتك يزيده نورا ، ويحصل بسبب أحاديثهم وسؤالهم والنقاش معهم من الفائدة أمور كثيرة ، فحامل المسك إما أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، وجلوس الأولاد والإخوان والآباء وسماع النساء من وراء حجاب لما يُقال فيه تربية للجميع ، وإذا أدخلت خيّرا منعت سيّئا من الدخول والتخريب .
نصيحة " 12 " : تعلم الأحكام الشرعية للبيوت
ومن ذلك :
الصلاة في البيت :
أما الرجل فيقول صلى الله عليه و سلم في شأنه : " أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " رواه البخاري ، الفتح رقم 731
فالواجب أن تصلي في المسجد إلا من عذر ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا : " تطوع الرجل في بيته يزيد على تطوعه عند الناس ، كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده " رواه ابن أبي شيبة ، صحيح الجامع 2953 . وأما المرأة كلما كان مكان صلاتها أعمق كان أفضل ، لقوله صلى الله عليه و سلم " خير صلاة النساء في قعر بيوتهن" رواه الطبراني، صحيح الجامع 3311 .
أن لا يؤم غيره في بيته ، ولا يقعد في مكان صاحب البيت إلا بإذن : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم " لا يُؤَمُّ الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه " رواه الترمذي رقم 2772 . أي لا يتقدم عليه بالإمامة ولو كان غيره أقرأ منه في مكان يملكه ، أو له فيه سلطة كصاحب البيت في بيته أو إمام المسجد ، وكذلك لا يجوز لأحد أن يجلس في الموضع الخاص بصاحب البيت من فراش أو سرير إلا بإذنه .
الاستئذان :
" يا أيها الذي آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون "27" فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم " سورة النور الآيتين 27،28
" وأتوا البيوت من أبوابها " سورة البقرة الآية : 189
جواز دخول البيوت التي ليس فيها أحد بغير استئذان إذا كان للداخل فيها متاع كالبيت المعد للضيف : " ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون " سورة النور الآية 29(81/6)
عدم التحرج في الأكل من بيوت الأقرباء والأصدقاء ، وما ملك المرء مفتاحه من بيوت الأقرباء والأصدقاء من بيوت الآخرين إذا كانوا لا يكرهون ذلك : " ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً " سورة النور الآية 61
أمر الأطفال والخدم بعدم اقتحام غرفة نوم الأبوين بغير استئذان في أوقات النوم المعتادة : قبل صلاة الفجر ، ووقت القيلولة ، وبعد صلاة العشاء ، خشية أن تقع أعينهم على ما لا يناسب ، ولو رأوا شيئاً عرضاً في غير هذه الأوقات فيغتفر ، لأنهم من الطوافين الذين يشق منعهم ، قال تعالى : " يا آيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " سورة النور الآية 58 .
تحريم الاطلاع في بيوت الآخرين بغير إذنهم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اطلع في بيت قوم بغير إذن ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص " رواه أحمد ، المسند 2/385 وهو في صحيح الجامع 6046
عدم خروج ولا إخراج المطلقة الرجعية من بيتها طيلة وقت العدة مع الإنفاق عليها : قال تعالى : " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " سورة الطلاق الآية 1 .
جواز هجر الرجل لامرأته الناشز في البيت أو في خارج البيت حسب المصلحة الشرعية : فأما هجرها في البيت فدليله قول الله تعالى : " واهجروهن في المضاجع " سورة النساء الآية 34 ، وأما هجرها خارج البيت فكما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما هجر نسائه في حُجرهن ، وأعتزل في مشربة خارج بيوت نسائه رواه البخاري ، كتاب الطلاق باب في الإيلاء .
ولا يبيت وحيداً في البيت : عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوحدة ، أن يبيت الرجل وحده أو أن يسافر وحده رواه أحمد في المسند 2/91 وهذا النهي لما في الوحدة من الوحشة ونحوها ، كهجوم عدو أو لص أو مرض ، فوجود الرفيق معه يدفع عنه طمع العدو واللص ويسعفه عند المرض انظر الفتح الرباني 5/64 .
لا ينام على ظهر بيت ليس له سور حتى لا يسقط : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بات على ظهر بيت ليس له حجار ، فقد برئت منه الذمة " رواه أبو دود ، السنن رقم 5041 ، وهو في صحيح الجامع 6113 وشرحه في عون المعبود 13/384 وذلك أن النائم قد يتقلب في نومه فإذا كان على سطح ليس له حجار أو حجاب يحجب الإنسان عن الوقوع ويمنعه من التردي والسقوط ، فقد يسقط فيموت ، فعند ذلك لا يؤاخذ أحد بموته فتبرأ منه الذمة ، أو أنه قد تسبب بإهماله في عدم كلاءة الله له وحفظه إياه ، لأنه لم يأخذ بالأسباب .
قطط البيوت لا تنجس الإناء إذا شربت منه ولا الطعام إذا أكلت منه : عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه وُضع له وضوءه فولغ فيه السنور " الهر " ، فأخذ يتوضأ ، فقالوا : يا أبا قتادة ! قد ولغ فيه السنور ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " السنور من أهل البيت ، وأنه من الطوافين ، والطوافات عليكم " رواه أحمد في المسند 5/309 وهو في صحيح الجامع 3694 ، وفي رواية : " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين والطوافات عليكم " رواه أحمد في المسند 5/309 وهو في صحيح الجامع 2437
الاجتماعات في البيوت(81/7)
نصيحة 13 : إتاحة الفرصة لاجتماعات تناقش أمور العائلة : " وأمرهم شورى بينهم " سورة الشورى الآية 38 . عندما تتاح الفرصة لأفراد العائلة بالجلوس سوياً في وضع مناسب لمناقشة أمور داخلية أو خارجية تتعلق بالعائلة ، فإن ذلك يعد علامة على تماسك الأسرة وتفاعلها وتعاونها ، ولا شك أن الرجل الذي ولاه الله أمور رعيته في بيته هو المسئول الأول ، وصاحب القرار ولكن إتاحة المجال للآخرين - وخصوصاً عندما يكبر الأولاد - يكون فيه تربية لهم على تحمل المسئولية بالإضافة إلى ارتياح الجميع لإحساسهم بأن آراءهم ذات قيمة عندما يُسألون إبداءها ، ومن الأمثلة على ذلك مناقشة الأمور التي تتعلق بالحج أو عمرة رمضان وغير ذلك من الإجازات ، والسفر لصلة رحم ، أو ترويح مباح ، وتنظيم الأعراس ووليمة الزفاف ، أو عقيقة المولود ، أو الانتقال من بيت لآخر ، ومشروعات خيرية ، كإحصاء فقراء الحي ، وتقديم المساعدات ، أو إرسال الطعام لهم ، وكذلك مناقشة أوضاع العائلة ومشكلات الأقارب وكيفية الإسهام في حلها وهكذا .. ، تجدر الإشارة هنا إلى نوع آخر مهم من أنواع الاجتماعات ، وهو جلسات المصارحة بين الأبوين وأولادهما ، فإن بعض المشكلات التي تعرض لبعض البالغين لا يمكن حلها إلا بجلسات انفرادية ، يخلو الأب بابنه يناجيه في مسائل تتعلق بمشكلات الشباب ، وسن المراهقة ، وأحكام البلوغ ، وكذلك تخلو الأم بابنتها لتلقنها ما تحتاج إليه من الأحكام الشرعية ، وتساعدها في حل المشكلات التي تعرض في مثل هذه السن ، واستهلال الأب والأم الكلام بمثل عبارة " عندما كنت في مثل سنك .. " له أثر كبير في التقبل ، وانعدام مثل هذه المصارحات هو الذي يقود هؤلاء لمفاتحة قرناء السوء وقرينات السوء ، فينتج عن ذلك شر عظيم .
نصيحة 14 : عدم إظهار الخلافات العائلية أمام الأولاد :
يندر أن يعيش جماعة في بيت دون نوع من الخصومات ، والصلح خير والرجوع إلى الحق فضيلة . ولكن مما يزعزع تماسك البيت ، ويضر بسلامة البناء الداخلي هو ظهور الصراعات أمام أهل البيت ، فينقسمون إلى معسكرين أو أكثر ، ويتشتت الشمل ، بالإضافة إلى الأضرار النفسية على الأولاد وعلى الصغار بالذات ، فتأمل حال بيت يقول الأب فيه للولد : لا تكلم أمك ، وتقول الأم له : لا تكلم أباك ، والولد في دوامة وتمزق نفسي ، والجميع يعيشون في نكد . فلنحرص على عدم وقوع الخلافات ، ولنحاول إخفاءها إذا حصلت ، ونسأل الله أن يؤلف بين القلوب .
نصيحة 15 : عدم إدخال من لا يُرضى دينه إلى البيت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير " قطعة من رواية أبي داود " 4829 " . وفي رواية البخاري : " وكير الحداد يُحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة " رواه البخاري الفتح 4/323 . أي والله يحرق بيتك بأنواع الفساد والإفساد ، كم كان دخول المفسدين والمشبوهين سبباً لعداوات بين أهل البيت ، وتفريق بين الرجل وزوجته ، ولعن الله من خبّب امرأة على زوجها ، أو زوجاً على امرأته ، وسبب عداوة بين الأب وأولاده ، وما أسباب وضع السحر في البيوت أو حدوث السرقات أحياناً وفساد الخلق كثيراً إلا بعد إدخال من لا يُرضى دينه ، فيجب عدم الإذن بدخوله ، ولو كان من الجيران ، رجالاً ونساءً ، أو من المتظاهرين بالمصادقة رجالاً ونساءً ، وبعض الناس يسكتون تحت وطأة الإحراج ، فإذا رآه على الباب أذن له ، وهو يعلم أنه من المفسدين . وتتحمل المرأة في البيت جزءاً عظيماً من هذه المسئولية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس أي يوم أحرم ؟ أي يوم أحرم ؟ أي يوم أحرم ؟ ؟ " قالوا : يوم الحج الأكبر ، ثم قال عليه الصلاة والسلام ، في ثنايا خطبته الجامعة في ذلك اليوم : " فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون " رواه الترمذي 1163 وغيره عن عمرو بن الأحوص وهو في صحيح الجامع 7880 . فلا تجدي في نفسك أيتها المرأة المسلمة إذا منع زوجك أو أبوك دخول إحدى الجارات إلى البيت ، لما يرى من أثرها في الإفساد ، وكوني لبيبة حازمة إذا عقدت لك مقارنات بين زوجها وزوجك ، تنتهي بدفعك لمطالبة زوجك بأمور لا يطيقها . والنصح عليك واجب لزوجك إذا لاحظت أن من ندمائه في بيته أناساً يزينون له المنكر .(81/8)
هدية : حاول أن تكون موجوداً في البيت كلما استطعت ، فوجود ولي الأمر في بيته يضبط الأمور ، ويمكنه من الإشراف على التربية وإصلاح الأحوال بالمراقبة والمتابعة ، وعند بعض الناس أن الأصل هو الخروج من البيت ، فإذا لم يجد مكاناً يذهب إليه رجع إلى البيت ، وهذا مبدأ خاطئ ، فإذا كان خروج المرء من بيته لأجل طاعات ، فعليه الموازنة ، وإذا كان خروجه للمعاصي وضياع الأوقات أو الانشغال الزائد بالدنيا ، فعليه أن يخفف من المشاغل والتجارات ، ويحسم اللقاءات الفارغة . بئس القوم يضيعون أهليهم ، ويسهرون في الملاهي .. ، ونحن لا نريد الانسياق وراء مخططات أعداء الله ، وهذه فقرة فيها عبرة : جاء في نشرة المشرق الأعظم الماسوني الفرنسي المنعقدة عام 1923م ما يلي : " وبغية التفريق بين الفرد وأسرته ، عليكم أن تنتزعوا الأخلاق من أسسها ، لأن النفوس تميل إلى قطع روابط الأسرة والاقتراب من الأمور المحرمة ، لأنها تفضل الثرثرة في المقاهي على القيام بتبعات الأسرة " .
نصيحة 16 : الدقة في ملاحظة أحوال أهل البيت
من هم أصدقاء أولادك ؟
هل سبق أن قابلتهم أو تعرفت عليهم ؟
ماذا يجلب أولادك معهم من خارج البيت ؟
إلى أين تذهب ابنتك ومع من ؟
بعض الآباء لا يدري أن في حوزة أولاده صوراً سيئة ، وأفلاماً خالعة ، وربما مخدرات ، وبعضهم لا يدري أن ابنته تذهب مع الخادمة إلى السوق ، وتطلب منها أن تنتظر مع السائق ثم تذهب لموعدها مع أحد الشياطين ، والأخرى تذهب لتشرب الدخان عند قرينة سوء تعبث معها ، وهؤلاء الذين يفلتون أولادهم لن يفلتوا من مشهد يوم عظيم ، ولن يستطيعوا الهرب من أهوال يوم الدين : " إن الله سائل كل راع عما استرعاه ، أحفظ ذلك أم ضيعه حتى يسأل الرجل عن أهل بيته " حسن رواه النسائي 292 ، وابن حبان عن أنس وهو في صحيح الجامع 1775 ، السلسة الصحيحة 1636 .
وهنا نقاط مهمة :
يجب أن تكون المراقبة خفية .
لا لأجواء الإرهاب .
يجب أن لا يحس الأولاد بفقدان الثقة .
ينبغي أن يراعى في النصح أو العقاب أعمار الأولاد ومداركهم ودرجة الخطأ .
حذار من التدقيق السلبي وإحصاء الأنفاس . روى لي شخص أن أحد الآباء عنده كمبيوتر يخزن فيه أخطاء أولاده بالتفصيل ، فإذا حصل خطأ أرسل إليه استدعاء وفتح الخانة الخاصة بالولد في الجهاز ، وسرد عليه أخطاء الماضي مع الحاضر .
التعليق : لسنا في شركة ، وليس الأب هو الملك الموكل بكتابة السيئات ، وليقرأ هذا الأب المزيد في أصول التربية الإسلامية .
وأعرف في المقابل أناساً يرفضون التدخل في شئون أولادهم بتاتاً بحجة أن الولد لن يقتنع بأن الخطأ خطأ والذنب ذنب إلا بأن يقع فيه ، ثم يكتشف خطأه بنفسه ، وهذا الاعتقاد المنحرف ناتج عن رضاع من لبن الفلسفة الغربية ، وفطام على مبدأ إطلاق الحريات المذموم فتعست المرضعة ، وبئست الفاطمة ، ومنهم من يفلت الزمام لولده خشية أن يكرهه بزعمه ، ويقول : أكسب حبه مهما فعل ، وبعضهم يطلق العنان لولده كردة فعل عما حصل له مع أبيه في السابق من نوع شدة خاطئة ، فيظن أنه يجب أن يعمل العكس تماماً مع ولده ، وبعضهم يبلغ به السفول لدرجة أن يقول : دع الابن والبنت يتمتعان بشبابهما كما يريدان ، فهل يفكر مثل هؤلاء بأن أبناءهم قد يأخذون بتلابيبهم يوم القيامة فيقول الولد : لِمَ تركتني يا أبي على المعصية ؟!
نصيحة 17 الاهتمام بالأطفال في البيت
ولهذا جوانب عديدة منها :
تحفيظ القرآن والقصص الإسلامية : لا أجمل من جمع الأب أولاده ليقرئهم القرآن مع شرح مبسط ، ويقدم المكافآت لحفظه ، وقد حفظ صغار سورة الكهف من تكرار تلاوة الأب لها كل جمعة ، وتعليم الولد من أصول العقيدة الإسلامية كمثل التي وردت في حديث : " احفظ الله يحفظك " ، وتعليمه الآداب والأذكار الشرعية ، كأذكار الأكل والنوم ، والعطاس والسلام ، والاستئذان ، ولا أشد تنبيهاً وأقوى تأثيراً في الطفل من سرد القصص الإسلامية على مسامعه .
ومن هذه القصص : قصة نوح عليه السلام ، والطوفان ، وقصة إبراهيم عليه السلام ، في تكسير الأصنام وإلقائه في النار ، وقصة موسى عليه السلام في نجاته من فرعون وإغراقه ، وقصة يونس عليه السلام في بطن الحوت ، ومختصر قصة يوسف عليه السلام ، وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم مثل البعثة والهجرة ، وشيء من الغزوات كبدر والخندق ، وغيرها كقصته صلى الله عليه وسلم مع الرجل والجمل الذي كان يُجيعه ويُجهده ، وقصص الصالحين ، كقصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع المرأة وأولادها الجياع في الخيمة ، وقصة أصحاب الأخدود ، وقصة أصحاب الجنة في سورة "ن" ، والثلاثة أصحاب الغار ، وغيرها كثير طيب ، يلخص ويبسط مع تعليقات ووقفات خفيفة ، يغنينا عن كثير من القصص المخالفة للعقيدة والخرافية أو المخيفة التي تفسد واقعية الطفل ، وتورث فيه الجبن والخوف .(81/9)
حذار من خروج الأولاد مع من هب ودب : فيرجعون إلى البيت بالألفاظ والأخلاق السيئة ، بل يُنتقى ويُدعى من أولاد الأقرباء والجيران من يلعب معهم في المنزل .
الاهتمام بلعب الأولاد المسلية والهادفة : وعمل غرفة ألعاب أو خزانة خاصة ، يرتب فيها الأولاد ألعابهم ، وتجنب الألعاب المخالفة للشريعة : كالأدوات الموسيقية وما فيه صلبان أو نرد .
ومن الجيد توفير ركن هوايات للفتيان كالنجارة والإلكترونيات ، والميكانيكا ، وبعض ألعاب الكمبيوتر المباحة ، وبهذه المناسبة ننبه إلى خطورة بعض أشرطة الكمبيوتر المصممة لتعرض صور النساء في غاية السوء على شاشة الجهاز ، أو ألعاب فيها صلبان ، حتى ذكر أحدهم أن إحدى الألعاب هي لعبة قمار مع الكمبيوتر ، وينتقي اللاعب صورة فتاة من أربع فتيات يظهرن على الشاشة تمثل الطرف الآخر ، فإذا فاز في اللعبة خرجت له صورة الفتاة في أسوأ منظر جائزة الفوز .
التفريق بين الذكور والإناث في المضاجع : وهذا من الفروق في ترتيب بيوت أهل الدين وغيرهم ممن لا يهتمون بهذا .
الممازحة والملاطفة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداعب الأطفال يمسح رؤوسهم ، ويتلطف في مناداتهم ، ويعطي أصغرهم أول الثمرة ، وربما ارتحله بعضهم . وفيما يلي مثالان على مداعبته صلى الله عليه وسلم للحسن والحسين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدلع لسانه لحسن بن علي ، فيرى الصبي حُمرة لسانه فيبهش له " أي أعجبه وجذبه فأسرع إليه . رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه ، انظر السلسلة الصحيحة رقم 70 . وعن يعلى بن مرة أنه قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ودعينا إلى طعام ، فإذا حسين يلعب في الطريق ، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم أمام القوم ثم بسط يديه فجعل الغلام يفر هاهنا وهاهنا ، ويضاحكه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه ، والأخرى في فأس رأسه فقبله . رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 364 وهو في صحيح ابن ماجه 1/29 .
نصيحة 18 الحزم في تنظيم أوقات النوم والوجبات :
بعض البيوت حالها كالفنادق لا يكاد قاطنوها يعرف بعضهم بعضاً ، وقلما يلتقون .
بعض الأولاد يأكل متى شاء وينام متى شاء ، ويتسبب في السهر ومضيعة الوقت ، وإدخال الطعام على الطعام ، وهذه الفوضوية تتسبب في تفكك الروابط ، واستهلاك الجهود والأوقات ، وتنمي عدم الانضباط في النفوس ، قد تعذر أصحاب الأعذار ، فالطلاب يتفاوتون في مواعيد الخروج من المدارس والجامعات ، ذكوراً وإناثاً ، والموظفون والعمال وأصحاب المحلات ليسوا سواء ، ولكن ليست هذه الحالة عند الجميع ، ولا أحلى من اجتماع العائلة الواحدة على الطعام ، واستغلال الفرصة لمعرفة الأحوال والنقاشات المفيدة ، وعلى رب الأسرة الحزم في ضبط مواعيد الرجوع إلى المنزل ، والاستئذان عند الخروج ، خصوصاً للصغار - صغار السن أو صغار العقل - الذين يُخشى عليهم .
نصيحة 19 : تقويم عمل المرأة خارج البيت
شرائع الإسلام يكمل بعضها بعضاً ، وعندما أمر الله النساء بقوله : " وقرن في بيوتكن " الأحزاب /33 ، جعل لهن من ينفق عليهن وجوباً كالأب والزوج .
والأصل أن المرأة لا تعمل خارج البيت إلا لحاجة ، كما رأى موسى عليه السلام ، بنتي الرجل الصالح على الماء تذودان غنمهما تنتظران ، فسألهما : " ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يُصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير " القصص الآية 23 ، فاعتذرتا حالاً عن خروجهما لسقي الغنم ، لأن الولي لا يستطيع العمل لكبر سنه ، لذا صار الحرص على التخلص من العمل خارج البيت حالما تسنح الفرصة " قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " القصص الآية 26 .
فبينت هذه المرأة بعبارتها رغبتها في الرجوع إلى بيتها لحماية نفسها ، من التبذل والذي قد تتعرض له بالعمل خارج البيت .
وعندما احتاج الكفار في العصر الحديث لعمل النساء بعد الحربين العالميتين ، لتعويض النقص الحاصل في الرجال ، وصار الوضع حرجاً من أجل إعادة إعمار ما خربته الحرب ، وواكب ذلك المخطط اليهودي في تحرير المرأة ، والمناداة بحقوقها بقصد إفساد المرأة ، وبالتالي إفساد المجتمع تسربت مسألة خروج المرأة للعمل .
وعلى الرغم من أن الدوافع عندنا ليست كما هي عندهم ، والفرد المسلم يحمي حريمه وينفق عليهن ، إلا أن حركة تحرير المرأة نشطت ، ووصل الأمر إلى المطالبة بابتعاثها إلى الخارج ، ومن ثم المطالبة بعملها حتى لا تذهب هذه الشهادات هدراً وهكذا ، وإلا فالمجتمعات الإسلامية ليست بحاجة لهذا الأمر على هذا النطاق الواسع الحاصل ، ومن الأدلة على ذلك وجود رجال بغير وظائف مع استمرار فتح مجالات العمل للنساء .(81/10)
وعندما نقول : " على هذا النطاق الواسع " ، فإننا نعني ذلك لأن الحاجة إلى عمل المرأة في بعض القطاعات كالتعليم والتمريض والتطبيب بالشروط الشرعية حاجة قائمة ، وإنما قدمنا تلك المقدمة لأننا لاحظنا أن بعض النساء يخرجن للعمل دون حاجة ، وأحياناً براتب زهيد جداً ، لأنها تحس أنها لا بد أن تخرج لتعمل حتى ولو كانت غير محتاجة ، ولو في مكان غير لائق بها ، فوقعت فتن عظيمة .
ومن الفروق الرئيسية بين المنهج الإسلامي لقضية عمل المرأة ، والنهج العلماني أن التصور الإسلامي للقضية يعتبر أن الأصل هو " وقرن في بيوتكن " والخروج للحاجة " أُذن لكن أن تخرجن في حوائجكن " والنهج العلماني يقوم على أن الخروج هو الأصل في جميع الحالات .
ولأجل العدل في القول نقول : إن عمل المرأة قد يكون حاجة فعلاً ، كأن تكون المرأة هي المعيل للأسرة بعد زوج ميت ، أو أب عاجز ، ونحو ذلك ، بل إنه في بعض البلدان نتيجة لعدم قيام المجتمع على أسس إسلامية تضطر الزوجة إلى العمل لتغطي مصروف البيت مع زوجها ، ولا يخطب الرجل إلا موظفة ، بل اشترط بعضهم على زوجته في العقد أن تعمل !!
والخلاصة : فقد يكون عمل المرأة للحاجة أو لأجل هدف إسلامي ، كالدعوة إلى الله في مجال التعليم ، أو تسلية كما يقع لبعض من ليس لها أولاد .
وأما سلبيات عمل المرأة خارج البيت فمنها :
ما يقع كثيراً من أنواع المنكرات الشرعية ، كالاختلاط بالرجال ، والتعرف بهم والخلوة المحرمة ، والتعطر لهم ، وإبداء الزينة للأجانب ، وقد تكون النهاية هي الفاحشة .
عدم إعطاء الزوج حقه ، وإهمال أمر البيت ، والتقصير في حق الأولاد " وهذا موضوعنا الأصلي " .
نقصان المعنى الحقيقي للشعور بقوامة الرجل في نفوس بعض النساء فلنتصور امرأة تحمل شهادة مثل شهادة زوجها ، أو أعلى " وهذا ليس عيباً في ذاته " ، وتعمل براتب قد يفوق راتب زوجها ، فهل ستشعر هذه المرأة بشكل كاف بحاجتها إلى زوجها وتتكامل لديها طاعة الزوج ، أم أن الإحساس بالاستغناء قد يسبب مشكلات تزلزل كيان البيت من أساسه ، إلا من أراد الله بها خيراً ، وهذه مشكلات النفقة على الزوجة الموظفة والإنفاق على البيت لا تنتهي .
الإرهاق الجسدي والضغط النفسي والعصبي الذي لا يناسب طبيعة المرأة .
وبعد هذه العرض السريع لمصالح ومفاسد عمل المرأة نقول : لا بد من تقوى الله ، ووزن المسألة بميزان الشريعة ، ومعرفة الحالات التي يجوز فيها للمرأة أن تخرج للعمل ، من التي لا تجوز ، وأن لا تعمينا المكاسب الدنيوية عن سلوك سبيل الحق ، والوصية للمرأة لأجل مصلحتها ، ومصلحة البيت ، وعلى الزوج ترك الإجراءات الانتقامية وألا يأكل مال زوجته بغير حق .
نصيحة 20 : حفظ أسرار البيوت :
وهذا يشمل أموراً منها :
عدم نشر أسرار الاستمتاع .
عدم تسريب الخلافات الزوجية .
عدم البوح بأي خصوصية يكون إظهارها ضرر بالبيت أو أحد أفراده .
فأما المسألة الأولى فدليل تحريمها : قوله صلى الله عليه وسلم : " إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها " رواه مسلم 4/157 . ومعنى يفضي : أي يصل إليها بالمباشرة والمجامعة كما في قوله تعالى : " وقد أفضى بعضكم إلى بعض " سورة النساء الآية 21 .
ومن أدلة التحريم أيضاً حديث أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والرجال والنساء قعود فقال : " لعل رجلاً يقول ما يفعله بأهله ، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها " فأرم القوم " أي سكتوا " فقلت : إي والله يا رسول الله ، إنهن ليفعلن ! وإنهم ليفعلون !! قال : " فلا تفعلوا فإنما ذلك مثل الشيطان لقي شيطانة في طريق فغشيها والناس ينظرون " رواه الإمام أحمد 6/457 وهو مخرج في آداب الزفاف للألباني ص 144 . وفي رواية لأبي داود : " هل منكم الرجل إذا أتى أهله فأغلق عليه بابه ، وألقى عليه ستره ، واستتر بستر الله ؟ قالوا : نعم ، قال : ثم يجلس بعد ذلك فيقول فعلت كذا ، فعلت كذا ، فسكتوا ، ثم أقبل على النساء ، فقال : هل منكن من تحدث ؟ فسكتن ، فجثت فتاة كعاب على إحدى ركبتها ، وتطاولت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليراها ويسمع كلامها ، فقالت : يا رسول الله إنهم ليحدثون ، وإنهن ليحدثن ، فقال : هل تدرون ما مثل ذلك ؟ إنما مثل ذلك مثل شيطانة لقيت شيطاناً في السكة ، فقضى حاجته والناس ينظرون إليه " سنن أبى داود 2/627 وهو في صحيح الجامع 7037 .(81/11)
وأما الأمر الثاني ، وهو تسريب الخلافات الزوجية خارج محيط البيت ، فإنه في كثير من الأحيان يزيد المشكلة تعقيداً ، وتدخل الأطراف الخارجية في الخلافات الزوجية يؤدي إلى مزيد من الجفاء في الغالب ، ويُصبح الحل بالمراسلة بين اثنين هما أقرب الناس لبعضهما ، فلا يلجأ إليه إلا عند تعذر الإصلاح المباشر المشترك وعند ذلك نفعل كما أمر الله : "فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما " سورة النساء الآية 35.
والأمر الثالث : وهو الإضرار بالبيت أو أحد أفراده - بنشر خصوصياته - وهذا لا يجوز لأنه داخل في قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " رواه الإمام أحمد 1/313 وهو في السلسلة الصحيحة رقم 250 . ومن أمثلة ذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى : "ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما " التحريم الآية10 ، فقد نقل ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما يلي : " فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح ، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به ، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحداً أخبرت أهل المدينة ممن يعمل السوء " تفسير ابن كثير 8/198 . أي ليأتوا فيعملوا بهم الفاحشة .
الأخلاق في البيت
نصيحة 21 : إشاعة خلق الرفق في البيت : عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله - عز وجل - بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق " رواه الإمام أحمد في المسند 6/71 وهو في صحيح الجامع 303 وفي رواية أخرى : " إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق " رواه ابن أبى الدنيا وغيره وهو في صحيح الجامع رقم 1704 . أي صار بعضهم يرفق ببعض ، وهذا من أسباب السعادة في البيت ، فالرفق نافع جداً بين الزوجين ، ومع الأولاد ، ويأتي بنتائج لا يأتي بها العنف كما قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف ، وما لا يعطي على سواه " رواه مسلم ، كتاب البر والصلة والآداب رقم 2593 .
نصيحة 22 : معاونة أهل البيت في عمل البيت
كثير من الرجال يأنفون من العمل البيتي ، وبعضهم يعتقد أن مما ينقص من قدره ومنزلته أن يخوض مع أهل البيت في مهنتهم .
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان " يخيط ثوبه ، ويخصف نعله ، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم " رواه الإمام أحمد في المسند 6/121 وهو في صحيح الجامع 4927 .
قالت ذلك زوجته عائشة رضي الله عنها لما سُئلت ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في بيته فأجابت بما شاهدته بنفسها وفي رواية : كان بشراً من البشر يفلي " يُنقي " ثوبه ، ويحلب شاته ويخدم نفسه . رواه الإمام أحمد في المسند 6/256 وهو في السلسلة الصحيحة 671 . وسُئلت رضي الله عنها أيضاً ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته ، قالت : كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة . رواه البخاري ، الفتح 2/162
فإذا فعلنا ذلك نحن اليوم نكون قد حققنا عدة مصالح :
اقتدينا برسول الله صلى الله عليه وسلم .
ساعدنا أهلينا .
شعرنا بالتواضع وعدم الكبر .
وبعض الرجال يطالب زوجته بالطعام فوراً ، والقدر فوق النار ، والولد يصرخ يريد الرضاع ، فلا هو يمسك الولد ، ولا هو ينتظر الطعام قليلاً ، فلتكن هذه الأحاديث تذكرة وعبرة .
نصيحة 23 : الملاطفة والممازحة لأهل البيت
ملاطفة الزوجة والأولاد من الأسباب المؤدية إلى إشاعة أجواء السعادة والألفة في البيت ، ولذلك نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم جابراً أن يتزوج بكراً ، وحثه بقوله : " فهلا بكراً تُلاعبها وتُلاعبك وتضاحكها وتضاحكك " الحديث في عدة مواضع في الصحيحين ومنها البخاري مع الفتح 9/121 وقال صلى الله عليه وسلم : " كل شيء ليس فيه ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربع ، ملاعبة الرجل امرأته .. " رواه النسائي في عشرة النساء ص 87 وهو في صحيح الجامع . وكان صلى الله عليه وسلم يلاطف زوجته عائشة وهو يغتسل معها ، كما قالت رضي الله عنها : " كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء بيني وبينه واحد ، فيبادرني حتى أقول : دع لي دع لي ، قالت : وهما جنبان " مسلم بشرح النووي 4/6 .(81/12)
وأما ملاطفته صلى الله عليه وسلم للصبيان فأشهر أن تذكر ، وكان كثيراً ما يلاطف الحسن والحسين كما تقدم ، ولعل هذا من الأسباب التي تجعل الصبيان يفرحون بمقدمه صلى الله عليه وسلم من السفر فيُهرعون لاستقباله كما جاء في الحديث الصحيح : " كان إذا قدم من سفر تُلقي بصبيان أهل بيته " صحيح مسلم 4/1885-2772 وانظر الشرح في تحفة الأحوذي 8/56 وكان صلى الله عليه وسلم يضمهم إليه كما قال عبد الله بن جعفر : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تُلقي بنا ، فتُلقي بي وبالحسن أو بالحسين ، قال : فحمل أحدنا بين يديه والآخر خلفه حتى دخلنا المدينة " صحيح مسلم 4/1885-2772 ، وانظر الشرح في تحفة الأحوذي 8/56 .
قارن بين هذا وبين حال بعض البيوت الكئيبة لا فيها مزاح بالحق ، وملاطفة ولا رحمة . ومن ظن أن تقبيل الأولاد يتنافى مع هيبة الأب فليقرأ هذا الحديث ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قبّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً ، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحداً ، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " من لا يرحم لا يُرحم " .
نصيحة 24 : مقاومة الأخلاق الرديئة في البيت :
لا يخلو فرد من الأفراد في البيت من خلق غير سوي كالكذب أو الغيبة والنميمة ونحوها ، ولابد من مقاومة هذه الأخلاق الرديئة .
وبعض الناس يظن أن العقوبة البدينة هي العلاج الوحيد في مثل هذه الحالات ، وفيما يلي حديث صحيح تربوي في هذا الموضوع ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطّلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة " انظر مسند الإمام أحمد 6/152 ونص الحديث في صحيح الجامع رقم 4675 .
ويتبين من الحديث أن الأعراض والهجر بترك الكلام والالتفات من العقوبات البليغة في مثل هذا الحال ، وربما كان أبلغ أثراً من العقاب البدني ، فليتأمله المربون في البيوت .
نصيحة 25 : ( علقوا السوط حيث يراه أهل البيت ) أخرجه أبو نعيم في الحلية 7/332 وهو في السلسلة الصحيحة برقم 1446 .
التلويح بالعقوبة من وسائل التأديب الراقية ، ولذلك جاء بيان السبب من تعليق السوط أو العصا في البيت ، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علقوا السوط حيث يراه أهل البيت ، فإنه آدب لهم " أخرجه الطبراني 10/344-345 وهو في السلسلة الصحيحة برقم 1447 .
ورؤية أداة العقاب معلقة يجعل أصحاب النوايا السيئة يرتدعون عن ملابسة الرذائل خوفاً أن ينالهم منه نائل ، ويكون باعثاً لهم على التأدب والتخلق بالأخلاق الفاضلة ، قال ابن الأنباري : " لم يرد به الضرب به لأنه لم يأمر بذلك أحداً ، وإنما أراد لا ترفع أدبك عنهم". انظر فيض القدير للمناوي 4/325 .
والضرب ليس هو الأصل أبداً ، ولا يلجأ إليه إلا عند استنفاد الوسائل الأخرى للتأديب ، أو الحمل على الطاعات الواجبة ، كمل قوله تعالى : " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجرهن في المضاجع واضربوهن " النساء الآية 34 . على الترتيب ومثل حديث : " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر " سنن أبي داود 1/334 وانظر إرواء الغليل 1/266 .
أما استعمال الضرب دون الحاجة فإنه اعتداء ورسول الله صلى الله عليه وسلم نصح امرأة أن لا تتزوج من رجل لأنه لا يضع العصا عن عاتقه أي ضراب للنساء ، أما من يرى عدم استخدام الضرب مطلقاً تقليداً لبعض نظريات الكفار في التربية ، فرأيه خاطئ يخالف النصوص الشرعية .
المنكرات في البيت
نصيحة 26 : الحذر من دخول الأقارب غير المحارم على المرأة في البيت عند غياب زوجها .
نصيحة 27 : فصل النساء عن الرجال في الزيارات العائلية .
نصيحة 28 : الانتباه لخطورة السائقين والخادمات في البيوت .
نصيحة 29 : اخرجوا المخنثين من بيوتكم .
نصيحة 30 : احذر أخطار الشاشة .
نصيحة 31 : الحذر من شر الهاتف .
نصيحة 32 : يجب إزالة كل ما فيه رمز لأديان الكفار الباطلة أو معبوداتهم وآلهتهم .
نصيحة 33 : إزالة صور ذوات الأرواح .
نصيحة 34 : امنعوا التدخين في بيوتكم .
نصيحة 35 : إياك واقتناء الكلاب في البيوت .
نصيحة 36 : الابتعاد عن تزويق البيوت .
البيت من الداخل والخارج
نصيحة 37 : حسن اختيار موقع البيت وتصميمه : لا شك أن المسلم الحق يراعي في اختيار بيته وتصميمه أمراً لا يراعيها غيره .
فمن جهة الموقع مثلاً :
أن يكون البيت قريباً من مسجد وفي هذا فوائد عظيمة لا تخفى ، فالنداء يذكر ويوقظ للصلاة ، والقرب يمكن الرجل من إدراك الجماعة ، والنساء من سماع التلاوة والذكر من مكبر المسجد ، والصغار من إتيان حلقة تحفيظ القرآن وهكذا ..
أن لا يكون في عمارة فيها فساق أو مجمعات سكنية فيها كفار يتوسطها مسبح مختلط ونحو ذلك .
أن لا يكشف ولا يُكشف ، ولو حصل يستعان بالسواتر وتعلية الجدر .(81/13)
ومن جهة التصميم مثلاً :
أن يراعى فيه فصل الرجال عن النساء من الزوار الأجانب من ناحية المدخل ، وصالات الجلوس ، وإن لم يحصل فيستعين بالستائر والحواجز .
ستر الشبابيك : بحيث لا يظهر من في الغرف للجار ، أو لرجل الشارع ، وخصوصاً في الليل عندما تضاء الأنوار .
أن لا تكون المراحيض باتجاه القبلة عند استخدامها .
أن يختار المسكن الواسع والدار كثيرة المرافق ، وذلك لأمور منها :
" إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " حديث رواه الترمذي رقم 2819 وقال : هذا حديث حسن .
" ثلاثة من السعادة وثلاثة من الشقاء ، فمن السعادة : المرأة الصالحة تراها فتعجبك ، وتغيب عنها فتأمنها على نفسها ومالك ، والدابة تكون وطيئة فتلحقك بأصحابك ، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق ، ومن الشقاء : المرأة تراها فتسوؤك ، وتحمل لسانها عليك ، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك ، والدابة تكون قطوف ، فإن ضربتها أتعبتك وإن تركتها لم تلحقك بأصحابك ، والدار قليلة المرافق " حديث رواه الحاكم 3/262 وهو في صحيح الجامع برقم 3056 .
الحرص على الأمور الصحية كالتهوية ودخول الشمس ، وهذه وغيرها مقيدة بالقدرة المادية والإمكانات المتاحة .
نصيحة 38 : اختيار الجار قبل الدار
وهذه مسألة تحتاج إلى إفراد لأهميتها .
فالجار في عصرنا له مزيد من التأثير على جاره ، بفعل تقارب المساكن ، وتجمع الناس في البنايات والشقق ، والمجمعات السكنية .
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع من السعادة وذكر منها : الجار الصالح، وأخبر عن أربع من الشقاء وذكر منها : الجار السوء رواه أبو نعيم في الحلية 8/388 وهو في صحيح الجامع 887 . ولخطر هذا الأخير كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ منه في دعائه فيقول : " اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة " أي الذي يجاورك في مكان ثابت " فإن جار البادية يتحول " رواه الحاكم 1/532 وهو في صحيح الجامع 1290 .
وأمر المسلمين أن يتعوذوا من ذلك فقال : " تعوّذوا بالله من جار السوء في دار المقام ، فإن الجار البادي يتحول عنك " رواه البخاري في الأدب المفرد رقم 117 واللفظ في صحيح الجامع 2967 .
ويضيق المجال للحديث عن أثر جار السوء على الزوجين والأولاد ، وأنواع الإيذاء التي تصدر عنه ، ومنغصات العيش بجانبه ، ولكن في تطبيق الأحاديث السابقة على الواقع كفاية للمعتبر ، ولعل من الحلول العلمية ما ينفذه بعض الطيبين من استئجار السكن المتجاور لعائلاتهم ، لحل مشكلة الجيرة ولو على حساب بعض الماديات ، فإن الجيرة الصالحة لا تقدر بمال .
نصيحة 39 : الاهتمام بالإصلاحات اللازمة وتوفير وسائل الراحة
من نعم الله علينا في هذا الزمان ما وهبنا من وسائل الراحة التي تسهل أمور المعيشة في هذه الدنيا ، وتوفر الأوقات كالمكيف والثلاجة والغسالة .. إلخ ، فيكون من الحكمة توفيرها في البيت بالجودة التي يستطيعها صاحب البيت من غير إسراف ولا مشقة ، ولابد من التفريق بين الأمور التحسينية المفيدة والكماليات الزائفة التي لا قيمة لها .
ومن الاهتمام بالبيت إصلاح ما فسد من مرافقه وأجهزته ، وبعض الناس يهملون ، وتشتكي زوجاتهم من بيوت تعج فيها الحشرات ، وتفيض فيها البلاعات ، وتفوح القمامة بالروائح الكريهة ، وتتناثر فيه قطع الأثاث المكسور والتالف .
ولا شك أن هذا مما يمنع حصول السعادة في البيت ، ويسبب مشكلات زوجية وصحية ، فالعاقل من عالج ذلك .
نصيحة 40 : الاعتناء بصحة أهل البيت وإجراءات السلامة
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات " رواه مسلم رقم 2192 . " وكان صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك " المرض " أمر بالحساء " المرقة المعروفة " فصنع ، ثم أمرهم فحسوا ، وكان بقول : " إنه ليرتق " يشد " فؤاد الحزين ، ويسرو " يكشف " عن فؤاد السقيم ، كما تسرو إحداكن الوسخ عن وجهها " رواه الترمذي رقم 2039 وهو في صحيح الجامع رقم 4646 ،
وعن بعض إجراءات الوقاية والسلامة :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمسيتم فكفوا صبيانكم ، فإن الشياطين تنتشر حينئذ ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم ، فغلقوا الأبواب ، واذكروا اسم الله ، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله ، ولو أن تعرضوا عليها شيئاً " مثل العود ونحوها " وأطفئوا مصابيحكم " رواه البخاري الفتح 10/88-89 . وفي رواية لمسلم : " أغلقوا أبوابكم ، وخمروا آنيتكم ، وأطفئوها سرجكم ، وأوكئوا أسقيتكم " شدوا رباطها على أفواها " فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً ، ولا يكشف غطاء ، ولا يحل وكاء ، وإن الفويسقة تضرم البيت على أهله " " أي تسحب فتيل السراج فيشتعل البيت " رواه الإمام أحمد في المسند 3/301 وهو في صحيح الجامع 1080 .
وقال صلى الله عليه وسلم : " لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون " رواه البخاري ، الفتح 11/85 .
والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .(81/14)
موقع الشيخ المنجد
http://www.islam-qa.com(81/15)
أربعون وسيلة لإستغلال الإجازة الصيفية
فضيلة الشيخ
إبراهيم بن عبدالله الدويش ...
...
لماذا هذه الرسالة
كيف أقضي الإجازة؛ كيف أستفيد من الفراغ الطويل؟ أين أقضي الإجازة؟ ما هي البرامج المناسبة في هذه الإجازة؟ أسئلة كثيرة تدور في أذهان الكثير من الناس، لعل هذا الموضوع يكون مفتاحاً لكثير من المشاريع والأفكار التي تقضى فيها الإجازة. وهي موجهة للراغبين في طلب العلم ولمكاتب الدعوة، وللمراكز الصيفية وللأطباء، وللتجار، وللبلديات، ولأئمة المساجد، وللمرأة، وللصغار، ولعامة الناس.
وسائل وتوجيهات للراغبين في طلب العلم
1- إن كثرة التخليط في القراءة والتصفح السريع لا يثمر طالب علم وإنما صاحب ثقافة عامة. فلو تنبه الطلاب في الإجازة الصيفية للتركيز على فن من الفنون كحفظ متن فيه ثم الاستماع إلى شرحه والتعليق عليه ثم القراءة لبعض الشروح عليه ويكون ذلك على شيخ أو طالب علم متخصص وهكذا في كل إجازة تمر عليك لأثمرت جهودك ثمرة عظيمة بدلاً من هذا التخليط والتذوق لسائر العلوم المختلفة وعدم الاستقرار على فن معين مما يدفع الطالب إلى الملل والسآمة ثم الإنقطاع والترك.
2- إحذر أيها الجاد من البطالين ولصوص الأوقات فإنهم من أعظم الأسباب لضياع العمر وقتل الأوقات؛ وهم ينشطون ويكثرون في الإجازات الصيفية، وهم معك في كل شيء إلا الحرص على الوقت ولاستفادة منه وهؤلاء قد شكا منهم ابن الجوزي رحمه الله تعالى كثيراً فقال في صيد الخاطر: فصلٌ في أهل الفراغ بلاء ثم قال: أعوذ بالله من صحبة البطالين. لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس ويجرون فيه أحاديث الناس ومالا يعني وما يتخلله غيبة، وهذا شيءٌ يفعله في زماننا كثير من الناس.
إلى أن قال: ((إن أنكرت عليهم وقعت وحشة تقطع المألوف، وإن تقبله منهم ضاع الزمان. فصرت أدفع اللقاء جهدي، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغاً فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد، وبري الأقلام وحزم الدفاتر. فإن هذه الأشياء لابد منها ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم لئلا يضيع شيء من وقتي)) أرأيت كيف يستغلون الأوقات_رحمة الله عليهم_؟ نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر وأن يوفقنا لإغتنامه.
3- بعض الشباب في بعض المناطق قد لا يجدون فرصة للقراءة على المشايخ وطلاب العلم لعدم وجودهم في منطقتهم أو لعدم وجود دورات علمية قريبة منهم ولمثل هؤلاء نقول: الرحلة لطلب العلم منهج لسلفنا الصالح رضوان الله تعالى عليهم فلماذا لا نحييه مرة أخرى؟ ونحن نرى أنفسنا نرتحل ونتنقل مرات ومرات من أجل مصالحنا الدنيوية؟ فلماذا لا يرحل بعض طلاب العلم من منطقتهم إلى مناطق عامرة بالعلماء وطلاب العلم؟ للمشاركة في الدورات العلمية في الإجازة الصيفية؟ ، وفي مثل هذا مكاسب عدة وليس هذا مكان بسطها ومنها:
أولاً: حلاوة الإخلاص وحقيقته في الطلب.
ثانياً: ثمرة العلم وأثره على النفس.
ثالثاً: التعرف واللقيا ببعض المشائخ والاستفادة منهم.
وغيرها من المكاسب، فإن ثقل ذلك عليك فأمامك إذن الأشرطة العلمية النافعة؛ استماعاً وتفريغاً وإعادة وتقييداً للفوائد والشوارد، وهذا أمر مغفول عنه كلية وللأسف. فالأشرطة العلمية كنز هذا الزمان قد أضعناه وغفلنا عنه، فالشيخ معك في بيتك في كل لحظة، ومتى أردت يحدثك ويعد عليك ويعقد لك مجالس الإملاء متى شئت فأين الراغبون في طلب العلم حقيقة؟
4- إذا قدم عشرة من كل منطقة فمن المناسب أن يتوزعوا؟ إلى خمس مجموعات مثلاً؛ وكل اثنين يأخذان فناً من الفنون؛ فمجموعة تأخذ المصطلح، وأخرى تأخذ الأصول، وأخرى النحو، ورابعة التوحيد، والخامسة القواعد الفقهية مثلاً. فإذا رجعوا إلى بلدهم استفادت كل مجموعة من الأخرى، وحصل لهم النفع جميعاً. أما إذا حضروا عند واحد من العلماء ورجعوا جميعاً فإنهم يضطرون إلى الرجوع في العام القادم ولو أشكل عليهم شيء في غير ما تعلموا ما استطاعوا معرفته. فهذه الطريقة تسهل لهم حفظ العلم ونشره في منطقتهم.
5- القرى والهجر بأمس الحاجة إلى الشباب وطلاب العلم بل وأقول لصغار طلبة العلم. فالجهل فيهم منتشر وواضح، ونحن المسؤولون؛ فلقد وجد في بعض القرى القريبة من لا يحسنون الفاتحة ولا يعرفون صلاة(82/1)
ولا زكاة ولا غيرها؛ بل إن بعض القرى تفشى فيها الشرك والسحر والتعلق بالمشعوذين والكهنة والعرافين، والمكلف بهؤلاء والمسؤول عنهم طلاب العلم. ولا يصح أن ننتظر العلماء ومراكز الدعوة كي تنظم لهم الرحلات الدعوية: بل على كل من تعلم العلم أو استفاد أن يدعو فيها، وبعض المدن تكتظ بالشباب المتعلمين. فلو تفرقوا في الإجازات في القرى والهجر لكان حسناً. والأولى توزيع المناطق على الشباب المتعلمين؛ فكل مجموعة منهم تهتم بمنطقة بحيث تقيم لهم الدروس والمحاضرات والندوات وتوزيع الأطعمة والأشرطة وما يحتاجون. ولو أقام هؤلاء الشباب في مثل هذه القرى والهجر أسبوعاً أو أكثر لنفع الله بهم نفعاً عظيماً. ولا بد أن يستفاد من طلاب المراكز الصيفية في الدعوة في القرى والهجر لأنه لا يوجد من بينهم من عندهم حصيلة من العلم؛ ولا دعوة إلا بعلم وعمل وصبر. وإني أخشى، إن أحجم هؤلاء عن الدعوة في القرى وغيرها من هذه الأماكن على ما فيها من جهل أن تكون عرضة لأهل البدع والخرافات من الرافضة والصوفية. بل لا تعجب فإنا نخشى عليهم التأثر ببعض الأفكار النصرانية من خلال عمال وموظفي بعض الشركات والمستوصفات.
6- إختيار بعض الشباب المتميزين من القرى والهجر ودعوتهم لحضور الدورات الصيفية، وتهيئة السكن والمعيشة لهم، والعناية بهم، ومتابعتهم ليرجعوا بعد ذلك مشاعل هداية ودلائل خير بين أهليهم وعشيرتهم. وعلى مراكز الدعوة مواصلتهم وتفقد أحوالهم؛ فإن إعداد شباب من القرى نفسها وسيلة ناجحة في الدعوة إلى الله فيها.
فهل يجد هذا الاقتراح طريقة لقلوب العاملين في مراكز الدعوة وفقهم الله وأعانهم وحفظهم من كل سوء.
وسائل وتوجيهات للمراكز الصيفية
7- الحرص البالغ على استغلال طاقات الشباب ومواهبهم؛ ومن ذلك الحرص على طلاب العلم الراغبين الجادين وتوجيههم إلى حلقات العلماء؛ بل ورسم البرامج لهم: كالقيام بحصر الدروس الصباحية للمشايخ، وجمع الراغبين من طلاب المركز في طلب العلم وإيصالهم إلى الدرس بسيارة خاصة. ففي هذا تشجيع وتنمية للطلب عند الشباب، ولو تم التنسيق بين المركز ومراكز الدعوة بالمدينة لتنفيذ هذا الرأي وتطويره لكان أفضل وأنجح.
8- تحية إجلال وإكبار للمسؤولين عن الطلاب والشباب في المراكز الصيفية ونقول للهم: الله الله في هذه الأمانة ومزيداً من الجدية في تربية الشباب والإفادة من تجارب الآخرين ومن ذلك عقد الزيارات واللقاءات للأساتذة المشرفين في كل مدينة. والعاقل من أضاف إلى عقله عقول الآخرين.
9- تخصيص يوم معين لدعوة عدد من تجار المدينة يعد فيه حفلٌ لتعريفهم بالمركز وما يقدمه لأبنائهم مع تقديم الهدايا لهم، وكذا وضع برنامج خاص بالتجار فقط يكون فيه لقاء مع مدير الغرفة التجارية، وبعض التجار ، وفتاوى مهمة لهم والتنبيه على بعض الأمور: كجلب العمالة الكافرة، وصفات التاجر المسلم. وغير ذلك من المواضيع.
10- اليوم الدعوي . ما هذا اليوم وما برنامجه؟!
يقوم مجموعة من طلاب المركز البارزين بزيارة ميدانية لشباب الأرصفة، والجلوس معهم، وتقديم الهدايا لهم، وتعريفهم بالمركز وأنشطته، ولا بأس من دعوتهم للمركز ومشاركتهم في بعض الألعاب الرياضية، وتقديم وجبة عشاء خفيفة يتخللها بعض التوجيهات والمسابقات؛ يكون ذلك كله تحت إشراف أساتذة المراكز وفي هذا لا شك خدمة عظيمة للمجتمع وقيام للمركز برسالته التربوية تجاه أبناء البلد، ومدٌ للجسور الأخوية مع هؤلاء الشباب، بدلاً من اعتزالهم وضياع أوقاتهم وأعمارهم، وسيكون لذلك بإذن الله أثر طيب وجميل في نفوس أولئك الشباب ومثل هذا إقامة مهرجانات ثقافية واجتماعية بأماكن وجود الشباب، وإقامة المسابقات الخفيفة والطريفة، وبعض الألعاب ولو لمدة يوم واحد فإن في ذلك أيضاً منافع كثيرة.
11- تكوين مجلس للآباء داخل المركز الصيفي يُلتقى بهم كل منتصف شهر وفي ذلك فوائد كثيرة: تعريف الآباء بأنشطة المركز، وخدمته للأبنائهم، والربط بين المجتمع الممثل بالآباء وبين والمراكز الصيفية، ودورها الحقيقي، ومشاركة الآباء في الآراء والمقترحات بل ودعم المركز معنوياً ومادياً، وكسب ثقة الآباء، وتوجيه بعض الإرشادات التربوية الخاصة بأبنائهم. وغيرها من المكاسب في عقد مثل هذه اللقاءات بل لا مانع من مشاركة الآباء في برنامج ترفيهي لتقوى الصلة بين الآباء والأبناء.
وسائل وتوجيهات متفرقة
12- للأطباء:(82/2)
أيها الطبيب الفاضل: إنك على ثغر من ثغور الإسلام، فكم من مريضٍ كنت سبباً في شفائه، وكم من بسمة كنت السبب في إشراقها إنك صاحب قلب كبير ولمسة حانية مباركة، قدمت الكثير والكثير؛ فأنت على خير إن شاء الله. بيني وبينك حديث طويل ولعك تسمعه قريباً إن شاء الله تعالى، ولكني أسوق إليك الآن هذا الاقتراح: هل فكرت في الخروج بعيادتك لبضعة أيام؟ أعني هل فكرت أن هناك مرضى لا يستطيعون الوصول إليك مع شدة حاجتهم لك؟ يتمنون لقياك ولمسة حانية منك. يتكرر أمام عيني ذلك الطبيب من إحدى المنظمات التنصيرية وهو يحمل بين يديه ذلك الطفل الصومالي، ينفض الأوساخ عن جلده بيده كم كنت أتمنى أن تكون أنت ذلك الطبيب!! خاصة وأنا أرى أمه ساقطة على الأرض من شدة الجوع تنظر إلى ذلك الطبيب بعينيها نظرة شكر وإمتنان. كم كنت أتمنى أن تكون أنت الذي تنال تلك الدعوات من قلب تلك الأم المجروح!!!
كم كنت أتمنى أن يفرح بك المسلمون وأنت بينهم تتكلم العربية!!! ويسمع اسم الله تعالى على لسانك، تحمل هذا، وتمسح على رأس ذاك، كم كنت أتمنى أن يبصر ذاك الأعمى على يديك!! وأول ما يقع بصره على وجهك ذي الملامح الإسلامية. إنك تعلم أن هناك مئات بل آلاف المسلمين فقدوا البصر لأسباب يسيرة جداً كان شفاؤهم على يد المخلصين أمثالك بعد الله عز وجل. فلماذا تحرم نفسك هذا الأجر العظيم بأن نهب لله من نفسك أياماً للسفر إلى أمثال هؤلاء؟ وأنا على يقين بأن المكاسب كثيرة جداً كما أني على يقين بأن هذا الطرح سيجد طريقه لقلبك إن شاء الله.
13- للتجار:
إن من العدل أن نقول للمحسن أحسنت، كما نقول للمسيء أسأت. ومن هذا المنطلق لو أن الهيئات والبلديات ومكاتب الدعوة تم التنسيق والتعاون بينها لجمع أسماء المحلات التجارية المجتنبة للمحاذير الشرعية: كبيع المجلات الماجنة، والدخان وغيره، وتم تكريم أصحابها وتقديم شهادات التقدير لهم عبر حفل أو مناسبة تقام لهم، فإن هذا من أقل حقوقهم علينا. ثم إني أقدم لأصحاب المحلات والمعارض-حفظهم الله-
هذه التوجيهات وهي في كل وقت وخاصة في الإجازة الصيفية لكثرة المتسوقين:
1- تخصيص هدايا وأشرطة مناسبة لكل مشترٍ.
2- وضع بعض العبارات والتوجيهات الإرشادية على الأكياس التي توضع بها الحاجات.
3- تخصيص لقاء دوري مفتوح بين أصحاب المحلات ورجال الحسبة؛ فإن في ذلك منافع كثيرة.
14- أيضاً للتجار:
أخي صاحب المؤسسة أو صاحب المحل التجاري.
هل تعلم أن العاملين لديك هم أمانة في عنقك؟ وهل تعلم أنهم ربما جهلوا أصول دينهم وفرائضه؟ إنك ترغب في نماء تجارتك، وبركة مالك، وتعلم أن الرزاق هو الله( وفي السماء رزقكم وما توعدون) ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) فكيف لو حرصت على صلاح عمالتك واستقامتهم ودعوتهم إلى الخير؟ هل فكرت أن تحضر لهم شريطاً أو كتيباً مناسباً لهم؟ هل حرصت على إلتحاقهم بالدروس المنعقدة في مكاتب الجاليات لمثالهم؟
إني على يقين أنك محب للخير راغب فيه. وتعلم أن تجارة الدنيا وما فيها لا يعدل شيئاً أمام هداية رجل على يديك فكيف وأنت قادر بإذن الله على أن تجمع بينهما؟! إن صلاح العامل لديك يجعله أميناً حسن الأخلاق، مما يزيده حرصاً على مالك، وحرصاً على كسب العملاء بحسن أخلاقه.
فأقترح عليك أخي التاجر: العناية به، وتعليمه فرائض دينه؛ بل ربما وُجدَ في المؤسسة الواحدة أكثر من عشرين عاملاً فَلِمَ لا تحرص على أن يكون لهم درس واحد في الأسبوع؟ اتصل بمكاتب الجاليات ستجد خيراً كثيراً، وأنت المستفيد دنيا وأخرى. فلا تحرم نفسك الخير. فهذه فرصة للانطلاقه بهذا المشروع وتوكل على الله ولا تتردد لحظة واحدة.
15- للبلديات:
تحرص البلديات مشكورة على إعداد المنتزهات والحدائق العامة، لراحة المواطنين في الإجازات الصيفية، وهذا أمر مشاهد وملموس، جزى الله القائمين عليها خير الجزاء، ووفقهم لما يحبه ويرضاه. ولو أضيف لهذا الإنجاز المقترحات التالية لكان أتم وأكمل:
أولاً: عمل مصليات مع دورات المياة في كل حديقة.
ثانياً: تنظيم مسابقات وألعاب خاصة بالصغار.
ثالثاً: تنظيم برامج ومسابقات وألعاب خاصة بالعزاب والشباب في الحدائق الخاصة بهم، وذلك بالتعاون مع مراكز الدعوة وبيوت الشباب وغيرهم ممن يعنيهم الأمر ففي ذلك استثماراٌ لأوقات وأعمار شبابنا خاصة في مثل هذه الإجازات.
16-لأئمة المساجد:(82/3)
أيها الأئمة: ماذا أعددتم لمساجدكم في هذه الإجازات الصيفية؟ ماذا أعددت أنت أيها الإمام للرجال الذين يلتقون خمس مرات في اليوم والليلة؟ وماذا أعددت لنساء الحي اللاتي يقضين وقت فراغ طويل في مثل هذه الأيام؟ ماذا أعددت-أيها الإمام-لصغار الحي وأنت تراهم كل وقت في الشوراع وعلى الأرصفة؟ ماذا أعددت للعمالة المسلمة وهم يصلون معك كل وقت؟ ماذا قدمت لهؤلاء وغيرهم من أهل الحي الذين هم أمانة في عنقك وستسأل عنهم أمام الله يوم القيامة؟! إنك تعلم أن المسجد ملتقى للجميع الصغير والكبير، الغني والفقير، الرجل والمرأة. ألا تعلم-أيها الإمام-أنك أول من يتحمل المسؤولية ومن ورائك المؤذن؛ فأنت مؤتمن!! ماذا قدمتما تجاه هذه المسؤولية العظيمة؟!
إنك مطالب بالاتصال بمراكز الدعوة، والهيئات، وبطلاب العلم، والمشائخ، للتنسيق والترتيب والتعاون لما فيه صلاح للجميع. إنك مطالب بالتوجيه والإرشاد ومواساة الفقراء والأرامل في حيِّك. إنك مطالب بأن تجعل مسجدك خلية نحل للبرامج والأنشطة يشارك فيها الجميع. تصور لو أن كل إمام قام بدوره كيف سيكون الحال؟
إننا نطالب أئمة ومؤذني المساجد في الأحياء بعقد الدورات والندوات للتشاور والتنسيق. إن عليك مسؤوليات عظيمة ومهمات كبيرة. فإما أن تقوم بذلك أو أن تعطي الفرصة لغيرك. واحذر من الحيل النفسية، ومداخل الشيطان؛ فأنت أعرف بنفسك وستقف أمام الله عز وجل(اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد).
17- للهيئات:
هل فكرت هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إقامة دورات صيفية لإفادة الناس في هذه الإجازة؟ كإقامة دورة في الحسبة وصفات المحتسب، وكيف يتعامل مع المنكرات بالرفق واللين؟
وكإقامة دورة لمديري المدارس لدراسة مشاكل الطلاب الأخلاقية وتفشي بعض المنكرات الخطيرة بينهم، والبحث عن الأسباب، وطرق العلاج، والخروج بتوصيات ونتائج للدورة يُسعى لتنفيذها والاستفادة منها. وكإقامة لقاء للآباء والتحدث معهم عن الأخطاء التي تواجه أبناءهم، وطرح الأفكار والآراء والخروج بنتائج ومكاسب، وغيرها الكثير من الدورات المثمرة.
وفي هذا إبراز للدور الكبير للهيئات وواجبها تجاه المجتمع.
وسائل وتوجيهات للمرأة
المرأة صنو الرجل وشريكته في صنع الحياة، وهي المحضن الذي يترعرع فيه رجال الغد، ومنه تنبت فسيلة الأسرة الصالحة؛ فإليها وهي البنت والأخت، والأم..إليها أقدم هذه التوجيهات:
18-لا تخلو مدينة من دور أو مراكز صيفية لتحفيظ القرآن فلتحرصي أيتها الأخت على المشاركة، ولتحرصي أيتها الأم، ويا أيها الأب على مشاركة بناتكم في هذه المراكز.
وإننا-أيضاً-نطالبك أيتها الأخت بتوجيه وتشجيع أخواتك للالتحاق بهذه المراكز لاستثمار الإجازة، ولو لم يكن إلا أن تتعرف تلك الأخت على أخوات صالحات يتعاون على الخير وفعله، لكفى.
19- تكثر مناسبات الزواج والأفراح والاجتماعات في الإجازة الصيفية، وتجتمع أعداد كثيرة من النساء، ولو حبست هذه الساعات التي تقضيها المرأة في هذه المناسبات والاجتماعات لربما وصلت إلى نصف الإجازة بدون مبالغة.فلماذا لا تستغل هذه المناسبات والاجتماعات من قبل بعض الصالحات في إلقاء بعض النصائح والتوجيهات، وإن لم تكوني أنت المتحدثة؟! فلماذا لا تكوني مفتاح خير للناس، فتكونين أنت الداعية لإحدى الأخوات القادرات؟ وإن لم تجدي فاتصلي بمركز الدعوة في مدينتك لعله أن يوفر لك مثل هذه المتحدثة.
لماذا تتصور بعض النساء أن مثل هذه الأمور وهذه الأنشطة الدعوية خاصة بالرجال؟ أو أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاص أيضاً بالرجال؟ ربما رأت المرأة في مثل هذه المناسبات عشرات المنكرات من غناء ماجن أو لباس فاضح أو تصوير أو غير ذلك من المنكرات، ومع ذلك لا تحرك ساكناً ولا تتفوه بكلمة، إن كلمة خفاء بينك وبين إحدى الأخوات المخالفات لترفعك عند الله مقاماً عظيماً. فلماذا تحرم المرأة نفسها من هذا الخير العظيم؟! ثم إن السكوت عن الخطأ والمجاملة في الحق هو المرض وهو الداء(العضال) الذي بليت به كثير من النساء خاصة الصالحات منهن. اسمعي وعي حتى تعلمي أن الأمر واجب عليك كما هو واجب على الرجال قال الحق عز وجل:( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(71)وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ َالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )(82/4)
إذن فأنت مكلفة بهذه الأمور كما أن الرجل مكلف بها سواء بسواء. فما هو عذرك إذن أمام الله عز وجل يوم تسألين وأنت ترين بعينيك المنكرات في الناسبات فلا تحركين ساكنا؟ إنه ما من مسلمة إلا تحب الخير وتحب انتشاره ولكني أسألك-أنت بالذات-أيتها المسلمة كيف تريدين للخير أن ينتشر بين النساء وأنت لم تعملي الأسباب؟
بل كيف نريد للخير أن يعم النساء ونحن نسمع عن الفتيات اللاتي يحرصن على إيصال الروايات والأفلام الهابطة إلى صويحباتهن بكل مناسبة. وفي المقابل تجد الصالحة تستحيي بل قد لا يخطر على بالها أن تُحضر معها أشرطة وكتيبات تقوم بتوزيعها.
هذه المناسبات فرصة عظيمة لتعليم الأخوات كيف تستثمر الأوقات.
أيتها الأخت الغالية:
إننا نطالب بحمل الهم لنشر الخير بين النساء وفي المناسبات خاصة. ولا أقول بمقدار الهم للتزين والتجمل ولكني أقول بعشر معشار ذلك.
20- نتمنى أن تحرص دور تحفيظ القرآن ومساجد الأحياء أيضاً على تخصيص دورات خاصة للنساء في الموضوعات التي تخص المرأة وذلك مثل: أحكام الحيض والنفاس، الطلاق، معاملة الزوج، تربية الأبناء، واجب المرأة نحو قضايا المسلمين. وتتخلل هذه الدورات إقامة مسابقات خاصة بهن، وتلخيص بعض الكتب والبحوث الهامة، ومشروع الطبق الخيري، وغيرها مما يخص المرأة. فإن في ذلك استثماراً لوقت المرأة في هذه الإجازة.
21- أيضاً للمرأة:
الحرص على المشاركة في الدورات العلمية المقامة بمدينتك ومتابعة هذه الدروس وتقييدها والإستفادة منها وإن لم تستطيعي المشاركة كلية فإنك-على الأقل-تختارين من الدروس ما يناسبك فتحرصين على متابعتها والإفادة منها.
22- يجب على الأخت ألا تأتي وحدها لهذه الدورات بل تحرص على مشاركة أخواتهن فتشجعهن وتحثهن من خلال الاتصال المتكرر بهن.
وما أكثر الأوقات التي تقضيها المرأة بالمهاتفات! فلماذا لا تستغل هذه المكالمات في التوجيه والإرشاد والدلالة على الخير في كل مكان؟
فكوني مشجعة وحاثة لأخواتك على المشاركة وإن لم تتمكني أنت من المشاركة لظروف خاصة فإنك تنالين الأجر وإن لم تحضري؛ والدال على الخير كفاعلة.
وسائل وتوجيهات للصغار
على الآباء والأمهات حث الصغار على حفظ بعض أجزاء القرآن في الإجازة، وتشجيعهم بكل وسيلة مشروعة؛ مثل تحديد جائزة مالية لكل من يحفظ من الأبناء جزءاً من القرآن في هذه الإجازة ولكل من حفظ ولدك أو بنتك جزءاً كاملاً من القرآن أو حديثاً فإن ذلك كنز عظيم في الدنيا والآخرة، وإن مقدار الجائزة الصيفية وستجد في ختامها نتائج عظيمة ،إن حرصت على ذلك واعتنيت به.
24- كم نفرط في صغارنا وأولادنا . . وكم نفرط في أوقاتهم . . ، وكم ينشغل عنهم أمهاتهم وآباؤهم في مثل هذه الإجازة خاصة ، ويظن بعض الآباء أنه بمجرد قيامهم برحلة أنه قد أدى ما عليه دون وضع برنامج خاص لهذه الرحلة. فإذا كان الصغار مع أبيهم أو أسرهم لماذا لا ترسم لهم البرامج المتنوعة : من مسابقات وألعاب وتدريب وقل مثل ذلك داخل المنزل ، فلو أن كل أسرة جمعت صغارها في مكان ما، وتقاسم الكبار الإشراف والتوجيه لبرامجهم لكان أجدى ولن يكلف ذلك الآباء والكبار شيئاً إذا تعاونوا وتقاسموا الأوقات بينهم فإن من الخطأ أن يترك الصغار مجتمعين دون حسيب أو رقيب ولو توسع الأمر إلى قيام الآباء بالحي الواحد بمثل هذه الفكرة لكان حسناً ، فلو أن الآباء في حي واحد اتفقوا على أن يجعلوا برنامجاً منظماً في مكان أو استراحة في وسط الحي لأبنائهم وجاءوا بمن يرعى هذا الأمر لما كان ذلك كثيراً على أولادهم لحفظهم من الشوارع ومن لصوص الأغراض، ولحفظ أوقاتهم ، في مثل هذه الأيام.
25- من المؤسف أن كثيراً من الشباب يمتد نفعه إلى كل أحد إلا أهل بيته وعشيرته ، فلماذا لا يفكر الشاب في جمع أفراد أسرته وكذلك تفكر الفتاة في جمع أفراد أسرتها وأقربائهم في مخيم صيفي في أي مكان ، أو في استراحة، حتى ولو في بعض الليالي ، أو حتى في ليلة واحدة ، حتى وإن كان ذلك في المنزل وينظم برامج ومسابقات وألعاب يتخللها بعض التوجيهات والكلمات وتوزيع الأشرطة والرسائل وفي ذلك منافع شتى . وقد جرب هذا فأعطى ثماراً يانعة، وهو صلة وبر ودعوة وإصلاح .
وسائل وتوجيهات للشباب
على كل شاب أن يحرص على الخير الذي يحسنه ويتقنه ويتخصص في المجال الذي يُبدع فيه مستغلاً أيام إجازته.
26- فإن كان يحسن توزيع الكتاب والشريط اهتم لهما وعمل ما استطاع لأجل إيصالهما للناس، من جمع مبالغ لهما، وحسن اختيار، وحسن توزيع، وحسن إبداع، وتنظيم، فيقسم عمله إلى فترات، وكل فترة في وجهة ما، ولا يغفل عن الجميع فللرجل، وللمرأة، وللعامة، وللتجار، وللسباب، وغيرهم. فيعطي كل ذي حق حقه.(82/5)
27- وإن كان يحسن فن الكلمة الطيبة اهتم لها وعمل ما استطاع لإيصالها للناس من حسن إعداد وإبداع في الأسلوب وكسب لقلوب الناس؛ خمس كلمات أو عشر يلقيها مرة في الشرق ومرة في الغرب يحرص فيها على ما يحتاجة الناس لا يملّ ولا يكل فإنها صدقة منه على نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم: ((والكلمة الطيبة صدقة)).
28- وإن كان يحسن فن الدراسات والتنظيم والتخطيط وجمع المعلومات اهتم لذلك وأعد العدة لها، وما أكثر المواضيع التي تحتاج إلى دراسات ميدانية، وجمع الاقتراحات والملاحظات من المعنيين والمتخصصين فيها ومنها على سبيل المثال: المرأة ودورها في الدعوة إلى الله عز وجل الواقع والمطلوب، ويا ليت بعض شبابنا يتخصص في مثل هذا الأمر.
مثال آخر: المراكز الصيفية واستثمار الطاقات ورفع المهارات، ومثال ثالث: محاضن لتربية الشباب بين الأمل المنشود والواقع المفقود.
هذه أمثلة لبعض المواضيع التي تحتاج لدراسات، وجمع معلومات واستفسارات، مع المعنيين والمتخصصين وطرح ذلك لعل الله عز وجل أن ينفع بها كما نفع بغيرها.
29- وإن كان يحسن القيام على اليتامى والأرامل والمساكين، والاهتمام بشؤونهم ومساعدتهم. فليحرص على ذلك.
30- وإن كان يحسن فن البيع والشراء ويحسن فن التعامل مع الناس فميدان التعامل مفتوح وبابه واسع. وكم نحن بحاجة للتاجر المسلم الداعي إلى الله من خلال تجارته وبيعه وشرائه.
31- وإن كان يحسن فن التعامل مع شباب الأرصفة ويحسن التحدث معهم وإهداءهم بعض الهدايا والتودد لهم وكسر الحاجز بينهم وبين الاستقامة وحب الصالحين فليحرص على هذا، فإني أؤكد على هذه الوسيلة في الإجازة الصيفية فإننا نرى شبابنا يتحلَّقون بالعشرات على الأرصفة خاصة في مثل هذه الأيام. فنتمنى أن يتخصص بعض الشباب ويتفرعون للعمل مع إخوانهم. كما نتمنى أن تتابع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ممثلة بمراكز الدعوة، والرئاسة العامة لرعاية الشباب ممثلة ببيوت الشباب. أن تتابع مثل هذه الظاهرة وتملأ فراغ الشباب وإلا فإن النتائج عكسية.
والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية.
32- وإن كان يحسن جمع الأشرطة القديمة، والكتيبات، والمجلات القديمة، وتوزيعها على المستوصفات وصوالين الحلاقة وأماكن الانتظار في بعض المرافق العامة هذا في الداخل. وأما في الخارج فيحرص على عناوين بعض المراكز والمؤسسات الإسلامية، وإرسال بعض الكتيبات، والمجلات الإسلامية وغيرها، فهم في أمسِّ الحاجة لها، ولعل هذا يذكرنا_أيضاً_بموضوع آخر هو الدعوة بالمراسلة؛ وقد طُرح هذا الموضوع مراراً على صفحات بعض المجلات وقام به بعض الإخوة والأخوات فنجح نجاحاً باهراً، كما يحدثنا بعض القائمين على مثل هذه الفكرة عن الرسائل التي تصلهم معلنة التوبة والهداية والالتزام بالحجاب. وقد قرأت بنفسي ونظرت بعيني كثيراً من هذه الرسائل حيث يعلن أصحابها أنهم رجعوا وتابوا إلى الله، وتعلن بعض الأخوات من خارج هذه البلاد أنهن التزمن الحجاب بمجرد رسالة أو كتاب أو شريط أرسلته لها بعض الأخوات، ولكن مازالت هذه الفكرة بحاجة إلى مزيد من الشباب والفتيات. وأؤكد على المرأة؛ بل وأؤكد عليك أنت أيها الأخ الحبيب أن تحاول إن لم تعمل أنت أن تعمل أختك أو زوجتك أو بنتك في هذا المشروع. وفر لها الأشرطة والكتيبات والرسائل الصغيرة، والعناوين من خلال صفحات هواية المراسلة في المجلات وتابعها من خلال هذا المشروع لعلها ترسل على الأقل مائة رسالة في مثل هذه الإجازة. لا تدري لعل هذه المائة تنفع ويفتح الله عز وجل على قلوب أصحابها فتصبح داعية في الخارج وأنت في الداخل، بل وأنت جالس في بيتك على الفراش الوثير، لماذا نحرم أنفسنا هذا الأجر؟ هل من مستجيب لهذا النداء؟خاصة ونحن نعلم أن في بيوتنا عشرات ومئات من المجلات والأشرطة النافعة فلماذا لا يقوم البعض بجمعها من إخوانه ومعارفه والاستفادة منها في مشاريع الخير؟!(82/6)
33- ذكر لي أحد الأخوة موقفاً جميلاً قال فيه: إن أحد إخوانه يحدثه: أنه كان راكباً مع صاحب له في سيارته، وكانا واقفين عند إحدى الإشارات بمدينة(ما) وكان أمامها سيارة صغيرة قديمة كُتب على زجاجها الخلفي جملة بعدد من اللغات فضحك صاحبي فسألته عن سبب ضحكه فقال: أتدري ما ترجمة الجملة المكتوبة على السيارة؟ قلت: لا. قال إنها تقول: إن أردت أن تعرف شيئاً عن الإسلام فما عليك إلا أن توقفني. يقول: فاندهشت متعجباً فقلت: لابد من إيقافه فأوقفناه وسألناه فتبسم ضاحكاً وقال: ربما ظننتم أني أتحدث عدداً من اللغات والحق أني لا أتقن حتى العربية فأنا رجل عامي غير أني فكرت كيف أنفع هذه الدعوة مع معرفتي بنفسي وقدراتها فاهتديت لهذه الفكرة. يقول: ففتح لنا مؤخرة السيارة فإذا هو قد قسمها إلى مربعات وفي كل مربع مجموعة من الأشرطة والكتيبات وقد كتب على كل مربع لغة تلك الأشرطة والرسائل. فيقول: أذهب إلى مكتب الدعوة والجاليات وأحمل هذه الأشرطة والرسائل ثم أذهب في طريقي فمن أوقفني سألته عن لغته وأعطيته شريطاً وكتاباً. ويذكر أنه يُحرج كثيراً من كثرة إيقافه. هذا إنجاز؛ فأين نحن من هذا الرجل؟! ولك أن تتصور أجر هذا الرجل ومنزلته عند الله عز وجل إن أخلص نيته لله. فلم يحتقر نفسه، ولم يقل من أنا فأقدم شيئاً للإسلام؟! ولكنه عزم ففكر فوجد! أين أنتم يا شباب الإسلام؟! وأين أنتن يا فتيات هذا الدين؟! إن الحاجة أم الاختراع، ولكن هل نشعر في قرارة نفوسنا أننا بحاجة إلى هذا العمل حتى نستطيع أن نفكر أو نوجد هذه المشاريع؟
وصدق القائل:
ما قلة الأعداد نشكو إنما *** تشكو الكتائبُ قِلة الإعداد
34- تتحرك جميع وسائل النقل من طريق إلى آخر ومن بلد إلى بلد، بل ومن دولة إلى دولة، ولك أن تتصور ماذا يُعرض؟ وماذا يسمع الراكبون في وسائل المواصلات، فلو قُدِّم لسيارات النقل والأجرة عدد من الأشرطة سواء المسموعة أو المرئية، والمجلات والكتيبات النافعة، لكانت من أفضل وسائل الدعوة. فإن أفضل ما تستثمر به الأسفار القراءة أو الاستماع ولو أنا أعطينا كل سيارة نقل شريطاً لاستمع له نفرٌ كثير لا تدري عددهم فإن البذرة الطيبة تُخرج ثمرا ًطيباً.
35- من الوسائل والتوجيهات العامة_أيضاً_لاستغلال الإجازة الصيفية:
دورة في تخريج الأحاديث، دورة في وتغسيل الموتى، وكيفية التكفين، والدفن، ودورة في حلقات الخطابة، ودورة في اللغة الإنجليزية عند الحاجة، ودورة في السباحة والرماية وركوب الخيل، ودورة في الكاراتيه والدفاع عن النفس، كل هذه الفنون وغيرها من الوسائل مثمرة نافعة لقضاء الإجازة الصيفية، فاحرص عليها أيها المسلم وابحث عنها في مظانها، وعلى مراكز الدعوة وبيوت الشباب والمراكز الصيفية توفير مثل هذه الدورات للجميع، لأن فيها خيراً كثيراً، وهي لاشك خير من الخمول والكسل والاشتغال بالمعاصي والمنكرات.
36-إذا كنت من هواة السفر إلى الخارج وكنت ممن يملك رصيداً من الإيمان والتقوى ويملك شيئاً من العلم الشرعي، فاتصل بإحدى المؤسسات الخيرية للتنسيق معها لعل الله عز وجل ينفع بك هناك، فإن المسلمين يتعطشون للجلوس معك، والإستفادة منك، وإيقافك على أحوالهم، ومشكلاتهم، ولتعلم أن المسلمين في كل مكان يحتاجون إليك، وإلى أمثالك ولترى بعينيك الصراع بين الكفر والإسلام وبين الشرك والتوحيد ولتشعر بحقيقة التحدي بين الحق والباطل.
37- القراءة من أفضل الوسائل لقضاء الإجازة الصيفية وأعني بها القراءة المركزة والتي يتبعها تقييد للفوائد والشوارد فاجعل لنفسك من الآن وقتاً مخصصاً للقراءة واجعلي لنفسك أيتها الأخت وقتاً مخصصاً للقراءة، وليختر كل منكم من الآن الكتب التي ترغب أو ترغبين بقراءتها، واعلم أن هناك فرقاً كبيراً بين القراءة المركزة وبين الإطلاع العابر، كما أنه لابد لحفظ المتون والقصائد والكتابة والتأليف وقرض الشعر وكتابة المقالات وغيرها من الهوايات والمهارات الفردية من تخصيص وقت مناسب لها في هذه الإجازة .
38-أن يتفق الشاب مع بعض أصحابه على الذهاب إلى بعض المكتبات العامة في ساعة معينة صباحاً ليقرأوا ويلخصوا ويقيدوا بعض الفوائد، كلٌ حسب ميوله، وفي هذا الاتفاق تشجيع لبعضهم للمواصلة وعدم الانقطاع، وفيه إحياء للمكتبات، والجلوس والإطلاع، لاشك أنه خير من ضياع الوقت في النوم، فربما وصل الأمر ببعضهم أن ينام إلى صلاة الظهر. نعوذ بالله من الخمول والكسل.
ولو تنبه القائمون علي مراكز الدعوة والمراكز الصيفية لمثل هذا الرأي وتم التنسيق له والإعلان عنه وتوفير سبل الراحة بالتنسيق مع المكتبات العامة، وتشجيع الشباب؛ بل ووضع أوقات خاصة للنساء، فإنهن بحاجة لمثل هذه المكتبات ولمثل هذه الأوقات الخاصة بهن، لرأينا أثر ذلك علي شبابنا وفتياتنا .(82/7)
39- رحلة لأداء العمرة، رحلة لزيارة المدينة النبوية، رحلة للجنوب، رحلة لزيارة الأهل والأقارب، رحلة إلي إحدى المدن، إلي آخره من الرحالات . كل هذه الرحلات مما تُقضى به الإجازة الصيفية وفيها خير كثير. إن شاء الله، ولكنها تُصبح مملة جداً إن لم يُخطط لها وينظم. ففي الطريق مثلاً ألعاب خفيفة ومسابقات ثقافية واستماع لشريط ورواية لقصة، وعند الوصول تنظيم برنامج لزيارة الأماكن المناسبة، والأشخاص، والتسوق. كل ذلك بالضوابط الشرعية والمحافظة على الأخلاق الإسلامية. وجميل جداً حمل هم الدعوة إلى الله بهذا السفر وذلك بإعداد مجموعة من الأشرطة والرسائل وتوزيعها في الطريق والمحطات فإن الله يبارك في رحلتكم ويتكفل بحفظكم ورعايتكم كما قال صلى الله عليه وسلم: ((إحفظ الله يحفظك)).
فيا أيها الأب ويا أيها الأخ الكبير وزِّع المهام على أفراد العائلة: فلأم تعد الطعام واللباس، والأخت تعد الأواني والأغراض، والآخرى تعد المسابقات الثقافية، والأخ للألعاب الخفيفة والألغاز، وأنت مسؤول عن التخطيط والتنظيم، وعن الأشرطة والرسائل للتوزيع.
بعد هذا كله لكم أن تتصوروا أيها الأحبة كيف ستكون هذه الرحلة العائلية.
40- وأخيراً:
أقول أيها الأخ الحبيب ويا أيتها الأخت إن الإجازة الصيفية فرصة لا تعوض وهي أيام من العمر فاحرص على إغتنام الفرص، واللحظات فيها، وحاول جاهداً أن تخرج من إجازة هذه السنة بمكاسب ونتائج طيبة.
فيا شباب أنتم في مقتبل العمر وبحاجة إلى بناء الشخصية وقدراتها ومواهبها. وشتلن بين شاب أو فتاة ذي مواهب متعددة يعرف الكثير ويتقن الكثير فهو ذو علم وثقافة واسعة يحفظ القرآن، وبعض الأحاديث، ويجيد التعامل مع الحاسب الآلي، يتكلم الإنجليزية لحاجته إليها، فهو مفتاح خير في كل شيء، وبين شاب_أو فتاة_لايُتقن صنع شيء ولا يعلم شيئاً إلا التسكع في الشوارع ومشاهدة الأفلام وغيرها.
لماذا؟وما الفرق بينهما؟
لا لشيء إلا أن الأول استغل أوقات فراغة بما ينفع، والآخر ذهبت عليه الأيام والليالي في نوم وسهر وتسكع وجلسات وضحكات.
وتذكر آخر الإجازة وكلٌ قد رجع بمكاسب ونتائج وأنت أيها المسكين تجر أذيال الخيبة والخمول والكسل.
فإن لم تكن مفتاحاً لأبواب الخير التي ذكرنا بعضاً منها فما أن تحب الخير وأهله وتبذل دعوات صادقة تخرج من قلبك لإخوانك بالتوفيق والتيسير، فإن الدعاء سلاح المؤمن فانصر إخوانك وكن معيناً لهم ولو بدعوات صادقة، أو بكلمات طيبة، فإن تشجيعٌ منك لإخوانك الناشطين العاملين، لك أنت أجر وثواب هذه الكلمات والدعوات، فإن لم تستطع الدعاء أو الكلمة الطيبة فكف عنهم لسانك فإنها صدقة منك أيضاً على نفسك.
نسأل الله عز وجل أن يبارك في أعمارنا وأوقاتنا، وأن يوفقنا للعمل الصالح فيها فقد قال_صلى الله عليه وسلم_ ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل، عن عمره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أبن أكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)).
فهل أعددت للسؤال جواباً،وللجواب صوابا؟
خاتمة
هذه توجيهات وإقتراحات للإفادة من الإجازة الصيفية أرجو الله تعالى أن ينفع بها المسلمين. فما كان فيها من صواب فمن توفيق الله وحده لا شريك له، وما كان فيها من خطأ فمن نفسي الضعيفة. أسأل الله أن يغفره لي ويتجاوز عني(إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ...
موقع صيد الفوائد(82/8)
أركان العبادة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
في هذه الحلقة نذكر أموراً أخرى تتعلق بالعبادة، التي شمل معناها الوجود، وعمت كل موجود، سوى الله تعالى، فالكل يعبد الله كما قال –تعالى-:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (44) سورة الإسراء.
ومن الأمور التي سنتحدث عنها: ركنا العبادة.
للعبادة ركنان أساسيان لا تقوم إلا عليهما جميعاً، فإن انتقض ركن فسدت العبادة، ولا يقبل الله إلا ما توفر فيه ذانك الركنان:
الأول: الإخلاص لله تعالى.
الثاني: اتباع الشرع في جميع العبادات من غير ابتداع.
والأول هو أساس الدين الذي قال الله عنه:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء} (5) سورة البينة ) ومعنى الإخلاص: تصفية الإرادة والتوجه إلى الله –تعالى- بالعمل، وتخليص العبادة من شوائب الرياء، وحب الفخر، والسمعة.. ومن الإخلاص-أيضاً- احتقار العبد عمله أمام نعم الله عليه، فمن أعجب بعمله أحبط وهو لا يشعر! ولهذا كان العجب بالأعمال وتضخيمها في النفس من محبطات الأعمال، وقد أطلق بعض السلف على ضرورة تجنب العجب قوله: إخلاص الإخلاص، أي أن الإخلاص يحتاج إلى تخليصه من العجب بالعمل، فلو أن عبداً صلّى في غرفة مغلقة مظلمة لا يراه إلا الله فهذا لا شك أنه إخلاص؛ لأن العمل كان مقصوداً به الله، دون حب الرؤية من أحد، ولكن بقي شيء هام جداً، وهو ألا يعجب العبد بعمله هذا، وتوسوس له أنه من عباد الله المقربين، وأنه قد عمل عملاً كبيراً!! بل يحمد الله ويستغفر بعد هذا العمل، ويعلم أنه لو بات الليل ساجداً، والنهار صائماً، لما وفى حق نعمة من نعم الله -عز وجل- فكيف بركعة أو ركعتين؟!
ولهذا قال بعض السلف الصالح: لأن أنام الليل إلى الفجر فأصبح مستغفراً خير من أن أقوم الليل كله فأصبح معجباً -أي معجباً بالعمل-.. وليس معنى هذا دعوة للنوم عن العبادة!! لكن فيه تنفيراً وزجراً عن العجب بالنفس – والعياذ بالله-.
وقد جاء في الإخلاص أحاديث كثيرة تبين أنه ركن وأساس في العبادة فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - في وصف أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)) رواه البخاري ، وفي الصحيحين من حديث عتبان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ))
وجاء في حديث الأعمال بالنيات ما يبين أهمية ذلك الأساس ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)).. الحديث, متفق عليه.
وكان عمر بن الخطاب يقول: (اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل فيه لأحد شيئاً).
وأقوال السلف ومواقفهم في هذا الركن العظيم لا تحصى كثرةً واستفاضةً، وهم قد حققوا ذلك واقعاً في حياتهم – رضي الله عنهم جميعاً-.
الركن الثاني: إتباع الشرع في العبادات
والمقصود بهذا أن يأتي الإنسان بالعبادات موافقة للشريعة الإسلامية اتباعاً لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فلا يقبل الله –تعالى- أي قربة أو عبادة تخالف شريعة الله، وإن ظن صاحبها أنها قربة فهي وبال عليه وكربة؛ لأن التقرب يكون بما شرع الله – عز وجل- ولهذا يقول –تعالى- في بيان أهمية هذا الركن وما قبله:{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (110) سورة الكهف، والعمل الصالح هو الموافق للشرع، وما خالفه فهو الفاسد، وقوله: (وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًاً) نفي الشرك عن العبادة، وهو معنى الإخلاص ..
وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من زاد في الدين أو أحدث عبادة يظنها قربة وطاعة، وبين أنها مردودة عليه فقال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في خطبته يوم الجمعة : ((أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة)) خرجه مسلم في صحيحه.
وعن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله! إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا ؟ قال: ((قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنف، حيثما قيد انقاد )) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.(83/1)
وقال الله عن أهمية اتباع الرسول في شرعه:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } (31) سورة آل عمران.
فتبين بهذا أن العبادة لا تصح إلا بهذين الركنين العظيمين وهما الإخلاص والمتابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقد جاء عن السلف الصالح ما يبين اشتراط ذلك للعبادة في كلامهم، وأن العبد لا تقبل منه العبادة إلا بهذين الأساسين العظيمين، يقول الفضيل بن عياض في قوله الله:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًاُ} قال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟! قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة).
كمال المخلوق في تحقيق العبودية لله:
كلما كان العبد قريباً من الله –تعالى- محباً لطاعته وعاملاً بها، كان إلى الكمال البشري أقرب، ولما كان الأنبياء -عليهم السلام- هم أقرب الناس من ربهم تعبداً وتألهاً وحباً وخوفاً ورجاءً، وصفهم الله بالعبودية في مواضع مختلفة، ولهذا قال الله عن المسيح:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } (59) سورة الزخرف, ولما ادعت النصارى أنه ابن الله رد الله عليهم بأعلى درجات البشرية وهي القرب من الله والعبودية لله، وليس كما زعموا أنه ابن الله..
وكما سبق فقد وصف عباده المقربين من الملائكة الكرام بالعبودية فقال: (بل عبادٌ مكرمون * لا يسبقونه بالقول) الآية. وقال: (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون).
وبين أن الاستكبار عن العبودية والطاعة لله من أرذل صفات العبيد، وأن مقام العبادة من أشرف المقامات فقال –تعالى-:{لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} (172-173) سورة النساء. وقال:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر .
وقد وصف الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالعبودية في أعلى المقامات، فوصفه في مقام الإسراء، وهو مقامٌ عظيم، فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1) سورة الإسراء .
ووصفه بها في مقام الوحي:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (10) سورة النجم .
ووصفه بها في مقام الدعاء:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (19) سورة الجن .
فهذه من أعظم المقامات فاستحق نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن يحوز الكمال البشري بالتقرب إلى الله تعالى.
وهذا الأمر مفتوح للناس إلى يوم القيامة فعلى قدر ما يحقق العبد من العبادة يكون قدره وكماله عند الله - الكمال النسبي- فيحصل له من أنس المناجاة، وقرب المناداة ما ضيعه كثير من البشر التائهين في دياجير الأماني والأحلام، وبالله المستعان..
العبادة مبنية على الحب والخوف والرجاء..
ليست العبادة كما يزعمها كثير من الفلاسفة، وكما يحس بها كثير من الكسالى: مجرد تكاليف شاقة وثقيلة على النفس، إنه لم يأت هذا المفهوم إلا بسبب البعد عن حقيقة العبادة ومغزاها وما تهدف إليه.. إن العبادة في كل أنواعها تعني القرب من الله، والأنس به، وحبه، ومناجاته، وكذا الخوف من التقصير في جنبه عز وجل..
لقد تلذذ المتلذذون بالعبادة، فأعطوا الفوز والريادة، ولما اقتربت قلوبهم وأجسامهم من الله، استشعروا أن العبادة غذاء الأرواح والأبدان. أما والله! ما أصحبت الشريعة تكاليف شاقة إلا بعد ما تكدرت القلوب، ورانت عليها الذنوب، فأهمل جناب علام الغيوب... (لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم) هكذا يقول عثمان -رضي الله عنه-.(83/2)
إن العبادة للعبد لا يقارنها شيء في احتياج الأشياء إلى بعضها، فلو قارناها بالأكل في حاجة الجسم إليه لما صحت تلك المقارنة؛ لأن بفقدان الروح والإيمان خسران الدنيا والآخرة، وبفقدان الجسد قد لا يكون ذلك الخسران، بل كم مات من أناس جوعاً، وهم شهداء في سبيل الله، وكم من بطون ممتلئة بأصناف المأكولات! لكن قلوبهم فارغة من القرب والأنس بالله! فحين الموت كانت تلك النفس من أخبث النفوس!! أليس في هذا دليل على أن حب الله والقرب منه أساس كل شيء!!
ولا بد في العبادة من اجتماع الأمور الثلاثة: الحب والخوف والرجاء، فنعبد الله حباً له لما فطرنا عليه من الميل إليه والأنس به، ونعبد الله رجاءً في رحمته وجنته العظيمة، ونعبد الله ونحن نخاف من إحباط أعمالنا أو الوقوع في معصية فننال عقاب الله! فمن عبد الله بأحد هذه الأمور دون بعضها تزندق..
(من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري- أي خارجي-ومن عبده بالخوف و الحب و الرجاء فهو مؤمن موحد ).وهذه العبارة وردت عن بعض السلف الصالح.
ويرجع السبب في ضرورة اجتماع الثلاث الخصال في العبد؛ أن من عبد الله بأحدها فسوف يحصل خلل في حياته.. فإذا غلَّب العبد الخوف فإنه سيصاب باليأس والإحباط، ولربما -والعياذ بالله- قد يكون ذلك سبباً في انحرافه.
ومن غلَّّب جانب الرجاء قاده إلى التهاون بكثير من الواجبات، وانتهاك المحرمات، والاعتماد على رحمة الله، دون عمل بالأسباب، ولهذا لا بد من اليقين والجمع بين المعنيين في قوله –تعالى-: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذابُ الأليم).
وهكذا.. فكثير من الآيات تبين ضرورة التوازن في حياة العبد، فهو يعبد الله راجياً رحمته، ولا يعصيه؛ لأنه يخاف عقابه، ويعبده حباً له وقرباً منه عز وجل...
العبادة والاستعانة:
جمع الله –تعالى- بين العبادة والاستعانة في أعظم سورة هي سورة الفاتحة:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالعبادة هي الخضوع والذل لله –تعالى-، والاستعانة طلب العون من الله، وهذا العون إما لجلب نفع أو دفع شر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أرشد المسلمين إلى أن تكون استعانتهم بالله –تعالى- فيما لا يقدر عليه إلا هو، كما قال لابن عباس: (يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ..)) الحديث رواه أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح.
ومن طلب العون من الله على قضاء الأمور, ودفع الشرور، فقد استعان بعظيم قوي قادر فعّال لما يريد، يقول للشيء كن فيكون.
والاستعانة تقتضي أن يوكل العبد أموره إلى الله؛ لأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله، والتوكل قد جاء مقروناً مع العبادة والإنابة في آيات كثيرة كقوله –تعالى-:{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (123) سورة هود وقوله:{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (10) سورة الشورى {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (30) سورة الرعد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لأن هذين يجمعان الدين كله، ولهذا قال من قال من السلف: إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله: ((إياك نعبد وإياك نستعين))، وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد، كما جاء في الحديث الصحيح الذي في (صحيح مسلم) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يقول الله سبحانه وتعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبد ما سأل)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي، ويقول: الرحمن الرحيم، يقول الله: أثنى علي عبدي، ويقول: مالك يوم الدين، يقول الله: مجدني عبدي، يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين يقول الله: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل). فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير، والعبد له نصف الدعاء والطلب، وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه وما للعبد).1(83/3)
وسبب الجمع بينهما هنا وفي غيرهما من الآيات؛ لأن العبد يطلب العون من الله في التوفيق للعبادة والثبات عليها حتى الموت، مع أن العبادة اسم جامع تدخل تحتها الاستعانة والتوكل؛ وأفردت في هذا المقام وذكرت مع العبادة؛ لأنها الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة.
فالعبد لا غنى له عن سيده وربه –تعالى- طرفة عين فلا هادي إلا الله، وكما قال تعالى:{وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (97) سورة الإسراء.
هذا ونسأل الله أن يهدينا إلى طاعته وعبادته وأن يحببها إلى قلوبنا، ويجعلها أحب إلينا من أموالنا وأولادنا ومن كل شيء.. آمين يارب العالمين...
وسيأتي في الحلقة الرابعة – إن شاء الله- مفهوم العبادة الشامل، وأنواع العبادة، وأخطاء في مفهوم العبادة، والعبادة لله تحرر العبد من عبودية ما سواه...
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..
00000000000000
1- التحفة العراقية ص315- 316. تحقيق د/ يحيى الهنيدي.(83/4)
أريد أن أتوب ولكن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فإن الله أمر المؤمنين جميعاً بالتوبة : ( وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) النور /31 .
وقسم العباد إلى تائب وظالم ، وليس ثم قسم ثالث البتة ، فقال عز وجل : ( ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) الحجرات /11 وهذا أوان بعد فيه كثير من الناس عن دين الله فعمت المعاصي وانتشر الفساد، حتى ما بقي أحد لم يتلوث بشيء من الخبائث إلا من عصم الله .
ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره فانبعث الكثيرون من غفلتهم ورقادهم، وأحسوا بالتقصير في حق الله ، وندموا على التفريط والعصيان ، فتوجهت ركائبهم ميممة شطر منار التوبة ، وآخرون سئموا حياة الشقاء وضنك العيش ، وهاهم يتلمسون طريقهم للخروج من الظلمات إلى النور .
لكن تعترض طريق ثلة من هذا الموكب عوائق يظنونها تحول بينهم وبين التوبة ، منها ما هو في النفس ، ومنها ما هو في الواقع المحيط .
ولأجل ذلك كتبت هذه الرسالة آملاً أن يكون فيها توضيح للبس وكشف لشبهة أو بيان لحكم ودحر للشيطان .
وتحتوي هذه الرسالة على مقدمة عن خطورة الاستهانة بالذنوب فشرحاً لشروط التوبة ، ثم علاجات نفسية ، وفتاوى للتائبين مدعمة بالأدلة من القرآن الكريم والسنة ، وكلام أهل العلم وخاتمة .
والله أسأل أن ينفعني وأخواني المسلمين بهذه الكلمات ، وحسبي منهم دعوة صالحة أو نصيحة صادقة ، والله يتوب علينا أجمعين .
مقدمة في خطر الاستهانة بالذنوب
اعلم رحمني الله وإياك أن الله عز وجل أمر العباد بإخلاص التوبة وجوباً فقال سبحانه : ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً ) التحريم /8
ومنحنا مهلة للتوبة قبل أن يقوم الكرام الكاتبون بالتدوين فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن صاحب الشمال ليرفع القلم ست ساعات - محتمل أن تكون الساعة الفلكية المعروفة ، أو هي المدة اليسيرة من الليل أو النهار ، من لسان العرب - عن العبد المسلم المخطئ ، فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها ، وإلا كتبت واحدة ) رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1209 . ومهلة أخرى بعد الكتابة وقبل حضور الأجل .
ومصيبة كثير من الناس اليوم أنهم لا يرجون لله وقاراً ، فيعصونه بأنواع الذنوب ليلاً ونهاراً ، ومنهم طائفة ابتلوا باستصغار الذنوب ، فترى أحدهم يحتقر في نفسه بعض الصغائر ، فيقول مثلاً : وماذا تضر نظرة أو مصافحة أجنبية . الأجانب هم ما سوى المحارم .
ويتسلون بالنظر إلى المحرمات في المجلات والمسلسلات ، حتى أن بعضهم يسأل باستخفاف إذا علم بحرمة مسألة كم سيئة فيها ؟ أهي كبيرة أم صغيرة ؟ فإذا علمت هذا الواقع الحاصل فقارن بينه وبين الأثرين التاليين من صحيح الإمام البخاري رحمه الله :
- عن أنس رضي الله عنه قال : ( إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر ، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات ) والموبقات هي المهلكات .
- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه ، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا – أي بيده – فذبه عنه "
وهل يقدر هؤلاء الآن خطورة الأمر إذا قرأوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إياكم ومحقرات الذنوب ، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد ، فجاء ذا بعود ، وجاء ذا بعود ، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم ، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه ( وفي رواية ) إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ) رواه أحمد ، صحيح الجامع 2686-2687 .
وقد ذكر أهل العلم أن الصغيرة قد يقترن بها من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف من الله مع الاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر بل يجعلها في رتبتها ، ولأجل ذلك لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار .
ونقول لمن هذه حاله : لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من عصيت .
وهذه كلمات سينتفع بها إن شاء الله الصادقون ، الذين أحسوا بالذنب والتقصير وليس السادرون في غيهم ولا المصرون على باطلهم .
إنها لمن يؤمن بقوله تعالى : ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) الحجر /49 ، كما يؤمن بقوله : ( وأن عذابي هو العذاب الأليم ) الحجر /50 .
شروط التوبة ومكملاتها
كلمة التوبة كلمة عظيمة ، لها مدلولات عميقة ، لا كما يظنها الكثيرون ، ألفاظ باللسان ثم الاستمرار على الذنب ، وتأمل قوله تعالى : ( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) هود /3 تجد أن التوبة هي أمر زائد على الاستغفار .
ولأن الأمر العظيم لابد له من شروط ، فقد ذكر العلماء شروطاً للتوبة مأخوذة من الآيات والأحاديث ، وهذا ذكر بعضها :
الأول : الإقلاع عن الذنب فوراً .(84/1)
الثاني : الندم على ما فات .
الثالث : العزم على عدم العودة .
الرابع : إرجاع حقوق من ظلمهم ، أو طلب البراءة منهم .
وذكر بعض أهل العلم تفصيلات أخرى لشروط التوبة النصوح ، نسوقها مع بعض الأمثلة :
الأول : أن يكون ترك الذنب لله لا لشيء آخر ، كعدم القدرة عليه أو على معاودته ، أو خوف كلام الناس مثلاً .
فلا يسمى تائباً من ترك الذنوب لأنها تؤثر على جاهه وسمعته بين الناس ، أو ربما طرد من وظيفته .
ولا يسمى تائباً من ترك الذنوب لحفظ صحته وقوته ، كمن ترك الزنا أو الفاحشة خشية الأمراض الفتاكة المعدية ، أو أنها تضعف جسمه وذاكرته .
ولا يسمى تائباً من ترك أخذ الرشوة لأنه خشي أن يكون معطيها من هيئة مكافحة الرشوة مثلاً .
ولا يسمى تائباً من ترك شرب الخمر وتعاطي المخدرات لإفلاسه .
وكذلك لا يسمى تائباً من عجز عن فعل معصية لأمر خارج عن إرادته ، كالكاذب إذا أصيب بشلل أفقده النطق ، أو الزاني إذا فقد القدرة على الوقاع ، أو السارق إذا أصيب بحادث أفقده أطرافه ، بل لابد لمثل هذا من الندم والإقلاع عن تمني المعصية أو التأسف على فواتها ولمثل هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الندم توبة ) رواه أحمد وابن ماجه ، صحيح الجامع 6802 .
والله نزّل العاجز المتمني بالقول منزلة الفاعل ، ألا تراه صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الدنيا لأربعة نفر ، عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ، ويصل فيه رحمه ، ويعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه الله علماً ، ولم يرزقه مالاً ، فهو صادق النية ، يقول : لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان ، فهو بنيته ، فأجرهما سواء ، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً يخبط في ماله بغير علم ولا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقاً ، فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول : لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته ، فوزرهما سواء ) رواه أحمد والترمذي وصححه صحيح الترغيب والترهيب 1/9 .
الثاني : أن يستشعر قبح الذنب وضرره .
وهذا يعني أن التوبة الصحيحة لا يمكن معها الشعور باللذة والسرور حين يتذكر الذنوب الماضية ، أو أن يتمنى العودة لذلك في المستقبل .
وقد ساق ابن القيم رحمه الله في كتابه الداء والدواء والفوائد أضراراً كثيرة للذنوب منها :
حرمان العلم – والوحشة في القلب – وتعسير الأمور – ووهن البدن – وحرمان الطاعة – ومحق البركة – وقلة التوفيق – وضيق الصدر – وتولد السيئات – واعتياد الذنوب – وهوان المذنب على الله – وهوانه على الناس – ولعنة البهائم له – ولباس الذل – والطبع على القلب والدخول تحت اللعنة – ومنع إجابة الدعاء – والفساد في البر والبحر- وانعدام الغيرة – وذهاب الحياء – وزوال النعم – ونزول النقم – والرعب في قلب العاصي – والوقوع في أسر الشيطان – وسوء الخاتمة – وعذاب الآخرة .
وهذه المعرفة لأضرار الذنوب تجعله يبتعد عن الذنوب بالكلية ، فإن بعض الناس قد يعدل عن معصية إلى معصية أخرى لأسباب منها :
أن يعتقد أن وزنها أخف .
لأن النفس تميل إليها أكثر ، والشهوة فيها أقوى .
لأن ظروف هذه المعصية متيسرة أكثر من غيرها ، بخلاف المعصية التي تحتاج إلى إعداد وتجهيز ، أسبابها حاضرة متوافرة .
لأن قرناءه وخلطاؤه مقيمون على هذه المعصية ويصعب عليه أن يفارقهم .
لأن الشخص قد تجعل له المعصية المعينة جاهاً ومكانة بين أصحابه فيعز عليه أن يفقد هذه المكانة فيستمر في المعصية ، كما يقع لبعض رؤساء عصابات الشر والفساد ، وكذلك ما وقع لأبي نواس الشاعر الماجن لما نصحه أبو العتاهية الشاعر الواعظ ولامه على تهتكه في المعاصي ، فأنشد أبو نواس :
أتراني يا عتاهي تاركاً تلك الملاهي
أتراني مفسداً بالنسك عند القوم جاهي
الثالث : أن يبادر العبد إلى التوبة ، ولذلك فإن تأخير التوبة هو في حد ذاته ذنب يحتاج إلى توبة .
الرابع : أن يخشى على توبته من النقص ، ولا يجزم بأنها قد قبلت، فيركن إلى نفسه ويأمن مكر الله .
الخامس : استدراك ما فات من حق الله إن كان ممكناً ، كإخراج الزكاة التي منعت في الماضي ولما فيها من حق الفقير كذلك .
السادس : أن يفارق موضع المعصية إذا كان وجوده فيه قد يوقعه في المعصية مرة أخرى .
السابع : أن يفارق من أعانه على المعصية وهذا والذي قبله من فوائد حديث قاتل المائة وسيأتي سياقه .
والله يقول : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) الزخرف /67 . وقرناء السوء سيلعن بعضهم بعضاً يوم القيامة ، ولذلك عليك أيها التائب بمفارقتهم ونبذهم ومقاطعتهم والتحذير منهم إن عجزت عن دعوتهم ولا يستجرينك الشيطان فيزين لك العودة إليهم من باب دعوتهم وأنت تعلم أنك ضعيف لا تقاوم .
وهناك حالات كثيرة رجع فيها أشخاص إلى المعصية بإعادة العلاقات مع قرناء الماضي .(84/2)
الثامن : إتلاف المحرمات الموجودة عنده مثل المسكرات وآلات اللهو كالعود والمزمار ، أو الصور والأفلام المحرمة والقصص الماجنة والتماثيل ، وهكذا فينبغي تكسيرها وإتلافها أو إحراقها .
ومسألة خلع التائب على عتبة الاستقامة جميع ملابس الجاهلية لابد من حصولها ، وكم من قصة كان فيها إبقاء هذه المحرمات عند التائبين سبباً في نكوصهم ورجوعهم عن التوبة وضلالهم بعد الهدى، نسأل الله الثبات .
التاسع : أن يختار من الرفقاء الصالحين من يعينه على نفسه ويكون بديلاً عن رفقاء السوء وأن يحرص على حلق الذكر ومجالس العلم ويملأ وقته بما يفيد حتى لا يجد الشيطان لديه فراغاً ليذكره بالماضي .
العاشر : أن يعمد إلى البدن الذي رباه بالسحت فيصرف طاقته في طاعة الله ويتحرى الحلال حتى ينبت له لحم طيب .
الحادي عشر : أن تكون التوبة قبل الغرغرة ، وقبل طلوع الشمس من مغربها : والغرغرة الصوت الذي يخرج من الحلق عند سحب الروح والمقصود أن تكون التوبة قبل القيامة الصغرى والكبرى لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تاب إلى الله قبل أن يغرغر قبل الله منه ) رواه أحمد والترمذي ، صحيح الجامع 6132 . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ) رواه مسلم .
توبة عظيمة
ونذكر هنا نموذجاً لتوبة الرعيل الأول من هذه الأمة ، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
عن بريدة رضي الله عنه : أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا رسول الله إني ظلمت نفسي وزنيت ، وإني أريد أن تطهرني فرده ، فلما كان من الغد أتاه ، فقال : يا رسول الله إني زنيت فرده الثانية ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه ، فقال : ( أتعلمون بعقله بأساً ؟ أتنكرون منه شيئاً ؟ ) قالوا : ما نعلمه إلا وفيّ العقل ، من صالحينا فيما نرى ، فأتاه الثالثة ، فأرسل إليهم أيضاً ، فسأل عنه فأخبره أنه لا بأس به ولا بعقله ، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ، ثم أمر به فرجم ، قال : فجاءت الغامدية ، فقالت : يا رسول الله إني زنيت فطهرني ، وإنه ردها ، فلما كان الغد ، قالت : يا رسول الله لم تردني ؟ لعلك أن تردني كما رددت ماعزاً ، فوالله إني لحبلى ، قال : ( أما لا ، فاذهبي حتى تلدي ) ، قال : فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، قالت : هذا قد ولدته ، قال : ( اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه ) ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا رسول الله قد فطمته ، وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها ، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضخ الدم على وجه خالد فسبها ، فسمع نبي الله سبه إياها ، فقال: ( مهلاً يا خالد ! فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس {وهو الذي يأخذ الضرائب } لغفر له ) رواه مسلم . ثم أمر بها فصلى عليها ، ودفنت .
وفي رواية فقال عمر يا رسول الله رجمتها ثم تصلي عليها ! فقال : ) لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة وسعتهم ، وهل وجدت شيئاً أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل . رواه عبد الرزاق في مصنفه 7/325 .
التوبة تمحو ما قبلها
وقد يقول قائل : أريد أن أتوب ولكن من يضمن لي مغفرة الله إذا تبت وأنا راغب في سلوك طريق الاستقامة ولكن يداخلني شعور بالتردد ولو أني أعلم أن الله يغفر لي لتبت ؟
فأقول له ما داخلك من المشاعر داخل نفوس أناس قبلك من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولو تأملت في هاتين الروايتين بيقين لزال ما في نفسك إن شاء الله .
الأولى : روى الإمام مسلم رحمه الله قصة إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه وفيها : " فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك ، فبسط يمينه فقبضت يديّ قال : مالك يا عمرو ؟ قال : قلت أردت أن أشترط ، قال ( تشترط بماذا؟) قلت : أن يغفر لي . قال : ( أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ ) .
والثانية : وروى الإمام مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن أناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : " إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن ، ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزل قول الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ) الفرقان /68 . ونزل : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) .
هل يغفر الله لي
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن ذنوبي كثيرة جداً ولم أترك نوعاً من الفواحش إلا واقترفته ، ولا ذنباً تتخيله أو لا تتخيله إلا ارتكبته لدرجة أني لا أدري هل يمكن أن يغفر الله لي ما فعلته في تلك السنوات الطويلة .(84/3)
وأقول لك أيها الأخ الكريم : هذه ليست مشكلة خاصة بل هي مشكلة كثير ممن يريدون التوبة وأذكر مثالاً عن شاب وجه سؤالاً مرة بأنه قد بدأ في عمل المعاصي من سن مبكرة وبلغ السابعة عشرة من عمره فقط وله سجل طويل من الفواحش كبيرها وصغيرها بأنواعها المختلفة مارسها مع أشخاص مختلفين صغاراً وكباراً حتى اعتدى على بنت صغيرة ، وسرق عدة سرقات ثم يقول : تبت إلى الله عز وجل ، أقوم وأتهجد بعض الليالي وأصوم الاثنين والخميس ، وأقرأ القرآن الكريم بعد صلاة الفجر فهل لي من توبة ؟
والمبدأ عندنا أهل الإسلام أن نرجع إلى الكتاب والسنة في طلب الأحكام والحلول والعلاجات ، فلما عدنا إلى الكتاب وجدنا قول الله عز وجل : ( قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً أنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له ) الزمر الآيتان 53،54
فهذا الجواب الدقيق للمشكلة المذكورة وهو واضح لا يحتاج إلى بيان .
أما الإحساس بأن الذنوب أكثر من أن يغفرها الله فهو ناشيء عن عدم يقين العبد بسعة رحمة ربه أولاً .
ونقص في الإيمان بقدرة الله على مغفرة جميع الذنوب ثانياً .
وضعف عمل مهم من أعمال القلوب هو الرجاء ثالثاً .
وعدم تقدير مفعول التوبة في محو الذنوب رابعاً .
ونجيب عن كل منها .
فأما الأول : فيكفي في تبيانه قول الله تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) الأعراف /56 .
وأما الثاني : فيكفي فيه الحديث القدسي الصحيح : ( قال تعالى من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ، ما لم يشرك بي شيئاً ) رواه الطبراني في الكبير والحاكم ، صحيح الجامع 4330 . وذلك إذا لقي العبد ربه في الآخرة .
وأما الثالث : فيعالجه هذا الحديث القدسي العظيم : ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أنك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ) رواه الترمذي ، صحيح الجامع 4338 .
وأما الرابع : فيكفي فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ) رواه ابن ماجه ، صحيح الجامع 3008 .
وإلى كل من يستصعب أن يغفر الله له فواحشه المتكاثرة نسوق هذا الحديث :
توبة قاتل المائة
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على راهب ، فأتاه فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة ؟ فقال : لا ، فقتله فكمّل به مائة ، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدّل على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة ؟ فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى فاعبد معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه ملك الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط , فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم – أي حكماً - فقال : قيسوا ما بين الأرضيين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة ) متفق عليه . وفي رواية في الصحيح ( فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها ) وفي رواية في الصحيح ( فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقربي وقال : قيسوا ما بينهما ، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له ) .
نعم ومن يحول بينه وبين التوبة ! فهل ترى الآن يا من تريد التوبة أن ذنوبك أعظم من هذا الرجل الذي تاب الله عليه ، فلم اليأس ؟
بل إن الأمر أيها الأخ المسلم أعظم من ذلك ، تأمل قول الله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً ، إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ) الفرقان /68 – 70 .
ووقفة عند قوله : ( فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) الفرقان /70 تبين لك فضل الله العظيم ، قال العلماء التبديل هنا نوعان :
الأول : تبديل الصفات السيئة بصفات حسنة كإبدالهم بالشرك إيماناً وبالزنا عفة وإحصاناً وبالكذب صدقاً وبالخيانة أمانة وهكذا .(84/4)
والثاني : تبديل السيئات التي عملوها بحسنات يوم القيامة ، وتأمل قوله تعالى : ( يبدل الله سيئاتهم حسنات ) ولم يقل مكان كل سيئة حسنة فقد يكون أقل أو مساوياً أو أكثر في العدد أو الكيفية ، وذلك بحسب صدق التائب وكمال توبته ، فهل ترى فضلاً أعظم من هذا الفضل ؟ وانظر إلى شرح هذا الكرم الإلهي في الحديث الجميل :
عن عبد الرحمن بين جبير عن أبي طويل شطب الممدود أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم - وفي طرق أخرى – " جاء شيخ هرم قد سقط حاجباه على عينيه وهو يدّعم على عصا حتى قام بين يديّ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئاً وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة أي صغيرة ولا كبيرة إلا أتاها ، وفي رواية ، إلا اقتطعها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم أي أهلكتهم فهل لذلك من توبة ؟ قال : ( فهل أسلمت ) قال : أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . قال : ( تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك خيرات كلهن ) قال : وغدراتي وفجراتني ، قال : ( نعم ) قال : الله أكبر فما زال يكبر حتى توارى. قال الهيثمي رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجال البزار رجال الصحيح غير محمد بن هارون أبي نشيطة وهو ثقة ، المجمع 1/36 وقال المنذري في الترغيب إسناده جيد قوي 4/113 وقال ابن حجر في الإصابة هو على شرط الصحيح 4/149.
وهنا قد يسأل تائب ، فيقول : إني لما كنت ضالاً لا أصلي خارجاً عن ملة الإسلام قمت ببعض الأعمال الصالحة فهل تحسب لي بعد التوبة أو تكون ذهبت أدراج الرياح .
وإليك الجواب : عن عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي رسول الله أرأيت أموراً كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتِاقة أو صلة رحم أفيها أجر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت على ما أسلفت من خير ) رواه البخاري .
فهذه الذنوب تغفر ، وهذه السيئات تبدل حسنات ، وهذه الحسنات أيام الجاهلية تثبت لصاحبها بعد التوبة ، فماذا بقي !
كيف أفعل إذا أذنبت
وقد تقول إذا وقعت في ذنب فكيف أتوب منه مباشرة وهل هناك فعل أقوم به بعد الذنب فوراً ؟ .
فالجواب : ما ينبغي أن يحصل بعد الإقلاع عملان .
الأول : عمل القلب بالندم والعزم على عدم العودة ، وهذه تكون نتيجة الخوف من الله .
الثاني : عمل الجوارح بفعل الحسنات المختلفة ومنها صلاة التوبة وهذا نصها :
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ) رواه أصحاب السنن ، صحيح الترغيب والترهيب 1/284 . ثم قرأ هذه الآية : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) آل عمران /135 .
وقد ورد في روايات أخرى صحيحة صفات أخرى لركعتين تكفران الذنوب وهذا ملخصها :
- ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ( لأن الخطايا تخرج من الأعضاء المغسولة مع الماء أو مع آخر قطر الماء )
ومن إحسان الوضوء قول بسم الله قبله والأذكار بعده وهي : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله – اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين – سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك . وهذه أذكار ما بعد الوضوء لكل منها أجر عظيم .
- يقوم فيصلي ركعتين .
- لا يسهو فيهما .
- لا يحدث فيهما نفسه .
- يحسن فيهن الذكر والخشوع .
- ثم استغفر الله .
والنتيجة :
غفر له ما تقدم من ذنبه .
إلا وجبت له الجنة . صحيح الترغيب 1/ 94 ، 95
ثم الإكثار من الحسنات والطاعات ، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه لما أحس بخطئه في المناقشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية ، قال بعدها فعلمت لذلك أعمالاً أي صالحات لتكفير الذنب.
وتأمل في المثل الوارد في هذا الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم : ( إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع أي لباس من حديد يرتديه المقاتل ضيقة ، قد خنقته ، ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ، ثم عمل أخرى فانفكت الأخرى حتى يخرج إلى الأرض ) رواه الطبراني في الكبير ، صحيح الجامع 2192 . فالحسنات تحرر المذنب من سجن المعصية ، وتخرجه إلى عالم الطاعة الفسيح ، ويلخص لك يا أخي ما تقدم هذه القصة المعبرة .(84/5)
عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها ، ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت ، فلم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فذهب الرجل ، فقال عمر : لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه ، فأتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بصره ، ثم قال : ( ردوه علي ) ، فردوه عليه فقرأ عليه : ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) .
فقال معاذ – وفي رواية عمر – يا رسول الله أله وحده ، أم للناس كافة ؟ فقال : ( بل للناس كافة ) رواه مسلم .
أهل السوء يطاردونني
وقد تقول أريد أن أتوب ولكن أهل السوء من أصحابي يطاردونني في كل مكان وما أن علموا بشيء من التغير عندي حتى شنوا عليّ حملة شعواء وأنا أشعر بالضعف فماذا أفعل ؟!
ونقول لك اصبر فهذه سنة الله في ابتلاء المخلصين من عباده ليعلم الصادقين من الكاذبين وليميز الله الخبيث من الطيب .
وما دمت وضعت قدميك على بداية الطريق فاثبت ، وهؤلاء شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض لكي يردوك على عقبيك فلا تطعهم ، إنهم سيقولون لك في البداية هذا هوس لا يلبث أن يزول عنك ، وهذه أزمة عارضة ، والعجب أن بعضهم قال لصاحب له في بداية توبته عسى ما شر !!
والعجب أن إحداهن لما أغلق صاحبها الهاتف في وجهها لأنه تاب ولا يريد مزيداً من الآثام اتصلت به بعد فترة وقالت عسى أن يكون زال عنك الوسواس ؟
والله يقول : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ، الذي يوسوس في صدور الناس ، من الجنة والناس ) الناس /1-6 .
فهل ربك أولى بالطاعة أم ندماء السوء ؟!
وعليك أن تعلم أنهم سيطاردونك في كل مكان وسيسعون لردك إلى طريق الغواية بكل وسيلة ولقد حدثني بعضهم بعد توبته أنه كانت له قرينة سوء تأمر سائق سيارتها أن يمشي وراءه وهو في طريقه إلى المسجد وتخاطبه من النافذة .
هنالك : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) إبراهيم /27 .
سيسعون إلى تذكيرك بالماضي وتزيين المعاصي السابقة لك بكل طريقة ، ذكريات .. توسلات .. صور .. ورسائل .. فلا تطعهم واحذرهم أن يفتنوك وتذكر هنا قصة كعب بن مالك الصحابي الجليل ، لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة جميعاً بمقاطعته لتخلفه عن غزوة تبوك حتى يأذن الله ، أرسل إليه ملك غسان الكافر رسالة يقول فيها : " أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك " يريد الكافر استمالة المسلم حتى يخرج من المدينة ويضيع هناك في ديار الكفر .
ما هو موقف الصحابي الجليل قال كعب : " فقلت حين قرأتها وهذه أيضاً من البلاء فتيممت بها التنور أي الفرن فسجرتها أي أحرقتها .
وهكذا اعمد أنت أيها المسلم من ذكر أو أنثى إلى كل ما يرسل إليك من أهل السوء فاحرقه حتى يصير رماداً وتذكر وأنت تحرقه نار الآخرة . ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذي لا يوقنون )
إنهم يهددونني
أريد أن أتوب ولكن أصدقائي القدامى يهددونني بإعلان فضائحي بين الناس ، ونشر أسراري على الملأ ، إن عندهم صوراً ووثائق ، وأنا أخشى على سمعتي ، إني خائف !!
ونقول : جاهد أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ، فهذه ضغوط أعوان إبليس تجتمع عليك كلها ، ثم لا تلبث أن تتفرق وتتهاوى أمام صبر المؤمن وثباته .
واعلم أنك إن سايرتهم ورضخت لهم فسيأخذون عليك مزيداً من الإثباتات ، فأنت الخاسر أولاً وأخيراً ، لكن لا تطعهم واستعن بالله عليهم ، وقل حسبي الله ونعم الوكيل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خاف قوماً قال : ( اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ) رواه أحمد وأبو داود ، صحيح الجامع 4582 .
صحيح أن الموقف صعب وأن تلك المسكينة التائبة التي اتصل بها قرين السوء يقول مهدداً : لقد سجلت مكالمتك ولديّ صورتك ولو رفضت الخروج معي لأفضحنك عند أهلك !! صحيح أنها في موقف لا تحسد عليه .
وانظر إلى حرب أولياء الشياطين لمن تاب من المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات فإنهم يطرحون أسوأ إنتاجهم السابق في الأسواق للضغط والحرب النفسية ، ولكن الله مع المتقين ، ومع التائبين ، وهو ولي المؤمنين ، لا يخذلهم ولا يتخلى عنهم ، وما لجأ عبد إليه فخاب أبداً ، واعلم أن مع العسر يسراً ، وأن بعد الضيق فرجاً .
وإليك أيها الأخ التائب هذه القصة المؤثرة شاهداً واضحاً على ما نقول .(84/6)
إنها قصة الصحابي الجليل مرثد بن أبي مرثد الغنويّ الفدائي الذي كان يهرب المستضعفين من المسلمين من مكة إلى المدينة سراً . " كان رجل يقال له : مرثد بن أبي مرثد ، وكان رجلاً يحمل الأسرى من مكة ، حتى يأتي بهم المدينة ، قال : وكانت امرأة بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له ، وأنه كان وعد رجلاً من أسارى مكة يحتمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجانب الحائط ، فلما انتهت إليّ عرفت ، فقالت : مرثد ؟ فقلت: مرثد ، قالت : مرحباً وأهلاً ، هلم فبت عندنا الليلة ، قلت : يا عناق حرم الله الزنا ، قالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال فتبعني ثمانية ، وسلكت الخندمة ( وهو جبل معروف عند أحد مداخل مكة ) فانتهيت إلى غار أو كهف ، فدخلت فجاءوا حتى قاموا على رأسي وعماهم الله عني قال : ثم رجعوا ، ورجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان رجلاً ثقيلاً ، حتى انتهيت إلى الأذخر ففككت عنه أكبله ( أي قيوده ) فجعلت أحمله ويُعييني ( أي يرهقني) حتى قدمت المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقاً ؟ مرتين ، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليّ شيئاً ، حتى نزلت ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) النور /3 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فلا تنكحها ) صحيح سنن الترمذي 3/80 .
هل رأيت كيف يدافع الله عن الذين آمنوا وكيف يكون مع المحسنين؟.
وعلى أسوأ الحالات لو حصل ما تخشاه أو انكشفت بعض الأشياء واحتاج الأمر إلى بيان فوضح موقفك للآخرين وصارحهم ، وقل نعم كنت مذنباً فتبت إلى الله فماذا تريدون ؟
ولنتذكر جميعاً أن الفضيحة الحقيقة هي التي تكون بين يدي الله يوم القيامة ، يوم الخزي الأكبر ، ليست أمام مائة أو مائتين ولا ألف أو ألفين ، ولكنها على رؤوس الأشهاد ، أما الخلق كلهم من الملائكة والجن والإنس ، من آدم وحتى آخر رجل .
فهلم إلى دعاء إبراهيم :
( ولا تخزني يوم يبعثون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء /87-89
وتحصن في اللحظات الحرجة بالأدعية النبوية : اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ، اللهم اجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من بغى علينا ، اللهم لا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين .
ذنوبي تنغص معيشتي
وقد تقول : إني ارتكبت من الذنوب الكثير وتبت إلى الله ، ولكن ذنوبي تطاردني ، وتذكري لما عملته ينغص عليّ حياتي ، ويقض مضجعي ، ويؤرق ليلي ويقلق راحتي ، فما السبيل إلى إراحتي .
فأقول لك أيها الأخ المسلم ، إن هذه المشاعر هي دلائل التوبة الصادقة ، وهذا هو الندم بعينه ، والندم توبة فالتفت إلى ما سبق بعين الرجاء ، رجاء أن يغفر الله لك ، ولا تيأس من روح الله ، ولا تقنط من رحمة الله ، والله يقول : ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) الحجر /56 .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( أكبر الكبائر الإشراك بالله ، والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله) رواه عبد الرزاق وصححه الهيثمي وابن كثير .
والمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء ، وقد يُغلِّب أحدهما في بعض الأوقات لحاجة ، فإذا عصى غلَّب جانب الخوف ليتوب ، وإذا تاب غلَّب جانب الرجاء يطلب عفو الله .
هل اعترف ؟
وسأل سائل بصوت حزين يقول : أريد أن أتوب ولكن هل يجب عليّ أن أذهب وأعترف بما فعلت من ذنوب ؟
وهل من شروط توبتي أن أقر أمام القاضي في المحكمة بكل ما اقترفت وأطلب إقامة الحد عليّ ؟
وماذا تعني تلك القصة التي قرأتها قبل قليل عن توبة ماعز ، والمرأة ، والرجل الذي قبّل امرأة في بستان .
فأقول لك أيها الأخ المسلم : اتصال العبد بربه دون وسائط من مزايا هذا التوحيد العظيم ، الذي ارتضاه الله ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) البقرة /186 . وإذا آمنا أن التوبة لله فإن الاعتراف هو لله أيضاً ، وفي دعاء سيد الاستغفار: ( أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي ) أي أعترف لك يا الله .
ولسنا ولله الحمد مثل النصارى ، قسيس وكرسي اعتراف وصك غفران .. إلى آخر أركان المهزلة .
بل إن الله يقول : ( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ) التوبة /104 أي عن عباده دون وسيط .(84/7)
أما بالنسبة لإقامة الحدود فإن الحد إذا لم يصل إلى الإمام أو الحاكم أو القاضي فإنه لا يلزم الإنسان أن يأتي ويعترف ، ومن ستر الله عليه لا بأس أن يستر نفسه ، وتكفيه توبته فيما بينه وبين الله ، ومن أسمائه سبحانه الستِّير وهو يحب الستر على عباده ، أما أولئك الصحابة مثل ماعز والمرأة اللذان زنيا والرجل الذي قبل امرأة في بستان فإنهم رضي الله عنهم فعلوا أمراً لا يجب عليهم وذلك من شدة حرصهم على تطهير أنفسهم بدليل أنه صلى الله عليه وسلم لما جاءه ماعز أعرض عنه وعن المرأة في البداية وكذلك قول عمر للرجل الذي قبّل امرأة في بستان لقد ستر الله عليه لو ستر نفسه ، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إقراراً .
وعلى هذا فلا يلزم الذهاب للمحكمة لتسجيل الاعترافات رسمياً إذا أصبح العبد وقد ستره ربه ، ولا يلزم كذلك الذهاب إلى إمام المسجد وطلب إقامة الحد ، ولا الاستعانة بصديق في الجلد داخل البيت ، كما يخطر في أذهان البعض .
وعند ذلك تُعلم بشاعة موقف بعض الجهال من بعض التائبين في مثل القصة الآتي ملخصها :
ذهب مذنب إلى إمام مسجد جاهل ، واعترف لديه بما ارتكب من ذنوب وطلب منه الحل ، فقال هذا الإمام لابد أولاً أن تذهب إلى المحكمة وتصدق اعترافاتك شرعاً ، وتقام عليك الحدود ، ثم ينظر في أمرك ، فلما رأى المسكين أنه لا يطيق تطبيق هذا الكلام ، عدل عن التوبة ورجع إلى ما كان فيه .
وأنتهز هذه الفرصة لتعليق مهم فأقول : أيها المسلمون إن معرفة أحكام الدين أمانة ، وطلبها من مصادرها الصحيحة أمانة ، والله يقول : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) النحل /43 وقال : ( الرحمن فاسأل به خبيراً ) الفرقان /59 .
فليس كل واعظ يصلح أن يُفتي ، ولا كل إمام مسجد أو مؤذن يصلح أن يُخبر بالأحكام الشرعية في قضايا الناس ، ولا كل أديب أو قاصّ يصلح ناقلاً للفتاوى ، والمسلم مسئول عمن يأخذ الفتوى ، وهذه مسألة تعبدية ، وقد خشي صلى الله عليه وسلم على الأمة من الأئمة المضلين، قال أحد السلف : إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم ، فاحذروا عباد الله من هذه المزالق والتمسوا أهل العلم فيما أشكل عليكم . والله المستعان .
فتاوى مهمة للتائبين
وقد تقول : أريد أن أتوب ولكني أجهل أحكام التوبة ، وتدور في ذهني أسئلة كثيرة عن صحة التوبة من بعض الذنوب ، وكيفية قضاء حقوق الله التي فرطت فيها ، وطريقة إرجاع حقوق العباد التي أخذتها ، فهل من إجابات على هذه التساؤلات ؟
وإليك أيها العائد إلى الله ما علّه يشفي الغليل .
س1 : إنني أقع في الذنب فأتوب منه ، ثم تغلبني نفسي الأمارة بالسوء فأعود إليه ! فهل تبطل توبتي الأولى ويبقى عليّ إثم الذنب الأول وما بعده ؟
جـ1 : ذكر أكثر العلماء على أنه لا يشترط في صحة التوبة ألا يعود إلى الذنب ، وإنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب، والندم عليه ، والعزم الجازم على ترك معاودته ، فإن عاوده يصبح حينئذ كمن عمل معصية جديدة تلزمه توبة جديدة منها وتوبته الأولى صحيحة .
س2 : هل تصح التوبة من ذنب وأنا مصر على ذنب آخر ؟
جـ2 : تصح التوبة من ذنب ولو أصر على ذنب آخر ، إذا لم يكن من النوع نفسه ، ولا يتعلق بالذنب الأول ، فمثلاً لو تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر فتوبته من الربا صحيحة ، والعكس صحيح ، أما إذا تاب من ربا الفضل وأصر على ربا النسيئة فلا تقبل توبته حينئذ ، وكذلك من تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر أو العكس ، وكذلك من تاب عن الزنا بامرأة وهو مصر على الزنا بغيرها فهؤلاء توبتهم غير صحيحة ، وغاية ما فعلوه أنهم عدلوا عن نوع من الذنب إلى نوع آخر منه . راجع المدارج.
س3 : تركت حقوقاً لله في الماضي من صلوات لم أؤدها وصيام تركته وزكاة منعتها ، فماذا أفعل الآن ؟
جـ3 : أما تارك الصلاة فالراجح أنه لا يلزمه القضاء لأنه قد فات وقتها ، ولا يمكن استدراكه ويعوضه بكثرة التوبة والاستغفار ، والإكثار من النوافل لعل الله أن يتجاوز عنه .
وأما تارك الصيام فإن كان مسلماً وقت تركه للصيام ، فإنه يجب عليه القضاء مع إطعام مسكين عن كل يوم أخره من رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده ، من غير عذر وهذه كفارة التأخير ، وهي واحدة لا تتضاعف ولو توالت أشهر رمضان .
مثال : رجل ترك 3 أيام من رمضان سنة 1400 هـ و 5 أيام من رمضان سنة 1401 هـ تهاوناً ، وبعد سنين تاب إلى الله ، فإنه يلزمه قضاء الصيام ثمانية أيام ، وإطعام مسكين عن كل يوم من الأيام الثمانية .
مثال آخر : امرأة بلغت عام 1400 هـ وخجلت من إخبار أهلها ، فصامت أيام عادتها الثمانية مثلاً ولم تقضها ، ثم تابت إلى الله الآن فعليها الحكم السابق نفسه ، وينبغي أن يعلم أن هناك فروقاً بين ترك الصلاة وترك الصيام ، ذكره أهل العلم على أن هناك في العلماء من يرى عدم القضاء على من ترك الصيام متعمداً دون عذر .(84/8)
وأما تارك الزكاة فيجب عليه إخراجها وهي حق لله من جهة ، وحق للفقير من جهة أخرى . للمزيد راجع مدارج السالكين 1/383 .
س4 : إذا كانت السيئة في حق آدميّ فكيف تكون التوبة ؟
جـ4 : الأصل في هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كانت لأخيه عنده مظلمة ، من عرض أو مال ، فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم ، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه) رواه البخاري فيخرج التائب من هذه المظالم إما بأدائها إلى أصحابها وإما باستحلالها منهم وطلب مسامحتهم ، فإن سامحوه وإلا ردها .
س5 : وقعت في غيبة شخص أو أشخاص ، وقذفت آخرين بأمورٍ هم بريئون منها فهل يشترط إخبارهم بذلك مع طلب المسامحة وإذا كان لا يشترط فكيف أتوب ؟!
جـ5 : المسألة هنا تعتمد على تقدير المصالح والمفاسد .
فإن كان إذا أخبرهم بم اغتابهم أو قذفهم لا يغضبون منه ولا يزدادون عليه حنقاً وغماً صارحهم وطلب منهم المسامحة ولو بعبارات عامة ، كأن يقول إني أخطأت في حقك في الماضي ، أو ظلمتك بكلام ، وإني تبت إلى الله فسامحني ، دون أن يفصل فلا بأس بهذا .
وإن كان إذا أخبرهم بما اغتابهم أو قذفهم حنقوا عليه وازدادوا غماً وغيظاً – وربما يكون هذا هو الغالب – أو أنه إذا أخبرهم بعبارات عامة لم يرضوا إلا بالتفاصيل التي إذا سمعوها زادوا كراهية له ، فإنه حينئذ لا يجب عليه إخبارهم أصلاً لأن الشريعة لا تأمر بزيادة المفاسد ، وإخبار شخص بأمور كان مستريحاً قبل سماعها على وجه يسبب البغضاء وينافي مقصد الشريعة في تأليف القلوب والتحاب بين المسلمين ، وربما يكون الإخبار سبباً لعداوة لا يصفو بعدها قلب المغتاب أبداً لمن اغتابه ، وفي هذه الحالة يكفي التوبة أمور منها :
1- الندم وطلب المغفرة من الله والتأمل في شناعة هذه الجريمة واعتقاد تحريمها .
2- أن يكذب نفسه عند من سمع الغيبة ، أو القذف ويبرئ المقذوف.
3- أن يثني بالخير على من اغتابه في المجالس التي ظلمته فيها ، ويذكر محاسنه .
4- أن يدافع عمن اغتابه ، ويرد عنه إذا أراد أحد أن يسيء إليه .
5- أن يستغفر له بظهر الغيب المدارج 1/291 ، والمغني مع الشرح 12/78
ولاحظ أيها الأخ المسلم الفرق بين الحقوق المالية وجنايات الأبدان ، وبين الغيبة والنميمة ، فالحقوق المالية يستفيد أهلها إذا أخبروا بها ، وردت إليهم ، ويسرون بذلك ، ولذلك لا يجوز كتمها بخلاف الحقوق التي في جانب العِرض ، والتي لا تزيد من يُخبر بها إلا ضرراً وتهييجاً .
س6 : كيف يتوب القاتل المتعمد ؟
جـ6 : القاتل المتعمد عليه ثلاثة حقوق :
حق الله ، وحق القتيل ، وحق الورثة .
فحق الله لا يُقضى إلا بالتوبة .
حق الورثة أن يسلم نفسه إليهم ليأخذوا حقهم ، إما بالقصاص أو بالدية أو العفو .
ويبقى حق القتيل الذي لا يمكن الوفاء به في الدنيا ، وهنا قال أهل العم إذا حسنت توبة القاتل ، فإن الله يرفع عنه حق القتيل ويعوض القتيل يوم القيامة خيراً من عنده عز وجل ، وهذا أحسن الأقوال . المدارج 1/299 .
س7 : كيف يتوب السارق ؟
جـ7 : إذا كان الشيء عنده الآن رده إلى أصحابه .
وإن تلف أو نقصت قيمته بالاستعمال أو الزمن وجب عليه أن يعوضهم عن ذلك ، إلا إذا سامحوه فالحمد لله .
س8 : أشعر بالحرج الشديد إذا واجهت من سرقت منهم ، ولا أستطيع أن أصارحهم ، ولا أن أطلب منهم المسامحة فكيف أفعل ؟
جـ8 : لا حرج عليك في البحث عن طريق تتفادى فيه هذا الإحراج الذي لا تستطيع مواجهته ، كأن ترسل حقوقهم مع شخص آخر ، وتطلب عدم ذكر اسمك ، أو بالبريد ، أو تضعها خفية عندهم، أو تستخدم التورية وتقول هذه حقوق لكم عند شخص ، وهو لا يريد ذكر اسمه ، والمهم رجوع الحق إلى أصحابه .
س9 : كنت أسرق من جيب أبي خفية ، وأريد الآن أن أتوب ولا أعلم كم سرقت بالضبط ، وأنا محرج من مواجهته ؟
جـ9 : عليك أن تقدر ما سرقته بما يغلب على ظنك أنه هو أو أكثر منه ، ولا بأس أن تعيده إلى أبيك خفية كما أخذته خفية .
س10 : سرقت أموالاً من أناس وتبت إلى الله ، ولا أعرف عناوينهم ؟
وآخر يقول أخذت من شركة أموالاً خلسة ، وقد أنهت عملها وغادرت البلد ؟
وثالث يقول سرقت من محل تجاري سلعاً ، وتغير مكانه ولا أعرف صاحبه ؟
جـ10 : عليك بالبحث عنهم على قدر طاقتك ووسعك ، فإذا وجدتهم فادفعها إليهم والحمد لله ، وإذا مات صاحب المال فتعطى لورثته ، وإن لم تجدهم على الرغم من البحث الجاد فتصدق بهذه الأموال بالنيابة عنهم ، وانوها لهم ولو كانوا كفاراً لأن الله يعطيهم في الدنيا ولا يعطيهم في الآخرة .(84/9)
ويشبه هذه المسألة ما ذكره ابن القيم رحمه الله في المدراج 1/388 أن رجلاً في جيش المسلمين غل ( أي سرق ) من الغنيمة ، ثم تاب بعد زمن ، فجاء بما غله إلى أمير الجيش فأبى أن يقبله منه ، وقال كيف لي بإيصاله إلى الجيش وقد تفرقوا ؟ فأتى هذا التائب حجاج بن الشاعر يستفتيه فقال له حجاج : يا هذا إن الله يعلم الجيش وأسماءهم وأنسابهم فادفع خمسه إلى صاحب الخمس وتصدق بالباقي عنهم ، فإن الله يوصل ذلك إليهم ففعل فلما أخبر معاوية قال لأن أكون أفتيتك بذلك أحب إليّ من نصف ملكي ، وهناك فتوى مشابهة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قريبة من هذه قصة مذكورة في المدارج .
س11 : غصبت مالاً لأيتام وتاجرت به وربحت ، ونما المال أضعافاً وخفت من الله فكيف أتوب ؟
جـ11 : للعلماء في هذه المسألة أقوال أوسطها وأعدلها أنك ترد رأس المال الأصلي للأيتام ، زائداً نصف الأرباح ، فتكون كأنك وإياهم شركاء في الربح مع إعادة الأصل إليهم .
وهذه رواية عن الإمام أحمد ، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح تلميذه ابن القيم رحمه الله ( المدراج 1/392 )
وكذلك لو غصب سائمة من إبل أو غنم فنتجت أولاداً فهي ونصف أولادها للمالك الأصلي ، فإن ماتت أعطى قيمتها مع نصف النتاج إلى مالكها .
س12 : رجل يعمل في الشحن الجوي وتتخلف عندهم بضائع أخذ منها مسجلاً خلسة وبعد سنوات تاب فهل يُرجع المسجل نفسه أو قيمته أو شبيهاً به ، علماً بأن هذا النوع قد انتهى من السوق ؟
جـ12 : يرجع المسجل نفسه زائداً عليه ما نقص من قيمته لقاء الاستعمال أو تقادم الزمن ، وذلك بطريقة مناسبة دون أن يؤذي نفسه ، فإن تعذر ، تصدق بقيمته نيابة عن صاحبه الأصلي .
س13 : كان عندي أموال من الربا ولكني أنفقتها كلها ، ولم يبق عندي منها شيء ، وأنا الآن تائب فماذا يلزمني ؟
جـ13 : لا يلزمك إلا التوبة إلى الله عز وجل توبة نصوحاً والربا خطير ، ولم يؤذن بحرب أحد في القرآن الكريم إلا أهل الربا وما دامت الأموال الربوية قد ذهبت كلها ، فليس عليك من جهتها شيء الآن .
س14 : اشتريت سيارة بمال بعضه حلال وبعضه حرام ، وهي موجودة عندي الآن فكيف أفعل ؟
جـ14 : من اشترى شيئاً لا يتجزأ كالبيت أو السيارة بمال بعضه حلال وبعضه حرام فيكفيه أن يخرج ما يقابل الحرام من ماله الآخر ويتصدق به تطييباً لتلك الممتلكات ، فإن كان هذا الجزء من المال الحرام هو حق للآخرين وجب ردّ مثله إليهم على التفصيل السابق .
س15 : ماذا يفعل بالمال الذي ربحه من تجارة الدخان ، وكذلك إذا احتفظ بأمواله الأخرى الحلال ؟
جـ15 : من تاجر بالمحرمات كبيع آلات اللهو والأشرطة المحرمة والدخان وهو يعلم حكمها ثم تاب يصرف أرباح هذه التجارة المحرمة في وجوه الخير تخلصاً لا صدقة ، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً .
وإذا اختلط هذا المال الحرام بأموال أخرى حلال كصاحب البقالة الذي يبيع الدخان مع السلع المباحة ، فإنه يقدر هذا المال الحرام تقديراً باجتهاده ، ويخرجه بحيث يغلب على ظنه أنه نقى أمواله من الكسب الحرام ، والله يعوضه خيراً وهو الواسع الكريم .
وعلى وجه العموم فإن من لديه أموالاً من كسب حرام ، وأراد أن يتوب فإن كان :
1- كافراً عند كسبها فلا يُلزم عند التوبة بإخراجها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُلزم الصحابة بإخراج ما لديهم من الأموال المحرمة لما أسلموا .
2- وأما إن كان عند كسبه للحرام مسلماً عالماً بالتحريم فإنه يُخرج ما لديه من الحرام إذا تاب .
س16 : شخص يأخذ الرشاوي ، ثم هداه الله إلى الاستقامة ، فماذا يفعل بالأموال التي أخذها من الرشوة ؟
جـ16 : هذا الشخص لا يخلو من حالتين :
1- إما أن يكون أخذ الرشوة من صاحب حق مظلوم اضطر أن يدفع الرشوة ليحصل على حقه لأنه لم يكن له سبيل للوصول إلى حقه إلا بالرشوة ، فهنا يجب على هذا التائب أن يرد المال إلى الراشي صاحب الحق لأنه في حكم المال المغصوب ولأنه ألجأه إلى دفعه بالإكراه .
2- أن يكون أخذ الرشوة من راش ظالم مثله تحصل عن طريق الرشوة على أشياء ليست من حقه ، فهذا لا يُرجع إليه ما أخذه منه ، وإنما يتخلص التائب من هذا المال الحرام في وجوه الخير كإعطائه للفقراء مثلاً ، كما يتوب مما تسبب فيه من صرف الحق عن أهله .
س17 : عملت أعمالاً محرمة وأخذت مقابلها أموالاً فهل يجب عليّ وقد تبت إرجاع هذه الأموال لمن دفعها إليّ ؟
جـ17 : الشخص الذي يعمل في أعمال محرمة ، أو يقدم خدمات محرمة ، ويأخذ مقابلاً أو أجرة على ذلك إذا تاب إلى الله وعنده هذا المال الحرام فإنه يتخلص منه ولا يعيده إلى من أخذه منه .(84/10)
فالزانية التي أخذت مالاً على الزنا لا تعيده إلى الزاني إذا تابت ، والمغني الذي أخذ أموالاً على الغناء المحرم لا يعيده إلى أصحاب الحفلة إذا تاب ، وبائع الخمر أو المخدارت لا يعيدها إلى من اشتروها منه إذا تاب ، وشاهد الزور الذي أخذ مقابلاً لا يعيد المال من استخدمه لشهادة الزور وهكذا ، والسبب أنه إذا أرجع المال للعاصي الذي دفعه فإنه يكون قد جمع له بين العِوض الحرام والمُعوَّض بالتخلص منه ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وترجيح تلميذه ابن القيم . كما في المدارج 1/390 .
س18 : هناك أمر يقلقني ويسبب لي إرهاقاً وأرقاً ، وهو أني وقعت في الفاحشة مع امرأة فكيف أتوب ، وهل يجوز لي أن الزواج منها لستر القضية ؟
وآخر يسأل أنه وقع في الفاحشة في الخارج ، وأن المرأة حملت منه فهل يكون هذا ولده ، وهل يجب عليه إرسال نفقة الولد .
جـ18 : لقد كثرت الأسئلة عن الموضوعات المتعلقة بالفواحش كثرة تجعل من الواجب على المسلمين جميعاً إعادة النظر في أوضاعهم وإصلاحها على هدي الكتاب والسنة وخصوصاً في مسائل غض البصر وتحريم الخلوة ، وعدم مصافحة المرأة الأجنبية والالتزام بالحجاب الشرعي الكامل وخطورة الاختلاط ، وعدم السفر إلى بلاد الكفار والاعتناء بالبيت المسلم والأسرة المسلمة والزواج المبكر وتذليل صعوباته .
أما بالنسبة إلى السؤال فمن فعل الفاحشة فلا يخلو من حالتين :
1- إما أنه زنى بالمرأة اغتصاباً وإكراهاً فهذا عليه أن يدفع لها مهر مثلها ، عوضاً عما ألحق بها من الضرر ، مع توبته إلى الله توبة نصوحاً ، وإقامة الحد عليه إذا وصل أمره إلى الإمام ، أو من ينوب عنه كالقاضي ونحوه . انظر المدارج 1/366
2- أن يكون قد زنى بها برضاها ، فهذا لا يجب عليه إلا التوبة ، ولا يُلحق به الولد مطلقاً ولا تجب عليه النفقة لأن الولد جاء من سفاح ومثل هذا ينسب لأمه ، ولا يجوز إلحاقه بنسب الزاني .
ولا يجوز للتائب الزواج منها لستر القضية والله يقول : ( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ) التوبة /3 .
ولا يجوز العقد على امرأة في بطنها جنين من الزنا ، ولو كان منه، كما لا يجوز العقد على امرأة لا يدرى أهي حامل أم لا .
أما إذا تاب هو وتابت المرأة توبة صادقة وتبين براءة رحمها ، فإنه يجوز له حينئذ أن يتزوج منها ، ويبدأ معها حياة جديدة يحبها الله .
س19 : لقد حصل والعياذ بالله أني ارتكبت الفاحشة وعقدت على المرأة الزانية ، وقد صار لنا سنوات وقد تبنا أنا وهي إلى الله توبة صادقة فماذا يجب عليّ ؟
جـ19 : ما دامت التوبة قد صحت من الطرفين فعليكما إعادة العقد بشروطه الشرعية من الولي والشاهدين ، ولا يلزم أن يكون ذلك في المحكمة بل لو حصل في البيت لكان كافياً .
س20 : امرأة تقول إنها تزوجت من رجل صالح وقد فعلت أموراً لا ترضي الله قبل زواجها ، وضميرها يؤنبها الآن ، وتسأل هل يجب عليها إخبار زوجها بما حصل منها في الماضي ؟
جـ20 : لا يجب على أيٍّ من الزوجين إخبار الآخر بما فعل في الماضي من المنكرات ، ومن ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله وتكفيه التوبة النصوح .
وأما من تزوج بكراً ثم تبين له عند الدخول بها أنها ليست كذلك لفاحشة ارتكبتها في الماضي ، فإنه يحق له أخذ المهر الذي أعطاها ويفارقها ، وإن رأى أنها تابت فستر الله عليها وأبقاها فله الأجر والمثوبة من الله .
س21 : ماذا يجب على التائب من فاحشة اللواط ؟
جـ21 : الواجب على الفاعل والمفعول به التوبة إلى الله توبة عظيمة ، فإنه لا يُعلم أن الله أنزل أنواعاً من العذاب بأمة كما أنزله بقوم لوط لشناعة جريمتهم فإنه :
1- أخذ أبصارهم فصاروا عمياناً ، يتخبطون كما قال تعالى : ( فطمسنا أعينهم )
2- أرسل عليهم الصيحة .
3- قلب ديارهم ، فجعل عاليها سافلها .
4- أمطرهم بحجارة من سجيل منضود ، فأهلكهم عن بكرة أبيهم .
ولذلك كان الحد الذي يقام على مرتكب هذه الفاحشة القتل محصناً أو غير محصن ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني في إرواء الغليل .
س22 : تبت إلى الله ولديّ أشياء محرمة كأدوات موسيقية وأشرطة وأفلام ، فهل يجوز لي بيعها خصوصاً وأنها تساوي مبلغاً كبيراً ؟
جـ22 : لا يجوز بيع المحرمات وثمن بيعها حرام ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا حرم شيئاً حرك ثمنه ) رواه أبو داود وهو حديث صحيح . وكل ما تعلم أن غيرك سيستخدمه في الحرام فلا يجوز لك بيعه إياه، لأن الله نهى عن ذلك فقال : ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) ومهما خسرت من مال الدنيا فما عند الله خير وأبقى ، وهو يعوضك بمنه وفضله وكرمه .(84/11)
س23 : كنت إنساناً ضالاً أنشر الأفكار العلمانية ، وأكتب القصص والمقالات الإلحادية ، وأستخدم شعري في نشر الإباحية والفسوق ، وقد تداركني الله برحمته ، فأخرجني من الظلمات إلى النور وهداني فكيف أتوب ؟
جـ23 : هذه والله النعمة الكبرى والمنة العظمى ، وهي الهداية فاحمد الله عليها ، واسأل الله الثبات والمزيد من فضله .
أما من كان يستخدم لسانه وقلمه في حرب الإسلام ونشر العقائد المنحرفة أو البدع المضلة والفجور والفسق فإنه يجب عليه الآتي :
أولاً : أن يعلن توبته منها جميعاً ، ويُظهر تراجعه على الملأ بكل وسيلة وسبيل يستطيعه حتى يُعذر فيمن أضلهم ، ويبين الباطل الذي كان لئلا يغتر من تأثر به من قبل ، ويتتبع الشبهات التي أثارها والأخطاء التي وقع فيها فيرد عليها ، ويتبرأ مما قال وهذا التبيين واجب من واجبات التوبة ، قال تعالى : ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم ، وأنا التواب الرحيم ) البقرة /160 .
ثانياً : أن يسخر قلمه ولسانه في نشر الإسلام ، ويوظف طاقته وقدراته في نصر دين الله ، وتعليم الناس الحق والدعوة إليه .
ثالثاً : أن يستخدم هذه الطاقات في الرد على أعداء وفضحهم وفضح مخططاتهم ، كما كان يناصرهم من قبل ويفند مزاعم أعداء الإسلام، ويكون سيفاً لأهل الحق على أهل الباطل ، وكذلك كل من اقنع شخصاً ولو في مجلس خاص بأمر محرم كجواز الربا ، وأنه فوائد مباحة ، فإنه ينبغي عليه أن يعود ويبين له كما أضله حتى يكفّر عن خطيئته والله الهادي .
وختاماً :
يا عبد الله فتح الله باب التوبة فهلا ولجت ( إن للتوبة باباً عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب ، وفي رواية عرضه مسيرة سبعين عاماً ، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها ) . رواه الطبراني في الكبير ، صحيح الجامع 2177 .
ونادى الله ( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم ) رواه مسلم . فهلا استغفرت .
والله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، والله يحب الإعتذار فهلا أقبلت .
فلله ما أحلى قول التائب ، أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني .
أسألك بقوتك وضعفي ، وبغناك وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، أسألك مسألة المسكين وابتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل ، وأدعوك دعاء الخائف الضرير سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه وفاضت لك عيناه وذل لك قلبه .
وتأمل هذه القصة ودلالتها في موضع التوبة :
روي أن أحد الصالحين كان يسير في بعض الطرقات فرأى باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ، ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤويه غير والدته ، فرجع مكسور القلب حزيناً فوجد الباب مغلقاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ، ونام ودموعه على خديه ، فخرجت أمه بعد حين ، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي ، وتقول : يا ولدي أين ذهبت عني ومن يؤويك سواي ، ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني على عقوبتك بخلاف ما جبلني الله عليه من الرحمة بك والشفقة عليك ثم أخذته ودخلت !!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الله أرحم بعباده من هذه بولدها ) رواه مسلم.
وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟
والله يفرح إذا تاب العبد إليه ، ولن نعدم خيراً من رب يفرح ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من رجل كان في سفر في فلاة من الأرض ، نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه ، فأوى إلى ظل شجرة ، فوضع رأسه فنام نومة تحتها ، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها ، فأتى شرفاً فصعد عليه فلم ير شيئاً ، ثم أتى آخر فأشرف فلم ير شيئاً ، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش قال : أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته ، فينما هو كذلك ، رفع رأسه فإذا راحلته قائمة عنده ، تجر خطامها ، عليها زاده طعامه وشرابه ، فأخذ بخطامها ، فالله أشد فرحاً بتوبة المؤمن من هذا براحلته وزاده ) السياق مجموع من روايات صحيحة ، انظر ترتيب صحيح الجامع 4/368 .
واعلم يا أخي ، أن الذنب يُحدث للتائب الصادق انكساراً وذلة بين يدي الله ، وأنين التائبين محبوب عند رب العالمين .
ولا يزال العبد المؤمن واضعاً ذنوبه نُصب عينيه فتُحدث له انكساراً وندماً ، فيعقب الذنب طاعات وحسنات كثيرة حتى أن الشيطان ربما يقول : يا ليتني لم أوقعه في هذا الذنب ، ولذلك فإن بعض التائبين قد يرجع بعد الذنب أحس مما كان قبله بحسب توبته .
والله لا يتخلى عن عبده أبداً إذا جاء مقبلاً عليه تائباً إليه .(84/12)
أرأيت لو أن ولداً كان يعيش في كنف أبيه يغذيه بأطيب الطعام والشراب ، ويلبسه أحسن الثياب ، ويربيه أحسن التربية ، ويعطيه النفقة ، وهو القائم بمصالحه كلها ، فبعثه أبوه يوماً في حاجة ، فخرج عليه عدو في الطريق فأسره وكتفه وشد وثاقه ، ثم ذهب إلى بلاد الأعداء ، وصار يعامله بعكس ما كان يعامله به أبوه ، فكان كلما تذكر تربية أبيه وإحسانه إليه المرة بعد المرة تهيجت من قلبه لواعج الحسرات ، وتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه من النعيم .
فينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ، ويريد ذبحه في نهاية المطاف ، إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه فرأى أباه منه قريباً ، فسعى إليه وألقى بنفسه عليه وانطرح بين يديه يستغيث يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه ، أنظر إلى ولدك وما هو فيه والدموع تسيل على خديه، وهو قد اعتنق أباه والتزمه وعدوه يشتد في طلبه حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك به .
فهل تقول إن والده سيسلمه في هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ومن الوالدة بولدها . إذا فر عبد إليه وهرب من عدوه إليه ، وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه ، يقول : يا رب ارحم من لا راحم له سواك ، ولا ناصر له سواك ، ولا مؤوي له سواك ، ولا معين له سواك ، مسكينك وفقيرك وسائلك ، أنت معاذه، وبك ملاذه ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، فهيا إلى فعل الخيرات ، وكسب الحسنات ، ورفقة الصالحين ، وحذار من الزيغ بعد الرشاد ، والضلالة بعد الهداية والله معك .
موقع الشيخ المنجد
http://www.islam-qa.com(84/13)
أزمة أخلاق
الحمد لله الذي بعث رسوله المصطفى ليتمم مكارم الأخلاق، أحمد سبحانه وهو الواحد الرزاق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، شفيع الموحدين يوم التلاق، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً... أما بعد:
أرأيتم -إخواني- إلى العلل في الأجساد كيف تتدهور بها الصحة وتخل بها القوى؟!
أرأيتم إلى البناء إذا أقيم وفي أساسه خلل وضعف كيف يتهاوى إذا حلت به ريح أو هزة خفيفة؟ فالجسد والبناء لا بد من الاهتمام بهما, وإذا ظهرت علة فيهما أو في أحدهما فلا بد من المسارعة في إزالة العلل والمهلكات.
كذلك -أخي المسلم- نعيش في هذا العصر أزمة أخلاق تكاد تعصف بالأمة في الهاوية, ولابد من المسارعة في تشخيصها والمبادرة في علاجها قبل فوات الأوان, فمن صور تلك الأزمة الخلقية السائدة في هذا الزمان صورة وصفها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأقبح وصف, وحكى واقع فاعلها بما ينفر عنه, ويوحي بالاحتراز منه.
نعم.. لقد وصفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذي الوجهين، وأخبر أنه من شرار الخلق؛ لعظم جرمه وفساد طويته وخبث محاولاته وبشاعة مواقفه وفساد صنيعه.
يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تجدون من شرار الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه".
إنه- يا عباد الله- نفاق واضح، لا لبس فيه وحسب المرء ضعةً وهواناً أن يكون في عِداد المنافقين، يتخلق بأخلاقهم، ويسير في ركابهم، ويضر المؤمنين في مجتمعهم، ويضرم نار العداوة بينهم.
إن ذا الوجهين يجمع بمحاولاته بين مجموعة من المحرمات يرتكبها عمداً ومع سبق الإصرار تدفعه إلى ذلك نفسيته المريضة فتحمله على الكذب"وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار" كما صح بذلك الحديث, وتحمله تلك النفس الخبيثة على النميمة، واليمين الفاجرة واللعن والغيبة وكل ذلك جالب سخط الله عليه ووسائل هلكةٍ تعرضه للوعيد الشديد, قال سبحانه: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ*هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ*مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}(10-12) سورة القلم.
وهناك ألوان من الناس هم عبء ثقيل على المجتمع لما يعانيه منهم إذ هبطوا عن درجة الكمال في الإيمان, فمنهم:
الثرثارون الذين هم قومٌ يتجرون بالكلام، وديدنهم رواية الأخبار، ونقل الغث والصحيح، والصدق والكذب، ينتقل أحدهم من ندوة إلى أخرى ممتطياً مطية الكذب، -قالوا كذا وزعموا كذا- دون تثبت في النقل أو وزن لما يحدث به، وذلك من أوضح البراهين على اعتلال خلقه وضعف نفسيته, يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بئس مطية الرجل زعموا" ويقول رب العزة والجلال موجهاً عباده للتثبت من سماع الأخبار وعدم الأخذ بكل ما يقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات.
وممن هم عبء على المجتمع ويمثلون أزمة الأخلاق القائمة في الأمة المشتدقون الذي يتكلمون بملء أشداقهم, سواءً كان ذلك اعتداداً بفصاحتهم, أو توسعاً في الكلام دون احتراز لما يحل منه وما يحرم وما يجمل التحدث به وما يقبح, وقد جاء في الحديث: "إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في النار" وما أكثر المتشدقين في أعقاب الزمن الذين يتشدقون بدعاوى لا يصدقها واقع، محاولين توجيه الأنظار إليهم ولو بالكذب والباطل.
أما اللون الثالث: فهم المتفيهقون الذين وصفهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببعض صفاتهم حين سئل عنهم بأنهم المتكبرون؛ إذ من أبرز صفات المتكبر التعاظم في كلامه، والارتفاع على الناس في الحديث، وإذا كان مثقفاً فإنه يحاول التحدث بالغريب من الكلام إظهاراً لفضله، كما يحلو له! وازدراءً لغيره، تلك علة خلقية تشعر بضعف نفسية المتفيهق، ولذلك يكون بعيداً في الدنيا عن قلوب الناس، معزولاً عن خيارهم، مقروناً في الآخرة بمن أبغضهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا, وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون" قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون"(85/1)
وإن مما أصاب الأمة في صميم أخلاقها انتشار القنوات الفضائية، وغزوها بيوت المسلمين، واستخدام هذه القنوات من قبل بعض الناس استخداماً مُخلاً بالإيمان، مخلاً بالشرف والمروءة والأخلاق وليته اقتصر في ذلك على نفسه بل جعل أولاده - ذكرهم وأنثاهم - في غياهب الظلمة، وأفسد عليهم أخلاقهم ودينهم بترك الحبل على الغارب تعاوناً منه مع أعداء الإسلام في إفساد الأمة من حيث يشعر أو لا يشعر، فأعداء الملة المحمدية صدّروا هذه الشاشات إلى بلاد المسلمين لقصدٍ دنيء وخسيس هو إضاعة أخلاق الأمة، وهؤلاء أهل الشهوات لم يفكروا أو يهتموا لهذه المؤامرة وهذا الخطر، بل جعلوا وصولهم إلى ملذاتهم وشهواتهم هو الغاية والهدف الذي يسعون إليه فلم ينتبهوا لأنفسهم ولا لأولادهم ونسائهم -ولا حول ولا قوة إلا بالله-، فصارت الأسرة بهذا الشكل تشاهد ما هب ودب في هذه القنوات إذ لم تشعر أن عليها رقيب فأثيرت الشهوات، وفسدت المروءات، وانتشر التبرج والسفور، والتشبه بالكفار والكافرات وبدأنا نرى صوراً غريبة في بعض بقاع العالم الإسلامي لمن هن من المسلمات، متبرجات كاسيات عاريات، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول عن مثل هؤلاء: "العنوهن فإنهن ملعونات".ولقد رأينا شباباً من المسلمين يتسكعون في الطرقات، قد أثارتهم مثل هذه الصور الخليعات، فآذوا عباد الله في بناتهم وأخواتهم المؤمنات، كل ذلك هو من نتائج مشاهدة الأفلام والمسلسلات الخليعة التي انتشرت في بلاد المسلمين فتميعت أخلاق كثير من الشباب نسأل الله لنا ولهم الهداية.
إن الإسلام-أيها الأخ المسلم- ولا شك يحرم الزنا، ويجعله من الفواحش والكبائر، ومن أجل خطورة هذا الموقف فقد حرم الإسلام المقدمات التي تؤدي إلى ذلك ومنها تقحم البصر قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ }(30) سورة النور, وقال بعد هذا {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}(30) سورة النور, وهنا دليل على أن عدم غض البصر يؤدي إلى الوقوع في الفاحشة، وقد قال -تعالى- محذراً من البصر الخائن: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}(19) سورة غافر. وليس البصر وحده -يا عباد الله- مقدمة للحرام، فهناك أيضاً السمع والقلب، {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء. نسأل الله أن يهدي الجميع إلى أحسن الأقوال والأفعال والأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا هو, والحمد لله رب العالمين.
المراجع / 1- كتاب الأخلاق في الإسلام للدكتور/ عبد اللطيف محمد العبد". 2- كتاب الخطب في المسجد الحرام
- رواه البخاري برقم (3304) ومسلم برقم (2526).
- رواه البخاري برقم5743 (5/2261) ومسلم برقم2607 (4/2012).
- رواه أبو داود برقم 4972(2/712) وصححه الألباني في سنن أبي داود وفي السلسلة برقم866(2/522).
- رواه الترمذي برقم2314(4/557) وأحمد برقم7214(2/236) وحسنه الألباني انظر:سنن الترمذي.
- رواه الترمذي برقم2018(4/370) وأحمد برقم17767(4/163) وصححه العلامة الألباني برقم (1535)، في صحيح الجامع.
- رواه الإمام أحمد في مسنده برقم 7083(2/223) وصححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة برقم2683
- الخطب في المسجد الحرام، للشيخ/ عبد الله خياط -يرحمه الله-، بتصرف.(85/2)
أسألك مرافقتك في الجنة؟
المقدمة:
الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله، وعلى أله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فإنّ على الإنسان أن يكون همه هم الآخرة، وأن يكون ذو همة عالية، وذلك بأن يكون قدمه على الثرى وهمته في الثريا، وأن يكون ذو عزم أكيد، وبأس شديد في دين الله، فلا يلين ولا يحيد، وهذا ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، ولذلك جاء كثير من الأحاديث في بيان ذلك، ومنها الحديث الذي سنتطرق إليه – إن شاء الله - بشيء من الشرح والتبيين.
نص الحديث:
عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي: " سل؟ ". فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: " أو غير ذلك" قلت: هو ذاك. قال: " فأعني على نفسك بكثرة السجود "1.
وقد جاء مطولاً عند أحمد في المسند عن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال: كنت أخدم رسول صلى الله عليه وسلم وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع، حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة، فأجلس ببابه! إذا دخل بيته، أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فما أزال أسمعه يقول: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! وبحمده حتى أمل، فأرجع أوتغلبني عيني فأرقد، قال: فقال لي يوماً لما يرى من خفتي له وخدمتي إياه: " سلني يا ربيعة أعطك " قال فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله، ثم أعلمك ذلك؟ قال: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة زائلة، وأن لي فيها رزقاً سيكفيني ويأتيني، قال فقلت: اسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي فإنه من الله - عز وجل – بالمنزل الذي هو به، قال: فجئت فقال: " ما فعلت يا ربيعة ؟ " قال فقلت: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار، قال فقال: " من أمرك بهذا يا ربيعة ؟ " قال: فقلت: لا والله الذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قلت: سلني أعطك وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به نظرت في أمري وعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة، وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي، قال: فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً، ثم قال لي: " إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود " 2.
غريب الحديث:
" بوَضوئه " بفتح الواو ماء الوضوء.
" مرافقتك " بالنصب بتقدير أسألك.
" أو غير ذلك " يحتمل فتح الواو أي أتسأل ذلك وغيره أم تسأله وحده؟ وسكونها أي تسأل ذلك أم غيره؟
" هو ذلك " أي المسئول ذلك لا غير.
" فأعني على نفسك " أي كن لي عوناً في إصلاح نفسك بكثرة السجود ونحوه.
المعنى الإجمالي:
كان ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه يبيت مع رسول صلى الله عليه وسلم فيأتيه بالماء ليتوضأ به، وبما يريده من الأمور الأخرى، فما كان من الرحمة المهداة، والهادي البشير، والسراج المنير، والشاكر لرب العالمين، والذي قال كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " 3. فما كان منه إلا أن طلب من ربيعة أن يسأله ما يريد، وذلك مكافأة منه صلى الله عليه وسلم لربيعة لما رأى من شدة خدمته له، وحيازته شرف خدمته صلى الله عليه وسلم, وعنايته بذلك، وكان ربيعة كغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الدنيا منقطعة زائلة، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وأنه لن تموت نفسٌ حتى تستكمل أجلها ورزقها، فما كان من ربيعة إلا أن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقق له ذلك الهدف النبيل، والغاية المحمودة، والتي كان يسعى دائما لتحقيقها، وهي مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وأنعم بها من رفقة، وأنعم بهم من رفاق، قال الله - تعالى-: { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} 4. وهذا طلب غال، وهدف نبيل لا يسعى إلى طلبه وتحقيقه إلا أصحاب الهمم العالية، والنفوس المطمئنة، والذين علموا أنهم أبناء الآخرة، والذين باعوا الحياة الدنيا الفانية واشتروا الحياة الآخرة الباقية.
فلبى النبي صلى الله عليه وسلم طلبه، ولكنه طلب منه بذل السبب لبلوغ تلك المنزلة، وذلك بأن يعينه على نفسه بكثرة الخضوع والسجود للرب المعبود.
بعض فوائد الحديث:
في هذا الحديث فوائد فريدة، وحكم سديدة؛ منها:
1- أن السجود سبب لرفع الدرجات، وحط الخطايا والسيئات؛ كما جاء في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا يرفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة " 5.(86/1)
2- أن السجود سبب من أسباب حصول الشفاعة والفوز بالجنة؛ لما روي عن كعب قوله: أسألك أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار؟...فقال: " أعني بكثرة السجود "6.
3 - أن أقرب حالة، وأفضل هيئة السجود، فإذا ما دعا الساجد ربه وهو على تلك الحالة أجابه، وإذا ما سأله أعطاه، لما روي عنه صلى الله عليه وسلم " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " 7. وقال الله - تعالى- لنبيه: { كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} 8.
4- أن السجود سمة من سمات عباد الله الصالحين، قال تعالى: { رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } 9.
5- فضيلة ومنقبة لربيعة بن كعب رضي الله عنه، وذلك أنه كان ممن يخدم النبي صلى الله عليه وسلم, وعلو همته، وشرف وحسن مقصده، ورغبته عن الدنيا، وحبه للآخرة.
6- الحث والترغيب في كثرة السجود.
7- أن السجود غاية التواضع والعبودية لله – تعالى -.
8- أن الجنة غالية، وأنه لابد من دفع الثمن، وذلك ببذل النفس والمال في نيلها، ولذلك فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربيعة المعاونة على نيلها وحصولها بكثرة السجود.
9- أن الجنة قليل من ينالها، ويحصل عليها، وهي لا تنال بمجرد الأقوال فقط، وإنما تنال بالأقوال والأعمال، وذلك بعد إذن الله ومشيئته وفضله ورحمته، ولذلك فقد قال ابن القيم - رحمه الله-:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها إلا أولو التقوى من الإيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهر قبل الموت ذو إمكان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الخطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها فقط من متخلف وتعطلت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكل كريهة ليصد عنها المبطل المتواني
وتنالها الهمم التي تسمو إلى رب العلا بمشيئة الرحمن
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنان
10- أن السجود سبب في إصلاح العبد نفسه، وإزالة أمراض قلبه، وذلك لما فيه من الإخبات والتذلل بين يدي الله.
11- أن الجنة تحتاج إلى مجاهدة النفس على شهواتها وملذاتها، ولا يكون قهر النفس إلا بترك الكبر، والتواضع لله رب العالمين، والانطراح بين يديه، والاعتراف بالتقصير في حقه سبحانه وتعالى.
12- أن في السجود إرغام للشيطان، ومحاربة له، ولذلك فقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويلاه أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت أنا بالسجود فعصيت فلي النار " 10.
13- استحباب الإكثار من الدعاء في السجود، لما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء " 11.
14- أن السجود هو أعظم ما يظهر فيه التذلل والخضوع بالعبودية لله رب العالمين، وذلك أن العبد جعل أشرف أعضائه، وأعزها عنده، وأغلاها لديه حين عفره على التراب متواضعاً لله رب العالمين. وقد كان المشركون يأنفون ويستكبرون عن عبادة الله - عز وجل -، وكان بعضهم يقول: أكره أسجد فتعلوني استي – مؤخرة الإنسان-. وبعضهم يأخذ كفاً من حصى فيرفعه إلى جبهته ويكتفي بذلك عن السجود. وإبليس إنما طرده الله لما استكبر عن السجود لمن أمره الله بالسجود له.
15- تذكر الآخرة، وأن الإنسان راحل إلى الله - تعالى – وذلك أن في السجود التصاقاً بالأرض، وذلك يذكر العبد بالبداية والنهاية، فهو يمرغ جبهته في التراب فيتذكر أصل خلقته – التراب - وأنه عائد إلى هذا التراب.
16- أن السجود بهيئة صارف عن رؤية الدنيا وفتنتها وزخارفها وملذاتها، فإن الإنسان عندما يسجد يكون نظره إلى هذه الرقعة الصغيرة من الأرض؛ فيتذكر أن الدنيا حقيرة فانية، وأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم...
________________________________________
1 - رواه مسلم والنسائي وأبو داود.
2 - رواه أحمد وأصله في مسلم.
3 - رواه أبو داود والنسائي وأحمد، وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1468).
4 - سورة النساء(69).
5 - رواه ابن ماجة ولمسلم من حديث ثوبان نحوه.
6 - سبق تخريجه.
7 - رواه مسلم.
8 - سورة العلق(19).
9 - سورة الفتح(29)
10 - رواه مسلم.
11 - رواه مسلم.(86/2)
...
أساليب التبشير في المدارس وأثرها على الطفل المسلم ...
...
د. نهى قاطرجي ...
حرص الإسلام على تعليم الأطفال أركان الإسلام والإيمان منذ الصغر ، وقبل سن التكليف، وجعل مسؤولية هذا الأمر على عاتق الأهل الموكلين بتربية الطفل التربية السليمة التي تنجيه وتنجيهم في الدنيا والآخرة .
وتكون نجاتهم في الدنيا ببرّ الولد لأهله ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رحم الله والداً أعان ولده على برّه ) . (1)
قال الإمام الغزالي في تفسير هذا الحديث : أي " لم يحمله على العقوق بسوء عمله " . (2)
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " أن رجلاً جاء إليه بابنه ، فقال : إن ابني هذا يعقني . فقال عمر - رضي الله عنه - للابن : أما تخاف الله من عقوق والدك ، فإن من حق الوالد كذا ، ومن حق الوالد كذا . فقال الابن: يا أمير المؤمنين ، أما للابن على والده حق ؟ قال : نعم ، حقّه عليه أن يستنجب أمه، يعني لا يتزوج امرأة دنيئة ، لكيلا يكون للابن تعيير بها . قال : ويُحسن اسمه ، ويعلمه الكتاب . فقال الابن : فوالله ما استنجب أمي ، وما هي إلا سِنْدِيّة اشتراها بأربعمائة درهم ،ولا حسّن اسمي ، سماني جُعَلاً - ذكر الخفاش - ولا علمني من كتاب الله آية واحدة . فالتفت عمر- رضي الله عنه - إلى الأب وقال : تقول : ابني يعقني ، فقد عَقَقْتَهُ قبل أن يعقّك ، قم عني " . (3)
وتكون النجاة في الآخرة بالفوز بالجنة والوقاية من النار ، يقول تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة } .(4)
وقد جعل بعض العلماء الولد داخلاً في النفس " لأن الولد بعض أبيه " . (5)
قال ابن جرير : إن وقاية الأبناء تكون بتعليمهم " الدين والخير و ما لا يُستغنى عنه من الأدب". (6)
ويشدد الرسول عليه الصلاة والسلام على هذه المسؤولية بقوله : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كمثل البهيمة تنتج البهيمة فهل ترى فيها جدعاء؟".(7)
وهذه المسؤولية ممكن أن تكون بصورة مباشرة " إذا علماه اليهودية أو النصرانية أو المجوسية حتى يدين بها ، وتكون مسؤوليتهما غير مباشرة إذا تركا تعليمه عقيدة الإسلام ومعانيه ، وتركاه فريسة للمجتمع الفاسد الضال الذي تشيع فيه عقائد الكفر والضلال من يهودية أو نصرانية أو مجوسية وغيرها فيؤمن بها أو يدين بها " . (8)
وهذه المسؤولية التي تغافل عنها بعض الآباء ، إما بسبب جهلهم بها ، أو مواكبة للعصر وتقليدا ًللآخرين ، أدرك حقيقتها علماء النصارى فعمدوا إلى إنشاء المدارس الإرسالية بغية غرس التعاليم النصرانية في عقول أطفال المسلمين منذ الصغر ، وقد أفصح مبشروهم في عدة مناسبات عن أهدافهم هذه ، ومن هؤلاء (جون موط ) المبشر النصراني الذي قال : " إن الأثر المفسد في الإسلام يبدأ باكراً جداً ، من أجل ذلك يجب أن يُحمل الأطفال الصغار إلى المسيح قبل بلوغهم الرشد ، قبل أن تأخذ طبائعهم أشكالها الإسلامية ". (9)
ولم يكتف هؤلاء بالمدارس الإرسالية بل عمدوا في بعض الحالات إلى فتح المدارس العلمانية، بغية إحكام السيطرة على تربية أبناء المسلمين وتدمير عقيدتهم ، ذلك لأنهم إذا فشلوا في جذب أبناء المسلمين إلى مدارسهم وتلقينهم المبادئ النصرانية ، فإنهم يكونون ، على الأقل ، قد حطموا مبادئهم من الداخل ، وهذا ما جاء في كلام المبشر (زويمر) الذي قال : " ما دام المسلمون ينفرون من المدارس المسيحية ، فلا بد أن ننشئ لهم المدارس العلمانية ، ونسهّل التحاقهم بها ، هذه المدارس التي تساعدنا على القضاء على الروح الإسلامية عند الطلاب " . (10)
ويتحجج كثير من الآباء الذين يرسلون أبناءهم إلى الإرساليات بأن التعليم الديني في هذه المدارس ليس إلزامياً ، وأن المسؤولين يجعلون للطالب الحرية الكاملة في دخول الكنيسة أو عدم الدخول ، وهذا الأمر قد يكون صحيحاً ، إلا أن ما سها عن بال هؤلاء الأهل أن ما يخطط له هؤلاء في تدمير عقيدة المسلم يمكن أن يحصلوا عليه بوسائل متعددة ، ومن هذه الوسائل :
أولاً : صلة الأطفال بمعلميهم ، إذ إن المعروف أن الطفل يتأثر بالكبار من معلمين وأهل ، وهذا الأثر قد يبقى لفترة طويلة ، قد تمتد طوال عمره ، والطفل يؤمن بكل ما يقوله معلمه ، لذلك " من الطبيعي أن قِيَمَ المعلم واتجاهاته تُتناقَل للتلميذ بطريق مباشر خلال القواعد والمناقشات والتفسيرات أو التعليقات والأوامر ، وأقل أهمية أحياناً ما ( يقوله ) المدرس بالقياس إلى ما ( يفعله ) ، فالمدرس يؤدي وظيفة القدوة أو المثال النموذجي للصغار ، إنهم يتمثلونه ويحاكونه ويحاولون الانطباع به ".(11)(87/1)
ثانياً : تعلم الأطفال من بعضهم البعض ، إذ يشكل الرفاق وسيلة من الوسائل التعليمية المهمة ، فالحوار المستمر حول نقاط الخلاف بين الأديان يكثر بين الرفاق الذين يكونون في الغالب من أتباع الديانة الأخرى ، كل هذا يجعل هذا الولد يتأثر بكلامهم - وإن لم يُبد ذلك للأهل - أو يُظهر ذلك رغبة منه بالحصول على ودهم وصداقتهم أو رغبة بتجنب سخريتهم واستهزائهم .
ثالثا ً : استغلال الوسائل كافة من أجل بث التعاليم الدينية ، ومن هذه الوسائل ( الطابور الصباحي ) حيث يجتمع الأطفال في باحة الملعب قبل الصعود إلى الصف ، ويستمعون إلى توجيهات الراهبة أو الكاهن ، حيث يقوم هؤلاء باستغلال بعض المناسبات الدينية من أجل التعريف بالدين المسيحي وبث أفكارهم بحرية وبدون رقابة ، أو من أجل القيام ببعض الصلوات ، ومن أخطر هذه المناسبات ( الشهر المريمي ) حيث يقوم الطلاب بالصلاة الصباحية الجماعية قبل الدخول إلى الصف، والصلوات يقوم بها الطلاب أيضاً بشكل يومي في باص المدرسة أثناء انتقال الأولاد إلى منازلهم.
رابعاً : استغلال النشاطات المدرسية من أجل القيام ببث الأفكار المسيحية في أذهان الطلاب، ومن هذه النشاطات الرحلات المدرسية إلى الأماكن الدينية ، كمزار سيدة حريصا في لبنان مثلاً ، حيث تبث هناك بعض التعاليم المخالفة للدين الإسلامي ، كالحديث عن السيرة المحرفة للسيدة مريم العذراء عليها السلام ، والحديث عن معجزاتها ، التي تقربها من الآلهة ، حسب زعمهم ، وقد تجعل الطفل يعتقد أنها قادرة على جلب المنفعة أو دفع الضرر.
ومن هذه النشاطات أيضاً الأفلام السينمائية التي تتحدث عن سيرة المسيح عليه السلام ومعجزاته .
خامساً : جهل الآباء بالعقيدة الإسلامية الصحيحة ، وبالتالي انصرافهم عن تعليمها لأبنائهم، يجعل الطفل يصدق كل ما يخبره به الطرف الآخر ، لسهولة حصوله عنده على أجوبة الأسئلة التي لا يجدها عند أهله .
ومن النماذج عن جهل الطلاب بدينهم ، ما ذكره أحد الأشخاص ، من أنه حين كان في صف الفلسفة ( آخر صف ثانوي قبل الدخول إلى الجامعة ) ، أخبره أستاذه النصراني أن هناك وحدة بين الأديان ، وأنه ورد في القرآن الكريم سورة مريم ، فما كان من هذا الطالب المسلم إلا أن أسرع إلى منزله وبحث في المصحف عن ( صورة ) مريم، فلم يجدها … فمن المسؤول عن هذا ؟…
هذه الأسباب التي ورد ذكرها تتعلق بالآثار المباشرة لتعلم الولد المسلم في المدارس النصرانية، إلا أن المخيف في الأمر أن هذه الآثار قد تبقى في النفس إلى آماد طويلة ، وقد لا تزول إلا من نفس من رحمه الله ، ومن هذه الآثار :
أولاً : رفض الشاب أو الفتاة فكرة أن أهل الكتاب هم من الكفار ، لأن رفاقه وأصحابه هم من بينهم ، وهو أمضى معهم فترة زمنية طويلة ، ويعلم أنهم يتمتعون بالأخلاق الحميدة ( وهذا الأمر يشدد عليه النصارى في مدارسهم ) لذلك فهو يرفض مقولة أنهم كفار ، وبالتالي فإنه قد يرفض في المستقبل محاربتهم أو جهادهم ، وإذا فعل فإن هذا قد يشعره بالألم .
ثانياً : إحساسه بعقدة النقص تجاه أتباع الديانة الأخرى ، فهو يحاول كسب ودهم بشتى الوسائل ، وتحت مختلف الشعارات ، كشعار إلغاء الطائفية ، وشعار العيش المشترك ، هذا التعايش الذي قد يكون في كثير من الأحيان على حساب المسلمين ، فإذا أصبح مثل هذا الشخص مسؤولاً في أحد المراكز المهمة ، فإنه يُقرب غير المسلم ، ويُرقي غير المسلم حتى ولو كان المسلم أحق بالترقية، فهل هكذا يكون الإسلام ؟ وهل هذا الأمر بهدف التعايش ، أم نتيجة عقدة نقص تجاه الفريق الآخر؟
ثالثاً : تكرار تجربته العلمية ( الناجحة في نظره ) مع أبنائه ، فهو يسجله في المدرسة التي تعلم فيها ليعلمه كما تعلم و ( حتى يَطْلَع يِحكي كِلْمْتين فْرِنساوي ) ، أما إذا سجله في المدارس الأخرى، وخاصة الإسلامية منها ، فإنه سيصبح إنساناً معقداً .
إلى هؤلاء نقول : إن ما تفعلونه ، هو تدمير ذاتي لكم قبل أن يكون تدميراً للإسلام ، لأن الطفل الذي لا تُعلمه دينه ، لن يعرف تعاليم الإسلام ، من بر الوالدين والإحسان إليهم ، والرجل الذي يقرب الأعداء إليه ، ينقلب السحر عليه .
وقد حذر الله تعالى من هذا الفعل بقوله :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ، تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } (12) .
وقال تعالى : { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله }. (13)
ومحادّة الله ورسوله " ليست مجرد الكفر ، وإنما هي مناصبة العداء للإسلام والمسلمين ". (14)(87/2)
ولْيَعلَم أبناء الإسلام أن المعركة مع النصارى معركة قديمة ، وهم لن يرضوا عن المسلم مهما فعل ومهما حاول التقرب إليهم وإظهار المودة لهم ، وقد أكد هذا الأمر القرآن الكريم بقوله عز وجل: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ، قل إن هدى الله هو الهدى ، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير } . (15)
وفي النهاية ، لا بد من التأكيد على أن مسؤولية التجاء أبناء المسلمين إلى مثل هذه المدارس لا يقع على عاتقهم وحدهم ، بل إن بعض هذه المسؤولية يحملها أبناء الإسلام الذين انصرفوا عن إنشاء المدارس الإسلامية الجيدة التي تستطيع أن تنافس المدارس الإرسالية والعلمانية ، كما أن لعزوف بعض المدارس الإسلامية عن تعليم اللغات الأجنبية التي يجب على المسلم إتقانها إذا رغب في معرفة لغة عدوه ، أثره في دفع بعض الأهل إلى اختيار هذه المدارس محتجين بالضرورة العلمية في بعض الحالات .
---------------------
(1) رواه ابن حبان .
(2) الغزالي، احياء علوم الدين ، ج2 ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، ص216 .
(3) السمرقندي ، تنبيه الغافلين ، دار ابن كثير ، دمشق ، الطبعة الثانية ، 1415هـ ، 1995 م، ص130.
(4) سورة التحريم ، آية 6.
(5) القرطبي ، تفسير القرطبي ، ج18 ، ص195،196 .
(6) الشوكاني ، فتح القدير ، دار الخير ، بيروت ـ الطبعة الأولى ، 1413هـ ، 1992م ، ج5 ، ص292.
(7) رواه البخاري ، الجدعاء ، مقطوعة الإذن ، يريد أنها لا تولد لا جدع فيها وإنما يجدعها أهلها بعد ذلك .
(8) عبد الكريم زيدان ، المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية ، ج10 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، الطبعة الثالثة، 1417هـ ، 1997 م ، ص115.
(9) مصطفى خالدي ، عمر فروخ ، التبشير والاستعمار في البلاد الاسلامية ، المكتبة العصرية ، صيدا 1986، ص68.
(10) يوسف النبهاني ، مختصر إرشاد الحيارى إلى تحذير المسلمين من مدارس النصارى ، دار البيارق ، بيروت ، الطيعة الأولى ، 1416 هـ ، 1995م.
(11) كمال دسوقي ، النمو التربوي للطفل والمراهق ،دار النهضة العربية ، بيروت ، 1979، ص373.
(12) سورة الممتحنة ، آية 1.
(13) سورة المجادلة ، آية 22.
(14) يوسف القرضاوي ، الحلال والحرام في الإسلام ، المكتب الإسلامي ، الطبعة الرابعة عشرة ، 1405هـ ، 1985م ، ص308.
(15) سورة البقرة ، آية 120. ...
http://saaid.net/daeyat/nohakatergi/32.htm ...(87/3)
أساليب الدعاية المعاصرة (الغاية تبرر الوسيلة)
أحمد دعدوش
مع تطور وتوسع دَوْر وسائل الإعلام وتقنيات الاتصال التي تجتاح عالمنا اليوم، تتماهى باطِّراد تلك الحدود التي كانت تفصل في الماضي بين دور كل من الإعلامي والمعلِن؛ إذ يضطر كل منهما للتحايل على ارتفاع مستوى الوعي الاجتماعي، مستفيدَيْن من تطور مهارات الاتصال وتقنيات الإبهار، مما دفعهما للانتقال إلى مستويات أعلى من الإسفاف في نقل الصور المؤدلجة عن الواقع، أو الإمعان في ترسيخ صور أخرى في ذهن المتلقي.
وتلعب الفلسفة العملية البراغماتية دوراً رئيساً في تشكيل العقل الجمعي المُجبَر على الانصياع للواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد في العالم الغربي، وبما يصب أساساً في مصلحة النخبة المتنفذة، وهو الأمر الذي يتم تعميمه في مجتمعات العالم كافة مع تزايد وطأة العولمة وفق صياغة «عالم القطب الواحد».
يعتمد الإعلاميون والمعلنون - على حد سواء - على التطور الملفت في تقنيات الإعلام والتسويق؛ حيث تستفيد معظم الجامعات المختصة بهذين الفرعين من دراسات تقنيات التأثير والاتصال، والتي تتركز في معظمها على النفوذ إلى العقل الباطن والتأثير اللاواعي على اهتمامات المتلقي ورغباته، ثم توجيهها وفق مصالح النخبة. ويمكن تلخيص أكثر الأساليب الدعائية شيوعاً في النقاط التالية:
1 - القولبة والتنميط: لعل هذا الأسلوب من أكثر أساليب الدعاية شيوعاً ووضوحاً؛ إذ تقدم لنا وسائل الإعلام وجهات نظر أصحابها الخاصة في كل شيء، كأن يُحرَص على تقديم المسلم في صورة رجل طويل اللحية غريب الملبس، أو في صورة امرأة تتشح بالسواد وتجلس على مقعد السيارة الخلفي؛ حيث يعمل تكرار هذه الصورة على الربط التلقائي لكل ما تستدعيه من توابع قد لا يُصرَّح بها، فيغدو الإسلام مرتبطاً في ذهن الغربي بكل الصفات السلبية التي تستبطنها تلك الصورة دون البحث عما يمكن أن يخفيه المظهر الخارجي من قيم ومبادئ تُقصَى عمداً عن الطرح والمناقشة.
2 - تسمية الأشياء بغير مسمياتها: بما أن وسائل الإعلام تُمسِك اليوم بزمام الرأي العام، وتعمل على توجيهه وصياغته على النحو الذي تريد؛ فإن ذلك يستتبع بالبداهة تحكُّمها في المفاهيم والمصطلحات التي تتداولها وتسعى لتدويلها بين الناس؛ إذ تتجنب غالباً التعرض المباشر للقضايا التي ترغب في تحويرها أو تغييرها، وإنما تعمل على إعادة صياغتها بلغة جديدة تتناسب مع سياساتها وبثها بين الناس الذين يتقبلونها لا شعورياً على المدى الطويل. ومن ذلك مثلاً إطلاق كلمة الدين على كافة الأديان دون تمييز، تمهيداً لتقبُّل النقد العلماني للإسلام على أنه دين لا يختلف في شيء عن ذلك الدين الذي وقف عائقاً في وجه النهضة الأوروبية لعشرة قرون، أو تعميم كلمة الأصولية على كل من يعدّ الأصول (النصوص) مرجعية له، للوصول إلى حتمية الربط بين الدين والعنف، وينطبق الأمر على مسميات كثيرة يتم العبث بها كتعدد الزوجات وحقوق المرأة وحجابها وحقوق الإنسان، إلى غير ذلك.
3 - إطلاق الشعارات: وهو أسلوب شائع في الدعايات التجارية والسياسية على السواء كما هو معروف؛ إذ غالباً مَّا يتم تعميم أحد الشعارات المنتقاة بعناية كعنوان عريض لكل حملة إعلانية، ومن ذلك مثلاً تأكيد أحد أشهر معاجين الأسنان في أمريكا على شعار (النَّفَس المنعش) أكثر من التذكير بالهدف الرئيس من تنظيف الأسنان وهو حمايتها من التسوس؛ إذ دلت الدراسات التي قام بها المنتجون على أن اهتمام المستهلك ينصبُّ عادة على رائحة الفم الطيبة أكثر من صحة الأسنان. وهكذا يعتمد المعلنون على ربط أهدافهم الإعلانية بأكثر الشعارات جاذبية، وبغض النظر عن مصداقيتها، وصولاً إلى الربط اللاشعوري بين الشعار والمعلَن عنه حتى يغدو مجردُ تذكُّر المستهلك لرائحة الفم الطيبة محرِّضاً تلقائياً على استحضار صورة ذلك المعجون بالرغم من أن كل المعاجين تشاركه في هذه الخاصية.
4 - التكرار: لا يكتفي المعلنون عادة بمجرد التنميط والكذب، بل يعمدون كثيراً إلى التكرار المستمر لشعاراتهم وحملاتهم الإعلانية التي تلاحق الناس أينما ذهبوا، وقد يلجأ البعض إلى التكرار في عرض إعلاناتهم غير المباشرة ليحصدوا نتائج أكثر فعالية من الإعلان المباشر عندما يكون التصريح مثيراً للحساسية أو الرفض؛ إذ دلت إحدى الدراسات على أن تكرار ظهور أحد ممثلي السينما وهو يدخن خلال الفيلم لأربع مرات، قد يؤدي إلى زرع صورة إيجابية للتدخين عند المراهقين المعجبين بهذا الممثل، مما يعطي دلالة واضحة على أثر الإعلان غير المباشر في بث الرسائل الإعلانية مع التكرار المستمر، وهو أمر يزداد خطورة عندما يقترن بالتصريح المباشر والموجه.(88/1)
5 - الاعتماد على الأرقام والإحصائيات ونتائج الاستفتاء: وهذا الأسلوب يضفي الكثير من المصداقية على الخبر المراد ترويجه؛ إذ تعمد وسائل الإعلام - الأمريكية منها على وجه الخصوص - إلى دعم الكثير من الأخبار والإعلانات باستفتاءات وإحصائيات تنسب عادة إلى بعض الجهات المتخصصة ذائعة الصيت، وبالرغم من شيوع القول بأن هذه المؤسسات البحثية والإحصائية قد اكتسبت شهرتها بسبب مصداقيتها ونزاهتها، إلا أنه من غير الممكن أيضاً التأكد من ذلك بأي وسيلة كانت.
6 - الاستفادة من الشخصيات اللامعة: وهو أسلوب شائع وشديد الخطورة، ولا نقصد به هنا الاقتصار على جذب مشاهير الفن والرياضة للإعلان التجاري، مع ما في ذلك من تبعات سيئة على الجيل الناشئ الذي يتخذ من هؤلاء قدوة في السلوك، ولكن الأمر قد يصل إلى حد الخداع بالاستفادة من بعض الانتهازيين من المفكرين والعلماء الذين لا يتورعون عن الممالأة وتقديم بعض الآراء في قوالب فكرية مصطنعة، مع التأكيد على إبرازها تحت أسماء هؤلاء المشاهير بما يحملونه من ألقاب قد تصاغ خصيصاً لإضفاء المزيد من التأثير. وهنا نشير إلى أسلوب انتهازي يُسْرِف الإعلام الغربي - أو العربي المستغرب - في تطبيقه عبر تمرير الكثير من الأفكار والتوجهات تحت أسماء عربية وإسلامية يراد لها أن تتبوأ مركز الريادة والتوجيه، ويتم تقديمها تحت مسميات من قبيل: «الباحث الاستراتيجي»، «الخبير في شؤون كذا»، «المفكر الإسلامي المستنير»، وتكمن الخطورة هنا في بث الأفكار المستوردة بألسنة محلية وأسماء مقبولة ومعروفة، بدلاً من الاستعانة بأسماء وألقاب أجنبية قد تثير بعض الحساسية.
7 - عدم التعرض للأفكار السائدة: يؤكد الباحثون في مجال الإعلان اليوم على ضرورة تجنب الصدام مع المتلقي؛ إذ فشلت الكثير من المحاولات السابقة في فرض بعض التوجهات والآراء على الرأي العام عنوة، ومن ذلك مثلاً قرار تحريم الخمر الذي صدر عام 1920 في الولايات المتحدة بجهود «رابطة مقاومة الحانات» التي قامت بحملة إعلانية كبيرة طبعت من خلالها أكثر من 157 مليون نشرة ومليوني كتاب وخمسة ملايين نسخة من الكتيبات ومليوني ملصق (بوستر) وثمانية عشر مليوناً من البطاقات، تدعو جميعها إلى توعية الناس بأضرار الخمور على جميع الأصعدة، فكانت النتيجة أن نشأت جمعية أخرى مناهضة لهذا القرار، ومع أنها لم تكن تملك من الإمكانيات الإعلانية ما تملكه الجمعية الأولى، فإن الغلبة كانت لهذه الثانية بعد أن تحول تجار الخمور من التجارة المشروعة إلى الاحتكار والابتزاز والتحايل على السلطات، وربما انتشر تداول الخمور بين العامة بصورة أكبر من ذي قبل، مما أدى من ثَم إلى إلغاء القرار بعد ثلاثة عشر عاماً من صدوره، وعدم التجرؤ على الاصطدام الحاد بالأفكار السائدة في المجتمع.
8 - التظاهر بمنح فرص الحوار والتعبير عن الرأي لجميع الاتجاهات: فمع أن الحرية الفكرية أمر محمود ومطلوب في كل المجتمعات، إلا أن هذه الدعوى قد تبدو كلمة حق أريد بها باطل؛ إذ إنها كثيراً ما تؤدي إلى نتيجتين على قدر من الخطورة:
أولاهما: منح أصحاب الآراء والتوجهات الشاذة فرصة الظهور على مسرح الأحداث وكأنهم أصحاب تيار حقيقي كامل، يملك الحق في الوجود والتعايش مع الآخرين، ويبحث عن موطئ قدم مريح وهادئ، تماماً كما يقدم الإعلام الغربي الشاذين جنسياً على أنهم مجرد «مِثْليين» يتمتعون بحس عاطفي بريء تجاه أمثالهم في الجنس، ويسعون لاكتساب احترام الآخرين وتفهُّم رغباتهم النفسية والجسدية.
النتيجة الثانية: هي كسب تعاطف المتلقي عبر تقديم هذه التوجهات الشاذة في صورة عاطفية تداعب الأحاسيس، بدلاً من طرحها للنقاش العلمي والفكري كأن تجري مداولتها في مناظرات علمية حقيقية تعطي الحق للمخالفين في تفنيدها بالتساوي مع حق أصحابها في الطرح.
وقد قدمت هوليود مؤخراً فيلماً سينمائياً يعرض قصة اثنين من رعاة البقر الشاذين جنسياً في صورة إيجابية تدفع المشاهد للتعاطف اللاشعوري، وهو الأمر الذي أكدته ردود أفعال الكثيرين ممن شاهدوا الفيلم كما ورد في مجلة (النيوزويك) واعترفوا بتغيير نظرتهم كلياً تجاه الشذوذ الجنسي.
9 - التأكيد بدلاً من المناقشة والبرهنة: بالرغم من تساهل وسائل الإعلام مع أصحاب الآراء الشاذة في عرض وجهات نظرهم، إلا أنها غالباً ما تُغفِل الآراء التي لا تتفق مع مصالحها بشكل شبه تام، فتقدم وجهات نظرها على أنها من المسلَّمات التي يتفق عليها الجميع دون نقاش، وتتجنب حتى الرد على الرأي الآخر خشية تسليط الضوء عليه والمساعدة على انتشاره بلفت الأنظار إليه. ومن ذلك تقديم الديمقراطية الليبرالية الغربية على أنها الحل المجمَع عليه في الكثير من وسائل الإعلام العربية وكأن المجتمع العربي- الإسلامي بكافة أطيافه قد قال كلمته في ذلك.(88/2)
10 - عدم التعرض للقضايا الحساسة: امتداداً لما سبق؛ فإن الإعلام الموجه يتجنب غالباً التعرض للقضايا المثيرة للخلاف، بل يتجاوزها إلى ما هو أبعد منها ليتعامل مع الواقع من حيث هو، مما يؤدي لا شعورياً إلى ترسيخ هذا الواقع في وجدان المتلقي إلى درجة التعايش معه وتقبُّله دون التساؤل عن صحته وحقه أصلاً في الوجود فضلاً عن الاستمرار، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ومن أهمها إغفال حقيقة دولة (الكيان الصهيوني) واغتصابها للأرض والمقدسات، والتعامل معها على أنها دولة موجودة على أرض الواقع وتملك كافة مقومات الوجود، دون التعرض لحقيقة قيامها المصطنع، وقد أدى هذا التعامل السيئ للإعلام العربي مع القضية الفلسطينية إلى تقبُّل الرأي العام العربي لوجود دولة صهيونية في قلب العالم العربي - الإسلامي، دون أي تبعات نفسية أو فكرية عميقة.
11 - إثارة الغرائز وادعاء إشباعها: لعل إثارة الغرائز في وسائل الإعلام هي من أكثر الأساليب وضوحاً لدى المتلقي؛ إذ يستغل المعلن والإعلامي الغربي مساحة الحرية التي يتيحها النظام الليبرالي في العبث بغرائز المتلقي لتلقينه ما يريد. وقد تهدف الدعاية هنا إلى مجرد لفت الانتباه للترويج لسلعةٍ مَّا كاستخدام الصور الخليعة في الإعلانات المصورة، أو يمتد الأمر لربط الشيء المعلن عنه بغريزةٍ مّا كأن يصبح إشباعها متعلقاً بهذا الشيء، ومن ذلك ربط تدخين السجائر بالرجولة، واستخدام بعض العطور بالجاذبية الجنسية، واقتناء أحد الهواتف النقالة بالمكانة الاجتماعية المرموقة. ولكن الخطورة هنا ليست مقتصرة على الترويج الرخيص لهذه السلعة أو تلك، بل استحلال إثارة غرائز الناس لأهداف فئة معينة في المجتمع، وتنميط صورة المرأة التي لم تعد تعني أكثر من جسد تتحدد قيمته بمدى تقبُّل الرجل؛ علماً بأن الكثير من المنظمات والفعاليات الحقوقية في الغرب تسعى لمناهضة هذا الاستغلال غير الإنساني للمرأة في وسائل الإعلام، ومن ذلك احتجاج إحدى المنظمات النسائية الأسبانية مؤخراً بعد تلقيها 342 شكوى ضد المعلنين في العام الفائت، إلا أن الثقافة الليبرالية الطاغية التي قامت في البداية على الاعتراف بحقوق المرأة قد وقعت في مأزق لا يمكن الخروج منه، ويؤكد ذلك مسعى بعض المفكرين الغربيين الحالي لإنقاذ مبادئ الحرية من براثن الانفلات الأخلاقي.
12 - ادعاء الموضوعية: يعترف المؤرخون للإعلام الغربي بأن الإعلام المطبوع الذي بدأ في القرن الخامس عشر الميلادي لم يكن يهدف بالأساس إلى تقديم الصورة الصحيحة للواقع؛ فحتى الأخبار كانت تتعرض للتزوير حسب مصالح القائمين على النشر، وعندما بدأت الصحافة الحرة في بريطانيا في القرن السابع عشر لم تكن تعكس إلا وجهات نظر أصحابها وتصبُّ في مصالحهم، إلا أن اتساع رقعة الحرية والليبرالية وتزايد الاستقلال الفردي للمواطن العادي، دفع الإعلاميين إلى التزام المزيد من الموضوعية والشفافية كسباً للإعلان التجاري الذي يبحث عادة عن الصحف ذات القبول الشعبي، وهكذا ارتبطت الشفافية الإعلامية بمدى تقبُّل المتلقي وإيمانه بموضوعية وسائل الإعلام، مما ألزم الإعلاميين بالبحث عن وسائل جديدة تحتفظ لهم بحق نشر قِيَمهم وتأمين مصالحهم دون المساس بولاء المتلقي. وقد كان الاهتمام منصبّاً في الأساس على المظهر العام الذي يضفي شعوراً بالموضوعية والكفاءة؛ إذ يميل الناس عادة إلى الثقة بالمذيع الإخباري أنيق الملبس ولبِقِ الحديث، كما تضفي التجهيزات المبهرة للأستديوهات ومواقع التصوير، أو الطباعة الراقية للصحف والمجلات، شعوراً بالاحتراف. فإذا أضفنا إلى هذه العوامل الجذابة ما سبق الحديث عنه من أساليب دعائية كفتح مجال الحوار للرأي المخالف وعدم التعرض للقضايا الحساسة، فإن ذلك سيعطي صورة إيجابية للمتلقي تمنعه من مجرد التشكيك في مصداقية كل ما يرد إليه من هذه الوسائل الإعلامية.
أخيراً: تبرز خطورة هذا التأثير الإعلامي - الدعائي المؤدلَج في توجيه الرأي العام مع توسع دائرة اتصاله بالمتلقي الذي بات يعتمد اعتماداً شبه كلي على وسائل الإعلام في اتصاله مع العالم الخارجي، حتى في تلقي أبسط المعلومات التي يحتاجها في حياته اليومية؛ إذ بات الكثير من المثقفين؛ فضلاً عن غيرهم؛ يضعون ثقتهم في وسائل الإعلام التي ساعدت الثقافةَ الشعبيةَ على التأثير في النخبة المثقفة بدلاً من العكس، مما أدى إلى انخفاض المستوى الثقافي بشكل عام، وترسيخ قاعدة «هذا ما يريده الجمهور» كدستور يضطر لمراعاته كل من يطمح إلى الاستمرار في «سوق» الإعلام، وهي النتيجة الحتمية لطغيان سياسة السوق الحر والليبرالية المحتكرة في أيدي القلة، وخدعة كبيرة يشترك الجميع في مسؤولية إحكام سيطرتها على كرامة الإنسان.(88/3)
وتبقى الآمال معقودة على دور العلماء وأصحاب الضمير الحي في كسر هذه الحلقة المفرغة، والإفادة الواعية من تقنيات وسائل الإعلام المذكورة في خدمة الإنسان والارتقاء به بدلاً من الدفع إلى المزيد من الانحراف(88/4)
أساليب صد الدعوة
الحمد لله رب العالمين,والصلاة والسلام على رسول الله,وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
أمَّا بعدُ :
فعندما أظهر الرسولُ-صلى الله عليه وسلم-دعوته,وصدع بالحقِّ في مكة, لقي هو وأصحابه أشدَّ أنواع الأذى الحسيِّ والمعنوي،ولما خافت قريشٌ من تسرب الدعوة إلى خارج مكة فكرت في أساليب تقضى بها على هذه الدعوة في مهدها . وتتلخص هذه الأساليب فيما يلي:
1. السخرية والتحقير،والاستهزاء والتكذيب :
قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية،فرموا النبي-صلى الله عليه وسلم- بتهم هازلة،وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون ( وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } الحجر : 6 ،ويصمونه بالسحر والكذب{ وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } ص : 4 ،وكانوا يُشيِّعونه ويستقبلونه بنظرات ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة{وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } القلم : 51 ، وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزؤوا بهم,وقالوا : هؤلاء جلساؤه { مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا}؟ فيجيبهم الله -تعالى- : { أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } الأنعام : 53 ،وكانوا كما قص الله علينا { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } المطففين : 29 : 33 .
وقد أكثروا من السُّخرية والاستهزاء, وزادوا من الطعن والتضحيك شيئًا فشيئًا حتى أثَّر ذلك في نفس رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، كما قال الله -تعالى- : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } الحجر : 97 ، ثم ثبته الله وأمره بما يذهب بهذا الضيق,فقال : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} الحجر : 98، 99 ،وقد أخبره من قبل أنه يكفيه هؤلاء المستهزئين,حيث قال : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ } } الحجر : 95، 96 ، وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالًا عليهم,فقال : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} الأنعام : 10 .
2. إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة :
وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها،فكانوا يقولون عن القرآن : { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } الأنبياء : 5 يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار، ويقولون : ( بَلِ افْتَرَاهُ ) من عند نفسه ويقولون : ( إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) وقالوا : { إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } الفرقان : 4 أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه . { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} الفرقان : 5 .
وأحيانا قالوا : إن له جناً أو شيطاناً يتنزل عليه كما ينزل الجن والشياطين على الكهان . قال -تعالى- ردًا عليهم : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } الشعراء : 221، 222 ، أي إنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب، وما جرّبتم عليَّ كذبًا، وما وجدتم فيَّ فسقًا، فكيف تجعلون القرآن من تنزيل الشيطان ؟
وأحيانًا قالوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم -: إنه مصاب بنوع من الجنون، فهو يتخيل المعانى، ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء، فهو شاعر وكلامه شعر . قال -تعالى- رداً عليهم : { وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } الشعراء : 225 ،226 ، فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ليست واحدة منها في النبي -صلى الله عليه وسلم-، فالذين اتبعوه هداة مهتدون، متقون صالحون في دينهم وخلقهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وليست عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم، ثم النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يهيم في كل واد كما يهيم الشعراء، بل هو يدعو إلى رب واحد، ودين واحد، وصراط واحد، وهو لا يقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا ما يقول، فأين هو من الشعر والشعراء ؟ وأين الشعر والشعراء منه .(89/1)
هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبي -صلى الله عليه وسلم- والقرآن والإسلام.
ومعظم شبههم كانت تدور حول التوحيد، ثم رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، ثم بعث الأموات ونشرهم وحشرهم يوم القيامة، وقد رد القرآن على كل شبهة من شبهاتهم حول التوحيد، بل زاد عليها زيادات أوضح بها هذه القضية من كل ناحية، وبين عجز آلهتهم عجزاً لا مزيد عليه،وكان هذا مثار غضبهم واستنكارهم الذي أدَّى إلى ما أدَّى إليه .
أما شبهاتهم في رسالة النبي-صلى الله عليه وسلم- فإنهم مع اعترافهم بصدق النبي-صلى الله عليه وسلم-وأمانته وغاية صلاحه وتقواه،كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أجلُّ وأعظمُ من أن يُعطى لبشر، فالبشر لا يكون رسولًا، والرسول لا يكون بشرًا حسب عقيدتهم . فلما أعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نبوته، ودعا إلى الإيمان به تحيروا وقالوا : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} الفرقان : 7 ، وقالوا : إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بشر، و{ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } الأنعام : 19 ، فقال -تعالى- ردًا عليهم : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ )، وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر . ورد عليهم -أيضًا- بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكاراً على رسالتهم : ( إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} إبراهيم : 10 ، فـ { َالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } } إبراهيم : 11 . فالأنبياء والرسل لا يكونون إلا بشرًا، ولا منافاة بين البشرية والرسالة .
وحيث أنهم كانوا يعترفون بأن إبراهيم و إسماعيل وموسى ـ عليهم السلام ـ كانوا رسلاً وكانوا بشراً، فإنهم لم يجدوا مجالاً للإصرار على شُبهتهم هذه، فقالُوا : ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين، ما كان الله ليترك كبار أهل مكة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسولاً { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } الزخرف : 31 ، قال -تعالى- ردًا عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} الزخرف : 32 ، يعنى أن الوحي والرسالة رحمة من الله و { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الأنعام : 124 .
وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى، قالوا : إن رسل ملوك الدنيا يمشون في موكب من الخدم والحشم، ويتمتعون بالأبهة والجلال، ويوفر لهم كل أسباب الحياة، فما بال محمد يمشي في الأسواق للقمة عيش وهو يدعي أنه رسول الله ؟ { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} الفرقان : 7 : 8 ، ورد على شبهتهم هذه بأن محمداً رسول، يعنى أن مهمته إبلاغ رسالة الله إلى كل صغير وكبير، وضعيف وقوى، وشريف ووضيع، وحر وعبد، فلو لبث في الأبهة والجلال والخدم والحشم والحرس والمواكبين مثل رسل الملوك، لم يستطع ضعفاء الناس وصغارهم الوصول إليه حتى يستفيدوا منه، وهم جمهور البشر، وإذن فاتت مصلحة الرسالة، لم تعد لها فائدة تذكر .
أما إنكارهم البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب والاستبعاد العقلي، فكانوا يقولون : { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} الصافات : 16، 17 ، وكانوا يقولون : { ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} ق : 3 وكانوا يقولون على سبيل الاستغراب : { هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ} سبأ : 7، 8 .
كما قال أعمى البصر والبصيرة المعري:
أَموْتٌ ثم بَعْثٌ ثم حَشْرٌ ** حدِيثُ خُرَافة يا أم عمرو(89/2)
وقد رد عليهم بتبصيرهم ما يجري في الدنيا، فالظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه، والفاجر المسيء يموت قبل أن يعاقب على سوء عمله، فإن لم يكن بعث ولا حياة ولا جزاء بعد الموت لاستوى الفريقان، بل لكان الظالم والفاجر أسعد من المظلوم والصالح، وهذا غير معقول إطلاقا ً. ولا يليق بالله أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الفساد . قال -تعالى- : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) } القلم : 35، 36 ، وقال : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} ص : 28 ، وقال : { أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ } الجاثية : 21 .
وأما الاستبعاد العقلي فقال -تعالى- رداً عليه : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} النازعات : 27 ، وقال : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } الأحقاف : 33 ، وقال : {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ } الواقعة : 62 ، وبين ما هو معروف عقلاً وعرفاً،وهو أن الإعادة( أَهْوَنُ عَلَيْهِ ) (الروم : 27 ) ، وقال : {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } الأنبياء : 104 ،وقال : { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ } ق : 15 .
وهكذا ردَّ على كلِّ ما أثاروا من الشُّبهات رداً مفحماً يقنعُ كُلَّ ذي عقلٍ ولُبٍّ، ولكنهم كانوا مشاغبين مستكبرين، يريدون عُلواً في الأرض، وفرض رأيهم على الخلق، فبقوا في طغيانهم يعمهون .
3. الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن، ومعارضته بأساطير الأولين :
كان المشركون إلى جانب إثارة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعهم القرآن ودعوة الإسلام بكل طريق ممكن، فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاء، ويتغنون ويلعبون، إذا رأوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يتهيأ للدعوة، أو إذا رأوه يصلي ويتلو القرآن . قال -تعالى- : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } فصلت : 26 حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يتمكن من تلاوة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إلا في أواخر السنة الخامسة من النبوة، وكان ذلك عن طريق المفاجأة، دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلاوة .
وكان النضر بن الحارث، أحد شياطين قريش قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلساً للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر, ويقول : أنا و الله -يا معشر قريش- أحسن حديثاً منه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول : بماذا محمد أحسن حديثاً مني؟! .
وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيْنَةً -أي مُغنية-، فكان لايسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول : أطعميه واسقيه وغنِّيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله -تعالى- : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} لقمان : 6 .
4. مساومات حاولوا بها أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق، بأن يترك المشركون بعض ما هم عليه، ويترك النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض ما هو عليه {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} القلم:91.
ولقد اجتمع الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن مغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمي -وكانوا ذوي أسنان في قومهم- فاعترضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر! فإن كان الذي تعبد خيراً مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيراً مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله -تعالى- فيهم: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} السورة كلها.
فهذه الأساليب وغيرها حاول بها المشركون صد الدعوة المباركة، لكن الله خيب سعيهم ونصر رسوله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراًَ إلى يوم الدين.
00000000000
1- الرحيق المختوم ص(83-84). مع إضافات المؤلف على الطبعات الأخيرة.(89/3)
أسباب الخشوع في الصلاة
الصلاة عمود الدين، وهي نور ونجاة لصاحبها يوم القيامة.. ومن عظيم أمرها أنها الفرض الوحيد الذي فرض في السماء، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله، وترك الصلاة من أنكر المنكرات.. ولب الصلاة وأساسها وثمرتها هو الخشوع فيها. وقد أثنى الله -سبحانه- على الخاشعين، وبيَّن عظيم أجرهم.. فقال -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} المؤمنون: 1-2.
وبين الله -تعالى- أن الصلاة يستثقلها كثير من الناس، ومن بينهم المنافقون، أما أهل الخشوع والتدبر فيها الذي يحبون القيام إليها فإنها عليهم خفيفة يسيرة قال-تعالى-: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} "البقرة:45"، وكان رسول الله سيد الخاشعين المتدبرين إذ أهمه أمر قال لبلال: "أقم الصلاة أرحنا بها"1.
وقد أخذ الشيطان الرجيم على نفسه عهداً بإغواء عباد الله إلا المخلصين منهم ومن، الإغواء: الوسوسة وتحديث النفس بأمور خارج الصلاة تنافي الخشوع فيها..
إن الخشوع من أول ما يفقده المسلمون من دينهم، كما قال حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-:"أول ما تفقدون من دينكم الخشوع،وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة،ورب مصلٍّ لا خير فيه،ويوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيهم خاشعاً!!"2.
أخي الكريم: إن معنى الخشوع في الصلاة هو "السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع، والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته"3. وهو – أيضاً- "قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل"4.
وأصل الخشوع في القلب، فإذا خشع القلب واستكان لله وذل له وخضع بين يديه ظهر ذلك على الجوارح,وهي العين واللسان والأذن واليد والرجل.. فكلما كان العبد خاشعاً كان أشد ضبطاً لهذه الجوارح وتحكماً بها كما أراد الله-تعالى-.
وليحذر المسلم من تكلف الخشوع بأن يكون في الظاهر خاشعاً وباطنه محشواً بالرياء والنفاق، يقول حذيفة بن اليمان:"إياكم وخشوع النفاق! فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال:أن ترى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع".5
وسوف نتعرَّفُ على بعض أسباب الخشوع في الصلاة؛ لعلنا نعملُ بها فنكون من الخاشعين، فمن تلك الأسباب:
1. الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها:
ويحصلُ ذلك بأمور منها: التَّرديد مع المؤذن، والإتيان بالدعاء المشروع بعده، والدعاء بين الأذان والإقامة، وإحسان الوضوء،والتسمية قبله، والذكر والدعاء بعده.والاعتناء بالسواك،وأخذ الزينة باللباس الحسن النظيف،والتبكير والمشي إلى المسجد بسكينة ووقار،وانتظار الصلاة،وكذلك تسوية الصفوف والتراص فيها؛لأن الشياطين تتخلل الفرج بين الصفوف.
2. الطمأنينة في الصلاة: كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يطمئن حتى يرجع كل عظم إلى موضعه.
3. تذكر الموت في الصلاة: لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته،وصلِّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي غيرها".6
4. تدبر الآيات المقروءة وبقية أذكار الصلاة والتفاعل معها: ولا يحصل التدبر إلا بالعلم بمعنى ما يقرأ فيستطيع التفكر فينتج الدمع والتأثر قال الله -تعالى-: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} الفرقان: 73
و مما يعين على التدبر التفاعل مع الآيات بالتسبيح عند المرور بآيات التسبيح, والتعوذ عند المرور بآيات التعوذ.. وهكذا.
5. أن يقطع قراءته آية آية:وذلك أدعى للفهم والتدبر,وهي سنة النبي-صلى الله عليه وسلم-،فقد كان يقطع قراءته آية آية.7
6. ترتيل القراءة وتحسين الصوت بها: لقوله-تعالى-:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} المزمل: 4؛ ولقوله-صلى الله عليه وسلم-:"زينوا القرآن بأصواتكم،فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً".8
7. أن يعلم أن الله يجيبه في صلاته:قال-صلى الله عليه وسلم-:"قال الله -عز وجل-: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل". رواه مسلم.وقال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه، فلينظر كيف يناجيه".9
الصلاة إلى سترة والدنو منها :من الأمور المفيدة لتحصيل الخشوع في الصلاة الاهتمام بالسترة والصلاة إليها، وليقترب من السترة قال رسول الله:"إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدنُ منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته"10(90/1)
8. النظر إلى موضع السجود: لما ورد عن عائشة أنَّ رسول الله كان إذا صلَّى طأطأ رأسه و رمى ببصره نحو الأرض.11
9. التنويع في السُّور والآيات والأذكار والأدعية في الصلاة:
وهذا يُشعر المصلي بتجدد المعاني، ويفيده ورود المضامين المتعددة للآيات والأذكار فالتنويع من السنة وهو الأكمل في الخشوع.
10. الاستعاذة بالله من الشيطان:
الشيطان عدو لنا ومن عداوته قيامه بالوسوسة للمصلي كي يذهب خشوعه ويلبس عليه صلاته. والشيطان بمنزلة قاطع الطريق، كلما أراد العبد السير إلى الله -تعالى-، أراد قطع الطريق عليه، وقد أرشدنا الرسول-صلى الله عليه وسلم-إلى مواجهة كيد الشيطان وإذهاب وسوسته: بالتعوذ بالله والتفل على اليسار ثلاثاً،كما جاء في صحيح مسلم عن أبي العاص.
11. تأمل حال السلف في صلاتهم:
هذا عبد الله بن الزبير-رضي الله عنه- كان إذا صلى كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه. وكان علي ابن أبي طالب-رضي الله عنه- إذا حضرت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: مالك؟ فيقول: جاء والله وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها!.
12. معرفة مزايا الخشوع في الصلاة: ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله". رواه مسلم.
13. الاجتهاد بالدعاء في مواضعه في الصلاة وخصوصاً في السجود: قال نبينا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء" رواه مسلم.
14. الأذكار الواردة بعد الصلاة: فإنه مما يعين على تثبيت أثر الخشوع في القلب وما حصل من بركة الصلاة.12
فهذه بعض الأسباب التي تعين المصلي على الخشوع في الصلاة، وهناك أمور تمنع الخشوع في الصلاة أو تضعفه، أذكرها على سبيل الاختصار:
1. الزخارف الموجودة في جدران بعض المساجد أو فرشها.
2. الصلاة وقت حضور الطعام، لانشغال المصلي به، خاصة إذا كان جائعاً.
3. مدافعة البول والغائط أثناء الصلاة، أو كون المكان غير مناسب للصلاة كأن يكون الجو حاراً أو بارداً جداً.
4. الصلاة عند غلبة النوم، أو الإرهاق الشديد.
5. أن يكون بجنب المصلي متحدث أو قارئ رافع الصوت.
6. الالتفات في الصلاة.
7. رفع البصر إلى السماء.
وغير ذلك من الشواغل..
نسأل الله العون على الطاعة حتى يأتينا اليقين، ونسأله حسن الختام، إنه على كل شيء قدير.. والحمد لله رب العالمين..
________________________________________
1- رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني في صحيح أبي داود رقم (4171).
2- مدارج السالكين لابن القيم رحمه الله (1/521).
3- تفسير ابن كثير(6/414) ط: دار الشعب.
4- مدارج السالكين (1/520).
5- المصدر السابق.
6- رواه الديلمي في مسند الفردوس وحسنه ابن حجر فيه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (849).
7- روى ذلك أبو داود وصححه الألباني في الإرواء وغيره.
8- رواه الحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3581).
9- رواه الحاكم عن أبي هريرة وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (1538).
10- رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع (650).
11- رواه الحاكم وصححه الألباني في صفة الصلاة ص89.
12- هناك كتيب مشهور للشيخ محمد صالح المنجد بعنوان: (33 سبباً للخشوع في الصلاة) فراجعه فإنه مفيد إن شاء الله.(90/2)
... ... ...
أسباب الرزق ... ... ...
ناصر محمد الأحمد ... ... ...
... ... ...
... ... ...
ملخص الخطبة ... ... ...
1- صور من ظلم العمال. 2- أسباب الرزق (التوبة – الاستغفار – التقوى – صلة الرحم - الإنفاق في سبيل الله – التجرد لله – الحج والعمرة – الهجرة في سبيل الله – التوكل على الله). ... ... ...
... ... ...
الخطبة الأولى ... ... ...
... ... ...
أما بعد:
إن من الهموم التي تسيطر على كثير من الناس مسألة الرزق والبحث عن لقمة العيش، ترى بعض الناس قد تغرب عن أهله ووطنه، وآخرين قد ظهر على وجوههم التعب والاجهاد من آثار السعي في جمع المال. وعلى صعيد آخر يعيش مجموعات من الموظفين والعمال تحت رحمة أرباب الأعمال والكفلاء فترى الواحد منهم يعصره، همه الخصومات من مرتبه، فنهاره يترقب القرارات الصادرة من رئيسه التي تتعلق به وبراتبه، وفي الليل تسيطر عليه كوابيس شتى فهو يعيش في رق الوظيفة ليله ونهاره.
ويسهم أيها الأحبة إسهاماً كبيراً في جعل هذه القضايا ظواهر ذات نطاق واسع فئة من أصحاب المؤسسات والشركات ممن لا يخافون الله عز وجل، يتعاملون مع الموظف والعامل كما يتعاملون مع الآلات، وعند الله تجتمع الخصوم.
هذه طبيعة الدنيا لا يصفو فيها حال إلا بشئ من الكدر.
فنذكر إخواننا المسلمين على اختلاف طبقاتهم من غني وفقير وكفيل ومكفول ورئيس ومرؤوس، نذكرهم جميعاً بأنهم لن يصلهم من الدنيا إلا ما قدّر الله لهم، فقد كتب الله جل جلاله رزقك يا ابن آدم وأنت في بطن أمك.
أيها المسلمون: يوجد هناك من يعتقد أن التمسك بالإسلام والالتزام بأوامر الله يعتقد أن هذه الأمور لا تجتمع مع الغنى، وهذا سوء ظن بالله عز وجل.
إنك أخي المسلم تدعو ربك في كل صلاة فتقول: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار فهل تدرك معنى هذه الدعوة؟ لقد كان هذا أكثر ما يدعو به المصطفى صلى الله عليه وسلم. إنه سؤال الرب عز وجل أن يؤتيك من الدنيا ما تتعفف به عن الآخرين وتكتمل لك السعادتان سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
إذن شرع الله لا يهمل مسألة الرزق وكسب العيش، بل إن التمسك بشرع الله حقاً من أعظم أسباب الرزق، وذلك أن تعمل بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
أيها الأحبة: سأذكر لكم في هذه الخطبة بعض ما جاء في شرع الله من أسباب كسب الرزق وزيادته ونماءه، لكن قبل ذلك ينبغي أن نعلم جيداً بأن ما يُذكر لا ينتفع به صاحبه وإن فعله وطبقه إذا ضعف يقينه بالله، هذا إن فعل فكيف بالذي لا يفعل ما يذكر به، فاحذر أخي المسلم وأنت تسمع نصوص الكتاب والسنة أن يضعف يقينك في كلام الله وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فرقٌ بين من يعمل العمل وهو يستيقن أن الله عز وجل وعده صدق وكلامه حق وبين من يقرئه وهو متردد في ذلك.
إن من أعظم أسباب الرزق أيها المسلمون المؤمنون: التوبة إلى الله، والرجوع إليه واستغفاره، قال الله تعالى: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً .
نعم يوجد فئات كثيرة من المستغفرين ربما يستغفرون كثيراً لكنهم لا يزدادون إلا فقراً، فتسأل؟ الجواب: أنه استغفار اللسان فقط، هذا الاستغفار الذي ربما أنت تستغفره كل يوم وبعد كل صلاة قد يكون نوعاً من العبث، بل إن استغفارك أخي المسلم دون وعي ودون عمل ربما يكون ذنباً يجب عليك أن تقلع منه، ولذلك قال أحدهم: استغفر الله، من استغفر الله من كلمة قلتها لا أدري معناها. قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيات السابقة: إي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه كثر الرزق عليكم، وسقاكم ربكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض وأنبت لكم الزرع وأدرّ لكم الضرع وأمدكم بأموال وبنين أي أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها.
قل لي بربك أيها المؤمن: هل في يوم من الأيام - واستعرض شريط حياتك - هل في يوم من الأيام لما ضاقت بك السبل وضاق عليك أمر المعاش لجأت إلى الله تعالى بالإستغفار والتوبة. أدع الجواب لك.
شكى رجل إلى الحسن البصري شدة الجدب ونقص الماء فقال له: استغفرالله. . وشكى آخر الفقر فقال له: استغفرالله. . وقال ثالث: يا أبا سعيد أدعوا الله أن يرزقني الولد فإني عقيم، فقال له: استغفر الله. . وشكى رابع جفاف بستانه فقال له: استغفر الله. . فقال أحد الجالسين: أتاك رجالاً يشكون أنواعاً فأمرتهم جميعاً بالاستغفار، فقال الحسن رحمه الله إن الله تعالى يقول: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً .
أيها المسلمون: وممن تفطن لثمرة الاستغفار وأنه من أسباب الرزق نبي الله هود عليه السلام حيث قال: ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين .(91/1)
فيا أيها الأحبة إن كلام الله حق وصدق، فإذا ما استغفرت يا عبد الله ولم تجد نتيجة فاعلم أن الخلل فيك أنت لا في غيرك، وأن استغفارك لم يتجاوز اللسان، فابحث في حالك وفتش في نفسك، لعلك واقع في ذنب عظيم حرمك الله بسببه أثر الاستغفار.
ومن أسباب الرزق، بل ومن أعظم أسباب الرزق الشرعية: تقوى الله عز وجل في السر والعلن والخوف منه وامتثال أمره واجتناب نهيه والبعد عن المعاصي قال الله تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب قال ابن كثير رحمه الله: أي ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، أي من جهةٍ لا يخطر بباله.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن أكبر آية في القرآن فرحاً ومن يتق الله يجعل له مخرجاً .
وقال تبارك وتعالى: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أين نحن أيها المسلمون المؤمنون بنصوص الكتاب والسنة من هذه الآيات، أين الذين يخافون على أرزاقهم إذا تركوا العمل المحرم، أين الذين يظنون أنه لن يتقدم اقتصاد المسلمين إلا إذا ربط باقتصاد الغرب من يهود ونصارى، ألا يقرؤون هذه الآية: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض إنه ليس رزقاً بسيطاً تحصل به الكفاية، كلا، لكنه فتح من الأرض وفتح من السماء، ولو فتح الله باب السماء للعبد والمجتمع والأمة فمن الذي سيمنعه أو يوقفه أو حتى ينقصه ويقلله، فلماذا يربطون اقتصادهم بالكفار؟ ولماذا يخافون من أزمات اقتصادية كما يقال وبين أيدينا إن كنا مسلمين حقاً هذه الآيات الواضحات البينات. قال الله تعالى: ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وقال جل جلاله: وألّوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً وقال سبحانه: لئن شكرتم لأزيدنكم .
كثير من المسلمين من أصحاب الشركات والمؤسسات بل وبعض الموظفين يعلمون أنهم يقعون في مخالفات شرعية بغض النظر عما يظهرون من القول، هم يعلمون قبل غيرهم جيداً أنهم يقعون في محرمات كالربا والقمار والعقود المحرمة والتعاون على الإثم، وبعضهم يعلم يقيناً أنه قد تورط، لكن حب المال والخوف من الفقر يجعلهم يتمسكون بالحرام وأحسن منهم حالاً من يقول لك: أعطني إذا سمحت البديل حتى أترك ما أنا فيه من المحرمات.
فيا سبحان الله كيف تريد البديل من الله وأنت لم تترك المحرم ابتداءً من أجله، ثم أنت وحدك المسؤول عن المحرم الذي فعلته، والبديل هو الترك أولاً.
وثانياً: ينبغي أن تعلم أنت وغيرك بأن الفتح من الله لن يحصل إلا إذا صدق اعتماد العبد عليه وكمل يقينه بموعود الله.
ولبعض الصالحين تجارب كثيرة مع هذه الآيات وكيف أن تقوى الله عز وجل والخوف منه مع الصبر يفتح أسباباً من الرزق لم تدر في خاطره يوماً من الدهر.
إن القضية تحتاج منا إلى جرئة وعزيمة إيمانية يعاهد العبد ربه على التقوى وترك المحرم، وبعد ذلك ينتظر الفرج من رب كريم رحيم لا تنقص خزائنه ولا ينقطع خيره.
- وأيضاً من الأسباب المؤدية إلى كثرة المال والرزق في الدنيا: صلة الرحم. نعم صلة الرحم. والمقصود بالرحم هم الأقارب، وهم كل من بينك وبينهم نسب من جهة الولادة سواءً كان ذلك من طريق الأب أو الأم.
وصلة الرحم معناه تقديم الإحسان بكل أنواعه حسية ومعنوية، وسواءً كانوا صغاراً أو كباراً نساءً أو رجالاً يسكنون في بلدك أو بعيدون عنك، روى الامام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)) ولهذا بوب البخاري رحمه الله فقال: باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم.
لعلك أخي المسلم تستغرب إذا وجدت بعض المسلمين قد فتح الله لهم أبواب تلو أبواب من الرزق وهم قليلو النشاط وضعيفو الخبرة قياساً بغيرهم من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، ولكنك إذا فتشت عن حاله وجدته ممن يصل رحمه، بل لا تستغرب أخي الحبيب إذا أخبرتك بأن بعض العصاة والفساق بل وبعض الفجرة قد تنمو أموالهم بسبب صلة الرحم، اسمع لما رواه ابن حبان في صحيحه بسند جيد عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة له من قطعية الرحم، والخيانة، والكذب، وإن أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونوا فجرة، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا)).
إن هذا الحديث يفسر لنا ظاهرة ربما كانت موضع استغراب عند كثيرين، نعم أيها الأحبة: ((إن اهل البيت ليكونوا فجره، فتنمو أموالهم، ويكثر عددهم، إذا تواصلوا)).(91/2)
- ومن أسباب فتح أبواب الرزق: الإنفاق في سبيل الله. فمتى ما أنفقت من مالك يا عبد الله كان ذلك سبباً لكثرته، وهذه قاعدة صحيحة في باب الرزق، كلما أخرجت زاد المال لا كما يظن الماديون أنهم ينقص إذا أخرج زكاته أو تصدق قال الله تعالى: وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: أي مهما أنفقتم من شيء مما أمركم الله به وأباحه لكم فهو يخلفكم ويخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، ولذا لما أمر الله عز وجل بالإنفاق في سبيل الله قال بعد ذلك الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم قال ابن القيم رحمه الله: إن وعد الشيطان لابن آدم بالفقر ليس شفقة عليه وليس نصيحة له، وأما الله عز وجل فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه وفضلاً بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه، إما في الدنيا أو في الدنيا والآخرة. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الله تبارك وتعالى: ((يا ابن آدم أنفق أنفق عليك)).
((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدها: أللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا)) رواه البخاري من حديث أبي هريرة. ((أنفق يا بلال ولا تخش من ذا العرش إقلالا)) رواه البيهقي.
بعض المسلمين لا يتصور نفسه من المنفقين، ولا يمكن أن يتخيل أن يكون في يوم من الأيام من الذين ينفقون في سبيل الله إلا إذا كان من أصحاب الملايين وهذا خطأ، لأن كلاً يمكنه أن ينفق بحسبه ووضعه وإمكانياته، فقد يكون الريال الواحد الذي تنفقه في سبيل الله بصدق وإخلاص أعظم من المليون الذي ينفقه غيرك لأنه أراد الشهرة مثلاً، والله هو أعلم بالنيات قال الله تعالى: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف لهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون واعلم بأن هذا الأمر وهو العناية بالضعفاء والمحتاجين من أعظم أسباب الرزق لأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: ((هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)).
- ومن الأسباب الشرعية لكسب الرزق في الدنيا التعبد الحق لله عز وجل وذلك أن تعبد الله بقلب فارغ عما سواه، لا تعبد ربك وأنت تفكر في غيره، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم: تفرغ لعبادتى أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً، ولم أسد فقرك)) حديث صحيح. والتفرغ المطلوب أيها الأحبة لا يعني ترك كسب الرزق فيصير العبد عالةً على غيره، بل ذلك بأن يفرغ العبد قلبه أثناء العبادة عما سواه، فمثلاً الصلاة، لا تكن من الذين يصلون بأجسادهم وقلوبهم تحلق يميناً وشمالاً. نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أقول هذه القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. ... ... ...
... ... ...
الخطبة الثانية ... ... ...
أما بعد:
وأيضاً من الأسباب في زيادة الرزق في الدنيا: المتابعة بين الحج والعمرة، وذلك بزيارة البيت الحرام كلما سنحت الفرصة سواء كان ذلك لحج أو عمرة، وهذا أمر قد لا يتفطن له كثيرون: أنهم إذا ذهبوا إلى الحج والعمرة كان ذلك سبباً بإذن الله لزيادة الرزق والمال، والله على كل شيء قدير وفضله واسع، روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تابعوا بين الحج والعمرة)) وفي رواية: ((أديموا الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)).
- ومن الأسباب أيضاً: الهجرة في سبيل الله قال الله تعالى: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة ومعنى مراغماً: أي سبباً لإرغام أنف أعداء الله، وكم من رجال هاجروا فأغاظوا أعداء الله تبارك وتعالى، فيحصل هذا مع السعة، وهو السعة في الرزق كما فسرها حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما.
- ومن الأسباب: التوكل على الله حق التوكل، وذلك بأن يعتمد القلب على الله وحده فتُظهِر أيها العبد عجزك واعتمادك على خالقك، روى الإمام أحمد والترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطانا)).
- ومن الأسباب: أن تنفق أخي المسلم من مالك على طلبة العلم الشرعي، وهذا باب مع كل أسف غفل عنه الكثيرون، فتراه ينفق على فقير محتاج، لكن إذا دعي لمشروع دعوي من أجل طلب علم شرعي، أو حلقات تحفيظ القرآن الذي هو أعظم العلم تراه يحجم ولا يشارك ويقول بأن سد حاجة الفقير أولى، وهذا خطأ أحياناً.(91/3)
خذ هذا المثال: الإنفاق على الجهاد في سبيل الله يكون في كثير من الأحيان أعظم من إطعام فقير، لأن الفقير لا يموت جوعاً، أما الجهاد إذا عطّل في الأمة كما هو الآن فإن الأمة كلها قد تنكب ويصيبها الذل والهوان، وليس باب العلم الشرعي بأقل من باب الجهاد لأن ذاك جهاد بالسيف والسنان، وهذا جهاد بالقلم والبيان، والأمة محتاجة للأمرين معاً , روى الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: كان إخواني على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم – قال الشارح: أنه يأتيه لطلب العلم – والآخر تحترف – يعني عنده صنعة – فشكى المحترف أخاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((لعلك ترزق به)).
وقد ذكر بعض أهل العلم أن المتفرغين لطلب العلم الشرعي داخلون في قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً .
أيها المسلمون: لا شك أن الرزق في الدنيا والسعي فيها أمر يحرص عليه كل مسلم بلا استثناء، ولا شك أيضاً بأن العاقل من سلك هذه الأسباب الشرعية التي مر ذكرها. وخير من ذلك كله أن ترتفع همة الصبر عند العبد، فينظر ببصيرته إلى نعيم الآخرة، إلى تلك الدار التي لا يلحقها فناء ولا يكدر صفوها موت أو مرض، ولذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة)). ... ... ...
... ... ...
... ... ...(91/4)
أسباب القوة
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
إن القلوب المؤمنة الحية ، وإن النفوس المسلمة الأبية لابد وأن يكون لها من إيمانها وإسلامها ما يكون صداً للأحداث من حولها .. دفعاً إلى التحقق بموجبات الإيمان ، وقيادةً وشوقاً إلى إظهار معاني الالتزام بالإسلام ، ولقد مرّت وتمرّ بالأمة في كل يوم أحداث جسام ، ومواقف عظام .
وكثيراً ما نرى حركة الإيمان ، وفاعلية الإسلام في نفوس أبنائه ، دون المستوى المطلوب ، خاصة ً إذا شخصت الأبصار نحو مواقع التأثير الأكبر في جهات الأمراء ، والعلماء ، وقادة الأمة ، الذين لهم حقوق كثيرة ، وعليهم واجبات كثيرة وكبرى .. فمن ذكرى حريق الأقصى التي تجددت خلال أيام مضت ، إلى أحداث قريبة تجاوزت الحريق إلى التوجه نحو الهدم إلى ما هو معروف من الأحداث التي تصبغ ساحات الأقصى وأرض فلسطين بالدم .. قصفاً وتدميراً ، ونوع من الحصار والتجويع ، وإمعان في العنجيهة ، والظلم ، والبغي ، والعدوان على مرأى من الدنيا كلها ، وعلى مسمعٍ من كل من يقولون ويدعون كثيراً من الشعارات ، من نصر المظلوم ، أو حماية الحقوق ، أو إقامة العدل ، أو رعاية السلام ، أو نحو ذلك من كل ما يقال ويذاع وينشر ، حتى ملت الأسماع منه ، وعيت القلوب وكلت من فهمه وفقهه ، وإن الإنسان المسلم في كل مرة يخاطب نفسه كأنما يلومها ، وفي الوقت نفسه كأنما يحثها على الخير ، الذي ينبغي أن تتوجه له ؛ لأنه لا يمكن أن يكون راضياً بأمن وأمان وسلامة واستقرار ، وأبناء الأقصى وأهل فلسطين يتكحلون في عيونهم بالعمى ، ويرقبون الموت والعدوان والبغي في كل لحظة .. ركوباً في سياراتهم ، أو نوماً في منازلهم ، أو سيراً في شوارعهم ، أو اختباءً في مخابئهم ، أو مواجهةً وشجاعةً في مقابلة أعدائهم .. لا ينبغي أن يكون هناك رضىً ، واطمئنانٌ ، وفرحٌ ، وسرورٌ بنعم كثيرة وفيرة ، وطعامٌ وشراب ، ونحن نعلم بأن إخواننا قد حصروا فلا يكادون يجدون لقمة العيش ، ولا فرصة العمل ، ولا شيئاً من أسباب الحياة الدنيا في أدنى مراتبها ، وأقل مستوياتها ، ولا ينبغي أيضاً أن يكون سرور وسعادة بكثير بما نلهي به أطفالنا ، وندخل به السرور على أبنائنا ، ونحن نرى الحرمان مرسوماً في وجوه أبناء الأقصى .. صوراً تدمى لها القلوب الحية ، وتتمزق حزناً عليها النفوس المسلمة الأبية .
ولذلك في كل مرة قد يقول قائل : ولماذا نجتر سلسلة الأحداث؟ ولماذا نعيد حديث الأحزان؟ وأقول : لئلا يكون لنا إلى ركون ولا اطمئنان إلى شيء نحسب أنه يدوم وأنه يحق لنا أن نكون عليه دون مشاركة ودون مناظرة ودون مقارنة بأحوال أمتنا في مجموعها ، وأحوال أمتنا في مواجهة العدو من اليهود عليهم لعائن الله .
إن هذه الأحداث التي تمر بنا فيها - بإذن الله عز وجل - خير كثير ، ولعلي أشير هنا إلى إشارات أساسية كبرى ، لكنها في عبارات مختصرة وجيزة ؛ لنبحث عن أسباب القوة الحقيقية ، ونذكر بها قوة التوحيد والإيمان .. قوة الوحدة والارتباط .. قوة الصلاح والاستقامة .. قوة التضرع والدعاء قوىً كثيرة قبل قوة الساعد والسلاح والجهاد ، قوىً عظيمة نحتاج إليها ؛ حتى نستطيع - بإذن الله عز وجل - أن نجدّ وأن نوجد في أنفسنا أسباباً عظيمة من أسباب القوة الذاتية ، والقدرة على رفع رايتنا ، وإظهار عزتنا من أعماق قلوبنا ونفوسنا ، قبل أن نستطيع أن نظهرها في المواقف العظيمة العصيبة ، فنفشل أو نعجز ، ثم نبث ذلك في قلوب ونفوس وعقول أبنائنا .. صغاراً رضعاً ، وفتياناً يافعين ، وشباباً مكتملين ، ورجالاً مكتهلين ، وشيوخاً مسنين ؛ حتى نعيد هذه الروح مرة أخرى ، إلى أبناء أمتنا ، فحينئذً يأذن الله - عز وجل - أن يحقق وعده .. {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }.
ويحقق الله - سبحانه وتعالى - وعده الذي قطعه على نفسه وهو أصدق من يوفي بالوعد.. {إن الله يدافع عن الذين أمنوا } .
عندما نتأمل هذه الأحداث يكون في قلوبنا أسىً وحزنٌ من جهةٍ وفرحٌ واستبشارٌ من جهة أخرى ، أسىً وحزنٌ على كل صورة تخاذل ، وموات قلب ولهو وعبث نراه في صفوف أمتنا في مستويات مختلفة بدأً من مستويات الدنيا غير عابئة ولا ملتفته إلى مستويات عليا ، ينبغي أن تكون في أعلى قمة مستوى المسؤولية ، ومراعاة ومتابعة الأحداث ، والوقوف إزاءها ، واستبشار من جهة أخرى بالمواقف المشرفة لأبناء أمتنا رغم كل الكيد ، والبغي ، والعدوان ، والتسلط ، والجبروت .
ونحن نرى الصامدين الثابتين ، ونحن نرى المضحين المجاهدين ، ونحن نرى أمهات لهن قلوب أثبت من الجبال الرواسي ، ونرى أطفالاً وهم يطاولون بقاماتهم الرجال الكبار ، ويعلمونهم كيف تكون بطولة الصغار ، ونرى ونرى كثيراً من صور العز والاستبشار ، التي نحتاج إلى تأملها .(92/1)
قوة الإيمان والتوحيد فيها معانٍ كثيرة .. توحيد لا إشراك معه .. توحيد لله - عز وجل - في المقاصد والمشاعر ، فلا خوف إلا منه ، ولا رجاء إلا فيه ، ولا توكل إلا عليه ، ولا إنابة إلا إليه ، ولا ثقة إلا به ..
يوم يتحقق كل مؤمن في ذات نفسه بذلك .. يوم يجرّد مقصده وغايته لله .. يوم لا يخشى أحد سواه .. يوم يكون ذلك في أبناء الأمة ومجتمعاتها فلن تستطيع قوةٌ في الأرض أن تغلبها ، ولا أن تهزمها ، ولا أن تنال منها شيئاً ، مهما كان صغيراً أو كبيراً .
قوة الإيمان والتوحيد هي تميّز لا تميع .. تميّز يشمخ به المؤمن بإيمانه ، ويستعلي بإسلامه ، ويظهر شخصيته ، ويفتخر بانتسابه لأمة محمد – صلى الله عليه وسلم - ويحقق تميزه بذلك الإيمان .
ليس ضائعاً ، ولا تائهاً ، ولا لاهياً ، ولا عابثاً ، بل هو ممن أدرك طريقه ، وعرف منهجه ، واتضحت معالم سيره في هذه الحياة ، فلا يميل مع شرق ، ولا يحاذي غرباً ، ولا يكون مع النصارى في ولاء ، ولا مع اليهود في استخذاء ، بل هو ذلك المتميز بإيمانه ، يجعله ذلك مجدداً لما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .. يوم قال ربعي بن عامر مقالته المشهورة ، ويوم وقف عبدالله بن حذافة السهمي أمام كل إغراء وتهديد ، ثابتاً على ذلك الإيمان ، ماضياً عليه إلى أن لقي ربه ومولاه سبحانه وتعالى .
وقوة الإيمان أيضاً قوة ثبات لا تخاذل ؛ فإن المؤمن يعلم أن وراء هذه الحياة الدنيا حياة أخرى ، يريد أن ينتقل إليها ، ويرغب أن يكون له خيراً فيها خير من دنياه ، ومن هنا فإن الإنسان المؤمن يتميز بهذا الثبات والقوة ، لا يخشى فوات الحياة كما وصف الله - عز وجل - أذل خلقه من اليهود فقال : {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } .
على أي حياة .. وإن كانت حياة ذل ، وإن كانت حياة فسق ، وإن كانت حياة فجور ، ولكن المؤمن لا يريدها إلا حياة إيمان ، وحياة طهر ، وحياة خير وبر ، وإن لم تكن حياة عزة فليمت ؛ حتى يبقي عزته إلى أخر نفس من أنفاسه . يذكرنا ذلك بكثير من مواقف الصحابة - رضوان الله عليهم - بل ومن أجيال الأمة الإسلامية كلها ، يوم ثبتوا ثبات الجبال الرواسي رغم ضعفهم ، ورغم قلة حيلتهم ، ورغم انعدام قوتهم .كما وقفت ثلاثة آلاف من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في يوم مؤته في مواجهة مائة ألف - وقيل مائتين - أنى لهم أن يقفوا ! وكيف يمكن أن يثبتوا ؟ إنها معادلة الإيمان التي فقدنا كثيراً من حقائقها ودلائلها ، وتشككنا في واقع أمرنا في نتائجها وثمارها ، فحلّ علينا ونزل بنا ما نراه اليوم من كثير من صور الضعف ، والهوان ، وقوة الإيمان .
مع ذلك كله لها كثير وكثير من الآثار العظيمة ، وقوة الوحدة والارتباط .. تلك التي تذيب جميع الفوارق من القوميات ، والأعراق ، والأجناس والألوان ؛ لتجمع بين كل أهل الإسلام والأيمان ، تحت راية " لا إله إلا الله محمد رسول الله " ، فتكتمل القوة بإتلاف القلوب ، واتحاد الصفوف ، واجتماع الكلمة ، وتوحّد الآراء ، وتوجيه القوى نحو الأعداء ، بدلاً من أن تكون بين أبناء أمة واحدة.
إن أول عمل اجتهد النبي – صلى الله عليه وسلم - في إقامته والعناية به بعد بناء المسجد لتعلق القلوب بالله ، وإقامة التوحيد والإيمان ؛ وهو القوة التي آخى فيها بين الأنصار والمهاجرين ، فشكّل أعظم مجتمع في حياة الإنسانية كلها جمعاً بين سلمان الفارسي ، صهيب الرومي ، وبلال الحبشي ، وأبو بكر التميمي ، وعمر العدوي وعثمان الأموي وكل الأجناس المختلفة حتى دخل المسلمون إلى الفرس فأسلمت فارس ودخلوا إلى الروم فدخل أهلها في دين الله أفواجاً ، وإذا بكل الثقافات والحضارات والمنجزات تنخرط لترفع لواءها ، وتظهر قوتها باسم الإسلام ، وتحت راية التوحيد ، ونحن ما أصابنا الضعف والخور إلا يوم مزقنا أعداءنا مزقاً ، وجعلونا قطعاً ، وفرقوا بيننا لغات وشرذمونا قوميات ، وما زال الخلاف يدب بيننا ونحن نتقبله ونتشربه ، دون أن نعي أن المعنى الأسمى والأعظم في وحدة الأمة واتفاقها وإتلافها ينبغي أن يكون أسبق وأعظم من كل صورة أخرى ؛ لأن ذلك من مقتضى الإيمان .. { إنما المؤمنون اخوة } .
وهو الذي منّ الله عز وجل على رسوله – صلى الله عليه وسلم - وعلى الأمة جمعاء يوم خوطب به - عليه الصلاة والسلام - في قول الله تعالى : { وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } .
وجعل ذلك المصطفى – صلى الله عليه وسلم - من حقائق الإيمان في صور كثيرة وأحاديث عديدة : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .
وكما قال عليه الصلاة والسلام : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يرجع في الكفر كما يكره أن يقذف في النار ) .(92/2)
كما بين ذلك المصطفى – صلى الله عليه وسلم - ألسنا نرى صور الاختلاف بيننا قد عظمت وانتشرت ، حتى صارت في أهل البيئة الواحدة ، واللغة الواحدة ، والجيرة الواحدة ، بل والأسرة الواحدة ! ألسنا نرى أن هذا الضعف من أهم ما يلج به أعداءنا إلينا ، وينتصرون به علينا ! ألسنا في حاجة إلى أن نرتفع فوق مستوى هذه الخلافات ! وإذا لم يكن ذلك الآن في هذه المواجهات العظيمة ، والفترة الحرجة في حياة الأمة ، فمتى تتوحد إذن ! ومتى تجتمع ! ومتى تترك خلافاتها الهامشية التافهة في مواجهة حضارتها ، ووجودها ، وكينونتها في هذه المرحلة العظيمة الدقيقة من مراحلها ؟ ألسنا نرى أننا في حاجة إلى أن نعنى بذلك في كل أجوائنا ، وفي سائر دوائرنا ! ألسنا نحن في كثير من بيئاتنا ، وربما في الحيّ الواحد نرى صوراً من الافتراء ، بل نحن في مساجدنا نختلف ونفترق ، ويكون بيننا نُفرة ، بل ويكون بيننا صور من صور العداء الذي يتناقض مع حقيقة الإيمان ، والذي حذر منه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حديثه عن أبي هريرة ، عند الشيخين عنه صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تحسسوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا ) .
هذه الأخوة المهمة العظيمة .. هذا الارتباط الوثيق هو صورة القوة المهمة التي تحتاج إليها الأمة ، وأما قوة الصلاح والاستقامة فهي أمر عظيم ، وهي مسألة في غاية الأهمية فقِه لها أسلافنا ، فكانوا يرون الأثر اليسير من تعثرهم أو إخفاقهم ، فينسبونه إلى مخالفتهم لأمر ربهم ، أو معصيتهم لخالقهم سبحانه وتعالى .
عن ابن مسعود يُروى مرفوعاً وموقوفاً عليه : " إن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه " .
إن حرمان الرزق قد يكون بسبب الذنب ، وقد كان أسلافنا يقولون : " كان أحدنا يجد أثر الذنب في خُلق زوجته ودابته " .
إذا عاكسته زوجته وخالفته ، أو نفرت منه دابته قال : إن ذلك بسبب أنه قد ظلم نفسه ، أو خالف أمر ربه ، والله - عز وجل - قد بيّن ذلك في سنة ماضية { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } ، وكيف يمكن لأمة أن تنتصر ، وأن تقوى ، وأن تعتز وهي تخالف أمر ربها ، وتترك هدي رسولها - صلى الله عليه وسلم - ؟ وكيف يمكن أن تستمد القوة من الله ، وهي تحاده ، وتواجهه مستعلنة بكثير من المعاصي ، وتجاهره بكثير من الفسق ؟ ألسنا نرى ذلك في كثير من مجتمعات المسلمين ! ألسنا نعلم يقين ما أخبرنا الله - عز وجل - به من حقيقة أثر الصلاح والاستقامة ، وانعكاسها على حياة الأمة ، في أمنها ، وطمأنينتها ، واستقرارها ، وقوتها ، بل وفي رزقها ورغد عيشها : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفحنا عليهم بركات من السماء والأرض } .
إن خير الله ونصره ، وأمنه ، وطمأنينته التي يفيضها على عباده ، لا تكون إلا بطاعته ، والاستقامة على أمره ، فلئن عملنا لله ولدينه .. استقامة على أمره ، واتباعاً لنهجه ، وخوفاً من معصيته ، ومراعاة لمحارمه ؛ فإن ذلك يؤذن بإذن الله - عز وجل - أن تنتهي المشكلات فيما بيننا ، وأن يكون ذلك عوناً وسبباً لتَنّزُل نصر الله - سبحانه وتعالى - علينا ، وأما أن تكون الأمة قد أوغلت بعيداً عن منهج الله ، وافترقت ، وجعلت بينها وبين كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - بوناً شاسعاً ، ومفارقة كبيرة ؛ فإن ذلك بكل الأحوال لن تجني منه إلا ما نرى صوره الكثيرة في مجتمعاتنا ، سواءً كان ذلك في العذاب والبلاء والمصائب التي تصب علينا بتسلط أعدائنا ، أو بما فقد في كثير من مجتمعات المسلمين من الأمن ، والأمان ، والاستقرار ، أو بما فشى فيها من الأدواء والعلل والأمراض ، أو بما حلّ بها من الفقر والمسكنة ، والذلة والمهانة ، وكما أخبر الحق - جل وعلا : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } .
فلابد لنا أن ندرك أن من أسباب قوتنا ، ومن طريق عزتنا ، ومن أسباب نصرتنا ، أن نستقيم على أمر ربنا ، وأن نعلن الصلح مع الله - سبحانه وتعالى - وأن نسير بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أوصى فأوجز فقال : ( قل آمنت بالله ثم استقم ) .
نسأل الله عز وجل أن يقوي إيماننا ، وأن يعظّم أخوتنا ، وأن يُظهر صلاحنا ، وأن يعيننا على شرور أنفسنا ، وأن يبرم لأمتنا خير تعز به ، وتنتصر عاجلاً غير آجل .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :(92/3)
ألا وإن من أسباب القوة قوة التضرع والدعاء ، وصدق التوجه والالتجاء لرب الأرض والسماء ؛ فإنه - سبحانه وتعالى - مالك الملك ، وهو جبار السماوات والأرض ، وهو مقدر الأقدار ، وهو الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .. هو - سبحانه وتعالى - الذي ينزل النصر ، وهو - سبحانه وتعالى - الذي يمدّ بالقوة ، وهو - سبحانه وتعالى - الذي يسخر قوى الأرض كلها لمن شاء كيف شاء سبحانه ، والله - جل وعلا - يخاطبنا وينادينا ، ويعدنا ، ويؤملنا - سبحانه وتعالى - في شأن الدعاء ، والتضرع له سبحانه وتعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } .
وأيضاً يبين الحق - سبحانه وتعالى - بأنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، ولقد سُئل بعض أسلافنا : ما بالنا ندعو ربنا فلا يستجاب لنا ؟؟ فقال لهم : سددتم طريق الدعاء بالمعصية فحُرمتم من الإجابة .
وذلك له أثره بالصلاح والاستقامة التي ذكرناها ، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - وأسلافنا ما كانوا يستعينون بقوتهم المجردة ، ولا كانوا يكتفون بأسبابهم التي يأخذونها ، ويجتهدون فيها ، بل كانوا قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك يلتجئون إلى الله سبحانه وتعالى ، سيما في الملمات ، وخاصة في وقت الشدائد العظيمة الجسيمة .. يلجئون إلى الله - عز وجل - كما دعا نبينا - صلى الله عليه وسلم - في يوم بدر ، وما زال يلح في الدعاء : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً ) .
ويبالغ في ذلك حتى يسقط رداؤه عن منكبيه ، فيأتيه أبو بكر فيقول : ( حسبك يا رسول الله إن الله منجز لك ما وعدك ) .
ويتنزل نصر الله - عز وجل - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أثر هذا الدعاء ، ومن أثر ذلك التوجه والاستعداد ، وكذلك كان - عليه الصلاة والسلام - في كل المواقف داعياً لله - عز وجل - متبتلاً متضرعاً له سبحانه وتعالى .
وما أحرانا في هذه الأوقات العصيبة أن نكرر ،وأن نلح وأن نخلص ، وأن نتحرى أوقات الإجابة بالدعاء ، بكل ما نستطيع ، وأن نجعل ذلك ديدناً لنا ، وأن نرطب به ألسنتنا ، وأن نحيي به قلوبنا ، وأن نعظّم به أملنا في الله - عز وجل - وثقتنا به ؛ فإن ذلك من أعظم أسباب القوة .
ولو نظرنا إلى أعدائنا لعرفنا أن أخشى ما يخشونه ، وأعظم ما يخافون منه إنما هو هذه المعاني .. يوم نعتز بإيماننا ، ونقوى بتوحيدنا .. يوم نحرص على أخوّتنا ، وتأتلف قلوبنا ... يوم نعلن طاعتنا ، ونستجيب لأمر ربنا .. يوم نتضرع ونلتجئ إلى خالقنا ومولانا نكون القوة التي لا تقهر بإذن الله ، ونجدد ما كان من سير أسلافنا ، وذلك الذي ينبغي أن يكون وكيف يكون ؛ فإن أقدار الله - عز وجل - تسوق إلينا ما يذكرنا وينبهنا ، ولعل ما يجري من هذه الأحداث ، وما يتفاقم من مشكلات المسلمين ، إنما هو من قدر الله الخيّر لهذه الأمة ؛ حتى يستيقظ الغافلون ، وحتى يتنبه النائمون ، وحتى يتحرك الخاملون ، وحتى يتحد المفترقون ، وحتى يقوى الضعفاء ، الذين قد استبد بهم الوهن من حب الدنيا ، وكراهية الموت - كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم - ولئن لم يكن لأحداث الأقصى ، وتلك البقعة المباركة ، والمكان المقدّس ، والقبلة الأولى ، والمسجد الثاني في تاريخ الإسلام .. لئن لم يكن لما يجري عليه وعلى أهله أثر في حياة الأمة ، وانتباهها ، فمتى يكون الأثر ؟ ومتى يحصل الانتباه ؟ وكما قيل : " إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض " .
إن اليهود - عليهم لعائن الله - هم أعداء أمة الإسلام .. هم محركو العداء والبطش والكيد على أمة الإسلام في كل مكان .. هم المتآمرون مع الهنادكة ضد أبناء المسلمين في كشمير ، وهم المؤججون لنار الحقد عبر أوروبا كلها ، هم المسيّرون لاتجاهات ومسارات الإعلام في كل جوانبه .. هم الراعون والساعون في كل ما يدحضون أو يضعفون به الإسلام وأهله ، فلئن عجزنا عن المواجهة والنصرة لإخواننا ؛ فإن ذلك يهددنا في قعر بيوتنا ، وفي داخل بلادنا ، وفي كل أماكننا ، ونحن نرى كيف قد أصبح العالم كما يقولون : " قرية صغيرة " ، ونحن كأنما نعيش مع أبناء فلسطين بما نرى ونسمع لحظة بلحظة ، بالصورة ، والحركة ، والصوت ، والمناقشة ، والتحليل ، فكأنه قد قامت علينا الحجة ، وانقطع عنا العذر ، فلا ينبغي لنا أن نبقى غافلين ساجرين ، ولو أن نحرّك قلوبنا بشيء من الحزن والألم ، ونفوسنا بشيء من الغيرة والتحرك ، ولو بدعاء صادق ، وإنفاق سخي ، وبإصلاح في أحوالنا ، واستقامة في سلوكنا ، ولدعاءٍ والتجاءٍ لربنا ، وبكل ما نأخذ به من أسباب القوة .. نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يعظم قوة إيماننا ، وأن يزيد يقيننا ، وأن يجعلنا ممن يستمسكون بكتابه ، ويقتدون بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم .(92/4)
أسباب النصر والهزيمة في التاريخ الإسلامي
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله وخيرته من خلقه، وعلى من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين وبعد،،،
فإن أسباب الانتصار والهزيمة في التاريخ الإسلامي موضوع مهم ينبغي أن يعرفه المسلمون عموماً، والدعاة إلى الله خصوصاً، ينبغي أن يبحثوه ويتأملوه ليعرفوا أسباب النصر، فيعملوها، وينشروها، ويعرفوا أسباب الخذلان والهزيمة، فيجتنبوها، ويحاربوها، ويبعدوها.
ومن المعلوم عند كل مسلم أن الله وعدنا أن ينصر هذا الدين وأن يمكن لعباده المؤمنين، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْاَشْهَادُ[51]}[سورة غافر] . وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور].
إذن: هذا وعد صادق لابد أن يتحقق.. وقد تحقق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في عهد خلفائه، ومرت السنون والقوة الإسلامية والتمكين لها في الأرض بين مد وجزر، فبعد القرون المفضلة أصبح التاريخ الإسلامي يمر بفترات هزيمة وبفترات انتصار، ولكن النصر كلمة واسعة عامة شاملة تشمل:
انتصار الداعية: حتى ولو قتل، فهناك من الدعاة من قتل، ومن عذب، ومن شرّد، ولكنه في النهاية نصره الله- أي نصر المنهج الذي عاش من أجله، حتى ولو قتل ذلك الداعية- وأقرب مثال لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي مات سجيناً، ثم إنه بعد عدة قرون ييسر الله من يقوم بنفس المباديء التي دعا إليها شيخ الإسلام، وهو الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ويرفع لوائها، وينشرها في هذه الأرض، فليس النصر بالمعنى العام هو الظهور في الأرض فقط، إنما حديثنا يتركز حول الظهور على العدو والتمكين في الأرض .
الأمة الإسلامية اليوم تواجه واقعاً مأساوياً، نستطيع أن نلخصه في ثلاث نقاط:
1- هزيمة نفسية تنتاب كثيراً من أفراد الأمة: ومع الأسف حتى على مستويات كبيرة حتى وجد من ينادي بالانخراط في منظومة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد لنكون عجلة من عجلات هذا النظام، ويقوده ذلك الرجل الغربي الكافر .
2- تبعية في مجالات كثيرة: ومن أهمها التبعية الثقافية والفكرية، والاقتصادية، وتبعيات كثيرة .
3- الأمر الثالث الذي يتضح فيه واقع الأمة: الضعف والذلة والتفرق: فأصبحت الأمة المسلمة رغم كثرتها وامتداد ساحتها ورقعتها أصبحت أضعف الأمم، وأقل الأمم شأناً في هذا العصر، بينما الأمم الأخرى لا يمكن أن يحصل شيء في هذه الأرض إلا بعد أن يؤخذ رأيهم حتى البوذيين في الصين يؤخذ رأيهم، وأما الأمة المسلمة فإنه لا يؤخذ رأيها حتى في قضاياها هي ! وصدق فيها قول الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
إذن: لابد لهذه الأمة أن تعرف أسباب النصر والهزيمة، وأن تتلمس واقعها هذا، والأمور التي أدت إلى نزولها إلى هذا الحضيض، وأن تحاول أن تنتشل نفسها، وأن تخرج إلى ما أراد الله لها من قيادة هذه الدنيا، ومن سيادة العالم .فنحاول أن نلخص أسباب النصر والهزيمة بدون استطراد وتوسع وإلا فهي تحتاج إلى مجلدات.
أسباب النصر والهزيمة:
أولاً: من أسباب النصر:
لعل أهم سبب من أسباب النصر لهذه الأمة هو:
1- الإيمان الصادق والعمل الصالح: يقول الله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإذن لابد من إيمان صادق وعمل صالح : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} وهنا شرط مهم : {...يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا...[55]}[سورة النور]. ثم قال في الآية التي بعدها مباشرة:{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[56]}[سورة النور]. فإذن: لابد من إيمان صادق، ومن عمل صالح.
ومن أهم ما يتمثل فيه هذا الإيمان:
أ- عبادة الله سبحانه وتعالى عبادة خالصة ليس فيها شرك .
ب- وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به، وفي كل ما نهى عنه، فما أمر به يفعل، وما نهى عنه يجتنب .(93/1)
ج- التوكل على الله وحده، والاعتماد عليه سبحانه، والاستنصار به جل وعلا، ودعاؤه والاستغاثة به: كما كان نبينا يفعل، ومن يقرأ قصة غزوة بدر يجد ذلك واضحاً حيث قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: [اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ] فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ...إلخ الحديث.رواه مسلم.
د- الصبر والثبات: سواء كان ذلك في المعركة، أو قبل المعركة: صبر على الابتلاء، صبر على المحن، فلا يمكن أن يمكن لهذا الدين إلا بعد ابتلاءات ومحن، ثم إذا صُفي ونُقي جاء التمكين، وجاء النصر، فلابد من صبر وثبات كما قال جل وعلا:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا...[45]}[سورة الأنفال]. وكما قال سبحانه:{ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[66]}[سورة الأنفال].
هـ- ذكر الله كثيراً ...{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا...[45]}[سورة الأنفال] . إذا قارنت هذا الأمر الإلهي الذي طبقه النبي وأصحابه والسلف الصالح من بعدهم، ثم قارنته بهذا العصر الذي نعيشه؛ وجدت أن أهل هذا العصر يدخلون المعركة، وهم يغنون، ويرقصون؛ فتكون النتيجة هزيمة ساحقة، وخيبة ماحقة .
2- ومن أسباب النصر: وحدة صف الأمة: أما إذا كانت مفرقة ومشتتة، فإن النصر لن يكون حليفها، ولذلك صلاح الدين الأيوبي رحمه الله لما أراد أن يستخلص بيت المقدس من أيدي الصليبيين أول أمر فعله أن قام بتوحيد أقوى بلدان المسلمين في ذلك الوقت، وهي: مصر والشام، فلما وحدها نهض لقتال الصليبيين، فوحدة الصف المسلم سبب من أسباب النصر والتمكين، وأما إذا كان المسلمون مفرقين فإن النصر منهم بعيد.
3- كذلك من أسباب النصر: وجود القيادة المؤمنة القوية: فالقيادة العلمية القوية وقيادة الدنيا إذا اجتمعتا تحقق النصر والتمكين، أما إذا وجدت القيادة العلمية، ولكن ليس معها قوة تحميها وتدافع عنها وتجاهد لنشرها فإنها لا تقوى ولا تنتصر.
4-إعداد العدة والأخذ بالأسباب: قال الله:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ...[60]}[سورة الأنفال]. كل شيء تستطيعونه من أسباب القوة، فأعدوه صغيراً كان أو كبيراً ما دمتم تستطيعونه عليكم أن تعدوه.{وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} الخيل تدخل في القوة، فلماذا خصها بالذكر؟ خصها بالذكر لحكمة وهي: أن نعتني بأهم أسباب القوة، فالخيل في عهد النبي هي أهم أسباب القوة، فما دمنا نستطيع أن نوجد أهم أسباب القوة فإن علينا أن نعتني بها، في غزوة بدر لم يكن مع النبي إلا فارس واحد، وقيل: اثنان، وأكثر الأقوال أنهم ثلاثة.ويقول الحافظ ابن حجر:لم يثبت أو لم يصح أنه وجد فارس إلا المقداد وحده . فهذا هو قدر استطاعتهم، وكان مع قريش مائة فارس، والخيل في ذلك الوقت مثل الطائرات في زماننا هذا، فنحن مطالبون بأن نعد ما نستطيع ولسنا مطالبين بأن نعد ما لا نستطيع.
والنبي صلى الله عليه وسلم أعد أسباب القوة، وفعل الأسباب الموجودة في عصره، والتي استطاع أن يفعلها، فلبس الدرع يوم أحد، وحفر الخندق يوم الأحزاب، وأخذ السلاح وأعد الجنود، وأعد القادة ورباهم، وأعد الأموال فكان يعمل بالأسباب الممكنة في عصره. لكن ينبغي أن نعلم أن الاعتماد لا يكون على الأسباب إنما على الله القوي العزيز وحده.(93/2)
وعلينا أن نعلم حقيقة مهمة وهي: أنه لم يلتق ولم يحصل يوم من الأيام أن كانت قوة المسلمين أقوى من قوة الكافرين، فالكافرون دائماً هم الأكثر، والكافرون دائماً هم الأقوى من ناحية العدة والعتاد، ولكن جانب الإيمان يرجح المسلمين على عدوهم ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا استبطأ النصر من قادته كتب لهم:'إنا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة إنما نقاتلهم بهذا الدين فلعلكم أحدثتم أمراً'. يذكرهم لعلكم أحدثتم شيئاً فراجعوا أنفسكم، هل أخللتم بشيء من أسباب النصر.
- سؤال: هل أمة الإسلام اليوم مطالبة بأن يكون لديها مثل ما لدى اليهود من السلاح؟ ومثل ما لدى اليهود من الخبرات ومثل ما لدى اليهود من التقدم العلمي والتكنولوجي؟
الجواب: لا، الأمة ليست مطالبة بهذا، الأمة مطالبة بأن تكون مؤمنة، وأن يكون صفها موحداً، وأن تكون قيادتها مؤمنة، ثم أن تُعِدَّ ما تستطيع من الأسباب، وتستعين بالله، وتجاهد في سبيله وسَتُنْصَرُ وتُمَكَّنُ.. هذا هو الشيء المطلوب، وهذا هو الذي يريح قلب المؤمن، ويدخل السرور على نفسه، فإننا لسنا مطالبين بأن نكون أقوى من الكفار، ولا حتى بأن نماثلهم، ولا حتى بأن نكون قربهم، بل علينا أن نعد ما نستطيعه، ثم نجاهد، وسينصرنا الله جل وعلا، وأفغانستان عبرة لمن اعتبر حيث لم يكونوا يحملوا إلا أسلحة قليلة ضعيفة بالنسبة لما كان في أيدي الشيوعيين الروس، ومع ذلك خذل الله الروس على أيدي أولئك الذين يسمون في القاموس الغربي بالبدائيين .
وفعل الأسباب وإعداد العدة ينقسم لأمور كثيرة جداً لعل أهمها:
أ - إعداد الجندي المؤمن والقيادة المؤمنة: هذه هو أهمها وأولها، فتعد هذه القوة التي هي الجندي المؤمن والقيادة المؤمنة بالإيمان والعمل الصالح أولاً، وينقى الصف المؤمن من غير هؤلاء، ولذلك بمجرد أن تطالع كتب 'الفقه الإسلامي' تجدهم يقولون: وعلى القائد أن يمنع المخذل والمرجف من أن يسير مع الجيش؛ لأن هذا منافق لا يستطيع أن يواجه الكفار إذا حمي الوطيس.
فإذن: لابد من إعداد الجندي المؤمن الذي يذكر الله كثيراً، والذي يحافظ على طاعة ربه، ويجتنب ما نهاه الله عنه، والذي نصب عينيه أن يموت شهيداً ليدخل الجنة بفضل الله. كما قال عمير بن الحمام-لما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ] وكان بيده تمرات بَخٍ بَخٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ] قَالَ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ: [فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا] فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ- ربما لا تتجاوز خمس تمرات - إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ قَالَ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم .
إذن إذا وجد مثل هذا النموذج الذي يقدم على الموت، فإنه سيوهب لنا النصر، وستوهب لنا الحياة، وسنحصل على الحسنيين .
ب - الأمر الآخر في إعداد العدة إعداد العدة العسكرية: بالعتاد.. بالأجهزة.. بما نستطيع من قوة فنعد ذلك ونجهزه، حتى لا يبقى سبب من أسباب النصر في استطاعتنا إلا وفعلناه، فإذا أعددنا تلك العدة، فإن القلوب تنام وهي مطمئنة مرتاحة .
ت - ومن العدة أيضاً: إعداد الأموال اللازمة: فإن الأموال الآن أصبحت عماد الجهاد، بل هي عماد الجهاد منذ عصر النبي، ولعل الجميع يتذكر أن عثمان بن عفان لما جهز جيش العسرة، فماذا كانت جائزته؟ كانت جائزته: [ مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ] رواه الترمذي وأحمد. هذه جائزته لماذا؟ لأن المال هو عصب الجهاد، فلا بد أيضاً أن تعد الأمة الأموال اللازمة للجهاد في سبيل الله .(93/3)
ث - ومن إعداد العدة: ألا يغفل المسلمون عن معرفة عدوهم وعن قدراته: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر عندما أخذ السقاة الذين جاءوا يستقون الماء لقريش ثم سألهم: كم عدد قريش؟ كم ينحرون من الجزر؟ كم معهم من الخيل؟ من معهم من صناديد قريش؟ معهم فلان وفلان،ينحرون من الجزر كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [ الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ ] رواه أحمد . فَأَعَدَّ لذلك عدته، فهذا واجب من واجبات المسلمين، فلا يستهينوا بعدوهم، واحتقار العدو ليس من شأن المسلمين بل إننا نبحث عن مكامن القوة ومواطن الضعف فيه، ثم نستنصر بالله جل وعلا عليه، ومع ذلك علينا أن نتأمل قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ] رواه البخاري ومسلم.أي أننا نسأل الله جل وعلا أن ينصرنا عليهم وأن يخذلهم، حتى ولو لم نلتق بهم ولم نقاتلهم .
5- من أهم أسباب النصر: الثقة بالله سبحانه وتعالى والثقة بوعده: وأنه سبحانه سيعلي هذا الدين وينصره ويمكن له في الأرض إن عاجلاً أو آجلاً، فإن حساب الزمن ليس عند الله شيء، فمن المعلوم أن اليوم عند الله يساوي ألف سنة مما نعد نحن، فلا ننظر بمنظار الأعمار البشرية، بل ننظر إلى المنهج الذي ينتصر ويبقى، وننظر إلى الزبد الذي يذهب جفاء في الأرض .
لابد أن نكون واثقين من أن الله سينصر هذا الدين مهما ضيق عليه، ومهما حورب دعاته، ومهما وقف في وجوههم، ومهما وضعت في طريقهم العراقيل؛ فإن النصر حليفهم إن عاجلاً أو آجلاً، فالحق يبتلى أولاً، ثم يمكن له وينصر . وكم من الدعاة والمجاهدين والعلماء ابتلوا حتى ظن الناس أنهم قد هلكوا وفشلت دعوتهم، فإذا بهم تنقلب في طريقهم المحن إلى منح، ويضع الله لهم القبول في الأرض والتمكين والنصر .
6- من أهم أسباب النصر التي ينبغي أن يعرفها المؤمنون حتى لا يصابوا بشيء من الإحباط: كون الأمة في مستوى النصر بإمكاناتها بقدراتها بعزائمها ونياتها:كيف ذلك؟
الأمة- أحياناً- قد تحارب ولكنها لا تكون في مستوى النصر، فيؤخر الله النصر قليلاً حتى يرتفع مستوى هذه الأمة وتصبح قادرة على تحمل أعباء النصر الذي سيمنحه الله إياها إذا جاء وقته، يقول الله سبحانه:{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة الحج] من هم يا رب؟
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[41]}[سورة الحج] . {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} إذن: ها هنا نيات وعزائم في القلوب لا يطلع عليها إلا علام الغيوب .
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} هذا مستقبل {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} ربما يوجد من الدعاة من لو مُكن في الأرض لترك بعض أمور الدعوة، وما أقام الصلاة وما آتى الزكاة، أو ربما يقوم بالصلاة ويؤدي الزكاة، ولكنه لا يقوم تمام القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربما يتنازل بعض المحسوبين على الدعوة عن بعض الأمور الهامة، ربما يتحالف مع الشيوعيين، ربما يتحالف مع علمانيين من أجل مكاسب.. هذا لا يستحق النصر.
أيضًا: تكون الأمة في مستوى النصر بالإمكانات بالقدرات، فيكون لديها من يستطيعون إدارة البلدان المسلمة لو تيسر لها النصر، أو إدارة العالم لو تمكنت من فتح العالم كله، فإذا أصبحت الأمة في هذا المستوى، وتوفرت لها بقية الأسباب؛ فإن الله جل وعلا يمنحها النصر أمراً مؤكداً لا شك فيه ولا ريب .
7- أيضاً من أهم أسباب النصر: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذان الأمران سياجان حافظان لهذه الأمة، فالجهاد يحفظها من الخارج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظها من الداخل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظ السفينة من أن تُخرق ثم بعد ذلك تغرق، والجهاد يحفظ الأمة من أن تستذل، أو أن يهينها العدو، فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، قاعدة قالها أسلافنا رحمهم الله ،و رضي الله عن علي إذ قال:'ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا كتبت عليهم الذلة'.(93/4)
الجهاد سبب العز، وسبب النصر: يقول سبحانه:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[216]}[سورة البقرة] . عندما تقرأ تفسير هذه الآيات للإمام القرطبي الذي عاش رحمه الله وقت سقوط الأندلس تحس بالحسرة والألم بين السطور والعبارات، يقول مامعناه :'{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} وهو القتال وسفك الدماء وبذل الأموال، {وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}: أي التمكين في الأرض والعز والنصر، { وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} وهو الراحة والإخلاد إلى الأرض والطمأنينة في البيوت والديار، وهو شر لكم بالإذلال وانتهاك حرماتكم وأعراضكم، واستيلاء الكفار عليكم، واستئصالهم لكم' ثم قال عبارة مؤلمة محرقة:' ولما أصبح المسلمون في الأندلس على هذه الحال تسلط عليهم العدو فأخذوا ديارهم واحدة بعد الأخرى بلاد وأي بلاد '. يعني ما أحسنها من بلاد، ومع ذلك فرط فيها أهلها فضاعت.
ومن المعلوم عند كل عاقل أن الكفار لن يتركوا المسلمين ولو تركهم المسلمون، وهذه حقيقة شرعية وسنة إلهية أخبرنا الله بها في حيث قال:{ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا...[217]}[سورة البقرة] . يعني مهما فعلتم، ومهما تقربتم إلى هؤلاء الكفرة، فهم لا يزالون يقاتلونكم.. لن يتركوكم ترتاحون حتى ترتدوا عن هذا الدين وتتبعوا أهوائهم كما قال سبحانه:{ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...[120]}[سورة البقرة] .
فإذن: هم لن يرضوا عنك إلا بهذا.. ولن يتركوك من القتال إلا بهذا وإذا كانوا لم يتركوك من القتال والقتال هو أشق شيء على النفوس، فسيحاربونك بغير القتال من باب أولى.. سيحاربونك بغزو ثقافي.. بغزو فكري.. عن طريق المرأة.. عن طريق الإعلام.. سيحاربونك لتهديم دينك، ولتضييع عقيدتك.. فكن أيها المسلم الموحد من الكافرين على حذر .
8- ثم أخيراً من أهم أسباب النصر: السلامة من أسباب الخذلان والهزيمة، ومنها:
أ –أهم أسباب الخذلان والهزيمة: هو الانحراف عن الصراط المستقيم: سواء كان هذا الانحراف انحرافاً عقدياً، أو انحرافاً عملياً، يعني سواء كانت المعاصي في باب الاعتقاد: بالإلحاد في أسماء الله وصفاته.. بالشرك الأكبر والشرك الأصغر، أو كان بالردة الكاملة باعتناق المذاهب الكافرة كالشيوعية، والقومية، والعلمانية، أو كان من باب الأعمال أي المعاصي العملية.
والمتتبع للقرآن يجد أن هذا هو سبب هلاك الأمم:{ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[40]}[سورة العنكبوت] . فالأمم السابقة أخذت بسبب ذنوبها، وظلمها لأنفسها، والأدلة على هذا كثيرة، وما عليك إلا أن تقرأ كتاب ربك وستجد ذلك واضحاً، وعلى سبيل المثال: اقرأ قصة أصحاب سبأ، واقرأ قصة أصحاب السبت، واقرأ سبب إغراق قوم نوح، واقرأ سبب إهلاك قوم عاد وثمود وقوم لوط، وما حصل لقوم موسى، وما حصل لغيرهم من الأمم؛ فستجد الذنوب هي السبب في ذلك .
أولا:الانحراف العقدي وأثره: سنضرب على الانحراف في العقيدة مثلين هما شاهد حي على أن الأمة إذا انحرفت اعتقاديا،ً فإنها تضعف وتذل:
الشاهد الأول من القرن الرابع الهجري: فقد شهد مداً رافضياً شديداً، فقامت دول رافضية في شرق الجزيرة في البحرين والأحساء قامت دولة القرامطة، وفي بلاد فارس والعراق دولة بني بويه، وفي بلاد الشام الحمدانيون- أبو فراس الحمداني وجماعته كانوا رافضة- وفي بلاد المغرب قامت الدولة العبيدية الإسماعيلية القرمطية، والتي تسمى زوراً وبهتاناً بالدولة الفاطمية، ثم بعد ذلك انطلقت فأخذت مصر، ثم الحجاز. والقرامطة أهل البحرين وصلوا إلى الحجاز، وأخذوا في ذلك القرن الحجر الأسود وبقي عندهم اثنتان وعشرون سنة، ووصلوا إلى دمشق، ولم يبق من بلدان المسلمين سالماً من المد الرافضي إلا القليل، وأذكر لكم ما قاله الإمام ابن كثير رحمه الله في حوادث حصلت في ذلك الزمن ثم انظروا إلى تعليقاته رحمه الله على تلك الحوادث .(93/5)
إنه مع قيام تلك الدول الضالة الرافضية تقدم النصارى من بلاد الروم، فأخذوا بعض بلاد المسلمين، وفعلوا من الجرائم البشعة ما تقشعر له الأبدان، يذكر الحافظ ابن كثير بعض هذه الحوادث، ثم يعلق عليها، فيقول في حوادث سنة 359 للهجرة:'وفيها دخلت الروم أنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز، وسبوا من أهلها الشيوخ والأطفال نحواً من عشرين ألفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون' ثم يعلق على ذلك بقوله:'وكل هذا في ذمة ملوك الأرض أهل الرفض الذين قد استحوذوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد قبحهم الله'. ثم يذكر أيضاً في حوادث سنة359 هـ أيضاً أن ملك الروم فعل أعظم من ذلك في طرابلس الشام، وفي السواحل الشامية وحمص وغيرها، يقول رحمه الله :'ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر ما قدر عليه، ثم عاد إلى بلده ومعه من السبي نحو مائة ألف إنسان ما بين صبي وصبية وكان سبب عوده إلى بلاده كثرة الأمراض في جيشه واشتياقهم إلى أولادهم'.
تصوروا عدو من أعداء المسلمين يأتي ويأخذ مائة ألف أسير من المسلمين ولا يرجع إلا بسبب الأمراض التي فتكت بجيشه ولم يحاربه أحد من ملوك الرافضة الذين كانوا ملوك الأرض في ذلك الوقت، تذكروا ما ذكرناه في أول الموضوع أن من أسباب النصر القيادة المؤمنة، ويعلق ابن كثير على ما كان يفعله الروافض في ذلك القرن من سب الصحابة، وما يفعلونه من البدع والضلالات، فيقول في حوادث سنة 351 هـ بعد أن ذكر غارات الروم وقتلهم ما لايحصى من المسلمين قال:' وفيها كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد لعنة الله علي معاوية بن أبي سفيان، وكتبوا أيضا:ً ولعن الله من غصب فاطمة حقها-يعنون أبا بكر رضي الله عنه-، ومن أخرج العباس من الشورى -يعنون عمر رضي الله عنه-ومن نفى أبا ذر-يعنون عثمان رضي الله عنه- 'يقول ابن كثير رحمه الله:' رضي الله عن الصحابة وعلى من لعنهم لعنة الله' . ثم تكلم قليلاً ثم قال:'ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة-يقصد ابن بويه وكان رافضياً- لم ينكره ولم يغيره قبحه الله وقبح شيعته من الروافض'.
انظروا إلى تعليق ابن كثير وهو المراد في هذه المحاضرة يقول:'لا جرم أن الله لا ينصر هؤلاء وكذلك سيف الدولة ابن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض لا جرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآباءهم، وتركهم أنبياءهم وعلماءهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام وكان فيهم الرفض وغيره استحوذ الإفرنج على سواحل الشام وبلاد الشام كلها حتى بيت المقدس ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق، وجميع السواحل وغيرها مع الإفرنج والنواقيس النصرانية والطقوس الإنجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في أماكن الإيمان من المساجد وغيرها من شريف البقاع' - ثم بعد ذلك صور حال المسلمين-' والناس معهم في حصر عظيم وضيق من الدين وأهل هذه المدن-يقصد دمشق وحلب وحمص وحماة- التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الإفرنج فإنا لله وإنا إليه راجعون وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب وإظهار سب خير الخلق بعد خير الأنبياء'.
هذا نتيجة الانحراف العقائدي الذي استحوذ على هذه الأمة في القرن الرابع الهجري بل استحوذ على حكامها وقادتها في ذلك الوقت.
أما الشاهد الثاني، فأضربه لكم من عصرنا هذا: فقد هُزم العرب أمام اليهود رغم أنه لا تناسب بين العددين، ورغم ما كان يتشدق به طواغيت العصر في الشام، وفي مصر من أنهم سيلقون باليهود في البحر، وسيفعلون وسيفعلون، كان أولئك يرفعون لواء القومية، ولواء الاشتراكية، ويحاربون الإسلام وكان طاغوتهم الأكبر قد قتل سيد قطب رحمه الله قبل المعركة بسنة، ثم لما جاءت المعركة كانت إذاعاتهم ترفع النشيد الآتي تقول موجهة الخطاب لطائرات اليهود:
ميراج طيارك هرب خايف من نسر العرب
والميج علت واعتلت في الجو تتحدى القدر
هذا كانت تتغنى به إذاعة دمشق في ذلك الوقت، إذن كانت تلك الهزيمة الساحقة التي أخذ فيها ما تبقى من فلسطين، وأخذت أضعاف أرض فلسطين مثل سيناء والجولان كانت بسبب تلك القيادات الفاجرة المنحرفة التي تسلطت على رقاب المسلمين، وكانت سبب من أهم أسباب الخذلان والهزيمة .
ثانيًا: الانحراف في ناحية المعاصي العملية، وبالإمكان أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام:
1- معاصي تؤثر أثناء المعركة: كمعصية أمر القائد في أثناء المعركة مثل ما حصل في يوم أحد لما ترك الرماة الجبل، وخالفوا أمر النبي، فحصل ما حصل مما تعرفونه.
2- معاصي تؤثر من قبل المعركة: وهذه سنطيل في الحديث عنها، فنتركها إلى الأخير.(93/6)
3- وهناك معاصي تؤدي إلى ضرب الذلة على الأمة المؤمنة ضرباً مؤبداً:وهذه المعاصي تؤثر تأثيراً مباشراً في هزيمة الأمة أمام أعدائها، وقد بينها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: [إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] حديث صحيح بمجموع طرقه، رواه أبوداود وأحمد.
والعينة نوع من أنواع الربا والربا قد انتشر الآن في بلدان المسلمين فحقت عليهم الذلة، [وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ] يعني: الإخلاد إلى الدنيا والالتفات إليها.
[وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ] من أسباب ضرب الذلة، [سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا]، ليس الذل على اليهود فقط، بل الذل يضرب أيضاً على هذه الأمة إذا عصت أمر ربها، [سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ] لا يرفعه إلى متى؟ ليس إلى أن يصبح عندكم مليون جندي، ولا أن يصبح عندكم ألف طائرة، ولا أن يصبح عندكم خمسة آلاف دبابة، لا.. وإنما [حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] فإذا رجعتم إلى دينكم يرفع الله عنكم الذلة، بهذا الشرط الوحيد، وهو أن ترجعوا إلى دينكم كله من أوله إلى آخره، لا تقولوا: هذه قشور وهذا لباب، ولا تقولوا: هذه سنن وهذه وهذه ، ولا تقولوا: هذه تفرق المسلمين إذا بحثت أمور العقائد بين السنة والروافض، أو بين السنة والأشعرية وغيرهم . بل تأخذ هذا الدين كاملاً كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند ربه، تأخذ به كاملاً نقياً صافياً.. فعند ذلك يمنح لك النصر، ويمنح لك الظفر على العدو .
ننتقل إلى المسألة الثانية:وهي المعاصي التي توعد عليها بأنها سبب من أسباب الهزيمة فمن ذلك مايلي:
أ ] الظلم: الظلم ليس سببًا من أسباب الهزيمة فحسب، بل هو سبب من أسباب هلاك الأمم وسقوط الدول، وتغير الأحوال، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلمة استقرائية ماتعة يقول:' إن الدول تبقى مع العدل وإن كانت كافرة، وتسقط مع الظلم وإن كانت مسلمة'. [انظر:السياسة الشرعية] .
ب] ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو سبب من أسباب الهلاك ونزول العذاب، يقول الله:{ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ[116]وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ[117]}[سورة هود] . إذا كان أهلها يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يهلكهم الله، أما إذا تركوا ذلك، وانتشرت الرذائل، وأصبحت علانية، فليسوا مهددين بالهزيمة بل بأعظم من ذلك، وهو أن يهلكهم الله، ويحل بهم العذاب، وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ[105]}[سورة المائدة] . وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة وأحمد.
كما أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أسباب الاختلاف، وسبب من أسباب التفرق، وهذا من أهم أسباب الهزيمة.
ج] نقض عهد الله وعهد رسوله: فقد جاء في حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ... فذكرها، ومنها: [ وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ] حديث صحيح رواه ابن ماجة وغيره . ومن المعلوم أن العدو لن يستطيع أن يأخذ بعض ما في أيدي المسلمين من الأموال، أو من الأراضي، أو من غيرها إلا بعد أن يهزم المسلمون، ويستذلوا.
د] الغلول: والغلول المراد به أخذ مال المسلمين بغير حق : جاء في الموطأ عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:' مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبُ...' . ومن المعلوم أنه إذا ألقى الله الرعب في قلوب قوم فإنهم لن يواجهوا العدو وسيهزمون ويولون الأدبار هذا أمر لا شك فيه ..(93/7)
هـ ] من المعاصي التي توعد الله عليها بأن أصحابها يهزمون ولا ينصرون، البطر والفخر والغرور والعجب: قال سبحانه:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[47]}[سورة الأنفال]. فهذا الرياء والبطر والكبر في الأرض، ثم الصد عن سبيل الله أي: الصد عن دينه حتى ولو عن جزئية من جزئيات الدين، الصد عنها منذر بوقوع الهزيمة كما دلت عليه هذه الآيات . وكذلك العجب قال الله:{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ[25]}[سورة التوبة] . فلما أعجب الصحابة بأنفسهم وبكثرتهم، وقالوا: لن نغلب هذا اليوم من قلة؛ ما أغنت عنهم كثرتهم شيئاً، وبعض الروايات تقول: إن هوازن لم يتجاوزوا الثلاثة آلاف رجل . والصحابة كانوا عدة أضعاف لهوازن، ومع ذلك ولوا مدبرين لما أعجبوا بأنفسهم، ونسوا الاعتماد على ربهم عز وجل.
وهنا ملاحظة جديرة بالاهتمام، وهي: أنك عندما تقرأ في القرآن في أعقاب ذكر غزوات النبي؛ لا تجد أبداً أن الله يمدح المؤمنين، ويشيد ببطولاتهم، إنما يبين لهم أن هذا النصر الذي تحقق إنما هو فضل منه:{ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[126]}[سورة آل عمران]. { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[10]}[سورة الأنفال].
بل إنك تجد أن الله ينبه المؤمنين إلى أخطاء وقعت منهم، وهم منتصرون، فيقول لهم يوم بدر:{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ...[67]}[سورة الأنفال] .{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...} ثم قال لهم بعد:{... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[1]}[سورة الأنفال] . كأن هذا إشارة إلى أن اختلافكم في قسمة الغنائم والأنفال ليس بجيد، فاحذروا أن تخالفوا أمر الله وأمر رسوله.
فإذن: ما قال لهم لقد أحسنتم وفعلتم وفعلتم.. ما أشاد بهذه البطولات التي فعلها الصحابة يوم بدر، بل نبههم على أخطاء، وذكرهم بأن لا يعتمدوا على أنفسهم، وأن لا يعجبوا بأنفسهم، إنما النصر من عند الرب وحده لا شريك له. كذلك في أحد عندما تقرأ قصة أحد تجد أن الله نبههم على مكمن الخطأ وسبب ما حاق بهم وما حصل لهم . فالله سبحانه ينبهنا على أن المسلم دائماً يجب أن يكون خاشعاً لله، معتمداً عليه، مستنصراً به، مخلصاً له، يعلم أن النصر من عنده ليس بعدد ولا بعدة .
السبب الثاني من أسباب الهزيمة:
ب ] الفرقة والاختلاف: تفرق المسلمين وتشتت أحوالهم سبب من أسباب الهزيمة الماحقة، يقول الله:{ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة الأنفال]. وهذا الأمر بالإضافة إلى الأمر السابق وهو المعصية كان من أعظم أسباب سقوط الأندلس.
ج ] من أسباب الهزيمة في تاريخنا الإسلامي: موالاة الكافرين والمنافقين، وعدم الحذر منهم: لقد حذرنا الله من ذلك تحذيراً شديداً، وأبدأ وأعاد حتى قال العلامة الشيخ حمد بن عتيق من أئمة الدعوة رحمه الله:'لم يرد في القرآن الكريم بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن ضده أكثر من النهي عن موالاة الكافرين' . وفيآية واحد يتبين لنا حقيقة الكفار، يقول الله سبحانه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } أي: لا يقصرون فيما يفسدكم. { وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي: أحبوا ما يشق عليكم.{ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} فما استطاعوا إخفاءها. { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[118]}[سورة آل عمران] ولكن أين الذين يعقلون؟
لقد كان هذا هو السبب في هزيمة الدولة العباسية أمام التتار لما وثقت بالرافضي الخبيث ابن العلقمي وولته الوزارة، وكان ذلك الخبيث ممن مالأ التتار وكاتبهم من أجل أن تهدم الخلافة وتسقط الدولة، فكان ذلك وحصل له ما أراد، ولكن الله كان له بالمرصاد، فجازاه ملك التتار أن قتله، وقال له: أنت لا تستحق أن يثق فيك، فقتله شر قتلة، وما أكثر أمثال ابن العلقمي في هذه العصور .(93/8)
قد يندس شياطين الإنس من المنافقين في صفوف المؤمنين، ولا يميزهم المؤمنون، فمن رحمة الله بالمؤمنين أن تتوالى الابتلاءات على المؤمنين، فتكشف حقيقة المنافقين، وتميز الصف المؤمن وتطهره من هؤلاء المندسين حتى يتميز الصف، ويصبح مؤمناً خالصاً، وما هذه الابتلاءات التي حصلت لإخواننا المجاهدين في أفغانستان سابقاً ولا حقاً إلا فيما نحسب من هذا الباب، ليميز الله الصفوف فتتساقط الأوراق المندسة التي لا يستطيع المؤمن أن يكشفها لتظاهرها بالإيمان.
د ] ومن أهم أسباب الهزيمة: ترك إعداد العدة والإخلاد إلى الدنيا وملذاتها والإغراق في اللهو وطلب الراحة مما يجعل الإنسان لا يستطيع أن يدخل المعركة، ولا أن يواجه العدو .
هذه بعض أسباب الهزيمة التي مرت في التاريخ الإسلامي، وهي ليست كلها، ولو تتبعت واستقرأها شخص من بطون كتب التاريخ لوجدها أضعاف ما ذكرنا أضعافاً كثيرة، ولكن حسبنا أن نذكر الأهم والأقل يدل على الأكثر .وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم .
من محاضرة:' أسباب النصر والهزيمة في التاريخ الإسلامي' للشيخ/ بشر البشر
http://islammemo.cc/(93/9)
أسباب تخلف المسلمين. فضيلة الشيخ ناصر ابن سليمان العُمر
…………………………………..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا
من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا.
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما ).
أما بعد أيها الأخوة:
نقلب صفحات الماضي المجيد ونجد أن القرآن يتحدث عن هذه الأمة فيقول:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس).
ننظر إلى واقعنا وننظر إلى ماضينا ونجد البون الشاسع والفرق الهائل.
ننظر كيف كانت هذه الأمة التي هابتها الفرس والروم ثم كيف أصبحت غثاء كغثاء السيل لا يأبه الله بهم في أي واد هلكوا.
أيها الأحباب:
بعد أن كنا سادة وقادة، ماذا دهانا وماذا أصابنا ؟ هذا هو موضوعنا أيها الأحباب
ويذكرنا الشاعر ويثير كوامن الحسرة والأسى عندما يقول في أبياته:
إني تذكرت والذكرى مؤرقة ……. مجدا تلدا بأيدينا أضعناه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد……تجده كاطير مقصوصا جناحاه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها……….وبات يملكنا شعب ملكناه
أيها الأخوة الكرام لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من التخلف والتأخر ولانحطاط وفي مؤخرة الركب، بل لا أقول في مؤخرة الركب، بل تبرأ منا الركب جميعا؟
لا أقول هذا مبالغة ولكنها حقائق تنطق أيها الأحباب، نشاهدها في الصباح والمساء.
من هذا المنطلق، وأخذا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم).
جلسنا نلتمس الأسباب، ونبحث عن العلل علنا نصل إلى الداء ثم نشخص الدواء بعد ذاك
والله المستعان وعليه التكلان.
من أبرز الأسباب التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه – أيها الأحباب- :
سقوط الخلافة ألإسلامية.
منذ بزغ فجر هذه الرسالة والخلافة قائمة يتناقلها خليفة عن خليفة وجيل عن جيل، وأمة عن أمة، وأدرك العدو أنه لن تموت هذه الأمة مادام لها أمير للمؤمنين فسلطوا سهامهم وشرعوا أسلحتهم وحاكوا المؤامرات تلو المؤامرات حتى أسقطوا هذه الخلافة.
ويخف الألم لو كان الداء سقط بأيدي أعدائنا، ولكن مع الأسف أن بعض المسلمين هم الذين ساعدوا أعدائنا على سقوط الخلافة.
استطاعت أوربا ممثلة ببريطانيا أن تصور أن الخلافة شبح رهيب
صورت لنا أن الخلافة شبح رهيب، وسموه بالرجل المريض وأثاروا النعرات والقبليات
ثم بعد ذلك ساعدهم كثير من المسلمين حتى اعتبروا أن عدوهم الأول هي الدولة العثمانية أو الخلافة الإسلامية حتى أسقطوها.
هذا سبب رئيسي بأسباب تخلف وتأخر المسلمين.
ثم –أيها الأخوة- من الأسباب التي أدت بنا إلى ما نحن فيه من:
فصل الدين عن الدولة.
فصل الدين عن الدولة سبب رئيسي للمآسي التي نعيشها، لما ؟ لأنه –أيها الأخوة- لا يمكن أن يُحكم البشر إلا بشريعة رب البشر، فإذا أبعدت هذه الشريعة عن الساحة حُكم البشر بسنن البشر، والبشر عاجز وقاصر، وبهذا حل فينا ما حل فينا.
ويزداد ألمي عندما أجد أن كثيرا من المنتسبين للإسلام، والإسلام منهم براء أشد اقتناعا بفصل الدين عن الدولة أي بالعلمنة بمفهومها الصحيح.
في هذه الفترة وفي هذا الوقت يرفع الرئيس الأمريكي بانتخاباته للرآسة الأمريكية، يرفع الإنجيل أمام جمهوره ويقول:
(آن الأوان لأن نُحكم بالإنجيل، آن الأوان لعودة حُكم الدين للدولة).
هكذا يقول رجل على منهج منحرف، يقر ويعترف بأن فصل الدين عن الدولة جنى على أمته الويلات، والمسلمون يقولون:
دع ما لله للهِ وما لقيصر ليقصر، ونقول لهم الكل لله –سبحانه وتعالى-
(الملك يومئذ لله).
نعم –أيها الأخوان- فصل الدين عن الدولة مخطط رهيب لأن أولئك الأعداء علموا أن القرآن هو عدوهم الأول، ولذا جندوا جنودهم لإبعاد القرآن عن حكم المسلمين وقد نجحوا وللأسف.
إذا هذا سبب رئيسي وهو فصل الدين عن الدولة، وكثير من المسلمين هداهم الله لا يعون ولا يدركون خطورة هذا الأمر وهو خطر داهم وشر قائم
والمسلمون الآن في مشارق الأرض ومغاربها-إلا من عصم الله- يُحكمون بقوانين الشرق والغرب، بقوانين اليهود والنصارى والوثنيين، ولكنهم لا يخضعون لحكم الله.
ومن تخلى عن حُكم الله تخلى الله عنه.
(أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض)
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)
ظالم فاسق كافر من لم يحكم بما أنزل الله.
الهزيمة النفسية أمام الأعداء.
وهذه القضية من اخطر ما أدى بنا إلى ما نحن فيه وهي قضية مهمة جدا.
يقول الأمير شكيب أرسلان:(94/1)
(من أعظم أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير فقدهم كل ثقة بأنفسهم وهو من أشد الأمراض الاجتماعية، وأخبث الآفات الروحية، لا يتسلط هذا الداء على أمة إلا ساقها إلى الفناء).
لا يتسلط هذا الداء وهو الهزيمة النفسية على أمة إلا ساقها إلى الفناء.
سُئل علي أبن أبي طالب رضي الله عنه، قيل له:
(أنك إذا هجمت على عدوك نجدك تكبر تكبيرة تنخلع منها القلوب، فما سر ذلك ؟
وهذا علي ابن أبي طالب وهو الشجاع المقدام كما تعلمون.
قال إنني أفعل ذلك لأنني أقدم على عدوي وأنا مقتنع بأنني سأقتله – أي عندي من الثقة بالله ثم بنفسي أنني سأقتله، وهو لديه ثقة بأنني سأقتله فأكون أنا ونفسه عليه).
يقول علي ابن أبي طالب فأكون أنا ونفسه عليه، وبهذا أهزمه ويسقط صريعا.
الهزيمة النفسية –أيها الأخوة- مرض خطير أشد فتكا من مرض السرطان، والمسلمون الآن أصيبوا بالهزيمة النفسية، وما دخل علينا الأعداء إلا بعدما أصبنا بالهزيمة النفسية.
أصبح لدى كثير من المسلمين قناعة بأنهم لن يهزموا عدوهم، كيف نهزم أوربا؟
كيف نهزم أمريكا؟
لديها من السلاح ولديها من العتاد، ولديها ولديها ولديها، فأصبحوا خير أبواق لأوربا وأمريكا ولروسيا ولغيرها من الشرق والغرب.
إذا من أولى أسباب الهزيمة التي وصلنا إليها وتخلف المسلمين هي الهزيمة النفسية التي حلت بنا، والهزيمة النفسية مرض فتاك حكى الله ذك في سورة الحشر:
(فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب)
وقد جعل الله من خصائص هذه الأمة كما بين المصطفى صلى الله عليه وسلم أنها تُنصر بالرعب مسيرة شهر، إذاً، إذا أحس العدو بالرعب فهذا أولى علامات السقوط.
ومن الأسباب التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه:
الجهل وتخلف المسلمين في العلوم الإسلامية والعلوم المادية.
المسلمون أو كثير من المسلمين جهلة في دينهم جهلة في دنياهم ، وهذا سبب أساسي ورئيسي للمرض الذي نعيش فيه، ولداء الذي وصلنا إليه.
إذا –أيها الأحباب- الجهل الذي أصابنا، والجهل الذي حل بأمتنا أودى بنا إلى ما نعيشه الآن، ونتجرع كؤوس الذل والهوان اتجاه ذلك و تبعا لذلك.
ومن الأسباب التي أوصلت المسلمين إلى ما وصلوا إليه:
الإعجاب بالغرب واعتباره القدوة الصالحة.
نعم –أيها الأخوة- سأحاول أن أضع النقاط على الحروف، الإعجاب بالغرب إعجاب يبينه البعض ويبيته البعض الآخر، حتى وصل الإعجاب بالغرب أن يكون الذهاب إلى بلادهم أمنية يتمناها كثير من المسلمين، فيفتخر أنه زار أمريكا، أو زار أوربا أو زار الشرق أو الغرب.
لما يفتخر ؟
هذه هزيمة نفسية قاتلة، وإعجاب بالغرب وبما عنده، وكذلك يعتبره هو القدوة الصالحة في هذا المجال.
اعتبارنا للغرب بأنه هو القدوة أوصل المسلمين إلى ما وصلوا إليه.
كثير من المسلمين يبحثون عن العلم، يقولون في أوربا وأمريكا، لا أقول العلم الذي لا يجدونه في بلادهم، بل بعضهم ذهب ليدرس الشريعة الإسلامية في بريطانيا.
نعم وهذا موجود –أيها الأخوة- يشعر بمركب نقص إذا قال أنني أحمل شهادة من بلد إسلامي، ولكنه يرفع رأسه عاليا إذا حمل شهادة من أوربا أو أمريكا.
لما، ما السبب وما السر –أيها الأحباب- ؟
وهذه لن أقف أمامها طويلا لأنها جلية واضحة، إعجاب كثير من المسلمين بالغرب والسير في ركابهم، واعتبارهم القدوة الصالحة أوصلهم إلى ما أوصلهم.
ويكفي أننا وصلنا من الهوان والضعف إلى أنه إن تبرع نصراني فاسق كافر من الغرب بتوقيعه لأحدنا أعتبرها كنز لا يفنى.
والله مهزلة ما بعدها مهزلة، ومأساة ما بعدها مأساة أن يتسابق الناس لكافر نصراني أو يهودي من أجل أن يوقع له على ورقة معه ويعتبر هذا أهم من مخطوطات وكنوز المسلمين جميعا.
نعم –أيها الأحباب- إعجابنا بالغرب، أو إعجاب كثير منا بالغرب أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، حتى أننا رأينا من صور الإعجاب أنه إذا اشتهر رجل منهم بأحد أوجه الفساد كالغناء أو الرقص أو لعب الكرة أو نحوها وجدنا من يقلده بعد ساعات.
في العام الماضي كان هناك مكان ما يتسابق فيه الشباب، من أجل ماذا ؟
أيهم يستطيع أن يقلد رقصة (مايكل جاكسون).
ويسأل أحد شباب المسلمين من هو مثلك الأعلى ؟ ويجب أن يكون مثله الأعلى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن اسمعوا ماذا قال:
قال إن مثلي الأعلى هو لاعب الكرة (ماردونا).
نعم هذه حقائق تنطق بين أظهرنا وبين جنباتنا، هذا إعجاب في الغرب أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، أعتبرهم الكثير أنهم هم القدوة الصالحة.
حتى أن البعض يخجل أن يلبس لباسه العادي إذا خرج إلى أوربا، قد يكون البعض لا يلبس لباسه خوفا أو للأمن أو غيره وهذا قد يعذر، ولكن كثيرا منهم لا، إنما هو من باب الإعجاب.
ولذلك تجده لا يلبس أي لباس، ولو كان القصد الخوف أو الاحتياط للأمن للبس أي لباس يخالف زيّه أو شكله، ولكنه يبحث عن افضل ما أخرجت الموضات الفرنسية أو الموضات الأوربية. إعجاب وتقليد.
كذلك من الأسباب – أيها الأخوة – التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه:(94/2)
الإفساد بأسم الإصلاح والتطور.
وذلك تضليل للأمة وهذا ما يحكيه سبحانه وتعالى عن المنافقين ويقول عنهم:
(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون).
بأسم الإصلاح –أيها الأخوة- انتزعت أهم خصائص مؤسسات الأمة الإسلامية.
الأزهر بعراقته وبجدارته وبقوته بأسم الإصلاح وبأسم التطوير وبأسم التطور ضاع الأزهر إلا ما شاء الله.
بأسم الإصلاح وبأسم التطور ضاعت الجامعة الزيتونية وهي من أعرق الجامعات الإسلامية والركب يسير على هذا المنوال وعلى هذا الأمر.
بأسم التطور، بأسم الحضارة، بأسم المدنية تنتهك حرمات الله سبحانه وتعالى.
ويضرب بأمر الله عرض الحائط بأسم الإصلاح والتطور واللحاق بالركب، وبئس الركب.
نجد أيضا أن من الأسباب أيضا:
اجتماع كلمة الأعداء علينا مع تفرقهم وتشتتهم.
(تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى). ولكنهم يجتمعون علينا.
الخلاف بين روسيا وأمريكا عريق قديم وسيظل طالما استمروا على وضعهم وعلى مبادئهم، ولكنهم يتفقون على ما يكون ضد المسلمين، هذه قضية لا يناقشون فيها أبدا.
ونحن نختلف في كل شيء إلا في الولاء لأمريكا وأوربا وروسيا إلا من عصم الله. هذا يلجئ إلى ذاك، وهذا يلجئ إلى ذاك إلا من عصم الله.
إذا قضية اجتماع كلمة الأعداء مع تفرقهم واختلاف مصالحهم، يختلفون ويتقاتلون ويتناحرون إلا في شيء واحد ما يخص المسلمين فهم يتفقون على ما يهيننا ويذلنا وينزع الكلمة من بيننا.
من الأسباب: الجهود التي بذلها المستشرقون والمستغربون أيضا.
المستشرقون أمرهم معروف ولكن من هم المستغربون –أيها الأخوة- ؟
المستغربون هم الذين ذهبوا إلى أوربا وتعلموا في أوربا وأمريكا وغيرها، وجاءوا ليبثوا ولينشروا بيننا ما تعلموه هناك كُمثل لا تقبل النقاش ولا الجدل.
يرجع أمثال طه حسين ويقول:
(علينا أن نلحق بفرنسا بقضها وقضيضها حتى في شكل اللباس).
وهو زعيم المستغربين ولا شك وأمثاله كثير في السابق واللاحق، هؤلاء المستغربون بعد نالوا الشهادات العالية من هنا وهناك جاءوا إلى بلاد المسلمين واحتلوا فيها القيادة والمناصب والريادة وقادوا المسلمين إلى التأخر والتقهقر.
هؤلاء هم المستغربون –أيها الأحباب- وهم يعيشون بيننا ويتكلمون بلغتنا، بل إن بعضهم قد يدخل إلى مساجدنا، وولله أن هؤلاء أشد خطرا من المستشرقين.
نعم تجد أن أسمه محمد وقد يكون أبوه عبد الله، والله بريء منه، ورسوله برئ منه، وإن تسمى بهذا الاسم بأنه محمد وعبد لله، ولكنه حرب وعدو لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء هم المستغربون المفتونون بحضارة الغرب، وحينما أقول حضارة فكما سموها وإلا فيه بالحقيقة ليست بحضارة، يتنزه هذا المقام، وأنزه أسماعكم بأن أعطيها ما تستحق من وصف، ولكن في قلوبهم مرض فزادهم الله مرض.
هؤلاء هم من الأسباب الرئيسية التي أوصلتنا إلى الوضع الذي نعيشه –أيها الأحباب-
انتبهوا إلى هؤلاء، ضعوا أعينكم على هؤلاء وانظروا ماذا يفعلون بأمتنا وماذا يحيكون وماذا يتآمرون.
ونستمر مع الأسباب ونجد أن من الأسباب الرئيسية التي أوصلتنا إلى هذا الوضع:
ضعف القدوات لدى العلماء والقادة.
في السابق –أيها الأحباب- كان العلماء وكان القادة هم القدوة التي يقتدى بهم ولكن هذا الجانب ضعف في عصرنا الحاضر، فلم يعد كثير من العلماء أهلا لئن يقتدى بهم.
فقدوا مقومات القدوة، نعم فقدوا مقومات القدوة الصالحة، ولذلك وبسبب ضعف القدوة لدى هؤلاء اقتدى الناس بالمنحرفين.
(إذا انفصل العلماء عن الناس، حل بالأمة الهوان).
قد لا تدركون هذا في مثل هذا البلد، ولكني أدركته في بلاد أخرى –أيها الأحباب- ذهبت إلى بعض البلاد الإسلامية وحين تسألهم أين علمائكم ؟
ويا للأسف تجد أشباه علماء لا يقتدى بهم، بل هم يقودون الناس إلى جهنم والعياذ بالله. لماذا ؟
لأنك تجد هؤلاء قد يحملون شهادات عالية ولكنهم لا يلتزمون بشريعة الله وإن تسلموا المناصب بأسم العلماء، وبأسم التوجيه وتجد أن بعضهم وهم من المنتسبين إلى العلماء مفتون بالغرب.
وقد رأيت بعضهم يحارب سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ويحارب سلف هذه الأمة ويريد أن يمسك بالعصا من الوسط.
إذا ضعف القدوة لدى العلماء، أو جانب القدوة لدى العلماء، بحث الناس عن القدوة فلم يجدوها فاقتدوا بالشرق وبالغرب وبمن هب ودب. هذا سبب رئيسي.
كذلك من الأسباب وهو سبب مؤلم:
خيانة بعض المسلمين لدينهم ولأمتهم.
نعم أصبحوا عملاء للشرق والغرب، عملاء لأعداء الله فخانوا الله وخانوا الرسول وخانوا أمانتهم وخانوا دينهم.
من السباب التي نراها:
نشوء العصبيات والقبليات.
العرب -أيها الأخوة- أمة مشتتة مفرقة، جاء الإسلام وهي هكذا، بما اجتمعت ؟
هل اجتمعت تحت لواء قريش ؟ لا.
هل اجتمعوا بأسم مكة أو الحجاز ؟ لا.
إنما جمعتهم ووحدتهم كلمة الإسلام، كلمة لا إلى إلا الله، ودان الشرق والغرب لهذه الكلمة بعد العصبيات وبعد التفرق.(94/3)
في المدينة وهي قرية صغيرة كانت تسمى يثرب، الأوس والخزرج وكل واحد منهم كان يركن إلى أحد اليهود، وجاء الإسلام فقضى على هذه الأشياء.
و رأى العدو أن من افضل الوسائل التي تبعدنا عن منهجنا وعن ديننا أن ينشى فينا العصبيات، نسمع القومية العربية، القومية التركية، القومية الكردية.
بعد أن فرقوهم إلى قوميات ووجدوا أنهم يمكن أن يجتمعوا في ظل قومية واحدة، أي أنهم استطاعوا أن يفصلوا بين العربي والعجمي، بين العربي والتركي، بين العربي والهندي، بين العربي والأفريقي.
قالوا لا بل نفصلهم اشد من ذلك ولنمزقهم أشتاتا فجاءوا بالوطنية حتى تفرق الغرب أيضا إلى بلاد كل منهم ينتسب إلى وطنه.
ثم جاءوا بالإقليمية، أهل الوطن الواحد يتفرقون، هذا من وطن كذا وهذا من بلد كذا.
عصبيات وإقليميات وقوميات ووطنيات مزقوا فيها شمل أمتنا ونحن الذين نحمل اللواء مع كل أسف.
أو أقول كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام هم الذين يحملون هذا الأمر.
فاتقوا اله وانتبهوا إلى هذا الأمر، وهو سر من أسرار الوضع الذي وصلنا إليه ولا زلنا أو لا زال كثير من المسلمين ينحدرون في هذا الطريق ولم يتوقفوا بعد حتى قال قائلهم فض فوه:
وطن لو شُغلت بالخلد عنه…نازعتني إليه بالخلد نفسي فضل وطنه على الجنة، وبئس الرجل هو، ولن يكون الأول ولن يكون الأخير.
إذا قضية التفريق بأسم الوطنيات والقوميات والعصبيات من السباب الرئيسية التي أوصلتنا إلى هذا الوضع الذي نحن فيه.
وآخر ما أختم به هذه الأسباب:
الجبن والخوف وحب الدنيا وكراهية الموت.
هلع وخوف أدى بنا إلى ما نحن فيه.
هذه في ما أرى أبرز السباب التي أوصلت المسلمين إلى الوضع المتخلف والمتأخر الذي استطاع –وكما قلت لكم- أن يعبر عنه الشاعر عندما قال:
كم صرفتنا يد كنا نصرفها…وبات يملكنا شعب ملكناه.
…………………………………………………..
وأنتقل بعد ذلك إلى:
ما هي الآثار التي نتجت من تلقاء ذلك ؟ الآثار كثيرة و أوجزها اغتناما للوقت:
الأثر الأول: الانحراف الفكري.
ويتمثل هذا بالإلحاد وانتشار المذاهب الهدامة، وما كنا نرى انتشار المذاهب الهدامة المنحرفة من شيوعية وغيرها إلا في ظل هذا الوضع المتخلف الذي نعيش فيه، وهذا أثر من آثار الوضع القائم.
ثانيا: فساد بعض مناهج التعليم.
فساد بعض مناهج التعليم من آثار التخلف الفكري، وتختلف البلاد في ذلك من بلد إلى بلد بمستوى هذا الفساد، فبعضها لا يعترف بالشريعة الإسلامية أو بمناهج التربية الإسلامية إطلاقا.
وبعضها يضعها في منزلة كمناهج النصارى واليهود، وبعضهم يأخذ منها ويزدادون وينقصون على حسب اختلاف القائمين على الأمر.
إنما الانحراف في مناهج التعليم، وفساد بعض مناهج التعليم أثر من آثار التخلف الذي نحن فيه، وقلت لكم أن من ابرز القادة الذين حملوا لواء الانحراف الفكري طه حسين وأمثال طه حسين.
ثالثا: الخلل الاجتماعي.
والخلل الاجتماعي يتمثل في عدة صور، الأسرة وكل واحد منكم هو طبيب يجيب على نفسه، هل الأسرة الآن كما كانت قبل عشرين سنة أو ثلاثين سنة ؟
لا، أوضاع الأسرة مؤلمة الآن –أيها الأخوة-
العلاقة بين الزوج وزوجته.
العلاقة بين الابن وأبيه.
العلاقة بين الأخ وأخيه.
أوضاع الأسر الآن تعاني من مرض عضال.
ولو ذهبنا إلى مراكز التربية الاجتماعية، ولو ذهبنا إلى المستشفيات، ولو ذهبنا إلى المحاكم لوجدنا كم تعاني الأسر من قلق ومن مرض.
وكذلك من اوجه الخلل الاجتماعي المرأة.
استخدموا المرأة سلاحا فتاكا حتى أوصلوا نساء المسلمين إلى وضع لا نحسد عليه أبدا.
سبحان الله –أيها الأخوة- الإسلام صان المرأة وأكرم المرأة.
ونعرف أيضا أن العربي حتى قبل الإسلام كانت لديه حمية خاصة اتجاه المرأة، ولكن في عصرنا الحاضر لا دين ولا حمية.
المرأة هي السيدة المطاعة، وجهوا لها السهام واستعملوها واستغلوها أبشع استغلال.
يكفي أننا نرى أكثر من ستين مجلة تصدر أسبوعيا وعلى كل غلاف مجلة امرأة، ستين مجلة تقريبا بعضها يصدر أسبوعيا وبعضها يصدر شهريا وبعضها فصليا.
ستين مجلة، هذا ما نراه هنا والكثير الكثير يمنع.
سبحان الله، إذا كم يخرج في السنة من وجه امرأة جميلة على غلاف المجلات ؟
انظروا إلى الدعايات، ولا أقول لكم أمرا، ولكن انظروا ولو بعقولكم لا بأبصاركم أي شيء تجدوا ؟
أن المرأة هي المستخدمة للدعاية.
حتى قلت في مناسبة سابقة حتى الحراثة استخدمت صورة المرأة لها.
فهل يقصدون بالحراثة جمالها أو قوتها ؟
لم يرى في الحراثة جمال، وإن كان في قوة المرأة فهي ضعيفة ولا خير في هذه الحراثة.
لكنه الاستغلال البشع المقيت.
نعم –أيها الأخوة- استخدموا المرأة بأسم الحرية.
بأسم التمدن.
بأسم الخروج على الرجل أو مساواة الرجل.
وقاد هذه المعركة ومن روادها سلامه موسى وهدى شعراوي جازهم الله بما يستحقون ومن تبعهم.(94/4)
وهذا خطيرُ خطير، فانتبهوا –أيها الأحباب- إلى المؤامرات التي تحاك لنسائكم، أوضاع نسائنا لا تسر، أو كثير من نساءنا –حتى لا أبالغ- لا تسر أيها الأخوة.
أوضاعها مؤلمة، القضايا التي تحدث، القضايا الاجتماعية حول المرأة كثيرة وتسمعونها وتعرفون كثيرا منها، هذا من صور الخلل الاجتماعي ومن آثار التخلف الذي نعيش فيه.
كذلك من آثار الخلل الاجتماعي، الانحراف الخلقي.
الآن –أيها الأخوة- عصمنا الله وإياكم والمسلمين جميعا هناك انحراف خلقي لدى كثير من شباب المسلمين، بل أقول لدى بعض شياب المسلمين.
وينقل لنا هذا ممن يذهب إلى الشرق وإلى الغرب، لم يكن الانحراف مقتصرا فقط على الشباب، بل إنه تعداهم إلى من يزيد عمره عن الستين والعياذ بالله.
لابد أن نشخص المرض حتى نعرف العلاج.
ما الذي أصابنا، ما الذي دهانا أيها الأحباب؟
إنه اثر من آثار تأخرنا وتخلفنا وبعدنا عن كتاب الله سبحانه وتعالى
كذلك من آثار الفساد ومن آثار التأخر:
رابعا: الفساد الاقتصادي
وما عرفنا النظام الرأس مالي أو النظام الغربي والنظام الاشتراكي إلا متى ؟ إلا بعد تخلفنا.
لدينا إسلامنا بنظامه الاقتصادي الإسلامي الغني بمقوماته، ولكن الكثير من العالم الإسلامي الآن بين من يعمل بالرأس مالية وبين من يعمل بالاشتراكية، وقليل من نقول أنه يعمل بالنظام الاقتصادي الإسلامي.
ما عرفنا الاشتراكية وما عرفنا الرأس مالية إلا بعد هذا العصر المزري عصر التخلف.
إذا التخلف الاقتصادي أثر من آثار تخلفنا، ومن مظاهر هذا التخلف أو هذا الخلل:
- استغلال ثروات الأمة من قبل الكفار.
- استثمار أموال المسلمين في بلاد النصارى.
كثير من المسلمين الآن أين يستثمرون أموالهم في بلاد النصارى، لا يثقون أن يستثمرونها عند أهلهم أو في بلدان المسلمين ، لا.
- ثم أيضا أهم المشاريع التنموية التي تقام في بلاد المسلمين تقام تحت ظل الشركات الغربية والشرقية.
- أين أرصدتنا؟ أرصدتنا عند أعدائنا يتمتعون بها حتى قالت إحدى الصحف الأوربية:
(لو سحب العرب أرصدتهم من بنوك أوربا وأمريكا لانهارت أوربا وأمريكا خلال ساعات).
إذا هم يشتغلون بأموالنا وهذا خلل اقتصادي ما منشأه ؟
منشأه تخلفنا.
من الآثار التي وصلنا إليها مع كل أسف:
خامسا: عدم الهيبة أمام الأعداء.
أصبحنا غثاء كغثاء السيل، لم يعد المسلم كما كان في السابق له الهيبة وله المنعة وله القوة.
لا، أصبح يتندر به ويضحك عليه رمزا للسخرية والاستهزاء والضعف.
نعم سحبت المهابة من قلوب أعدائنا نحونا لأننا لم نخف الله تعالى ولم نتقه ولم نطعه.
كذلك من الآثار –أيها الأخوة- ولعله أثر هام:
سادسا: التحول من السيادة إلى مؤخرة الأمم.
الآن نحنن نكرر عبارات وضعت لنا من قبل أعدائنا، التحول من السيادة إلى التبعية وإلى الخلف فنكرر دائما:
العالم الثالث والعالم النامي.
من سمانا العالم بالعالم الثالث أو العالم النامي ؟
هل سمانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
سمانا أعدائنا ثم نأتي ندرس هذا على أنها حقائق يجب أن يحفظها أبنائنا.
أي رضينا بهذه المنزلة التي أعطيت لنا من قبل أعدائنا، هذا هوان وضعف وذلة .
ومن الآثار أيضا أيها الأخوة:
سابعا: اليأس والقنوط.
ثم أذكر أيضا ما يتبع هذا الأمر ومنه اللامبالاة والتبلد وعدم الإحساس بمشكلات الأمة، وهذا أثر من الآثار.
وأختم الآثار بهذه النقطة من الآثار التي وقعنا فيها وانتبهوا لها لأنها تعني كل واحد منا:
ثامنا: انشغال الفرد بمستقبله عن مستقبل أمته.
من الآثار الرهيبة انشغال الفرد بمستقبله ومستقبل حياته الخاصة عن مستقبل أمته.
سئُل رجل وليس عاميا – أيها الأخوة-
قيل له ما هي أمنيتك العظمى ؟ قال أن أملك بيتا أعيش فيه.
سبحان الله، وأين أمنيته لتحرير بلاد المسلمين ؟
أين أمنيته للخروج من الواقع الذي نحن فيه ؟
فمن الآثار أن كثير من المسلمين انشغل بمستقبله يشتغل الليل والنهار بمستقبله الخاص ونسي مستقبل أمته أو لم يبالي بمستقبل أمته.
………………………………………
بعد هذا يسألني سائل ويقول:
أنت ذكرت الأسباب وذكرت الآثار، ولكن ما هو العلاج؟ نعترف بهذه الأمراض، نعترف بهذا الواقع ولكن ما هو العلاج، أيضا سأختصر ، وإلا كل موضوع يحتاج إلى محاضرة –أيها الأخوة-.
أول: العودة الصادقة إلى الإسلام.
العودة الصادقة إلى الله تعالى وتحكيم شريعة الإسلام، ووالله لا حياة لنا ولا مجد لنا ولا عز لنا ولا فخر لنا إلا بالعودة إلى الله وتحكيم شريعة الله.
ومتى ما تخلينا عن ذلك تخلى الله عنا: (إن تنصروا الله ينصركم).
ولكن في آية أخرى: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم).
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
غيروا ما بأنفسكم إلى الأسلم والحسن ولأحوط حتى يغير الله وضعنا.
ثانيا: عليكم بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فهذا من وسائل العلاج، أسألكم هل ربينا أبناءنا على الجهاد ؟
هل ربيناهم على حب الجهاد؟(94/5)
هل ربيناهم على الاستعداد للموت في سبيل الله ؟
أتمنى ذلك، ولكن أدع الإجابة لكل واحد منكم، لأننا حين تركنا الجهاد وأخذنا بأذناب البقر نلهث وراء الدنيا ونركض حل بنا ما حل بنا.
(ولن يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به حال أولها)
كما قال صلى الله عليه وسلم. نعم، بما صلح أول هذه الأمة، بالجهاد، ولذا أقول لكم –أيها الأخوة- ربوا أبناءكم على حب الجهاد في سبيل الله، والموت في سبيل الله.
أعداءنا يحيكون لنا المؤامرات ونخشى أن ينقضوا علينا بين عشية وضحاها، أحاط بنا الأعداء إحاطة السوار بالمعصم، في الشرق أعداء في الجنوب أعداء في الشمال أعداء في الغرب أعداء، أين المفر ؟
(ففروا إلى الله).
ربوا أبناءكم على الجهاد، ربوهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربوهم على الرجولة أيها الأخوة، كثير من شبابنا مائع لا يتحمل حتى لفحة الهواء ولا ضربت الشمس.
هل هؤلاء على استعداد ليواجهوا عدوهم ؟
رأيت صورة في ملعب من الملاعب كتب تحتها: أن في الملعب أكثر من أربعين ألف متفرج.
فتسألت: لو نادى منادي الجهاد حيا على الجهاد.
كم سينطلق من هؤلاء الذين ناداهم منادي الشيطان فهرعوا له وأجابوا ؟؟
أتمنى أن هؤلاء ينتقلون من هنا إلى هناك.
ولكن سنن الله الكونية لا تختلف أيها الأخوة، إن بقي أولادنا على أساليب تربيتهم الآن في اللهو والعبث والسهر وحب الذات، فلا تلوموا إلا أنفسكم أيها الأحباب، هذه سنن الله لا تتغير.
عودوا إلى الله وربوا أبناءكم على الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كذلك من وسائل العلاج :
ثالثا: العزة والاستقلال والتخلص من الهزيمة النفسية.
والهزيمة النفسية كما قلت لكم منذ قليل أنها مرض فتاك إن لم نتخلص منه فستحل بنا العقوبة تلو العقوبة –أيها الأحباب-
لابد من العزة، لا بد من الشعور بالعزة وأن أعداءنا هم الأذلة، العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
كذلك من وسائل العلاج:
رابعا: اجتماع كلمة المسلمين، وتعاونهم في ما بينهم.
وهذه لن أعلق عليها فهي واضحة جلية.
خامسا: عودة دور العلماء في المجتمع وتسلمهم ذروة القيادة.
أطالب وأكد على ذلك، التفوا حول علمائكم –أيها الأخوة- التقوا بعلمائكم فنحن نجد هوة كبيرة بين علماءنا وبين أبناءنا، لما ؟
لا بد أن يرجع للعلماء دورهم وقيادتهم ومهابتهم وقيمتهم، ودوركم في هذا المجال أن تتجهوا وتوجهوا أبناءكم إلى علماءكم، يتعلموا منهم ويستفيدوا منهم، ويحيطوهم بمشكلات الأمة.
بسبب هذا الانفصال بعض علماءنا قد لا يحسون أو لا يدركون المشكلات التي تعيشها الأمة.
العلماء لهم دورهم في الأمة، فلابد من عودة دور العلماء، العلماء الصادقين المخلصين الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم.
سادسا: إصلاح مناهج التعليم، وتطهير وسائل الإعلام من الفساد.
من أهم وسائل العلاج إصلاح مناهج التعليم ووسائل التعليم، وتطهير وسائل الإعلام من الفساد، وسائل إعلام المسلمين مليئة بالفساد، مليئة بالانحطاط من صور النساء ومن غيرها، فلابد من عودة صادقة.
وهنا أطالبكم بالنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إذا رأيتم منكرا في صحيفة أو في جهاز مسموع أو مرئي، هل كل واحد منكم يكتب فيها ينبه ويخوف هؤلاء المسؤولين من الله سبحانه وتعالى ؟.
أم نحن استكنا واستسلمنا ويأسنا وقنطنا ؟
كل واحد منكم مسؤول، كل واحد منكم على ثغرة اللهَ الله أن يؤتى الإسلام من قبله.
أيضا من وسائل العلاج:
سابعا: التربية الصالحة والاهتمام بالأسرة.
وأقف وقفة يسيرة عند هذه النقطة فأقول –أيها الأحباب- اهتموا بأسركم، عودوا إلى أسركم، وكما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، الرجل راع ومسؤول عن رعيته أو عن أهل بيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيته، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
صدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، بدأ بالأمير وانتهى بالخادم مرورا بالأب ومرورا بالأم.
الأمير مسؤول، القائد الأول مسؤول أن يرعى رعيته ضمن منهج الله ، وضمن حدود الله سبحانه وتعالى.
الأب مسؤول.
والأم مسؤولة.
الأم مدرسة إذا أعددتها…أعدت شعبا طيب الأعراق.
نريد الأم الصالحة، نريد الأم المخلصة، نريد الأم الصادقة التي تضحي في سبيل دينها وفي سبيل عقيدتها، لا في سبيل ما يريدها أعدائها منها من الأزياء والخروج إلى الشوارع والمناسبات وتضييع بيتها مع الخدم والسائقين.
انتبهوا إلى أسركم خوفا من أن يصيبها الداء، وقد أصاب الداء بعضها وأنتم لا تعلمون.
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة…..وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم.
ليعود للأب وللأم دوره في أسرته، هذا من أهم وسائل العلاج من الوضع الذي نحن فيه. فإذا كل واحد منكم أخرج لنا من بيته رجالا، فبعد أيام وبعد سنوات –ولا نستعجل العلاج:
- سيخرج لنا جيل –إن شاء الله- يحمل الريادة والقيادة والسيادة.(94/6)
أنتم مسؤولون عن ما في بيوتكم، أنتم مسؤولون عن من تحت أيديكم.
ليست مسئوليتكم أن تأمنوا لهم الأكل والشرب والملبس.
لا، هذا مطلب، ولكن أهم من ذلك أن تربوهم وفق منهج الله سبحانه وتعالى.
لما تخلينا عن مسئوليتنا، لما تخلينا عن قيادتنا وسيادتنا وريادتنا في بيوتنا ؟
لما تركناها لغيرنا عن طريق آلة اللهو.
عن طريق الصحف.
عن طريق الخدم والحشم والأصدقاء؟
وأصبح الأب متفرجا على مسرحية تقام في بيته، ونار تلتهب في بيته ولا يطفئها.
عودوا إلى الله، خافوا من الله قبل أن تحل بكم عقوبة لا ندري ما هي نتيجتها.
من الذين يمشون ويسرحون في شوارعنا ؟
هل هم أبناء النصارى ؟
لا، إنهم أبناءنا، أين دور آبائهم ؟ أين دور أمهاتهم ؟
لماذا أيها الأخوة ؟
لماذا نحمل التبعة على غيرنا ونحن مسؤولون عن هذا الأمر ؟ أنتم المسؤولون –أيها الأخوة- فعودوا إلى الله.
إذا الاهتمام بالأسرة والتربية الصالحة من أولى الوسائل التي تعيد إلينا مجدنا وعزنا وفخرنا وقيادتنا.
ثامنا: وأخيرا لا بد من تطهير المجتمع ووقاية المجتمع من وسائل الفساد والإفساد.
مجتمعنا ملئ بوسائل الفساد والإفساد فلابد من التطهير والتنقية.
وبهذا أيها الأخوة أقول لكم:
هذه أهم الأسباب التي أراها ولابد منها حتى نعود إلى عزنا وإلى مجدنا وإلى سؤددنا.
ولابد أن نتذكر قوله تعالى:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمر ون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتأمنون بالله)
وقوله تعالى:
(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورجمة الله وبركاته.(94/7)
أسباب ذلة المسلمين
1497
أمراض القلوب
محمد عبد الكريم
الخرطوم
غير محدد
ملخص الخطبة
1- أسباب هزيمة أحد كما ذكرها القرآن. 2- الهزيمة سببها الذنب والضعف. 3- تعليق بعض المسلمين هزائمنا وذلنا على مشاجب العدو الخارجي. 4- أهمية القلب ودوره في توجيه الجوارح. 5- الحسد أحد أمراض قلوبنا. 6- ذكر بعض منكرات بيوتنا وتفريطنا فيها. 7- ذكر بعض منكرات المجتمع.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله, وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
اللهم إنا نسألك العافية في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا... اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا... اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك اللهم من أن نغتال من تحتنا.
اللهم أحينا مسلمين وأمتنا على الإسلام يا رب العالمين... اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير ضالين ولا مضلين.
أما بعد:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ـ: أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون .
هذه الآيات من سورة آل عمران في الحديث عن غزوة أحد التي خاضها الصحابة مع النبي ضد المشركين, هذه المعركة تحدث الله عنها في هذه السورة كثيرًا, في ثمانين آية من هذه السورة يتكلم الله تعالى عن هذه الغزوة ـ عن غزوة أحد الغزوة الثانية في الإسلام ـ هذه الغزوة كان فيها خير البشر الرسول قائدًا, وكان فيها الصحابة الكرام خير من اصطفاهم الله تعالى لصحبة نبيه كانوا فيها جنودًا أوفياء, مع ذلك كله أصابهم القرح, هزموا فيها بعد أن كانوا قد انتصروا في بدايتها, فلما حدثت الهزيمة في نهايتها تساءل بعض الناس وقالوا: أنّى هذا فأنزل الله تعالى تلك الآية وهو قوله تعالى: أولمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا أي كيف وقع هذا؟ كيف يكون هذا حالنا وفينا رسول الله ؟ وفينا خاتم الأنبياء والمرسلين؟ كيف يكون هذا حالنا وفينا الصديقون "أنى هذا" فجاء الجواب من الله:
أولاً: قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير .
ثانيًا: وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين .
ثالثًا: وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالو قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا .
وأركز في هذه الخطبة وربما في خطب تالية أيضًا عن السبب الأول من أسباب الهزيمة, وهي قوله تعالى: قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم ما المراد بهذه الآية؟
قال بعض المفسرين ـ استنادًا إلى ما أخرجه ابن أبي حاتم في كتاب التفسير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ: أن المسلمين لمّا أخذوا الفداء في غزوة بدر أصابهم الله تعالى في غزوة أحد بهذا المصاب, فكان جزاء ذلك في غزوة أحد أن ذهب سبعون من المسلمين قتلوا في مقابل السبعين الذين افتدوا في غزوة بدر, والله تعالى قال: ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة أي: كان المفروض من المسلمين في أول وقعة في الإسلام أن يُعمِلِوا السيف في رقاب المشركين الذين في أيديهم وألا يفتدوا, ليعلم الكفار أن لا هوادة في قلوب المسلمين عليهم ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة هذا قول.
القول الآخر في الآية ـ وهو ما ذهب إليه ابن جرير رحمه الله تعالى, ومن قبله الربيع ابن أنس وغيرهما ـ: أن المراد من قوله تعالى: قل هو من عند أنفسكم أي بسبب عصيانكم للرسول لما أمركم أن لا تبرحوا من أماكنكم التي أمركم بها, فأبيتم إلا أن تنزلوا عن مواطنكم فبسبب عصيانكم لرسول الله أصابكم هذا. وما القصة في هذا؟(95/1)
القصة أن الرسول لمّا قدم إلى أرض أحد جعل الرماة ومعهم النبل على الجبل, هذا الجبل هو عن ميمنة المسلمين حتى لا يقترب المشركون منهم فتكون ظهورهم محمية بجبل أحد وتكون ميمنتهم محمية بهؤلاء الرماة, وقال لهم الرسول : لا تنزلوا ولو رأيتمونا انتصرنا وغنمنا فلا تشركونا, ولو رأيتمونا دخلنا المدينة فلا تنزلوا, فكان هذا أمرًا صارمًا من رسول الله لا ينبغي أن يعصى, فلما احتدم القتال ودارت رحى المعركة انتصر المسلمون في البداية وفر المشركون على أدبارهم, فأخذ بعض المسلمين يلتفون حول الغنائم, فلما رأى الرماة ذلك قالوا: لنشترك مع إخواننا في المغنم, فأرادوا النزول فنصحهم البعض فأبوا إلا أن ينزلوا, فلما نزلوا جاء المشركون فأخذوا مواقع الرماة من المسلمين فدخل المسلمون بعضهم في بعض وقتل بعضهم بعضًا وشج النبي وأدمي وكُسرت رباعيته, وهو خير الخلق عليه الصلاة والسلام, فقال المسلمون: "أنى هذا" كيف حصل هذا؟ فوضع الله أيديهم على السبب, على العلة التي من أجلها هزموا, هذه العلة هي من عند أنفسكم, ويفسر هذه الآية قوله تعالى أيضًا في سورة الشورى في الآية الثلاثين: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير , وبينهما كذلك قوله تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم يقول الحافظ ابن كثير: يبين الله تعالى في هذه الآية عدله في حكمته بأنه " لا يغير نعمة" فيزيلها عنهم ويحولها إلى غيرهم إلا بعد أن يغيروا ما بأنفسهم, نريد أن نقف عند هذه الجزء من الآية, لأنها هي السبب في مصاب المسلمين وهذا الموضوع له خطورته الكبيرة, فينبغي للمسلمين فرادى وجماعات أن يضعوا أيديهم على هذا السبب؛ لأنه ما من مصيبة تحدث إلا بسبب أنفسنا, وهذه الآية أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم يبين لنا بأن أولى الأسباب للهزيمة في المعارك هو ضعف النفس, نعم هناك أسباب خارجية, هناك مكائد, والمسلمون كثيرًا ما يلقون بأخطائهم وعثراتهم على أعدائهم والأسباب الخارجية, وينسون الأسباب الداخلية التي تؤدي إلى هزيمتهم وقهرهم في المعارك وفي غيرها.. نعم لاشك أن للأسباب الخارجية دورًا كبيرًا في هزيمة المسلمين كالغزو الفكري وكتدبير اليهود والنصارى كمكر الليل والنهار الذي يراد منه أن يكون المسلمون أذلة, نعم لاشك أن لهذا كله دورًا كبيرًا في الهزيمة, ولكنها في الحقيقة لا تؤثر وتُدفع بإذن الله تعالى إذا كانت الأسباب الداخلية منتفية, قال الله سبحانه وتعالى: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا فالله تعالى هنا أثبت أن للكفار كيدًا وللأعداء مكرًا, ومن ثم طمئننا فقال: لا تخافوا لن يضركم كيدهم شيئًا ما دمتم على التقوى, ما دمتم على الخير وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا لأن الله عز وجل بما يعملون محيط؛ لأن الله سبحانه وتعالى يمكر بهم حين يمكرون قال عز وجل: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
لنقف عند هذه الآية, ولننظر إلى الآفات التي نعاني منها, ومن هنا يكون العلاج بعد تلمس الداء فمن الخطورة أن يحس الإنسان بألم المرض ولا يفطن إلى موضع الداء, نعم الإحساس بألم المصيبة كبير, نعم أن يحس الإنسان بألم الداء مصيبة عظمى, ولكن أعظم منها هو عدم الشعور بمكان الداء فإذا علم البلاء يسهل بعد ذلك العلاج.. واذكر في هذا المجال أمثلة فقط ولا أريد هنا الحصر, لا أريد أن أحصر الأسباب التي هي من أنفسنا.
وأبدًا أولاً بمساوئ القلوب: فإن هذه المضغة, فإن هذا العضو هو العنصر الفعال في الفرد وإذا صلح الفرد صلحت الجماعة, والرسول يقول: ((إلا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)), ماذا في القلب؟ القلب إذا صلح صلح البصر فأصبح لا ينظر إلا إلى خير, القلب إذا صلح يصلح السمع فلا يسمع إلا خيرًا, القلب إذا صلح يصلح اليد فلا يأخذ إلا خيرًا, ولا يبطش إلا بحق ولا يكتب إلا حقًا, والقلب إذا صلح يصلح الرجل فلا يمشي إلا إلى خير ولا يمشي إلى شر أبدًا, القلب إذا صلح يصلح البطن فيأبى أن يأكل حرامًا, القلب إذا صلح يصلح اللسان يأبى أن يتكلم باطلاً, يأبى أن يغتاب أو ينم, القلب إذا صلح صلح الجسد كله كما قال .
ويدلنا على خطورة ما في النفس, يدلنا على خطورة القلب وعلى مساوئه قوله عند مسلم عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في الحديث أنه قال: ((فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها, وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)).(95/2)
هذا الحديث قال الشراح فيه: وسبب هذا القلب وما فيه, فلما كان هذا الذي يعمل صالحًا يعمل بعمل أهل الجنة وقلبه على غير ما يظهر عاقبه الله في نهاية الأمر, وأبدى الله عز وجل مساوءه وفضحه فعمل بعمل أهل النار فدخلها, فإذن الدسيسة التي في القلب هي التي تظهر عند الممات فإما أن يختم للإنسان بالخير وإما أن يختم له بالشر, ولذلك قال : ((إنما الأعمال بالخواتيم)) وأوضحه حديث: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار, ويعمل بعمل أهل النار وهو من أهل الجنة, والله تعالى ليس بظلام للعبيد)).
ونذكر من أمراض القلب ـ مثلاً ـ الحسد, الذي نستعيذ به فنقول ومن شر حاسد إذا حسد ألا يوجد فينا من يتمنى زوال نعمة أخيه المسلم, ألا يوجد فينا من يكره أن يعطى أخاه المسلم خيرًا أو ينال فضلاً؟ هذا هو الحسد, قال تعالى عن اليهود وهم من أكثر الناس حسدًا: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا , ويقول عن أهل الكتاب: ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا حسدًا من عند أنفسهم هذا الحسد الذي يضرم في قلوب كثير منا, هذا الحسد الذي هو تمني زوال نعمة الغير, الحسد الذي هو أن يكره الإنسان لأخيه خيرًا تحصل عليه, سواء كان من خير الدنيا أو خير الآخرة, هذا الحسد من أمراض القلوب الفتاكة الذي إذا سيطر على القلب أصبح الإنسان مريضًا مرضًا شديدًا, بل قد يموت في نهاية الأمر قلبه, والقلب إذا مات قسى وإذا قسى لم ينفع فيه ذكر, قال سبحانه وتعالى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة .
فأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينبذ عنّا الحسد وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل, وأفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه, دعا عباده إلى دار السلام حجةً منه عليهم وعدلاً, وخص بالهداية والتوفيق منهم من شاءه منهم مَنّة عليهم وفضلاً, فهذا عدله وحكمته فهو العزيز الحكيم, وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم, والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه.
كذلك من الأشياء التي في أنفسنا والتي بها نهزم, والتي بها يسلط علينا الأعداء المنكرات التي في بيوتنا, وكما قدمت فإنني أذكر هنا أمثلة فقط ولا أريد الحصر في هذا المقام.
المنكرات التي في بيوتنا هي التي والله تؤدي إلى هزيمتنا, هي والله تؤدي إلى أن نكون في الأرذلين, فليست المشكلة في قرار وليست المشكلة في وجهة نظر, إنما المشكلة في المنكرات التي نحن قائمون عليها, المنكرات التي في بيوتنا, وقد يقول إنسان: وهل في بيوتنا منكرات؟ نعم, يا إخوان في بيوتنا منكرات, نحن مسلمون أي نعم, ولكن المعاصي إذا كثرت بيننا سلط الله علينا أعداءنا, المنكرات التي في بيوتنا أكثر من أن تحصر, أذكر مثلاً على ذلك في بيوتنا الخدم الذين يغدون ويروحون على محارمنا, على أزواجنا على فتياتنا, على أمهاتنا.
الخلوة التي تحدث في بيوتنا, النظر إلى الحرام الذي يحدث في بيوتنا ـ سواءًا كان منا أو من أزواجنا, أو من أبنائنا ـ سماع الحرام, سماع الأغاني والفحش.
انزل إلى أسواقنا وانظر هل كَفّ الناس عن شراء الأفلام, أفلام الفيديو التي أقل ما فيها ـ كما ذكرت قبل ذلك كثيرًا ـ أن تجد فيها كلمة فاحشة أو قبلة أو نظرة شيطانية, النظرة إلى المرأة الأجنبية لا تجوز من غير أن تتكلم وهي لا تنكسر في مشيتها, فكيف بالنظر إلى الممثلات والممثلين الذين نراهم بأم أعيننا يلقون بالفاحشة من القول والفاحش من النظرات, بالتكسر في المشية, أليس هذا من المنكر؟!
بهاذا نعاقب, بهاذا يتسرب الخوف إلى قلوبنا, الأمن يزول؛ لأن الناس يعملون المعاصي, من المنكرات في بيوتنا أن يدخل الحمو البيت في غياب الزوج, أن يحدث التصافح بين الرجال والنساء اللواتي لسن بمحارم, كل هذا من المنكرات, أيضًا من المنكرات أكل الحرام من الربا من الرشوة, هذه من المنكرات التي تتأجج نارًا وإن لم نعاقب في الدنيا فسنعاقب عليها ـ إن لم يغفر لنا ربنا ـ في الدار الآخرة.
أذكر أيضًا من الأشياء التي في أنفسنا والتي نعاقب عليها عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إذا أزيل هذا الأمر من بيننا وأصبحنا نلقي بتبعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أفراد معينين على جهة مختصة محدودة فلم لا يصيبنا البلاء؟ لماذا لا يتسرب إلينا الخوف, نعم لو كنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر لما حدث كل هذا الذي نراه, فهذا يا إخواني مثل بسيط من الأشياء التي في أنفسنا وهي كما سبق وقلت أكثر من أن تحصى.(95/3)
فعليكم أن تضعوا أيديكم عليها حتى تصلوا إلى العلاج والله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم, والله لو تكلمنا كثيرًا في هذا الموضوع لما أعطيناه حقه وما استوفيناه قدره, فينبغي على كل إنسان أن يلتفت إلى نفسه وأن يلتفت إلى من حوله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.(95/4)
أسباب هلاك الأمم (1)
1342
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/2/1415
النور
ملخص الخطبة
1- الطاعة سبب للسعادة ، والمعصية سبب للمصائب. 2- عقوبات الأمم السابقة متنوعة. 3- من أسباب هلاك الأمم كثرة الخبث وقلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فكلنا يعلم بأن الله رؤوف رحيم بعباده ،وأن الله أرحم بنا من أنفسنا على أنفسنا، أرأيتم عطف الوالد الحنون على ولده الصغير إذا مرض ،فإن رحمة الله عز وجل وحلمه بنا أكبر من عطف الوالد بولده.
لكن أيها الأخوة: هناك سنن كونية ثابتة في هذا الكون ،والذي جعل هذه السنن ثابتة هو الله العزيز الحكيم.
فهذه السنن لن تتبدل ،ولن تجد لسنة الله تحويلا.
فمن ذلك يا عباد الله ،بعض الأمور التي لو وقعت من العباد وفعلوها كانت سبباً في إنزال الهلاك والدمار بهم ،فالله عز وجل ،كما قلنا أنه غفور رحيم ،لكنه عز وجل أيضاً شديد العقاب.
فالله يغار على دينه ،والله يغار على أوامره أن تنتهك ،وهو عز وجل يمهل ولا يهمل.
يرشد العباد إلى توحيده وإتباع أوامره، فإن أطاعوا كان لهم السعادة في الدنيا والآخرة ،وإن هم خالفوا وعصوا وأتوا بأسباب العذاب سلط الله عليهم بأسه وغضبه ،وعندها لا يلوم الناس إلا أنفسهم.
أيها المسلمون: إن لهلاك الأمم وخراب الدول وشقاء المجتمع أسباب.
وسوف نحاول بعد توفيق الله عز وجل أن نتعرف على هذه الأسباب ،لكي نحذرها ولا نغفل عنها إن لم تكن موجودة فينا ،وأن نتوب منها ونجتنبها ،إن كنا واقعين فيها.
فإن الله سبحانه وتعالى عندما أهلك بعض الأقوام والأمم قبلنا ،لم يهلكهم إلا لأسباب وأمور فعلوها ،كانوا قد حُذّروا منها ،فبعد أن تمادوا كان لابد من هلاكهم.
عباد الله: وقبل أن أسرد عليكم أسباب هلاك الأمم أقول بأن عذاب الله وعقابه للأمم ليس بنوع واحد ولا لون معين ،بل جرت سنة الله تعالى في تنويعه على ألوان مختلفة متنوعة ،فقد يكون الهلاك بصاعقة أو بغرق ،أو يكون فيضاناً أو ريحاً أو خسفاً أو قحطاً ومجاعة ،أو ارتفاعاً بالأسعار أو أمراضاً ،أو ظلماً وجوراً ،وذلك بأن يسلط على بعض عباده حكام ظلمة ،يسومون الناس سوء العذاب ،أو يكون فتناً بين الناس واختلافاً أو مسخاً في الصور، كما فعل ببني إسرائيل فمسخهم قردة وخنازير أو مطراً بالحجارة ،أو رجفة ،فالكل عقاب من الله تعالى وعذاب يرسله على من يشاء من عباده تأديباً لهم وردعاً لغيرهم.
وقد جاءت كل هذه الأنواع في القرآن الكريم والسنة المطهرة ،فاقرأوا مثلاً قول الله عز وجل في الصاعقة: فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون ويقول في الغرق: فأغرقناهم في أليم . ويقول في الفيضان والطوفان: فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ويقول في الريح: وأما عادٌ فأهلكوا بريح صرصر عاتية ويقول في الخسف: فخسفنا به وبداره الأرض ويقول في القحط والمجاعات وارتفاع الأسعار وانتشار الأمراض وبلوناهم بالحسنات والسيئات ويقول: فأخذناهم بالبأساء والضراء فالسيئات تعم كل ما يسوء الإنسان: والبأساء ،الفقر. والشدة والجوع والقحط ،والضراء هي الآفات ومنها الأمراض ،ويقول عز وجل في الظلم والجور: وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ويقول سبحانه: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ويقول في الفتن بين الناس والاختلاف والتحزّب والعذاب العام: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض وقال تعالى في مسخ اليهود قردة وخنازير: فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ويقول: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ويقول: قل هل أنبئكم بشرٍ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت .
ويقول تعالى في المطر بالحجارة: وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك ويقول في الرجفة: فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين .
فاتقوا الله عباد الله: هذا بعض عذاب الله وعقابه للأمم والدول قبلنا في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .
فاتقوا الله أيها المسلمون: إن هؤلاء الأقوام أتوا بأسباب العذاب فأهلكهم الله بأفعالهم وأعمالهم.
وليس بين الله وبين أحد من عباده نسب ولا واسطة، فنحن أيضاً لو أتينا بأسباب عذاب الله لعذبنا. ووالله لقد أتينا الكثير والكثير منها ،فإن الله يهلكنا كما أهلك غيرنا ،ويسلط علينا عقوباته في الدنيا قبل الآخرة ،كما سلطه على غيرنا.
فلنتق الله أيها المسلمون ،ولنأخذ بأسباب النجاة ،فإن هلاك الإنسان ونجاته بيده.(96/1)
أيها المؤمنون: لأنتقل بكم إلى سرد أسباب هلاك الأمم فأولى هذه الأسباب ،ما ورد في حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها ،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً فزعاً يقول: ((لا إله إلا الله ،ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ،وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها ،قالت زينب ،فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟قال: نعم إذا كثر الخبث)) رواه البخاري ومسلم.
الشاهد من الحديث: ((أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)).
إذا كثر الخبث فإن الله يهلك القوم جميعاً.
إذاً من أسباب هلاك الأمم ،كثرة الخبث.
أيها المسلمون: الرسول صلى الله عليه وسلم يرسم لنا في هذا الحديث سنة إلهية في هلاك الأمم وخراب البلدان والدول والحضارات ،هذه السنة هي إذا كثر الخبث فإنه مؤذن بخراب الأمم.
وهذه السنة يا عباد الله لا يمكن أن تتخلف ،لأن الذي أخبر بها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تأملوا رحمكم الله في واقعنا ،وانظروا إلى أحوال مجتمعاتنا ،هل كثر فينا الخبث أم لا.بل إن واقعنا خبث كله - نسأل الله العافية - إلا من رحم الله عز وجل.
إن وجود الخبث أمر طبيعي في كل مجتمع ،حتى مجتمع الصحابة كان فيه بعض المخالفات وبعض الأخطاء أحياناً، أما أن يكثر ،فإذا كثر الخبث ،كان إيذاناً بهلاك القوم.
أيها المسلمون: إن هناك علاقة بين كثرة الخبث ،وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالخبث لا يكثر إلا إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو. . أو حُد من عمله أو ضيق عليه.
والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر في غير ما حديث بذلك ،وأن كثرة الخبث يكون بترك الأمر والنهي. فقال: ((ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم يقدرون أن يغيروا فلا يغيروا إلا عمهم الله بعقاب)) وقال صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ،أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). وهذا العقاب هو ((أنهلك وفينا الصالحون)).
أيها المؤمنون: وصل الخبث إلى حد في مجتمعنا حتى صار أمراً طبيعياً ،فكم من الأشياء كنا نستقبحها في الماضي ،صارت جزء من حياتنا الآن. بل زاد الأمر سوءاً ،حتى صرنا نخجل من تغييرها. صار المنكر، وصار الخبث هو الأصل ،وصار محاولة إنكاره هو الذي يخجل منه حتى أصبحت أموراً لا تلفت نظر الناس.
ثم تطور الأمر بعد ذلك.فصرنا نبحث عن مسوغات وفتاوى تبيح لنا ذلك.
إن الخبث يا عباد الله ،إذا انتشر وإن كان الذي يعمل به القليل ،لكن انتشاره يضر الخاص والعام.
أيها الأخوة: إذا تأملنا هذا الحديث ،وإذا وقفنا مع ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. فإنه يجب أن يصيبنا الخوف ،والله لابد أن نخاف ،لأن سنة الله تمضي على الجميع ،والمتأمل حال العالم الإسلامي كله ،يرى من أصيب بأرضه ،ومن أصيب بأهله ،ومن أصيب بماله.
بعض الناس ،قد يفسر هذه المصائب في العالم الإسلامي بتفسيرات قريبة ،وهو تسلط الأعداء ،وتسلط الغرب علينا.
وهذا صحيح ،لا يمكن أن نغفله ،لكن لابد أن ننتبه للسبب الشرعي أيضاً ،وهو كثرة الخبث ،وأن خراب البلدان ،وسقوط الدول ،يكون بكثرة الخبث، ((أنهلك وفينا الصالحون ،قال نعم إذا كثر الخبث)).
فاتقوا الله أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى: إن الخبث والمنكرات قد فشت وعمت وطمت في بلادنا، والمصيبة أن القلة القليلة هي التي تتضايق وتحاول الإنكار ،والغالب لا يرفع رأساً للتغيير.
فاتق الله في نفسك يا عبد الله ،وانظر إلى أي مدى بذلت في تغيير الخبث في بيتك ،وفي شارعك، هل ننتظر حتى يأتي غيرنا من الخارج ويغير الخبث في بيوتنا.
لا تكن يا عبد الله سبباً في هلاك الناس ،بسبب الخبث الذي تحدثه والخبث الذي تسكت عنه. لا يكفي يا قوم هز الرأس أو زم الشفتين ،أو ترديد قول: لا حول ولا قوة إلا بالله ،إذا سمعنا أو رأينا الخبث ،فإن هز الرؤوس لا يرفع غضب الله ،إن هز الرؤوس لا ينجي المجتمع من الهلاك ،ولن ينجي السفينة من الغرق. يقول عليه الصلاة والسلام: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ،وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا؟فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ،وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)).
بعض الناس ،إذا أُمر أو نُهي ،قال: ما شأنك بي؟ أنا حر ،أفعل ما أشاء ،بيتي وأنا حر فيه ،زوجتي وأنا حر فيها.
هذه نعرة دخلت علينا من حرية الغرب ،ولا أصل لها في دين الإسلام.فليس هناك حرية مطلقة في الإسلام.(96/2)