6. وقوله: "وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم".
7. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم".
متى شرع جهاد الدفع – الجهاد الهجري؟
شرع جهاد الدفع بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة في حال ضعف المسلمين وعدم استطاعتهم على جهاد الطلب، فأضعف الإيمان أن يدفعوا عن دينهم، وعن وجودهم، وحريمهم، وأعراضهم، وأموالهم، وأن يقاتلوا من قاتلهم.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: (فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وأيده الله بنصره وبعباده المؤمنين الأنصار.. فاذن لهم حينئذ في القتال، ولم يفرضه عليهم، فقال تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير".
إلى أن قال: ثم فرض عليهم القتال بعد ذلك لمن قاتلهم دون من لم يقاتلهم، فقال: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم"، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة).
وقال القرطبي: (وهي أول آية نزلت في القتال، قال ابن عباس وابن جبير: نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة).
لكن عندما قويت شوكة الإسلام، واشتد عوده، وصدق أتباعه وجنوده، لم يقنعوا بجهاد الدفع، بل خرجوا طائعين مختارين هاجرين للأولاد والبلاد، لتقديم هذا الدين لمن يليهم من خلق الله، ففتحوا بذلك قلوب العباد قبل البلاد، وأخرجوا من شاء الله لهم الهداية من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن عبادة العباد والحيوان والجماد إلى عبادة الواحد القهار.
فلما ركن المسلمون إلى الدنيا في عصورهم المتأخرة، وآثروا الفانية على الباقية، و"ضنوا بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم البلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم"، فصدقت فيهم نبوة نبيهم: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها"، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السبيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن"، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت"، فحل بهم ما حل من الذل والهوان، وتبدلت أحوالهم، وتغيرت أوضاعهم، واستهان بهم عدوهم، فتجرأ على غزو بلاد الإسلام واحدة تلو الأخرى.
ما كان لهذا أن يحدث لو كان المسلمون رافعين لراية الجهاد، باذلين للمهج رخيصة في ذات الله كما كان أسلافهم، وإليك طرفاً من أخبارهم:
1. قال خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما حضرته الوفاة: "لقد خضتُ عشرين زحفاً، وليس في جسمي موضع شبر إلا وفيه طعنة برمح أوضربة بسيف، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"، إي وربي، فلا نامت أعين الجبناء.
2. وقال القائد المسلم، والبطل الهمام، عُقبة بن نافع حين وصل المحيط الأطلسي: "يارب، لولا هذا البحر لمضيتُ في مجاهداً في سبيلك"، ثم قال: "اللهم اشهد أني قد بلغتُ الجهودَ، ولولا هذا البحر لمضيتُ في البلد أقاتل من كفر بالله حتى لا يُعبَد أحدٌ من دونك".
3. قال ابن العربي رحمه الله: روي أن بعض الملوك عاهد كفاراً على أن لا يحبسوا أسيراً، فدخل رجل من المسلمين جهة بلادهم، فمر على بيت مغلق، فنادته امرأة: أني أسيرة، فأبلغ صاحبك خبري؛ فلما اجتمع به واستطعمه عنده وتجاذبا ذيل الحديث، انتهى الخبر إلى هذه المعذبة، فما أكمل حديثه حتى قام الأمير على قدميه وخرج غازياً من فوره، ومشى إلى الثغر حتى أخرج الأسيرة واستولى على الموضع رضي الله عنه.
وبضدها تتميز الأشياء، فقد نقل ابن العربي عن نقيض هذا الأمير، فقال: (ولقد نزل بنا العدو – قصمه الله – سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا، وأسر خيراتنا، وتوسط بلادنا، في عدد هال الناس عددُه، وكان كثيراً وإن لم يبلغ ما حدّدوه، فقلت للوالي والمولي عليه: هذا عدو الله قد حصل في الشرك والشبكة، فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة الدين المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع الأقطار فيحاط به، فإنه هالك لا محالة إن يسركم الله له؛ فغلبت الذنوب، ورجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل أحد من الناس ثعلباً يأوي إلى وجَاره وإن رأى المكيدة بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل).
قلت: كأن ابن العربي يحكي حالنا، وكانه مشاهد لواقعنا.
رب وامعتصماه انطلقت ملأ أفواه الضحايا اليُتَّم
صادفت أسماعهم لكنها لم تصادف نخوة المعتص
متى يجب الجهاد بالنفس؟
الجهاد بالنفس يجب ويتعين في الحالات الآتية:
1. إذا استنفر الإمام الرعية وجب عليهم النفر، لقوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً" الآية، كما كان في تبوك، في جيش العسرة، حيث فضح الله المنافقين وأعلا شأن المؤمنين.(9/201)
2. إذا كان الجهاد فرض كفاية على المرء، ثم حضر الصف، أضحى عليه فرض عين.
3. إذا هجم العدو وغزا بلداً من بلاد الإسلام تعين على أهل تلك البلاد صده ودفعه وإن لم يتمكنوا من صده تعين على من يليهم، وهكذا حتى يشمل سائر بلاد الإسلام، كحال إخواننا في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وكشمير، وغيرها.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: (وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أوبحلوله بالعقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا، ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه، ومن لا أب له، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أومكثر، فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسملون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا دفع أهل الناحية التي نزل العدو عليها، واحتل بها، سقط فرض العين عن الآخرين.
ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله، وتحمى البيضة، وتحفظ الحَوْزة، ويُخزى العدو، ولا خلاف في هذا).
4. يجب على إمام المسلمين كذلك غزو العدو في كل عام مرة، وكان لبني أمية غزوتان للكفار، إحداهما في الصيف وتسمى "الصائفة"، وأخرى في الشتاء وتسمى "الشاتية"، لإدخال الكفار في دين الإسلام، ولإرهابهم، ولإشعارهم بعزة الإسلام وأهله.
جهاد الدفع يختلف عن جهاد الطلب
يختلف جهاد الدفاع عن جهاد الطلب في أمور هي:
1. في حكمه، فحكمه الوجوب، وحكم جهاد الطلب من غير نفير أنه فرض كفاية.
2. لا يشترط فيه إذن والدين ولا غيرهما، بينما يتعين إذن الوالدين في فرض الكفاية.
3. لا يشترط أن يكون تحت راية أوإمرة الإمام الأكبر للمسلمين، ولا يحتاج لإعلان، ويمكن أن يكون تحت إمرة أحد المجاهدين، كما هو الحال في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وغيرها من البلاد المغصوبة.
4. لا يشترط فيه تكافؤ العدد والعتاد، قال القاسم بن مخيمرة المتوفى 100ه: لو حمل الرجل على عشرة آلاف لم يكن بذلك بأس.
نصر المسلمين مرهون بنصرهم لله عز وجل "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"
لم يتفوق المسلمين على الكفار في جميع غزواتهم ومعاركهم على عدوهم في العدد ولا في العُدَّة، بدءاً ببدر الكبرى، وانتهاء "بعين جالوت" وما بعدها، وإنما كانوا يستنزلون النصر من عند الله بالآتي:
1. نصرهم لدين الله عقيدة، وشريعة، ومعاملة، وسلوكاً، وآداباً.
2. التوكل على الله والاعتماد عليه.
3. بالثبات، والصبر، والمصابرة، فما الشجاعة إلا صبر ساعة.
4. الدعاء والتضرع والابتهال.
5. بالخديعة والحيل، فالحرب خُدْعة.
6. باجتناب الذنوب والمعاصي.
• ... روي أن عمرو بن عبد وُدٍ لما بارز علياً وأقبل عليه، قال له عليّ: ما برزتُ لأقاتل اثنين؛ فالتفت عمرو، فوثب عليه عليٌّ فضربه؛ فقال عمرو: خدعتني؛ فقال: الحرب خُدعة.
• ... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الاشرف، فقد آذى الله ورسوله؟ فقال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول الله؟ قال: نعم؛ فأتاه، فقال: إن هذا - يعني النبي – قد عنانا وسألنا الصدقة؛ قال: وأيضاً والله لتمُلنَّه؛ قال: فإنا اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يصير أمره؛ قال: فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله".
• ...
وقد فعل مثل هذا أمير المؤمنين الهادي لما حمل عليه الخارجي وليس عنده أحد، ولا معه سلاح، فلم يتحرك من مكانه إلى أن قرب منه، فصاح: اضرب عنقه؛ كأنه يأمر أحداً من وراء الخارجي، فالتفت الخارجي إلى خلفه لينظر المأمور، فوثب عليه الهادي وثبة صار على صدره، وأخذ منه السيف وذبحه به.
• ...
ولهذا جاء في المثل: "رُبَّ حيلة أنفع من قبيلة".
وهذا يدل على جواز الخدعة في الحرب، للحديث الصحيح: "الحرب خدعة".
قال النووي: (واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أوأمان فلا يجوز؛ قال ابن العربي: الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك؛ وفي الحديث إشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة).
ولله در أبو الطيب حين قال:
الرأي فوق شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
أما الدعاء فهو سلاح المستضعفين، وحاجة المجاهدين إليه لا تدانيها حاجة، إذ لم يستغن عنه رسول هذه الأمة المؤيد بالوحي، والموعود بالنصر، فقد دعا صبيحة بدر الليل كله، ودعا يوم الأحزاب على المشركين، فقال: "اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اللهم اهزمهم وزلزلهم"، وكذلك كان يفعل المجاهدون.(9/202)
قال الطبري: (فلما كان ليلة الأضحى قيل لأسد: إن خاقان نزل "جَزَّة"، فأمر بالنيران فرفعت على المدينة، فجاء الناس من الرساتيق إلى مدينة "بَلخ"؛ فأصبح أسد فصلى وخطب الناس وقال: إن عدو الله الحارث بن سريج استجلب طاغيته ليطفئ نور الله، ويبدل دينه، والله مذله إن شاء الله، وإن عدوكم الكلب أصاب من إخوانكم من أصاب، وإن يرد الله نصركم لم يضركم قلتكم وكثرتهم، فاستنصروا الله؛ وقال: إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربكم وأخلصوا له الدعاء؛ ففعلوا ثم رفعوا رؤوسهم وهم لا يشكون في الفتح.
قال: ثم خرج فنزل باباً من أبواب "بلخ"، وضربت له قبة، وصلى بالناس ركعتين طولهما، ثم استقبل القبلة، ونادى في الناس: ادعوا الله؛ وأطال في الدعاء، ودعا بالنصر، وأمَّن الناس على دعائه، فقال: نصر تم ورَبَّ الكعبة).
ثم التقى الجمعان، وكان النصر حليف المسلمين، ودحر الله الكفر والمنافقين، فهزموا شر هزيمة.
وكذلك فعل عقبة بن نافع في فتحه لشمال إفريقيا عندما استغاث الروم بالبربر فأجابوهم، حيث قام خطيباً فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس إن أشرافكم وخياركم الذين رضي الله تعالى عنهم وأنزل فيهم كتابه بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان على مجاهدة من كفر بالله إلى يوم القيامة، وهم أشرافكم والسابقون منكم إلى البيعة، باعوا أنفسهم من رب العالمين، وقد نظر إليكم في مكانكم هذا، ولم تبلغوا هذه البلاد إلا طلباً لرضاه وإعزازاً لدينه، فأبشروا، فكلما كثر العدو كان أخزى لهم وأذل إن شاء الله تعالى، وربكم عز وجل لا يسلمكم، فالقوهم بقلوب صادقة، فإن الله عز وجل جعلكم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، فقاتلوا عدوكم على بركة الله وعونه، والله لا يرد بأسه عن القوم المجرمين).
تضرع السلطان المجاهد "ألب أرسلان" في جهاده مع الروم في معركة "ملاذكُرد"، وما أرشده إليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي، حيث قال: (إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.
فلما كان تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان وبكى الناس لبكائه، ودعا ودَعَوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى؛ وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلتُ فهذا كفني.
وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه على التراب، وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل، وحملت العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاءوا، وأنزل الله نصرهم عليهم، فانهزم الروم وقتل منهم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر الملك).
أما خطورة المعاصي والذنوب فيوضح ذلك ما كان عمر يقوله للغزاة: "والله أنا من ذنوبكم أخشى عليكم من عدوكم"، وقال مرة وقد تأخر النصر على المسلمين ووقف الكفار معهم من الصباح حتى المساء: "والله إلا من ذنب اقترفتموه أواقترفته أنا".
هذه هي أسباب النصر الحقيقية لدى المسلمين عند سلفهم، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
الحذر من الخوض في القضايا الانصرافية التي تلهي المسلمين عن جهاد الكفار والمنافقين
هناك قضايا انصرافية كثيرة، وشبه وفيرة، أثارها ويثيرها أعداء الإسلام قديماً وحديثاً، ويتلقفها منهم السذج والمنافقون والمثبطون عن الجهاد، ليشغلوا بها المسلمين عن جهاد الكفار والمنافقين، نحو:
1. لم ينتصر المسلمون بحد السيف!
2. هل الحرب في الإسلام جهادية أم دفاعية؟!
3. الجهاد الأكبر، هل هو جهاد النفس، أم جهاد الكفار؟!
وغيرها كثير من الأمور التي تصرف عن الجهاد وتشغلهم بالجدل والمراء فيما لا طائل من ورائه، بل وصلت الجرأة والوقاحة ببعض الأشقياء أن زعم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماضٍ منذ بعثني الله وإلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل" قول تجاوزه الزمن، كبرت كلمة خبيثة خرجت من فيه.
هذا الحديث وإن اختلف الحفاظ في وقفه ورفعه، إلا أن الحفاظ أوردوه في دواوين السنة، وبوَّب به البخاري في صحيحه: "باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر".
قال الحافظ ابن حجر: (هذه الترجمة لفظ حديث أخرجه بنحوه أبوداود وأبو يَعْلى مرفوعاً وموقوفاً عن أبي هريرة، ولا بأس برواته، إلا أن مكحولاً لم يسمع من أبي هريرة، وفي الباب عن أنس أخرجه سعيد بن منصور، وأبوداود أيضاً وفي إسناده ضعف).(9/203)
أما ما يعتل به البعض من أن المراد بالجهاد الأكبر هو جهاد النفس: "عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس"، فهو ليس بحديث، لا صحيح ولا ضعيف، وإنما أثر ذلك عن إسماعيل بن عُلية، ومنهم من ينسبه إلى تابعي صغير هو إبراهيم بن أبي عبلة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن السلف لم يشيروا إلى جهاد النفس في مصنفاتهم في أبواب الجهاد أبداً، وإنما كانوا يخصون ذلك بكتب الزهد، كما فعل بعض الأئمة المجاهدين الكبار، أحمد وعبد الله بن المبارك، ولهذا فلا مجال لهذا الحديث العقيم الذي يثار حول هذه القضية، إذ الغرض من ذلك صرف الناس عن هذه الفريضة التي تعبد الله بها جميع الأمة حسب الطاقة.
يقول سيد قطب رحمه الله: (والذين يسوقون النصوصَ القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد، ولا يراعون هذه السمة – يعني المرحلة التي مر عليها الجهاد – ولا يدركون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة.. الذين يصنعون هذا يخلطون خلطاً شديداً، ويلبسون منهج هذا الدين لبساً مضللاً، ويحمِّلون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية، ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصاً نهائياً، يمثل القواعد النهائية لهذا الدين، ويقولون – وهم منهزمون روحياً وعقلياً تحت ضغط الواقع البائس: لذرار المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان، إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع، ويحسبون أنهم يسْدُون إلى هذا الدين جميلاً بتخليه عن منهجه).
الحذر من الاستماع إلى المخذلين، والمثبطين، والمرجفين
ما أكثر المخذلين والمثبطين عن الجهاد في هذا العصر، من الإعلامين، والصحفيين، والعملاء الخونة.
لقد حذر العلماء من خطر هذا الصنف في الماضي في مصنفاتهم، ونهوا وحذروا من خطورة خروج المخذل والمرجف مع الغزاة، لما قد يحدثه من تثبيط وخذلان لغيرهم.
قال ابن النحاس رحمه الله: (يمنع الأمير المخذل من الحضور في الجيش، فإن خرج رده، فإن قاتل لم يستحق شيئاً، ولو قتل كافراً لا يستحق سلبه عند الشافعي وأحمد.
والمخذل هو من يخوف الناس بأن يقول: عدونا كثير، وخيلنا ضعيفة، ولا طاقة لنا بهم، ونحو ذلك.. وفي معناه المرجف، وهو الذي يكثر الأراجيف، بأن يقول: أقبلت سرية كذا، أولحقهم مدد العدو من جهة كذا، أولهم كمين في موضع كذا، ونحو ذلك).
فضل جهاد الكفار والمنافقين
لقد ورد في فضل جهاد الكفار والمنافقين بأنواعه المختلفة حسب الطاقة العديد من الآيات والأحاديث والآثار، نشير إلى طرف منها للتنبيه على غيرها:
1. فهو التجارة الرابحة: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين".
2. الجهاد هو مهر السلعة الغالية، وهي الجنة: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم".
3. وهو ذروة سنام الإسلام.
4. "من مات ولم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق".
5. "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا".
6. "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض".
7. وعن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: "لا تستطيعونه"؛ فأعادوا عليه مرتين وثلاثاً، كل ذلك يقول: "لا تستطيعونه!"، ثم قال: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله".
8. الجهاد أقصر طريق إلى الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمرو بن أقيَش كان له رباً في الجاهلية، فكره أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد، فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد؛ قال:أين فلان؟ قالوا: بأحد؛ فقال: أين فلان؟ قالوا: بأحد؛ فلبس لامته وركب فرسه، ثم توجه قِبلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني قد آمنت؛ فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحاً، فجاءه سعد بن معاذ، فقال لأخته: سليه حمية لقومك، أوغضباً لهم، أم غضباً لله؟ فقال: بل غضباً لله ولرسوله؛ فمات، فدخل الجنة وما صلى لله صلاة".
كن أخي المسلم مجاهداً.. ولاتكن الخامس فتهلك(9/204)
كن أخي المسلم مجاهداً بنفسك ومالك، أوناوياً لذلك، أوخالفاً غازياً ومجاهداً في أهله، أوداعياً للمجاهدين مهتماً بأمرهم، ولا تكن الخامس وهو المخذل، المثبط، المرجف، الساهي، اللاهي عن ذلك فتهلك الهلاك المبين، وتخسر الخسران العظيم، وتندم الندم حيث لا ينفع الندم.
شبه ودحضها
ينعق بعض المسلمين بشبه ومآخذ ترفع في وجه جهاد الدفع الذي تمارسه فئة قليلة من المسلمين المضطهدين في دينهم المغلوبين على أمرهم، المتخلين عنهم إخوانهم، والخاذلين لهم ولاة أمرهم، تقليداً لما يثيره الكفار وعملاؤهم، والمرجفون من المسلمين في البلاد التي غزاها الكفار في حربهم الصليبية الحالية، مع غياب الحقائق عنا غياباً تاماً بسبب التعتيم الإعلامي، والإرهاب الذي مارسه الكفار مع الفضائيات والصحفيين وغيرهم، حيث يحرم تصديق وقبول ما يصدر من الكفار والحكم به، جعلت البعض يشكك في شرعية هذا الجهاد، أويتردد في قبوله، أويسكت عن الدفاع عنه، من تلكم الشبه ما يأتي:
1. هل الجهاد القائم في العراق مثلاً مشروع؟
ونقول: إن لم يكن هذا الجهاد مشروع فلا يشرع جهاد أبداً، إذ:
لا يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
2. العمليات الجهادية الاستشهادية
العمليات الاستشهادية التي يمارسها البعض وهم مكرهون عليها إذ لم يجدوا غيرها طريقاً لدفع العدو الصائل الماكر المتفوق عليهم، التي يصفها البعض بأنها عمليات انتحارية، ومن ثم لا يجوزون الإقدام عليها.
وبادئ ذي بدء لابد أن نقرر أن اختلاف أهل العلم في مثل هذه الأمور الحادثة أمر بدهي لأن كلاً منهم ذهب إلى ما أداه إليه اجتهاده.
والذي يترجح لدي أنها لا علاقة لها بالانتحار من قريب ولا من بعيد، وأنها جائزة عند الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات.
إن لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وذلك بالشروط التالية:
• ... أن يمارسها مسلم.
• ... أن يبتغي بذلك أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
• ... أن يترجح لممارسها أنها تنكي بالعدو.
• ... أن لا ينوي بها التخلص من الحياة ومما يعانيه من فتن.
ويمكن أن يستدل على جوازها ببعض الممارسات التي قام بها بعض أبطال المسلمين، على سبيل المثال لا الحصر نحو:
• ... ما عله غلام أصحاب الأخدود، حيث دل الملك على كيفية قتله، ووصف له ذلك كأنه هو الممارس له، والدال على الشيء كفاعله.
• ... ما فعله البطل البراء بن مالك، حيث طلب أن يوضع على أسنة الرماح ويرمى به داخل الحديقة ليفتحها، مع يقينه بنتيجة هذه المغامرة التي خاضها.
• ... انغماس كثير من المجاهدين في صفوف الأعداء كان سبباً لكسر العدو، ونصرهم على الكفار، ورد أبي أيوب وغيره على المعترضين الواصفين لهذا العمل بأنه من باب التهلكة والانتحار، فبين لهم أبوأيوب أن التهلكة الحقيقية في ترك الجهاد، والركون إلى الدنيا، وعدم الإنفاق في سبيل الله.
ولا أشك أبداً أن كثيراً من المجاهدين في الماضي لو تيسَّرت وتوفرت لديهم هذه الأحزمة الناسفة لما ترددوا في لبسها.
من أراد الاستزادة من هذه الشواهد فعليه بكتاب: "مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، ومثير الغرام إلى دار السلام"، في الجهاد وفضله للمجاهد العالم البطل ابن النحاس، المتوفى 814ه، وهو عبارة عن مجلدين، مطبوع، ومحقق.
3. التمثيل بقطع الرؤوس والحرق بالنار
لقد نهى الإسلام عن التمثيل، وعن التحريق بالنار، والتدخين، ولم يبح ذلك إلا بمن مثل، فمن مثل مُثل به، ومن عفى وأصلح فأجره على الله، وهذا النهي يشمل المسلم والكافر، ومن أهل العلم من يقول هذا خاص بالقصاص.
وعندما عزم رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يمثل بسبعين من المشركين، عندما مُثل بحمزة رضي الله عنه، كف عن ذلك بعد نزول قوله تعالى: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتهم لهو خير للصابرين".
خرَّج البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد باب: "لا يعذب بعذاب الله" بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأحرقوهما بالنار؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما".
قال الحافظ ابن حجر: (واختلف السلف في التحريق، فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقاً، سواء كان ذلك بسبب كفر، أوفي حال مقاتلة، أوكان قصاصاً، وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما.. قال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سَمَل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيين بالحديد المحمى، وقد حرق أبوبكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة، وحرق خالد بن الوليد ناساً من أهل الردة، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهلها، قاله الثوري والأوزاعي.(9/205)
وقال ابن المنير: لا حجة فيما ذكر للجواز، لأن قصة العُرَنينن كانت قصاصاً أومنسوخة كما تقدم، وتجويز الصحابي معارَضٌ بمنع صحابي آخر، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقاً للظفر بالعدو، ومنهم من قيده بأن لا يكون معهم نساء ولا صبيان كما تقدم.
وأما حديث الباب فظاهر النهي فيه التحريم، وهو نسخ لأمره المتقدم، سواء كان بوحي إليه، أوباجتهاد منه، وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه.
وقد اختلف في مذهب مالك في أصل المسألة، وفي التدخين، وفي القصاص بالنار).
الراجح أن مَنْ مثل مُثل به، خاصة في حال الحرب، واختلفوا فيما دون ذلك، فمن أهل العلم من أجاز التمثيل والحرق ونحوهما في حال الحرب، وحملوا الحديث على أنه قضية معينة، ومنهم من منع إلا بمَن مثل.
فقد صحَّ أن علياً رضي الله عنه حرق زنادقة الرافضة الذين ألهوه بعد أن قتلهم، وأن أبابكر وخالد حرقا بالنار.
أما قطع رؤوس أئمة الكفر المحاربين، فقد قطع القائد البطل البطال بن عمرو رأسَ شمعون قائد الكفار في فتح عمورية، وألقاه بين يدي مَسْلمة بن عبد الملك، فكبًّر مَسْلمة، وكبَّر المسلمون معه.
كذلك حز البطال أيضاً رأس "أقربطون"، ورفعه على رمحه، ثم كبَّر، وكبَّر المسلمون معه.
4. حبس الرهائن مقابل فك بعض أسرى المسلمين
هذا من الأمور المتعارفة في الحروب قديماً، مع العلم أن جل هؤلاء من "الموساد"، والجواسيس، والعملاء، سيما في العراق، وإن تزيوا بزي الصحفيين، والإغاثيين، والمتطوعين.
لِمَ ينكر الناس على المسلمين ما لا ينكرونه على عدوهم الغاشم، المتسلط، الظالم، الذي غزاهم في ديارهم، ومارس في حقهم أبشع أنواع الظلم والاضطهاد والإذلال، كما حدث في "أبوغريب" وغيره وفي أفغانستان:
حرام على بلابل الدوح حلال على الطير من كل جنس؟!
ما يمارسه هؤلاء القوم من حبس الرهائن مقابل أن يفك من أسراهم مطلب عادل، ومسلك مشروع في الحرب، فأي غضاضة في ذلك؟!
5. قتل الأطفال
لا شك أنه لا يحل قتل النساء، والأطفال، والشيوخ، والعجزة، غير المحاربين ولا المعينين على الحرب، ولكن عندما احتبس بعض المجاهدين الشيشانيين طلاب مدرسة كرهائن للضغط على الغزاة أن يفكوا بعض أسراهم قامت الدنيا ولم تقعد، أما عندما يُقتل أبناء المسلمين في العراق، وفلسطين، والشيشان، وكشمير، وغيرها من البلاد، حسياً أومعنوياً، كما يفعله اليهود في فلسطين، وكما فعله الأمريكان في الحصار الذي ضُرب على العراق قبل غزوه، لا يحرك العالم ساكناً، ولا تثار ضجة إعلامية، ولا يفرض على الجميع أن يدينوا ذلك، وهذا من الظلم المبين، والكيل بعدة مكاييل.
ما ينبغي للمسلمين أن يقوموا به تجاه إخوانهم المضطهدين في الفلوجة وغيرها من الديار المغصوبة
من أوجب الواجبات على المسلمين نحو إخوانهم المضطهدين نصرهم وإعانتهم وتقديم يد العون لهم، وخذلانهم والتخلي عنهم من الذنوب العظيمة، والآثام الجسيمة، وهو أقل ما تمليه عقيدة الولاء والبراء على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وإليك الأدلة:
1. قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً"، وشبَّك بين أصابعه.
2. وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
3. وقال: "المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، عرضه، وماله، ودمه".
ويكون نصر المسلمين لإخوانهم المجاهدين المضطهدين في العراق، وفلسطين، وأفغانستان، وغيرها من البلاد بالآتي:
1. مدهم بما يحتاجون إليه من المال، من الزكاة الواجبة وغيرها، فهم أحق بها وأهلها، فالإنفاق في سبيل الله من أجل القربات.
2. الفرح لانتصاراتهم، والحزن والألم لنكباتهم.
3. الدعاء والتضرع والقنوت لهم في الصلوات المكتوبة وغيرها، والدعاء الصادق سبب في تحويل القلوب من الغواية إلى الهداية، إن الدعاء الصادق وسيلة اتصال عظمى تقطع حُجُب الليل البهيم، وتتجاوز طبقات الفضاء العالية، لتصل إلى مدبَِّر الكون جل جلاله، فيكون بهذا الدعاء هداية الحيارى، ونصر المظلومين، وكشف الكربات:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه وما تدري بما صنع الدعاءُ؟
جنود الليل لا تخطي ولكن لها أجل وللأجل انقضاءُ
4. الاتمام بأخبارهم والحرص على معرفة ما يجري لهم عن طريق متابعة الفضائيات والشبكات، نسبة لما يفرضه الكفار من تعتيم إعلامي ظالم.
5. توعية المسلمين وتبصيرهم بما يلاقيه هؤلاء القوم من الويلات، وبما يجب عليهم فعله، وحضهم على الدعاء لهم والإنفاق عليهم.
6. إزالة الشبه التي يثيرها البعض عن هذا الجهاد المشروع، وعن هؤلاء القوم المظلومين.
7. الكتابة في الصحف، والمجلات، وفي الشبكات، وكل ما تيسر من وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمرئية.
8. على الخطباء وأئمة المساجد أن يحرصوا على شرح هذه القضية، وأن يلحوا في الدعاء والقنوت لهم.(9/206)
9. وأي وسيلة أخرى يمكن أن يُعان بها هؤلاء القوم.
والله الموفق للخيرات، والهادي إلى أقوم الصراط.
اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والفسق والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغاً للحاضر والباد، اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والآثام، وانصر المجاهدين، وأذل الكفر والكافرين، وأنزل عليهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، والصلاة والسلام على إمام الغر المحجلين، وعلى آله وصحبه والتابعين
000000000000000
مفاهيم ينبغي أن تصحح بين اليسر والتفلت
المنهج الذي سلكه الشيخ دكتور يوسف القرضاوي سامحه الله في كتابه "الحلال والحرام في الإسلام"، وقد أفلح من وسمه "بالحلال والحلال"، ولا يزال يسلكه في برنامجه الأسبوعي في قناة الجزيرة "الشريعة والحياة"، وفي محاضراته، ولقاءاته، وكتاباته، الذي أغرى به وفتن بعض الدعاة والعامة، ولا يزال يغري ويفتن، مفاده ومؤداه الإتيان بشرع جديد مغاير لما تركنا عليه رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، مع يقيننا أنه لم يرد ذلك، ولكن العبرة بالخواتيم، والبدايات عنوان النهايات.
فعل كل ذلك بدعوى التيسير وتحبيب الإسلام إلى الأجيال المعاصرة، ومحاولة دفع بعض الشبه التي يرفعها أعداء الإسلام من كفار ومنافقين، وما علم أن اليسر كل اليسر فيما تركنا عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما سواه هو العسر والخسر الذي ليس بعده عسر ولا خسر، لأن هذه الشريعة السمحة، والمحجة البيضاء مبناها على اليسر ورفع الحرج: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، ولهذا صح عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما خيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أوقطيعة رحم"، فقد اختار لنا ربنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، ولم يدع الاختيار لنا، لأنه من تمام وكمال الدين الذي أتمه الله على يديه: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، فالدين تم، فماذا بعد الإتمام والكمال إلا النقص والخسران؟ ولهذا قال مالك: "ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً"، وإلى يوم القيامة، وما لم يعرفه البدريون فليس بدين، ولا يرضى به رسول رب العالمين.
ومن زعم أنه يريد أن ييسر على العباد بأي وسيلة من الوسائل سواء كان عن طريق الابتداع في الدين، أوالتفلت عن الأحكام الشرعية، أوالتخلي عن الآداب المرعية، فقد اتهم الشريعة بالعسر، ومحمدا صلى الله عليه وسلم بالتشدد والغلو، وكذب كتاب الله وسنة رسوله شاء أم أبى، ولا تنفعه حسن نيته، لمخالفته للسَّنَن القويم، والصراط المستقيم، الذي تركنا رسولنا في أوله وآخرُه في الجنة.
ليس لهذا المسلك تبرير ولا تعليل إلا التفلت من الأحكام الشرعية، ومنافقة المجتمع فيما يهواه، والاستكانة إلى الكفار، والتشبه بهم، والحرج من مخالفتهم، وتتبع زلات العلماء وسقطاتهم، فإن علم سالكوه بذلك ثم اختاروه فتلك مصيبة، وإن جهلوا ذلك فالمصيبة أعظم وأدهى، وإلى الله المشتكى.
نماذج من تلك المخالفات والأقوال الشاذة
سنورد في هذه العجالة نماذج لما خالف فيه الشيخ القرضاوي أهل الإسلام، وما عليه الأئمة الأعلام:
1. الدعوة إلى تقارب الأديان.
2. إجازته موالاة بعض الكفار.
3. إباحة الزواج من غير ولي.
4. إباحته للمرأة إذا أسلمت وهي متزوجة من كافر أن تبقى في عصمته وهو على كفره.
5. التنسيق مع أهل البدع والأهواء من خوارج ورافضة وغيرهم، حيث جعل نائبيه في الاتحاد الإسلامي الأوروبي أحدهما رافضي والآخر خارجي.
6. إباحة الغناء والموسيقى، وأنه قد يكون طاعة – تتبعاً لبعض السقطات – والاستماع إليهما، ومدحه لهما، حيث قرر أن الموسيقى والغناء لا يحرمان اللهم إلا إذا سكر "الموسيقار" أوالفنان ولبس قطعة من الحرير الطبيعي ثم عزف وغنى، في هذا الجو حينئذ يحرمان، وقد سجل ذلك في كتابه السابق، ورد عليه الشيخ الفوزان، وكرر ذلك في مقابلة مع مدير التلفزيون السوداني الأسبق قبل حين في إحدى زياراته إلى الخرطوم، وعلل ذلك بتوفر "الجو".
7. الاعتداء في الزكاة الذي لا يقل خطراً وإثماً من منعها، حيث اكتوى بنار ذلك السودانيون، لمصادفة ما قاله هوى المشرعين بديوان الزكاة بالسودان، بل تعدوا ما أجازه هو بكثير كما صرَّح هو بذلك لهم.
وهذه من أخطر مخالفاته، لأنه يبوء بوزر من قلده في ذلك، حيث لا ينقص ذلك من أوزراهم شيئاً، وأخشى أن يُسأل عن كل جنيه أخذت باسم الزكاة من مال لم تجب فيه الزكاة.
8. أجاز حلق اللحية رداً لقول الرسول الكريم: "أعفوا اللحوا وقصُّوا الشوارب".
9. إباحته للسفور، حيث أجاز للمرأة أن تكشف عن وجهها أمام الرجال الأجانب.(9/207)
10. إباحته للتمثيل وصده لبعض الممثلات التائبات عن الإقلاع عنه – أسأل الله أن لا يكن استجبن لفتواه – حتى لا يهلك ويهلكن معه، ويذكرني هذا بما قاله أحد المتفلتين لأحد التائبين عن الغناء: لماذا تترك الغناء؟ يمكنك دخول الجنة وأنت تضرب على أوتار عودك؛ فما كان من هذا المسكين إلا أن رجع إلى ما تاب عنه بعد حين، وأصبحت حاله الثانية أسوأ من حاله السابقة التي كان يعتقد فيها أنه ممارس لحرام ويستغفر الله عن ذلك، أما الآن فهو يعتقد أنه يتعبد ربه بذلك، ويصدِّق هذا كله ما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلمَ انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا"، ورحم الله مالكاً وغيره عندما قالوا: إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم.
11. إباحته للتصوير، وهو من أكبر الكبائر بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المصورون أشد الناس عذاباً يوم القيامة"، حيث لم يفرِّق بين ذات الظل المجسمة ولا غيرها، ولا ما صُوِّر بريشة أوبآلة، فطالما أننا نطلق عليها اسم صورة فهي داخلة في الوعيد.
12. إجازته لإخراج زكاة الفطر نقداً، ففتن بها الناس وصدَّهم عن سنة نبيهم وعن أقوال أئمتهم المقتدى بهم، عملاً بمبدأ التشهي في الفتوى بما يهوى المستفتون، فترك صيامهم معلقاً بين السماء والأرض، حيث لم يطهروه ويجبروه بإخراج الطعام ظناً منهم أنهم أرحم بالفقراء والمساكين من ولد عدنان، وأنهم هم الميسِّرون لما قسَّاه وعسَّره رسول الإسلام!!
13. تحريمه للعمليات الاستشهادية بعد أن كان مجيزاً لها في حرب المسلمين الدفاعية، حيث لم يجدوا غيرها سبيلاً.
14. أجازالسينما، ولم تنفعه تلك الاشتراطات التي اشترطها.
15. أباح الشطرنج بشروط كذلك لا أثر لها في التحريم والتحليل.
16. إباحته للدخان إلا إذا حرمه الطبيب على المريض!!
هذا قليل من كثير، وغيض من فيض، ونخشى أن يكون ما خفي علينا من آرائه وأقواله أعظم مما ظهر لنا.
من العجيب الغريب اكتفاء البعض واستفتاؤهم واقتصارهم على ما يكتبه ويقوله ويفتي به بعض الدعاة المُحْدَثين، على الرغم من أنهم مبتوتون، أوزاهدون، أومخالفون، أوجاهلون، أومستنكفون ومستكبرون لما كان عليه السلف الصالحون من علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم من أئمة الدين الموثوق بمنهجهم، وطريقتهم، وعلمهم، وسلوكهم، هذا مع إرشاد ونصح رسولنا الكريم والتابعين له بإحسان بالتأسي والاقتداء بهم، والسير على طريقهم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة"، "اقتدوا باللذين من بعدي"، يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أبرُّ الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً".
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً أخذنا بها تصديقاً لكتاب الله عز وجل، واستكمالاً لطاعة الله تعالى، وقوة على دين الله سبحانه، من عمل بها مهتدٍ، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولى، وصلاه جهنم وساءت مصيراً".
لماذا يترك البعض الكتاب والسنة وإجماع الأمة ويبحثون عن الزلات والهفوات والسقطات والشذوذات؟
لماذا يترك الناس المضمون ويرضون بالدون؟
لماذا يتركون ورود الأنهار العذبة ويقنعون بالبرك والجداول والحفر؟(9/208)
جاء في مقدمة كتاب الشيخ عبد الحميد طهماز في رده على الشيخ القرضاوي كلمات مفيدة ونصائح عديدة يحتاج إليها طالب العلم، حيث قال جزاه الله خيراً: (ولا مناص لكل باحث في أحكام الشريعة الإسلامية من الرجوع إلى آرائهم وأقوالهم، وأن كل من سولت له نفسه مخالفة أقوالهم، والخروج على آرائهم، وقع في الخلط والخبط والتناقض والتهافت لأنه ما أحاط بالأدلة إحاطتهم، ولا فهم النصوص فهمهم، وهم أقرب منه إلى عصور الخير والصفاء تلقياً وفهماً، وكان عليه قبل أن يخالفهم أن يدرس أدلة أقوالهم، ليجد أنهم رحمهم الله تعالى ما خرجوا عن الكتاب وما خالفوا السنة، بل صدروا عنهما في كل أقوالهم وآرائهم، وبين أيدينا مثال عملي لهذا وهو كتاب "الحلال والحرام في الإسلام"، فقد خرج مؤلفه الشيخ يوسف القرضاوي عن آراء الأئمة في كثير من مسائله، إلى أقوال شاذة، أوضعيفة الثبوت، أومنحولة مدسوسة على قائلها، وليته قبل أن يسجلها في كتابه وازن بينها وبين الأقوال المعتمدة عند الأئمة وقارن بين أدلة هذه وأدلة تلك، ولو فعل هذا لظهر له ضعفها وشذوذها، وبالتالي ما أثبتها في كتابه كرأي معتمد يفتي به جمهور المسلمين وأجيالهم اللاحقة، أقول هذا على أنني على يقين من حسن نيته وصفاء طويته، فما ذكر هذه الأقوال الشاذة إلا بدافع إظهار الإسلام بمظهر اليسر والمرونة، وليس يسر الإسلام ومرونته في مجاراة أهواء الناس وميولهم، إنما يسر الإسلام في مرونة نصوصه، وسهولة تكاليفه التي يستطيع القيام بها أي إنسان في أي زمان ومكان، أما أن نلجأ تحت شعار التيسير والتسهيل على الناس إلى الأقوال الشاذة والضعيفة والمنحولة فنخرق أسوار الشريعة ونتجاوز حدودها فلا يجوز لنا أبداً، سواء كان ذلك بحسن نية أوبسوء نية.
ولقد قرر المؤلف بنفسه هذا عندما قرر المبادئ التالية:
• ...
النية الحسنة لا تبرر الحرام.
• ...
التحايل على الحرام حرام.
• ...
ما أدى إلى الحرام فهو حرام.
• ...
في الحلال ما يغني عن الحرام.
وكما أخذ المؤلف من المقلدين الذين يسارعون إلى إطلاق كلمة حرام بدون أن يكون معهم دليل ولا شبه دليل نأخذ عليه إسراعه إلى الأقوال الضعيفة والشاذة، وتسجيلها في كتابه كأنها آراء معتبرة ومحققة يجوز الأخذ بها والعمل بمقتضاها).
مما يحز في النفس ويدعو إلى الحزن والأسى غرور واستكبار سالكي هذا المنهج – منهج التفلت – ومقلديهم، حيث يصفون المخالفين لهم وهم المتبعون الملتزمون لما كان عليه رسول الإسلام، والسلف الكرام، والأئمة الأعلام، بالتشدد والتزمت، والجهل بالفقه ومقاصد الشريعة، ويمدحون أنفسهم بأنهم هم الفقهاء العلماء الحكماء، وهذا والله من اختلاف الموازين، وبسبب جهل وخلل في الدين، وغرور مشين، ويصدق عليهم المثل: "رمتني بدائها وانسلت"، إذ لا يعني الفقه بحال من الأحوال معارضة وردِّ النصوص الصريحة الصحيحة، ولا البحث والتفتيش عن الزلات، والسقطات، والرخص، والهفوات، ولا التشهي في الفتوى بما يهواه المستفتون، ويطلبه المستمعون، وينعق به الناعقون.
فبينما تجدهم يمدحون ويثنون على ابن حزم رحمه الله فيما خالف فيه السنة والإجماع، وشنع عليه بسببه الأئمة الأعلام، لإباحته الأغاني، يخالفونه ويذمونه فيما وافق فيه الإجماع.
وبينما يوصف أبوحنيفة رحمه الله بإمام الأئمة إذا صادف ما قاله الهوى وتشتهيه النفوس، يُذم وينتقص إذا كان مذهبه: "أن التلذذ بالغناء كفر"، كما نقل ذلك ابن القيم رحمه الله عن مذهبه، وأن وجه المرأة عورة، وأن حلق اللحى حرام، إلى غير ذلك، وهو معذور حيث قال: "هذا رأيي فمن جاءني برأي خير منه قبلته"، ولم يقل: "هذا شرع محمد صلى الله عليه وسلم"، ولهذا رجع أكبر تلاميذه القاضي أبويوسف عندما جاء المدينة وناظره مالك عن كثير من الأمور، وقال: "لقد سمعتُ يا أبا عبد الله لقولك، ولو سمع صاحبي ما سمعتُ لرجع كما رجعتُ".
فهل لمن يسلك هذا المسلك المشين ويهجر ويترك ما قرره علماء الشرع والدين من شبيه أومثيل سوى المكنسة التي تلتقط الأوساخ، وإلا الذباب الذي لا يقع إلا على القاذورات، وإلا الجُعْل الذي اتخذ المراحيض مأوى له ومسكناً، وفضلها على ما سواها من العمران؟!!!
ولله در القائل من سادتنا العلماء الأجلاء: من تتبع رخص العماء وزلاتهم وهفواتهم تزندق أوكاد، وتجمع فيه الشر كله.
وأخيراً أحب أن أتوجه بكلمتين نصحاً لله ورسوله، إحداهما لفضيلة الشيخ يوسف القرضاوي، والثانية للمفتونين به المقلدين له في كل ما يقول، المتخذين إياه إماماً يصدرون عن فتواه ولا يأخذون بقول من سواه، ولو جاءهم بأصح الأدلة وأجلاها، لما صادف ما قاله هواهم، إذ المقلد متبع لهواه مغضب لربه ومولاه: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً"، ولهذا قال العلماء: لا فرق بين مقلد وبهيمة تقاد، إذ التقليد مأخوذ من القلادة التي يقاد بها الحيوان؛ فليهنأ المقلد بشبه العجماوات.(9/209)
وقبل التوجه بهاتين الكلمتين أحب أن أحذر نفسي والمعنيين وغيرهم من الاستكبار والاستنكاف عن قبول النصيحة إذا جاءت ممن قل علمه – في زعمهم – لمن كثر علمه، ولله در إسحاق بن أحمد العلثي الزاهد القدوة وهو ينصح للإمام ابن الجوزي رحمه الله ويرد عليه في مسألة تفضيل الرسل على الملائكة، لأنه أمر محدث لم يخض فيه السلف الصالح: (ولا يغرك كثرة اطلاعك على العلوم، فرب مبلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه لا فقه له، ورب بحرٍ كدرٍ ونهرٍ صافٍ، فلستَ بأعلم من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال له الإمام عمر: أتصلي على ابن أبَيّ؟ فنزل القرآن: "ولا تصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً"، ولو كان لا ينكر من قل علمه على من كثر علمه إذاً لتعطل الأمر بالمعروف، وصرنا كبني إسرائيل، حيث قال الله تعالى: "كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه"، بل ينكر المفضول على الفاضل، وينكر الفاجر على الولي، على تقدير معرفة الولي).
أما كلمتي لفضيلة الدكتور يوسف القرضاوي فأقول فيها:
أولاً: اتق الله في نفسك وفي هذا الدين، وفي المقلدين لك من الدعاة والعامة، واعلم أنك مسؤول عنهم فيما يقلدونك فيه، وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "ويل للعالم من الأتباع"، ونقول كذلك: ويل للأتباع من الدعاة.
ثانياً: ندعوه مخلصين إلى الرجوع عن جميع تلك الأقوال قبل فوات الأوان، ونزول الكرب العظام، حيث لا ينفع الندم، ولا تقبل التوبة، فطوبى لمن مات وماتت بدعته معه، والويل ثم الويل لمن مات وبقيت بدعته بعده يعمل بها المقلدون، ويحاسب عليها الفاتن والمفتون، فالرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة لا تدانيها رذيلة.
ثالثاً: ندعوه إلى التمسك بمذهب أهل السنة والجماعة، وما عليه السلف الصالح في الاعتقاد، والفتوى، والمنهج، وغيرها، ولا يرد على ذلك أنه في الجملة على منهج أهل السنة والجماعة، وأقواله هذه كلها مناقضة ومخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة.
رابعاً: تحذير الأتباع من العصبية الحزبية الضيقة، وبذل قصارى الجهد في ذلك.
خامساً: التذكير بأن نصر هذا الدين وتمكينه لا يأتي بالتنازلات، ولا البحث والتفتيش عن الزلات والهفوات، بل بنصره والحرص عليه والأخذ بالعزائم.
سادساً: الحذر من الاستكانة إلى الكفار والتشبه بهم.
سابعاً: العمل على نشر العقيدة الصحيحة، ومحاربة الممارسات الشركية والبدع والمحدثات، فهو من أجل ما تفنى فيه الأعمار، وتضاعف به الأجور، وتمحى به الزلات والخطيئات.
ثامناً: الاشتغال بالنصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.
أما كلمتي للمفتونين به المقلدين له في كل ما يقول، فأقول فيها:
أولاً: اتقوا الله في أنفسكم، وفي دينكم، وفي هذا الشيخ.
ثانياً: لا يحل لأحد أن يقلد أحداً في كل ما يقول، ولو كان من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة، سوى الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: الطاعة لا تكون إلا في المعروف، هذا لمن تجب على المسلم طاعتهم.
رابعاً: لا يكن أحدُكم إمعة يسير مع القطيع حيث سار، ولكن وطنوا أنفسكم على اتباع الحق.
خامساً: الحق لا يعرف بالرجال، وإنما يعرف الرجال بدورانهم مع الحق حيث دار.
سادساً: الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها ويعمل بها ولو جاءته من كافر أوفاجر، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه.
سابعاً: الحذر أن تقلد أحداً دينك فتكون من الهالكين.
ثامناً: لا تكتفي بما يكتبه ويقوله الدعاة المُحْدَثون، وعليك أن تشتغل بالعلم الشرعي، وأن تتلقى العلم من المشايخ الثقات الأثبات.
تاسعاً: عليك أن تعمل على تزكية نفسك، وأن تشتغل بعيوبك عن عيوب غيرك.
عاشراً: احرص على الاعتصام بالسنة، واحذر الابتداع في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً، فهو من المهلكات:
فخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثاتُ البدائع
والله أسأل أن يردنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين إلى الحق والهدى رداً جميلاً، وأن يحيينا مسلمين، ويتوفنا مؤمنين، وينصرنا على أنفسنا وعدونا، ويعز وينصر إخواننا المجاهدين، وأن يحمي حوزة الدين، ويدمر أعداءه الكفرة الملحدين، من اليهود والنصارى ومن شايعهم ووالاهم، وصلى الله وسلم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وعلى آله وصحبه والتابعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
0000000000000000000
مفاهيم ينبغي أن تصحح ما حقيقة الصوفية؟
متى ظهرت الصوفية؟ وإلى أي شيء ينتسب الصوفي؟
مم يتكون الفكر الصوفي أوالعقيدة الصوفية؟ وماهي مصادره؟
مصادر التلقي عند الصوفية
هل هناك علاقة بين التقلل من الدنيا، والزهد، والإكثار من ذكر الله، وبين الصوفية؟
هل هناك صوفية معتدلة وأخرى منحرفة؟
هل يجوز لأحد أن ينتسب إلى طريقة صوفية؟
الأسباب الشرعية التي تحرم الانتساب إلى الطرق الصوفية
الخلاصة(9/210)
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرفنا بالانتساب إلى ملة خير الأنام وخاتم الرسل العظام الكرام، وسمانا بالمسلمين، فأغنانا عن تسمية غيره من الأنام، وصلى الله وسلم على رسوله ما تعاقب الملوان، وعلى أصحابه وأزواجه والتابعين لهم بإحسان.
وبعد..
من اقوى وسائل التضليل والتدليس والتلبيس على الناس المصطلحات المغلوطة، والشعارات الفارغة المبثوثة، والتعتيم على ذلك.
شاع بين الناس قديماً وحديثاً أنه لا مشاحة في الأسماء والألفاظ والمصطلحات، وإنما العبرة بالمضمون، لكن هذا الأمر ليس على عمومه، إذ هناك مصطلحات ومسميات لها ظلال واضحات، ومخالفات بينات، وعليها محاذير خطرات.
من تلك المصطلحات والتسميات التي تحمل تلك السمات والظلال مصطلح "الصوفية"، إذ يظنه البعض مرادفاً للإسلام، وموافقاً لشريعة ولد عدنان، بل يعتقد فريق من الناس أنه أعلى درجة من الإسلام، وأرفع منزلة منه، يَحْدُث هذا بسبب الجهل بحقيقة الإسلام والصوفية معاً من ناحية، ولسكوت جل العلماء عن بيان الفروق الكبيرة والمخالفات الخطيرة بين الإسلام والصوفية، إما خوفاً وطمعاً، أورغباً ورهباً، ولله در الإمام أحمد بن حنبل حين قال: "إذا سكت الجاهل لجهله، وأمسك العالم تقية، فمتى تقوم لله حجة؟".
لقد أمر الإسلام بالتناصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، ورفع الحرج عن هذه الأمة، حيث قال مشرعها: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان".
وليت الساكت عن البيان – وهو شيطان أخرس – سكت عن المجاهرين بالحق، ورضي بأضعف الإيمان بدلاً من النفاق.
من المحزن أن يقدِّم أرسطو – وهو كافر – الحقَّ على موافقة أستاذه أفلاطون، ويستنكف البعض عن إقرار القائلين بالحق أوحتى السكوت عنهم.
من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة قط، وأن الله عصم هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة أوتتفق على بطالة، بل جعل طائفة منها لا تزال على الحق ظاهرة عالية لا يضرها من خذلها ولا من عاداها حتى تقوم الساعة، كما أخبر الصادق المصدوق.
فما حقيقة الصوفية؟ ومتى ظهرت هذه البدعة في البرية؟ وما هي أخطر عقائدها ومخالفاتها دعك عن موافقتها أوتميزها عن المحجة البيضاء والحنيفية السمحة، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية؟
هذا ما نود الإشارة إليه في إيجاز، نصحاً لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وتبرئة من المسؤولية، ولعلها تصادف آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، ونفوساً زاكية.
دفعني لهذا البيان ما سمعته من أغنية للشيخ البرعي وأنا راكب حافلة، إذ لا فرق بين الأغاني والسماع الصوفي الملحن ، بل السماع الصوفي أخطر وأضر لما يحويه من الشركيات والغلو، جاء فيها أن محمداً صلى الله عليه وسلم "أساس الصوفية"، لأن هذا من الكذب المبين، والافتراء المهين، الذي يدرج قائله من جملة المكذبين على سيد المرسلين، وكذلك زعم البعض أن محمداً صلى الله عليه وسلم لبس الخرقة، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً، وأن علياً وجعفر رضي الله عنهما رقصا وتواجداً، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم تواجد.
أما نسبة أبي بكر وعمر وأبي ذر وغيرهم من الصحابة إلى الصوفية فهي أقذر وأخس من نسبة عمر إلى "الديكتاتورية"، وأبي ذر إلى الاشتراكية، سيُكتب قول هؤلاء ويسألون.
متى ظهرت الصوفية؟ وإلى أي شيء ينتسب الصوفي؟
ظهرت الصوفية كما يقول العلماء المحققون في أواخر المائة الثانية أوأوائل المائة الثالثة بالبصرة.
وينتسب الصوفي إلى لبس الصوف، وليس إلى الصفاء، ولا إلى أهل الصُّفَّة، ولا إلى الصف الأول، ولا إلى غير ذلك من الدعاوي، لأن كل هذا تأباه اللغة ويكذبه التاريخ.
لقد لبس رسولنا الكريم القطن والصوف وغيرهما، ونهى عن لباس الشهرة، الذي يتمثل في لبس الصوف، أوالمرقع، أوالتميز باللون الأسود أوالأخضر، لأن ذلك أصبح شعاراً للرافضة والطرقية.
ولباس الشهرة وهو الرفيع جداً، أوالوضيع جداً، أوالمخالف لما تعارف عليه الناس، حكمه في أرجح قولي العلماء الحرمة، فليهنأ لابسه بمخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالصوفية إذاً من العقائد المحدثة، وهي مأخوذة من الفكر الرافضي الشيعي، الذي مصدره اليهودية الحديثة، والفلسفات والديانات القديمة.
لم يرد لفظ "صوفي" أو"صوفية" لا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في أثر للصحابة الكرام ولا الأئمة الأعلام المقتدى بهم.
مم يتكون الفكر الصوفي أوالعقيدة الصوفية؟ وماهي مصادره؟
يتكون الفكر الصوفي والعقيدة الصوفية من الآتي:
أ . عقائد كفرية، نحو:
• ... عقيدة الاتحاد والحلول والفناء.
• ... جواز التوسل بالأنبياء والصالحين، الأحياء الغائبين والحاضرين منهم، والميتين.
• ... اتخاذ الوسائط.
• ... الغلو في الأنبياء والصالحين.(9/211)
• ... ادعاء أن بعض المشايخ تسقط عنهم التكاليف الشرعية.
• ... اعتقاد البعض أن درجة الولاية أعلى من درجة النبوة، يقول محي الدين بن عربي:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
• ... أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُرى يقظة بعد وفاته، ويحضر الحوليات والموالد.
• ... أن الرسول صلى الله عليه وسلم خُلق من نور، وأن الأنبياء من لدن آدم خلقوا من نور محمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
• ... تقسيم العلم إلى علم شريعة وحقيقة، أوظاهر وباطن، وهو تقسيم لم ينزل الله به سلطاناً، ولا أثر عن أحد من الأعلام.
• ... أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره كحياته قبل وفاته، وأنه يعلم الغيب.
• ... أن الشيخ يحضر عن وفاة مريديه وفي القبر ويلقنهم الشهادتين:
هم حاضرين يا ليلى
مع الملكين يا ليلى
و ملقنين يا ليلى
للكلمتين يا ليلى
إلى غير ذلك من العقائد الكفرية المخالفة للشريعة المحمدية، فهذه مجرد أمثلة، ويمكن الرجوع إلى مصادرهم "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكية" لابن عربي، و"طبقات الشعراني"، و"طبقات ود ضيف الله"، وغيرها؛ ونحن نعلم أن ليس كل صوفي يعرف هذه العقائد أويدين بها، لكن جل المشايخ يعلمونها ويعتقدونها.
ب. السماع الصوفي
من المخالفات الواضحة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عند الصوفية السماع الصوفي، وهوعبارة عن قصائد مليئة بالشركيات والغلو في الرسول والمشايخ، وملحنة ومصحوبة بالآلات الموسيقية.
وهناك فرق بينها وبين إنشاد القصائد الزهدية الخالية من الشركيات والغلو والتلحين والآلات الموسيقية نحو الطبل "النوبة".
وحتى هذا فقد كرهه الإمامان الكبيران الشافعي وأحمد وغيرهما، فقال الشافعي وهو يتحدث عما خلفه ببغداد: "التغبير أحدثه بعض الزنادقة ليصدوا به الناس عن كتاب الله"، وكان الإمام أحمد ينهى أتباعه عن سماع ذلك عندما أحدثه الحارث المحاسبي.
ج. الأوراد والأذكار البدعية
كذلك من مخالفات الصوفية الأوراد والأذكار البدعية التي ألفها بعض المشايخ لأتباعهم، فما من طريقة إلا ولها أوراد خاصة بها تلزم بها أتباعها ومريديها، وفيما صح عن نبينا غنى وكفاية عما أحدثه المُحْدِثون قديماً وحديثاً، فمن لم يسعه ما وسع محمداً وصحبه والتابعين لهم بإحسان فلا وسَّع الله عليه.
مصادر التلقي عند الصوفية
ونعني بذلك مصادر هذه العقائد المنحرفة، والأذكار، والسماع الصوفي البدعي المحدث، يعتمد الصوفية في ذلك على الآتي:
1. الأحاديث الموضوعة والضعيفة جداً.
2. الرؤى، منامية أويقظة، لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمشايخهم.
3. الهواتف الشيطانية.
4. الذوق.
5. الحكايات المكذوبة، وادعاء الكرامات المزعومة المنسوبة لبعض مشايخهم.
هل هناك علاقة بين التقلل من الدنيا، والزهد، والإكثار من ذكر الله، وبين الصوفية؟
من الخلط الواضح والتلبيس الفاضح نسبة الزهد في الدنيا، والتقلل من نعيمها ومباحاتها، وعدم الاشتغال بها، والإكثار من ذكر الله عز وجل بالاذكار المشروعة إلى الصوفية، وعدم إضافة ذلك إلى الإسلام، وهذا أكبر بهتان وأعظم افتراء، سواء كان خلطاً متعمداً مقصوداً أونتيجة جهل.
إذ رسولنا صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام كانوا أئمة الزهاد والمتوكلين، ومطلقين للدنيا وزخارفها الفانية، وكانوا أخشى عباد الله وأتقاهم.
فلماذا ينسب هذا إلى الصوفية زوراً وبهتاناً ويسحب من شريعة المنزل عليه القرآن؟ وهو القائل: "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر"، والقائل: "والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم"، وكان يمر الشهر والشهران والثلاثة ولا توقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار لصنع طعام، وعندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتسألن يومئذ عن النعيم"، قال له أصحابه: عن أي نعيم نُسأل؟ إنما هما الأسودان التمر والماء، وسيوفنا على أكتافنا، والعدو أمامنا؛ قال: "لتسألن عن الأسودين"، والمراد سؤال تعداد النعم.
كل هذا نتج من اللبس المتعمد والتضليل المقصود لمرادفة الصوفية وهي من البدع المحدثة للحنيفية السمحة والمحجة البيضاء.
الذي ندين الله به ونلقاه عليه أن الإسلام بريء من الصوفية براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وأن الصوفية شرع جديد يشمل بعض ما جاء به الإسلام وكثير من النواقض والمبطلات له، هذا بجانب البدع المحدثات، والمخالفات الواضحات، فالمرء قد يكون فيه شيء من الإيمان وأشياء من الكفر، كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، فقط لقوله لأحد الصحابة: يا ابن السوداء.
أما من اعتقد أن الصوفية أفضل من الإسلام وأعلى منزلة ودرجة منه فليجدد إسلامه.
هل هناك صوفية معتدلة وأخرى منحرفة؟(9/212)
لا شك أن الصوفية ليسوا كلهم سواء، وأنهم متفاوتون قديماً وحديثاً، وأنه من الظلم نسبة الجنيد والفضيل بن عياض وأضرابهما من العباد والزهاد والأئمة الأخيار وقرنهم تحت اسم واحد وهو الصوفية مع الحلاج، وابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، وغيرهم.
فالأوائل من أئمة المسلمين وإن صدرت منهم بعض المخالفات، وإن نسبوا إلى الصوفية، والأواخر أقرب إلى الزندقة منهم إلى الإسلام، ولذلك من الظلم نسبة الأوائل إلى الصوفية وإن صدرت من بعض الأكابر، فالصوفية معتدلهم وغاليهم من أهل البدع وإن تفاوتوا في الدرجات.
ولا يرد على هذا ما أثر عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تقسيم الصوفية إلى ثلاث مراحل فهو وصف لحالهم، ولم يرد إقرار الأوائل منهم.
هل يجوز لأحد أن ينتسب إلى طريقة صوفية؟
لا يحل لأحد أن يرضى بغير الإسلام اسماً وبديلاً، خاصة المصطلحات التي لها ظلال، ولا نعني بذلك الانتساب إلى المذاهب السنية الأربعة، ولا الانتساب إلى أهل السنة والجماعة، لأنها لا ظلال لها كالانتساب إلى طريقة صوفية، أوإلى فرقة عقدية، أوحزب أوجماعة يخالف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في الاعتقاد والتصور والسلوك.
ونحن لا نشك أن الداخل في بعض هذه الطرق قد يستفيد بترك بعض المعاصي وبتحسين سلوكه، لكن ما يفقده بانضمامه إلى تلك الطرق أضعاف أضعاف ما يكسبه منها، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
ومن أخطر ما يصيب المنتمي لهذه الطرق فساد العقيدة والتعصب المقيت لها، وكونه يصبح إمعة، لأن من شروط الانتساب لهذه الطرق أن يكون مع الشيخ كالميت بين يدي مغسله، ويقولون له: لا تعترض فتطرد؛ ويا فوز المطرودين ويا ندامة الباقين على هذه الحال، حيث قرر رسولنا الكريم أن الطاعة لا تكون إلا في المعروف.
والطاعة في الإسلام للعلماء العاملين بعلمهم، ولولاة الأمر المؤتمرين بأمر العلماء، أما مشايخ الطرق وجلهم نالوا ذلك بالتوارث، ولا اهتمام لهم بالعلم، فلا تجب طاعتهم، ولا يحل لأحد أن يسألهم، حيث أمرنا بسؤال أهل الذكر وهم العلماء: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون".
هذا مع يقيننا بأهمية المشيخة والتتلمذ على المشايخ العلماء لنيل العلم الشرعي، فالعلم بالتعلم وليس بالتلقين كما يزعم الصوفية، ولا يرد على ذلك أن يبارك الله في فهم وعلم الإنسان: "واتقوا الله ويعلمكم الله"، وحاجة المرء إلى تزكية النفس والسمو بها لا تقل عن حاجته إلى العلم الشرعي، ولذلك قال ابن وهب: ما تعلمته من أدب مالك أضعاف ما تعلمته من علمه؛ ولذات السبب قال مالك وغيره: إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم.
أما بالنسبة للمشايخ الطرقية فهم لا يشتغلون بالعلم، وعمدتهم ما قاله الشبلي وغيره: إذا جاءوني بعلم الورق بذلت لهم علم الخِرَق!!
وقد طلق كثير ممن دخل في التصوف العلم الشرعي، منهم على سبيل المثال حمد النَّحلان، كما حكى ود ضيف الله عنه، فقد طلق الفقه ثلاثاً، وهذا أول رغبات الشيطان ومتطلباته من أوليائه حتى يلقي في عقولهم ما يشاء.
وكان بعض المشايخ السابقين عندهم شيء من الزهد والتقلل من الدنيا، أما الأحفاد والأبناء فقد زاحموا أهل الدنيا وبزوهم في ذلك، ورحم الله الشيخ العبيد ود بدر حين قال: "أنا وأحمد ولدي فقراء ومساكين، والبعدنا أمراء وسلاطين، والبعدهم عكليتة ود الأمين"، أوكما قال، وقد غشانا الزمن الذي تنبأ به الشيخ ود العبيد، فالواجب الفرار منهم كالفرار من الأسد.
الأسباب الشرعية التي تحرم الانتساب إلى الطرق الصوفية
الأسباب التي تنهى المسلم عن الانتساب إلى الطرق الصوفية خاصة، والمخالفة للإسلام من الأحزاب العلمانية وغيرها عامة ما يأتي:
1. المخالفات العقدية والبدع التي ذكرنا طرفاً منها.
2. عدم الاشتغال بالعلم الشرعي والاستعاضة عن ذلك بالحكايات المكذوبة والكرامات المختلقة.
3. الصوفية في العقيدة مرجئة، ولذلك فهم لا يشتغلون بـ:
• ... الجهاد في سبيل الله، بل بعضهم كان عوناً ولا يزال للغزاة والمستعمرين في الجزائر وغيرها، وعندما غزى التتار بلاد الشام قال أحد الطرقية مطمئناً الناس ومثبطاً لهم عن الجهاد:
يا خائفين من التتار لوذوا بقبر أبي عمر
لوذوا بقبر أبي عمر ينجيكم من الخطر
فقال له شيخ الإسلام ومفتي الأنام: لو كان أبوعمر حياً واقفاً معنا ما استطعنا أن نفعل شيئاً ونحن في هذه الحال من فساد العقيدة وعدم الأخذ بالأسباب؛ ثم سعى هو وتلاميذه لتجميع الناس وتدريبهم وحضهم على القتال، مما كان له الفضل بعد الله في رد الغزاة ودحرهم.
• ... عدم الاشتغال بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
• ... التواكل والبطالة، ولهذا قال الإمام الشافعي: "أسس التصوف على الكسل".
4. الخوف من الممارسات الشركية المحبطة للأعمال والمخلدة لصاحبها في النار.
5. منافقة الصوفية للسلطان، كافراً كان أم مسلماً، وقد مردوا على ذلك وتفننوا فيه.(9/213)
6. عدم الاشتغال بالدعوة إلى الله على بصيرة، ولا يرد على ذلك ما قام به بعض التجار من الصوفية ومن غيرهم.
7. عدم السعي لتحكيم شرع الله، بل من العوامل الرئيسة المساعدة في سقوط الخلافة العثمانية دخول بعض الخلفاء والأعيان في الطريقة النخشبندية وغيرها، وانشغالهم بها عن الجهاد.
لا يرد على ذلك بعض الشذوذ، فالحكم للغالب.
8. الصوفية عامل مخدر للشعوب الإسلامية، "فليس في الإمكان خير مما كان"، "والله يولي من يصلح" هذه شعاراتهم.
ولهذا عندما سئل الشيخ الإمام المالكي أبوبكر الفهري الطرطوشي عن جماعة من الصوفية يحضرون شيئاً من الطعام والشراب يأكلونه ويشربونه ثم يقومون إلى الرقص والتواجد حتى يقع أحدهم مغشياً عليه، وهي الحال العامة لجميع الطرقية، خاصة في الأعياد، وحوليات المشايخ، وليالي الاثنين والجمعة، هل الجلوس معهم جائز؟
فقال: افهم وفقك الله أن مذهب الصوفية ضلالة، وجهالة، وبطالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار، قاموا يرقصون حواليه وتواجدون، فهو دين الكفار وعبَّاد العجل، وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى، وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وكأنما على رؤوسهم الطير من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم من أئمة المسلمين، وبالله التوفيق.
وقد ذكروا له من قولهم:
يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق و الزلل
واعمل لنفسك صالحاً ما دام ينفعك العمل
أما الشباب فقد مضى ومشيب رأسك قد نزل
9. الصوفية عامل من عوامل الفرقة والتشتت للأمة.
10. الصوفية حائل منيع وكثيف عن الوصول إلى الدين الخالص الذي جاء به الحبيب المصطفى والنبي المجتبى.
11. الصوفية عامل من عوامل إماتة السنن وإحياء البدع، فكم من سنة أماتوها وأضاعوها، وكم من بدعة أحيوها ونشروها وجادلوا عنها؟ والبدع كلها ضلال بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم: "كل بدعة ضلالة"، من غير استثناء، فمن استحسن بدعة فبسبب هواه، أما المصالح المرسلة فلا علاقة لها بالبدع البتة.
قد يقول قائل: لماذا لم تذكر محاسنهم، أليس لهم محاسن؟ هذا من باب لزوم ما لا يلزم، لأنه إذا كانت المحاسن – إن وجدت – مغمورة بسيل من المفاسد والمضار فما فائدة ذكرها، بل لا حسنة واحدة مع فساد العقائد، ومخالفة السنة، وانتشار البدع.
الخلاصة
أولاً: أن الصوفية من البدع الحادثة المخالفة للإسلام في عقائده، وشرائعه، وأذكاره، وأوراده.
ثانياً: الصوفية شرع جديد مغاير لما جاء به البشير النذير.
ثالثاً: لا علاقة البتة بين الزهد والتقلل من الدنيا والإكثار من ذكر الله وبين الصوفية، وكون بعض الصوفية رفعوا هذه الشعارات ومارسوا بعضها لا ينقلها ذلك من الإسلام إلى الصوفية.
رابعاً: إن الدين عند الله الإسلام، وهو سمانا المسلمين، فعلينا أن لا نختار لقباً غير ذلك.
خامساً: ما عند الصوفية من معتدلين وغلاة لا يقره الإسلام ولا يرضاه.
سادساً: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينسب رسول هذه الأمة أوأحد الصحابة أوالتابعين لهم بإحسان إلى الصوفية، وإلا فقد أعظم على الله الفرية، وليعلم أنه سيحاسب على ذلك حساباً عسيراً.
وأخيراً أسأل الله أن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ويعافينا من التعصب للآباء والأجداد، وأن يعيننا على قبول الحق والأخذ به، ولو جاءنا من منافق أوكافر، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه.
وأقول لمن أراد المناظرة في ذلك – مع تمنينا أن يجري الله الحق على لسان مناظرينا- أننا مستعدون لذلك بهذه الشروط، وهي:
1. الالتزام بالأدلة من القرآن، وصحيح السنة، وإجماع الأمة.
2. أن يكون هناك حَكَم من علماء أهل السنة والجماعة.
3. أن لا تكون بين العامة.
4. أن تختم بمباهلة علنية إن لم يرجع المناظر.
فمن رضي بهذه الشروط فحيهلا على المناظرة، وإلا فلا، ونقول كما قال ربنا سبحانه وتعالى: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أوفي ضلال مبين".
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا وشفيعنا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والسل
000000000000000000000
تهنئة وتعزية بالعيد
من حق المسلم على أخيه المسلم أن يهنئ الطائعين الفائزين، وأن يعزي ويواسي العاصين، والمخالفين، والراسبين، سواء كان ما ناله العبد أوأصابه من حظ الدنيا الفاني أومن نصيب الآخرة الباقي، بل التهنئة والتعزية بحظوظ الآخرة أولى وأوجب من التهنئة والتعزية فيما يتعلق بأمر دنيوي مهما عظم أوحقر.(9/214)
روي عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: "يا ليت شعري! أين هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم فنعزيه؟"، وعن ابن مسعود رضي الله عنه كذلك أنه كان يقول في آخر رمضان: "من هذا المقبول فنهنيه؟ ومن هذا المحروم منا فنعزيه؟".
من عجيب أمر المسلمين اليوم كثرة التعازي والمعزين في مصائب الدنيا، وانعدام المعزين لمن أصيب في دينه، ولله در حاتم الأصم حين قال: فاتتني صلاة العصر في جماعة يوماً فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف نفس، لأن مصيبة الدين عند الناس أهون من مصيبة الدنيا، وما قاله هو الواقع المشاهد.
المعزون هنا صنفان:
• ... عصاة معاندون.
• ... مغيرون ومبدلون، أومقلدون لهيئات بعض العبادات.
وكل هذا يندرج ويصب في تغيير الشرع الحكيم، ومخالف لسنة سيد المرسلين، وقد توعد الله مخالف أمر الرسول صراحة أوبتأويل غير مستساغ بقوله: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم"، وقد فسَّر الإمام أحمد الفتنة هنا بالشرك.
ونحن نعلم علم اليقين أن أغلب الصنفين لم يتعمد مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ربما لم يتعمد ذلك الشقي عمرو بن لحي الخزاعي الذي رآه الرسول صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار، لأنه أول من بدل شرع إبراهيم كما صح بذلك الخبر، وإنما فعل ذلك تقليداً لما رآه في بلاد الشام، ولكن هذا قدرهم شاءوا أم أبوا، علموا ذلك أم جهلوه، تعمدوا ذلك أم صادفوه، فعلى الجميع تجب التوبة من ذلك، والعزم على أن لا يعودوا إليه، فليس هناك ذنب أكبر ولا أخطر من تبديل شرع محمد صلى الله عليه وسلم، صغر هذا الذنب أم كبر، كما قال مالك رحمه الله، إذ الدين ليس فيه قشور ولا لباب، وتلا قول الله عز وجل: "إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً".
هذه التوطئة والمقدمة لابد منها لما سنذكره من التعازي للمخالفات الشرعية، وبعد..
? نهنئ من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً فغفر له ما تقدم من ذنبه.
O ونعزي من حُرم صيام هذا الشهر وقيامه، فأبعده الله من رحمته التي وسعت كل شيء.
? نهنئ من صام وأفطر لرؤية الهلال عملاً بسنة النبي المختار.
O ونعزي من صام وأفطر بالحساب حيث لا يقبل صومه، ولم يشتغل برؤية هلال رمضان ولا شوال، مغيراً بذلك لسنة صحيحة، ومحيياً لبدعة قبيحة.
? نهنئ من صان صيامه عن اللغو والرفث، واستقام في صيامه عن التشاغل والعبث.
O ونعزي من غرَّق صيامه بالغيبة والنميمة، ولم يرقعه بالتوبة والاستغفار.
? نهنئ الصائمين حقيقة عن المفطرات الحسية والمعنوية.
O ونعزي الممسكين عن الأكل، والشرب، والجماع، والمنغمسين في الكبائر والمحرمات.
? نهنئ من أدرك شهر رمضان فغفر له.
O ونعزي من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له.
? نهنئ المنفقين للأموال، والمستغفرين بالأسحار.
O ونعزي الممسكين للأموال، الساهين اللاهين بالأسحار.
? نهنئ الذين أحيوا ليالي رمضان بالقيام، والتهجد، وتلاوة القرآن.
O ونعزي من شغلوا لياليه بالولوج والخروج في الفضائيات، والنظر والاستماع إلى الأغاني المحرمات، ومتابعة المسلسلات الفاضحات، أوبالذهاب إلى الخيم الرمضانية والنوادي الليلية، أوباللعب بالورق في الدواوين والدكات.
? نهنئ من وقف لإحياء ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
O ونعزي من غفل وسها عنها.
? نهنئ عمار المساجد أحب البقاع إلى الله.
O ونعزي من قضى جُلَّ وقته في الأسواق أبغض البقاع إلى الله.
? نهنئ من وُفق لإخراج زكاة الفطر من الطعام عملاً بسنة من أنزل عليه القرآن، فكانت طهرة لصيامه، وجبراً لما انتقص منه، تقبل الله منه وزاده من فضله وامتنانه.
O ونعزي من عدل عن ذلك وأخرجها نقداً، ضارباً عُرْض الحائط بما رواه الثقات: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أوصاعاً من شعير"، الحديث، ومستنكفاً عما قرره الأئمة الأعلام مالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم كثير من القدماء والمُحْدَثين أن إخراج النقد فيها لا يجزئ ولا تبرأ به الذمة، وترك صيامه معلقاً بين السماء والأرض، مؤثراً على ذلك ما اشتهته نفسه وهوته، من ترخص بعض أهل العلم لمن اضطر أن يخرجها نقداً، ومن تتبع رخص العلماء، وفتش عن زلاتهم، وفرح بسقطاتهم تزندق أوكاد، وتجمع فيه الشر كله كما قال السادة العلماء.
فالسعيد من تدارك ذلك وأعاد إخراجها طعاماً قبل خروج الإمام لصلاة العيد، أوبعد ذلك، وإن كانت له صدقة، خاصة وأن كثيراً ممن يجمعون زكاة الفطر نقداً – وهي غير مجزية – يعطونها للفقراء بعد خروج وقتها، انظر إلى شؤم البدعة ومخالفة السنة وما يجره على صاحبه؟
? نهنئ من عزم على أن لا يعود إلى ما تاب عنه بعد رمضان.
O ونعزي من صام رمضان وهو يحدِّث نفسَه أنه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه ومولاه وعاد إلى ما كان عليه.
? نهنئ من تكون حاله بعد رمضان أحسن من حاله قبل الصيام، وهي علامة القبول.(9/215)
O نعزي ونقول جبر الله كسر من كانت حاله بعد الصيام أسوأ مما كانت عليه قبل ذلك، وذلك دليل الرد.
? نهنئ المعتوقين من النار.
O ونعزي المحرومين.
وأخيراً نقول: هنيئاً للموفقين للخيرات، وجبر الله كسر المحرومين والمحرومات، والله أسأل أن يبلغنا رمضانات عديدة، ويحيينا أزمنة مديدة في طاعته، ليزداد المحسن منا إحساناً، وليتمكن المحروم المسيء من التوبة والإنابة.
اللهم ضاعف حسناتنا وتجاوز عن سيئاتنا وزلاتنا، يا من لا تنفعه الطاعات ولا تضره المعاصي والزلات، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة.
وصلى الله على الرسول الكريم الذي أوجب الله طاعته من غير قيد ولا شرط: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، ولم يبح لأحد طاعة أحد سواه كائناً من كان.
ولهذا غضب الإمام أحمد أشد الغضب ممن قال له: أجاز عمر بن عبد العزيز إخراج زكاة الفطر نقداً، وقال: أقول لك روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر أوصاعاً من شعير.." الحديث، وتقول: أجاز عمر بن عبد العزيز؟!!
وعمر بن عبد العزيز مكانته عند أحمد معلومة، فهو خامس الخلفاء الراشدين، ومجدد القرن الأول، ومحيي السنن التي أميتت، فكيف بمن سواه؟!
000000000000000000000
بدع رمضانية ومحدثات محلية وعالمية
ما يتعلق بثبوت الأهلة
ما يتعلق بالسحور
الأذان الأول
الفطر
صلاة القيام
القنوت ودعاء ختم القرآن
الاعتكاف في العشر الأواخر
زكاة الفطر
وظيفة الشيطان وأوليائه الأساسية حرف الناس عن الصراط المستقيم، والسنن القويم: "قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين"، وذلك بإماتة السنن وإحياء البدع، إذ لا تحيى بدعة إلا إثر إماتة سنة.
وقد حذر رسول الإسلام من الابتداع في دين الله ما لم ينزل به سلطاناً تحذيراً شديداً، وخوف من ذلك تخويفاً عظيماً، فقال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، أي عمله هذا مردود عليه لا يقبله الله بل يُعاقب عليه.
وحَمَّل المبتدع الأول وزر المقلدين إلى يوم القيامة: "ما من نفس تُقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه أول من سن القتل"، وقال: "من سنَّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزراهم شيئاً"، وكل هذا في الصحيح.
والبدع كلها سيئة وضلال بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة"، ولا يرد على ذلك تحكم البعض بتقسيمهم البدع إلى حسنة وقبيحة لأنه يقوم على التحسين والتقبيح العقليين وعلى الهوى.
ولو يعلم الناس خطورة الابتداع والإحداث في الدين لفروا منه فرارهم من الأسد.
ومما يؤسف له أن يصبح مصدر كثير من الأعمال التقليد للآباء والأسلاف: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون".
ونسي هؤلاء أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يقبضه ربه إلا بعد أن أكمل الله على يديه الدين، وأتم عليه النعمة، وترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولهذا قال مالك الإمام: "ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً"، و"لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، فمن لم يسعه ما وسع الصحابة والتابعين والسلف الصالحين فلا وسَّع الله عليه.
ومما يحز في النفس ويدعو إلى الأسى جرأة البعض على منكري البدع، وشن حملة شعواء عليهم، وانتقاصهم، ورميهم بالغلو والتشدد، وهم أولى بالذم وبالعقوبة، وبالتعزير والتأديب.
ما من عبادة من العبادات إلا وأصبحت منغصة ومكدرة بعدد من البدع المنكرات، والحوادث، والمخالفات.
وبعد..
فهذه بعض البدع التي اخترعها عدو الله إبليس على أوليائه، ونشرها بين العامة، وأفرحهم بها وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
من تلكم البدع الرمضانية ما يأتي:
?
ما يتعلق بثبوت الأهلة
1. الصيام والفطر بالحساب، الذي هو شعار الرافضة وأهل الأهواء، على الرغم من تحذير أهل العلم قديماً وحديثاً من ذلك، حيث قرروا أن من صام وأفطر بالحساب لم تبرأ ذمته، ولو كان الحاسب نفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
2. عدم تحري رؤية الهلال، وكان السلف يتحرون ذلك.
?
ما يتعلق بالسحور منها
1. ترك البعض للسحور بالكلية، على الرغم من الأمر به: "تسحروا فإن في السحور بركة"، وفي ذلك إماتة لهذه السنة.
2. تقديم البعض له والسنة تأخيره: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور".
3. إمساك البعض عملاً ببعض التقاويم والإمساكيات عن الأكل والشرب قبل حين من طلوع الفجر، وقد أباح الله الأكل والشرب إلى طلوع الفجر: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".(9/216)
4. التنبيه والتسحير – وهو أقبح الجميع، سواء كان بالقول، نحو: "تسحروا فإن في السحور بركة"، أوببعض الأذكار، أوبضرب الطبول وجوبان الشوارع بذلك، ويتضمن ذلك عدة مخالفات شرعية بجانب بدعيته، منها:
• ... تقديم السحور.
• ... ومنها إزعاج النائمين.
• ... وقد يكون ذلك سبباً لتفويت السحور بل صلاة الصبح على البعض.
وكلها مخالفات شرعية.
قال ابن الحاج المالكي رحمه الله: (اعلم أن التسحير لا أصل له في الشرع الشريف، ولأجل ذلك اختلفت فيه عوائد أهل الإقليم، فلو كان من الشرع ما اختلفت فيه عوائدهم.
وقال: وينهى المؤذنين عما أحدثوه في شهر رمضان من التسحير لأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أمر به، ولم يكن من فعل من مضى، والخير كله في الاتباع لهم كما تقدم، سيما وهم يقومون إلى التسحير بعد نصف الليل.
إلى أن قال:
وكذلك ينبغي أن ينهاهم الإمام عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي عند طلوع الفجر.
وقال:
ومنهم من يُسَحِّر بالآيات والأذكار، ومنهم من يسحر بالطبلة والشبابة والغناء، ومنهم من يسحر بالبوق والنفير، وكلها بدع، وبعضها أشنع من بعض، ورد على من يقول أنها بدعة مستحسنة).
وقال الحطاب في مواهب الجليل: (وفي النوادر قال علي بن زياد عن مالك: وتنحنح المؤذن في السحر محدث، وكرهه).
?
الأذان الأول
تقديه والزيادة عن ألفاظ الأذان المشروعة كما يفعل بعض المؤذنين، والسنة ألا يزيد الوقت بين الأذان الأول والثاني عن خمس أوعشر دقائق، فقد صح أن الفرق بين أذان بلال الأول وأذان ابن أم مكتوم الثاني أن يطلع هذا المنارة وينزل هذا، ولا يزيد حرفاً عن الألفاظ المأثورة.
?
الفطر
1. تأخير الفطر بعد غروب الشمس، بل بعد أذان المغرب كما يفعل البعض، وفي ذلك مخالفة صريحة لهديه صلى الله عليه وسلم، حيث قال: "إذا أدبر النهار من هاهنا وأقبل الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم"، أكل وشرب أم لم يأكل ولم يشرب.
2. المبالغة في إعداده والإسراف فيه.
?
صلاة القيام
البدع المتعلقة بصلاة القيام منها:
1. التخفيف المخل بحيث لا تستغرق ربع ساعة أوثلث ساعة مع العشاء، ويتخلل ذلك دعاء وأذكار، بل يكتفي البعض بقراءة آيتين في الركعة الأولى وآية في الركعة الثانية، بل يكتفي البعض بقوله: "مدهامتان"، ويكتفي جُلُّ الأئمة بقراءة الإخلاص في الركعة الثانية.
2. ما يتخلل صلاة التراويح من قراءة بعض السور، كالإخلاص ثلاث مرات، وبعض الآيات، والصلاة على الرسول، والاستغفار بصورة جماعية، وكل هذا ليس له أصل في الدين، ولا يُقرب من رب العالمين، ولا يُرضي رسوله الكريم، وفي بعض المساجد قد تستغرق هذه المحدثات أكثر من وقت الصلاة نفسها.
3. التفتيش والهجرة إلى بعض المساجد وترك المساجد المجاورة، وفي ذلك مخالفة للسنة.
4. تحريك ونقل بعض الأئمة من مسجد إلى مسجد، بحيث يصلي ركعتين في مسجد، وركعتين في مسجد آخر، وربما ركعتين في ثالث، وفي ذلك مخالفة للسنة، ومدعاة للرياء والسمعة للأئمة والمأمومين إلا من رحم ربك.
5. رفع الصوت في المساجد بعد الفراغ من الصلاة والصخب بالسلام وغيره.
?
القنوت ودعاء ختم القرآن
1. الإطالة فيهما، وقد تصل مدتهما في بعض المساجد إلى قريب الساعة كما هو الحال في الحرمين الشريفين.
2. تكلف السجع والإكثار منه.
3. الاعتداء في الدعاء فيهما.
4. المداومة عليه في كل رمضان، والأفضل أن يترك في بعض الأحيان.
وكل هذا خلاف ما كان عليه السلف الصالح ونهى عنه الأئمة الأعلام، وإن استلطفه العوام.
?
الاعتكاف في العشر الأواخر
1. ترك غالبية المسلمين له ولم يتركه نبيهم منذ هاجر إلى المدينة إلى أن توفاه الله، فهو سنة مؤكدة.
2. تكدس بعض المعتكفين في عدد قليل من المساجد، مع منافاة ذلك لغرض الاعتكاف وهو الخلوة الشرعية.
3. دعوى البعض أن الاعتكاف لا يجوز إلا في المساجد الثلاثة.
4. عدم تقيد البعض بآداب وأحكام الاعتكاف.
?
زكاة الفطر
من البدع المنكرة التي أحدثها البعض واستمرأها الجل في السنوات الأخيرة هذه إخراج زكاة الفطر نقداً، والأصل أن تخرج من غالب قوت أهل البلد، وهذا مذهب الأئمة الأربعة إلا أبا حنيفة، فقد أجاز إخراجها نقداً، ولا حجة لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال أحمد لمن قال له: أجاز عمر بن عبد العزيز إخراجها نقداً: (أقول لك رَوَى ابنُ عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعاً من تمر، أوصاعاً من شعير"، وتقول أجاز عمر بن عبد العزيز إخراجها نقداً؟!!!).
فمن أخرجها نقداً لم تبرأ ذمته منها، حتى قال ابن القيم: (من كان طعامهم سمكاً أولبناً أخرجوها من السمك واللبن).(9/217)
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام، ويجنبهم الفتن والآثام، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وأن يعصمهم من الابتداع في الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على رسول الإسلام، ونبي الملحمة، وخاتم الرسل الكرام، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم، ما ناح قمري وغرد حمام.
0000000000000000000
أخي الكريم كن ربانياً ولا تكن رمضانياً
يا حسرة على من يعرف ربه في رمضان، ويجهله في غيره من الأزمان
من علامات قبول العبادة أن تكون حال العبد بعدها أحسن من حله قبلها، وهذه هي ثمرة العبادة ولبها، إذ الهدف والغرض من جميع العبادات أن تزيد المرء قرباً وتقوى لله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، وأن تزكي نفسه وتطهرها من الآثام والرذائل، وأن تعودها على الكرائم والفضائل.
ولهذا ينبغي أن يكون حرص العبد على قبول عبادته، وخوفه من ردها، أشد من حرصه على العمل، لقوله تعالى: "إنما يتقبل الله من المتقين".
فالعبد الذي لا يعرف ربه ولا يعبده إلا في رمضان عبد سوء، إذ العبادة ليست قاصرة على رمضان، ولا على زمان دون زمان، والاستقامة مطلوبة في سائر الأيام: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون"، وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؛ قال: "قل: آمنتُ بالله ثم استقم"، وقد قيل: "ثواب الحسنة حسنة بعدها".
فمن استغفر بلسانه في رمضان وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود.
قال كعب: من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر أن لا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر عصى ربه، فصيامه عليه مردود".
قيل لبشر الحافي رحمه الله: إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان؛ فقال: بئس القوم، لا يعرفون الله حقاً إلا في رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السَّنة كلها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم عمله ديمة، وسئلت عائشة رضي الله عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص يوماً من الأيام؟ فقالت: "لا، كان عمله ديمة".
وسئل الشبلي: أيما أفضل رجب أوشعبان؟ فقال: كن ربانياً، ولا تكن شعبانياً ولا رجبياً.
ما الذي يجعل المسلم يحافظ على الصلوات المكتوبة في المسجد في رمضان ويدع ذلك في غير رمضان؟ لماذا نجد المساجد مكتظة بالمصلين في رمضان وفارغة منهم في غيره؟ أليست صلاة الجماعة حكمها الوجوب في أرجح قولي العلماء؟ لماذا يكثر الناس من تلاوة القرآن في رمضان، ويدع البعض تلاوته بالكلية في غير رمضان؟ أليس من السُّنة أن يكون للمسلم ورد يومي قل أوكثر؟
لا شك أن رمضان خصَّ بزيادة في العبادة، وفضِّل على غيره من الشهور، وميِّز بمميزات لا توجد في غيره، ولكن لا يعني هذا أن نقصر في غيره في أداء الواجبات، والانتهاء عن المحرمات، والإكثار من نوافل العبادات.
فالمسلم مأمور بحفظ جوارحه وحماية نفسه من الوقوع في الحرام في سائر الأيام.
عمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله، قال الحسن: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت، ثم قرأ: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين".
قال ابن رجب: (هذه الشهور والأعوام، والليالي والأيام، كلها مقادير للآجال، ومواقيت للأعمال، ثم تنقضي سريعاً، وتمضي جميعاً، والذي أوجدها وابتدعها وخصها بالفضائل وأودعها باقٍ لا يزول، ودائم لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد، فسبحان من قلب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم، ليسبغ عليهم فيها فواضل النعم، ويعاملهم بنهاية الجود والكرم.
إلى أن قال:
من عمل طاعة من الطاعات وفرغ منها، فعلامة قبولها أن يصلها بطاعة أخرى، وعلامة ردها أن يعقب تلك الطاعة بمعصية، ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحها! وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلها، وما أقبح السيئة بعد السيئة تمحقها وتعفوها، ذنب واحد بعد التوبة أقبح من سبعين ذنباً قبلها).
اللهم وفقنا للطاعات حتى الممات، وجنبنا الهفوات والزلات، وحبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، يا رحمن يا رحيم، وصلى الله وسلم على خير من صلى وصام.
0000000000000000000000
أيها الموسرون الأخيار ساهموا في نشر ميراث سيد الأبرار
أحب الأعمال إلى الله عز وجل ما كان أجره متعدٍ، وثوابه جارٍ في الحياة وبعد الممات: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة.."، وذكر منها: "علم ينتفع به"، وصدق من قال:
ينالك فضله ما دمتَ حياً ويبقى ذكره لك إن ذهبتا(9/218)
وليس هناك شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم وتعلمه ونشره بين الناس، فالعلم قائد والعمل تبع له، ولعالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد كما قال ابن عباس، ولئن يهدي الله بك -أوعن طريقك- رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم كما أخبر الحبيب المصطفى والرسول المجتبى.
مشكلة الإسلام الرئيسة تكمن في جهل أبنائه أولاً وفي كيد أعدائه ثانياً، لو يعلم المسلمون حقيقة الإسلام لجالدوا عليه بالسيوف، ولهانت عليهم في الذود عنه النفوس.
ولو يعلم الموسرون الأخيار ما في نشر العلم وبثه من الأجر والثواب لأنفقوا كل أموالهم في ذلك، ومن فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون: "أن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة: صانعه، والرامي به، والمُمِدَّ به"، كما صح بذلك الخبر.
فإذا حُرِمت من الاشتغال بطلب العلم وتعلمه فلا تحرم نفسك ولا تغبنها السعي في نشره وبثه، قال علي رضي الله عنه: "العلم خير من المال، المال تحرسه والعلم يحرسك، والمال تفنيه النفقة والعلم يزكو مع الإنفاق، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وآثارهم في الكتاب موجودة".
من المصائب العظام والكوارث الطوام موت العلماء، وفناء الحكماء، وبقاء الرؤوس الضلال، والأئمة الأشرار، الذين يفتون الناس بغير علم فيَضلوا ويُضِلوا، وليس من عاصم من ذلك بعد الله إلا نشر العلم والتسلح بالفقه: "فمن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".
هلم أخي الموسر إلى باب من أبواب الخير، وإلى سبب من أسباب دخول الجنة إذا صلحت النية، إلى صدقة جارية، وعمل ينفعك الله به، إلى نشر وبث ميراث نبيك وحبيبك الذي لم يورِّث درهماً ولا ديناراً، ولا أرضاً ولا عقاراً، وإنما ورَّث هذا العلم، فمن أخذ به أوأعان على ذلك فقد أخذ بحظ وافر من ميراث النبوة، ففي ذلك فليتنافس المتنافسون، واعلم أخي أن الله اقترضك وهو غني عنك: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له"، ليضاعف لك الثواب والأجر، وليكرم نزلك.
وبعد..
بين يديك مجموعة من الكتب والرسائل نحسب أن حاجة الناس إليها ماسة، سيما طلاب العلم، والمكتبات من جلها شاغرة، روعي في تأليفها السهولة واليسر، ومناسبتها لحاجة المسلم في السودان خاصة، على مذهب أهل السنة والجماعة، وهي من تأليف شخصي الضعيف، فاختر منها لنفسك ما تشاء، ولا تنس أن يكون لوالديك كذلك ولغيرهم نصيب، واختر جهة طباعتها، ولا ترض لنفسك بالقليل، وادخر ذلك ليوم الرحيل والسفر الطويل، وتذكر ليلة فجرها يوم القيامة.
والكتب هي:
عدد الصفحات
تقريباً ... اسم الكتاب
200 ... موسوعة فقه الجنائز– وتشمل عدداً من الرسائل والأوراق الصغيرة ... 1
200 ... من فقه الأسرة – وتشمل عدداً من الرسائل والأوراق الصغيرة كذلك ... 2
360 ... الطريق إلى ولاية الله – إعادة طبعه لأهميته وحاجة الناس إليه ... 3
270 ... العلم: فضله، طلبه، آداب العالم والمتعلم – إعادة طبعه لأهميته وحاجة الناس إليه ... 4
220 ... الجن، والشياطين، والسحر، والعين، والرقي – إعادة طبعه لأهميته وحاجة الناس إليه ... 5
200 ... فقه الحج، والعمرة، والزيارة – إعادة طبعه لأهميته وحاجة الناس إليه ... 6
150 ... سنن الفطرة – إعادة طبعه لأهميته وحاجة الناس إليه ... 7
150 ... الأسئلة والأجوبة العقدية ... 8
230 ... الأسئلة والأجوبة الفقهية: الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج ... 9
90 ... تضمين الطبيب ... 10
120 ... دليل الأئمة والمؤذنين ... 11
70 ... إتحاف الساجد برعاية حقوق المساجد ... 12
120 ... تنبيه الغافل إلى حقوق الرحم، والجار، والوالد ثلاث رسائل صغيرة ... 13
100 ... اليسير في علم الفرائض ... 14
90 ... الوقف وأثره في التنمية في الماضي والحاضر ... 15
80 ... من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم ... 16
80 ... هذا الشفيع صلى الله عليه وسلم ... 17
100 ... من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ... 18
100 ... مواقف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ... 19
120 ... فتاوى الصيام، وأحكام الاعتكاف، والقيام ... 20
وغيرها كثير.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ونفساً زاكية، ولساناً ذاكراً، ودعوة مستجابة، ونعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا يستجاب لها.
اللهم أعط منفقاً خلفاً.
اللهم إنا نسألك صلاح النية والذرية، وعيشة هنية، وميتة سوية، وخاتمة مرضية.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته الطاهرين الطيبين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وعنا معهم أجمعين.
00000000000000000
أيها المسلمون أشركوا المجاهدين في دعائكم، ولا تنسوا أمواتكم(9/219)
لقد خذل المسلمون، إلا من رحم ربك، إخوانهم المجاهدين والمضطهدين في كل مكان، وأسلموهم إلى عدوهم، ولم يراعوا فيهم وصايا الله ورسوله، ولا حقوق الأخوة الإيمانية، فهل سلكوا معهم أضعف الإيمان إذ ليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان، وهو الدعاء لهم بظهر الغيب، سيما في هذا الشهر الكريم، فالدعاء سلاح المستضعفين، وعدة المضطهدين، وقد وعد الله بإجابته من عباده المخلصين، فليس هناك شيء أكرم على الله من الدعاء.
المجاهدون والمقاومون للكفار والغزاة في أمس الحاجة لدعاء إخوانهم المسلمين، والدعاء لهم ذو شقين:
1. دعاء لهم أن يثبت الله أقدامهم ويسدد سهامهم وآراءهم.
2. ودعاء على أعدائهم أن يجعل كيدهم في نحورهم، وتدميرهم في تدبيرهم.
كان المجاهدون الأول يستحبون أن يشرعوا في القتال عند الزوال يوم الجمعة ليقينهم أن إخوانهم المصلين يشركونهم في دعائهم.
قال ابن الأثير وهو يؤرخ لمعركة "مَلاذكُرْد" وهي معركة مشهورة جرت بين المسلمين بقيادة "ألب أرسلان" وبين الروم بقيادة "أرمانوس" سنة 463ه: (فلما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة، فقال: لا هدنة إلا "بالري"؛ فانزعج السلطان لذلك، فقال له إمامه وفقيهه أبونصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.
فلما كان تلك الساعة صلى بهم وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما ها هنا سلطان يأمر وينهى؛ وألقى القوس والنشاب وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.
وزحف إلى الروم وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل وعفَّر وجهه على التراب وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل، وحملت العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم، وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون كيف شاءوا، وأنزل الله نصره عليهم، فانهزم الروم، وقتل منهم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر ملك الروم).
ومما يدل على أن النصر يستنزل بالدعاء ما قاله أسد بن عبد الله القسري أمير خرسان في قتاله للفرس: (إنه بلغني أن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا وضع جبهته لله، وإني نازل وواضع جبهتي، فادعوا الله واسجدوا لربكم وأخلصوا له الدعاء، ففعلوا، ثم رفعوا رؤوسهم وهم لا يشكون في الفتح).
كيف لا وقد كان رسولنا المؤيد بالوحي يستنزل النصر بالدعاء، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم أنت عضُدي، وأنت نصري، وبك أقاتل".
فالدعاء في قتال الكفار مطلوب من المجاهدين المقاتلين ومن جميع إخوانهم المسلمين، خاصة إثر خطبة الجمعة، وفي القنوت في الصبح والوتر وفي سائر الصلوات إذا دعا الحال.
وينبغي أن يكون دعاء المسلمين لإخوانهم المجاهدين والمقاومين والمرابطين مصاحباً لمواجهتهم لعدوهم، وطالما أن المقاومة والجهاد في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وكشمير، وغيرها من البلاد المغصوبة مستمر، فعليهم أن لا يقطعوا عنهم الدعاء أبداً.
لا ينبغي للمسلمين أن يستهينوا بأمر الدعاء، ويستخفوا به، فالدعاء مقرون بالإجابة وبالنصر على الأعداء:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه وما تدري بما صنع الدعاءُ
جنود الليل لا تخطي ولكن لها أجل وللأجل انقضاءُ
واحذر موانع الإجابة، التي من أخطرها "دعونا فلم يُستجَب لنا"، فعلينا أن ندعو الله ونحن موقنون بالإجابة، مصدِّقون بوعد الله "ادعوني أستجب لكم".
كذلك علينا أن لا ننسى أمواتنا، فمن أبر البر بهم أن نشركهم في دعائنا، وهذا من حقهم علينا، واعلم أخي المسلم أنك كما تدين تدان، فعما قريب ستكون في عداد الموتى، وتحتاج إلى دعاء غيرك، لقد مدح الله التابعين بإحسان للسابقين من المهاجرين والأنصار: "والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم".
اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والفسق والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم نور على أهل القبور قبورهم، واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم، يا سميع الدعاء، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، وعلى آله وصحابته الهداة
0000000000000000
رسالة إلى تارك الصلاة
بمناسبة حلول شهر رمضان المعظم أود أن ابعث بهذه الرسالة إلى تاركي الصلاة المقرين بوجوبها ممن يدعون الإسلام عسى أن تصادف منهم أذناً صاغية، وقلوباً واعية، ومعذرة إلى ربنا، ولعلهم يتقون سيما وأن بعض الناس يصومون ولا يصلون، ومنهم من يصلي في رمضان فإذا انقضى رمضان تركها.(9/220)
فأقول بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على رسوله إن من ترك صلاة مكتوبة واحدة حتى يخرج وقتها وهو قادر على أدائها كفر كفراً مُخرجاً عن الملة الإسلامية في أرجح قولي العلماء، وأجمعت الأمة على قتله إلاَّ قليلاً منهم إذا جيء به إلى الحاكم أو من ينوب عنه وذُكِّرَ بخطورة ترك الصلاة فأبى عن أداء صلاة واحدة حتى خرج وقتها.
ممن روي عنه كفر تارك الصلاة كسلاً من الصحابة: علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عباس، وجابر، وأبي الدرداء رضي الله عنهم، وقال عمر: "لا حظَّ في الإسلام لمن ضيع الصلاة"، وقال عبد الله بن شقيق وهو من كبارالتابعين: "لم يجمع الصحابة على أن ترك شيء من الأعمال كفر سوى الصلاة".
وممن قال يكفر تارك الصلاة كسلاًمن التابعين ومن بعدهم إبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة، وأيوب السختياني، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، واستدل هؤلاء من القرآن بالآتي:" أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غِيَّاً"، "وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين"، "إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة".
قيل لإبن مسعود رضي الله عنه إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن" الذين هم على صلاتهم دائمون"، " والذين هم على صلاتهم يحافظون"، " فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون"، فقال عبد الله: على مواقيتها. فقال له قائل: ما كنا نرى إلاَّ أن نترك. فقال عبد الله: تركها كفر.
ومن الأحاديث الصحيحة الصريحة بالآتي:
1. "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" وفي رواية" وبين الشرك ترك الصلاة".
2. "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر".
3. "نهيت عن قتل المصلين".
4. "من ترك صلاة العصر متعمداً فقد حبط عمله".
5. "ما منعك أن تصلي مع الناس الست برجل مسلم".
قال ابن عبد البر معلقاً وشارحاً للحديث السابق: (وفي هذا والله اعلم أن من لا يصلي ليس بمسلم وإن كان موحداً).
ولهذا فإن حكم تارك الصلاة في الدنيا:
1. لا يزوج بمسلمة وإن كان متزوجاً بمسلمة فرِّق بينهما.
2. لايسلم عليه، ولايزار، ولايعاد، ولايؤاكل، ولايسكن معه، ولاتجاب دعوته زجراً له ولأمثاله.
3. ليس له ولاية على بناته وحريمه.
4. إن كان يصلي ثم تركها حبطت أعماله السابقة كلها من صلاة، وزكاة، وحج، فإذا عاود الصلاة عليه حجة الإسلام، وإخراج الزكاة.
5. مهدر الدم، والمال، والعرض.
6. لا يغسل إذا مات، ولا يكفن، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه أهله في أرجح قولي أهل العلم.
أما في الآخرة: فمصيره إلى سواء الجحيم: "قالوا لم نَكُ من المصلين"، هل يعلم تارك الصلاة أن أسوته من الخلق إبليس وخلفائه من كل خبيث: "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاَّ إبليس".
قال إسحاق بن راهويه: (فمن لم يجعل تارك الصلاة كافراً، فقد ناقض، وخالف أصل قوله وقول غيره، قال: ولقد كفر إبليس إذ لم يسجد السجدة التي أُمِرَ بسجودها، قال: وكذلك تارك الصلاة عمداً حتى يخرج وقتها كافر إذا أبى قضاءها).
وهل يعلم أن الله غني عن صلاته وصلاة غيره: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه".
وهل يعلم تارك الصلاة أن نزلاءه ورفقاءه في سقر هامان، وقارون، وفرعون، وأبَيُّ بن خلف، وغيرهم من أئمة الكفر والضلال؟
قال أحمد بن حنبل: لا يكفر أحد بذنب إلاَّ تارك الصلاة عمداً.
وقال إسحاق بن راهويه: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر إذا أبى من قضائها، وقال: لا أصليها. قال إسحاق: وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس، والمغرب إلى طلوع الفجر.
ألا يعلم تارك الصلاة أن الموت آت وكل آت قريب وأنه قد يموت الآن؟ أما آن لتارك الصلاة أن يُحاسِب نفسه قبل أن يُحاسَب، وأن يتوب إلى الله قبل أن يحال بينه وبين ذلك؟
ألا يعلم تارك الصلاة أن الإسلام يجب ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها؟
ماذا ينتظر تارك الصلاة إلاَّ فقراً منسياً، أوغنى مطغياً، أومرضاً مفسداً، أوهرماً مفنداً – مضعفاً - أوموتاً مجهزاً، أوالدجال فشر غائب ينتظر، أوالساعة "فالساعة أدهى وأمر"؟
ألا يحذر تارك الصلاة من اجتماع سكرة الموت، وحسرة الفوت؟
اللهم هل بلغت اللهم فأشهد.
اللهم اهد شبابنا، وأصلح نساءنا، ورد ضالَّنا، واختم لنا بخير، واجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، وصلِّ اللهم وسلم على محمد القائل:" كل أمتي معافى إلاَّ المجاهرين"، وعلى آله وصحابته الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
00000000000000000
أشر ما دخل جوف ابن آدم الربا(9/221)
الربا من أحرم الحرام، ومن الكبائر العظام، ومن الجرائم الجسام، ولهذا أعلن الله ورسوله حربهما يوم القيامة على المرابين التعساء الأشقياء عبدة الدراهم والدنانير الجراء، قال عز من قائل: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون"، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش".
ولخطورة الربا فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكله، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، واللعن الطرد من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا أحل الله لهذه الأمة البيع وحرم عليها الربا، وبيَّن رسولها البيوع الصحيحة من الفاسدة، وأوجب على من يعمل بالتجارة أن يتعلم أحكام البيوع، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يمنع من لا يعرف أحكام البيوع من دخول السوق.
لقد تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بانتشار الربا وتوسع الناس فيه في آخر الزمان، فقال: "يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا، ومن لم يأكل الربا أصابه غباره".
فمن استحل الربا بجميع أصنافه فقد كفر، ومن أقر بحرمته وتعاطاه قوتل وزجر.
قال ابن خويزمنداد: (ولو أن أهل بلد اصطلحوا على الربا استحلالاً كانوا مرتدين، والحكم فيهم كالحكم في أهل الردة، وإن لم يكن ذلك منهم استحلالاً جاز للإمام محاربتهم).
قال القرطبي رحمه الله: (ذكر ابن بكير قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال: يا أبا عبد الله إني رأيتُ رجلاً سكراناً يتعاقر، يريد أن يأخذ القمر، فقلت: امرأتي طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم أشرُّ من الخمر؛ فقال: ارجع حتى أنظر في مسألتك؛ فأتاه من الغد، فقال له: ارجع حتى أنظر في مسألتك؛ فأتاه من الغد، فقال له: امرأتك طالق، إني تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئاً أشرَّ من الربا لأن الله أذن فيه بالحرب).
اعلم أخي الكريم أن أول ما ينتن من العبد بعد موته بطنه كما أخبر الصادق المصدوق، فاحذر أن يدخله إلا الحلال الطيب، واجتنب المحرمات والخبائث والشبه، وتذكر أن كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، واحذر كذلك أن يكون الحلال هو ما حل في يدك، والحرام ما لم تتمكن من الحصول عليه.
واحرص أن ترضى بما قسمه الله لك، وأن تقنع بما قدره الله لك، فتنال سعادة الدنيا والآخرة، وانظر إلى من هو دونك، ولا تنظر إلى من هو فوقك، فتزدري نعم الله، فالقناعة كنز لا يفنى، وغنى لا يبلى، وتأسَّ برسولك وأصحابه والتابعين، ولا تلتفت إلى ما يلهث خلفه طلاب الدنيا، التي لو كانت تسوى عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر جرعة ماء.
اللهم إنا نسألك نفوساً مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، وتخشاك حق خشيتك، وصلى الله وسلم على رسوله وحبيبه وخيرة أصفيائه.
000000000000000000
رسالة إلى محروم
المحروم حقاً من حرم نفسه من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ومن مغفرة الغفار التواب، ومن العتق من النار، وحرم جنة عرضها السموات والأرض، وهو من عصى الله ورسوله واتبع هواه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "كل عبادي يدخلون الجنة إلا من أبى؛ قيل: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".
من هؤلاء الأشقياء المحرومون من حرم نفسه من الصيام والقيام وهو قادر غير عاجز، وعصى أوامر الكريم المنان: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، وقول رسوله عظيم القدر والشان: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
ألا يعلم هذا المحروم أن الصوم ركن من أركان الإسلام وأن من ترك ركناً من أركان الإسلام الخمسة عمداً أنه كافر كفراً مخرجاً عن الملة ولو لم ينكر وجوبه، قد روي ذلك عن طائفة من أهل العلم منهم سعيد بن جبير، ونافع، والحكم، ورواية عن الإمام أحمد، وبه قال ابن حبيب من علماء المالكية؟
ألا يدري هذا المحروم أنه مكلف بجيع التكاليف الشرعية طالما أنه مسلم، بالغ، عاقل، صحيح، مقيم؟ إن كان لا يدري فتلك مصيبة، وإن كان يدري فالمصيبة أعظم والفديحة أكبر.
ألا يعلم هذا المسكين أن: "من أفطر يوماً من رمضان متعمداً لم يجزه صيام الدهر وإن صامه"، وقد روي ذلك عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي الدرداء رضي الله عنهم؟
ألا يستحي هؤلاء من الله، ولا من الناس، ولا من المرضى والكبار، ولا من الصبيان الذين يصومون مع أنهم معذورون؟
أين أولياء هؤلاء المحرومين الذين أمرهم ربهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم ناراً، وأين مراقبة ولاة الأمر وحمايتهم لعظمة هذا الدين أن تنتهك جهاراً؟ أيشكوا أنهم موقوفون أمام ربهم ومسؤولون عن ذلك؟
أي حسرة وأي ندامة تنتظران هذا المحروم، عند الإفطار ويوم العيد، ويوم يدخل الصائمون من باب الريان ويوفون أجرهم بغير حساب.
ألا يعلم هذا المحروم أن جزاءه في الدنيا في الشرع التأديب والتعزير بالضرب، والحبس، والهجر، والفصل عن العمل، وفي الآخرة العذاب المهين؟(9/222)
فعلى ولاة الأمر والمسؤولين أن يحبسوا المفطرين القادرين، وأن يوجعوهم ضرباً، وأن يفصلوهم عن الوظائف ومن المدارس والجامعات.
وعلى ولاة الأمر في البيوت أن يطردوهم ويعزلوهم ولا يؤاكلوهم ويشاربوهم.
وعلى زملائهم ورفقائهم وأصدقائهم أن يعتزلوهم ويهجروهم بعد أن يناصحوهم، وليتذكروا قول الله عز وجل: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"، وليعلموا أن التعاون مع هؤلاء وغيرهم من باب التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهانا ربنا عن ذلك.
واللهَ أسأل أن يردنا وجميع إخواننا المسلمين إليه رداً جميلاً، وأن يعافي مبتلينا، ويصلح فاسدنا وعاصينا، ويهدي شبابنا وبناتنا، ويرحم ويغفر لآبائنا وأمهاتنا، ويرحمنا ويغفر لنا، ويعتق رقابنا من النار، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
000000000000000000
إمام ظلوم غشوم ، خير من فتنة تدوم
الشروط التي يجب توفرها في الإمام
واجبات الإمام نحو الرعية
حقوق الراعي على الرعية
ما ورد في فضل الإمام العادل
ماتوعد به الإمام الجائر
الخروج المسلح وخطره على الإسلام ، قديماً وحديثاً
أولاً : تسلط بعض أهل الأهواء على الحكم أو إزاغتهم لبعض الحكام
ثانياً: إعانة بعض المنتسبين للإسلام للكفار، وتجسّسهم لصالحهم، وقتالهم المسلمين معهم
ثالثاً : الخروج المسلح على الحكام
حكم خلع البيعة والخروج المسلح على جماعة المسلمين وأئمتهم
الخارجون صنفان
الخسائر والأضرار التي لحقت بالدين وبالمسلمين من جراء ذلك قديماً وحديثاً
أولاً : راح ضحية خلع بيعة الأئمة والخروج عليهم بالسلاح خيار هذه الأمة
ثانياً : حروب الردة
ثالثاً : في الجمل
رابعاً : في صفين
خامساً : قيام السيد الحسين رضي الله عنه، وخذلان الرافضية له، واستشهاده
سادساً : موقعة الحرة
سابعاً : حصار الحجاج لابن الزبير بمكة وقتله
ثامناً : فتنة ابن الأشعث
الحمد لله الذي استخلف في الأرض الأنبياء والمرسلين: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"، وهو آدم عليه السلام، وقال: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب"، وقال: "وورث سليمانُ داودَ"، وقال: "وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين".
ولهذا أمر بتولية الصالحين الأخيار ونهى وحذر من تولية المجرمين الأشرار ، فقال مبيناً الصفات التي ينبغي توفرها فيمن يتولى أمر المسلمين: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"، وقال: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون فساداً في الأرض ولا علواً والعاقبة للمتقين".
وصلى الله وسلم وبارك على الرسول الصادق الأمين الذي أكمل الله على يديه الدين، وختم به الأنبياء والمرسلين، القائل: "كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، فسيكون بعدي خلفاء فيكثرون. قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: فأوفوا بيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، واسألوا الله الذي لكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
ثم أما بعد ..
• فاعلم أخي الكريم أن الإمامة الكبرى شأنها عظيم في الدين، ودورها خطير في الأمة، ومسئوليتها جسيمة في الآخرة، لذلك عندما تمناها إبراهيم لذريته قال له ربه: "لا ينال عهدي الظالمين"، وقال الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم، عندما قال له أبو ذر: "ألا تستعملني؟ فضربه بيده على منكبه، ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها"8، وقال له كذلك: "يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنّ على اثنين، ولا تولينّ مال يتيم"، وقال أبو هريرة رضي الله عنه ناصحاً لإخوانه المسلمين: "إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة"، ولهذا صرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمه العباس عندما طلب أن يوليه على اليمن، وقال له: "يا عم سل الله العفو والمعافاة"، أوكما قال.
أما من آنس في نفسه الكفاءة، وتوفرت فيه شروطها، وضمن أن يعطاها من غير منافسة ونزاع، فلا حرج عليه في طلبها، كما قال يوسف عليه السلام: "رب اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".
• ولهذا أجمعت الأمة على وجوب نصب إمام للمسلمين، سواء كانوا دولة أو تفرقوا إلى دويلات كحالهم اليوم، ولم يشذ عن ذلك إلا من لا يعتد بخلافه، ولا يؤبه بموافقته، براً كان هذا الإمام أم فاجراً.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "إني جاعل في الأرض خليفة": (هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليقة، ولا خلاف في وجوب ذلك على الأمة، ولا بين الأئمة.(9/223)
إلى أن قال: وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق.. ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة، ولم يقل له أحد هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك، فدل على وجوبها، وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين).
ولله در عبد الله بن المبارك، ذلكم العالم المجاهد، حيث قال:
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا
لولا الخلافة لم تأمن لنا سبل وكان أضعفنا نهباً لأقوانا
قال الذهبي رحمه الله في ترجمته: (فيقال إن الرشيد أعجبه هذا، فلما بلغه موت ابن المبارك بهت، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا فضل ائذن للناس يعزونا في ابن المبارك. وقال: أما هو القائل:
الله يدفع بالسلطان معضلة
فمن ذا الذي يسمع هذا من ابن المبارك، ولا يعرف حقنا).
قلت: قال ابن المبارك ذلك تديناً واعتقاداً ، وليس تزلفاً ولا تقرباً للرشيد ولا لغيره، وما قاله هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، سلفاً وخلفاً، فابن المبارك ليس من المتزلفين، بل هو من العلماء الربانيين، والزهاد العابدين، والغزاة المرابطين، والأغنياء المحسنين، والإخوان الناصحين، والشجعان النادرين، كيف وهو من الذامين للحكام الجائرين الظالمين، ولعلماء السوء البطالين، وللرهبان الجهلة المفسدين، حيث قال :
رأيت الذنوب تميت القلوبَ ويورث الذل إدمانُها
وترك الذنوب حياة القلوب و خير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء و رهبانها
قال كعب الأحبار: مثل الإسلام، والسلطان، والناس، مثل الفسطاط، والعمود، والأوتاد؛ فالفسطاط الإسلام، والعمود السلطان، والأوتاد الناس.
وقد صاغ هذا المعنى شعراً الأفوه الأودي، حيث قال:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وإن تجمع أوتاداً وأعمدة يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
• لقد شرط الإسلام في إمام المسلمين شروطاً ينبغي مراعاتها كلها أو جلها فيمن يراد منه أن يكون إماماً للمسلمين، وهذه الشروط منها ما يعين على الاستقرار، ومنها ما يعين على إقامة العدل، ومنها ما يتعلق بسياسة الرعية، حتى يتسنى للإمام أن يقوم بواجبه خير قيام، ويؤدي ما عليه خير أداء في أمور الدين والدنيا، إذ وظيفة الإمام الأساسية حماية الدين، ورعاية مصالح الناس الدنيوية التي لا تقوم الحياة إلا بها.
قال العلامة ابن خلدون رحمه الله: (والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به).
فالشروط التي يجب توفرها في الإمام هي:
1. الإسلام، فلا ينبغي لكافر أن يكون إماماً للمسلمين، قال تعالى: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً"، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه، كيف وقد قال بعض أهل العلم ـ أبو حنيفة رحمه الله: "إذا فسق الحاكم فقد انحلت بيعته"، فكيف بالكافر!
2. وعليه ينبغي للمسلمين أن لا يمكنوا أحداً من الكفار من ولايتهم، كبرى كانت الولاية أم صغرى، لا نائباً، ولا وزيراً، ولا قاضياً، ولا عاملاً، ونحو ذلك.
3. الذكورية: فإمام المسلمين ينبغي أن يكون ذكراً، لقوله تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، ومع ذلك نجد أكبر الدول الإسلامية الآن حكمت أو تحكمها نساء، تقليداً للكفار، ومحادة لشرع الله، وهي أندونيسيا، وبنقلاديش، وباكستان، وتركيا، نعوذ بالله من الخسران.
4. أن يكون من قريش، إن وجد منهم أحد توفرت فيه الشروط الأخرى، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان"، وفي رواية: "الأئمة من قريش"، قال ابن خلدون رحمه الله بعد أن رد شبه الرادين لهذا الشرط: (الجمهور على القول باشتراطها)، وقال إمام الحرمين عبد الملك ابن الجويني وهو يتحدث عن صفات الإمام القوَّام على أهل الإسلام: (فأما الصفات اللازمة، فمنها النسب، فالشرط أن يكون الإمام قرشياً، ولم يخالف في اشتراط النسب غير ضرار بن عمرو، وليس ممن يعتبر خلافه).
5. أن يكون ذا عصبية، أي له جماعة أو قبيلة تسنده.
6. أن يكون بالغاً عاقلاً.
7. أن يصلح أن يكون قاضياً.
8. أن يكون عدلاً.
9. أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي في المكان الثاني
10. أن يكون شجاعاً صامداً.
11. أن يكون سليم الحواس.
12. أن يكون حراً.
13. أن يكون ممن لا تأخذه في إقامة الحدود، وضرب الرقاب، وقطع الأبشار بحقها، رأفة.
14. أن يكون على مذهب أهل السنة والجماعة.
15. أن يكون ذا تقوى وورع.
هذه الشروط ينبغي أن تتوفر كلها أو جلها في إمام المسلمين، فما لا يدرك كله لا يترك جله، وبعضها أهم من بعض، فيجب تقديم الأهم ثم المهم.(9/224)
تنبيه: تجوز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، ولا تلتفت إلى أقوال من سواهم.
واجبات الإمام نحو الرعية
من أوجب واجبات الإمام نحو رعيته ما يأتي:
1. أن يحكمهم بالشريعة الإلهية، لا بالقوانين الوضعية، وهذا من أوجب الواجبات عليه نحو رعيته، وليس للراعي ولا للرعية خيار في ترك ذلك، وينبغي للحاكم أن يحمل رعيته حملاً على ذلك، وعليه ألا يداهنهم وينافقهم، وأن لا يخشى في سبيل تطبيق شرع الله لومة لائم، وليعلم أن من نصر الله نصره الله، ومن خذل دين الله خذله الله.
2. أن يؤمنهم في ديارهم وأموالهم، ويؤمن سبلهم.
3. أن يحكم فيهم بالسوية.
4. أن يعدل في القضية.
5. أن يعمل على إصلاح عقائدهم، وتعليمهم أمر دينهم، وأن يزيل كل مظاهر الشرك ويعمل على سد كل الذرائع التي قد تؤدي إلى ذلك.
6. أن يحافظ على أعراض المسلمين، ويعمل على منع الاختلاط، خاصة في الجامعات، والمعاهد، وفي المراكب، والمستشفيات، والميادين، والاجتماعات.
7. أن يعمل على إقام الصلاة.
8. أن لا يتعدى في أخذ الزكاة، فالزكاة تجب في أموال معلومة، وليحذر من الأقوال الشاذة، والخلاف الذي لا يقوم على دليل، فالتعدي في الزكاة لا يقل من إثم منع الزكاة.
9. العمل على رفع المعاناة عن الرعية.
10. عدم الخوض في المال العام بغير حق.
11. أن ينزل الناس منازلهم، سيما العلماء، وطلاب العلم الشرعي.
12. أن لا يولي على المسلمين امرأة، لا وزيرة، ولا قاضية، ولا عاملة، ونحو ذلك.
13. أن يتخير عماله ووزراءه.
14. أن يعمل على أن لا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
15. أن يراقب وسائل الإعلام المختلفة، فقد أصبحت هذه الوسائل الآن أدوات هدم للأخلاق، يمنع منها العلماء وطلاب العلم الشرعي، ويفسح المجال فيها للمسلسلات الهابطة، والسماع المحرم، غنائي وصوفي، ونحو ذلك.
16. العمل على قيام هيئة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، تذكر الغافل، وتعين الجاهل على أمر دينه.
17. العمل على رفع علم الجهاد.
18. عدم تتبع عورات المسلمين مستوري الحال، والتجسس عليهم.
قال أبو جعفر المنصور رحمه الله مبيناً الذي عليه للرعية: (الذي عليّ للرعية:
1. أن أحفظ سبلهم، فينصرفون آمنين في سبيلهم، ولا يُصَدُّون عن حجهم وقضاء نسكهم.
2. وأن أضبط ثغورهم وأحصنها من عدوهم.
3. وأن أختار قضاتهم.
4. واعزم بالحق كيلا يصل ظلم بعضهم إلى بعض.
5. وأن أرفع أقدار فقهائهم وعلمائهم.
6. وأكف جهالهم عن حكمائهم).
فعليك أخي الحاكم أن تولي على المسلمين خيارهم، ولا تولي عليهم شرارهم.
كتب عمر إلى أحد عماله قائلاً: "عليك بأهل القرآن، فإن لم يكن فيهم خير فمن سواهم أولى"؛ وقال مرة: "دلوني عن رجل استعمله، فقد أعياني أمر المسلمين. قالوا له: عبد الرحمن بن عوف؛ قال لهم: ضعيف؛ قالوا له: فلان؛ قال: لا حاجة لي به؛ قالوا: فمن تريد؟ قال: رجل إذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم، وإذا لم يكن أميرهم كان كأنه أميرهم؛ قالوا: ما نعلمه إلا الربيع بن زياد الحارثي؛ قال: صدقتم".
حقوق الراعي على الرعية
من أوجب حقوق الراعي على الرعية ما يأتي:
1. الدخول في بيعته.
2. السمع والطاعة في المعروف.
3. أعانته على القيام بواجبه.
4. نصحه سراً ، إلا إذا لم يجد ذلك.
5. عدم الخروج عليه بالسيف.
6. إعانته على مقاتلة الخارجين عليه.
7. الجهاد معه إذا أعلن ذلك، براً كان أم فاجراً.
8. لا يتعاون مع كافر ضده أويقاتل معه.
9. الدعاء له بالصلاح.
10. إكرامه وعدم إهانته.
11. الصبر على جوره وظلمه.
الأدلة على ذلك كثيرة، منها:
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، وأولوا الأمر الذين أمرنا بطاعتهم هم العلماء، والحكام الذين يأتمرون بأمرهم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"، فلا يحل لأحد بايع إماماً أن يخلع بيعته، فإن فعل فقد عصى الله ورسوله ومات ميتة جاهلية.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية".
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أهان السلطان أهانه الله".
والأحاديث والآثار في وجوب طاعة الراعي بالمعروف، وعدم الخروج عليه، والصبر على بلائه، ومناصحته، كثيرة جداً .
ما ورد في فضل الإمام العادل
ورد في فضل الإمام العادل عدد من الأحاديث والآثار نذكر منها ما يأتي:(9/225)
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل.." الحديث.
2. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم، وما ولوا".
3. وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم!"، قال قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم ؟ قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة".
4. وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال".
5. ولله در عمر بن العاص حين قال موصياً ابنه: "يا بني!! احفظ عني ما أوصيك به، إمام عَدْل خَيْرٌ من مطر وَبْل، وأسد حطوم خير من إمام ظلوم، وإمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم".
ماتوعد به الإمام الجائر
لقد توعد الإسلام أئمة الجور، وتهددهم، وحذرهم مغبة الظلم والطغيان، وإليك طرفاً من ذلك:
1. عن أبي يعلى مَعْقِل بن يَسَار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة.
2. وفي رواية: " لم يَحُطْها بنصحه، لم يجد رائحة الجنة".
3. وفي رواية لمسلم: " ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح لهم، إلا لم يدخل معهم الجنة".
4. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً، فَرَفَق بهم، فارق به".
5. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ".. فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
6. وعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أنه دخل على عبيد الله بن زياد فقال: أي بني، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن شرَّ الرعاء الحطمة"، فإياك أن تكون منهم.
7. وعن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه أنه قال لمعاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم، وخَلَّتهم وفقرهم ، احتجب الله دون حاجته وخلَّته وفقره يوم القيامة"، فجعل معاوية رجلاً على حوائج الناس.
8. وقال عمر رضي الله عنه: "لو أن بغلة بشاطئ الفرات عثرت خشيت أن أسأل عنها، لِمَ لَمْ أعبِّد له الطريق".
ولهذا لورعه مع عدله وتقواه، تمنى أن يكون يوم القيامة لا له ولا عليه.
فعليك أخي الحاكم بعد هذا أن تختار لنفسك ما ترجوه وتتمناه في الدار الآخرة، فكما تدين تدان، وعليك أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب، واتق دعوة المظلوم فإنها ليست بينها وبين الله حجاب، واحذر ليلة فجرها يوم القيامة، وعليك أن تتأسى بالرسل، والأنبياء، والأئمة الصالحين، والخلفاء الراشدين، واجتنب الوزراء السيئين، والمستشارين الخائنين، والدخلاء المنافقين، واعلم أنما أهلك فرعونَ هامانُ، وهامانَ فرعونُ، فالمغرور من أغره هؤلاء.
هل تعلم أن الخليفة الراشد والإمام العادل عمر بن عبد العزيز مات وعمره تسع وثلاثون سنة ونصف ، وأن مدة خلافته سنتان ونصف، وقد فعل فيها الآتي:
1. رد كل المظالم إلى أهلها.
2. وكل الأموال التي كانت بأيدي بني أمية إلى بيت المال ، وبدأ بنفسه.
3. دوّن السنة النبوية.
4. وبسط العدل في كل أرجاء الدولة الإسلامية.
5. أمات كل البدع وأحيا كل السنن التي أميتت.
6. قرب وأكرم الفقهاء والعلماء والفضلاء، وباعد بينه وبين المدّاحين من الشعراء.
7. أمّن الثغور ورفع راية الجهاد.
8. ناظر وحج وقمع أهل الأهواء، من قدرية وخوارج.
9. غير الولاة الظلمة ، واستعان من المستشارين بالعلماء.
فعل عمر كل ذلك بصدقه وتوكله على الله، وتجرده للحق، روى الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز قال لجلسائه: "من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال، يدلني من العدل ما لا أهتدي إليه، ويكون لي على الخير عوناً، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحداً، ويؤدي الأمانة التي حملها بيني وبين الناس، فإذا كان ذلك فحيهلا، وإلا فقد خرج من صحبتي والدخول علي"، وقال لمزاحم مولاه: "إن الولاة قبلي جعلوا العيون على العوام، وأنا أجعلك عيناً على نفسي، فإن سمعت مني كلمة ترباني عنها، أو فعَالاً لا تحبه، فعظني عنده وانهني عنه"، ولهذا لقب بالخليفة الراشد الخامس، وبمجدد القرن الأول بغير منازع.(9/226)
وما فعله عمر بن عبد العزيز في القرن الأول فعله الطالبان في أفغانستان في القرن الرابع عشر الهجري ، حيث حكموا شرع الله في كل مناحي الحياة، من أول قدومهم إلى الحكم، ولمدة سبع سنوات، في ظروف قاسية، ومواجهات صعبة من المنتسبين إلى الإسلام قبل الكافرين، فقد نصروا الله فسينصرهم الله إن عاجلاً أو آجلاً، فالنصر بيد الله، والحكم لله يهبه لمن يشاء وينزعه عمن يشاء، فهو لا يدوم، ولو كان يدوم لما وصل إليك أخي الحاكم، فالعبرة بإقامة الشرع والعدل، وليس بطول مدة الحكم، فالشقي من طالت مدته وساءت أعماله.
الخروج المسلح وخطره على الإسلام ، قديماً وحديثاً
معظم الفتن والنكبات التي حلت بالمسلمين مردها إلى ثلاثة أسباب، هي :
أولاً : تسلط بعض أهل الأهواء على الحكم أو إزاغتهم لبعض الحكام ، نحو :
1. فتنة خلق القرآن: حيث أزاغ بعض رؤوس الفتنة من المعتزلة الخليفة المأمون العباسي، وأخاه المعتصم، وابنه الواثق عن الجادة، وامتحنوا أئمة أهل السنة الأخيار، والعلماء الأبرار، منهم الإمام أحمد بن نصر الخزاعي (ت 231 ه) والإمام أحمد بن حنبل (ت 241 ه)، والحافظ أبو نُعيم الفضل بن دكين (ت 210 ه)، والإمام أبو يعقوب البوطي صاحب الشافعي (ت 231ه)، والحافظ عفان بن مسلم (ت 220ه )، والإمام محمد بن نوح، والإمام محمد بن عبد الرحمن الأدرمي، رحمهم الله جميعاً، حتى رفعها الخليفة المتوكل العباسي رحمه الله.
2. فتنة أبي طاهر القرمطي حين خرج على الدولة الإسلامية وأقام دولة رافضية بالأحساء والبحرين، وقد جمع هؤلاء بين السوءتين وخلطوا بين ضلالتين: الخروج عن الدولة الإسلامية، بجانب ابتداعهم وتمسكهم بهذا المذهب الشيطاني الرافضي، فعاثوا في الأرض الفساد، ونشروا الذعر والرعب بين العباد، وقتلوا عشرات الآلاف، فنسأل الله أن يصب عليهم وعلى خلفهم سوط عذاب.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله، واصفاً ما حل بالحجيج بمكة سنة 317هـ على يد القرامطة لعنهم الله: (فيها خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي، فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافدت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم، واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام، وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام ، في الشهر الحرام، في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول: أنا الله، وبالله أنا، أنا أخلق الخلق، وأفنيهم أنا. فكان الناس يفرون منهم ويتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئاً ، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف فلما قضى طوافه، أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك:
ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودفن كثيراً منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام، ويا حبذا تلك القبلة، وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا، ولم يصل عليهم لأنهم محرمون شهداء في نفس الأمر؛ وهدم قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها عنها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه فمات في النار، فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر أن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده، وقال: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه).
3. فتنة الفاطميين بشمال إفريقيا ومصر: ما فعله القرامطة الزنادقة الملحدون فعله الفاطميون الضالون المنحرفون ، فقد كانوا ممالئين للقرامطة ، وعلى ملتهم الخبيثة ، وعقيدتهم الفاسدة ، فقد خرجوا على الدولة الإسلامية ، واقتطعوا منها ذلك الجزء ، وأذاقوا أهل السنة خاصة العلماء والفقهاء والمصلحين والدعاة شر الويلات ، وقتلوا منهم عشرات الآلاف ، وسجنوا وضربوا وآذوا عباد الله الصالحين ، وعملوا على إفساد عقائد المسلمين .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله وهو يتحدث عن القرامطة لعنهم الله: (وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقيا من أرض المغرب ، ويلقب أميرهم بالمهدي ، وهو أبو محمد عبيد الله بن ميمون القداح ، وقد كان صباغاً بسلمية ، وكان يهودياً فادعى أنه أسلم ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقيا ، فادعى أنه شريف فاطمي ، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة ، وصارت له دولة ... وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ، ويدعون إليه .(9/227)
وذكر ابن الأثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على فعل بمكة حيث سلط الناس على الكلام فيهم ، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها).
قال الذهبي رحمه الله :( قال أبو الحسن القابسي صاحب الملخص: "إن الذين قتلهم عبيد الله وبنوه أربعة آلاف في دار النحر في العذاب ، من عالم ، وعابد ، ليردوهم عن الترضي على الصحابة، فاختاروا الموت ، فقال سهل الشاعر :
وأحل دار النحر في أغلاله من كان ذا تقوى وذا صلوات).
ثانياً: إعانة بعض المنتسبين للإسلام للكفار، وتجسّسهم لصالحهم، وقتالهم المسلمين معهم
من أسباب النكبات الخطيرة والفتن العظيمة التي حلت بالمسلمين قديماً وحديثاً موالاة بعض المنتسبين للإسلام للكفار ، وإعانتهم إياهم ، و تجسسهم لصالحهم ، بل وقتالهم المسلمين معهم ، وما حدث بأفغانستان في الحرب الصليبية التي تشنها أمريكا على الإسلام في هذه الأيام ليس عنا ببعيد ، فلولا خذلان بعض المنتسبين للإسلام لإخوانهم في أفغانستان لما حدث الذي حدث ؛ وسنكتفي بمثال واحد في هذا الجانب ، وهو ما فعله الوزير الرافضي ابن العلقمي لعنه الله في إعانته التتار على دخول بغداد وقتلهم للعلماء والفقهاء ، وتدميرهم لعاصمة الخلافة الإسلامية ببغداد .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والرافضة أشد بدعة من الخوارج، وهم يكفرون من لم تكن الخوارج تكفره، كأبي بكر وعمر، ويكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كذباً ما كذّب أحد مثله، والخوارج لا يكذبون، لكن الخوارج كانوا أصدق وأشجع وأوفى بالعهد منهم، فكانوا أكثر قتالاً منهم، وهؤلاء ـ أي الشيعة الرافضية ـ أكذب وأجبن وأغدر وأذل، وهم يستعينون بالكفار على المسلمين، كما جرى لجنكز خان ملك الترك الكفار، فإن الرافضة أعانته على المسلمين، وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لما جاء إلى خرسان، والعراق، والشام، فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد، فكانوا بالعراق وخرسان من أعظم أنصاره، باطناً وظاهراً، وكان وزير الخليفة البغدادي الذي يقال له ابن العلقمي منهم، فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين، ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم، وينهى العامة عن قتالهم، ويكيد أنواعاً من الكيد، حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان، أو أكثر أو أقل، ولم يرى في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتار، وقتلوا الهاشميين، وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين).
ثالثاً : الخروج المسلح على الحكام
كذلك من الأسباب الرئيسية لحدوث كثير من الفتن والمحن التي حلت بالمسلمين ، وأضرت بالدين، وراح ضحيتها عدد من الأخيار الصالحين ، والأئمة المقسطين ، شق عصا الطاعة ، والخروج على الجماعة ، وخلع بيعة الأئمة ، وشهر السلاح في وجه المسلمين ، وإعانة الكفار على قتال المسلمين ، وإضعاف دولتهم ، وكسر شوكتهم ، فهي ثالثة الأثافي ، وأخطر الدواهي التي حلت بالمسلمين قديماً وحديثاً ، فالحذر الحذر من ذلك ، ونلخص حديثنا في هذا الأمر في الآتي :
1. حكم خلع البيعة والخروج المسلح على جماعة المسلمين وأئمتهم .
2. الأدلة على ذلك .
3. الخارجون صنفان : باغون مفسدون ، ومتأولون مأجورون .
4. الخسائر والأضرار التي لحقت بالدين والمسلمين من جراء ذلك .
حكم خلع البيعة والخروج المسلح على جماعة المسلمين وأئمتهم
أجمع أهل العلم على حرمة خلع البيعة والخروج المسلح على جماعة المسلمين وأئمتهم ، إلا أن يروا كفراً بوحاً عندهم من الله فيه برهان ودليل ، وحتى في هذه الحال لا يجوز الخروج المسلح إلا إذا أمنت الفتنة ، وترجح عزله من غير فساد أكبر ، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع .
الأدلة على ذلك
1. عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله"، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان".(9/228)
2. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال : " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير شر ؟ قال : نعم . فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم ، وفيه دَخَن . قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي ، ويهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر . فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليه قذفوه فيها . فقلت : يا رسول الله ، صفهم لنا . قال : نعم ، قوم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا . قلت : يا رسول الله ، فما ترى إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم . قلت : فإن لم تكن جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ".
3. وفي رواية عن حذيفة في صحيح مسلم كذلك: "يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ". قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : " تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضرب ظهرك ، وأخذ مالك ، فاسمع وأطيع ".
4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، فمات ، مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عُمِّيِّة يغضب لعصبته ، أو يدعو لعصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل ، فقتله جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برَّها وفاجرها ، ولا يتحاش من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد ، فليس مني ولست منه ".
5. وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتة جاهلية ".
6. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية".
7. وعن عرفجة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه ستكون هنات ، وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي مجتمعة فاضربوه بالسيف كائناً من كان".
8. وعن عرفجة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ".
9. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ".
10. وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف برئ ، ومن أنكر سَلِم ، ولكن من رضي وتابع. قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا".
11. وعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ".. قيل: يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال : لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئاً تكرهونه فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يداً من طاعة".
هذه الأحاديث الكثيرة الصحيحة الصريحة في موضع النزاع من أصدق الأدلة على نبوة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهي من معجزاته الخبرية الكثيرة ، إذ تحقق كل ما قاله صلى الله عليه وسلم .
أقوال أهل العلم في ذلك(9/229)
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: ".. وأن لا تنازعوا الأمر أهله"، قال: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان " :( كفراً ظاهراً، والمراد بالكفر المعاصي ، ومعنى " عندكم من الله فيه برهان " أي تعلمونه من دين الله تعالى، ومعنى الحديث : لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ، ولا تعترضوا عليهم ، إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام ، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم ، وقولوا بالحق حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين ، وإن كانوا فسقة ظالمين ، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق ، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل أيضاً ، فغلط من قائله مخالف للإجماع ، قال العلماء : وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء ، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه ، قال القاضي عياض : أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل ، قال : وكذا لو ترك إقامة الصلوات ، والدعاء إليها. قال : وكذلك عند جمهورهم البدعة ، قال : وقال بعض البصريين : تنعقد له وتستدام له ، لأنه متأول، قال القاضي : فلو طرأ عليه كفر ، وتغيير للشرع ، أو بدعة ، خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته ، ووجب على المسلمين القيام عليه ، وخلعه ، ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر ، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه ، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها، ويفر بدينه. قال: ولا تنعقد لفاسق ابتداء، فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم : يجب خلعه ، إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب.
وقال جمهور أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين : لا ينعزل بالفسق ، والظلم ، وتعطيل الحقوق، ولا يخلع ، ولا يجوز الخروج عليه بذلك ، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك. قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذا الإجماع ، وقد رد عليه بعضهم هذا بقيام الحسين، وابن الزبير ، وأهل المدينة على بني أمية ، وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث ، وتأول هذا القائل قوله: "أن لا ننازع الأمر أهله" في أئمة العدل، وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق ، بل لما غير من الشرع وظاهر من الكفر، قال القاضي : وقيل إن هذا الخلاف كان أولاً ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم، والله أعلم).
قلت : ليس في قيام الحسين رضي الله عنه وغيره من الأخيار رد على ما أجمع عليه أهل السنة، لأنهم كانوا متأولين مأجورين إن شاء الله ، أما زعم من زعم أن سبب قيام هؤلاء الأخيار على الحجاج كان سببه الكفر فهذا افتراء محض ، حيث كانت الدولة الأموية تقيم الشرع وتلتزم بالإسلام وإنما كان الحجاج فاسقاً مبيراً لا يتحرج من سفك الدم الحرام ، وانتهاك حرمة الحرمين الشريفين ، بل كان الحجاج وغيره من الأمراء ، والولاة ، والقادة الأمويين ، يحتجون على الذين قاموا عليهم بالأحاديث السابقة ، وأنهم خرجوا على طاعة إمام المسلمين ، وخرجوا عليه بالسيف ، فيجب قتالهم ويتحتم دفعهم.(9/230)
وقال الإمام أبو العباس القرطبي المالكي رحمه الله في كتابه " المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم"، في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم : " على المرء المسلم السمع والطاعة": (ظاهر في وجوب السمع والطاعة للأئمة ، والأمراء، والقضاة، ولا خلاف فيه إذا لم يأمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا تجوز طاعته في تلك المعصية قولاً واحداً ، ثم إن كانت تلك المعصية كفراً وجب خلعه على المسلمين كلهم ، وكذلك لو ترك إقامة قاعدة من قواعد الدين، كإقام الصلاة ، وصوم رمضان ، وإقامة الحدود ، ومنع من ذلك ؛ وكذلك لو أباح شرب الخمر، والزنى، ولم يمنع منها ، لا يختلف في وجوب خلعه ، فأما لو ابتدع بدعة ، ودعا الناس إليها، فالجمهور على أنه يخلع ؛ وذهب البصريون إلى أنه لا يخلع ، تمسكاً بقوله عليه الصلاة والسلام: "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان"، وهذا يدل على استدامة ولاية المتأول ، وإن كان مبتدعاً ؛ فأما لو أمر بمعصية مثل أخذ مال بغير حق ، أو قتل ، أو ضرب بغير حق ، فلا يطاع في ذلك ، ولا ينفذ أمره ، ولو أدى ذلك إلى ضرب ظهر المأمور وأخذ ماله ، إذ ليس دم أحدهما ، ولا ماله بأولى من دم الآخر ، ولا ماله ، وكلاهما يحرم شرعاً ، إذ هما مسلمان ، ولا يجوز الإقدام على واحد منهما ، لا للآمر ، ولا للمأمور ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "، كما ذكره الطبري ، ولقوله هنا : " فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"، فأما قوله في حديث حذيفة: "اسمع وأطع ، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك"، فهذا أمر للمفعول به ذلك للاستسلام، والانقياد، وترك الخروج عليه مخافة أن يتفاقم الأمر إلى ما هو أعظم من ذلك ؛ ويحتمل أن يكون ذلك خطاباً لمن يفعل به ذلك بتأويل يسوغ للأمير بوجه يظهر له، ولا يظهر ذلك للمفعول به ؛ وعلى هذا يرتفع التعارض بين الأحاديث ، ويصح الجمع، والله أعلم).
وقال الإمام الآجري رحمه الله في ذم الخروج المسلح ، وخلع بيعة الأئمة ، ورد السنن التي تخالف الأهواء في شخص الخوارج ، لأنهم أول من سلك هذا المسلك المشين ، وابتدع هذه البدعة المضلة المذلة: (لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً أن الخوارج قوم سوء، عصاة لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن صلوا، وصاموا، واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافع لهم، وإن أظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس ذلك بنافع لهم ، لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون، ويموهون على المسلمين، وقد حذرنا الله عز وجل منهم ، وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم، وحذرنا الخلفاء الراشدون بعده، وحذرنا الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان رحمة الله تعالى عليهم.
والخوارج هم الشراة، الأنجاس، الأرجاس، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج، يتوارثون هذا المذهب قديماً وحديثاً ، ويخرجون على الأئمة والأمراء ، ويستحلون قتل المسلمين .
وأول قرن طلع منهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم بالجِعرَّانة ، فقال : اعدل يا محمد ، فما أراك تعدل . فقال صلى الله عليه وسلم: "ويلك فمن يعدل إذا لم أكن أعدل؟"، فأراد عمر رض الله عنه قتله ، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من قتله ، وأخبر عليه الصلاة والسلام: "أن هذا وأصحاباً يحقر أحدُكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية "، وأمر عليه الصلاة والسلام في غير حديث بقتالهم ، وبين فضل من قتلهم وقتلوه.
ثم إنهم بعد ذلك خرجوا من بلدان شتى ، واجتمعوا ، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قدموا المدينة ، وقتلوا عثمان رضي الله تعالى عنه ، وقد اجتهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان في المدينة في أن لا يقتل عثمان فما أطاقوا ذلك .
ثم خرجوا بعد ذلك على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ولم يرضوا بحكمه ، وأظهروا قولهم ، وقالوا : " لا حكم إلا لله "، فقال علي رضي الله عنه: " كلمة حق أرادوا بها الباطل"، فقاتلهم علي رضي الله عنه ، فأكرمه الله عز وجل بقتلهم ، وأخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضل من قتلهم أو قتلوه ، وقاتل معه من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، فصار سيف علي بن أبي طالب في الخوارج سيف حق إلى أن تقوم الساعة ).
وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم الإمام رحمه الله :( وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور ، وغشهم ، والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديماً وحديثاً ، ومن سيرة غيرهم .(9/231)
وقد ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند إسته بقدر غدره"، قال : وإن من أعظم الضرر ، بغي بإمام المسلمين، وهذا حدث به عبد الله بن عمر لما قام قوم من أهل المدينة يخرجون عن طاعة ولي أمرهم ينقضون بيعته، وفي صحيح مسلم عن نافع قال : جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان ، زمن يزيد بن معاوية ، فقال : اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثاً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية").
ولله در الحسن البصري الرضي، ما أعقله، وأعلمه، وأبصره، حين أتاه رهط يريدون الخروج في زمن الأمويين: (فأمرهم أن يلزموا بيوتهم، ويغلقوا عليهم أبوابهم، ثم قال : والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا، ما لبثوا أن يرفع الله عز وجل ذلك عنهم ، وذلك أنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه، والله ما جاءوا بيوم خير قط . ثم تلا: "وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون").
الخارجون صنفان
الذين قاموا على الأئمة وخرجوا عليهم في الماضي ليسوا سواء ، فهم صنفان :
1. باغون مفسدون خارجون .
2. متأولون مأجورون .
يمثل الصنف الأول : المتنبئون ومانعوا الزكاة في عهد أبي بكر رضي الله عنه ، والخوارج الرافضة بفرقهم المختلفة ، ومن لف لفهم .
ويمثل الصنف الثاني : أهل الجمل ، وصفين ، والحسين ، وابن الزبير ، وأصحاب الحرة ، وابن الأشعث ومن معه من القراء.
وبين الصنفين من الفروق ما بين السماء والأرض.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد سئل عن "البغاة والخوارج" هل هي ألفاظ مترادفة أم بينهما فرق؟: (الحمد لله، أما قول القائل : إن الأئمة اجتمعت على أن لا فرق بينهما إلا في الاسم، فدعوى باطلة، ومدعيها مجازف ، فإن نفي الفرق إنما هو قول طائفة من أهل العلم من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، مثل كثير من المصنفين في "قتال أهل البغي"، فإنهم قد يجعلون قتال أبي بكر لمانعي الزكاة ، وقتال علي الخوارج ، وقتاله لأهل الجمل وصفين ، إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام من باب " قتال أهل البغي".
ثم مع ذلك فهم متفقون على أن مثل طلحة ، والزبير ، ونحوهما من الصحابة من أهل العدالة ، لا يجوز أن يحكم عليهم بكفر ولا فسق ، بل مجتهدون ، إما مصيبون ، وإما مخطئون ، وذنوبهم مغفورة لهم ، ويطلقون القول بأن البغاة ليسوا فساقاً .
فإذا جعل هؤلاء وأولئك سواء لزم أن تكون الخوارج وسائر من يقاتلهم من أهل الاجتهاد الباقين على العدالة سواء ، ولهذا قالت طائفة بفسق البغاة ، ولكن أهل السنة متفقون على عدالة الصحابة .
وأما جمهور أهل العلم فيفرقون بين " الخوارج المارقين " ، وبين " أهل الجمل وصفين " ، وغير أهل الجمل وصفين ممن بعد البغاة المتأولين ، وهذا هو المعروف عن الصحابة ، وعليه عامة أهل الحديث ، والفقهاء ، والمتكلمين ، وعليه نصوص أكثر الأئمة وأتباعهم ، من أصحاب مالك ، وأحمد، والشافعي ، وغيرهم .
وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ".
وهذا الحديث يتضمن ذكر الطوائف الثلاثة ، ويبين أن من المارقين نوع ثالث ، ليسوا من جنس أولئك ، فإن طائفة عليّ أولى بالحق من طائفة معاوية .
وقال في حق الخوارج المارقين : " يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، أينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة " .
إلى أن قال :
وأما أهل الجمل وصفين ، فكانت منهم طائفة قاتلت من هذا الجانب، وأكثر أكابر الصحابة لم يقاتلوا لا من هذا الجانب ، ولا من هذا الجانب ، واستدل التاركون للقتال بالنصوص الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ترك القتال في الفتنة ، وبينوا أن هذا قتال فتنة .
وكان علي رضي الله عنه مسروراً لقتال الخوارج ، ويروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بقتالهم ، وأما قتال " صفين " ، فذكر أنه ليس معه فيه نص ، وإنما هو رأي رآه ، وكان أحياناً يحمد من لم ير القتال ).
الخسائر والأضرار التي لحقت بالدين وبالمسلمين من جراء ذلك قديماً وحديثاً
الخسائر والأضرار التي منيت بها الأمة الإسلامية من جراء خلع البيعة عن الأئمة ، والخروج عليهم بالسيف ، وقتالهم ، وتفريق كلمتهم ، لا يعلمها إلا الله ، والراسخون في العلم ملمون بجلها ، وسنشير إلى طرف منها ، فنقول :(9/232)
أولاً : راح ضحية خلع بيعة الأئمة والخروج عليهم بالسلاح خيار هذه الأمة من الخلفاء الراشدين، وأئمة الدين من الصحابة رضوان الله عليهم ، وهم :
1. عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، في الصلاة.
2. عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد في أيام التشريق سنة 36ه .
3. علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو خارج إلى الصلاة.
4. طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه .
5. الزبير بن العوام رضي الله عنه ، وهو راجع قبل القتال .
6. عمار بن ياسر رضي الله عنه .
7. الحسن بن علي رضي الله عنه .
8. الحسين بن علي رضي الله عنه ، استشهد يوم الجمعة ، يوم عاشوراء سنة 61 هـ، ومعه بضعة عشر من أهله ، وعمره 58 سنة .
9. عبد الله بن الزبير رضي الله عنه ، قتل وصلب لعدة أيام سنة 73 هـ، ومدة خلافته 9 سنوات.
ثانياً : حروب الردة
خاض المسلمون حروباً ضارية ضد المتنبئين الأسود العبسي ومسيلمة الكذاب لعنهما الل ، وطليحة الأسدي، وسجاع ، ومانعي الزكاة ، راح ضحيتها عدد من خيار الصحابة رضوان الله عليهم، ويكفي أن تعلم أن عدد الذين قتلوا في حرب مسيلمة بلغ 450 من القراء والصحابة، منهم البراء بن مالك، وسالم مولى أبي حذيفة ، وحبيب بن زيد ، وأبو حذيفة بن عتبة ، وأبو دجانة سماك بن خربشة ، والطفيل بن عمرو الدوسي ؛ وقتل عكاشة بن محصن ، وثابت بن أقرم في قتال مليحة، وكان ذلك كله في السنة الحادية عشرة من الهجرة .
ثالثاً : في الجمل
• خرجت عائشة رضي الله عنها ومعها عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم طلحة ، والزبير، وعبد الله بن الزبير، من مكة تريد الكوفة في 35 ه .
• وكان معها 3000 .
• خرج أهل الجمل للمطالبة بقتلة عثمان رضي الله عنه والاقتصاص منهم ، وخرجت عائشة كما أشار عليها مروان بن الحكم للصلح بين الفريقين ، كما قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله ، وليتها لم تخرج لا للصلح ولا لغيره .
• لم يرد أحد من الفريقين القتال ، ولكن دعاة الفتنة أشعلوا نار الحرب بين الفريقين .
• قتل الزبير قبل الوقعة وهو راجع إلى المدينة ، بعد أن ذكره علي رضي الله عنه ووعظه .
• قتل من الصحابة في هذه الوقعة المشؤومة طلحة من أهل الجمل .
• بلغ عدد القتلى في الجمل عشرة آلاف ، خمسة من كل فريق .
• رد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عائشة إلى المدينة معززة مكرمة، في عدد من النسوة، وخرج في وداعها السبطان الحسن والحسين رضي الله عنهما.
• كان علي غير منشرح لقتال الجمل ، ولا لقتال أهل الشام ، ولكن حمل على ذلك حملاً من دعاة الفتنة ، كما حمل إخوانه من الصحابة من أهل الجمل والشام ، رضي الله عن الجميع .
• كان الحق مع علي رضي الله عنه ، إذ طلب من الجميع الدخول في بيعته ، ثم يتعاون الجميع في الاقتصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه .
• لقد ندمت عائشة رضي الله عنها على خروجها ندماً شديداً ، وكانت إذا ذكرته أو ذكرت به بكت حتى تبل خمارها .
• جميع الصحابة الذين قاتلوا في الجمل كانوا متأولين مأجورين ، إما أجراً واحداً وإما أجرين ، وقد نزع الله ما في صدورهم من الغل ، إذ الجميع في أعلى الجنان بحكم الله عز وجل : " وكلاً وعد الله الحسنى " الآية ، والحسنى هي الجنة إذ لا حسنى فوقها .
رابعاً : في صفين
• صفين موقع بالقرب من نهر الفرات شرق بلاد الشام .
• وقعة صفين كانت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما ، ومن معهما من أهل العراق والشام .
• كانت بدايتها في 37 ه .
• استمرت الوقائع بينهم لمدة سنتين حيث بلغت تسعين وقعة .
• قتل فيها سبعون ألفاً، 45 ألفاً من أهل الشام، و25 ألفاً من أهل العراق، منهم خمسة وعشرون بدرياً، أشهرهم عمار بن ياسر رضي الله عنه.
• كان المقام بصفين 110 يوماً .
• في سنة 38 هـ التقى الحكمان.
• قال الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله تحت عنوان "قاصمة التحكيم" من كتابه القيم "العواصم من القواصم" ، في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم :
( قاصمة:
وقد تحكّم الناس في التحكيم فقالوا فيه مالا يرضاه الله ، وإذا لحظتموه بعين المروءة ـ دون الديانة ـ رأيتهم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدمُ الدين ، وفي الأقل جهل متين .
والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط الدارقطني : أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين أو تسعين ألفاً ونزلوا على الفرات بصفِّين ، اقتتلوا في أول يوم ـ وهو الثلاثاء ـ على الماء فغلب أهل العراق عليه .
ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة 37 ه ، ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ، ورفعت المصاحف من أهل الشام ، ودعوا إلى الصلح ، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل ، حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق ، فكان من جهة علي أبو موسى، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص .(9/233)
وكان أبو موسى رجلاً ، تقياً ، ثقِفاً ، فقيهاً ، عالماً ، حسبما بيناه في كتاب "سراج المريدين"، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ ، وقدمه عمر وأثنى عليه بالفهم ، وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعاً في القول ، وأن ابن العاص كان ذا دهاء وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه ، تأكيداً لما أرادت من الفساد ، اتبع في ذلك بعض الجهال بعضاً وصنفوا فيه حكايات ، وغيره من الصحابة كان أحذق منه وأدهى ، وإنما بنوا ذلك على أن عمراً لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر .
وقالوا إنهما لما اجتمعا بأذرُح من دُومة الجندل ، وتفاوضا ، اتفقا على أن يخلعا الرجلين ، فقال عمرو لأبي موسى : اسبق بالقول ، فتقدم فقال : " إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر ، وينظر المسلمون لأنفسهم ، كما خلعتُ سيفي هذا من عنقي أو من عاتقي "، وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض ، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض ، وقال : " إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر ، كما أثبت سيفي هذا في عاتقي " ، وتقلده ، فأنكر أبو موسى ، فقال عمرو : " كذلك اتفقنا " ، وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف .
عاصمة
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه : هذا كله كذب صراح ، ما جرى منه حرف قط ، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ، ووضعته التاريخية للملوك ، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع ، وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر ـ في عصبة كريمة من الناس ، منهم ابن عمر ونحوه ـ عزل عمرو معاوية.
ذكر الدارقطني بسنده إلى حضين بن المنذر : لما عزل عمرو معاوية جاء ـ أي حضين بن المنذر ـ فضرب فسطاطه قريباً من فسطاط معاوية ، فبلغ نبأه معاوية ، فأرسل إليه فقال : إنه بلغني عن هذا ـ أي عن عمرو ـ كذا وكذا ، فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه . فأتيته ، فقلت : أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه ؟ قال : قد قال الناس في ذلك ما قالوا ، والله ما كان الأمر على ما قالوا ، ولكن قلت لأبي موسى : ما ترى في هذا الأمر ؟ قال : أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ . قلت : فأين تجعلني أنا ومعاوية ؟ قال : إن يستعن بكما فيكما معونة ، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما . قال : فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه ، فأتيته فأخبرته ـ أي فأتى حضينُ معاوية فأخبره ـ أن الذي بلغه كما بلغه ، فأرسل إلى أبي الأعور الذكواني فبعثه في خيله ، فخرج يركض فرسه ويقول أين عدو الله أين هذا الفاسق ؟
قال أبو يوسف: أظنه قال: "إنما يريد حوباء نفسه"، فخرج عمرو إلى فرس تحت فسطاطه فجال في ظهره عرياناً، فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية ، هو يقول: "إن الضجور قد تحتلب العُلبة، يا معاوية إن الضجور قد تحتلب العلبة"، فقال معاوية: "أجل، وتربِذُ الحالب فتدق أنفه، وتكفأ إناءه".
قال الدارقطني ـ وذكر سنداً عدلاً ـ ربعي عن أبي موسى أن عمرو بن العاص قال: "والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شيء لقد غبنا ونقص رأيهما، وأيم الله ما كانا مغبونين ولا ناقصي الرأي ، ولئن كانا امرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا، وأيم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا" .
فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه ، فأعرضوا عن الغاوين ، وازجروا العاوين ، وعرجوا عن سبيل الناكثين ، إلى سنن المهتدين ، وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين ، وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد هلك من كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خصمه ، ودعوا ما مضى ، فقد قضى الله ما قضى ، وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقاداً وعملاً ، ولا تسترسلوا بألستنكم فيما لا يعنيكم مع كل ناعق اتخذ الدين هملاً ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، ورحم الله الربيع بن خيثم فإنه لما قيل له : قتل الحسين ! قال : أقتلوه ؟ قالوا : نعم . فقال : " اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون "، ولم يزد على هذا أبداً ، فهذا العقل والدين ، والكف عن أحوال المسلمين ، والتسليم لرب العالمين .
خامساً : قيام السيد الحسين رضي الله عنه، وخذلان الرافضية له، واستشهاده على يد ابن مرجانة
• بعد موت معاوية رضي الله عنه وولاية يزيد وخروج الحسين إلى مكة وعدم دخوله في بيعة يزيد، توالت الكتب من أهل العراق على الحسين تدعوه للقدوم إليهم ليبايعوه حيث بلغت الكتب والرسائل أكثر من 150 كتاباً .
• عندما عزم الحسين رضي الله عنه على الخروج إلى أهل العراق نهاه كل الناس عن الخروج وحذروه مغبة ذلك ، وذكروه بخذلان الرافضة لأبيه ولأخيه الحسن من قبل ، ولكن أراد الله للحسين الشهادة .(9/234)
• لقد نهاه عن الخروج ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر بن عبد الله ، ومحمد بن الحنفية ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو واقد الليثي ، وسعيد بن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن .
• قال له ابن عباس : لا تبرح الحرم فإنهم إن كانت بهم إليك حاجة فسيضربون إليك آباط الإبل حتى يوافوك فتخرج في قوة وعدة .
وقال له ابن عمر : لا تخرج ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ، وإنك بضعة منه ، ولا تنالها "ـ يعني الدنيا ـ واعتنقه وبكى وودعه ؛ وكان ابن عمر يقول : غلبنا حسين بن علي بالخروج ، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة ، فرأى من الفتنة وخذلان الناس لهما ما كان ينبغي له أن لا يتحرك ما عاش ، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير .
وقال له ابن عباس كذلك : وأين تريد يا ابن فاطمة ؟ قال : العراق وشيعتي . فقال : إني كاره لوجهك هذا ، تخرج لقوم قتلوا أباك ، وطعنوا أخاك حتى تركهم سخطة وملالة لهم ؟ اذكر الله أن تغرر بنفسك .
وقال أبو سعيد الخدري : غلبني حسين على الخروج ، وقلت له : اتق الله في نفسك ، والزم بيتك ولا تخرج على إمامك . وقال سعيد بن المسيب : لو أن حسيناً لم يخرج لكان خيراً له . وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : وقد كان ينبغي لحسين أن يعرف أهل العراق ولا يخرج إليهم .
وصل الحسين الكوفة وحدث الذي حذره منه العقلاء الأخيار ، فقد رأى الحسين الذين كتبوا إليه الكتب هم الذين شهروا السيوف في وجهه لقتله ، وكان يخاطبهم بأسمائهم : يا فلان ، ألم تكتب إلي ؟
فقد جاء المقدور المسطور ، وظهر المحذور ، وباء الرافضة وابن مرجانة بإثم قتل أبناء الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلم يثبت مع الحسين رضي الله عنه إلا أبناؤه وأهل بيته ، وقاتل قتال الشجعان حتى أتاه اليقين، واستشهد مقبلاً غير مدبر ، ونال ما أراده الله له من الشهادة والكرامة .
فنسأل الله أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، وأن يغفر له ويسامحه فيما سعى ، وقد فعل ، فهو من المبشرين بالجنة ، بل هو وأخوه الحسن ريحانتا هذه الأمة في الجنة بحكم جدهما الصادق المصدوق ، ونسأل الله أن ينتقم من الداعين الخاذلين الرافضين لأئمة الدين ، وأن يكتب عليهم الحزن والبكاء وفعل الجاهليين إلى يوم الوقت والنشور ، وأن ينتقم من قتلة الحسين ، حيث كان يغنيهم أن يأسروه أو يحاصروه أو يتركوه يرجع إلى دار هجرة جده ، ولكن قدر الله كان مقدوراً، وأمر الله كان مفعولاً .
لو لم يكن للخروج إلا هذه الطامة الكبرى والداهية العمياء ، أعني قتل هذا السيد الكريم ، لكفاه سوءاً وقبحاً :( يا أسفاً على المصائب مرة ، ويا أسفاً على مصيبة الحسين ألف مرة ، وإن بوله يجري على صدر النبي صلى الله عليه وسلم ، ودمه يراق على البوغاء ، ولا يحقن ، يالله ويا للمسلمين).
قال العلامة أبو بكر بن العربي رحمه الله عن هذه المأساة :( فتمادى واستمر غضباً للدين ، وقياماً بالحق ـ ولكنه رضي الله عنه ـ لم يقبل نصيحة أعلم أهل زمانه ابن عباس ، وعدل عن رأي شيخ الصحابة ابن عمر ، طلب الابتداء في الانتهاء ، والاستقامة في الاعوجاج ، ونضارة الشبيبة في هشيم الشيخوخة ، ليس حوله مثله ، ولا له من الأنصار من يرعى حقه ، ولا من يبذل نفسه دونه ، فأردنا أن نطهر الأرض من خمر يزيد فأرقنا دم الحسين ، فجاءتنا مصيبة لا يجبرها سرور الدهر ، وما خرج عليه أحد إلا بتأويل ، ولا قتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل، المخبر بفساد الحال ، المحذر من الدخول في الفتن ، وأقواله في ذلك كثيرة : " ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان "، فما خرج الناس إلا بهذا وأمثاله ).
سادساً : موقعة الحرة
موقعة الحرة بالمدينة كانت في سنة 63 هـ، بين أهل المدينة بعد أن خلعوا بيعة يزيد بن معاوية وأخرجوا ولاة الأمويين منها، وبين الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية بقيادة السفاك، الأثيم، المقعد، المفلوج، مسلم بن عقبة المزني، وصدق من سماه مسرف بن عقبة، قبحه الله، ومعه عشرة آلاف فارس وخمسة عشر ألف رجل.(9/235)
قال ابن كثير رحمه الله :( وكان سببها أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية ولوا على قريش عبد الله بن مطيع ، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر ، فلما كان في أول هذه السنة ، أظهروا ذلك ، واجتمعوا عند المنبر ، فجعل الرجل منهم يقول : قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه ؛ ويقول الآخر : قد خلعته كما خلعت نعلي هذه ؛ حتى اجتمع شيء كثير من العمائم والنعال هناك ، ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم ، وهو عثمان بن محمد ابن أبي سفيان بن عم يزيد ، وعلى إجلاء بني أمية من المدينة ، فاجتمعت بنو أمية في دار مروان ابن الحكم ، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم ، واعتزل الناس علي بن الحسين " زين العابدين "، كذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب لم يخلعا يزيد ، ولا أحد من بيت ابن عمر ، وقد قال ابن عمر لأهله : لا يخلعن أحد منكم يزيد فتكون الفيصل ، ويروى الصيلم بيني وبينه .. وأنكر على أهل المدينة في مبايعتهم لابن مطيع وابن حنظلة على الموت ، وقال : إنما كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر ؛ و كذلك لم يخلع يزيد أحد من بني عبد المطلب ، وقد سئل محمد بن الحنفية في ذلك فامتنع من ذلك أشد الامتناع ، وناظرهم وجادلهم في يزيد ، ورد عليهم ما اتهموا يزيد به من شرب الخمر ، وتركه بعض الصلوات ...وكتب بنو أمية إلى يزيد بما هم فيه من الحصر والإهانة ، والجوع والعطش ، وإنه لم يبعث إليهم من ينقذهم مما هم فيه، وإلا استؤصلوا عن آخرهم).
فلما وصل البريد بذلك إلى يزيد جهز جيشه وأمر عليه مسلم ـ مسرف ـ بن عقبة ، وقال له : ادع القوم ثلاثاً ، فإن رجعوا إلى الطاعة فأقبل منهم ، وكف عنهم ، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم ، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثاُ ثم اكفف عن الناس.
فلما لم يستجيبوا له استباح مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام ، وقتل خلقاً من أشرافها ، وقرائها ، وانتهب أموالاً كثيرة منها ، ووقع شر عظيم ، وفساد كبير ، كما قال الحافظ ابن كثير .
سابعاً : حصار الحجاج لابن الزبير بمكة وقتله
• كانت ولاية عبد الله بن الزبير على مكة والحجاز وغيرها في رجب سنة 64ه ، فلما مات يزيد بن معاوية بويع له بالخلافة في جميع البلاد الإسلامية ، وبايع له الضحاك بن قيس بدمشق وأعمالها ، ولكن عارض مروان بن الحكم في ذلك ، وأخذ الشام ومصر ، ثم جهز السرايا إلى العراق ، وفي عهد عبد الملك قتل مصعب بن الزبير ، وأخذ العراق من عبد الله .
• جدد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم .
• استمرت إمرته 9 سنوات .
• قدم الحجاج لحصار ابن الزبير في ألفي فارس وانضاف إليه أعداد حتى بلغوا 40 ألفاً .
• بدأ الحصار من ليلة هلال ذي الحجة 72 هـ، وقتل ابن الزبير رضي الله عنه في 17 جمادى الأولى 73 ه.
• كانت مدة الحصار 5 أشهر و17 ليلة .
• ضرب الحجاج الكعبة بالمنجنيق .
• واستبسل ابن الزبير استبسالاً عظيماً ، فقد صد جنود الحجاج مرات ومرات حتى أوصلهم إلى الحجون وهو وحده .
• لقد قتل من الفريقين الكثير، وخرج 10 آلاف من أهل مكة حين حاصرها الحجاج ونشر الذعر بين أهلها الآمنين .
ثامناً : فتنة ابن الأشعث
كان ابن الأشعث رحمه الله قائداً من قواد الأمويين ، وكان الحجاج يبغضه ويسيء إليه ، قال ابن كثير :( وسبب هذه الفتنة أن ابن الأشعث كان الحجاج يبغضه ، وكان هو يفهم ذلك ويضمر له السوء ، وزوال الملك عنه ، فلما أمّره الحجاج على ذلك الجيش .. وأمره بدخول بلاد رتبيل ملك الترك فمضى .. ثم رأى لأصحابه أن يقيموا حتى يتقوا إلى العام المقبل ، فكتب إلى الحجاج بذلك ، فكتب إليه الحجاج يستهجن رأيه في ذلك ، ويستضعف عقله ، ويقرعه بالجبن والنكول عن الحرب .
قال ابن كثير : فغضب ابن الأشعث ، وقال : يكتب إلي بمثل هذا وهو لا يصلح أن يكون من بعض جندي ، ولا من بعض خدمي لخوره وضعف قوته ؟
إلى أن قال : جمع رؤوس أهل العراق وقال لهم : إن الحجاج قد ألح عليكم في الإيغال في بلاد العدو ، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس ؛ وأخبرهم بما كتب إليه الحجاج من الأمر بمعالجة رتبيل، فثار إليه الناس، وقالوا: لا بل نأبى على عدو الله الحجاج ولا نسمع له ولا نطيع.
ثم أقبل ابن الأشعث بالجنود الذين معه مقبلاً من سجستان إلى الحجاج ليقاتله، ويأخذ منه العراق، فلما توسطوا الطريق قالوا: إن خلعنا للحجاج خلع لابن مروان؛ فخلعوهما وجددوا البيعة لابن الأشعث، فبايعهم على كتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلع أئمة الضلالة، وجهاد الملحدين.
وهكذا خلع ابن الأشعث ومن معه من القراء ، والعلماء ، والصلحاء ، الحجاجَ وعبدَ الملك ، ودخلوا مع الحجاج في حروب ، وحدثت بينهم وقعات انتصر فيها ابن الأشعث في أولها ولكنه غلب وهزم في آخرها .
• خرج ابن الأشعث على الحجاج ومعه 33 ألف فارس و120 ألف راجل .
• بايع ابن الأشعث جميع من في البصرة من الفقهاء ، والقراء ، والشيوخ ، والشباب .(9/236)
• قتل أصحاب ابن الأشعث في أول الأمر مقدمة الحجاج أكثر من 1500 شخصاً ، ثم بايعه أهل الكوفة .
• أشهر المواقع التي خاضها ابن الأشعث مع الحجاج هي :
1. موقعة الزاوية ، وكانت في المحرم 82 ه ، قتل فيها من أصحاب ابن الأشعث الكثير من القراء، وهم الفقهاء .
2. موقعة دير الجماجم ، وكانت في شعبان من نفس العام 82ه ، وكان فيها مع ابن الأشعث حوالي 200 ألفاً ممن يأخذ العطاء ، ومثلهم معهم من الموالي .
• كسر أصحاب ابن الأشعث أهل الشام أكثر من بضع وثمانين مرة .
• قتل الحجاج من أصحاب ابن الأشعث صبراً بعد أن قضى عليه 130 ألفاً .
• أشهر العلماء الذين كانوا مع ابن الأشعث من العلماء الفقهاء :
1. سعيد بن جبير رحمه الله الذي قتله الحجاج .
2. عامر الشعبي رحمه الله .
3. عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله .
4. وكميل بن زياد ، وكان شجاعاً فاتكاً رحمه الله .
5. وأبو البحتري الطائي رحمه الله .
نكتفي بهذا القدر من التمثيل للخسائر الفادحة التي ألمت بالدين وبالمسلمين من جراء الخروج المسلح على الحكام، وما ذكرناه غيض من غيض، وقليل من كثير ، وهو لا يساوي شيئاً مما جرى لهذه الأمة بسبب ذلك.
وقد أضاف البعض في هذا العصر لهذا الخروج طامة أخرى وداهية عظمى ، ألا وهي تجسس البعض على إخوانهم المسلمين ، ودل الكفار على عوراتهم ، بل والقتال جنباً إلى جنب مع الكفار ، وتحت إمرتهم، كما حدث هذا في جنوب السودان ، وفي حرب الخليج ، وفي الحرب الصليبية التي شنتها أمريكا وعملاؤها ضد الدولة الإسلامية في أفغانستان ، وهذا الأمر منافٍ لعقيدة التوحيد، ولعقيدة الولاء والبراء حيث يقاتل هؤلاء لتكون كلمة الذين كفروا العليا ضد إخوانهم المسلمين المستضعفين.
هذا بجانب ما أصاب إخواننا المسلمين في الصومال وأفغانستان بسبب الخروج على الحكام ، والحروب الأهلية الطاحنة تحت رايات عمياء وعصبيات هوجاء ، مما أغرى الكفار بالتدخل في هذين البلدين .
ومن عجيب أمر الساسة في السودان في هذا العصر أنه ما منهم من أحد اختلف مع الحكومة القائمة، إلا وذهب مباشرة ووضع يده في يد الخارجي الصليبي الصهيوني جون قرنق ، وعمل تحت إمرته، وقاتل تحت رايته ، لا يستثنى من ذلك أحد من الأحزاب والقادة ، ولا يدخل في ذلك الشيوعيون والعلمانيون لأن الكفر ملة واحدة ، ولكن نعني بذلك المسلمين الذين يرفعون شعار الإسلام، ويتولون المسلمين ، ومع ذلك ينحازون إلى صف الكفار ويقاتلون معهم ، لإحن شخصية، وأغراض دنيوية ، وأهواء سياسية .
فعليك أخي المسلم أن تتدبر ما أصاب الإسلام والمسلمين بسبب هذا الخروج المخالف لأمر رسولك، وعليك أن تقتدي بالعقلاء عند حدوث الفتن ، وليكن لك أسوة في عبد الله بن عمر شيخ الصحابة في عصره ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمد بن مسلمة ، وعلي زين العابدين ، ومحمد بن الحنفية ، وغيرهم كثير ، وإياك إياك أن تنزع يداً من طاعة فتموت ميتة جاهلية ، أو تقاتل في عمية، أو من أجل عصبية جاهلية ، وعليك أن تصبر وتحتسب كما احتسب أولئك الأخيار ، وأن تعتبر بما أصاب المتأولين الأخيار الأبرار ، فالعاقل من اتعظ بغيره ، والجاهل من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
وتذكر دائماً وأبداً تلك الحكمة : " إمام ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم ، ومن أسد حطوم".
والله أسأل أن يفقهنا في الدين ، وأن يوفقنا للاقتداء بسنة سيد المرسلين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين ، وعلينا وعلى جميع عباد الله الصالحين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
00000000000000000000000
التثويب "الصلاة خير من النوم" في أي أذَانَي الصبح يُقال: الأول أم الثاني؟
تعريف التثويب
الدليل على التثويب في الفجر دون غيره
حكم التثويب في أذان الصبح
ما يقول سامع التثويب
التأذين لصلاة الفجر قبل طلوعه
الأدلة على جواز التأذين للفجر قبل طلوعه في رمضان وغيره
إذا أذن للفجر قبل طلوعه هل يكتفي بهذا الأذان أم يُعاد بعد الفجر؟
التثويب في أذان الفجر وهو قول الصلاة خير من النوم متى تقال: في الأذان الأول أم الثاني؟
الخلاصة
تمهيد
الحمد لله الذي أمرنا عند التنازع أن نرد الأمر إلى الكتاب والسنة: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، وأمرنا الشارع الحكيم كذلك إذا اختلفنا في تأويل شيء من النصوص أن نرجع في ذلك إلى تأويل أئمتنا وولاة أمورنا من السادة العلماء والأئمة الأجلاء، في أي عصر من العصور وفي أي مصر من الأمصار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي"، يعني بذلك أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لرسوخهما في العلم ومكانتهما في الدين، لأن في ذلك تضييق لدائرة الخلاف المذموم المؤدي إلى التنافر والتدابر والقطيعة.(9/237)
من الأمور التي خالف فيها نفر من أهل السنة ما عليه عامتهم موضوع التثويب في أذان الصبح، هل يكون في الأذان الأول أم الثاني؟! فقد تعارف جل المسلمين في المملكة العربية السعودية وفي السودان وفي غيرهما من البلدان على أن التثويب لأذان الصبح يكون في الأذان الثاني، وقال هؤلاء النفر: بل التثويب لأذان الصبح يكون في الأذان الأول تمسكاً بظواهر بعض الأحاديث، وأحدث ذلك الخلاف شيئاً من الاضطراب لمن يجاورون تلك المساجد التي يلتزم أصحابها التثويب في الأذان الأول للصبح سيما في شهر رمضان، حيث يمسك البعض عن الأكل والشرب مباشرة ويمتنعون عن السحور إذا سمعوا المؤذن قال "الصلاة خير من النوم" لِمَا تعارفوا عليه أن هذه الكلمة لا تقال إلا في الأذان الثاني وعند بزوغ الفجر.
وبعد..
فهذا بحث عن "التثويب" عن تعريفه لغة واصطلاحاً، وعن أنواعه والتمييز بين سنيه وبدعيه، وعن حكمه ووقته في أذان الصبح، وعن أقوال أهل العلم ومذاهبهم وحججهم وتأويلهم للأحاديث الواردة في هذا الشأن، وعن أرجح الأقوال في ذلك.
والله أسأل أن يعينني على ذلك ويرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ويوفقنا للاستضاءة بنور الكتاب والسنة وللصدور عن فتاوى وتأويلات علماء الإسلام المقتدى بهم قديماً وحديثاً، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، ويفقهنا وإياهم في الدين ويعلمنا التأويل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على إمام الهدى الهادي إلى سواء الصراط، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم ما تعاقب الليل والنهار.
تعريف التثويب
التثويب لغة
التثويب لغة أصله من ثاب الشيء إذا رجع، وثاب إلى عقله أي رجع عما كان عليه من الخطأ، وثوَّب الراعي أي كرر النداء، ومنها قيل للإقامة تثويب لأنها بعد الأذان، ومنه قيل لقول المؤذن "الصلاة خير من النوم" تثويب.
قال الخطابي: التثويب الإعلام بالشيء ووقوعه، وأصله أن الرجل إذا جاء فزعاً لوح بثوبه.
التثويب اصطلاحاً
التثويب في اصطلاح الشرع له ثلاثة معانٍ، اثنان سنيان والثالث بدعي، وهي:
1. الإقامة: ورد في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل، حتى إذا ثوِّب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، فيقول له: اذكر كذا، اذكر كذا"، الحديث.
2. قول المؤذن في صلاة الصبح بعد "حي على الفلاح" "الصلاة خير من النوم" مرتين.
وهذان هما المعنيان السنيان المستحبان.
3. قول بعض المؤذنين بين الأذان والإقامة: "حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم"، وذلك إذا استبطأوا مجيء الناس إلى الصلاة، أوتخصيص بعض الأمراء بعد الأذان بالذهاب إليهم في دورهم وتنبيههم بقول المؤذن: "حي على الصلاة حي على الفلاح يرحمك الله".
وهذا هو التثويب الذي كرهه عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما، وخرج بسببه ابن عمر من المسجد بعد الأذان، وكرهه كذلك مالك.
وقد أجازه أبو حنيفة رحمه الله، ولا ينهض عنده دليل على ذلك.
الدليل على التثويب في الفجر دون غيره
1. عن بلال رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوِّب في العشاء".
2. وعن ابن المسيب عن بلال: "أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الفجر فقيل هو نائم، فقال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم؛ فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك".
3. وروى البيهقي والطبراني وغيرهما أن بلالاً رضي الله عنه قال: الصلاة خير من النوم حين وجد النبي صلى الله عليه وسلم راقداً، فقال: "ما أحسن هذا يا بلال اجعله في أذانك".
قال الترمذي رحمه الله تحت باب "ما جاء في التثويب في الفجر": (وقد اختلف أهل العلم في تفسير التثويب، قال بعضهم: التثويب أن يقول في أذان الفجر: "الصلاة خير من النوم"، وهو قول "الصلاة خير من النوم"، وهو قول ابن المبارك وأحمد.
وقال إسحاق في التثويب غير هذا، قال: التثويب المكروه هو شيء أحدثه الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أذن المؤذن فاستبطأ القوم قال بين الأذان والإقامة: "قد قامت الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح".
قال: وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي كرهه أهل العلم، والذي أحدثوه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي فسر ابن المبارك وأحمد: أن يقول المؤذن في أذان الفجر: "الصلاة خير من النوم" وهو قول صحيح، ويقال له "التثويب" أيضاً، وهو الذي اختاره أهل العلم ورأوه.
وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول في صلاة الفجر: "الصلاة خير من النوم".
وروي عن مجاهد قال: دخلت مع عبد الله بن عمر مسجداً وقد أذن فيه، ونحن نريد أن نصلي فيه، فثوَّب المؤذن، فخرج ابن عمر من المسجد وقال: اخرج بنا من عند هذا المبتدع؛ ولم يصل فيه.(9/238)
قال: وإنما كره عبد الله التثويب الذي أحدثه الناس بعد).
وقال الحطاب المالكي في "مواهب الجليل لشرح مختصر خليل": (قال ابن وهب عن مالك في المجموعة: التثويب بين الأذان والإقامة في الفجر في رمضان وغيره محدث وكرهه انتهى؛ وقال في "الطراز": التثويب بين الأذان والإقامة ليس بمشروع ولا يعرف إلا الأذان والإقامة فقط، فأما دعاء في آخر الأذان غيرهما فلا، واستحب أبو حنيفة أن يثوَّب في الصبح بين الأذان والإقامة، وروى عنه أبوشجاع أنه قال: التثويب الأول في نفس الأذان يريد به: "الصلاة خير من النوم"، قال: والثاني: بين الأذان والإقامة، وروى من احتج له في ذلك أن بلالاً كان إذا أذن أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حي على الصلاة حي على الفلاح يرحمك الله؛ وأنكر ذلك أصحاب الشافعي، ورووا أن عمر لما قدم مكة جاء أبومحذورة وقد أذن، فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح؛ فقال له عمر: ويحك! أمجنون أنت، ما كان في دعائك الذي دعوت ما نأتيك حتى تأتينا؟! ولو كان سنة لم ينكره، أما مالك فقد أنكر ذلك، وقال في "العتبية": ليس التثويب بصواب، وروى عنه ابن وهب وابن حبيب أن التثويب بعد الأذان في الفجر في رمضان محدث وكرهه، يريد أنهم كانوا يتنحنحون ليعلموا الناس بالفجر فيركعون فكره ذلك، ورآه مما ابتدع، قال: ولم يبلغني أن السلام على الإمام كان في الزمن الأول؛ وذكر ابن المنذر عن الأوزاعي أنه حدث في عهد معاوية، فكان المؤذن إذا أذن على الصومعة دار إلى الأمير واختصه بأذان ثانٍ من: حي على الصلاة، حي على الفلاح؛ ثم يقول: الصلاة يرحمك الله؛ إلى أن قال: وعادة أهل المدينة تمنع ذلك).
حكم التثويب في أذان الصبح
حكم التثويب في أذان الفجر سنة مستحبة، وما سوى ذلك فهو بدعة محدثة.
ما يقول سامع التثويب
يقول: صدقتَ وبررتَ، وقال النووي في "الأذكار": يقول "صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم".
التأذين لصلاة الفجر قبل طلوعه
بعد أن أجمعت الأمة على عدم جواز التأذين للصلوات المكتوبة سوى الفجر قبل دخول وقتها لأن الأذان هو الإعلام بدخول الوقت اختلفوا في التأذين للفجر قبل طلوعه على أقوال:
الأول: يجوز التأذين للفجر قبل طلوعه، وهذا مذهب العامة من أهل العلم، والسنة أن تكون المدة بينهما قليلة جداً، فقد صح أن المدة بين أذان بلال وابن أم مكتوم رضي الله عنهما قدر ما ينزل هذا ويطلع هذا، واستحب بعض أهل العلم أن يؤذن للفجر الأذان الأول في السدس الأخير من الليل، وهو أنسب الأقوال التي وردت في ذلك.
الثاني: لا يجوز أن يؤذن للفجر قبل طلوعه، وإلى هذا ذهب سفيان الثوري وأبوحنيفة من الأئمة، وهذا قول مرجوح.
الثالث: يؤذن للفجر قبل طلوعه في كل العام إلا في رمضان، وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد، وهو قول مرجوح كذلك.
الأدلة على جواز التأذين للفجر قبل طلوعه في رمضان وغيره
1. ما خرجه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعن أحدكم – أو أحداً منكم – أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن – أوينادي – بليل، ليرجع قائمكم، ولينبه نائمكم".
2. وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم".
3. قال القاسم بن محمد بن أبي بكر: "لم يكن بين أذانيهما إلا أن يرقى هذا وينزل هذا".
إذا أذن للفجر قبل طلوعه هل يكتفي بهذا الأذان أم يُعاد بعد الفجر؟
قولان لأهل العلم:
1. يكتفي به، وهذا مذهب الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد.
2. لا يكتفي به، وإلى هذا ذهب ابن خزيمة، وابن المنذر.
دليل الجمهور على الاكتفاء بالتأذين للصبح قبل طلوعه
استدل الجمهور على جواز التأذين للصبح قبل طلوع الفجر بحديث زياد بن الحارث الصدائي رضي الله عنه قال: "لما كان أول أذان الصبح أمرني النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت فجعلت أقول: أقيم يا رسول الله، فجعل ينظر إلى ناحية المشرق إلى الفجر، فيقول: لا؛ حتى إذا طلع الفجر" الحديث.
قال الحافظ العراقي عن هذا الحديث: (رواه أبوداود وغيره وهو صريح في الأذان للصبح قبل الوقت من غير إعادته بعد دخول الوقت).
قال الحافظ ابن حجر في شرح حديثي عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما: (قوله: "باب الأذان قبل الفجر" أي ما حكمه، هل يشرع أولا؟ وإذا شرع هل يكتفي به عن إعادة الأذان بعد الفجر أولا؟ وإلى مشروعيته مطلقاً ذهب الجمهور، وخالف الثوري وأبوحنيفة ومحمد، وإلى الاكتفاء مطلقاً ذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، وخالف ابن خزيمة وابن المنذر وطائفة من أهل الحديث، وقال به الغزالي في "الإحياء").(9/239)
قال ابن عبد البر: (وقد اختلف العلماء في جواز الأذان بالليل لصلاة الصبح، فقال أكثر العلماء بجواز ذلك، وممن أجازه مالك وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي، وبه قال أحمد بن حنبل، وإسحاق، وداود، والطبري، وهو قول أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي الكوفي، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً يؤذن بليل"؛ وفي قوله هذا إخبار منه أن شأن بلال أن يؤذن للصبح بليل، يقول: فإذا جاء رمضان، فلا يمنعكم أذانه من سحوركم، وكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، فإن من شأنه أن يقارب الصبح بأذانه.
وقال أبوحنيفة والثوري ومحمد بن الحسن: لا يجوز الأذان لصلاة الفجر حتى يطلع الفجر، ومن أذن لها قبل الفجر لزمه إعادة الأذان؛ وحجة الثوري وأبي حنيفة ومن قال بقولهما: ما رواه وكيع عن جعفر بن برقان عن شداد مولى عياض بن عامر عن بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تؤذن حتى يتبين لك الفجر هكذا، ومد يده عرضاً".
إلى أن قال: واحتجوا أيضاً بما رواه حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي: "ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام، فرجع فقالها"؛ وهذا حديث انفرد به حماد بن سلمة دون أصحاب أيوب وأنكروه عليه، وخَطَّؤُوه فيه، لأن سائر أصحاب أيوب يرونه عن أيوب قال: "أذن بلال مرة بليل" الحديث.
إلى أن قال: واحتجوا أيضاً بما رواه شريك عن محلل عن إبراهيم – النخعي – قال: شيعنا علقمة إلى مكة، فخرج بليل، فسمع مؤذناً يؤذن بليل، فقال: أمَّا هذا، فقد خالف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لو كان نائماً لكان خيراً له، فإذا طلع الفجر أذن، ومحلل ليس بالقوي).
واحتج هؤلاء كذلك بما حكاه ابن حزم عن الحسن البصري أنه قيل له: الرجل يؤذن قبل الفجر يوقط الناس؛ فغضب، وقال: علوج أفراغ، لو أدركهم عمر بن الخطاب لأوجع جنوبهم، من أذن قبل الفجر فإنما صلى أهل ذلك المسجد بإقامة لا أذان فيها؛ وعن إبراهيم النخعي أنه قال: كانوا إذا أذن المؤذن بليل قالوا له: اتق الله وأعد أذانك.
وحكى ابن المنذر وغيره في المسألة مذهباً ثالثاً عن طائفة من أهل الحديث إنه إن كان للمسجد مؤذنان يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر والآخر بعد الفجر فلا بأس أن يؤذن للصبح إذا كان هكذا، وبه قال ابن حزم الظاهري، فقال: يجوز أن يؤذن قبل طلوع الفجر الثاني بمقدار ما يتم المؤذن أذانه، وينزل من المنارة أوالعلو ويصعد مؤذن آخر ويطلع الفجر قبل ابتداء الثاني).
قلت: لا شك في جواز الأذان للصبح قبل طلوعه وإنما الممنوع هو التبكير المخل بذلك، حيث أجاز بعضهم أن يؤذن للصبح بعد خروج الوقت الضروري للعشاء، ومنهم من قال يؤذن من بداية نصف الليل الثاني، وفي ذلك مخالفة واضحة للسنة، وللغرض من الأذان الأول، وهو أن يوقظ النائم لصلاة الصبح؛ وكذلك الممنوع الإضافات والتنبيهات التي ابتدعها كثير من المؤذنين، ولعل الذين كرهوا التأذين للصبح قبل طلوعه كرهوه لهذين السببين، وحق لهم أن يكرهوا ذلك، والله أعلم.
التثويب في أذان الفجر وهو قول "الصلاة خير من النوم" متى تقال: في الأذان الأول أم الثاني؟
ذهب أهل العلم في ذلك مذاهب، هي:
الأول: التثويب يكون في أذان الصبح الأول، استدل هؤلاء بالآتي:
1. بما رواه النسائي: "الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم في الأذان الأول من الصبح".
2. وبما رواه أحمد: "فإذا أذنت أذان الصبح الأول فقل: الصلاة خير من النوم".
الثاني: التثويب يكون في أذان الصبح الثاني، وهذا الذي عليه العمل الآن في عامة بلاد الإسلام، واستدل هؤلاء بالآتي:
1. أن المراد بالأذان الأول هو الأذان الثاني الذي يكون بعد دخول الوقت، والأذان الثاني الإقامة، فالإقامة تسمى أذاناً لقوله صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة".
2. الأحاديث الواردة في أن التثويب في أذان الصبح الأول منها ما هو معلول، ومنها ما صححه بعضهم وضعفه آخرون.
الثالث: يجوز أن يكون في الأذان الأول أوالثاني، استدل هؤلاء بما رواه ابن سيرين عن أنس قال: "من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حي على الصلاة حي على الفلاح، قال: الصلاة خير من النوم".
أقوال العلماء في ذلك
قال ابن شاس المالكي رحمه الله: (ويزيد في الصبح بعد قوله "حي على الفلاح": "الصلاة خير من النوم" وهو التثويب، وهو مثنى على المشهور، وقال ابن وهب: يقول مرة واحدة الصلاة خير من النوم؛ ومشروعيته – أي التثويب – في أذان الصبح على العموم، وحكى الشيخ أبو إسحاق عن مالك أنه قال: من كان في ضيعته متنحياً عن الناس أرجو أن يكون من تركها في سعة).(9/240)
وقال الصنعاني في "سبل السلام" معلقاً على رواية النسائي السابقة: (وفي هذا تقييد لما أطلقته الروايات، قال ابن رسلان: وصحح هذه الرواية ابن خزيمة، قال: فشرعية التثويب إنما هي في الأذان الأول للفجر، لأنه لإيقاظ النائم، وأما الأذان الثاني فإنه إعلام بدخول الوقت، ودعاء إلى الصلاة).
سُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن موضع "الصلاة خير من النوم" في أذان الصبح، أفي الأذان الأول أم الثاني؟ وسبب السؤال أن بعض الإخوان بالخرطوم اطلعوا على ما ذكره صاحب سبل السلام أن "الصلاة خير من النوم" تقال في الأذان الأول خلاف ما عليه المسلمون الآن خاصة في المملكة، فأجابت: (الأحاديث الواردة في هذا الباب منها ما ذكر علماء الجرح والتعديل أنه معلول، ومنها ما صححه بعضهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ورد ما يدل على أن التثويب في الأذان الأول، وورد ما يدل على أنه في الأذان الثاني، فروى السراج والطبراني والبيهقي حديث ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر قال: كان الأذان الأول بعد "حي على الصلاة حي على الفلاح" "الصلاة خير من النوم" مرتين. قال ابن حجر: وسنده حسن؛ وقال اليعمري: وهذا إسناد صحيح.
وروى ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي عن أنس أنه قال: من السنة إذا قال المؤذن في الفجر "حي على الفلاح"، قال: "الصلاة خير من النوم".
قال اليعمري: وهذا إسناد صحيح، وقال الإمام بَقِي بن مُخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا أبوبكر بن عياش حدثني عبد العزيز بن رفيع سمعت أبا محذورة قال: "كنت غلاماً صبياً فأذنت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يوم حنين، فلما انتهيت إلى حي على الفلاح، قال: ألحق فيها الصلاة خير من النوم"، ورواه النسائي من وجه آخر عن أبي جعفر عن أبي سليمان عن أبي محذورة وصححه ابن حزم.
ويمكن أن يقال بأن ما دل على أن التثويب يقال في الأذان الأول، وما دل على أنه يقال في الأذان الثاني، وقع أولاً في الأذان الأول ثم استقر الأمر على أن يقال في الأذان الثاني، إعمالاً لجميع الأدلة في ذلك كل في وقته، ويحتمل أن المراد بالأذان الأول الذي ذكر فيه ذلك، الدلالة على أن هذه الجملة تقال في الأذان لا في الإقامة، لأن الإقامة تسمى أذاناً ثانياً، وأنها يطلق عليها مع الأذان الأذان الثاني).
وسئل الشيخ العثيمين رحمه الله عن كلمة "الصلاة خير من النوم" هل هي في الأذان الأول أوفي الأذان الثاني؟ فأجاب: (كلمة "الصلاة خير من النوم" في الأذان الأول كما جاء في الحديث: "فإذا أذنت أذان الصبح الأول فقل: الصلاة خير من النوم"، فهي في الأذان الأول لا الثاني.
ولكن يجب أن يُعلم ما هو الأذان الأول في هذا الحديث؟ هو الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت، والأذان الثاني هو الإقامة، لأن الإقامة تسمى "أذاناً".
إلى أن قال: أما الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس أذاناً للفجر، فالناس يسمون أذان آخر الليل الأذان الأول لصلاة الفجر، والحقيقة أنه ليس لصلاة الفجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم"، أي لأجل النائم يقوم ويتسحر، والقائم يرجع ويتسحر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث: "إذا حَضَرَت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم"، ومعلوم أن الصلاة لا تحضر إلا بعد طلوع الفجر، إذن الأذان الذي قبل طلوع الفجر ليس أذاناً للفجر.
وعليه فعمل الناس اليوم وقولهم "الصلاة خير من النوم" في الأذان الذي للفجر هذا هو الصواب.
وأما من توهم بأن المراد بالأذان الأول في الحديث هو الأذان الذي قبل طلوع الفجر فليس له حظ في النظر.
قال بعض الناس: الدليل أن المراد به الأذان الذي يكون في آخر الليل لأجل صلاة النافلة أنه يقول: "الصلاة خير من النوم"، وكلمة "خير" تدل على الأفضل).
الخلاصة
الذي يترجح لدي من الأدلة وأقوال الأئمة السابقة وغيرها أن "الصلاة خير من النوم" تقال في أذان الصبح الثاني وليس الأول، وذلك للآتي:
أولاً: الأحاديث التي ورد فيها التصريح بأن "الصلاة خير من النوم" تقال في الأذان الأول فيها شيء من الاضطراب كما وضح ذلك الحافظ ابن حجر وغيره، وما سلم منها أوِّل بأن المراد بالأذان الأول الأذان الثاني، نسبة للإقامة التي يطلق عليه أذاناً، ومن أهل العلم من رجح نسخ ذلك، فبعد أن كانت تقال في الأذان الأول استقرت في الأذان الثاني، ويدل على ذلك استمرار الناس عليه في معظم ديار الإسلام إلا من شذ.
الثاني: النظر الصحيح يدل على ذلك، فليس هناك شيء يمنع عن النوم المباح إلا شيء واجب، وهو دخول وقت الصبح.
الثالث: ما تعارف عليه الناس وألفوه في جل بقاع العالم الإسلامي يدل على رجحان ذلك.(9/241)
الرابع: قول ذلك في الأذان الأول بعد استقراره في الأذان الثاني يؤدي إلى مفسدة أكبر وضرر أعظم خاصة في شهر رمضان، حيث يمتنع البعض عن الأكل والشرب بمجرد سماعه للصلاة خير من النوم، ولو كان بين ذلك وبين طلوع الفجر أكثر من ساعة، وفي ذلك حرج كبير وإثم عظيم.
الخامس: تجويز بعض أهل المذاهب – المالكية – أن يكون التثويب في أي منهما يدل على أن الأمر فيه سعة كما قال ابن شاس.
السادس: ترجيح كبار العلماء المعاصرين – أعضاء اللجنة الدائمة للفتوى في المملكة العربية السعودية وسماحة الشيخ العثيمين رحمه الله وغيرهم لقول ذلك في الأذان الثاني من الأسباب الرئيسة لصحة هذا القول.
سابعاً: ترك بعض السلف لسنة صحيحة لمخالفتها لعادة أهل بلد زاره يرجح الاستقرار والاستمرار على ما اعتاده الناس خاصة فيما يستند على دليل من الخبر والنظر.
ثامناً: إذا كانت المدة بين الأذان الأول والثاني قدر أن يطلع هذا وينزل هذا كما هي السنة فيكون الخلاف خلافاً لا قيمة له.
اللهم اشرح صدورنا لما اختلف فيه من الحق، وصلِّ وسلم على محمد الذي لم يُخيَّر بين أمرين ألا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً أوقطيعة رحم، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
0000000000000000000
ما ينبغي أن يستقبل به المسلمون شهر رمضان
أيها الأغنياء استقبلوا رمضان بإخراج زكاتكم طيبة بها نفوسكم
رمضان زائر كريم وضيف عزيز، وشهر فضِّل على سائر الشهور، وخص بأعظم الأمور، نزول القرآن العظيم، وصيام أيامه وقيام لياليه، وأفرد بليلة فضلت على الف شهر، لهذا لابد أن يكرم المسلمون استقباله ويعلوا شأنه، من تلكم الأشياء التي ينبغي للمسلمين أن يستقبلوه بها ما يأتي:
أولاً: أن يتراءوا هلاله وهلال شعبان ورجب، ويعتنوا بذلك، لأن صيامه لا يثبت إلا برؤية هلاله أوإتمام شعبان ثلاثين يوماً.
ثانياً: أن يسروا بقدومه ويفرحوا بمجيئه لأنه موسم من مواسم الخيرات، وسوق من أسواق الآخرة الرابحات، فيه تتنزل الرحمات، وتغفر الزلات، وتضاعف الحسنات، وتفتح فيه أبواب الجنات، وتوصد فيه مردة الشياطين.
ثالثاً: التوبة النصوح من جميع الذنوب والآثام والندم على ما فات، والعزم على ذلك حتى الممات.
رابعاً: رد الديون والأمانات والحقوق إلى أهلها لمن كانت عليهم، فمطل الغني ظلم، والمماطل في سداد الدين لا تقبل له صلاة ولا يرفع له عمل.
خامساً: رد المظالم إلى أهليها، واستعفاء أصحابها لمن لم يتمكن من الرد والدعاء والاستغفار لمن عجز عن ذلك.
سادساً: مراجعة القرآن الكريم لمن كان حافظاً له و تفلت منه أولبعض سوره.
سابعاً: التسامح والتصافح للمتشاحنين والمتخاصمين لأن أعمالهم لا ترفع مع أعمال العباد في كل خميس، ويا خيبة من لم يرفع له عمل في رمضان وحرم من رحمة الغفور المنان.
ثامناً: الحرص على التفرغ في هذا الشهر لمن يتيسر له ذلك، أوالتقليل من الالتزامات.
تاسعاً: إذا كان المرء من رجال الأعمال عليه أن يجرد بضاعته ويصفي حساباته، ويتحلل من ديونه ويعرف مقدار زكاته.
عاشراً: إخراج الزكاة الواجبة.
لاشك أن كل إنسان له شهر زكاة خاص به، لزكاة الأموال التي يشترط فيها حولان الحول، أوهكذا ينبغي أن يكون، لكن استحب كثير من أهل العلم للمسلم أن يجعل شهر زكاته رمضان، ومنهم من استحب المحرَّم لأنه أول السنة الهجرية، لأن الزكاة والصدقات يضاعف أجرها بفضل الزمان والمكان، وبحاجة الناس إليها؛ لهذا يجوز للمسلم أن يقدم شهر زكاته إذا وجبت عليه الزكاة حتى يتسنى له إخراجها في رمضان، ليحظى بتضعيف الأجر والثواب؛ فإخراج الزكاة في رمضان يمتاز على إخراجها في غير رمضان بالآتي:
1. مضاعفة الأجر والثواب لفضل الزمان، فالعبادة تفضل في الأزمنة الفاضلة على غيرها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
2. ليتمكن الفقراء والمساكين ويتفرغوا لصيامهم وقيامهم واعتكافهم، وفي ذلك فضل عظيم وثواب جزيل لمخرجي الزكاة.
3. قوله صلى الله عليه وسلم: "من فطَّر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء".
4. رمضان هو شهر الجود والمواساة، سئل بعض السلف: لِمَ شرع الصيام؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع؛ ولهذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أجود ما يكون في رمضان، فإنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة، فعلى الأغنياء أن يواسوا إخوانهم الفقراء بجزء من أموالهم ولا يقدر كثير منهم على ذلك إلا من الزكاة الواجبة.
5. الزكاة حق للفقراء في أموال الأغنياء: "وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم"، فالفقراء مشاركون للأغنياء في جزء من أموالهم، وأحوج ما يكون الفقراء لهذا الحق في رمضان، لأن الصيام يجهدهم، وقد يقعد بأكثرهم عن السعي للعمل والكسب.
6. من واجب الفقراء الدعاء للأغنياء حين يعطونهم هذا الحق: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكن لهم".
وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم صلِّ على آل ابن أبي أوفى" أوكما قال.(9/242)
7. رمضان يليه العيد الذي يحتاج فيه الفقراء إلى لبس الجديد وإدخال الفرحة والسرور على أزواجهم وأبنائهم بشراء ما يحتاجون إليه في تلك المناسبة.
8. غالباً ما تطيب نفس المسلم بعمل الخير وتسخى وتجود بالنفقة عندما تزكو بالصيام والقيام، وطيب النفس بإخراج الزكاة مطلب شرعي مهم، ومقصد حسن لمخرجي الزكاة.
9. الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات دخول الجنة، فعن علي رضي الله عنه قال: "إن في الجنة غرفاً يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها؛ قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: "لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام".
10. الصيام لابد أن يقع فيه خلل فيحتاج إلى ما يكفره.
قال ابن رجب الحنبلي: (فالصدقة تجب ما فيه من النقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث).
11. الترغيب في الانبساط في النفقة في رمضان، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا دخل رمضان فانبسطوا بالنفقة فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله".
والله الموفق للخيرات.
00000000000000000000000
غياب المرجعية الشرعية لدى المسلمين في هذا العصر سبب لكل بلية
كثير من الأدواء والأمراض التي تعاني منها الأمة الإسلامية في هذا العصر، وعلى رأسها التفرق، والتشرذم، والاختلاف، والتباغض، والتناحر، والتدابر، مردها إلى غياب المرجعية الشرعية التي يصدر عنها الناس عند حدوث الفتن ونزول الكوارث على الأمة، ويرضون بحكمها، ويأتمرون بأمرها، وينتهون بنهيها.
هذه المرجعية متمثلة في رسول هذه الأمة صلوات ربي وسلامه عليه أصدق تمثيل في حياته وبعد مماته بعدم تقديم قول أحد كائناً من كان وحكمه على قوله وحكمه: "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم"، "ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللهُ ورسولُه أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم"، "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً"، وقال صلى الله عليه وسلم: "تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنتي"، ولهذا قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".
ثم كانت هذه المرجعية بعد وفاته متمثلة في الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين من بعده بصفة خاصة، وفي أصحابه الكرام بصفة عامة، لا سيما في إجماعهم، فكان المسلمون يصدرون عن رأيهم وإجماعهم ولا ينفردون عنهم بشيء عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"، وقوله: "اقتدوا باللذين من بعدي"، يعني أبابكر وعمر رضي الله عنهما، وجاء في الأثر: "لن تجتمع أمتي على ضلالة".
عندما حدث خلل في هذه المرجعية لدى البعض في آخر عهد الخلفاء الراشدين جرى على الأمة من الويلات الشيء العظيم، وفتح باب الفتنة الذي لم يغلق ولن يغلق إلا في آخر الزمان عند نزول عيسى عليه السلام.
ثم تمثلت هذه المرجعية الشرعية في ولاة الأمر من العلماء والحكام المؤتمرين بأمر العلماء، فما فتئ المسلمون في كل عصر ومصر يلتفون حول ولاة أمرهم ويجتمعون عليهم ويصدرون عن رأيهم، ولا يبغون عنهم حولاً، حتى في عصر الضعف والانحطاط وخروج البعض على الخلافة واستبدادهم بدويلات صغيرة اقتطعوها من الدولة الإسلامية.
على الرغم من أن هذه المرجعية من الناحية النظرية موجودة ومحفوظة بحفظ الله لها إلى أبد الآبدين: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ولكنها من الناحية العملية تحتاج إلى من يحرسها ويحافظ عليها ويحمل الناس عليها حملاً إذا دعا الأمر إلى ذلك وتمرد الناس عليها.
وجود هذه المرجعية مسؤولية كل مسلم مع تفاوت بينهم، لأنها من فروض الكفاية التي إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وإذا أهملها الجميع أثموا إثماً مبيناً لأن بها قيام الدين، وتثبيت سلطانه، وجمع كلمة أتباعه، وبفقدها يزول سلطان الدين وتضيع أحكامه، وتبدل معالمه، ولله در الإمام الماوردي عندما قال: "ليس دين زال سلطانه إلا بدلت أحكامه، وطمست معالمه، وكان لكل زعيم فيه بدعة، ولكل عصر فيه وهية أثر".
فإذا تخلى الحكام أوبعضهم عن هذه المسؤولية فتبعتها تقع على ولاة الأمر من العلماء فما لا يدرك كله لا يترك جله.
هذه المرجعية الدينية العامة أوالخاصة لا تتأتى إلا بشوكة أوسلطان، فالشوكة تكون لولاة الأمر من حكام المسلمين.
والسلطان يكون لولاة الأمر من العلماء الربانيين العاملين بعلمهم المتقين لربهم.
هذا السلطان يكتسبه العلماء وينالونه بعد توفيق الله وعونه بالآتي:
1. سلامة الاعتقاد والتصور والمنهج.
2. التقدم والبروز في العلم الشرعي.
3. القدوة الحسنة.
4. الصدق والإخلاص والتجرد.
5. التصدر لقيادة المجتمع وريادته.(9/243)
6. الثبات على المبادئ.
7. عدم المداهنة للحكام والمجتمع، فمداهنة المجتمع لا تقل خطراً ولا ضرراً عن مداهنة ومجاراة المجتمع فيما يهوى.
8. الزهد في الدنيا وعدم التعلق بزخارفها.
9. البعد عن مواطن الشبه وما يسقط المروءة، ويفقد المصداقية.
10. الأخذ بالعزائم وتجنب الرخص.
11. التصدي لمشاكل العامة والعمل على حلها عن طريق الشفاعات الحسنة ونحوها.
12. السعي لتعليم الناس وإرشادهم لما فيه صلاح دينهم ودنياهم.
13. مواساة الأتباع والعامة في الأفراح والأتراح والنوازل.
14. البعد عن سفاسف الأمور والترفع عن الخلافات.
15. التحلي بحسن الخلق سيما الحياء وكظم الغيظ والعفو عن الناس والجود والسخاء.
إذا توفرت هذه الشروط أوجلها، بجانب المواهب اللدنية والصفات الشخصية التي تعين على ذلك في العالم، دفعت العامة دفعاً للالتفاف حوله والانقياد له، والانصياع لتوجيهاته ونصائحه، فأصبحوا لا يصدرون إلا عن فتواه، ولا ينصاعون إلا لأمره، ولا ينقادون إلا إليه، وأجبر ذلك ولاة الأمر على تقديره واحترامه وتقريبه والرجوع إلى أمره.
ويمثل هذا الصنف من علماء السلف والخلف أصدق تمثيل سفيان الثوري والإمام أحمد، وغيرهما كثير من الأقدمين، والعز بن عبد السلام وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما كثير في عصور التخلف والانحطاط، والشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد العزيز بن باز من المتأخرين، رحم الله الجميع، فقد رفع هؤلاء وغيرهم كثير عن الأمة الحرج والإثم، لقيامهم بالواجب الكفائي، وكانوا مراجع شرعية يصدر الناس عن فتاواهم، مما أدى إلى تضييق دائرة الخلاف بين المسلمين، وعصمهم من التفرق والتباغض والتناحر.
فعلى الأمة متمثلة في أهل الحل والعقد من العلماء والدعاة أن يسعوا بجد وإخلاص وأن يخططوا ويعملوا لتوفير هذه المرجعية لكل بلد إن لم تتيسر المرجعية العامة التي ترضي كل الأمة، سيما وقد وعد الله أن يهيئ لهذه الأمة في عصورها المختلفة ويخرج لها من يجدد لها دينها كما أخبر الصادق المصدوق: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد لها دينها"، أوكما قال.
وهذا ليس على الله بعزيز، فإذا علم الله من عباده صدقاً وعملاً جاداً أعانهم على ذلك، وهيأ لهم من أمرهم رشداً، ولم يكلهم إلى أنفسهم، ولا إلى تدبيرهم طرفة عين، ولا أقل من ذلك.
ما كان للإمام أحمد رحمه الله بعد توفيق الله له أن يقف تلك المواقف التي شبهت بمواقف الأنبياء التي وقفها في فتنة خلق القرآن وغيرها، ولا أن يلقب بإمام أهل السنة والجماعة لولا تجرده وإخلاصه وزهده وعلمه وفقهه في الدين، مما جعل كبار الأئمة كالإمام أبي الحسن الأشعري وغيره كثير عندما تنصلوا عن عقائدهم السابقة المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة كتبوا كتباً بينوا وصرحوا فيها بموافقتهم لما كان عليه أبوعبد الله أحمد بن حنبل في الاعتقاد، وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني: لا يكون ولياً لله إلا على اعتقاد أحمد؛ هذا بعد أن دان له ولاة الأمر وفي مقدمتهم المتوكل.
وكذلك ما كان للمسلمين في بلاد الشام أن يلتفوا حول سلطان العلماء العز بن عبد السلام ولا الإمام النووي ولا شيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم لولا صدقهم وتجردهم وقيامهم بواجبهم الديني ونصحهم لله ورسوله ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم.
فالحمد لله إذ لم يفقد المسلمون المرجعية الشرعية التي يلجأون إليها عند الشدائد والمحن، سواء كانت خاصة أم عامة، في جميع الأعصار والأمصار، على الرغم من الضعف الذي يعتريها من حين لآخر، حيث بلغ مداه في هذا العصر.
والأدلة على ذلك كثيرة سنشير إلى طرف منها، ونذكِّر بها، عسى أن يكون في ذلك دافع وحافز للخلف، حتى لا يدب اليأس والقنوط في نفوس الشباب، وليعلم الخلف مكانة العلماء عند السلف، والتفافهم حولهم، وريادة وقيادة العلماء للرعية مع وجود المرجعية الخاصة.
• حكى الذهبي في ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما عن يزيد بن الأصم قال: خرج معاوية حاجاً معه ابن عباس، فكان لمعاوية موكب، ولابن عباس موكب من طلبة العلم.
• وروى الليث بن سعد عن عبد ربه بن سعيد قال: دخل أبوالزناد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه من الأتباع – يعني طلبة العلم – مثلُ ما مع السلطان، فمن سائل عن فريضة، ومن سائل عن الحساب، ومن سائل عن الشعر، ومن سائل عن الحديث، ومن سائل عن معضلة.
• أطلت زبيدة زوجة هارون الرشيد من نافذة فرأت موكباً عظيماً فقالت: هذا موكب من؟ فقالوا: سفيان الثوري وطلابه؛ فقالت: هذا والله هو الملك، لا ملك الرشيد بالشرط ونحوهم.
• وكان مالك رحمه الله في عصره الآمر الناهي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي المدينة، ولهذا مدحه مصعب بن عبد الله فقال:
يَدَعُ الجوابَ فلا يراجعُ هيبة و السائلون نواكس الأذقان
عز الوقار ونور سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان(9/244)
• اعتراض سلطان العلماء العز بن عبد السلام على تولية "شجرة الدر" الحكم زوجة نجم الدين أيوب، حيث تولت السلطة بعد ولده توران شاه الذي تولى بعد أبيه ثم قتلته "شجرة الدر"، لأن من شروط الولاية في الإسلام الصغرى أوالكبرى الذكورية، فاستجاب المماليك للخليفة العباسي الذي قال لهم: إن كان ما بقي عندكم رجل تولونه فقولوا لنا نرسل إليكم رجلاً؛ ولسلطان العلماء، فأمروا أن تخلع نفسها فخلعت نفسها بعد ثمانين يوماً،حيث تنازلت لزجها "التابك أبيك التركماني".
• مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية العديدة في قيادة المجتمع وتوجيهه وترتيب الجيوش عندما غزا التتار بلاد الشام وقبل ذلك وبعده.
يقول الدكتور عبد الرحمن المحمود في كتابه "موقف ابن تيمية من الأشاعرة": (وصل الأمر بكثير من الناس أنه لما هاجم التتار بلاد الشام خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء مطمئناً الناس:
يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر
لوذوا بقبر أبي عمر ينجيكم من التتر
فقال لهم ابن تيمية: والله لو كان أبو عمر بين ظهرانيكم لما استطاع أن يفعل شيئاً وأنتم بهذه الحال من فساد العقيدة وعدم الأخذ بالأسباب؛ فصار يأمرهم بإخلاص الدين لله عز وجل وأن لا يستغيثوا بغيره.
فلما أصلح الناس أمورهم وأصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم الله على عدوهم نصراً مؤزراً.
وفي سنة 709هـ لما عاد السلطان محمد بن قلاوون في سلطنته الثالثة وأمر بإطلاق ابن تيمية من السجن وقدمه، فلما جلس ومعه العلماء والقضاة عرض الوزير على السلطان أن أهل الذمة قد عرضوا أن يدفعوا للديوان سبعمائة ألف كل سنة زيادة على الحالية، على أن يعودوا إلى لبس العمائم البيض – كالمسلمين – فاستشار السلطان العلماء فقال لهم: ما تقولون؟ يستفتيهم في ذلك فلم يتكلم أحد، فجثى الشيخ تقي الدين على ركبتيه، وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ورد على الوزير ما قاله رداً عنيفاً، جعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويسكنه بترفق وتؤدة وتوفير، وبالغ الشيخ في الكلام، وقال ما لا يستطيع أحد أن يقول مثله، وبالغ في التشنيع على من يوافق على ذلك، وقال للسلطان: حاشاك أن يكون أول مجلس جلسته في أبهة الحكم تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية.
• قال الدكتور عبد الرحمن المحمود: لم يكن العلماء قابعين في بيوتهم للتأليف والجمع فقط، وإنما كانوا يقومون بدور كبير في التدريس والقضاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم مثل لذلك بما كتبه الإمام النووي المتوفى 676هـ إلى السلطان الظاهر بيبرس في رده على تهديد السلطان له: أما أنا نفسي فلا يضرني التهديد، ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان فإني أعتقد أن هذا واجب عليَّ وعلى غيري وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى.
• جاء في ترجمة المعتمد بن عباد كما قال ابن خلكان في "وفيات الأعيان": (كان المعتمد بن عباد أكبر ملوك الطوائف وأكثرهم بلاداً، وكان يؤدي الضريبة "للأذفونش"، فلما ملك "طليطلة" لم يقبل ضريبة المعتمد طمعاً في أخذ بلاده، وأرسل إليه يتهدده ويقول له: تنزل عن الحصون التي بيدك ويكون لك السهل؛ فضرب المعتمد الرسول وقتل من كان معه، فبلغ الخبر "للأذفونش" وهو متوجه لحصار قرطبة، فرجع إلى طليلطة لأخذ آلات الحصار.
فلما سمع مشايخ الإسلام وفقهاؤها بذلك اجتمعوا وقالوا: هذه مدن الإسلام قد تغلب عليها الفرنج، وملوكنا مشتغلون بمقاتلة بعضهم بعضاً، وإن استمرت الحال ملك الفرنج جميع البلاد؛ وجاءوا إلى القاضي عبيد الله بن محمد بن أدهم، وفاوضوه فيما نزل بالمسلمين، وتشاوروا فيما يفعلونه، فقال كل واحد منهم شيئاً، وآخر ما اجتمع رأيهم عليه أن يكتبوا إلى ابن يعقوب يوسف بن تاشفين ملك الملثمين صاحب مراكش يستنجدونه، فاجتمع القاضي بالمعتمد وأخبره بما جرى، فوافقهم على أنه مصلحة، وقال له: تمضي إليه بنفسك، فامتنع فألزمه بذلك.. إلخ.
فاستجاب ملك الملثمين وعبروا البحر في عشرة آلاف مقاتل، وجمع المعتمد عساكره وتسامع المسلمون بذلك فخرجوا من كل البلاد طلباً للجهاد، وبلغ الأذفونش الخبر فخرج في أربعين ألف فارس، والتقى الجيشان، وكان النصر حليف المسلمين، وهرب الأذفونش بعد استئصال عسكره، وكان ذلك يوم الجمعة في العشر الأول من رمضان 479ه.
هذا غيض من فيض وقليل من كثير يدل على أهمية أن يصدر المسلمون عن مرجعية شرعية واحدة، على الأقل في المصر الواحد، وأن توحيد المرجعية هو العامل الأساس بعد الله في توحيد المسلمين وتجميعهم، وتضييق دائرة الخلاف فيما بينهم، حيث لا يمكن صلاح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولا رشاد لخلفها إلا بما رشد به سلفها، فالله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أن لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن نصر المسلمين مرتبط بنصرهم لله ولدينه: "فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً".(9/245)
اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والزيغ والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغاً للحاضر والباد، وهيئ للأمة الإسلامية في كل عصر ومصر أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء، وصلى الله وسلم وبارك على من نُصر بالرعب مسيرة شهر، وجُعل الذل والهوان على من خالف أمره، وعلى آله وصحبه وكل من سار على دربه.
00000000000000000
خير الناس من طال عُمُرُه وحَسُنَ عَمَلُه
السعيد كل السعادة من طال عمره وحسن عمله وختم له بخير فزحزح عن النار وأدخل الجنة.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
ويليه من تداركه الله برحمته فكان خير أعماله خواتمها وخير عمره آخره، فالعبرة بالخواتيم، ولهذا نهينا عن تمني الموت لضر يصيب الإنسان في نفسه، أوماله، أوولده، أوأهله، اللهم إلا إذا خشي الفتنة في الدين: "لا يتمنينَّ أحدُكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الحياة شراً لي".
خرج الشيخان ومالك في موطئه واللفظ له وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "كان رجلان أخوان، فهلك أحدهما قبل أن يهلك صاحبه بأربعين ليلة، فذكرت فضيلة الأول عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم يكن الآخرُ مسلماً؟ قالوا: بلى يا رسول الله، وكان لا بأس به؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريكم ما بلغت به صلاته، إنما مثل الصلاة كمثل نهر غمر عذب بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات، فما ترون ذلك يبقي من درنه؟ فإنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته".
وفي رواية في غير الصحيح عن سعد: "كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخوان، وكان أحدهما أفضل من الآخر، فتوفي الذي هو أفضلهما، ثم عَمَّرَ الآخر بعده أربعين ليلة، ثم توفي، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضيلة الأول على الآخر، فقال: أولم يكن يصلي؟ فقالوا: بلى؛ وكان لا بأس به يا رسول الله" الحديث.
وفي رواية عن طلحة بن عبيد الله: "أليس هذا مكث بعده سنة؟ قالوا: بلى؛ قال: وأدرك رمضان وصامه؟ قالوا: بلى: قال: "وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟ قالوا: بلى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينهما أبعد ما بين السماء والأرض".
على المسلم أن يشكر الله عز وجل أن مد في عمره، وأتاح له من الفرص ما لم يتحها لغيره، وحضَّره مواسم خير كثيرة حُرم منها غيره: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا ثلاثة: صدقة جارية وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له".
فمن بلغه الله رمضان الآتي هذا فعليه أن يحمد الله على ذلك كثيراً، وأن يشكره شكراً جزيلاً، وأن ينتهز هذه الفرصة لعله آخر رمضان في حياته شيخاً كان أم شاباً، صغيراً كان أم كبيراً، صحيحاً كان أم سقيماً، فالموت لا يفرق بين صغير وكبير، ولا صحيح ومريض.
ولله در الإمام الألبيري عندما قال مخاطباً ابنه:
ولا تقل الصبا فيه امتهال وفكر كم صغير قد دفنتَ ؟
وتذكر أخي الكريم أن أعمار هذه الأمة بين الستين والسبعين، وقليل من يتجاوز ذلك.
اللهم استعملنا في طاعتك، وكره إلينا معصيتك.
اللهم يسرنا لليسرى وانفعنا بالذكرى.
اللهم اختم لنا بخير واجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير.
والحمد لله الكريم المنان ذي الفضل والإحسان، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه، خيرته من ولد عدنان.
0000000000000000000
أيها المفرط في قضاء الصوم والكفارة انتبه فإن رمضان على الأبواب
من أفطر يوماً من رمضان عمداً من غير عذر لن يقضيه وإن صام الدهر كله كما قال ابن مسعود وغيره، فعليه بالتوبة النصوح والإكثار من صيام التطوع.
وأجمع أهل العلم أن من جامع عامداً ذاكراً لصومه غير مكره عليه قضاء هذا اليوم وعليه الكفارة الكبرى وهي عتق رقبة، فمن لم يجدها فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً.
واختلفوا فيمن تعمد الفطر بأكل أوشرب، فذهب مالك ومن وافقه أن عليه القضاء والكفارة، وذهب الجهور أن عليه القضاء فقط.
أما من جامع أهله ناسياً لصيامه فقولان لأهل العلم، منهم من قال عليه القضاء والكفارة، ومنهم من قال عليه القضاء فقط.
أما من أكل أوشرب وهو ناسٍ لصيامه في نهار رمضان فلا شيء عليه إنما أطعمه الله وسقاه، فرضاً كان صيامه أم نفلاً في أرجح قولي العلماء، وذهب مالك وشيخه ربيعة أن عليه القضاء في صيام الفرض دون النفل، والصحيح القول الأول، والله أعلم.
ومن أفطر يوماً أوأياماً من رمضان وكان من أصحاب الأعذار كالمريض والمسافر، والحائض والنفساء، والكبير والزَّمِن، والمرضع والحامل، فعليه أن يعجل قضاء ذلك بعد انقضاء رمضان وذهاب عذره مباشرة، ولا يحل له تأخير ذلك من غير عذر، لأنه لا يدري متى تأتيه منيته أويدركه عائق آخر من مرض ونحوه.
ولا يحل لأحد أن يؤخر قضاء رمضان إلى دخول رمضان الآخر إلا لعذر نحو استمرار المرض.(9/246)
ومن أخر لعذر فعليه القضاء متى قدر عليه، ومن أخر لغير عذر فعليه القضاء والكفارة، وهي إطعام مسكين عن كل يوم، وتتكرر الكفارة بتداخل السنين.
ولا ينبغي لأحد رجل كان أوامرأة أن يبرر تأخير القضاء إلى شعبان لقضاء عائشة رضي الله عنها ما عليها من رمضان في شعبان، فهذا مما خصت به لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، كما قالت: "لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني"، أي لمكان خدمته صلى الله عليه وسلم وحاجته وكثرة أسفارها معه.
فمن كان عليه قضاء أوكفارة فلينتهز هذا الشهر شعبان فيقضي ما عليه، فدين الله أحق بالقضاء وأولى.
وقضاء الصوم لا يشترط فيه التتابع والسرد، وكذلك الكفارة يجوز أن يطعم عدد ما عليه من المساكين في يوم واحد، ويجوز له أن يخص بذلك مسكيناً واحداً.
وإن مات المفرط في القضاء والكفارة يجب على أوليائه أن يخرجوا الكفارة من تركته.
أما قضاء الصوم عنه فاختلف فيه أهل العلم فمنهم من أجاز لأوليائه أن يصوموا عنه وأن يتعاونوا على ذلك، ومنهم من منع ولم يجز قضاء غير النذر من الصوم، لأن الصوم عبادة بدنية لا تجوز الإنابة فيها.
ومما ينبغي أن ينبه عليه أن الكفارة لا يجوز أن تخرج نقداً وإنما تكون طعاماً، أن يعطى كل مسكين مداً من ذرة أوقمح أوأرز حسب طعام غالبية أهل البلد، أويصنع وليمة ويدعو لها الفقراء، غداء كان أم عشاء، أويذهب بهم إلى مطعم يغديهم فيه.
فالبدار البدار أخي المسلم بقضاء ما عليك من الصيام والكفارة، وعلى أولياء الأمور في البيوت أن يذكروا نساءهم وحريمهم بذلك، وأن يحثوهم ويحضوهم على ذلك كما أمرهم ربهم بذلك ووصاهم بهم: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة"، وكما وصاهم نبيهم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، فالمسؤولية الشرعية أولى من المسؤولية الدنيوية.
والله الموفق لكل خير.
00000000000000000000000
الأهلة لا تثبت بالحساب وإنما بالرؤية
تحذير بعض أهل العلم ونهيهم عن العمل بالحساب في العبادات المتعلقة بالأهلة
الخلاصة
المراجع
الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى، بل أرسل إليهم الرسل وأنزل إليهم الكتب، وجعل العلماء الشرعيين ورثة الأنبياء والمرسلين حجة على العالمين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فما رآه هؤلاء حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح.
وصلوات ربي وسلامه على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، محمد بن عبد الله الذي أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على المسلمين، فلم يقبضه إليه إلا بعد أن دل أمته على كل خير يقربهم إلى الله ورضوانه، وحذرهم ونهاهم عن كل شر يباعد بينهم وبين غضبه وصلى نيرانه، فتركهم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولهذا قال: "كل عبادي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"، وعلى آله وصحابته والتابعين.
من المعلوم من الدين ضرورة أن الأصل في العبادات أنها توقيفية، وما سواها فالأصل فيه الإباحة.
ومعلوم كذلك بخبر الصادق المصدوق أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وعندما سئل صلى الله عليه وسلم عن هذه الفرقة الناجية المنصورة، وسمهم بأنهم الذين يكونون على ما أنا وأصحابي عليه اليوم، أوكما قال، وهم المعروفون بأهل السنة والجماعة، نقاوة أهل القبلة أجمعين.
وبعد..
من الثوابت المسلمات التي ما كان يجادل فيها أحد من أهل السنة قاطبة إلا عُدَّ قوله من الشواذ المنكرات ثبوت الأهلة بالرؤية، وعدم التفاتهم إلى الحساب، بل اعتبروا ترائي الأهلة المتعلقة بها كبرى العبادات، كالصوم، والحج، والزكاة، ونحوها من أجل القربات، ولهذا كان أنس بن مالك رضي الله عنه وقد ناهز المائة يخرج ليتعبد ربه بترائي الأهلة.
ليس هذا ناتجاً من جهلهم بعلم الفلك، بل كان العرب قبل وبعد الإسلام من أكثر الأمم حذقاً ومعرفة بذلك، ويشهد لذلك المراصد التي كانت في عواصم الإسلام كبغداد وغيرها، ولكن ذلك للأسباب الآتية:
1. الإسلام علق كل العبادات سوى الصلاة بالتقويم القمري بالأهلة، نحو الزكاة، والصوم، والحج، وعِدَد النساء، والكفارات، والإيلاء.
2. الشرائع السابقة علقت الأحكام بالأهلة إلا أن أصحابها غيروا وحرفوا وبدلوا ذلك.
3. الإسلام دين الفطرة، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث للثقلين الإنس والجن، الحاضر منهم والباد، ولهذا صح عنه أنه قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" فالإسلام دين عام وليس خاصاً.
4. العمل بالحساب من أسباب تفرق الأمة.
5. تبديع أهل العلم لمن عمل بالحساب.
6. العمل بالحساب شعار أهل الأهواء من الرافضة وغيرهم.
7. العمل بالحساب فيه تبديل وتحريف لدين الله عز وجل.
8. العمل بالحساب فيه تشبه بالكفار المفضي إلى غضب الجبار.(9/247)
9. النصوص العديدة التي تنهى وتحذر من العمل بالحساب وتوجب العمل بالرؤيا، نذكر طرفاً منها:
• ...
"فمن شهد منكم الشهر فليصمه".
• ...
"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج".
• ...
"إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض".
• ...
قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".
• ...
وفي رواية لمسلم: "فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً".
قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين"، يدل على أنه حتى في حال الغمام وتعسر الرؤية لا يُعمل ولا يُلتفت إلى الحساب، ولو كان ذلك جائزاً لأرشد إليه أمته صلى الله عليه وسلم.
10. إجماع الأمة على عدم الاعتداد بالحساب.
11. الخلاف الذي لا يقوم على دليل لا قيمة له، ولهذا قال بعض أهل العلم: من تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد وتجمع فيه الشر كله؛ ونهوا عن شذوذ الأقوال.
12. لم يقل بالعمل بالحساب حتى إذا غم الهلال إلا بعض أهل العلم، وعد ذلك من شذوذهم وسقطاتهم، كابن سريج من الشافعية، بل الحاسب والمنجم لا يحل لهما أن يصوما أويفطرا بالحساب، دعك أن يصوما أويفطرا غيرهما.
13. هذا ما كان عليه أهل القرون الثلاثة الفاضلة وأهل السنة المحدثين قاطبة إلا من شذ.
14. العمل بالحساب من باب التكليف بما لا يطاق الذي تنزهت عنه الشريعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "رسالة الهلال" المضمنة في فتاويه: (فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم، أوالحج، أوالعدة، أوالإيلاء، أوغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أولا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا، وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو، أوتعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم.
وقد يقارب هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال، وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولاً يعمل عليه، وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية، وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام، وقد برأ الله منها جعفراً وغيره).
?
تحذير بعض أهل العلم ونهيهم عن العمل بالحساب في العبادات المتعلقة بالأهلة
لقد نصح كثير من أهل العلم قديماً وحديثاً لإخوانهم المسلمين وحذروهم من العمل بالحساب في الحج، والزكاة، والعدة، والإيلاء، وغيرها، وكان المسلمون في الماضي مؤتمرين بأمر ولاة الأمر من العلماء والحكام المؤتمرين بأمر العلماء، عملاً بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، حتى غشانا هذا العصر الذي ابتلي فيه المسلمون بالتشبه بالكافرين، وأضحى فيه الجدل والمراء في المسلمات من سمات هذا العصر، وعم فيه وطم التأويل المشؤوم المذموم الذي أفرغ كثيراً من النصوص من مدلولاتها الشرعية، وفاق بعض المسلمين عمرو بن لحي الخزاعي في تحريفه لملة إبراهيم، الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر قصبه – أي أمعاءه – في نار جهنم، بسبب هذا التحريف والتبديل، حيث رفع البعض عقيرته وأطلق لسانه في شتم وسب وانتقاص من يعارض ما تواطأ عليه البعض ولو كان بيِّن المخالفة لما جاء به رسول رب العالمين، حدث هذا وغيره بسبب اختلال المفاهيم، واختلاف الموازين، ولغياب المرجعية الشرعية التي ينبغي أن يصدر عنها الجميع.
إليك طرفاً أخي القارئ من أقوال أهل العلم المقتدى بهم من الأئمة الأربعة وأتباعهم وغيرهم، حتى لا تظنن ظناً يوردك المهالك، وأنت لا تشعر أن هذا القول من تنطع المتنطعين وتشددهم، وقول من يريد أن يحمل الناس على ما يعتقد كما يزعم البعض.(9/248)
• قال النووي في المجموع: (قال المصنف – الشيرازي الشافعي في مختصره المهذب-: إذا غم الهلال وعرف رجل الحساب، ومنازل القمر، وعرف بالحساب أنه من رمضان، فوجهان، قال ابن سريج: يلزمه الصوم لأنه عرف الشهر بدليل فأشبه من عرفه بالبينة، وقال غيره: لا يصوم لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية، هذا كلام المصنف، ووافقه على هذه العبارة جماعة، وقال الدارمي: لا يصوم بقول منجم؛ وقال قوم: يلزم؛ قال: فإن صام بقوله فهل يجزئه عن فرضه؟ فيه وجهان، وقال صاحب البيان: إذا عرف بحساب المنازل أن غداً من رمضان، أوأخبره عارف بذلك فصدقه فنوى وصام بقوله فوجهان، أحدهما يجزيه، قاله ابن سريج، واختاره القاضي أبو الطيب لأنه سبب حصل به غلب ظن، فأشبه ما لو أخبره ثقة عن مشاهدة؛ والثاني: لا يجزيه لأن النجوم والحساب لا مدخل لهما في العبادات، قال: وهل يلزمه الصوم بذلك؟ قال ابن الصباغ: أما بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا، وذكر صاحب المهذب أن الوجهين في الوجوب، هذا كلام صاحب البيان، وقطع صاحب العدة بأن الحاسب والمنجم لا يعمل غيرهما بقولهما، وقال المتولي: لا يعمل غير الحاسب بقوله، وهل يلزمه هو الصوم بمعرفة نفسه الحساب؟ فيه وجهان، أصحهما لا يلزمه، وقال الرافعي: لا يجب بما يقتضيه حساب المنجم عليه ولا على غيره الصوم، قال الروياني: وكذا من عرف منازل القمر لا يلزمه الصوم به على أصح الوجهين، وأما الجواز فقال البغوي: لا يجوز تقليد المنجم في حسابه، لا في الصوم ولا في الفطر، وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه فيه وجهان؛ وجعل الروياني الوجهين فيما إذا عرف منازل القمر وعلم بوجود الهلال، وذكر أن الجواز اختيار ابن سريج، والقفال، والقاضي أبي الطيب؛ قال: فلو عرفه بالنجوم لم يجز الصوم قطعاً؛ قال الرافعي: ورأيت في بعض المسودات تعدية الخلاف في جواز العمل به إلى غير المنجم، هذا آخر كلام الرافعي، فحصل في المسألة خمسة أوجه:
أصحها: لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك، ولكن يجوز لهما دون غيرهما، ولا يجزئهما عن فرضهما.
والثاني: يجوز لهما ويجزئهما.
والثالث: يجوز للحاسب ولا يجوز للمنجم.
والرابع: يجوز لهما ويجوز لغيرهما تقليدهما.
والخامس: يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم، والله أعلم).
• وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه": (فرض علينا عند غمَّة الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، وإكمال عدة رمضان ثلاثين يوماً، حتى ندخل في العبادة بيقين، ونخرج عنها بيقين، وقال في كتابه: "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم"، وروى الأئمة الأثبات عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمَّ عليكم فأكملوا العدة"، وفي رواية: "فإن غم عليكم الشهر فعدوا ثلاثين"، وقد ذهب مُطرِّف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين، وابن قتيبة من اللغويين، فقالا: يُعَوَّل على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان، حتى أنه لو كان صحواً لرؤي، لقوله عليه السلام: "فإن عُمي عليكم فاقدروا له"، أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه؛ وقال الجمهور: معنى "فاقدروا له" فأكملوا المقدار، يفسره حديث أبي هريرة: "فأكملوا العدة"؛ وذكر الداودي أنه قيل في معنى قوله: "فاقدروا له"، أي قدروا المنازل، وهذا لا نعلم أحداً قال به إلا بعض أصحاب الشافعي، أنه يعتبر في ذلك بقول المنجمين، والإجماع حجة عليهم، وقد روى ابن نافع عن مالك: الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته، وإنما يصوم ويفطر على الحساب: أنه لا يقتدى به ولا يتبع؛ قال ابن العربي: وقد زل بعض أصحابنا فحكى عن الشافعي أنه قال: يُعَوَّل على الحساب، وهي عثرة لا لعًا لها).
قلت: حاشا الإمام الشافعي النبيه أن يصدر منه هذا الكلام وهو القائل: "إذا وجدتم الحديث في قارعة الطريق فهو مذهبي، وهو يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، فيدع قول نبيه لقول أهل الحساب المغرورين والمنجمين المخدوعين.
• وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة "رسالة الهلال": (وكان مقتضى تقدم هذه "المقدمة" أني رأيت الناس في شهر صومهم وفي غيره أيضاً منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب، من أن الهلال يرى، أولا يرى، ويبني على ذلك، إما في باطنه، وإما في باطنه وظاهره، حتى بلغني أن من القضاة من يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب أنه يُرى أولا يُرى؛ فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه؛ وربما أجاز شهادة غير المرضي لقوله، فيكون هذا الحاكم من السماعين للكذب، فإن الآية تتناول حكام السوء.(9/249)
إلى أن قال: وفيهم من لا يقبل قول المنجم لا في الباطن ولا في الظاهر، لكن في قلبه حسيكة من ذلك، وشبهته قوية لثقته به، من جهة أن الشريعة لم تلتفت إلى ذلك، لا سيما إن كان قد عرف شيئاً من حساب النَّيِّرَيْن، واجتماع القرصين، ومفارقة أحدهما الآخر بعدة درجات، وسبب الإهلال والإبدار والاستتار والكسوف والخسوف، فأجرى حكم الحاسب الكاذب الجاهل بالرؤية في هذا المجرى.
إلى أن قال مكذباً ما نسبه بعض المالكية للشافعي رحمه الله: وحكاه بعض المالكية عن الشافعي أن من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر لم يتبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغم عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه، وهذا باطل عن الشافعي لا أصل له عنه، بل المحفوظ عنه خلاف ذلك كمذهب الجماعة).
• وقالت هيئة كبار العلماء في ردها على سؤال ورد عليها في هل يجوز العمل بالحساب في العبادات أم لا؟: (أولاً: القول الصحيح الذي يجب العمل به هو ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة"، من أن العبرة في بدء شهر رمضان وانتهائه برؤية الهلال، فإن شريعة الإسلام التي بعث الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خالدة مستمرة إلى يوم القيامة.
ثانياً: أن الله تعالى علم ما كان وما سيكون من تقدم علم الفلك وغيره من العلوم، ومع ذلك قال: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" الحديث، فعلق صوم شهر رمضان والإفطار منه برؤية الهلال، ولم يعلقه بعلم الشهر بحساب النجوم، مع علمه تعالى بأن علماء الفلك سيتقدمون في علمهم بحساب النجوم وتقدير سيرها، فيجب على المسلمين المصير إلى ما شرعه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من التعويل في الصوم والإفطار على رؤية الهلال، وهو كالإجماع من أهل العلم، ومن خالف في ذلك وعول على حساب النجوم فقوله شاذ لا يعول عليه).
?
الخلاصة
1. أن العمل بالحساب لا يحل أبداً في إثبات الأهلة، لا في حال الغيم ولا الصحو، لا للحاسب والمنجم ولا لمن قلدهما.
2. من صام بالحساب لا يجزئه صومه ولا فطره لذلك.
3. الحاكم الذي يلزم الناس بالحساب لا تجوز طاعته في ذلك كما قال مالك، لأن الطاعة لا تكون إلا في المعروف.
4. على المسؤولين أن يتقوا الله في دينهم وإسلامهم، وليحذروا التبديل والتغيير فيه.
5. لا يجوز للهيئات ومجالس الفتوى أن تتهاون في هذا الأمر أوتساير ما يهواه بعض الحكام، ولئلا يتحملوا وزر تصويم الناس وإفطارهم بغير وجه حق، وعليهم الاقتداء والتأسي بالإمام الشهيد والقاضي الرشيد محمد بن الحُبُلي قاضي مدينة "برقة" في وقته، الذي رفض أن ينصاع لأمر العبيديين في تفطير الناس بالحساب، وقتل صابراً محتسباً، ظلماً وعدواناً، فعلى من قتله لعائن الله المتتاليات مصحوبة بغضبه.
ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمته: (أتاه أمير برقة فقال: غداً العيد؛ قال: لم نر الهلال، ولا أفطر الناس وأتقلد إثمهم؛ فقال: بهذا جاء كتاب المنصور – وكان هذا من رأي العبيديين يفطرون بالحساب، ولا يعتبرون رؤية – فلم يُر هلال، فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهبة العيد، فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلي؛ فأمر الأمير رجلاً خطب، وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي إليه فأحضر، فقال له: تنصل، وأعفو عنك؛ فامتنع، فأمر فعُلق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش فلم يسق، ثم صلبوه على خشبة، فلعنة الله على الظالمين).
لهذا فقد تعجبت واستغربت جداً مما صدر من دائرة العلوم الطبيعية والتطبيقية التابعة لمجمع الفقه الإسلامي بعنوان "بيانات حول الأهلة لعام 1425ه" من غير تاريخ، وحددوا فيه أوائل الشهور: رجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذي الحجة بالحساب، لما فيه من رد للنصوص الصحيحة الصريحة وإجماع الأمة، فتعين الرد عليه نصحاً للأمة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ومعذرة إلى الله، ولعلهم يرجعون.
فاختر لنفسك طريقة أهل السنة، واصبر عليها، واحذر طريقة الرافضة المخذولين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين، ونبياً للأميين، وإماماً للمهتدين، والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
?
المراجع
• ... الاختيار لتعليل المختار لابن مودود الحنفي.
• ... ثبوت الأهلة بين الرؤية والحساب للأمين الحاج – مسودة.
• ... الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
• ... سير أعلام النبلاء للذهبي.
• ... فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية.
• ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
000000000000000000000
أيها المسلمون دارفور تستغيث بكم فأغيثوها
حقيقة المشكلة في دارفور
الأسباب غير المباشرة التي أدت إلى تفاقم الأمر في دارفوروتصعيدها
ما يجب على المسلمين عمله لاحتواء هذه الفتنة(9/250)
يمكن أن يكون العمل لنصرة هذه القضية ودفع الفتنة في المسارات الاتيه
من أخطر الوسائل التي انتهجها وسلكها الكفار في حربهم الصليبية بقيادة الاتحاد اليهودي الكنسي الذي تتزعمه أمريكا في هذا العصر ضد الإسلام والمسلمين مبررين به غزوهم لبعض البلاد الإسلامية الواحدة تلو الأخرى الشعارات الكاذبة، والمصطلحات المضللة، معتمدين قي ذلك على وسائلهم الإعلامية وغيرها في إشهار وإعلان ما يريدون إشهاره وإعلانه، والتعتيم على جرائمهم ومخازيهم، بالترغيب أحيانا والترهيب والتخويف أحيانا أخرى، وبالقصف والاغتيالات إن دعا الحال، ضاربين عرض الحائط بكل الأعراف الدولية، والكذب وتحريه حتى يصدقهم من ليس له معرفة بمكرهم الكبار وحقدهم الفوار الذي أعمى قلوبهم وأبصارهم.
لقد برعوا في اختلاق وافتراء هذه الشعارات، وتفننوا في ذلك فأفغانستان غزيت واستعمرت بحجة القضاء على الإرهاب، والعراق غزي بحجة تخليص العالم من أسلحة الدمار الشامل، ودارفور تغزى الآن وتفكك وحدة السودان بكذبة مغايرة وهي التطهير العرقي للجنس الأفريقي الذي مارسه شذاذ الآفاق من قبل من الأوربيين عندما غزوا أمريكا على سكانها الأصليين وهم الهنود الحمر، وكما قيل رمتني بدائها وانسلت.
حقيقة المشكلة في دارفور
لا شك أن أصل المشكلة في دارفور وفي غيرها من البلاد التي يحترف سكانها الرعي، هي نزاع بين المزارعين والرعاة في المرعى وفي تعدي أصحاب المواشي على المزارعين في بعض الأحيان، وفي محاولة السيطرة على موارد المياه السطحية والمؤقتة الشحيحة لها، هذا هو أصل المشكلة قبل أن يستغلها أصحاب الأطماع من السياسين، وتسيَّس وتدوَّل، وتتحول بقدرة قادر الى مشكلة تطهير عرقي وابادة جماعية للزرقة كما زعموا، وبهذا عللوا دخولهم السافر غير المقيد في دارفور، وغزوها تدريجياً عن طريق المنظمات الكنسية التي ظاهرها الغوث والاعانة، وباطنها التنصير وتفكيك وحدة السودان ووقف المد العربي الاسلامي، ثم ارسال الجيوش بحجة حفظ الأمن؛ باختصار شديد فإن حقيقة المشكلة تكمن في الآتي:
بالنسبة لمدبري الفتنة ومؤججي نارها من زعماء القبائل وقادتها
• ... إرضاء النزعات والأحقاد الشخصية.
• ... الأمل في الحصول على بعض المصالح السياسية والسلطة.
• ... تنفيذ بعض مخططات الكفار مقابل حطام من الدنيا بالنسبة للكفار وغيرهم.
• ... محاولة ضرب الاسلام.
• ... اضعاف الولاء الديني.
• ... التغلغل في دارفور حتى يزرعوا فيها ما زرعوا وحصدوا في الجنوب.
• ... العمل على تفكيك وحدة السودان.
• ... وقف المد العربي الاسلامي إلى عمق القارة الإفريقية.
الأسباب غير المباشرة التي أدت إلى تفاقم الأمر في دارفوروتصعيدها
ما ذكرناه آنفاً بعض الأسباب المباشرة، وهناك أسباب غير مباشرة كثيرة ساعدت واستغلت في تصعيد المشكلة، وزادت من خطورتها وحدتها.
وهذه الأسباب عبارة عن ترسبات قديمة:
• ... الجهل بحرمة المسلم وحقه نحو اخوانه المسلمين وتحريم دمه وعرضه وماله حرمة لا تنفك أبداً.
• ... ضغف الاخوة الإسلامية.
• ... ضعف الوازع الديني.
• ... الأثرة وحب الذات.
• ... التربية الحزبية لدى السودانين عموماً.
• ... الجهل بتعاليم الإسلام.
• ... الضعف الاداري.
• ... عدم الحزم والردع أو تأخره لمن يتعدى على الآخرين.
• ... شح موارد المياه في المنطقة.
ما يجب على المسلمين عمله لاحتواء هذه الفتنة
ما ذكرناه سابقاً عبارة عن مقدمات وتوطئات لهذه الفتنة، وقد وضح أن الهدف من تصعيدها وتدويلها ضرب الاسلام والمسلمين وتفكيك وحدة السودان، واضعاف الروابط الدينية والاخوة الايمانية وأنها أكبر بكثير من إمكانات السودان الرسمية والشعبية، وأنها تحتاج إلى تضافر جهود كل المسلمين في دارفور وكل السودان خاصة ،وفي كل العالم العربي والاسلامي بصفة عامة وإلاّ سيحل بالمسلمين في تلك الديار وما جاورها ما حل بالأندلس، خاب مكرهم، وضل سعيهم.
ولا يظن ظان أن هذه الحملة المسعورة، وذلك التدخل السافر، والظلم البين الغرض منه القضاء على الجنس العربي فقط، وإنما هم سيكونون ضربة البداية وإلاّ فهدفها كل مسلم مصداقاً لقوله عز وجل: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، ومن يأمن مكر الكفار ويثق في وعودهم فقد خاب وخسر؛ فالمكر كبير، والتدخل خطير، والهدف الأول والحقيقي لهذا الغزو ليس بالأمر اليسير.(9/251)
هذا النداء موجه إلى كل مسلم ومسلمة داخل السودان وخارجه على حد سواء، حاكماً كان أم محكوماً، عالماً كان أم جاهلاً، غنياً كان أم فقيراً ،فالكل مسئول، ولكلٍ دور يمكن أن يؤديه بدءاً بتبصيرالمسلمين عامة بخطورة المشكلة وفداحة الفتنة في كل وسائل الإعلام، ومرورا بجمع المال والتبرعات، ولاتحقرن أخي المسلم ما تقدمه في هذا الجانب، وانتهاء بزيارة تلك الديار ومواساة أهلها فيما حل بهم من خراب ودمار وتدخل، وإعانتهم، وتقديم الخدمات لهم، ورفع روحهم المعنوية، وهذا هو أقل حقوق الأخوة الايمانية وأضعف واجب نحو هذا الدين.
فقد صح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً".
وصح عنه كذلك أنه قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وصح عنه كذلك أنه قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة".
فما من مسلم إلاّ ويمكن أن يقوم بدور ما، لأنه إن عجز عن كل شئ فلن يعجز عن أمور منها:
• ...
الاهتمام والمتابعة.
• ...
الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل.
• ...
تبصرة غيره من المسلمين بخطورة هذه الفتنة ويدعوه أن يسهم في حلها وتقليل خطرها، فقد ينال العاجز والمعذور بنيته الصادقه ما لم يناله غيرهما: "إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلاّ وهم معنا، حبسهم العذر"، قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بتبوك.
من العيب الكبير والتقصير الخطير، أن يحرص الكفار على باطلهم ويخططوا وينفقوا ويتقاعس المسلمون عن القيام بواجبهم ويقصروا في نصرة اخوانهم والدفاع عن دينهم وعقيدتهم.
يمكن أن يكون العمل لنصرة هذه القضية ودفع الفتنة في المسارات الاتيه:
أولاً: الإعلام والتبصير بالقضية وبيان الهدف الحقيقي وراء هذا التدخل السافر والغزو الماكر.
ويقع عبء ذلك على أئمة المساجد والدعاة ووسائل الاعلام المختلفة المقرؤة والمسموعة والمشاهدة في الداخل والخارج .
ثانياً: جمع المال والتبرعات: كثير من المنظمات الكنسية تجبرالنصارى في تلك البلاد على دعم العمل الكنسي الشيطاني، ويتولى كبر هذه الجريمة مجلس الكنائس العالمي، وهؤلاء وصف الله حالهم بقوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدواعن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون".
والمسلم وعده الله بالخلف في الإنفاق في سبل الخير المختلفة: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين"، فحري به أن يسارع إلى ذلك، وعلى التجار والموسرين تقع مسئولية توفير المال.
ثالثاً: الذهاب إلى دارفور لمن يتيسر لهم ذلك من العلماء، والدعاة، ورجال الأعمال، حتى يطلعوا على حجم الفتنة والمؤامرة: "فمن رأى ليس كمن سمع"، هذا بجانب ما في تلك الزيارة من المواساة وإعادة الثقة إلى نفوس أهل المنطقة.
رابعاً : انشاء مساجد من الخيام وغيرها في معسكرات اللاجئين وتزويده بالأئمة، والدعاة، والمصاحف، والكتيبات.
خامساً : العمل الإنساني الاسلامي في مجال الغوث والعون ضعيف جداً فلا بد من حث المنظمات والمسؤلين من مد يد العون بما يناسب حجم المآساة، بحيث لا يكون ما يقدمه الكفار فتنة للذين آمنوا .
سادساً: في مجال الصحة والعلاج فتح المجال للمطوعين من الأطباء والممرضين ونحوهم ، وتزويدهم بالأدوية التي يحتاج إليها هناك .
سابعاً عقد مؤتمرات واجتماعات لجميع المهتمين بأمر الدعوة في السودان وتمليكهم المعلومات الضرورية الغائبة عنهم .
ثامناً: فتح مجال التبرعات في المساجد وغيرها.
تاسعاً : التهيئة الشعبية وتهيئة المسلمين للدفاع عن دينهم ووطنهم إذا احتاج الأمر لا قدر الله تحسباًلماوعد به الكفار من الأمريكان والبريطان و الألمان وغيرهم.
عاشراً : العمل على توحيد الأمة وجمع الكلمة.
أحد عشر : التنسيق بين الجهود الرسمية والشعبية
وأخيراً أرجو من اخواني المسلمين ممن لهم علاقة بهذه الفتنة من قريب أو بعيد أن يتقوا الله في اسلامهم وأن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا وأن يؤثروا الباقية على الفانية ،ومصلحة الدين على مصالحهم الذاتية ،ويعملوا على احتوائها واطفائها ،وليحذروا أن يؤتى الإسلام من قبلهم.
والله أسال أن يحفظ علينا ديننا وأن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولامبلغ علمنا وأن لا يسلط علينا بذنوبنا من لا يخافه فينا ولا يرحمنا.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد القائل عن العصبية: "دعوها فإنها منتنة"، والناهي عن القتال في الفتنة وتحت الراية العمية، وعلى آله وصحبه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
000000000000000000000
بمناسبة مأساة دارفور "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقابَ بعض"(9/252)
مما خُصَّ به نبينا الكريم ورسولنا العظيم على سائر الأنبياء والمرسلين أن معجزته الكبرى وهي القرآن الكريم باقية خالدة ما بقيت الدنيا، لتكفل الله عز وجل بحفظها، لحاجة البشرية إليها، هذا بجانب معجزاته الخبرية الكثيرة التي تدل في كل وقت وحين على صدق رسالته وحقيقة نبوته، وتزيد في صدق الصادقين، وتكشف زيف الشاكين فيه.
لم يتضح لي مغزى تركيز الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته العظيمة الفريدة في حجة الوداع على تعظيم حرمة المسلم وماله وعرضه على إخوانه المسلمين من أول وهلة، وتحذيره من قتل المسلم لأخيه المسلم وعن القتال في الفتنة وتحت الرايات العمية، إلا بعد الاطلاع على المآسي العظيمة والكوارث الجسيمة التي لحقت بالإسلام والمسلمين في الماضي، وإلا بعد شهود التحارب والتدابر الذي دار في هذا العصر في بعض ديار الإسلام، في أفغانستان، والصومال، وفي ثالثة الأثافي فتنة دارفور التي نكتوي بنارها هذه الأيام، حيث يقاتل المسلم أخاه المسلم، وينال من ماله وعرضه، ويحاول استئصاله والقضاء عليه ما وجد إلى ذلك سبيلاً، مستعيناً في ذلك بالكفار والمفسدين من أعداء الملة والدين، غير ملتفت ولا مستمع لما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم، وغير مكترث لمغبة ونتائج هذا التحارب والتدابر، نحو:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".
2. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترتدوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".
لقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الكفر على هذا الفعل لشناعته وقبحه، ومبالغة في التحذير منه، لينزجر السامع عن الإقدام عليه.
3. وعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "أتدرون أيُّ يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، يا رسول الله. قال: أي بلد هذا؟ أليست بالبلدة الحرام؟ قلنا: بلى يا رسول الله. قال: فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، وأبشاركم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ قلنا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهدُ الغائبَ، فإنه ربَّ مبلغ يبلغه من هو أوعى له، فكان كذلك. قال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".
4. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فكلاهما من أهل النار"، قيل: فهذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه".
5. وقال عبد الله بن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".
عندما وقعت الفتنة في عهد الصحابة رضي الله عنهم بين علي وعائشة، وطلحة، والزبير، ومن معهم من ناحية، وبين علي ومعاوية من ناحية أخرى، لم يزد عدد الذين شاركوا فيها على الأربعين من الصحابة، من جملة عشرة آلاف، وحتى أولئك الأربعين لم يبادر أحد منهم بالقتال، ولكن دعاة الفتنة ومؤججي الحرب بين هذه الطوائف هم الذين أشعلوا نار القتال وتولوا كبرها، وكان المشاركون من الصحابة رضوان الله عليهم متأولين، ولم يكن علي ولا غيره منشرحاً لقتال أهل الجمل وصفين كانشراحه لقتال أهل الأهواء في النهروان، بل قال مبشراً قاتل الزبير: "بشِّر قاتل ابن صفية بالنار".
وكان الصحابة رضوان الله عليهم ساعة القتال وبعده موالين لإخوانهم المسلمين، فكان يصلي بعضهم على قتلى بعض، ويترحَّمون عليهم، وقد استقبل علي رضي الله عنه عائشة بعد الجمل أجمل استقبال، وأكرمها أيما إكرام، وأخرج الحسن والحسين مشيعين لها من الكوفة، وأخرجها في عدد من النساء إلى المدينة.
لقد حذر رسولنا صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتن، ونهى عنه أشد النهي، ونهى عن ذلك أصحابه والسلف الصالح، ومما جاء في ذلك ما يأتي:
1. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ ومعاذاً فليعذ به".
2. وعن أبي بكرة رضي الله عنه عند مسلم: "فإذا نزلت فمن كان له إبل فليحلق بإبله – وذكر الغنم والأرض؛ قال رجل: يا رسول الله، أرأيتَ من لم يكن له؟ قال: يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينجو إن استطاع".
3. وعن ابن مسعود رضي الله عنه في الفتنة: "قلتُ: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركتُ ذلك؟ قال: كفَّ يدك ولسانك، وادخل دارك؛ قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن دخل رجل عليَّ بيتي؟ قال: فادخل مسجدك – وقبض بيمينه على الكوع – وقل: ربِّي الله، حتى تموت على ذلك".
4. وعن جندب رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني عند نزول الفتنة: "ادخلوا بيوتكم، وأخملوا ذكركم؛ قال: أرأيتَ إن دُخِل على أحدنا بيته؟ قال: ليمسك بيده، وليكن عبد الله المقتول لا القاتل".(9/253)
5. وعن خرشة بن الحُرِّ يرفعه: "فمن أتت عليه فليمش بسيفه إلى صفاة فليضربه بها حتى ينكسر، ثم ليضطجع لها حتى تنجلي".
6. وعن أبي بكرة عند مسلم: "قال رجل: يا رسول الله، إن أكرهتُ حتى يُنْطلق بي إلى أحد الصَّفين، فجاء سهم أوضربني رجل بسيف؟ قال: يبوء بإثمه وإثمك".
7. وقال أبو بكرة رضي الله عنه رداً على من ظن أنه سيقاتل أحداً من المسلمين ولو دخل عليه داره: "لو دخلوا عليَّ داري ما رفعتُ عليهم قصبة، لأني لا أرى قتال المسلمين، فكيف أقاتلهم بسلاح؟".
يجب على المسلمين عامة، وعلى ولاة الأمر خاصة من العلماء والحكام، عند نزول الفتن بين المسلمين السعي الحثيث للإصلاح بين المتقاتلين، وعدم تأجيج نار القتال، امتثالاً لأمر ربهم: "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين".
وعملاً بنصيحة رسولهم: "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصرُه إن كان مظلوماً، أرأيتَ إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: "تحجزه – أوتمنعه- من الظلم فإن ذلك نصره".
والعمل على تحكيم الشرع والعقل، وعدم الخضوع لأعداء الدين المتظاهرين بنصرة المظلومين، الصائدين في الماء العكر، إذ هدفهم تحقيق مآربهم، وتفكيك وحدة المسلمين، والطعن في الأخوة الإيمانية، وإحياء النعرات العرقية والعنصرية.
قال الإمام الطبري رحمه الله معلقاً على الأحاديث التي وردت في الفتن، وتنهى وتحذر عن قتال المسلم، وتأمر بحرمة دم المسلم وماله وعرضه:
(اختلف السلف، فحمل ذلك بعضهم:
1. على العموم، وهم من قعد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقاً، كسعد، وابن عمر، ومحمد بن مَسْلمة، وأبي بكرة في آخرين، وتمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها.
ثم اختلف هؤلاء:
أ. فقالت طائفة بلزوم البيوت.
ب. وقالت طائفة بالتحول عن بلد الفتن أصلاً.
ثم اختلفوا:
أ. فمنهم من قال: إذا هجم عليه شيء من ذلك يكف يده ولو قُتِل.
ب. ومنهم من قال: يدافع عن نفسه وعن ماله، وعن أهله، وهو معذور إن قَتَلَ أوقُتِل.
2. وقال آخرون: إذا بغت طائفة على الإمام فامتنعت من الواجب عليها، ونصبت الحرب، وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ ونصر المصيب، وهذا قول الجمهور.
3. وفصَّل آخرون، فقالوا: كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة، فالقتال حينئذ ممنوع، وتنزل الأحاديث التي في هذا الباب وغيره على ذلك، وهو قول الأوزاعي.
قال الطبري: والصواب أن يقال: إن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قدر عليه، فمن أعان المحق أصاب، ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها.
4. وذهب آخرون إلى أن الأحاديث في حق ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك.
5. وقيل: إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان، حيث يحصل التحقق إنما هي في طلب الملك، وقد وقع في حديث ابن مسعود الذي أشرتُ إليه: "قلت: يا رسول الله، ومتى ذلك؟ قال: أيام الهَرْج؛ قلت: ومتى؟ قال: حين لا يأمن الرجل جليسه").
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على تلك الأحاديث: (وفيها التحذير من الفتنة، والحث على اجتناب الدخول فيها، وأن شرها يكون بحسب التعلق بها، والمراد بالفتن ما ينشأ عن الاختلاف في طلب المُلك، حيث لا يُعلم المحق من المبطل).
على المسؤولين من الحكام وقادة وزعماء هذه الفئات المتقاتلة المتنافرة أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم أولاً، وفي إسلامهم ثانياً، وفي أهلهيهم ثالثاً، وفي غيرهم من المسلمين رابعاً، وليعلموا أنه لن تزول قدما أحد منهم عن الصراط حتى يسأل عن كل دم أريق، وكل عرض انتهك، وعن كل حق اغتصب، وعن كل زرع أحرق، وبهيمة نهبت، وعن عدم الاستقرار والاطمئنان الذي أصاب تلك البقعة الآمنة من بلاد المسلمين، وأولئك السكان الأبرياء من إخواننا المسلمين، وعن فتح المجال لتدخل المنظمات الكنسية الحاقدة على الإسلام والمسلمين بحجة تقديم العون، والغذاء، والدواء للنازحين، وهم في الحقيقة يزرعون الحقد، ويشيعون البغضاء بين إخوة العقيدة، ويؤججون الفتنة، ويحملون معهم الأسلحة فهم مفسدون في الأرض، محاربون لله ولرسوله.
واعلم أخي الحبيب أن وحدة الأمة الحقيقية في إسلامها وسلامة عقيدتها، ليس في أعراقها ولا قبائلها وأجناسها، فكل الخلق من آدم، وآدم من تراب.
لقد امتن الله عز وجل على الأوس والخزرج الذين كادت الحروب الأهلية أن تبيدهم وتفنيهم بعد دخولهم في الإسلام، واعتصامهم بحبله المتين: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها".
فالعاقل من اتعظ بغيره، والجاهل من اتعظ بنفسه.(9/254)
لا ينبغي لمن كانت له كلمة من أهالي تلك المنطقة أوغيرهم أن يقف متفرجاً، وليعلم أن الشر يعم والخير يخص، وليتق الجميع فتنة لا تبقي ولا تذر: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة".
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يجنبهم أسباب الفرقة والخصام، ويعينهم على التمسك والتخلق بأخلاق الإسلام، والانصياع لنصيحة خير الأنام، محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وعلى آله وأصحابه الكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
0000000000000000000
فتنة الرجل في ماله، وأهله، وولده، وكفارتها
أخطر صور الفتن التي تصيب المرء في ماله، وأهله، وولده
أولاً: النهي والتثبيط عن الغزو، والجهاد، والهجرة، والصدقة، وغيرها من سبل الخير
ثانياً: أن يضطروه ويجبروه على المكاسب المحرمة والمشبوهة
ثالثاً: أن يحابي بعض أزواجه وأولاده دون بعض
رابعاً: عدم الصبر والثبات إذا أصيب في شيء من ماله، أوأهله، أوولده
خامساً: غلبة العواطف، فيلبي جميع الكماليات، ويقصِّر في أوجب الواجبات
سادساً: أن يكونوا سبباً في جبنه وبخله
سابعاً: أن يكونوا سبباً في عقوق والديك وتشاغلك عنهم
ثامناً: أن يشغلوه عن طاعة ربه وتقصيره فيها
كفارة فتنة الرجل بماله، وأهله، وولده، وغيرهم
الفتنة هي الاختبار والامتحان والابتلاء يصيب بها ربنا سبحانه وتعالى من عباده من يشاء ويصرفها عمن يشاء، لا رادَّ لحكمه ولا معقب لأمره، والفتن تنقسم إلى قسمين من حيث أصلها ومصدرها:
1. فتن صادرة من الله عز وجل لحكمة يعلمها هو، وهي بعض المصائب والنكبات التي تقع على العبد، صالحاً كان أم طالحاً، الصالح لرفع درجته، والطالح لتطهيره وتزكيته، "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"، كالقتل، والتعذيب، والفقر، والمرض، والحبس، ونحوها، في النفس، والأهل، والولد.
2. وفتن صادرة من الإنسان، كالمعاصي والآثام والمخالفات العظام المذمومة.
ومن حيث حجم الفتن وخطرها فإنها تنقسم إلى قسمين كبيرين كذلك:
1. صغرى.
2. وكبرى.
أوخاصة وعامة، فالصغرى الخاصة كفتنة الرجل في ماله، وأهله، وولده، وجاره، ورحمه، وحاسديه، والفتنة الخاصة قد يكون الدافع إليها والباعث عليها شدة أورخاء، أوفقر أوغناء، أوصحة وفتوة، أومرض وضعف، أوهوى.
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
والله نسأل أن يجنبنا الفتن، عامها وخاصها، جليلها وحقيرها، كبيرها وصغيرها، ما ظهر منها وما بطن، ما خص منها وما عم.
كان السلف الصالح رضوان الله عليهم عند نزول الفتن والبلاء يتمثلون بقول امرئ القيس محذرين من خطورتها، ومنبهين لعدم الدخول فيها، ومخوفين من نتائجها، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله:
الحربُ أولُ ما تكون فتيةً تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشبَّ ضرامُها وَلتْ عجوزاً غير ذات حليل
شمطاءُ يُنكرُ لونُها و تغيرت مكروهةً للشم و التقبيل
خطورة الفتن كامنة في عمومها وشمولها، فالخير يخص والشر يعم، ولهذا قال ربنا سبحانه وتعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة"، ومن أقوى أسباب شمول الفتن وعمومها إقرار المنكر والرضى به، وعدم إنكاره، ومعاشرة ومساكنة مرتكبيه.
فيجب على المسلمين عامة وعلى العلماء خاصة إنكار المنكر حسب الطاقة، وأقل درجات الإنكار هي الإنكار بالقلب، وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان.
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: "واتقوا فتنة..": "أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب"، ثم يبعثون يوم القيامة على نياتهم.
قال القرطبي: (قال علماؤنا: الفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر، وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة، والهرب منها).
خرج البخاري في صحيحه في كتاب الفتن باب "الفتنة التي تموج كموج البحر" بسنده إلى شقيق قال: "سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر، إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال حذيفة رضي الله عنه: فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده، وجاره، يكفِّرها الصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر؛ فقال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً؛ قال عمر: أيُكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا، بل يُكسر؛ قال عمر: إذاً لا يغلق أبداً؛ قلت: أجل؛ قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غدٍ ليلة، وذلك أني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط؛ فهبنا أن نسأله من الباب، فأمرنا مسروقاً فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر".
لقد خصَّ الله عز وجل عمرَ رضي الله عنه بخصائص انفرد بها من غيره عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها:
1. أنه كان من الملهمين المحدَّثين، ولهذا ما كانت تتخلف له فِرَاسة.(9/255)
2. ما سلك فجاً – أي طريقاً – إلا وسلك الشيطان فجاً غيره، أي كان يخيف الشياطين ليقينه أن كيد الشيطان ضعيف.
3. وافق القرآن في سبع مواضع.
4. إسلامه كان فارقاً وفاصلاً بين عهدين.
5. هو وأبوبكر ممن أمرنا بالاقتداء بهما: "اقتدوا باللذين من بعدي".
لهذا وغيره كثير كان عمر لا يخشى الفتنة الخاصة، فتنة الأهل، والمال، والولد، فقد كان مأمون الجانب منها، وذلك لتقواه، وعلو همته، وحزمه، وعلمه، ولهذا قال لحذيفة: "ليس عن هذا أسألك"، ولأنه كان حريصاً على مصلحة الإسلام والمسلمين أكثر من حرصه على مصالحه الخاصة، سأله عن الفتن الكبرى التي تموج كما يموج البحر، ذات الضرر المتعدي على الإسلام وأهله، والتي حفظه الله من أن يرى شيئاً منها، بل كان هو حاجزاً منيعاً وسداً قوياً للفتن أن تصل إلى أهل الإسلام، إذ كان هو الباب بينها وبين المسلمين، وعندما استشهد عمر كسِر هذا الباب، وتتالت وتوالت من بعده الفتن على الإسلام، ولا تزال تترى، وما نشاهده الآن وما نعيشه هذه الأيام ما هو إلا فصول رئيسة وأدوار كبيرة من تلك الفتن التي ليس لها من دون الله كاشف.
أخطر صور الفتن التي تصيب المرء في ماله، وأهله، وولده
الفتن التي يتعرض لها الإنسان من الأهل، والولد، والمال، والجيران، والأرحام، وغيرهم، كثيرة جداً، ولا يمكن حصرها ولا الإحاطة بها، ولكن يمكن التنبيه والتذكير بأكثرها شيوعاً وأعظمها ضرراً ليُقاس عليها.
لقد بين الله عز وجل أن الأموال والأولاد فتنة، وإن تفاوتت في قدرها وخطرها، وقرر كذلك عداوة بعض الأزواج، والأصدقاء، والخلطاء لبعض، ذكوراً كانوا أم إناثاً، فقال: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم"، وقال: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم"، وقال: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"، وقال: "إن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض"، وقال: "وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم".
من تلكم الصور ما يأتي:
أولاً: النهي والتثبيط عن الغزو، والجهاد، والهجرة، والصدقة، وغيرها من سبل الخير
جاء في سبب نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم"، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "نزلت هذه الآية في المدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فنزلت؛ وفي رواية أنه كان ذا أهل وعيال، وكان إذا أراد الغزو بكوا عليه، ورققوه فقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق فيقيم، فنزلت: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم.." الآية.
وقيل في سبب نزولها: أن رجالاً من أهل مكة أسلموا وأرادوا الهجرة، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا المدينة رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوا أهليهم، فأنزل الله: "فإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم".
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي وإن نزلت في هؤلاء أوأولئك فحكمها عام وشامل.
قال ابن العربي المالكي رحمه الله: (هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته، وإنما كان عدواً بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة؛ فمن حال بين المرء وبين فعل القربات والطاعات فقد سلك مسلك عدونا وعدو أبينا آدم عليه السلام: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير".
خرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له: أتؤمن، وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه فآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر وتترك مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر، ثم قعد له على طريق الجهاد، فقال له: أتجاهد فتقتل نفسك، فتُنكَح نساؤك، ويُقسَّم مالك؟ فخالفه، فجاهد فقتِل، فحق على الله أن يدخله الجنة".
قال القرطبي رحمه الله: (وقعود الشيطان يكون بوجهين:
أحدهما: يكون بالوسوسة.
والثاني: بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج، والولد، والصاحب).
كان الأنبياء وأتباعهم يخافون من فتنة الزوج والولد، لذلك عندما جاء الخليل متفقداً ولده إسماعيل بمكة ولم يجده، ووجد زوجه، وشعر أن عندها ميلاً إلى الدنيا وقلة قناعة، قال لها: أقري زوجك مني السلام وقولي له: غيِّر عتبة بابك؛ كناية عن طلاقها.
ولذات السبب طلب عمر رضي الله عنه من عبد الله ابنه أن يطلق زوجة له خشي أن تشغله عن الغزو والجهاد، فأبى، فشكاه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأمره بطلاقها فطلقها.
التعلق بالمال والولد والأهل من المهلكات، ومن أسباب التعاسة في الدنيا والشقاء في الآخرة: "تعِسَ عبدُ الدينار، تعِسَ عبدُ الدرهم، تعِسَ عبدُ الخميصة، تعِسَ عبدُ القطيفة، تعِسَ وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش"، الحديث.(9/256)
فلا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد.
هذه العداوة ليست قاصرة على الزوجة والأولاد، بل ربما تكون عداوة الزوج لزوجته وأولاده وفتنته لهم أشد وأنكى.
لهذا قصر الله الطاعة فيمن تجب طاعته في المعروف فقط: "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً".
فتنة الأهل والولد درجات، فقد تصل الفتنة إلى درجة الكفر، وقد تقصر عن ذلك: "فأما الغلام فكان أبواه مؤمِنَيْن فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً".
روى الترمذي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران، يمشيان ويعثران، فنزل صلى الله عليه وسلم فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله عز وجل: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما"، ثم أخذ في خطبته، وروي عنه أنه قال: "الأولاد مجبنة مبخلة".
وجاء في حكمة عيسى عليه السلام: "من اتخذ أهلاً ومالاً وولداً كان للدنيا عبداً".
ثانياً: أن يضطروه ويجبروه على المكاسب المحرمة والمشبوهة
من صور الفتنة التي قد تحدث لبعض الناس من أهليهم وأولادهم أن يدفعوهم إلى بعض المكاسب الخبيثة المشبوهة، وهذه من أخطر الصور وأضرها على المرء وعلى أهله وأولاده، فالواجب على المرء أن يقي نفسه وأهله أكل الحرام المؤدي إلى دخول النار: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"، ولهذا عندما رأى رسولنا الحسن يرفع تمرة من تمر الصدقة المحرمة على رسول الله وآله إلى فيه، قال له: "كخ كخ" حتى رماها؛ وعندما علم أبوبكر أن غلامه تكهن وأتاه بطعام تقيأه بعد ما أدخله في فيه، وقال: لو لم يخرج إلا مع نفسي لأخرجته.
ثالثاً: أن يحابي بعض أزواجه وأولاده دون بعض
هذه كذلك من صور الفتن الخطيرة التي ابتلي بها البعض، حيث يمنح بعض أزواجه أوولده دون الآخرين، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا المسلك وحذر منه، وقال لبشير بن سعيد عندما أراد أن يمنح ابنه النعمان حديقة: "أكل بنيك منحت هكذا؟ قال: لا؛ فقال: "لا تشهدني على جور، أشهد على ذلك غيري" الحديث.
سواء كانت هذه المنحة عن طريق الهبة أوالوصية أوبأي طريق من طرق الاحتيال.
رابعاً: عدم الصبر والثبات إذا أصيب في شيء من ماله، أوأهله، أوولده
من الفتن العظيمة والمخاطر الجسيمة التي يقع فيها البعض بسبب مصيبة تحل بماله أوولده، فلا يصبر ويحتسب، وإنما يصيح ويجزع، فيخسر الدنيا والآخرة.
عندما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي أصيبت في ولدها: "اصبري واحتسبي"، قالت له ولم تكن تعرفه: إليكَ عني، فلو أصابك ما أصابني..، فتركها، وعندما علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت إليه نادمة معتذرة، فقال له: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، ولهذا عظم ثواب وأجر المحتسبين، فقد صح عنه أنه قال: "يقول المولى عز وجل للملائكة الموكلين بقبض الأرواح: قبضتم ولد عبدي، قبضتم ثمرة فؤاده؟ يقولون: نعم، يقول لهم: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد".
لقد هذب الإسلام عواطف أتباعه وسما بها حتى غدوا يتنافسون في الصبر والثبات والاحتساب، فعندما مات ولد أبي طلحة فكتمت أمه أم سُليم الخبر حتى تعشى ونال منها، ثم أخبرته أن صاحب الأمانة استردها، قائلة: احتسب ولدك؛ قال: والله لن تغلبيني على الصبر؛ فصبر واحتسب، فعوضهما الله خيراً منه.
وكذلك فعلت الخنساء التي بكت أخاها صخراً ورثته رثاء حزيناً صادقاً في جاهليتها، ولكن عندما شرفها الله بالإسلام حضت أولادها الأربعة على الجهاد، وحذرتهم من الفرار، وخرجت لخدمتهم في واقعة القادسية، فاستشهد أربعتهم، فاحتسبتهم وحمدت الله واسترجعت، ولم ترثهم ببيت واحد.
وكذلك فعلت تلك الصحابية التي استشهد لها عدد من الولد في غزاة من الغزوات، فقالت: كيف رسول الله؟ قالوا لها: بخير؛ فقالت: أرونيه؛ فلما رأته قالت: كل شيء بعدك جلل؛ أي سهل وحقير.
فعلى المسلمين أن يتأسوا بسلفهم الصالح، ويقتدوا بهم، وأن يتذكروا عند المصائب مصابهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لم يصب مسلم مصاباً أشد ولا أكبر منه.
خامساً: غلبة العواطف، فيلبي جميع الكماليات، ويقصِّر في أوجب الواجبات
من الواجب على المرء الإنفاق على الزوجة والأولاد، ولكن نجد بعض الأزواج والآباء يبالغون في تلبية جميع الكماليات، التي في كثير من الأحيان يكون فيها إفساد لهم، بجانب الإرهاق المادي لمن يتكلفون لذلك، بينما نجد تقصيرهم كبير فيما أوجبه الله عليهم من تعليمهم، وإرشادهم، وتوجيههم، ومراقبة تصرفاتهم، والاطمئنان على صلاح من يرافقون ويصادقون.(9/257)
فقد أمر الشارع الأولياء من الآباء وغيرهم أن يأمروا أبنائهم بالصلاة لسبع سنين، ويضربوهم عليها لعشر، وينبغي أن يكون تعويدهم على ذلك قبل السابعة، لكننا نجد بعض الشباب والشابات وقد تجاوزوا سن الاحتلام لا يصلون ولا يصومون، ويعتقد آباؤهم أنهم ما زالوا صغاراً.
كذلك من الواجب على راعي الأسرة والمسؤول عنها أن يراقب ما يلبسون، ويقرأون، ويشاهدون، ولا يحل له أن يكون متعهداً يحضر ما يُطلب منه فقط، فقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول" الحديث خصَّ وعمم فيه، وممن خصهم الرجل والمرأة اللذان هما عماد الأسرة الصالحة، نواة المجتمع الفاضل.
دعك عن أن يحث أولاده الذكور على صلاة الجماعة، وأن يصحبهم معه إلى الجمع والجماعات، ناسياً أن وصية الله عز وجل الآباء بالأبناء سابقة لوصيته سبحانه الأبناء بالآباء: "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر"، "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً"، وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي كثيراً ما يقول: "أيقظوا صاحبات الحجر"، أوكما قال.
ينبغي أن يكون حرص الوالدين والأولياء على الأدب والسلوك أكبر من حرصهم على مصالح أبنائهم الدنيوية، متمثلة باهتمامهم بالتعليم المدني مقابل إغفالهم وإهمالهم لتقويم وتوجيه سلوك الأبناء.
ما تنفقه بعض الأسر على التعليم المدني لو أنفقوا معشاره على تربيتهم وتنشئتهم التنشئة الصالحة وذلك عن طريق إحضار مربين أخيار ملازمين لهم كما كان يفعل سلفنا الصالح، هذه من السنن الحميدة واللفتات البارعة والمعينة على تربية الأبناء، سيما لأولئك المشغولين من المسؤولين والتجار، التي غفلنا عنها في العصور المتأخرة، فعلينا أن نحيي هذه السنة الحسنة، فما يبذله كثير من الآباء في الدروس الخصوصية بمستوياتها المختلفة، وفي القبول الخاص، يمكن أن يوفر الكثير منها إذا حرصنا على التنشئة الأولى وأوليناها اهتماماً.
من أجل النعم على العباد بعد الإيمان والاستقامة الأبناء الصالحين والأولاد الخيرين الفالحين، الذين يستمر نفعهم ويستفيد الآباء والأمهات بهم أحياء وأمواتاً: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث" الحديث، وذكر منهم: "ابن صالح يدعو له".
احذروا أيها الآباء هذه الفتنة التي سببها المبالغة في حب الأبناء والتجاوز فيه، فقد جعل الله لكل شيء قدراً، وليكن لكم القدوة الحسنة في ابن عمر الذي هجر ولده بلالاً لرده لحديث لشدة غيرته، وقال له: "والله لا أحدثك أبداً"، وفي سعد بن أبي وقاص عندما قالت له أمه: لا أستظل حتى ترجع عن دين محمد؛ فقال لها: والله يا أماه لو كانت لك مائة نفس خرجت كل واحدة تلو الأخرى ما تركت دين محمد صلى الله عليه وسلم.
سادساً: أن يكونوا سبباً في جبنه وبخله
من فتنة الأهل والأولاد المشاهدة العِدَة بالجبن والبخل، تصديقاً لقوله عز وجل: "الشيطان يعدكم الفقر"، وعِدَة الشيطان بالفقر قد تحدث نتيجة وسوسته، أوبتحريك من ينوبون عنه، زوجة كانت، أم أبناء، أم أصدقاء، أم أقرباء، ونحوهم من جنوده الكثر، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الأبناء مجبنة مبخلة"، وفي ذلك تحذير أيما تحذير من طاعتهم في تثبيطهم عن الغزو والإنفاق في سبل الخير المختلفة، لأن الجبن والبخل من الأدواء المذلة، ولهذا أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منهما"، اللهم إني أعوذ بك من الجبن والبخل".
تذكر أخي المسلم صنيع أبي طلحة الأنصاري وزوجه أم سُليم مع ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما نوَّمُوا صغارهم وأطفأوا سراجهم، وخصوا الضيف بجميع طعامهم، مما جعل الله ورسوله يسرَّان لحسن صنيعهما هذا.
ورضي الله عن خالد بن الوليد سيف الله وسيف رسوله القائل: لقد خضتُ عشرين زحفاً، وما من موضع شبر في جسمي إلا فيه ضربة بسيف أوطعنة برمح، وها أنذا أموتُ على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء"، إي وربي، فلا نامت أعين الجبناء ولا البخلاء، ولهذا جاء في الحكم: "احرص على الموت توهب لك الحياة"، ولله در القائل:
من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
من لم يمت في ساحات القتال والجهاد مات بالحوادث التي يفوق موتاها عدد المجاهدين المقاتلين أضعافاً مضاعفة.
ورضي الله عن عمرو بن الجموح الأعرج الذي عذره ربه وناب عنه بنوه في غزوة أحُد، ولكن همته العالية أبت إلا أن يخرج في أحد ليطأ بعرجته تلك الجنة.
أيها الآباء احذروا أن تفتنوا أبنائكم بمنعهم عن الغزو والجهاد، الذي هو ذروة سنام الإسلام، سبيل رفع الضيم والظلم والعدوان عن هذه الأمة.
سابعاً: أن يكونوا سبباً في عقوق والديك وتشاغلك عنهم
من فتن الأبناء والأهل الخطيرة على الرجل أن يحولوا بينه وبين بره لوالديه أويحملوه على عقوقهم، بدلاً من أن يعينوه على ذلك ويذكروه.(9/258)
كثير من الآباء والأمهات يشكون من أبنائهم ومن تقصيرهم نحوهم بعد الزواج، وتشاغلهم عنهم، وهذا لا يحل، وتذكر أخي أنك كما تدين تدان، وليكن لك في ذلك العبد الصالح أول الثلاثة الذين انسد عليهم الغار، فسألوا الله بأرجى أعمالهم فقال: "اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم فإذا رحتُ عليهم فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه نأى بي الشجر، فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء" الحديث، الأسوة والقدوة، وأبواك لا يطمعان منك أن تفعل بهما ما فعل هذا العبد الصالح، بل يقنعان بأقل القليل منك.
واعلموا أيها الأبناء أنكم ستصيرون آباء عجزة ضعفاء تحتاجون إلى بر وإحسان أبنائكم، وأنت أيتها الزوجة تذكري حاجتك إلى بر أبنائك في الكبر وأعيني زوجك على بر أبويه والإحسان إلى أقاربه وأرحامه.
فأولى الناس بحسن الصحبة الأم ثم الأب، ثم الأدنى فالأدنى.
وأنتم أيها الوالدان أعينوا أبناءكم على بركم ولا تضيقوا عليهم، واحذروا الغيرة من الزوجة والأبناء فإنها من الأدواء.
ثامناً: أن يشغلوه عن طاعة ربه وتقصيره فيها
من جملة فتنة المال والأهل أن يشغلوا الإنسان عن طاعة ربه، فيعرضوا له في صلاته وعبادته، فيحولوا بينه وبين مناجاة ربه، إذ الطمأنينة والخشوع في العبادة خاصة الصلاة لبها ومقصودها، فإذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم إمام الخاشعين قطع خطبته لما رأى حسناً وحسيناً وحملهما ثم واصل خطبته، فكيف بغيره؟!
روى الحسن وغيره في تفسير قوله تعالى: "إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد. فقال إني أحببتُ حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب. ردوها عليَّ فطفق مسحاً بالسوق والأعناق": (صلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه – أي الخيل – وكانت ألف فرس، فعرض عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غربت، وفاتت الصلاة، ولم يُعلم بذلك هيبة له، فاغتم، فقال: "ردوها علي"، فردت، فعقرها بالسيف قربة لله، وبقي منها مائة، فما في أيدي الناس من الخيل العتاق اليوم فهي من نسل تلك الخيل).
وما فعله سليمان عليه السلام وقد فاتته صلاة العصر فعله الصحابي الجليل أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه عندما انشغل عن صلاته.
روى مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر: "أن أبا طلحة الأنصاري كان يصلي في حائط له، فطار دبسي، فطفق يتردد يلتمس مخرجاً، فأعجبه ذلك، فجعل يتبعه ببصره ساعة، ثم رجع إلى صلاته، فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابني في مالي هذا فتنة؛ فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له الذي أصابه في حائطه من الفتنة، وقال: يا رسول الله هو صدقة لله، فضعه حيث شئت" .
كفارة فتنة الرجل بماله، وأهله، وولده، وغيرهم
الفتن التي تعرض للإنسان بسبب ماله، وأهله، وجيرانه، وغير ذلك كثيرة ومتنوعة، منها ما هو:
1. صغائر تكفرها الأعمال الصالحة من صلاة، وصيام، وحج، وصدقة، وأمر بمعروف، ونهي عن المنكر، وما شابهها.
2. كبائر يفعلها الإنسان ويقلع عنها، وهذه تحتاج إلى توبة واستغفار.
3. ومنها ذنوب يصر عليها صاحبها ويعاودها كلما تاب وندم منها يضعف عن ذلك، مع علمه بقبحها، ويتمنى الخلاص منها، فهو في رجاء الله وإن كان يُخشى عليه.
4. ومنها بدع وحوادث، وهي من أخطرها.
5. ومنها الكفر والشرك الأعظم الذي لا يفيد معه عمل صالح.
قال تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين".
وقال: "والذين إذا فعلوا فاحشة أوظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم".
وهذا معنى ما قاله حذيفة وأقره عليه عمر رضي الله عنهما.
قال الإمام ابن عبد البر معلقاً وشارحاً لقول أبي طلحة السابق: "لقد أصابتني فتنة في مالي": (الفتن على وجوه، فأما فتنة الرجل في ماله وأهله، فتكفرها الصلاة والصدقة، وكذلك قال حذيفة لعمر في الحديث الصحيح، وصدقه عمر، وقال: لستُ عن هذه أسألك؛ وقال جماعة من فقهاء الحجاز والعراق: إن المعاصي كلها فتنة، تكفرها الصلاة والصوم ما لم يواقع الكبائر؛ دليل ذلك قول الله عز وجل: "إن الحسنات يذهبن السيئات"، نزلت في رجل أصاب من امرأة ما ليس بكبيرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر التجار، إن هذا البيع يشوبه الحلف والكذب، فشوبوه بالصدقة".(9/259)
وكل من فتن بشيء من المعاصي والشهوات المحظورة، فهو مفتون، إلا أنه إن ترك وأناب، واستغفر وتاب، غفر له مع أدائه لصلاته وزكاته وصومه، وهذه صفات المذنبين، وقد فتِنَ الصالحون وابتلوا بالذنوب، قال الله تعالى: "وإذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون"، وقال: "والذين إذا فعلوا فاحشة أوظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" الآية.
وقد يكون من هذا الباب من الفتنة: ما هو أشد مما وصفنا، وهو الإصرار على الذنب، والإقامة عليه، وأنه لم يأته، فليته على تلك الحال، ويحب أن تسمح نفسه بترك ما هو عليه من قبيح أفعاله، وهو مع ذلك لا يقلع عنها، فهذا وإن كان مصراً لم تأت منه توبة، فهو مقر بالذنوب والتقصير، ويحب أن يختم الله له بخير، فيغفر له هذا برجائه، ولا يقطع عليه، وليست فتنة بذلك تخرجه عن الإسلام، وقال بعضهم: ولا هو ممن تنكت في قلبه نكتة سوداء غلبت عليه، فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، كما قال حذيفة في ذلك الحديث، لأنه ينكر ما هو عليه، ويود أنه تاب منه، قالوا: وإنما ذلك في الأهواء المردية، والبدع المحدثة، التي تتخذ ديناً وإيماناً، ويشهد بها على الله تعدياً وافتراء، ولا يحب من فتن بها أن يقصر فيها، ولا ينتقل عنها، ويود أن لا يأتيه الموت إلا عليها، فهذا أيضاً مفتون مغرور مستدرج، قد أصابته فتنة زيِّن له فيها سوء عمله، يود أن يكون الناس كلهم مثله، قالوا: فهذه الفتة أشد من الفتنتين اللتين ذكرنا من فتن الذنوب.
ومن الفتن أيضاً الكفر، وقد سماه الله فتنة بقوله: "والفتنة أشد من القتل").
اللهم اعصمنا من الفتن، وأحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين، غير خزايا ولا مفتونين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
0000000000000000000
ما ذُبِح لغير الله عز وجل فلا يؤكل
لقد نهى الله ورسوله عن الذبح لغير الله، وعدّ ذلك من نواقض الإسلام البينة، ومن مبطلاته الواضحة، فقال عز من قائل: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين"، وقال: "فصَلِّ لربك وانحر"، وقال: "ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه وإنه لفسق"، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ذبح لغير الله فقد أشرك" الحديث، ولا تفيد التسمية ما ذُبح لغير الله شيئاً.
لقد كثر الذبح لغير الله في هذا العصر وتنوع، فعلى المسلمين أن يحذروا من أكله وتعاطيه، فإنه من المحرمات الخبائث.
الذبح لغير الله له أسباب عديدة، فمن الناس من يذبح نذراً أوتقرباً لبعض المشايخ، أحياء وأمواتاً، ومنهم من يذبح للجن والشياطين من حيث يشعر أولا يشعر، ومنهم من يذبح خوفاً من إصابة العين أوحدوث مكروه، ومنهم من يذبح للملوك والرؤساء إذا مروا عليهم أوجاءوا بناحيتهم، وهكذا، وإليك بعض الصور والنماذج لذلك:
1. الذبح نذراً وتقرباً لبعض المشايخ الأحياء والأموات، فمن النساء من تنذر للشيخ إذا رزقت مولوداً أن تذبح ذبيحة أياً كان نوعها، أوإذا شفى مريضها، أونجح وليدها، وهكذا.
2. الذبح طاعة للشياطين كما يحدث في حلقات "الزار"، حيث يطلب الشيطان على لسان البعض أن تذبح شاة بوصف معين، وقد يأمر بشرب كوب من دمها المسفوح، وسرعان ما تنفذ مثل هذه الطلبات.
3. إذا ارتحل الإنسان في دار جديدة خشية أن يصيبه مكروه أوعين.
4. إذا افتتح مصنعاً أومحلاً تجارياً خشية أن يصيبه مكروه أوعين.
5. إذا اشترى مركبة جديدة خشية أن يصيبه مكروه أوعين.
6. إذا حضر رئيس أوشيخ طريقة في قرية أومحلة من المحلات أوحي من الأحياء.
7. في حفلات تأبين الأموات، بعد الثلاثة، أوالأربعين، أوالسنة.
8. ما يذبح في حوليات المشايخ سنوياً.
9. ما يذبح في الأعياد البدعية.
10. ما يعقره بعض الأعراب من باب التفاخر والسمعة والرياء.
11. ما يذبح في أعياد الكفار.(9/260)
قال الإمام الشاطبي المالكي رحمه الله وهو يجيب على تساؤل: كيف يتأتى قصد الشارع الإخلاص في الأعمال العادية وعدم التشريك فيها؟: (قيل معنى ذلك أن تكون معمولة على مقتضى المشروع، لا يقصد بها عمل جاهلي، ولا اختراع شيطاني، ولا تشبه بغير أهل الملة، كشرب الماء والعسل في صورة شرب الخمر، وأكل ما صنع لتعظيم أعياد اليهود والنصارى، وإن صنعه المسلم، أوذبح على مضاهاة الجاهلية، وما أشبه ذلك مما هو نوع من تعظيم الشرك، كما روى ابن حبيب عن ابن شهاب أنه ذكر له أن إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي أجرى عيناً، فقال له المهندسون عن ظهور الماء: لو أهرقت عليها دماً كان أحرى أن لا تغيض، ولا تهور فتقتل من يعمل فيها؛ فنحر جزائر، حين أرسل الماء فجرى مختلطاً بالدم، فأمر فصنع له ولأصحابه منها طعاماً، فأكل وأكلوا، وقسم سائرها بين العمال فيها؛ فقال ابن شهاب: بئس والله ما صنع، ما حل له نحرها ولا الأكل منها، أما بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يذبح للجن"؛ لأن مثل هذا وإن ذكر اسم الله عليه مضاهاة لما ذبح على النصب، وسائر ما أهل لغير الله به.
وكذلك جاء النهي عن "معاقرة الأعراب"، وهي أن يتبارى الرجلان فيعقر كل واحد منهما، يجاود به صاحبه، فأكثرهما عقراً أجودهما، نهى عن أكله لأنه مما أهل لغير الله به.
قال الخطابي: وفي معناه ما جرت به عادة الناس من ذبح الحيوان بحضرة الملوك والرؤساء عند قدومهم البلدان، وأوان حوادث تتجدد لهم، وفي نحو ذلك من الأمور.
وخرج أبوداود: "نهى عليه الصلاة والسلام عن طعام المتبارين أن يؤكل، وهما المتعارضان ليرى أيهما يغلب صاحبه؟ وهذا وما كان نحوه إنما شرع على جهة أن يذبح على المشروع يقصد مجرد الأكل، فإذا زيد فيه هذا القصد كان تشريكاً في المشروع، ولحظاً لغير أمر الله تعالى، وعلى هذا وقعت الفتية من ابن عتاب بنهيه عن أكل اللحوم في النيروز، وقوله فيها مما أهل لغير الله به، وهو باب واسع).
ويلحق بذلك ما يصنعه البعض من تقديم "بليلة"، أو"زلابيا"، أو شاي وتمر، ويرسولونه إلى المساجد والخلاوي، فيغلب على الظن أن أغلبه يتقرب به لغير الله، فلابد من التحوط والتثبت قبل الأكل.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من سد جميع الذرائع التي قد تؤدي إلى فساد العقائد، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعنا معهم بعفوك وجودك يا كريم.
0000000000000000000000
إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم
كما أن السنن الكونية لا تتغير ولا تتبدل إلا عندما يأذن الله بخراب الدنيا في آخر المطاف، فتختل السنن الكونية، وتتغير الموازين الكلية، وتتبدل النواميس الأرضية، فيكون اليوم من أيام المسيح الدجال الأربعين، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، أي أسبوع، وباقي أيامه كسائر أيامنا، ثم تخرج الشمس من غير مخرجها المعتاد، تخرج من المغرب.
فكذلك الأمر بالنسبة للسنن الشرعية، والثوابت القطعية، والمسائل الكلية، فإنها لا ينبغي لها أن تتغير أوتتبدل عما كانت عليه في عهد الإسلام الأول، وإلا حل الخراب والدمار، وفسد الحال، ولا مجال للإصلاح إلا بالرجوع إلى الأمر الأول: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
حيث لا يمكن أن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقد صلح أول هذه الأمة بالاعتصام بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف الصالح، وبعدم التنازل عن الثوابت.
لذلك فإن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، الذين لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، ولا يميزون بين سنة وبدعة، وحلال وحرام.
فمهما قل تمسك الناس بالدين، والتزامهم بسنة سيد المرسلين، إلا وأثر ذلك على حياتهم ومعاشهم: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس"، "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمَرْنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً"، فكما تدين الأمة تدان، فتخلي الناس عن الدين، وتهاونهم بسنة نبيهم الكريم، نذير شؤم وعلامة خطر عليهم، وكذلك قيام طائفةمن هذه الأمة بالأمر والنهي، والجهاد للدفاع عن الدين، ولصد المعتدين، من أوجب الواجبات، حيث يرفع الإثم عن الأمة، ويحد من غضب رب العالمين.(9/261)
أقول ذلك بمناسبة الفرق الشاسع والبون الواسع بيننا وبين سلفنا في كل شيء، إذ لا مجال للمقارنة، علماً بأن الجميع مكلفون، والكل سواسية في نظر الشرع، ولنضرب لذلك مثلاً واحداً لبعض المستضعفين الغرباء، وهم مهاجرة الحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم، في ثباتهم على دينهم، وعدم تنازلهم عنه، ولو أدى ذلك إلى هلاكهم، وبين استكانة المسلمين اليوم حكاماً، وعلماء، ودعاة، وعامة، وتنازلهم عن أصول دينهم وثوابتهم، بما أدهش الكافرين أنفسهم، وزاد من جرأتهم على غزو ديار الإسلام، وإهانة أبنائه، وشيوخه، ونسائه، وما حدث ويحدث في فلسطين، والعراق، وأفغانستان ليس ببعيد عنا، ولا أنسى أن أذكر بثالثة الأثافي، وهو ما حدث ويحدث في سجن أبي غريب بالعراق، حيث أهينت وخدشت العفة، وانتهكت الأعراض، ومارس فيها الأمريكان والبريطان ما يستحي منه بعض الحيوان.
أخرج أحمد1 وغيره بسند قوي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، ثمانين رجلاً: أنا، وجعفر، وأبوموسى، وعبد الله بن عُرْفطة، وعثمان بن مظعون؛ وبعثت قريش عمرو بن العاص وعُمارة بن الوليد بهدية، فقدما على النجاشي، فلما دخلا سجدا له وابتدراه، فقعد واحد عن يمينه، والآخر عن شماله، فقالا: إن نفراً من قومنا نزلوا بأرضك، فرغبوا عن ملتنا؛ قال: وأين هم؟ قالوا: بأرضك؛ فأرسل في طلبهم، فقال جعفر: أنا خطيبكم؛ فاتبعوه، فدخل فسلم، فقالوا: مالك لا تسجد للملك؟ قال: إنا لا نسجد إلا لله؛ قالوا: ولِمَ ذلك؟ قال: إن الله أرسل فينا رسولاً، وأمرنا أن لا نسجد إلا لله، وأمرنا بالصلاة والزكاة؛ فقال عمرو: إنهم يخالفونك في ابن مريم وأمه؛ قال: ما تقولون في ابن مريم وأمه؟ قال جعفر: نقول كما قال الله: روح الله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر؛ فرفع النجاشي عوداً من الأرض، وقال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان! ما تريدون، ما يسوءني هذا! أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته، فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضئه.
وقال: انزلوا حيث شئتم؛ وأمر بهدية الآخر فرُدَّت عليهم".
والله يحتار الإنسان أيعجب من موقف جعفر وأصحابه وثباتهم على الحق وعلى عدم التنازل، أم من صدق النجاشي وشجاعته؟!
وبضدها تتميز الأشياء، وتستبين المواقف والآراء، ويتضح الحق بجلاء، مقابل هذا الثبات، وتلك التضحيات من السلف الكرام، نجد الاستكانة، والتنازلات، والمسارعة بخطب ود من نهانا الله عن موالاتهم والتشبه بهم، واتخاذهم حلفاء وأصدقاء.
يتمثل ذلك في أقبح صوره في الآتي:
1. الدعوة إلى توحيد الأديان أوالتقارب بينها.
2. الدعوة إلى التعايش السلمي مع الكفار من اليهود والنصارى.
3. محاولة البعض نفي الكفر عن اليهود والنصارى.
4. التجسس لصالح الكفار.
5. العمل في المنظمات الدولية التي يهيمن عليها الكفار.
6. الحكم نيابة عنهم في البلاد التي استعمروها، كما هو الحال في العراق وأفغانستان.
7. تطبيع العلاقات مع الكفار المحاربين، لاسيما الدولة الصهيونية.
8. القتال تحت رايتهم.
9. الاستعانة بهم في القتال.
واللهَ أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومن والاهم بإحسان
0000000000000000000
من تهاون في المندوب ترك الواجب، ومن تساهل في المكروه فعل الحرام
أعظم الفرائض
أفضل النوافل
أمة محمد صلى الله عليه وسلم، خير الأمم، يوم القيامة الوارثون للجنان، المكرمون برؤية العزيز الرحمن، أحد ثلاثة نفر إما سابق، وإما مقتصد، وإما ظالم لنفسه:"ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير* جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير* وقالوا الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله لايمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب".
وصنفهم في الواقعة بأنهم هم:
1. أصحاب المشأمة.
2. أصحاب الميمنة.
3. والسابقون المقربون.
فقال:"وكنتم أزواجاً ثلاثة* فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة* وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة* والسابقون السابقون* أولئك المقربون".
فأصحاب اليمين والسابقون ناجون من النار يدخلون الجنة مع أول الداخلين مع تفاوت بينهم، أما أصحاب المشأمة وهم الظالمون لأنفسهم فيدخلونها بعد أن يطهرهم الله بالنار مما اقترفوا في الدنيا، فالجنة طيبة لا يدخلها إلاَّطيب.
هذا أرجح قولي العلماء والمفسرين في تأويل آية فاطر "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا"، والقول الثاني إن الظالم لنفسه هو الكافر.(9/262)
قال القرطبي رحمه الله: (وقيل: الضمير في "يدخلونها" يعود إلى الثلاثة الأصناف، على ألاّ يكون الظالم هاهنا كافراً، أوفاسقاً؛ وممن روي عنه هذا القول: عمر، وعثمان، وأبوالدرداء، وابن مسعود، وعقبة بن عمرو، وعائشة، والتقدير على هذا القول أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر.
و"المقتصد" قال محمد بن يزيد:هو الذي يعطي الدنيا حقها، والآخرة حقها، فيكون "جنات عدن يدخلونها" عائداً على الجميع على هذا الشرح والتبيين، وروي عن أبي سعيد الخدري، وقال كعب الأحبار: استوت مناكبهم ـ ورب الكعبة ـ وتفاضلوا بأعمالهم.
وقال أبواسحاق السبيعي: أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناجٍ؛ وروى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال:"كلهم في الجنة"؛ وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سابقنا سابق، ومقتصدنا ناجٍ، وظالمنا مغفور له".
ثم رجح هذا القول قائلاً: القول الوسط أولاها وأصحها إن شاء الله، لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا اصطفى دينهم، وهذا قول ستة من الصحابة، وحسبك).
على المسلمين جميعاً أن يتسابقوا في الخيرات، ويتنافسوا على المكرمات، ولا يرضوا بالدنيات، ولا ينبغي لأحد منهم أن يرضى أويقنع إلا بإحدى المنزلتين، منزلة السابقين فإن عجز فمنزلة المقتصدين فما منا من أحد يقوى على النار.
فالسابقون إلى الخيرات، الفائزون بجميع المكرمات، والحَالُّون أعلى الدرجات، هم المؤدون للواجبات، المتقربون بالنوافل والمندوبات، الممتنعون عن الشبه والمكروهات، دعك عن الكبائر والمحرمات.
أما المقتصدون فهم المؤديون للواجبات، المنتهون عن المحرمات، فإن كنت راغباً في تلك الدرجات، وعازماً على نيلها فاحذر أشد الحذر التهاون في المندوبات، المفضي
إلى ترك الواجبات، والتساهل في اقتراف المكروهات، والقرب من الشبهات، الباعث على فعل المحرمات.
ما تقرب متقرب إلى الله عز وجل بشيءٍ أحب إليه مما افترضه على عباده وجاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وما من شيءٍ تنال به محبة الله ورضاه أفضل من الإكثار من النوافل، وعدم الاقتصار على بعض الندوبات دون بعض.
صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه".
المراد بقوله عز وجل: كنت سمعه، وبصره، ويده، ورجله، يعني لا يسمع إلاََََّ ما أحل الله، ولا ينظر إلى ما حرَّم الله، ولا تنال يده محرماً ولا يضرب أو يظلم بها أحداً، ولا تمشي رجله وتسعى إلاَّ فيما يرضي الله ورسوله، وليس المراد أنَّه يسمع بسمع الله، وينظر بنظر الله، كما يقول أصحاب عقيدة الحلول والاتحاد، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في بيان أن أولياء الله على درجتين: مقتصدين وكمل:(أحدهما: المتقربون إليه بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وأداء الفرائض أفضل الأعمال كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله، والورع عما حرَّم الله، وصدق النية فيما عند الله عز وجل؛ وقال عمر بن عبد العزيز في خطبته: أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم، وذلك أن الله عز وجل إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته) .
وأعظم الفرائض هي:
1. الصلوات الخمس، وأدائها للرجال مع جماعة المسلمين بخشوع، وخضوع، واطمئنان.
2. صوم رمضان.
3. إخراج الزكاة الواجبة.
4. تحكيم شرع الله في الرعية.
5. عدل الراعي في رعيته.
6. الجهاد في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن وجب عليهم.
7. بر الوالدين، وصلة الرحم، والإحسان إلى الجيران.
8. تعلم ما يجب على المرء تعلمه مما يجب عليه نحوربه، ورسوله، ومعرفة الحلال والحرام والتمييز بين السنة والبدعة.
أما الدرجة الثانية وهي درجة الأولياء الكمل فقال عنها ابن رجب: (درجة السابقين المقربين، وهم الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض الاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع،وذلك يوجب للعبد محبة الله).
أفضل النوافل
1. السنن الرواتب قبل وبعد الصلوات المكتوبات، فقد صح عنه: "أن أول ما يحاسب به العبد بعد موته صلاته فإن صلحت فقد فازونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، ثم ينادي المولى عزوجل: هل لعبدي من نوافل ليتم به ما انتقض من صلاته؛ وهكذا سائر العبادات"، أوكما قال وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مرض العبد أوسافر كُتب له من الأجر ما كان يعمله وهو صحيح مقيم".(9/263)
2. قيام الليل، والنفل المطلق والمقيد، كصلاة الضحى ونحوها.
3. التطوع بصيام الأيام التي نُدِبَ صيامها كيوم عرفة، وعاشوراء، والخميس، والإثنين، والثلاثة البيض، وستة شوال ونحوها.
4. الإكثار من تلاوة القرآن، وسماعه بتفكر وتدبر، بالنظر ومن الحفظ، فأشراف هذه الأمة حملة القرآن وأصحاب الليل.
قال خباب بن الأرض رضي الله عنه لرجل: "تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه"، وتلاوة القرآن أجرها مضاعف، وثوابها زائد فكل حرف بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا أقول "ألم" حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" الحديث.
5. الإكثار من الذكر باللسان مع حضور القلب والجنان، فلا يزال لسانك أخي الحبيب يكون رطباً بذكر الله فقد أثنى الله عز وجل على الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
وعليك بالأذكار الصحيحة الثابتة، واحذرالأوراد والأذكار البدعية التي وضعها بعض المشايخ لأتباعهم، ففي الصحيح غنىً وكفاية، ومن لم يسعه ما وسع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والسلف العظام، فلا وسَّع الله عليه.
6. الإكثار من صدقة التطوع، بالإحسان إلى الأقارب، والجيران، والفقراء، والمحتاجين، والمرضى، والمعوزين وأفضل الصدقة ما دام نفعه وتعدى خيره.
7. تعليم المسلمين، والذب عن السنة، والحذر من البدعة من أجَلِّ القربات، وقد فضلها مالك، والشافعي، وغيرهما على نوافل الصيام، والقيام، وغيرهما.
8. الشفاعة الحسنة، وقضاء حوائج الناس.
9. محبة العلماء، والأولياء، والصالحين، والذب عنهم.
10. التعاون على البر والتقوى في أي مجال من المجالات.
11. النصح لله، ولرسوله، ولكتابه، ولسنته، ولأئمة المسلمين وعامتهم.
الأعمال لا تحصى كثرة وفيما ذكرنا غنى عما أغفلنا، وكل ميسر لما خُلِق له، ومن الناس من يفتح لهم في كل المجالات كحال أبي بكر الصديق، ومنهم من يفتح لهم في بعضها دون بعض، والمحروم من حُرم أي باب من أبواب الخير مع كثرتها وسهولتها ويسر بعضها.
واعلم أخي الكريم أن الممتنع عن أداء الرواتب والسنن بالكلية المصر على ذلك، غير التارك لها في بعض الأحيان، فاسق لا تقبل شهادته كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وإذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وكان يصوم من الشهر حتى يظن أهله أنه لا يفطر فيه، فكيف بنا نحن وكلنا خطايا وذنوب، ولو علم الناس منا ما يعلم كل واحد من نفسه لرجمونا بالحجارة، ولا تغتر بقوله صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي قال: لا أزيد على الفرائض: "أفلح إن صدق"، لأن هذا كان في أول إسلامه، فلا يمكن أن يكلف بالسنن والنوافل ساعة دخوله في الإسلام، وإنما يكون ذلك تبع للفرائض فيما بعد، وقيل أن ذلك كان قبل أن تشرع السنن الرواتب، والله أعلم.
والله أسأل أن ييسرنا لليسرى، وأن ينفعنا بالذكرى، وأن يجعلنا وجميع أهلينا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وصلى الله وسلم على محمد صادق الوعد المبين وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين وعنا معهم وجميع المسلمين.
000000000
أهم العوائق والصعاب التي تواجه معلمي العلوم الشرعية للمبتدئين الناطقين بغير العربية
أولاً: التدقيق في اختيار الدارسين قبل مجيئهم
ثانياً: تباين مستويات الطلاب
ثالثاً: عدم وجود تآليف ميسرة تناسب أعمار الدارسين ومستوياتهم
رابعاً: تفاوت همم الطلاب، وتطلعاتهم، واستعجالهم
خامساً: التعريفات والمصطلحات
سادساً: قصر مدة الدراسة
سابعاً: اختلاف الأهداف
ثامناً: التوسع في الترجمة
لا شك أن الهدف الأول، والغرض الأساس لجل متعلمي اللغة العربية الناطقين بغيرها فهم هذا الدين فهماً صحيحاً، ومعرفته قرآناً، وسنة، وفقهاً، وسيرة، وسلوكاً معرفة جيدة، لأن اللغة العربية هي الماعون والوسيلة الوحيدة لمعرفة ذلك، لنزول القرآن الكريم، ونطق الرسول العظيم بها، لأنها لغة القرآن ولغة خير من نطق بالضاد.
يكفي اللغة العربية شرفاً، ويعليها منزلة، ويرفعها درجة، اختيار الله سبحانه وتعالى لها لتكون لغة لآخر كتبه، ولساناً لخاتمة شريعته، ووسيلة لمعرفة أسرار دينه ومكنون آيات كتابه، ولغة لأفضل رسله.(9/264)
هنالك العديد من العوائق والصعاب التي تواجه المعلمين والمدرسين قبل الدارسين في تدريس العلوم الشرعية بفروعها المختلفة مع تفاوت بينها في ذلك للطلاب الناطقين بغير العربية، نود أن نشير إلى أهمها، لأن معرفة الأدواء، وتحليل الأخطاء، والوقوف على الصعاب والعوائق من العوامل الرئيسة لتحسين المستوى ورفع الكفاءة، إذ لا يمكن علاج أي مشكلة من المشاكل إلا إذا تعرفنا أولاً على مسبباتها، مستمدين ذلك بعد الله عز وجل من التجربة الطويلة في مجال تدريس هذه المواد للناطقين بغير العربية، والممارسة المفيدة، ومن الحرص على الوصول إلى أحسن الطرق وأفضلها، وأجدى الوسائل وأنفعها لتوصيل هذه المواد إلى الدارسين، ليتم لهم مقصودهم، وللقائمين المهتمين الحريصين على هذا الشأن مرادهم، إذ لا يزال هذا المجال في بداياته إذا ما قورن بما قام به أصحاب الألسن الأخرى خدمة لرطاناتهم، هذا بجانب ضعف الإمكانات وعدم استشعار البعض لأهمية هذا الأمر وخطورته، فأقول:
أولاً: التدقيق في اختيار الدارسين قبل مجيئهم
من العوامل المهمة، والأسباب المعينة، لتحسين الأداء وتجويده في مجال تعليم العربية والعلوم الشرعية للدارسين لها من الناطقين بغيرها، التدقيق الشديد، والحرص الأكيد في اختيار الطلاب، وعدم المجاملة في ذلك، وأن تراعى قلة الفرص وضعف الإمكانات، والفائدة المتعدية، بأن لا تعطى الفرصة لمن لا يستفيد منها، ولا يتم ذلك إلا بسفر عدد من الأساتذة إلى مراكز يجتمع فيها الراغبون من البلاد المتجاورة، وتجرى لهم مقابلات شخصية للتأكد من الآتي:
1. مقدرة الدارس الذهنية، والنفسية، والجسدية.
2. رغبة الدارس الحقيقية في دراسة اللغة العربية والعلوم الشرعية.
3. عمر الطالب، بأن لا يتجاوز الخامسة عشرة، فقد دلت التجارب على عدم استفادة الكبار والصغار من هذا النوع من الدراسة.
وكان للمركز الإسلامي السبق في سَنَِّ هذه السنة الحسنة، بأن يذهب عدد من المختصين لإجراء تلك المعاينات في بلاد الطلاب قبل الدخول في التزامات أدبية ومالية نحو بعض الطلاب الذين لا مقدرة لديهم، أولا رغبة عندهم إِلاَّ في الخروج من بلادهم، والحصول على منحة من جهة ما، ثم بعد ذلك يحدث التحايل.
فعملية إرسال بعض الأساتذة لإجراء تلك المعاينات، ولاختيار أفضل وأحسن الطلاب قدرة ورغبة، في مراكز يسهل على الجميع الحضور إليها على الرغم من أنها مكلفة مادياً، إلا أنها هي صمام الأمان الوحيد لأداء هذه الرسالة، وفائدتها أكبر مما ينفق عليها، أوينفق على بعض الطلاب غير المقتدرين ولا الجادين أضعافاً مضاعفة.
ثانياً: تباين مستويات الطلاب
يتباين مستوى الطلاب وتتفاوت قدراتهم، وتختلف رغباتهم وأعمارهم في المستوى الواحد، هذا بالرغم من المجهودات التي بذلت وتبذل في وضع امتحان "تحديد المستوى، وتصنيف الطلاب"، إذ لا يزال هناك قصور في ذلك توضحه النتائج والتجارب، هذا بجانب أن بعض الطلاب الدارسين يمكرون ولا يظهرون كل قدراتهم لأسباب مختلفة وأغراض شتى، منها حسب الاستقراء والتجربة ما يأتي:
1. حرص البعض على البقاء أكبر مدة ممكنة في البلد الذي يدرس فيه لأسباب تتعلق به.
2. نظر البعض إلى الخاتمة والنهاية، فمن الدارسين من لا يرغب أن يلتحق بالجامعة في الفصل الأول أوالثاني، ومن ثم يدلِّس ولا يبدي مستواه الحقيقي، حتى لا يُصنَّف في مستوى متقدم.
3. رغبة البعض في أن يبدأ الدراسة من أول مستوى – وهم أفضل الجميع – مع العلم أنه سبق له أن درس في بلده، ليحسن من مهاراته ويرفع من مقدراته.
4. بعض الطلاب لا يرضى بالمستوى الذي وضع فيه، ويلح على الإدارة أن مستواه أرفع من ذلك، وأنه أفضل بكثير ممن وضعوا معه في المستوى، بدافع الغيرة من بعض من حضر معه من بلده وصُنِّف في مستوى أعلى.
هذه الأسباب منها ما يتعلق بإداراة المعاهد والمشتغلين بها، وهو إعادة النظر في اختبارات تحديد المستوى، ومراعاة المهارات المختلفة مع الحرص لمعرفة نفسيات الطلاب، وتعديلها من حين لآخر، علماً بأن عدداً أكبر من المختصين غير راضين عن هذه الاختبارات، ولهم عليها مآخذ عديدة، ولهم آراء مفيدة وسديدة، يمكن أن تضاف ويستفاد منها، وليس من المصلحة التغافل عنها.
أما الأسباب المتعلقة بالطلاب، بظروفهم واهتماماتهم، ونفسياتهم، فيمكن أن تعالج بطريقة فردية بحيث يمكن أن يرد الطالب إلى المستوى الذي يناسبه بعد تجربة قصيرة.
ثالثاً: عدم وجود تآليف ميسرة تناسب أعمار الدارسين ومستوياتهم
من العوائق الرئيسة، والصعاب الواضحة التي تواجه معلمي المواد الشرعية عدم وجود تآليف موحدة ميسرة تناسب أعمار الدارسين ومستوياتهم، وترك الأمر في كثير من المعاهد لاجتهادات الأستاذة الذين يدرسون تلك المواد، ولا شك أن اجتهاداتهم متفاوتة، وتقديراتهم مختلفة ومتباينة.
ففي بعض الأحيان يستعان ببعض الكتب والمذكرات التي وضعت للطلاب العرب في مراحلهم الأولية والمتوسطة.(9/265)
وفي أحيان أخر يقع الاختيار على بعض الكتب نحو "الأربعين النووية"، على الرغم من صغر حجمه، لكن الأحاديث التي حواها شملت جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وتتحدث عن أمور مختلفة وأرفع بكثير عن إمكانات الطلاب لغوياً وثقافياً.
معلوم أن العملية التعليمية ترتكز على ثلاثة أسس وقواعد هي:
1. المعلم.
2. المتعلم.
3. والكتاب.
فالكتاب هو المحور الثالث الأساس في العملية التعليمية، ولابد أن يكون مناسباً للدارس لغوياً وثقافياً ونفسياً، وإلا أعاق العملية التعليمية وبدد مجهودات المعلم والمتعلم.
ومما يحمد له فهناك مجهودات كبيرة بذلت، وكتب ومؤلفات برزت في عدد من المعاهد في جامعات المملكة المختلفة، سيما جامعة أم القرى والملك سعود، والإمام محمد بن سعود، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ولكن لا تزال هذه الكتب والمذكرات تحتاج إلى إعادة نظر، وإلى تنقيح، سواء كان ذلك في مجال تعليم اللغة أوفي مجال العلوم الشرعية، مع الحرص على تجنب أن نكون عالة على الكفار في هذا المجال التربوي المهم الذي يرتبط بعقيدتنا وديننا ولغتنا وثقافتنا، اللهم إلا في مجال الوسائل التعليمية، فهي حق مشاع للجميع، وإن كنا حتى في مجال الوسائل إذا اجتهدنا وبحثنا لوجدنا في تراثنا وفي ابتكاراتنا ما فيه غنى وكفاية وزيادة عما عند الكفار.
ومما يشكر لإدارة معهد اللغة العربية بجامعة أفريقيا العالمية ولمدير الجامعة حرصهم واهتمامهم – وإن جاء متأخراً شيئاً ما – على تأليف كتب أساسية في تعليم اللغة العربية، وقد بدأت تباشير هذا العمل وظهرت العديد من المسودات التي بذل فيها المكلفون بتأليفها جهداً مشكوراً ونزلت الآن إلى دور التطبيق العملي لها في المستويات المختلفة.
وإسهاماً مني في ذلك فقد قمت بإعداد مفردات منهج متكامل للعلوم الشرعية، مصحوباً بأهدافه الخاصة والعامة ووسائل تدريسه، وسلمتها للإدارة قبل حين من الدهر.
لا يمكن لمثل هذا العمل أن يكون مفيداً أوأن يؤتي ثماره المرجوة إلا بالآتي:
1. تفريغ من يقوم بذلك العمل تفريغاً كلياً أوجزئياً، ريثما يتمكن من القيام بذلك على الوجه المطلوب.
2. إخضاع هذه المؤلفات إلى التجربة والمراجعة قبل طبعتها النهائية.
3. تحفيز من يقومون بذلك مادياً وأدبياً.
4. التعجيل بطبع هذه الكتب والمذكرات وتصميمها بصورة جيدة وتمليكها إلى الدراسين ومد المحتاجين إليها في المعاهد والمدارس المختلفة التي تعتني بذلك بنماذج منها.
5. للتغلب على تكلفة ذلك يمكن الاستعانة ببعض الهيئات والمؤسسات الخيرية وبالمحسنين، فإن الخير باقٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة.
رابعاً: تفاوت همم الطلاب، وتطلعاتهم، واستعجالهم
الدارسون متفاوتون أشد التفاوت في هممهم، وتطلعاتهم، ورغبتهم في دراسة المواد الشرعية، فمنهم من يحرص على ذلك ويرغب فيه إلى أبعد الحدود، ومنهم من هو قانع بأقل القليل، ومنهم من هو زاهد حتى في اليسير.
فهذا التفاوت في الهمم والرغبات والاهتمامات يجعل من العسير التوفيق بين هذه المتناقضات والجمع بينها، سيما حين يضاف ذلك إلى تفاوتٍ في المستويات والقدرات والأعمار.
ليس من الممكن تحقيق هذه الرغبات ولا إغفالها جميعاً، ولهذا فإن إعداد الكتاب المناسب، ووجود الأستاذ المقتدر المتفاعل مع مادته، المقدِّر لمسؤوليته، الساعي لإرضاء ربه، ولخدمة شريعته، يساعد كثيراً، ويعين على التغلب على ذلك كله.
ينبغي على المعلمين مراعاة مصلحة الطالب وفق مقدرته الثقافية، وحصيلته اللغوية، فلا عبرة لتذمر المتذمرين، ولا اعتراض المعترضين.
فالمربي الناجح والأستاذ الصالح هو الذي لا يستجيب لردود الأفعال ولا يشتغل بها، وإنما يلتزم بالخطة الدراسية، وبالكتب المقررة المنهجية، وله معالجة هذه الفروق الفردية بمحاولات استثنائية.
خامساً: التعريفات والمصطلحات
من الصعاب التي يعاني منها معلمو المواد الشرعية للدارسين الناطقين بغير العربية أن العلوم الشرعية تحوي على العديد من التعريفات والمصطلحات التي يصعب على المعلم التصرف فيها، ويصعب على المتعلم فهمها وإدراكها بحصيلته اللغوية المحدودة.
ولهذا روعي أن يقتصر في المستويات الدنيا على تدريس القرآن والحديث الشريف معتمدين في ذلك بعد الله على التلقين، وفي الحديث مقتصرين على الأدعية والأذكار اليومية التي يمكن توضيحها من الناحية العملية وبالممارسة.
وإرجاء المواد الأخرى إلى المستويات العليا، حيث يكون الطالب قد حصل على قدر من اللغة تمكنه وتعينه على فهم هذه التعريفات والمصطلحات مع تيسيرها وشرحها بالمترادفات الأخرى، وبالتمثيل والشرح العملي واستعمال بعض الوسائل المعينة على فهم ذلك.
سادساً: قصر مدة الدراسة(9/266)
تتراوح مدة الدراسة في معاهد اللغة العربية في العالم العربي بين السنتين والسنة والنصف، وهذه المدة غير كافية خاصة للطالب المبتدئ ليجيد مهارات اللغة المختلفة، من تحدث، ونطق صحيح، وقراءة، وكتابة، وتعبير، ودراسة العلوم الشرعية ولو بأقل قدر من تلاوة، وحديث، وسيرة، وفقه، وعقيدة.
هذا بجانب ما يعانيه بعض الطلاب من مشاكل خاصة وعامة، وعدم ملاءمة الأجواء لهم مناخياً، واجتماعياً، ومعيشياً.
ويخطئ كثير من الباحثين حين يقارنون اللغة العربية - أعزها الله - بغيرها من اللهجات التي هي شبيهة باللهجات العامية للعربية، فالدارس للغة الإنجليزية أوالفرنسية مثلاً يحتاج إلى لغة التخاطب التي يحصل عليها ممن يعاشرهم، وربما احتاج إلى كتابتها دعك عن غيرها من اللهجات، حيث تدرس تلك اللهجات والرطانات في سَنَة أوأقل من سَنَة، فقياس العربية بغيرها من جملة الظلم البين الواقع عليها من أبنائها.
هذا بجانب ضعف الإمكانات وقلة التجارب بالنسبة للغة العربية مقارنة بما يبذله أصحاب تلك اللغات لنشرها.
سابعاً: اختلاف الأهداف
تختلف أهداف الخطط الدراسية والدارسين؛ بعض المعاهد هدفها تخريج أساتذة يقومون بتدريس اللغة العربية لبني جنسهم، ولهذا بعد أن يخلِّص الدارس المرحلة الأولى ينتقل إلى دراسة برنامج لمدة تتراوح بين سنتين إلى أربع تكون الغلبة فيها للمواد التربوية.
وبعض المعاهد تعنى بدراسة ما يعرف "باللغة المتخصصة" التي تهيئ الدارس وتعينه على مواصلة دراسته في الكلية التي يريدها.
بينما نجد أن هدف الدراسات الإسلامية هدف جانبي تابع وليس أصيلاً في كثير من المعاهد التي تعنى بتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها.
وهذا يعتبر سبباً سالباً، ومعوقاً لإعطاء الدارس الذي لم يتمكن من مواصلة دراسته الجامعية أوتخصص تربوياً ليكون معلماً للغة العربية في بلده أوغيره ما يحتاجه في حياته، دعك عما يقدمه لإخوانه المسلمين.
لهذا من المهم جداً التأكيد والتأمين على أهمية الدراسات الإسلامية لمتعلمي اللغة العربية، وزيادة مقرراتها وساعاتها، مع الحرص على تأهيل معلميها تأهيلاً يمكنهم من توصيل هذه المادة بوسائل ناجعة وطريقة مفيدة.
ثامناً: التوسع في الترجمة
من العوامل المعيقة لتعليم اللغة العربية والعلوم الشرعية للناطقين بغير العربية التوسع في الترجمة نحو ترجمة معاني القرآن العظيم – وأنى للغة غير العربية من الأساليب والألفاظ والمعاني أن تسع معاني القرآن - وصحاح السنة، وكتب السيرة، وكثير من الرسائل، على الرغم من الأخطاء الفادحة، والمعاني المبكية المحزنة التي تحويها تلك التراجم، والتشويهات المنفرة منها.
لم يكتف بترجمة ذلك إلى اللغة الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والروسية، واليابانية، بل تعدى ذلك إلى لهجات الأمم الإسلامية، إلى لهجات الهوسا، والفلاتى، والأردو وغيرها.
لا شك أن لهذه التراجم فوائد، ولكن ضررها أكبر من نفعها، بجانب الأخطاء والتشويهات المصاحبة لها، ولو لم يكن لها ضرر سوى اكتفاء البعض بها واقتصارهم عليها، والحيلولة دونهم ودون تعلم لغة القرآن ورسول الإسلام لكفى.
لو لجأ السلف الصالح إلى الترجمة إلى لهجات الداخلين في الإسلام من الفرس والقبط وغيرهم لما عمت اللغة العربية تلك الديار، وأصبحت هي لغة التخاطب والتدريس، بجانب أنها اللغة الرسمية، ولما نبع منهم أمثال سيبويه، وابن فارس، والجوهري، وغيرهم كثير رحمهم الله.
إذا كانت ترجمة كتب وثقافات الأعاجم إلى اللغة العربية على الرغم من إثرائها للغة العربية التي ازدهرت في عهد الخليفة المأمون العباسي سامحه الله أفسدت العقول وخربت العقائد، وكانت سبباً لتعذيب والتضييق على الأكابر من أئمة أهل السنة، بل وقتل بعضهم في تلك الفتنة المشؤومة التي تولى كبرها أئمة الضلال، صدقت فيها نبوءة ذلك القسيس الصادق الكذوب، عندما استشاره ملك قبرص في ذلك الحين، حين طلب منه المأمون إرسال كتبهم لترجمتها إلى العربية، قال له: أرسلها له، والله ما دخلت بلداً إلا أفسدته.
فالتوسع في الترجمة من العربية إلى اللغات واللهجات الأخرى عائق كبير للغة العربية، وصاد مانع لكثير من المسلمين وغيرهم لتعلم اللغة العربية، ودراسة العلوم الإسلامية باللسان العربي المبين.
ولو بذلت تلك الأموال التي تبذل الآن في الترجمة لإنشاء معاهد جديدة، ولتطوير القائم، ولطبع الكتب الأساسية لتعليم اللغة العربية والعلوم الشرعية للناطقين بغيرها، وتقويم المناهج، لكان المردود أكبر، والفائدة أعظم، والنتائج أسلم.
ولله در مالك بن أنس القائل: ما لم يكن في ذاك اليوم ديناً، فلن يكون اليوم ديناً، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، هذه القواعد الجليلة والكلمات المفيدة التي خرجت من في عالم المدينة، داخلة في سائر أمور الدين، من العقائد، والعبادات، والسلوك، والتربية، والتعليم، وغيرها من المجالات.(9/267)
وأخيراً تذكروا أحبتي الكرام أن الله أعزنا بالإسلام، وشرفنا بالانتساب إلى ملة خير الأنام، محمد بن عبد الله عليه أفضل وأزكى الصلاة والسلام، وجعل لساننا لسان ولد عدنان، فمن طلب العزة والرفعة والمنعة في غير ذلك أذله الله.
والله أسأل أن يعين ويوفق المسؤولين، والقائمين، والمهتمين بشأن تعليم اللغة العربية وعلوم الدين لأبناء المسلمين، وأن يتقبل منهم، ويبارك في مجهوداتهم، وييسر للاحقين التأسي بالسالفين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
00000000000000000
النصائح الغالية في التحذير من أسباب الخلاف الواهية
نوعا الاختلاف
أسباب التنافر والانقسام في صفوف العاملين في مجال الدعوة من أهل السنة
أولاً: التقصير في الجانب العقدي والاشتغال بالجانب السياسي
ثانياً: وصم البعض بأنهم تكفيريون، أوسَرُورِيُّون (!!)
ثالثاً: الاختلاف في وسائل العمل
رابعاً: الانفصال والخروج عن جماعة من الجماعات
خامساً: سوء الظن وانعدام الثقة
سادساً: عدم التثبت في المنقول
سابعاً: الدخول في العمل العام
ثامناً: الاختلاف في الحكم على بعض النوازل
تاسعاً: الإعلان بالنصيحة
عاشراً: ضعف التزكية وقلة الورع
خاتمة
تمهيد
"الخلاف شر"، هذه الكلمة المضيئة، والحكمة البليغة، والمقولة الطيبة، التي ينبغي أن تكتب بماء الذهب، وأن تحفظ وتلقن ويعيها العلماء قبل العامة، والقادة قبل الأتباع، والدعاة قبل المدعوين، لحاجتهم إليها، عليهم أن يعضوا عليها بالنواجذ، وينقشوها في البواطن، ويحرصوا على تعليمها للأكابر والأصاغر، والأقارب والأباعد، والأصدقاء والأعداء.
هذه الكلمة الطيبة صدرت من عالم فقيه، وإمام نبيه، من عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد معلمي ومفقهي الكوفة في زمانه، وذلك عندما أتم الصلاة الرباعية بمنى مع الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، وقيل له في ذلك: كيف تتم وقد صليتَها ركعتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ علل إتمامه بأن "الخلاف شر"، إي وربي الخلاف شر مستطير، وداء خطير، وعيب كبير.
أتم عثمان رضي الله عنه الصلاة الرباعية بمنى متأولاً لذلك، واعتُذِرَ عنه بأن الموسم يحضره عدد من حديثي العهد بالإسلام من الأعراب، فخشي أن ينطبع في أذهانهم أن الصلاة مثنى مثنى، لعدم معرفتهم بالرخص الشرعية، وقيل فعل ذلك لأنه تزوج بمكة.
وأياً كان سبب إتمام عثمان رضي الله عنه للصلاة الرباعية بمنى، فهو إمام مجتهد مأجور، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول المعصوم.
وشاهدنا إتمام ابن مسعود معه وهو إمام من أئمة الصحابة المقتدى بهم، وشيخ من شيوخهم، مع يقينه التام أن الحاج يقصر الرباعية، ويجمع بعرفة ومزدلفة ولو كان من أهل مكة أومنى، دفعاً لشر الشرين بخير الشرين.
هذه الكلمة ما من إمام ولا داعية إلا وهو يحفظها، ويرددها، ويستشهد بها، ويستعملها للإصلاح بين المتخاصمين، ولكن البعض هدانا الله وإياهم سبل السلام عندما يتعلق الأمر بهم يحيدون عنها، ومن قبل عن العديد من الآيات، والأحاديث، والآثار، والحِكَم التي تحذر من الاختلاف، وتنهى عن التدابر والتباغض، وتأمر بالائتلاف والاجتماع والتسامح، ونسي هؤلاء أوتناسوا أنهم يرتكبون بذلك إثماً عظيماً، ويقترفون ذنباً كبيراً، ويعيبون عيباً مشيناً، لأنهم يأمرون الناس بما لا يأتونه، وينهونهم عما هم يقترفونه، وقد توعد الله هذا الصنف، ونهى عن هذا السلوك: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون"، "يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"، وقال عز وجل على لسان شعيب عليه السلام: "وما أريدُ أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه".
أصرح وأشد ما ورد في الوعيد عن ذلك ما صحَّ عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تك تأمرُ بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنتُ آمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".
ولله در القائل:
لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
واحذر أن يكون مثلك مثل:
كدودة الغزل ما تبنيه يهدمُها وغيرها بالذي تبنيه ينتفعُ
مخالفة الآمر الناهي من العلماء والدعاة لما يفعل ويذر قبيحة من القبائح، وسوءة من السوءات في أي أمر من الأمور، ولكن قبحها يشتد، وخطرها يزيد ويتعدى إذا كانت متعلقة بإخوانه من العلماء والدعاة.(9/268)
فهجر المسلم وقطيعته لأخيه المسلم حرام وكبيرة من الكبائر الجسام، وكذلك سوء الظن والنيل والانتقاص للمسلم حرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله"، الحديث، وقوله: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا".
وأسوأ من ذلك كله الحسد، والتباغض، والتدابر، ولذلك نهى عنه وحذر منه الرسول الكريم: "لاتباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث".
ويكفي الحسد والبغضاء سوءاً وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لهما بالحالقة التي تحلق الدين وليس الشَّعر: "دبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم، الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم، أفشوا السلام بينكم".
فكيف إذا اتصف بعض العلماء والدعاة بتلك الصفات الذميمة، ومارسوا تلك الأخلاق الرذيلة؟ ومع من؟ مع طائفة من إخوانهم العلماء، وطلاب العلم والدعاة.
لاشك فإن المصيبة تكون أعظم، والبلية تكون أكبر، والرزية تكون أفدح، والخسارة تكون متعدية، لتعدي ذلك للأتباع والتلاميذ.
ما من شيء يحز في النفس، ويقض المضاجع، ويؤرق المخلصين، مثل الاختلاف، والتشرذم، والتحزب، والتحاسد، والتباغض في صفوف أهل السنة والجماعة خاصة، وفي صفوف المسلمين عامة، على الرغم من أن دواعي الائتلاف والاجتماع متوفرة، وأسباب الفرقة والتحزب والتنافر والتباغض واهية، ونتيجة هذا التدابر ظاهرة، وخسارته فادحة.
لو لم يرد في الأمر بالائتلاف والنهي عن الاختلاف إلا قوله عز وجل: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون"، لكفى، كيف وكتاب الله وسنة رسوله يأمران بالائتلاف، وينهيان عن الاختلاف.
لا شك أن الائتلاف والاختلاف آيتان من آيات الله، وسنتان من السنن الكونية، ولهذا ختمت الآية السابقة بقول الله عز وجل: "كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون"، أي لعلكم ترشدون.
يؤسف المسلم الحق، ويحزنه غاية الحزن، أن يرى ويسمع ما يحدث بين العلماء وحملة الشريعة من الهجر، والنفرة، والقطيعة، والوقيعة، وسوء الظن، مع علمهم بحرمة ذلك العمل، والآثام المترتبة عليه، وما يجره على الأتباع من الويل والشرور، وما يحجبه عنهم من النعم والسرور، مما جعل التلاميذ والأتباع شيعاً وأحزاباً، وفرقاً كل حزب بما لديهم فرحون، وبما يسمعون من قادتهم ناعقون، ولبعضهم بعضاً لاعنون، ومضللون، بل ومكفرون، وبما يترتب على ذلك ساهون، لاهون، جاهلون، وصدق ابن عباس رضي الله عنهما حين قال: "كل من عصى الله فهو جاهل".
بل تعدى الأمر مداه، وبلغ السيل زباه، حيث تطاول الصغار الأغرار على الكبار، وحكم العامة على الخاصة، وضلل الجاهل العالم، وبدَّع السفيه الحليم، وسلك بعضهم مع بعض مسلك الخوارج الأشرار، الذين أمَّنوا وسالموا عبدة الأوثان والشيطان، وعادوا وقتلوا وكفَّروا أولياء الرحمن، وبقايا السلف الكرام، ويصدق على هؤلاء قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت".
وله در ابن عمر عندما سئل عنهم فقال: "ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفِّر بعضهم بعضاً"، إذ التكفير والتضليل والتبديع بغير حق لإخوان العقيدة ورفقاء الدرب من الذنوب العظيمة، والآثام الجسيمة، والصفات الرذيلة، وينبئ عن دناءة الأخلاق، وسوء الآداب أوانعدامها.
أخوف ما يخشاه المرء أن يكون الدافع لهذا الصنف في هذا المسلك المشين، وهو سوء ظنهم بإخوانهم، والحط من أقدارهم، ورميهم بما هم بريئون منه، مع علمهم بجلالة قدرهم، وسلامة معتقداتهم، وطهارة بواطنهم، الحسد الذي يأكل قلوبهم، والغيرة المذمومة التي سيطرت على نفوسهم، وطغيان الماديات على تصرفاتهم، وأن يشملهم قول الله عز وجل: "وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".(9/269)
رحم الله الشيخ البيجاني حين قال: (وأشد ما تكون المنافسة، وأكثر ما يكون الحسد، بين أهل الصنعة الواحدة، والشرف المتماثل، والبيوت المتجاورة، ولكنه لا يعيش إلا في قلوب خبيثة، ولا ينبت إلا في نفوس ضعيفة، وهو في العلماء أكثر منه في غيرهم، كما يقول مالك بن دينار رحمه الله: شهادة القراء مقبولة في كل شيء، إلا شهادة بعضهم على بعض، فإنهم أشد تحاسداً من التيوس؛ وتقدم أن العلماء بالحسد يدخلون النار قبل الحساب بسنة كاملة... وإنما يتحاسد العلماء إذا كان علمهم لغير الله، وأرادوا به صرف وجوه الناس إليهم، وبعضهم يتعلم ويترك العمل والاكتساب ويصبح عالة على الناس، ويعتقد أنهم متى رأوا غيره خيراً منه تركوه وأعرضوا عنه، ولذلك فهو يحسد أهل الفضل قاطبة، ويكره العلماء أجمعين، ولا يثني إلا على ميت أمن شره، أوغائب لا يخاف مكره، ولو أنهم طلبوا العلم لله، وأرادوا به الآخرة، وعملوا لدنياهم كسائر الناس، لصاروا هم السادة والقادة بكل فضيلة).
نوعا الاختلاف
الاختلاف نوعان كبيران، وقسمان خطيران:
أحدهما: خلاف سائغ جائز شرعاً.
وثانيهما: خلاف ممنوع محرم شرعاً.
ولكل من النوعين شعب شتى، وفروع مختلفة.
ومن أمثلة الخلاف السائغ الجائز ما يلي:
1. اختلاف التنوع، نحو صيغ الأذان، وأوجه الإحرام، وصيغ التشهد، وما شاكل ذلك.
2. اختلاف في بعض الأمور التي تكافأت فيها الأدلة، نحو تكفير تارك الصلاة كسلاً وعدم تكفيره، وقراءة المأموم للفاتحة في الصلاة الجهرية، وقراءة البسملة في الفاتحة في الصلاة، ونحوها.
3. اختلاف في الأمور التي لم يرد فيها نص.
4. اختلاف في وسائل العمل.
لا شك أن الاختلاف السائغ منه ما هو راجح، ومنه ما هو مرجوح، فمن أصاب الحق فيه إن كان من أهل الاجتهاد فله أجران، ومن أخطأ الحق فله أجر.
أما الاختلاف الممنوع المحرم شرعاً فمن أنواعه ما يأتي:
1. اختلاف التضاد.
2. اختلاف سببه اقتراف البدع الكفرية.
الذي يعنينا في بحثنا هذا النوع الأول، وهو الاختلاف السائغ الجائز الذي لا يوجب عداء ولا هجراً، دعك من أن يوجب تضليلاً أوتكفيراً، وكل ما نتج من ذلك من نفرة وهجر، وعداء، وتضليل، ونحوه سببه البغي والحسد، أوحمل بعض الأمور على غير محملها الشرعي.
أسباب التنافر والانقسام في صفوف العاملين في مجال الدعوة من أهل السنة
إذا أردنا علاج أي أمر من الأمور لابد من تشخيص الداء تشخيصاً صحيحاً دقيقاً، ثم بعد ذلك نقدم الحلول التي تناسب هذه الأدواء.
لا أشك قط أن جل الأسباب التي أدت إلى التفرق والتشرذم في أوساط العاملين في مجال الدعوة في صفوف أهل السنة والجماعة في هذا العصر غير موضوعية، وهي لا تدعو بحال من الأحوال إلى التنافر والتباغض، فكيف بالتضليل والتكفير؟ لأن جلها ناتج عن خلاف جائز مستساغ، وقد اختلف في ذلك وفي أكبر منه سلفنا الصالح، بل وتقاتلوا، ولكن مع كل ذلك لم تحدث بينهم النفرة، والفرقة، والتباغض، والتحاسد، والكيد، كما هو حادث الآن في خلفهم، وكان ينبغي على الخلف الصالح أن يسلك مسلك سلفه الفالح، وأن يسعهم ما وسع أولئك، حتى لا يشملهم قول من قال: "من لم يسعه ما وسع السلف الصالح فلا وسَّع الله عليه".
ويمكننا بالاستقراء والمعايشة والتجربة أن نورد الأسباب الرئيسة التي أدت ولا تزال تؤدي إلى الفرقة، ونخرت ولا تزال تنخر في صف الأخيار، كي تستبين سبيل المؤمنين، وتتضح طريق المتقين، التي يرفعها البعض ويبرر بها سبب نفرته واختلافه مع الآخرين، لنعلم أنها ليست من الأسباب التي توجب العداء، وتسبب الفرقة، وتحدث التشرذم والتحزب الممقوت الذي حذرنا منه ديننا وخوفنا منه ربنا ورسولنا، ونهانا عنه سلفنا: "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء"، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيَّ عن بينة.
أسباب التفرق، والتحزب، والهجر كثيرة جداً، منها ما هو منطوق منظور، ومنها ما هو مضمر مجهول، منها ما يرجع إلى قصور في الفهم، أوخطأ في التأويل، أو عجز في التعبير، ومنها ما يرجع إلى أمراض قلبية، وعقد نفسية، وأغراض شخصية، وأهواء مطوية، وهذا النوع الثاني لا قبل لأحد بعلاجه، ولا سبيل للخلاص منه إلا التضرع والدعاء وسؤال رب الأرض والسماء، مالك القلوب ومصرفها أنى شاء، فنسأله سبحانه أن يطهر قلوبنا وقلوب جميع إخواننا العاملين وغيرهم من الحسد والبغضاء، وعن الأغراض والأهواء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، فنقول مستمدين منه العون والسداد:
أولاً: التقصير في الجانب العقدي والاشتغال بالجانب السياسي
من أسباب التفرق والهجر والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة في هذا العصر تركيز بعض الجماعات على العمل العام، وتقصيرهم في جانب إصلاح العقائد، مما جعل طوائف من العاملين يحملون على هؤلاء ويصفونهم بالتقصير والتهاون في أمر ينبغي أن يكون هو الأصل والأساس.(9/270)
لا شك فإن أمر العقيدة هو أصل الأصول، ولا يحل لجماعة أن تعنى بغيره قبل إحكامه وإصلاحه، فقد جلس الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة يعالج هذا الأمر ويكابده، والقرآن المكي كله كان هذا موضوعه، وكل ذنب سوى الشرك مغفور، وكل عمل قبل التوحيد محبط مهدور.
لكن هذا السلوك لا يوجب العداء، وإنما يستحق الرحمة والعطف، وينفع معه الرفق والحكمة، وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم عندما يُطلب منه أن يدعو على أعدائه من المشركين يقول: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، لقد أمر الله عز وجل موسى وهارون عليهما السلام أن يرفقا بالطاغية الباغية فرعون، قائلاً: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أويخشى"، فكيف بالمسلم؟ والرفق ما دخل في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه.
لله در عمر ورضي الله عنه، فقد كان رفيقاً رحيماً، روى الحسن قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام أتاه راهب شيخ كبير متقهل، عليه سواد، فلما رآه عمر بكى، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمراً فلم يصبه، ورجا رجاء فأخطأه؛ وقرأ قول الله عز وجل: "وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة".
ولهذا كان من دعاء الإمام أحمد رحمه الله: "اللهم من كان من هذه الأمة يظن أنه على الحق، وهو ليس من أهله، اللهم فرده إلى الحق ليكون من أهله"، أوكما قال.
فالواجب على العلماء والدعاة بيان الحق وتوضيح السنة من البدعة، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن اتبع الحق فبها، ومن لم يتبع روجع حتى يشرح الله صدره للإسلام.
الهجر وسيلة من وسائل التأديب، وطريقة شرعية من طرق التعزير، شريطة أن لا يتجاوز به الحد، وأن نتيقن من فائدته وجدواه، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، فإذا كان الضرر المترتب على الهجر والقطيعة أكبر من النفع يحرم الهجر في هذه الحال، فإن لكل مقام مقال، ولكل شأن حال، فما يناسب هذا يضر بالآخر، وهكذا.
ظهر من ذلك أن التقصير في الجانب العقدي مع الإقرار النظري بأهمية العقيدة وصدارتها لا يوجب العداء، وإنما يوجب التناصح، والدعاء، والرفق، والصبر، وتنوع الوسائل.
وثمة شيء آخر، وهو أن أفراد هذه الجماعة ليسوا سواء، فهم متفاوتون أكبر تفاوت، مع احتفاظهم بقدر مشترك من التوافق، فمن الظلم الحكم عليهم بحكم واحد، وإنزالهم منزلة واحدة.
فالمنسوبون والمنتسبون إلى هذه الجماعة في الجزيرة، والخليج مثلاً متميزون عن غيرهم من أهل البلاد الأخرى، فهم معنيون ومهتمون بأمر العقيدة ومشتغلون بإصلاحها، ويرجع الفضل في ذلك بعد الله عز وجل للأثر العميق الطيب لدعوة الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب طيب الله ثراه وبارك في مجهوداته وأتباعه ومن والاهم، وفي الجميع خير وبركة كما أخبر الصادق المصدوق: "المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ".
ثانياً: وصم البعض بأنهم تكفيريون، أوسَرُورِيُّون (!!)
من أسباب التفرق والهجر والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة في هذا العصر، وصم البعض لإخوانهم بأنهم تكفيريون، أوسروريون، أوخوارج كما زعموا، ومن ثم لم يكن لهؤلاء النفر شغل ولا هم ولا عمل إلا النيل والانتقاص من هؤلاء، والتحذير من موالاتهم، والاستماع إليهم، وغشيان مساجدهم ودروسهم ومحاضراتهم، أومطالعة كتبهم ورسائلهم، والكتابة والكلام عنهم، بمناسبة وغير مناسبة.
هذه التهمة ليس لها شبيه ولا مثيل، ولا ند ولا نظير، إلا وصم بعض الأخيار بأنهم وهابية أوخامسية، فكما أنه لا وجود لعقيدة وهابية ولا فرقة خماسية، كذلك لا توجد عقيدة سرورية، وأخشى ما أخشاه أن يكون الدافع لإطلاق هذه الألقاب الهوى.
إني معاشر ومخابر للواصفين والموصوفين بالسرورية، ولا ينبئك مثل خبير، فلم أعلم فرقاً في الاعتقاد، فالجميع على عقيدة أهل السنة والجماعة، والجميع سلفيون، إلا بعض الفروق الطفيفة التي لا يخلو أفراد فرقة من الفرق منها.
ومن الغريب العجيب أن الفتن والمصائب كانت تجمع بين المسلمين، وتوحد كلمتهم، وتلم شملهم، وتنسيهم خلافاتهم، إلا في هذا العصر، فإن ما ابتلي به المسلمون من النكبات، وما حل بهم من المصائب، وما نزل بهم من النوازل، كان سبباً وعاملاً للفرقة والتشتت والتحزب، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فهذه البدعة السيئة ظهرت عقب حرب الخليج الأولى واستفحلت بعدها.(9/271)
عندما ظهرت بدعة الخروج، وهي أول البدع ظهوراً وخطراً على الإسلام، ناظرهم أئمة الدين علي، وابن عباس، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وردوا شبههم، وبينوا قلة فقههم وضحالة تفكيرهم، فرجع من رجع منهم، وبقي من كتب الله عليه الشقاء، وسنمثل لذلك بمحاورة ومناظرة عمر بن عبد العزيز للخوارج كما رواها ابن عبد البر: (فلما قدموا على عمر أمر بنزولهم، ثم أدخلهم عليه، فجادلهم حتى إذا لم يجد لهم حجة رجعت طائفة منهم، ونزعوا عن رأيهم، وأجابوا عمر، وقالت طائفة منهم: لسنا نجيبك حتى تكفر أهل بيتك، وتلعنهم، وتبرأ منهم؛ فقال عمر: إنه لا يسعكم فيما خرجتم له إلا الصدق، أعلموني هل تبرأتم من فرعون، أولعنتموه، أوذكرتموه في شيء من أمركم؟ قالوا: لا؛ قال: فكيف وسعكم تركه ولم يصف الله عز وجل عبداً أخبث من صفته إياه، ولا يسعني ترك أهل بيتي، ومنهم المحسن والمسيء، والمخطئ والمصيب؟!).
الذين قاموا بمناظرة هؤلاء المبتدعة من أولي أمر المسلمين، وما قاموا به من أوجب واجباتهم نحو هذا الدين.
جرت بعض المناظرات بين المتهمين والملقبين بذلك وبين من يتهمهم، ودلل لهم المتهمون بأنهم لا يدينون بشيء مما رموا به، ومع ذلك نجد البعض يصر أن هذا من باب التقية، ويجدد ويكرر تهمه، وهذا من الظلم البين والكِبر الظاهر: "الكِبْر بطر الحق وغمط الناس"، ومعنى "بَطَرُ الحق" أي دفعه، والمسلم مطالب أن يحكم على أخيه المسلم بما ظهر منه، وبما قاله لسانه وخطاه بنانه، لا أن يشكك في ذلك، ويتهم النوايا والسرائر التي لا يعلمها إلا الله.
فهذه تهمة مختلقة باطلة، وكل ما بني عليها فهو باطل.
ثالثاً: الاختلاف في وسائل العمل
لا ينبغي أن يؤدي اختلاف الناس في وسائل العمل وفي تقديرهم لفعالياته إلى الهجر والتدابر والتنافر، فكل ميسر لما خلق له، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
ولكن ما نراه اليوم من التنافر والتباغض يرجع كثير منه إلى اختلافهم في وسائل العمل، وإلى اهتمام بعض الفرق والطوائف ببعض المناشط دون بعض.
ومما لا شك فيه أن مثل هذا الاختلاف لا يترتب عليه عداء ولا يمثل خطراً على الإسلام، وينبغي أن يكون هناك تنسيق وتعاون بين سائر العاملين في مجالات الدعوة المختلفة، حتى تثمر هذه الأعمال وتتضافر الجهود لتحقيق ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، من غير عيب ولا شين لطائفة من الطوائف.
هذا كله إذا صلحت النية وسلمت الضمائر.
رابعاً: الانفصال والخروج عن جماعة من الجماعات
من أسباب الهجر الممقوتة، وعوامل الفرقة المشاهدة المحسوسة، وتهويشات الشيطان المألوفة، الانفصال والخروج والانشقاق عن جماعة من الجماعات، سواء كان خروجاً فردياً أوجماعياً، حيث يحل الهجر محل الوصل، والبراء محل الولاء، والفرقة محل الألفة، فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويكفي هذا المسلك سوءاً، وهذا الخلق قبحاً أنه من سمات أهل الأهواء، وليس من صفات أهل الدين والتقوى، وقد سبق وصف ابن عمر للخوارج بدناءة الأخلاق، لتكفيرهم وتضليلهم بعضهم البعض، ولله در أمير المؤمنين علي عندما سئل عن الخوارج الذين شقوا عليه عصا الطاعة، وفرقوا الجماعة، وعادوا أهل الإسلام، ووالوا وساعدوا أهل الشرك والأوثان، لم يزد إلا أن قال: "إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم"، وأمر أن لا يبادروا بالقتال حتى يبادروا هم.
هذا الداء العضال والمرض المهلك البطال عامل أساس في إشاعة التحاسد والتباغض في صفوف العاملين في الدعوة، ومما يؤسف له أن البعض لا يتعظ ولا يستفيد من أخطاء السابقين، ولا يحذر من جهل الجاهلين، فيقع فيما كان منه يخوِّف وينذر.
ومما تجدر الإشارة إليه، ويجب التنبيه عليه، أن الانتماء إلى الجماعات والأحزاب الإسلامية جائز إن كانت هذه الجماعات والأحزاب قائمة على مذهب أهل السنة والجماعة، وعلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وأنه من باب التعاون على البر والتقوى، ولا حرج على المنتسب لأي جماعة من هذه الجماعات أن يخرج منها إلى خير منها، خاصة إذا شعر أن جماعته الأولى أخلت بأمر من الأوامر الشرعية، أوإن غيرها أكثر فعالية منها، أولم يجد فيها بغيته، وليس هناك ما يلزم المرء أن يبقى في جماعة من الجماعات حتى الموت.
ولا ينبغي لجماعته الأولى التي تخلى عنها لأي سبب من الأسباب من غير أن ينال منها أن تجد عليه، أو تحمل عليه، ولا أن تغير معاملتها له، طالما أنه ملتزم بمنهج أهل السنة والجماعة.
فقد انتقل كثير من أهل العلم من مذهب إلى مذهب، ورجع بعضهم عن بعض الأقوال التي كانوا يعتقدونها ويرجحونها، فلم يثرِّب عليهم أحد، ولم ينكر بعضهم على بعض.
ومن غرائب الاستدلال استدلال البعض على جواز هجر وقطع من خرج من جماعة من الجماعات بقصة هجر الرسول صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين لكعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم.(9/272)
وهذا استدلال مع الفارق والفارق الكبير، فالرسول صلى الله عليه وسلم المؤيَّد بالوحي هجر هؤلاء ليتثبت من صدقهم وعدم نفاقهم، وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيفتيه في أمرهم، وقد حدث أن نزل قرآن بتبرئتهم من النفاق.
هذا بجانب أن هؤلاء الثلاثة خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم كفر، وأن جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي الجماعة الوحيدة التي تعبد الله في الأرض من بني آدم، فهل هناك وجه للمقارنة بين الجماعة المسلمة الأولى وبين الجماعات التنظيمية اليوم؟!
ليس لهذا النوع من الهجر والتباغض سبب إلا الجهل والهوى، فينبغي لقادة هذه الجماعات ولقواعدها أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي إخوانهم، وأن لا ينجروا وراء أهوائهم وعواطفهم، وأن يكون ولاؤهم أولاً وأخيراً لله عز وجل، وأن لا يجعلوا ولاءهم لجماعتهم وأتباعهم أكبر من ولائهم لله، فيقعوا في المحظور، وعليهم أن لا ينسوا حقوق المسلم نحو إخوانه المسلمين التي بينها لنا رسول رب العالمين: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه".
خامساً: سوء الظن وانعدام الثقة
كثير من الجفاء والتباغض والشحناء بين العاملين في مجال الدعوة مرده إلى سوء الظن وانعدام الثقة، وإلى التأويلات الخاطئة والتفسيرات الجائرة، لما يصدر من بعضهم نحو بعض.
لهذا نهانا ربنا عن الظن السوء: "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم".
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسَّسُوا ولا تجسَّسُوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ههنا، التقوى ههنا - ويشير إلى صدره – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه، وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
لو صفت القلوب، وسلمت الضمائر، وطهرت السرائر، وحمل المسلم ما يصدر من أخيه على أحسن المحامل لزالت كثير من هذه الشكوك، ولتبددت هذه الحزازات.
الظن المنهي عنه مرادٌ به التهمة، ولان النفوس جبلت على الظن دلنا رسولنا على كيفية التخلص من ذلك، وهو عدم التحقيق، والبحث والتفتيش، فقال: "إذا ظننتَ فلا تحقق، وإذا حسدتَ فلا تبغ، وإذا تطيَّرتَ فامض" الحديث.
قال القرطبي في تفسير آية الحجرات: (قال علماؤنا: فالظن هنا هو التهمة، ومحل التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها).
سادساً: عدم التثبت في المنقول
نقل الكلام وعدم التثبت فيه يوغر الصدور، ويزرع الوحشة في النفوس، فالسعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فكيف إن كانت زوراً وبهتاناً، وزيد فيها ونقص منها؟، وصدق من قال: "وما آفة الأخبار إلا رواتها"، وصلى الله وسلم على القائل: "لا يدخل الجنة نمام"، وفي رواية: "قتات"، ويكفي النميمة قبحاً أن قرنت مع البول، وهو أطهر منها، وجعل غالب عذاب القبر بسببهما، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين، فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة".
فالنمام فاسق بحكم الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"، يجب على العلماء والقادة أن يتنزهوا عن هذا المسلك المشين، وأن يحذروا أتباعهم أن يلغوا في هذا المرتع الآسن.
ينبغي للقائد والعالم والأمير أن ينصح أصحابه، وأن يوجه تلاميذه إلى ما فيه خيره وخيرهم، لأنه مسؤول عنهم، ورحم الله عمر بن عبد العزيز حين قال موجهاً جلساءه وموضحاً لهم شروط صحبته ومعاشرته، حتى يكونوا على بينة.
روى الإمام الأوزاعي رحمه الله أن عمر بن عبد العزيز قال لجلسائه: "من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي له، ويكون لي على الخير عوناً، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحداً، ويؤدي الأمانة التي حملها بيني وبين الناس، فإذا كان ذلك فحيهلا، وإلا فقد خرج عن صحبتي والدخول عليَّ).
لم يكتف بعض القادة بالتجسس ويسمح بنقل الأخبار عن الآخرين حتى جعل له عيوناً على أتباعه أنفسهم، معللاً ذلك بأن مصلحة الدعوة والتنظيم تحتم ذلك، ولم يعلم أنه بذلك أصبح من المفسدين في الأرض وليس من المصلحين، ومن الغاشين للأتباع وليس من الناصحين لهم.(9/273)
روى أبو داود بسنده في سننه عن معاوية رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنك إن اتبعتَ عورات الناس أفسدتهم أوكدتَ أن تفسدهم"، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها.
لا ينبغي للتابع والتلميذ أن يكون بهذه الدرجة من الجهالة والوقاحة، وعليه أن يعلم أن الطاعة لا تكون لمن تجب عليه طاعتهم كالوالدين وولاة الأمر إلا في المعروف، وأنه إنما انتمى إلى تلك الجماعة ليزكي نفسه ويصلحها، لا ليفسدها ويخربها.
اعلم أخي المسلم أن الثقة لا يبلغ، وأن الكريم لا يسعى بالنميمة على مسلم، قال بعض الحكماء: لا يكون النمام إلا زنيماً؛ وهو المتهم في نسبه.
سعى رجل إلى بلال بن أبي بردة الأشعري برجل من أهل البصرة فقال: انصرف حتى أكشف عنك، وبعد البحث عنه وجده ابن زنا.
دخل رجل على سليمان بن عبد الملك رحمه الله فاستأذنه في الكلام، وقال: "إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته"، فقال: "قل"، فقال: "يا أمير المؤمنين، إنه قد اكتنفك رجال باعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، ولا تصغ إليهم فيما استحفظك الله إياه، فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً، ولا في الأمانة تضييعاً، والأعراض قطعاً وانتهاكاً، أعلى قربهم البغي والنميمة، وأجل وسائلهم الغيبة والوقيعة، وأنت مسؤول عما أجرموا، وليسوا بمسؤولين عما أجرمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره".
فويل للعلماء والدعاة من التلاميذ والأتباع، وويل كذلك للتلاميذ والأتباع من العلماء، إن لم يتق الله الجميع ويخشاه ويراقبه في السر والعلن، فالنميمة من أقوى عوامل التحاسد والتباغض والتفرق والتهاجر بين العلماء والدعاة: (فالعلماء لا يتباغضون ويختلفون لشيء بعد الحسد إلا النميمة، يسعى بها الجهال بينهم، وينقل بعض التلاميذ كلام أستاذه مبدلاً ومحرفاً، فيسبب لخبثه وبلادته الفتنة الشهواء، ويثير عواطف الجهال على شيخه، ويفتح لعلماء السوء باب الطعن على أستاذه، فيدخلون عليه بكل مصيبة، وينسبون إليه كل خطيئة، وقد يدخل النمام بيوت الله للعبادة فيخرج مأزوراً غير مأجور، يبدل ما سمع من الخطابة والتدريس بما شاءت له نفسه الخبيثة، وأوحى به إليه إبليس، وما كان أيسر أن يجتمع العلماء وينصف كل من نفسه، ولا يصدق من نمَّ له على إخوانه، وإذا بلغه شيء يسوءه سأل عنه صحته، وأحضر معه النمام يفضحه إن كان كاذباً، ويحذر الناس من شره إن كان صادقاً).
سابعاً: الدخول في العمل العام
من أسباب الخلاف وعوامل الفرقة والتباغض بين بعض العاملين في مجال الدعوة الدخول في العمل العام أوالمشاركة فيه، سواء كان في نطاقه العام أوالمحدود داخل الجامعات والمعاهد العليا، سيما فيما يتعلق بالتعاون والتنسيق مع بعض الجماعات والأحزاب، ويمثل ذلك ما حدث في انتخابات اتحاد جامعة الخرطوم قبل شهور، والتصدع الذي أحدثه دخول واشتراك نفر من أنصار السنة في الحكومة السودانية.
على الرغم من أن وجهات النظر في ذلك تختلف وتتباين بين مؤيد ومعارض، ومجيز ومانع، ولكن في نهاية المطاف فإن ذلك يعتبر من المسائل الاجتهادية القابلة للأخذ والرد، وليست من المسائل الفاصلة التي توجب العداء والنفرة، والتخاصم والتدابر.
فقد حدث هذا ويحدث من عدد من الجماعات الإسلامية في عدد من البلاد، وله إيجابيات وسلبيات، وينبغي أن تقدر كل حال بقدرها، وأن يحكم ذلك كله القاعدة الشرعية درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، وقبول خير الشرين دفعاً لشر الشرين، وما لا يدرك كله لا يترك جله، ونحو ذلك.
ثامناً: الاختلاف في الحكم على بعض النوازل
من أوجب الواجبات على أهل العلم الحكم على النوازل، وبيان حكم الشرع فيها قبل فوات الأوان، حتى لا يدعوا العامة في حيرة من أمرهم، فقد منَّ الله على هذه الأمة أن شريعتها حوت من الأصول الكلية والقواعد الأساسية ما هو كفيل بالحكم على أي نازلة من النوازل، إذ القياس والاجتهاد لمن يملكون أدواتهما مصدران من مصادر هذه الشريعة السمحة.
لقد ضمن الشارع الحكيم لهذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلالة أبداً، إذ لا تزال طائفة منها ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة.
أهل الاجتهاد مأجورون في كل الأحوال، إن أصابوا الحق فلهم أجران، وإن أخطأوه فلهم أجر، لأن الحق عند الله عز وجل واحد لا يتعدد.
قد يختلف أهل الحل والعقد من العلماء في حكمهم على نازلة من النوازل، وهذا ما لا حرج ولا تثريب فيه، وللحاكم أن يختار من هذه الأقوال ما تطمئن إليه نفسه، ويراه مخلصاً له عند ربه، بعد أن يجتهد فيها ولو كان عامياً، إذ العامي يجب عليه أن يجتهد في أقوال المفتين كما قرر ذلك الإمام الأصولي الشاطبي رحمه الله.(9/274)
ولكن الممنوع المحذور أن يثرب أويضيق بعضهم على بعض، بسبب اختلافهم في نازلة من النوازل، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الأسوة الحسنة حين استشار كبار أصحابه في أسرى بدر، فأشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يأخذ منهم الفداء، وأشار عليه عمر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما بقتلهم، فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر فلم يقتلهم، ولم يثرِّب أحدهم على الآخر، ولم يتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفاً من عمر وعبد الله بن رواحة، ثم نزل القرآن موافقاً لما رآه عمر وعبد الله، وبعد ذلك لم يثرِّب على أبي بكر رضي الله عنه.
فالحرج والتثريب على أحد من أهل العلم رأى رأياً مخالفاً لما رآه غيره من أهل العلم ولما يهواه الحاكم، كما حدث إبان حرب الخليج الأولى، من الظلم البين ومن التعدي الواضح.
وليت الأمر وقف عند الحرج والتثريب، ولكن تعداه من نفر من أهل العلم وتلاميذهم إلى الطعن والتشكيك والانتقاص والتحذير من أصحاب القول المخالف، وقد أثبتت الأيام صحة ما ذهبوا إليه، ووقع كل ما تنبؤوا به وحذروا منه وزيادة، عندما واصلت أمريكا حربها الصليبية على الإسلام وغزو دياره واحداً تلو الآخر.
الفرقة والتنافر والاختلاف والانقسام الذي أحدثه هذا السلوك المشين والتصرف الظالم لإخوة الدين، وما نتج عن ذلك من الوقيعة وسوء الظن وانعدام الثقة بين صفوف العلماء والدعاة وتلاميذهم، لا يعلم مداه إلا الله، حيث أوغر الصدور، وأزال الجسور، وهيأ للفجور في الخصومة، ولا تزال آثاره يتجرعها المخلصون، وعلقمه غصة في حلوق العاملين في الدعوة.
لا يدري والله المرء ويكاد يدري ما الذي دفع إلى ذلك، وخطأه واضح لكل ذي عينين، بيِّن لا يحتاج إلى بصيرة نافذة ولا إلى حلم وافر.
مما يحمد له أن مشايخنا الكبار وعلماءنا الأبرار أمثال الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد صالح العثيمين قدَّس الله أرواحهما وغيرهم كثير من الأحياء أطال الله أعمارهم ومتع بهم الأمة، لم يخوضوا في تلك الفتنة، فقد طهر الله ألسنتهم وأقلامهم من أن ينسب إليهم شيء من ذلك، وهذا هو المظنون بهم، والمؤمل فيهم، لسلامة صدورهم، وطهارة نفوسهم، ونفاذ بصائرهم، وعمق فقههم، نسأل الله أن يوفقنا وجميع إخواننا من العلماء والدعاة للاقتداء بهم وبسلفنا الصالح.
والله أسأل أن ينزع الغل والحسد والبغضاء والشحناء من قلوب العلماء والدعاة وأن يكون لهم في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه القدوة عندما قال عقيب موقعة الجمل ومقتل طلحة والزبير رضي الله عنهما: أرجو أن نكون ممن قال الله فيهم: "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً".
فينبغي للجميع أن يراجعوا مواقفهم، وأن يحاسبوا أنفسهم، فالرجوع إلى الحق فضيلة أيما فضيلة، والتمادي في الخطأ والإصرار عليه رذيلة ما بعدها رذيلة، وليحذروا الكِبْر والاستنكاف خاصة وهم لهم تلاميذ وأتباع مسؤولون عن تصرفاتهم، ومؤاخذون بجرائرهم، حتى تضمد الجراح وتعود الألفة والسماح مع إخوة الإيمان، ومحبة الإسلام.
وأرجو من الذين ظُلِموا وهُجِروا وانتقِصوا ونيل من عقيدتهم أن لا يغلبهم الشاعر العربي الفحل المقنع الكندي على العفو والصفح، وأن يسعهم ما وسعه، فحقوق الأخوة الإيمانية ليست بأقل من حقوق العصبة والأرحام، حيث قابل الهجر بالوصل، والجفاء بالمحبة، والظلم بالمسامحة، والسيئة بالحسنة، فخلدت آثاره، ومدحت أخلاقه، وشكرت فعاله، وتمثل بأبياته، وتغني واستشهد بأشعاره.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً".
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً
إذا أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجداً
وإن ضيعوا غيبي حفظتُ عيوبهم وإن هُمْ هَوَوا غيي هويتُ لهم مجداً
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هم دعوني إلى نصر أتيتهم شداً
وإن زجروا طيراً بنحس يمر بي زجرتُ لهم طيراً يمر بهم سعداً
ولا أحملُ الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحملُ الحقدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى وإن قلَّ مالي لم أكلفهم رفداً
واللهِ لو سلك العلماء والدعاة مع بعضهم بعضاً مسلك هذا الشاعر اللبيب، والعربي الأصيل، والرئيس النبيل مع إخوته وبني عمه على الرغم من التباين الواسع والبون الشاسع بينه وبينهم، لتوحدت كلمتهم، والتأم شملهم، وعلا شأنهم، وتغيرت أحوالهم، وسلموا من سائر عوامل الفرقة والتحزب.
أما إذا سلكوا مع بعضهم البعض حال ما وصفه الآخر مع ابن عمه فقال:
سريع إلى ابن العم بلطم خده وليس إلى داعي الندى بمجيب
فقد خسروا، وأشمتوا عليهم الأعداء وأفرحوهم، وأحزنوا الأصدقاء وأساءوا إليهم.
تاسعاً: الإعلان بالنصيحة(9/275)
من أسباب الخلاف بين العاملين في مجال الدعوة في صفوف أهل السنة في هذه الأيام، التي يرفعها البعض ضد آخرين، ويعتبرونها حاجزاً منيعاً للتآلف والاجتماع، ويعادون ويوالون بسببها، المجاهرة بالنصيحة لبعض ما يصدر من مخالفات لولاة الأمر من حكام المسلمين.
وبادئ ذي بدء لابد أن نقرر أن الأصل في النصيحة مع كل مسلم مستور الحال غير مجاهر ولا داع لبدعة ولا فسق أن تكون سراً، خاصة لولاة الأمر بشقيهم من العلماء والحكام، الذين يأتمرون بأمر الله، الذين أمرنا الله بطاعتهم في المعروف: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، ولهذا قيل: من نصحك سراً فقد نصحك، ومن جاهر لك بالنصيحة فقد فضحك.
المسارات التي يُنَاصح فيها ولاة الأمر من العلماء والحكام ثلاثة هي:
1. ما يتعلق بالسلوك – سواء كان سلوكه أوسلوك أهله.
2. ما يتعلق بمصالح الدين والعباد والبلاد.
3. ما يتعلق بالمخالفات الشرعية المتفق عليها.
كل ذلك مع تحري الصدق، والتزام الرفق، ومراعاة الحكمة والمصلحة.
فالمساران الأول والثاني لا يجوز الجهر بالنصيحة فيهما لما يترتب على ذلك من ضرر متعدٍ، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
فعلى الناصح أن يكرر نصحه سراً، وأن يتحرى الأوقات المناسبة، والفرص السانحة، فلكل مقام مقال، ولكل شأن حال، وعليه أن لا ييأس ولا يقنط.
أما المسار الثالث وهو ما يتعلق بالمخالفات الشرعية المتفق عليها وليس المختلف فيها، نحو الممارسات الشركية، وإقامة الحدود، وتحريم الربا، وصور البدع، والموالاة الكفرية، والمسكرات والمخدرات، ونحو ذلك، ينبغي أن ينصح فيها ولاة الأمر سراً ومراراً وتكراراً، ولكن إن لم تُجْدِ هذه المناصحة ولم تفد هذه المسارّة مع تفشي هذه المخالفة وانتشارها وظهورها، فلا مانع من الجهر بمناصحته ونصره على نفسه، وعونه على أداء واجبه، والقيام بمسؤولياته، حتى لا يعم الخراب ويظهر الفساد، وندعو ولا يستجاب.
إن لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وفي حالات كثيرة جداً يكره المرء إكراهاً ويحمل حملاً حيث لم تكن مندوحة عن الأمر، ولهذا قيل: "مكره أخاك لا بطل".
ومن فضل الله علينا أن مراتب الإنكار ثلاثة: باليد، واللسان، والقلب؛ فمن جاهد بأي جارحة من هذه الجوارح الثلاث فهو مؤمن.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
وعن ابن مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أوليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم".
الذي جعل هؤلاء النفر يشددون النكير على إخوانهم الذين يرون أنه من الواجب عليهم المناصحة والأمر والنهي، ربطهم بين الأمر والنهي للحكام والخروج عليهم، وليس هناك من علاقة بين الأمرين.
فالأمر والنهي مطلوب من العلماء لإخوانهم الحكام مرغوب فيه محذر أشد التحذير من التقصير والتهاون فيه، والخروج على الحكام منهي عنه.
وهذا من قواعد مذهب أهل السنة، ومن الثوابت التي لا يجادل فيها أحد عنده أدنى معرفة بمذهب السلف، إلا في حال الكفر البواح الذي ظهر فيه الدليل ولاح، وحتى في هذه الحال لا يجوز الخروج المسلح ولا يحل إلا إذا أمنت الفتنة، وإلا إذا ترجح الإصلاح على الإفساد، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع، وإمام غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم، كما هو معلوم من أبجديات الدين.
فمنع الأمر والنهي سواء كان سراً أوجهراً إذا التزمت الحكمة، وروعيت المصلحة، وخلصت النية، لا مبرر له أبداً، وهو خوف في غير محله، والسكوت عن الأمر والنهي مع تفشي المخالفات وظهورها من المهلكات.
والحكام ليسوا كلهم سواء في هذا العصر، فمنهم من يُحَكِّم شرع الله وليس لهم دستور ولا قانون سواه، ومنهم من يعلن أنه يحكم بشرع الله ويقيم حدوده، ومنهم من يعاديه ويتحاكم إلى دستور وضعي وقانون مستمد من القوانين الفرنسية والهندية وغيرها، فهل يستوون؟(9/276)
هذا بجانب أنهم غير معصومين، بل لحوم ولاة الأمر من العلماء أكثر سماً من لحوم الحكام، وعادة هتك الله لستور منتقصيهم معلومة، فلماذا هذه المحاماة عن الحكام جميعاً وفيهم وفيهم؟ بينما نعطي أنفسنا الحق في انتقاص طائفة من العلماء والنيل منهم وأكل لحومهم وهتك ستورهم، فكما أن الحكام العلماء والمؤتمرين بأمر العلماء طاعتهم واجبة، واحترامهم مطلوب، فكذلك الأمر للعلماء، فالذي أمر بإكرام وإجلال الحكام هو الآمر بإكرام العلماء.
ألا يخشى هؤلاء أن يصيبهم شيء من الوعيد الوارد في قوله تعالى: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا".
الأدلة على جواز الجهر بالنصيحة للحكام كثيرة جداً، وفيما قاله أبوسعيد، وعائذ، وأبوذر رضي الله عنهم، ومن قبل قاله علي رضي الله عنه أمام عثمان رضي الله عنه: لبيك عمرة؛ وعندما قيل له في ذلك قال: ليعلم الناس أنها سنة كفاية؛ لأن عثمان ما كان يرى التمتع بالعمرة في الحج.
رضي الله عن أبي بكر الصديق حين قال: "لا خير فيكم إن لم تقولوها – أي النصيحة – ولا خير فينا إن لم نقلها".
ودعا عمر لمن أسدى إليه النصيحة، فقال: "رَحِم الله امرءاً أهدى إليَّ عيوبي"، وجعل النصيحة من الهدايا القيمة والجوائز النبيلة التي تستحق الشكر والمكافأة، ولهذا كان الأخيار من حكام وأمراء هذه الأمة يجزلون العطايا والثناء على من ينصحهم أكثر من غيرهم من غير المصرِّحين بالنصيحة لهم.
فالاستكبار والاستنكاف عن قبول النصيحة بأي أسلوب كانت وبأي طريقة حدثت من صفات الطغاة ومن أخلاق المستبدين، ولهم في النمرود وفرعون وأمثالهما مثل السوء.
عاشراً: ضعف التزكية وقلة الورع
كثير من الأسباب السابقة وغيرها مردها واستفحالها وخطورتها ناتجة من ضعف تزكية النفوس وقلة أوانعدام ورعها، فالنفس إذا لم تزكَّ وتطهر من الرذائل والأحقاد، وإذا لم يشتغل الإنسان بعيوب نفسه تشاغل بعيوب غيره وضخمها وبالغ في إظارها ونشرها وبثها بين الناس، فقد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
فينبغي للقادة أن يعملوا على تزكية نفوسهم وتطهيرها والسمو بها عن سفاسف الأمور، والاشتغال بمعاليها، وأن يحثوا أتباعهم وتلاميذهم على ذلك، فهم أمانة في أعناقهم، ويقعون تحت إطار مسؤولياتهم، فتعليم الأتباع الأدب والسلوك من أوجب الواجبات، ومن أكبر التبعات، وأفضل طريق لذلك هو القدوة الحسنة والأسوة الطيبة، فالتأديب والتعليم بالأفعال خير وأنفع من التأديب والتعليم بالأقوال.
خاتمة
لا شك أن أسباب الخلاف كثيرة، وليس هدفنا الإحاطة بها، ولكن التنبيه والتذكير بأخطرها لنقيس عليها.
يحق للقارئ بعد هذا أن يسأل بعض هؤلاء العلماء والدعاة، أمن أجل هذه الأسباب الواهية تفرَّق كلمة الأمة، ويهجر ويُعادى الإخوة والأصفياء، ويكيد بعضنا لبعض أشد من كيدنا للأعداء؟!
أمن أجل هذه الأسباب ندفن الحسنات، ونفشو السيئات، ونعظم الأخطاء، ونجسد السلبيات، ويصدق فينا قول الأعشى:
ومن يغترب عن قومه لا يزال يرى مصارع مظلوم مجراً ومسحباً
وتدفن منه الصالحات وإن يسئ يكن ما أساء النار في رأس كبكبا؟
احذر أخي الكريم أن يكون همك تتبع عورات إخوانك، والكشف عن سيئاتهم، والفجور في خصوماتهم، فإذا خان الأخ أخاه، وتنكر له، وعاداه، هل يتوقع العون ممن سواه؟!
إذا خانك الأدنى الذي أنت حزبه فواعجباً إن ساعدتك الأباعد
كن أخي الكريم بناءً، واحذر الهدم والإفساد، قليل من الناس من يحسن البناء والإصلاح، وكثير جداً يجيد الهدم والخراب، فكن من القليل البناء، فإن الكرام قليل، واترك الهدم لأعداء الدين، ولا تعِن الشيطان على نفسك وعلى إخوانك، وتذكر قول الله عز وجل: "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير".
إن من أهم أسباب تخلف الأمة الإسلامية كثرة الاختلافات والنزاعات بين أفرادها، وجماعاتها، وعلمائها، ودعاتها، وطعنهم وتشكيكهم في بعضهم البعض.
متى تتخلص الأمة من هذا الداء، وتتوحد لصد الأعداء، وتتضافر جهودها وتتعاون لإتمام البناء؟!
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنتَ تبنيه وغيرك يهدمُ
ولو ألف بانٍ خلفهم هادم كفى فكيف ببانٍ خلفه ألف هادم؟
خاصة لو كان الألف هادم من بني جلدتنا، ويتكلمون بلغتنا، ويرفعون شعاراتنا، وينتسبون إلى جماعاتنا، وينفذون مخططات أعدائنا، شعروا بذلك أم لم يشعروا؟!
واحذر أن يصدق عليك قول القائل:
وهل كنتُ إلا مثل قاطع كفه بكف له أخرى فأصبح أجذم
وأخيراً أسأل الله أن يجمع الشمل ويؤلف بين القلوب، ويهدي الجميع سبل السلام، ويجنبهم الفتن والآثام، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام، محمد وآله وصحبه الك
0000000000000000000
مطل الغني ظلم(9/277)
المماطلة والتسويف من أخلاق المرء الخسيس، لقد أمر الله عباده بحسن القضاء والتقاضي، ونهى وحذر عن مطل الغني، وأمر وحض على إنظار المعسر، فالدِّين المعاملة.
فقال عز من قائل: "فإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة".
وقال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى".
وقال: "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مَلِئٍ فليتبع".
لم تستشر هذه الصفة في مجتمع من مجتمعات المسلمين في الماضي مثل استشرائها وظهورها في هذا العصر، حيث أصبح مطل الأغنياء وتسويف المقتدرين من المسؤولين وغيرهم هو السمة الغالبة والظاهرة الطاغية، وتفنن الناس في أكل أموال الناس بالباطل، وأتوا بحيل وطرق لم تدر بخلد من كان قبلهم.
الدَّين هم بالليل ومذلة بالنهار، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً يستعيذ منه في صلاته، ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم"، وسئل عن سبب إكثاره من هذا، فقال: "إن المرء إذا استدان حَدَّث فكذب، ووعد فأخلف".
فمن أخر حقاً عليه مع القدرة على تسليمه فهو البغيض المذموم، والممقوت الملوم، وقد جاء في الأثر: "إن الله يبغض الغني الظلوم، والشيخ الجهول، والعائل المحتال".
وعن خولة بنت قيس رضي الله عنها قالت: "كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسق من تمر لرجل من بني ساعدة، فأتى يقتضيه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار أن يقضيه، فقضاه تمراً دون تمره، فأبى أن يقبله، فقال: أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ومن أحق بالعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: صدق، ومن أحق بالعدل مني؟ لا قدَّس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها، ولا يتعتعه؛ ثم قال: يا خولة، عِديه واقضيه، فإنه ليس من غريم لا يخرج من عند غريمه راضياً إلا سلط عليه دواب الأرض ونون البحار، وليس من عبد يلوي غريمه وهو يجد إلا كتب الله عليه في كل يوم وليلة إثماً" .
الغني المماطل كلابس ثوبي زور، ومتشبع بمال غيره، فهو شحيح خسيس، وبخيل مسِّيك، كذاب، خداع، مراوغ، محتال.
أصحاب الحقوق إما أن يكونوا:
1. زوجة وأولاد وأقرباء.
2. أوعمال وأجراء.
3. أودائنين محسنين فضلاء.
وكل هؤلاء وغيرهم يحرم مطلهم، ويجب الإسراع بإعطائهم حقهم.
عليك أيها المسلم أن تؤدي هذه الحقوق المالية أو تتحلل منها قبل فوات الأوان، واستمع لما قاله رسولك صلى الله عليه وسلم: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أومن شيء، فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه".
واعلم أن الظلم ظلمات، وأن الله وعد بإجابة دعوة المظلوم ولو بعد حين، فاحذر دعاء المظاليم، وغضب رب العالمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
00000000000000000
احذر أخي المسلم أن يكون الحلال عندك ما حلَّ في يدك، والحرام ما حُرِمته
لقد قلت الأمانة، وكثرت الخيانة في مجتمعات المسلمين في هذا العصر بصورة مخيفة، لا سيما في مجال البيع والشراء، والتعامل بالدرهم والدينار، تنذر بخطر كبير، وشر مستطير، إن لم يتداركنا الله برحمته فنغير ما بأنفسنا، عسى الله أن يغير ما بنا.
فقد أصبح هم كثير منا جمع المال بأي طريقة، والحصول عليه بأي وسيلة، غير منظور لحلها أوحرمتها، وأضحى لسان حال كثير منا: الحلال ما حل في أيدينا، والحرام ما حرمنا الوصول إليه، وصدق فينا قول الله عز وجل: "وتأكلون التراث أكلاً لماً. وتحبون المال حباً جماً"، واقتدى جلنا بما قاله قارون: "إنما أوتيته على علم عندي".
ومن العجيب الغريب تشدد البعض في مسائل الطهارة إلى درجة الوسواس، وتهاونهم وتساهلهم فيما يدخل بطونهم، على العكس والنقيض مما كان عليه السلف الصالح، خوفاً وحذراً من قول نبيهم صلى الله عليه وسلم: "أول ما ينتن من الإنسان بطنه، فمن استطاع أن لا يدخل فيه إلا الحلال الطيب فليفعل".
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن وهو طفل أخذ تمرة من تمر الصدقة فأدخلها في فيه، فقال له: كخ، كخ؛ حتى أخرجها من فيه.
وتناول أبوبكر الصديق رضي الله عنه شيئاً من خراج غلامه، وأدخله في فمه، وعندما أعلمه هذا الغلام أنه حصل عليها عن طريق الكهانة في الجاهلية تقيأها في الحال، وقيل له في ذلك، فقال: إن لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها؛ أوكما قال.
لهذا فقد حلت المحقة محل البركة، والقسوة محل الرحمة والشفقة، وكثرت الخصومات والنزاعات، وتقطعت الأرحام، وحرم المجتمع الأمن والأمان، وكاد أن يكون البيع الذي هو من المكاسب الطيبة والوسائل المشروعة من الخبائث لما دخله وصاحبه من الغش، والكذب، والحلف الكاذب، والحيل المحرمة، ونحوها.
لم يكتف سلفنا الصالح بالامتناع عن الحرام، بل تعدى الأمر عندهم أن امتنعوا عن أخذ وأكل كل ما فيه أدنى شبهة.(9/278)
خرَّج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشترى رجل من رجل عقاراً، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّة فيها ذهب، فقال الذي اشترى العقار: خذ ذهبك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم أشتر الذهب؛ وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها؛ فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدهما: نعم؛ وقال الآخر: لي جارية؛ قال: أنكحا الغلام الجارية، وأنفقا على أنفسهما منه؛ فانصرفا".
هذه القصة لا يكاد المرء يصدقها لولا أنها خرجت من في من لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وقد أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته للتخلق بما جاء فيها، ولتقتدي بهذه الفعال الفاضلة والأخلاق النادرة، وتنال من هذا الورع الأصيل.
لا يدري المرء أيكون عجبه أشد بهذين البائعين الورعين الصادقين، أم بهذا القاضي الذي حكم بينهما هذه الحكومة الموفقة، التي تحرى فيها العدل والحق، وحكم فيها بالصدق؟!
على التجار أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي أهليهم، وأن لا يكونوا فتنة للذين آمنوا ولا للذين كفروا.
وليعلموا أن أسلافهم فتحوا وغزوا قلوب العباد بأخلاقهم الحسنة ومعاملتهم الكريمة، قبل أن يفتحوا تلك البلاد.
وليحذروا من تقديس الدنيا وحرمان التقوى، وأن يكون تعامل الكفار أحسن من تعاملهم، وليعلموا أن الدين المعاملة، ولينفروا من أن يكونوا مثل أكلة الربا والسحت من إخوان القردة والخنازير الملعونين على ألسنة رب العالمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد القائل: "لن تموت نفس حتى تكتمل رزقها"، أوكما قال.
000000000000000000
من علامات النفاق المتهاون فيها خلف الوعد
من الصفات الذميمة، والأخلاق اللئيمة، التي تفشت في مجتمعات المسلمين عامة في هذا العصر، وفي مجتمعنا السوداني بصفة خاصة، خلف الوعد، والذي عده رسولنا صلى الله عليه وسلم علامة من علامات النفاق، وآية من آياته، وسمة من سمات سوء الأخلاق، فقال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان".
ورسولنا الكريم عليه الصلاة وأتم التسليم لم يأمر بشيء إلا كان أول العاملين له، ولم ينه عن شيء إلا كان أول المنتهين عنه، وكان يعلِّم أصحابه بأفعاله وتصرفاته قبل أقواله، ولهذا كان هو وأبوه إسماعيل عليهما السلام آية في صدق الوعد، حتى عرفا بذلك واشتهرا به: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً".
قال القرطبي رحمه الله في تفسيرها: (وخصَّه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له وإكراماً، كالتلقيب بنحو الحليم، والأواه، والصدَِّيق، ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.
إلى أن قال:
واختلف في ذلك، فقيل: إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدي، وقيل: وعد رجلاً أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجلَ يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء، فقال له: ما زلت هاهنا في انتظارك منذ أمس، وقيل: انتظره ثلاثة أيام، وقد فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ذكره النقاش، وخرجه الترمذي وغيره عن عبد الله بن أبي الحَمْساء قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث، وبقيت له بقية، فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة، فجئتُ، فإذا هو في مكانه، فقال: "يا فتى، لقد شققت عليَّ، أنا هنا منذ ثلاث أنتظرك").
كانت العرب في جاهليتها قبل الإسلام تمدح بصدق الوعد، وتذم وتهجو بخلف الوعد، وكان عرقوب بن سعيد التميمي مضرب أمثال العرب في خلفه المواعيد، حتى قال كعب بن زهير رضي الله عنه:
أضحت مواعيد عرقوب لها مثلاً وما مواعيدها إلا الأباطيل
وكان السموأل بن عاديا مضرب المثل عندهم في الوفاء بالوعود، وحفظ الأمانة، ومما جاء في ذلك من أشعارهم:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مَذِق اللسان يقول ما لا يفعل
و:
متى ما يقل حر لصاحب حاجة نعم يقضها والحر للوأى ضامن
فخلف الوعد حرام، ومن الكبائر، وهو من باب الكذب البين.
وخلف الوعد قبيح من كل مسلم، ولكن قبحه أشد إذا صدر من أهل العلم والفضل، والإكثار من المواعيد مظنة لخلف الوعد.
ومما يؤسف له أن خلف الوعد عن حضور الاجتماعات في الوزارات، والمجالس، والهيئات، والشركات، والاجتماعات العامة، والتأخير الكثير في حضور من حضرها، أصبح من المظاهر السيئة المألوفة، ومن العادات القبيحة المعهودة.
وبدلاً من أن يُعاقب هؤلاء ويحاسبوا ويثرب عليهم يقع العقاب على من التزم بالمواعيد ووفى بها، حيث ينتظر الساعات الطوال، وفي بعض الأحيان يُفض الاجتماع وتحدد له مواعيد أخرى، وفي الغالب فإن سلوك المجتمعين في المواعيد الجديدة لا يختلف كثيراً عن سلوكهم الأول، ويندر أن يكون هناك اعتذار مسبق، ومما يؤسف له كذلك أن من وفى بوعده شُبِّه بالكفار، بدلاً من أن يمدح باقتدائه بالأنبياء والسلف الصالح.(9/279)
خطورة خلف الوعد تكمن في ضياع ساعات العمر، وعدم الاستفادة منه بالقدر المطلوب شرعاً، وفي ذلك خسارة لا تعدلها خسارة.
ومما يتعلق بخلف الوعد من الأحكام الشرعية الوفاء بالعِدَة، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: "العِدَة دين"، وفي الأثر: "وَأيُ المؤمن واجب".
واختلف العلماء فيمن وعد أحداً بهبة، أووصية، أوقرض، أومنيحة، أوعمرة، أورقبى، أوقضاء دَين، هل يجب الوفاء عليه أم لا؟ على قولين.
قال القرطبي: (قال مالك: إذا سأل الرجلُ الرجلَ أن يهب له الهبة، فيقول له: نعم؛ ثم يبدو له أن لا يفعل، فما أرى يلزمه؛ قال مالك: ولو كان ذلك في قضاء دَين فسأله أن يقضيه عنه فقال: نعم، وثم رجال يشهدون عليه، فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعي، والشافعي، وسائر الفقهاء: إن العِدَة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية، لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض، فلصاحبها الرجوع فيها؛ وفي البخاري: "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد"، وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب، قال البخاري: ورأيتُ إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع).
والله أسأل إن يطهر قلوبنا من الرياء، والنفاق، وسوء الأخلاق، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
000000000000000000000000
أيها المسؤولون تداركوا مشروع الجزيرة
هذا المشروع ذو الفضل الكبير بعد الله، والنفع الجزيل، والخير المتعدي العميم، الذي كل السودان له مدين، أصابه من الدمار والخراب والتسيب ما الله به عليم، لقد خربت ترعه وخزاناته، وطمست جداوله وقنواته، وتآكلت وتكسرت أنابيبه، وقلت إنتاجيته، وشاخ شيخوخة مبكرة.
لهذا التدني والتدهور أسباب كثيرة وعوامل عديدة، بعضها إداري، وبعضها اقتصادي، والآخر سياسي، وسنشير في هذه العجالة إلى أهم الأسباب التي أدت إلى هذا التدهور، ونتج منها هذا الخراب، فنقول:
أولاً: عدم تحديث القنوات وتجديدها
من الأسباب الرئيسة في تدهور مشروع الجزيرة عدم تحديث القنوات وتجديدها وتطهيرها كما كانت تطهر دورياً من قبل.
كانت بعض المعدات قد أحضرت لهذا الغرض في الثمانينات، وجلست حيناً من الوقت، ثم حولت إلى مشرع آخر، إلى ترعتي كنانة والرهد كما علمت.
كان لعدم تحديث القنوات وتجديدها آثار سلبية ظهرت في مشاكل الري العصية، مما أدى إلى تدني الإنتاج وانخفاضه، لم تعد الخزانات والترع الرئيسة والفرعية، دعك عما يتفرع منها إلى داخل الحقول صالحة لاستيعاب ما كانت تستوعبه من قبل وتحافظ عليه من المياه، وقد كذبت عيني عندما رأيت ثاني ترعة رئيسة في الجزيرة وهي التي تعرف بـ"فم طابت" قد انكسرت عند قنطرة 46 قرب قرية تنوب، وتدفقت منها المياه مع حاجة المزارعين الماسة إليها، وكان عجبي واستغرابي أكبر عندما شاهدت الطريقة التي أصلحت بها، فالمواسير في القنوات الرئيسة والفرعية وكذلك الأبواب والأقفال تآكلت وتكسرت، وبعضها تعدي عليه لعدم وجود الرقيب.
وعمليات التطهير من الطمي ونحوه للقنوات الرئيسة والفرعية التي تحظى بذلك لم تعد ذات جدوى لاختلاف الجرارات والحفارات وصغر حجمها عما كانت عليه في الماضي، هذا بجانب عدم الرقابة والبطء، وقلة إحسان العمل وتجويده.
ثانياً: حراثة الأرض نقصت كماً وكيفاً
كانت مصلحة الهندسة الزراعية من الإدارات الناجحة في مشروع الجزيرة، التي تتولى حرث الأرض وفق خطة معينة، وبمستويات مختلفة، وعلى درجة عالية من الدقة، أما الآن فقد أصاب هذه الإدارة ما أصاب غيرها من الإدارات، نحو سكة حديد الجزيرة التي كانت تتولى نقل القطن والبذرة والتقاوي والأسمدة من داخل الغيط إلى المحالج المختلفة والمخازن، إن كانت لا تزال موجودة، وأصبحت عمليات الحرث يتولاها المزارعون بأنفسهم مع ضعف إمكانياتهم وعدم تقديرهم لأهمية الحرث، هذا بجانب التلاعب وعدم الدقة التي تصحب ذلك.
ثالثاً: التداخل وعدم التوافق بين إدارة المشروع وبين إدارة الري
الشركاء المتشاكسون في أي مشروع أومصلحة أوشركة عامل من عوامل عدم نجاح ذلك المشروع، وأداة من أدوات الهدم، فالتداخل وعدم تحديد الاختصاصات بين الزارعين وإدارة الري له أثر كبير وضرر عظيم على المشروع، ويؤثر تأثيراً سلبياً على عمليات الري، التي تنعكس بصورة جلية على تدني الإنتاج، فلابد من تحديد المسؤوليات وتفعيل الاختصاصات، حتى لا يحدث تضارب ومشاكسة.
رابعاً: تسييس الإدارة وعدم استقلالها(9/280)
من عوامل الخلل الرئيسة في مشروع الجزيرة وأسباب التدني المباشر في الأداء تسييس الإدارة وعدم استقلالها في اتخاذ القرار للصالح العام، متمثلاً ذلك في مدير المشروع أوالمحافظ، حيث أصبح الولاء شرط أساسي في الاختيار، وكان أول ضحايا هذه البدعة السيئة والظاهرة الخطيرة إعفاء المحافظ القدير والمهندس الزراعي الكبير عبد الله الزبير قبل الإنقاذ، فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً، وكذلك الأمر بالنسبة لاتحاد المزارعين الذي يمثل جزءاً لا يستهان به في إدارة المشروع.
خامساً: ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج
نسبة لانخفاض قيمة الجنيه السوداني في السنوات الماضية، مع سياسة التحرير التي انتهجتها الحكومة ورفع الدعم، وتعدد الرسوم والضرائب، حيث أصبح المزارع يتحمل كل الأعباء ويبوء بوزر كل الأخطاء، وليس له من راحم إلا الله.
سادساً: تدني مستوى الخدمات للعاملين في المشروع من مفتشين وغيرهم
حيث سحبت السيارات من بعضهم، وخفضت كمية الوقود التي تعطى إليهم، مما كان له آثار سلبية سيئة على الإشراف على العمل، وكاد هم كثير منهم ينحصر في أعماله الخاصة من زراعة وتربية مواشٍ ونحو ذلك، وأصبح الغيط لا رقيب فيه ولا حسيب إلا الله.
سابعاً: عدم وضوح العلاقة بين المزارع والإدارة
بدءاً بالظلم الواقع على المزارع، وهو غالباً المالك للأرض، وتأجيرها منه بثمن بخس، ملاليم معدودة وهو فيها من الزاهدين، والدعوة إلى خصخصة المشروع وتمليكه للقطاع الخاص انسياقاً مع رياح العولمة النتنة، كأن المشروع بلا مالك ولا وارث، وغير ذلك من القسم الضيزى والأمور الغامضة التي يُغيَّب فيها المزارع غياباً كاملاً.
لهذه الأسباب مجتمعة ولغيرها تدهورالمشروع، وتدنت إنتاجيته، وساءت خدماته، وتقلصت إمكاناته، وتقهقرت مكانته، وقلت عائداته، ونفدت أرصدته واحتياطاته، بعد أن كان دائناً للحكومة، فأسباب تدنيه معروفة، وسبل إصلاحه وتقويمه متيسرة، وإمكانية إعادته إلى سيرته الأولى ممكنة، إذا اقتنع المسؤولون بذلك، وجدوا وأخلصوا النية، واستشعروا أهمية الزراعة التي بها قوام حياة الإنسان والحيوان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة يوم القيامة".
والله أسأل أن تعود للمشروع حالته الأولى، وأن يهيئ له من الأسباب ما يجعله ينهض حتى يزداد عطاؤه، ويكثر نماؤه، ويحتل مكانته السابقة في الاقتصاد السوداني، حيث كان عماده، فإنه ليس على الله بعزيز، وأن يوفق المسؤولين لما فيه خير دينهم ورعاياهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
ابن مزارع ذاق حلو المشروع والآن يتجرع مره وعلقمه
000000000000000
لِمَ أخي المسلم تعطى الدنية في دينك؟!
بعد أن شرعت أمريكا في حربها الصليبية على الإسلام وفي كل المجالات، وأحكمت هيمنتها وقبضتها على العالم بأسره، أضحى سلوك بعض المسلمين من حكام، وعلماء، ودعاة، وعامة، يصب في معين واحد، ويسير في اتجاه إعطاء الدنية في الدين، إن خوفاً، أوطمعاً، أوجهلاً، واتخذ ذلك المسلك وسائل عدة، ومسارات شتى، منها:
1. تنفيذ ما يمليه الأمريكان على جل حكام المسلمين.
2. خذلان لبعض إخوة العقيدة وتسليمهم للكفار.
3. فتح المياه الإقليمية، والأجواء، والمطارات، والطرق البرية للمقاتلات والمرتزقة لغزو بعض البلاد الإسلامية.
4. الاستكانة والخضوع الكامل لما يهواه الكفار.
5. التبريرات الجائرة للظلم والعدوان الذي تمارسه أمريكا وإسرائيل وحلفائهما تحت مظلة محاربة الإرهاب.
6. الفتاوى المغرضة لما يهواه الكفار ويخدم أغراضهم.
7. ما يقوم به بعض الإعلاميين ومَنْ يعرفون بالمثقفين من تهيئة الجو للتعايش السلمي مع الكفار ونبذ عقيدة الولاء والبراء.
8. البحث والتفتيش عن بعض الزلات والهفوات والسقطات والأقوال الشاذة لتبرير ما يقوم به بعض الحكام من تنازلات خطيرة ومخالفات عظيمة للكفار، وما علموا أن من تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد وتجمع فيه الشر كله.
9. التغير المفاجئ في المواقف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
10. وصف من يعترض على ذلك بأنه متشدد وغالٍ، وليس عنده مرونة ولا فقه.
يبررون لكل ذلك بتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تؤثر عن عَلم من الأعلام، وإنما هي آيات وأحاديث صدق، وكلمات حق أريد بها باطلاً، من ذلك:
1. استدلالهم بقوله عز وجل: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين".(9/281)
فهذا كلام حق أريد به باطلاً، للفرق الشاسع بين الموالاة والخضوع والاستكانة والتطبيع، وبين البر والإحسان إلى من يخالفك في الدين، ويباينك في العقيدة، فربما كان برك وإحسانك إليه سبباً في هدايته واغتباطه بدينك.
ثم لماذا ينظر هؤلاء إلى النصوص بعين عوراء؟ ولماذا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؟
أين هؤلاء من قوله عز وجل: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم أوإخوانهم أوعشيرتهم".
وثمة شيء آخر، وهو أن الكفار الذين يواليهم من يواليهم اليوم محاربون للإسلام، ساعون للقضاء عليه وبكل الطرق، مجاهرون بذلك، مصممون على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، عازمون على القضاء على جميع المظاهر الإسلامية من الحجاب إلى إعفاء اللحى.
2. وبأن الصلح مع الكفار جائز، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم صالح المشركين في الحديبية، وهذا قياس مع الفارق والفارق الكبير جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم صالح ثقة بوعد ربه، وصلح الحديبية على الرغم من أن ظاهره فيه ظلم وهضم للمسلمين لكن كان باطنه رحمة عليهم.
ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصالح عن ضعف واستكانة طلبه المبايعة على قتال المشركين عندما أشيع أن عثمان رضي الله عنه قد قتل.
فهل هناك من مقارنة بين استكانة اليوم وبين صلح الحديبية؟!
3. مما يصك به البعض الآذان ويشوشون به على العوام ما يعرف بـ"صحيفة المدينة"، هذه الصحيفة ضعيفة السند، منسوخ العمل بها بآيات الجهاد وإجلاء اليهود من المدينة، بل من جميع أنحاء جزيرة الإسلام، مع ذلك فما زال البعض يستدل بما جاء فيها تبريراً للاستكانة والخضوع والاستسلام للكفار من اليهود والنصارى ومن شايعهم.
4. من الشبه القذرة والحجج الواهية التي يتشبث بها البعض تبريراً لما يبتغيه الكفار من بعض حكام المسلمين في بعض الجزئيات التي هي في الحقيقة من الكليات والثوابت، وهي تنفيذ الأحكام الشرعية على أساس شخصي، بأن هذه مسألة خلافية! فقد قال بجواز ذلك أحد الأئمة المقتدى بهم، فلماذا لا نأخذ بقوله؟ وما علم هذا القائل أن ماجاء به منكر من القول وزور، وأنه ليس كل خلاف يُستراح له ويعمل به، إذ أن الحق عند الله واحد لا يتعدد كما هو الراجح من أقوال المحققين من أهل السنة أمثال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومن لا يحصى عددهم من أهل العلم المقتدى بهم، وأن الله سبحانه وتعالى لم يتعبدنا باختلاف العلماء، وإنما تعبدنا باتباع الدليل، وأن ندور معه حيث دار، ولله در القائل:
*** إلا خلافاً له حظ من النظر
ولله در علماء السلف، مالك وغيره، عندما حذروا من الأقوال الشاذة والآراء الساقطة.
ورحم الله أبا حنيفة القائل: هذا رأيي، فمن جاءني برأي خير منه قبلته.
هذا بجانب العديد من المفاسد والمضار والنواقض التي يجرها الأخذ بهذا القول الشاذ، التي لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم، ومعلوم أن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
5. من التبريرات العجيبة التي يبرر بها لهذه التنازلات "مكره أخاك لا بطل"، ونحن نشهد الله حسب علمنا أنه لم يكره أحد من الحكام ولا غيره إكراهاً يبيح له مثل هذه التصرفات، وإن كان الراجح الثبات على المبادئ حتى عند الإكراه خوف القتل، كما فعل بلال، وعبد الله بن حذافة السهمي، وغيرهما كثير من المسلمين، ولكن: (من الناس من يعطي الدنية في دينه، وتفتنه المظاهر، أويخاف من شيء يصيبه، أويعجز أن تحمل ما نزل به، فيظهر غير الذي يبطن، ويوافق بلسانه على أشياء ينكرها قلبه، ولا يقرها إيمانه، وهذا من حب العاجلة، وضعف العزيمة، وقلة الصبر، والمداهنة التي يراد بها السلامة من الفتنة، أواستمالة قلب المجاهر بالمعصية، المتظاهر بالكفر والفسوق والعصيان، وقد يقول أحد: أنا لا أحب الشر، ولا أرضى لأحد بالكفر، ولكني أعجز عن إزالة المنكر، ولا أستطيع أن أجهر بما أعتقد من الحق، فأنا أنافق لأوافق، ولو تكلمت بالصدق ونطقت بالحق لعوديت وأذيت، ويالها من حجة ما أبردها، ويا له من دفاع ما أسخفه، وهبه كان معذوراً بالسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما عذره عند الله والناس في موافقته على الكفر وأعمال المشركين، وما حجته عند الله يوم يسأله عن الجهاد في سبيله والدفاع عن دينه، وربما يقول المفتون المداهن إن الله لم يتوعد بالعذاب الشديد من أكره بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن متى كان مكرهاً؟ وكيف حملوه على مجاملتهم والرضا بصنيعهم وهو حر في دينه؟ وليس بمحتاج إلى التقية التي أذن الله فيها بقوله: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير").(9/282)
قلت: لقد شكا عمر رضي الله عنه جلد الكافر وضعف التقي، ونحن نشكو إلى الله جلد الكافر وثبات المنافق، وإصرارهم على باطلهم، وضعف المسلم وخذلانه لإسلامه وإخوانه، وتنازله عن ثوابته، وإعطاء الدنية في دينه، والرضا بالفانية، وبيع الآخرة بدنيا الغير.
لقد أعزنا الله بالإسلام، فمن طلب العزة في غيره أذله الله، لم تهون وتضعف وتستكين أخي المسلم وأنت الأعلى إن كنتَ مؤمناً؟
"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين".
هذه الآية نزلت بعد هزيمة المؤمنين في أحد، ووصفهم ربهم بما وصف به نبيه وكليمه موسى عليه السلام.
والله أسأل أن يردنا إليه وجميع إخواننا المسلمين حكاماً ومحكومين وعلماء وعامة رداً جميلاً، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله القائل: "كلكم يدخل الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"، أوكما قال صلى الله عليه وسلم.
0000000000000000000
إسرائيل وأمريكا رائدتا الإرهاب والقرصنة اليوم في العالم
"رمتنى بدائها وانسلت"
هذا العصر هو عصر التناقضات، عصر المغالطات، عصر الأكاذيب والأراجيف، عصر الظلم، والعدوان، والكذب، والبهتان، والكيل بعدة مكاييل، حسب ما تمليه المصلحة ويبتغيه الهوى، حيث سادت فيه شريعة الغاب، وغابت فيه الفضيلة، وانتشرت فيه الرذيلة، وأسند الأمر إلى غير أهله.
ما يفعله اليهود وربيبتهم أمريكا في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من البلاد الإسلامية ليس له شبيه ولا مثيل إلا ما تمارسه الأسود في الغابات على ضعاف الحيوانات، حيث هم الخصم والحكم، وكذلك الحال فإن اللوبي الصليبي المحرك لقوى الشر والطغيان أمريكا وعملاءها يمارسون من أنواع الظلم والقرصنة والإرهاب على الأبرياء والضعفاء والعزل، مع رميهم إياهم بالإرهاب "رمتني بدائها وانسلت"، حيث لم يعرف التاريخ إرهاباً، ولا قرصنة، ولا صلفاً، وكِبْراً، وظلماً، وطغياناً، مثل ما يشاهد اليوم على أرض الإسلام بعد أن دنستها أقدام إخوان القردة والخنازير ومرتزقة الأمركان وعملاؤهم الذين دفعوا بهم إلى أفغانستان والعراق، في حربهم الصليبية ضد الإسلام.
كل هذا الظلم والإرهاب صُحب بتعتيم إعلامي، فضح دعاة الديمقراطية والحرية، حيث منعوا القنوات أن تنشر بعض جرائمهم وممارساتهم، فأضحوا يقصفون مكاتب تلك القنوات، ويقتلون ويأسرون بعض مراسليها، مع ما في ذلك من المنافاة للأعراف الدولية.
فحديثهم وافتراءاتهم وتبجحهم بحقوق الإنسان كشفته اغتيالاتهم للمقعدين والخارجين والذاهبين إلى المساجد، بعدد من الصواريخ التي مثلت بأجسادهم الطاهرة أبشع تمثيل.
وشاءت إرادة الله أن تفضح أمريكا في عقر دارها، حيث نشرت القنوات فيها أبشع صور للتمثيل مارسها الأمركان والبريطان في سجن أبي غريب بالعراق، وما خفي أعظم وأبشع مما ظهر.
ومهما يكن عند امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فهؤلاء هم الكفار من اليهود والنصارى، وهذه هي فعالهم، وتلك هي تصرفاتهم تكذب ادعاءاتهم وافتراءاتهم، مضافة إلى "كذبة إبريل" التي برروا بها غزوهم للعراق، لامتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، أما إسرائيل فهم يملِّكونها لذلك ويمدونها بأحدث الأسلحة فتكاً بالإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد.
حرام على بلابل الدوح *** حلال على الطير من كل جنس
وصدق الله العظيم: "ومن يُهن الله فما له من مكرم"، وصدق رسوله الكريم حيث قال: "إن من الشعر لحكمة".
ومن يهن يسهل الهوان عليه *** ما لجرح بميت إيلام
ما كان للتحالف الصهيوني الكنسي أن يباشر تلك الحرب الصليبية الشرسة وفي كل المحاور لولا اختلاف المسلمين وضعفهم، واستكانة حكامهم للكفار، وركون عامتهم إلى الدنيا، وبغضهم للتضحية والجهاد، وعزاؤنا أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها ولا من خذلهاحتى تقوم الساعة، كما أخبر الصادق المصدوق، فقط على إخوانهم المسلمين أن يمدوهم بالمال، وأن يعينوهم بالدعاء، فهو سلاح المستضعفين، وعدة المقاتلين المقهورين.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسل
000000000000000000000
أيها المسلمون لا تبخلوا على إخوانكم المجاهدين بأموالكم ودعائكم
جهاد الكفار والمنافقين الذي أوجبه رب العالمين على كل مسلم ومسلمة حسب الطاقة ليس قاصراً على الجهاد بالنفس، وإن كان الجهاد بالنفس أعلى أنواعه وأزكاها، فمن لم يتمكن من جهاد الكفار والمنافقين بالنفس فعليه أن يجاهدهم: بالمال، باللسان، والبنان، بالدعاء والابتهال، والسؤال والإعلام، والاختراق والتخذيل بالامتناع عن شراء منتجاتهم.(9/283)
فاليهود والنصارى بقيادة أمريكا وربيبتها إسرائيل في حربهم الصليبية هذه يحاربون الإسلام بكل الوسائل، بغزو ديارنا، وإرهاب حكامنا، واغتيال قادتنا، والتعتيم على انتصاراتنا، والتضييق على محسنينا وموسرينا من أن يخرجوا زكوات أموالهم لمستحقيها، بإشعال الفتن بين شرائح مجتمعنا، بين حكامنا ومحكومينا.
هذه الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل، والخير والشر، بين الإسلام وملل الكفر، التي فرضها الكفار وحددوا توقيتها وأمسكوا بزمامها تحتاج إلى تضافر الجهود، والبذل والتضحية بأعز الموجود، واستشعار المخاطر المترتبة عليها على الإسلام وأهله في مستقبل الأيام والدهور.
فإن فاتك أخي المسلم جهاد الكفار بالنفس فلا يفوتنك جهادهم بالمال، والاستغاثة، والابتهال، فلا تحقرنَّ عطاءك في ذلك مهما قل أوكثر، فالقليل يكثر بالقليل، والله يبارك في القليل حتى يكون أكثر من الكثير وأبرك، وربما صادفت استغاثة ساعة إجابة فتنكشف بها الكرب، وتنحل بها العقد، وتتغير بسببها موازين الأمور.
فعليك أخي المسلم بالتجارة الرابحة والبيعة الناجحة لتنال السلعة الغالية، وهي الجنة.
أيها المسلمون استجيبوا لله والرسول ولنداء إخوانكم المستضعفين في فلسطين، والعراق، وأفغانستان، وكشمير، والشيشان، والفلبين، وفي غيرها من الديار.
"يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين".
"إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة".
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يغز، أويجهز غازياً، أويخلف غازياً في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة".
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم".
وعن أبي يحيى خُريم بن فتيك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق نفقة في سبيل الله كُتب له سبعمائة ضعف".
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله؛ فقال رسول الله: "لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة".
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثنتان لا تردان، أوقلما تردان، الدعاء عند النداء، وعند الباس حين يُلحَم بعضهم بعضاً".
فالبدار البدار أخي المسلم بالإنفاق، وثق بسرعة الخلف، وإياك أن تتباطأ فتخذل إخوانك المجاهدين وتسلمهم وحريمهم للكفار، فيخذلك الله يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم
00000000000000000000
أيها العلماء والدعاة احذروا أسباب التفرق: التشرذم، والانغلاق، وسوء الظن
من أشد الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغضاً للاختلاف، وكرهاً للتفرق والتشرذم، وتحذيراً من كل الأسباب والوسائل التي قد تؤدي إلى ذلك، الخليفة الملهم المحدَّث الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لإدراكه لخطورته ومغبة نتائجه، وفساد منقلبه، ولحدة فراسته لأنه كان ينظر بنور الله.
أخرج الإمام الطبري في تاريخه بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: (أن عمر رضي الله عنه قال لناس من قريش: بلغني أنكم تتخذون مجالس، لا يجلس اثنان معاً، حتى لا يقال: مَنْ صَحَابة فلان؟ مَنْ جلساء فلان؟ حتى تحوميت المجالس، وأيم الله إن هذا لسريع في دينكم، سريع في شرفكم، سريع في ذات بينكم، ولكأني لمن يأتي بعدكم يقول: هذا رأي فلان، قد قسموا الإسلام أقساماً، أفيضوا مجالسكم، وتجالسوا معاً، فإنه أدوم لإلفتكم، وأهيب لكم في الناس).
ها نحن نرى أن عمر فطن لسبب رئيس من أسباب تفرق الأمة، فحذر منه في الحال، ومنع من تعاطيه لما يخشى من نتائجه في المآل، ألا وهو التشرذم والانغلاق والتحزب المؤدي إلى تعدد الولاءات، وتفرق الأمة إلى طوائف وجماعات، وإعجاب كل فرقة بما تهواه من العقائد والمقالات، وسوء الظن بالمخالف، ولو في الوسائل والاجتهادات.
ينتج عن ذلك كله ما حذر منه رسول هذه الأمة، وهو الشح المطاع، والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل رأي برأيه، الذي هو من الطوام العظام، والفتن الجسام، حيث لا يجدي معه أمر ولا نهي، ولا نصح ولا رشد.
لقد خشي عمر رضي الله عنه أن تكون تلك المجالس والمنتديات نواة لتجمعات وتكتلات صغيرة، وبذرة للتفرق والتشتت المذموم، فمعظم النار من مستصغر الشرر، لذلك نهى عنها وحذر منها، من باب سد الذرائع، لأن التفرق في المجالس، والانغلاق عن المجتمع، ينتج عنه تفرق في الرؤى، فينتسب أهل كل مجلس إلى البارزين منهم، ويتعصبون لهم، ويعجبون بآرائهم، وأقوالهم، وتأخذهم حمية الإلفة والاجتماع.(9/284)
لذات السبب عندما أراد الأنصار أن يتحزبوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، وقال سعد بن عبادة رضي الله عنه: منا أمير ومنكم أمير؛ رد عليه أبو بكر وعمر في الحال، فقالا: منا الأمراء ومنكم الوزراء؛ حسماً لمادة التحزب والتشرذم، لأن هذه الأمة سر قوتها في اجتماع كلمتها، وتوحد صفها، فالإسلام لا يقوم إلا بالجماعة، ونبذ الفرقة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار"، أوكما قال.
المتقون سادة والفقهاء قادة، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه، والقادة ينبغي عليهم أن يترفعوا عن الصغائر، ويدركوا المخاطر، ويسعوا لرأب الصدع، ولَمِّ الشمل، وتوحيد الكلمة، قبل فوات الأوان، وحلول الندامة والخسران، فما لا يدرك كله لا يترك جله، ويكون ذلك بالآتي:
1. تحسين الظن بالآخرين، ونعني بذلك كل المسلمين، سيما أهل السنة، فكثير من أسباب الفرقة مردها إلى سوء الظن، وانعدام الثقة، فإذا حَسَّنَ أحدنا ظنه بأخيه المسلم، وحكم عليه بما ظهر منه، وسار فيهم بسيرة ابن عمر رضي الله عنه: "من خدعنا في الله انخدعنا له"، زالت كثير من تلك الأسباب، وصفت القلوب، واطمأنت النفوس.
2. إجابة الدعوات والإكثار من الزيارات في جميع المناسبات تذيب كثيراً من تلك الأوهام.
3. اللقاءات الدورية والندوات المشتركة والاجتماعات تقرب من وجهات النظر.
4. منع الأتباع من نقل الأخبار عن الغير، اللهم إلا من أهل البدع الكفرية، الداعين لبدعتهم، فكثير من الجفاء وتوغير الصدور مرده إلى تلك النقول، ولا تقل أخي الكريم أخبرني الثقة!! فالثقة لا يبلغ، كما قال ابن عمر رضي الله عنه، وإن كان لابد من ذلك فالتثبت واجب.
5. ما صح من المنقول إلينا علينا أن نحمله على أحسن وجه، عملاً بنصيحة عمر رضي الله عنه: "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير مدخلاً، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك".
6. عدم الخوض في الجدل والمنازعات والخصومات، فعلينا بيان الحق وتجلية السنة، فمن قبل ذلك يُشكر ومن لم يقبله يترك.
7. لا نقصر حقوق المسلم على أفراد جماعتنا، فهي حقوق عامة لكل المسلمين، عصاة كانوا أم طائعين.
8. أن يشتغل كل منا بعيوبه وسلبيات جماعته، فما أكثر عيوبنا وما أخطر سلبياتنا.
9. الصبر والمداراة لإخوة العقيدة ورفقاء الدرب.
10. اعمل بالحكمة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
11. أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون عدوك يوماً ما، وأبغض عدوك هوناً ما عسى أن يكون صديقك يوماً ما"، كما أثر عن علي رضي الله عنه.
12. توالي أخاك المسلم بقدر ما فيه من خير وإيمان.
13. تبرأ من الأعمال والأقوال السيئة ولا تتبرأ من فاعلها، فقد قال صلى الله عليه وسلم عندما قتل خالد رضي الله عنه متأولاً بني جذيمة: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد"، ولم يتبرأ من خالد.
14. لا نحاسب على ما مضى، فالإسلام والتوبة تجبان ما قبلهما.
15. احذر مسلك أهل الأهواء الذين يبغضون ويقتلون أهل الإسلام، ويتركون ويوالون أئمة الكفر وعباد الأوثان.
أو أن يكون بغضك وعداوتك لمن فارقك وانفصل عنك أشد من بغضك وعداوتك لمن هو أسوأ معتقداً وعملاً منه، ولله در ابن عمر عندما قال عن الخوارج بسبب تكفيرهم لبعض: "ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفر بعضهم بعضاً".
فالدخول في جماعة تكون على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب التعاون على البر والتقوى، والخروج منها لغيرها لا يقدح بمفرده في عدالة المرء.
16. نعمل على أن لا تفترق صفوفنا وإن لم تتوحد آراؤنا.
والله أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يجنبهم الفتن والآثام، وأن ينصرهم على أنفسهم وأعدائهم والشيطان، وصلى الله وسلم وبارك على محمد خير الأنام
00000000000000000
أيها المجاهدون إنكم تقاتلون عن دينٍ وعد الله بنصره
أيها المجاهدون في فلسطين، والعراق، والشيشان، وأفغانستان، وفي كشمير، وفي جنوب الفلبين، وفي كل مكان، اصبروا وصابروا ورابطوا فإنكم على الحق المبين والصراط المستقيم، فحسنوا نياتكم، وجددوا توباتكم، ووحدوا هدفكم لإعلاء كلمة الله وإقامة شرع الله: "فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى فهو في سبيل الله".
أيها المجاهدون عن الإسلام، اعلموا وثقوا أنكم تقاتلون عن دين وعد الله بنصره، وتكفل بحفظه، وكتب بغلبته: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز"، وأمر بالذب والدفاع عنه، فانتم تتقلبون بين حسنتين، وتقاتلون لإحدى الحسنيين: الشهادة أوالنصر.
كثير من المسلمين يلهث لتأمين رغباته ولتحقيق نزواته، أولتأمين سلطانه، وأنتم مشغولون بالدفاع عن دينكم، وأعراضكم، وحريمكم، وإخوانكم، وأخلاقكم، عن قرآنكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.(9/285)
ايها المجاهدون يكفيكم شرفاً وفخراً أنكم رفعتم الإثم عن إخوانكم الذين ركنوا إلى الدنيا، وأثاروا العاجلة على الباقية، برفعكم لراية الجهاد الواجب، وبدعمكم لإخوانكم المستضعفين الذين تخلى عنهم القريب قبل البعيد، والصديق قبل العدو.
اعلموا أيها المجاهدون أن الله معكم، ولن يدعكم لعدوكم ولا لأنفسكم، فمن كان الله معه فلا يخاف ولا يحزن، فأنتم الأعلون بإيمانكم وباعتمادكم على ربكم، وتوكلكم عليه، فالنصر آتٍ، والفرج قريب، لأنكم لا تقاتلون عدوكم بعددكم وعتادكم فحسب.
لتكن لكم الأسوة الحسنة في إخوانكم في بدر، وأحد، والخندق، وغيرها من الغزوات والمواقع، الذين نصروا الله فنصرهم الله، وصدقوه فصدقهم، واستغاثوه فأغاثهم: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون. إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين"، "الذين قال لهم الناسُ إن الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل".
واحذروا أسباب الفشل والخذلان، وهي الذنوب والآثام، والتفرق، والتنازع، والانقسام، والعزوف عن الدعاء والاستغاثة وطلب النصر من الكريم المنان: "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسُّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل عظيم".
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على اليهود والنصارى والشيوعيين، اللهم شتت شملهم وفرق جمعهم واجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم إنك تعلم أن الأمريكان طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم يا ربنا صوت عذاب، اللهم أنزل عليهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، وأرنا فيهم وفي عملائهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين، وصلى الله وسلم على رسوله الصادق الأمين
0000000000000000000
لتسألنَّ يومئذ عن النعيم
الحمد لله الذي لم يخلق الخلق عبثاً، ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لعبادته وحده، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، لتوجيههم وإرشادهم لما فيه خير دينهم ودنياهم.
نِعَمُ الإله على العباد كثيرة وعظيمة، أجلها على الإطلاق نعمة الإيمان والهداية: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"، وتليها وهي تبع لها نعمة الاستضاءة بنور الكتاب والسنة، والاهتداء والاقتداء بالسلف الصالح.
ثم تتوالى النعم وتترى على العباد، نحو نعمة العافية والفراغ، والمال، والبنين، ونحوها، فالصحة والعافية تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، والمال والبنون من النعم العظيمة والآلاء الجسيمة، فنسأل الله الرؤوف الرحيم أن لا يحرم بيتاً من الأطفال، ونجابة الأبناء ونباهتهم وعقلهم نعمة لا تدانيها نعمة بعد الإيمان والاهتداء بالسنة.
نعم الإله على العباد كثيرة وأجلهن نجابة الأولاد
واجب على العباد مقابلة هذه النعم دقها وجلها بالتوحيد والامتنان، والشكر والعرفان، وليحذروا من الجحود والنكران والكفران، وليعلموا أنهم مسؤولون عن هذه النعم إن لم يؤدوا حقها، ويوفوا شكرها، قليلة كانت أم كثيرة، فبالشكر تدوم النعم، وبالجحود والكفران تتوالى النقم.
وشكر النعم يكون بلسان الحال، بالتزام الأوامر واجتناب النواهي، وبلسان المقال بالشكر باللسان والتحدث بالنعم ونشرها وبثها، خاصة بين الأحبة والأصدقاء.
قال تعالى مخاطباً له وللأمة في شخص رسولها: "وأما بنعمة ربك فحدث"، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن أن يرى أثر نعمته على عبده"، روى النسائي عن مالك بن نضلة الجُشمي رضي الله عنه قال: "كنتُ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً، فرآني رثَّ الثياب، فقال: ألك مال؟ قلتُ: نعم، من كل المال؛ قال: إذا آتاك الله مالاً فليُرَ أثره عليك".
وروى الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بالنعم شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب".
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: "إذا أصبتَ خيراً، أوعملتَ خيراً، فحدِّث به الثقة من إخوانك".
النعم المسؤول عنها
اختلف أهل العلم في تأويل النعم المسؤول عنها في قوله تعالى: "لتسألنَّ يومئذ عن النعيم"، على أقوال هي:
1. قال سفيان بن عيينة رحمه الله: "إن ما سدَّ الجوع، وستر العورة ،من خشن الطعام، واللباس، لا يُسأل عنه المرء يوم القيامة، وإنما يسأل عن النعيم، قال: والدليل عليه أن الله أسكن آدم الجنة، فقال له: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى".
2. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: الأمن والصحة.
3. وقال سعيد بن جبير رحمه الله: الصحة والفراغ.
4. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حاستي السمع والبصر.(9/286)
5. وقال جابر: ملاذ المأكولات والمشروبات.
6. وقال الحسن: الغداء والعشاء.
7. وقال مكحول: شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخَلْق، ولذة النوم.
8. عن كل نعيم قليلاً كان أم كثيراً.
خرَّج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أوليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله؛ قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوما؛ فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: يستعذب لنا من الماء؛ إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله! ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني، قال: فانطلق فجاءهم بعِذْق فيه بُسْر وتمر رطب، فقال: كلوا من هذه؛ وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب؛ فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العِذْق، فشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة! أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم".
وخرجه الترمذي وزاد فيه كما قال القرطبي: "هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة: ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد"، وكنى الرجل الذي من الأنصار، فقال: أبو الهيثم بن التيهان، واسمه مالك.
قال عبد الله بن رواحة يمدح صنيع أبي الهيثم هذا:
فلم أر كالإسلام عزاً لأمة ولا مثل أضياف الإراشي معشراً
نبيٌّ وصدِّيقٌ وفاروقُ أمةٍ وخير بني حواء فرعاً وعنصراً
فوافوا لميقاتٍ وقَدْرٍ قضية وكان قضاء الله قدراً مقدراً
إلى رجل نَجْدٍ يُباري بجوده شُموسَ الضحى جوداً ومجداً ومفخراً
وفارس خلق الله في كل غارة إذا لبس القومُ الحديدَ المُسَمَّرا
ففَدَّى وحَيَّا ثم أدنى قراهم فلم يقرهم إلا سميناً متمراً
وفي رواية أبي نُعيم: قال عمر: يا رسول الله، إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟ قال: "نعم، إلا من ثلاث: كسرة يسد بها جوعته، أوثوب يستر به عورته، أوجُحْر يأوي فيه من الحر والقر"، أي البرد.
وفي رواية للترمذي عن أبي هريرة لما نزلت هذه الآية: "ثم لتسألن يومئذ عن النعيم"، قال الناس: يا رسول الله، عن أي نعيم نسأل؟! إنما هما الأسودان التمر والماء، وسيوفنا على أكتافنا والعدو أمامنا؟ قال: "إن ذلك سيكون"، وفي رواية: "لتسألن عن الأسْوَدَيْن".
وقال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار.
وجمع البعض بين هذه الأخبار أن الكل يسأل، عن كل نعيم قليلاً أم كثيراً، ولكن سؤال الكافر سؤال توبيخ، لأنه لم يؤد الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف، لأنه شكر، والله أعلم.
اللهم إنا نسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، برحمتك يا عزيز يا غفار، وصلى الله وسلم وبارك وعظم على العبد الشكور، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
000000000000000000000
أبوبصير وأبوجندل رضي الله عنهما أول من سنَّا حرب المقاومة والعصابات في الإسلام
حرب الاستنزاف، أوالمقاومة، أوالعصابات من الوسائل المشروعة في الإسلام، لاسترداد الحق المغصوب، ولزعزعة الغزاة واضطرارهم للتخلي عن ديار الإسلام، ومقدراته، وثرواته.
يحل في حرب المقاومة، العصابات هذه ما لا يحل في غيرها، ويجوز فيها من المباغتة، والمكر، والخديعة، ما لا يجوز في غيرها، ويمكن فيها من الممارسات ما لا يمكن في غيرها.
تمارس حرب العصابات في الإسلام عندما لا يكون هناك تكافؤ بين الفئة المؤمنة والفئة الكافرة الغازية المتعدية في العدة والعتاد، سيما وأن الكفار والمنافقين في كل زمان ومكان لا يقاتلون المسلمين ولا يواجهونهم مواجهة الرجال الابطال في ساحات القتال وميادين التضحية، ولكن من وراء جدر وموانع، وهذا هو شأنهم في الماضي والحاضر: "لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أومن وراء جُدُر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون".
هذه الآية الكريمة من المعجزات الخبرية الخالدة لهذا الكتاب، إذ لا يزال اليهود وأذنابهم النصارى ومن تابعهم هذا هو ديدنهم، في الماضي كانوا يتحصَّنون بالجُدُر، وفي الحاضر بالمقاتلات من الطائرات وغيرها، وبالجدار العازل الذي شرعت دولة الشر والبغي إسرائيل وربيبتها أمريكا في تشييده، وذلك لأن اللوبي الصهيوني هو محرك القوى الصليبية الكنسية، والموجه لسياستها، والمسيطر على مالها وإعلامها وكنائسها.(9/287)
لقد أثبتت حرب المقاومة فعاليتها ونجاحها، وآتت ثمارها عندما مارسها الهندوس والبوذيون والشيوعيون الذين لا يرجون لله وقاراً، وأذلوا عن طريقها غطرسة وكبرياء الجبابرة والمتكبرين من الغزاة الغاشمين في فيتنام وغيرها من البلدان، ألا تؤتي ثمارها لدى المؤمنين الموحدين الذين يستمدون النصر من رب العالمين؟!
لم يتفوق المسلمون على الكافرين والمنافقين في جُلِّ المعارك التي خاضوها مع قوى الشر والطغيان في القوى المادية، عتاداً كانت أم رجالاً: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، بل عندما اغتر المؤمنون بكثرتهم هُزمُوا: "ويوم حُنَيْن إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً".
لعلمهم أن النصر من عند الله عز وجل: "وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى"، وأن الله ينصر من ينصره ويؤيد من يؤيد دينه، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يوصي جنده بقوله: "أنا من ذنوبكم أخوف عليكم من عدوكم".
صُلحُ الحديبية كانت حقيقته وباطنه رحمة للمؤمنين الموحدين، وظاهره ظلم وتعد على المستضعفين الذين حيل بينهم وبين الهجرة إلى المدينة، دار الإسلام، ولذلك ضاق بهذا الصلح طائفة من المتضررين منه ذرعاً، وشرعوا في مقاومة المشركين والنيل منهم، وشنِّ غارات على قوافلهم التجارية، والاستيلاء عليها، وقد تم لهم ذلك بقيادة بطلين من أبطال الإسلام وفارسين من فرسانه هما أبو بصير وأبو جندل رضي الله عنهما، ومن انضم إليهما من المسلمين، فكان ما قام به هؤلاء أول حرب مقاومة، واستنزاف، وعصابات ضد المشركين المتكبرين الظالمين الأشرار في الإسلام، فلأبي بصير وأبي جندل رضي الله عنهما أجر وثواب كل مقاومة قام ويقوم بها من بعدهم إلى أن تقوم الساعة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، لأنهما أول من سنا هذه السنة الحسنة، وسارا بهذه السيرة المرضية، وزرعا الرعب في نفوس الجبناء من الكفار، وأرهبا عدو الله وعدوهم، ودلا على سبيل المقاومة عندما يتراجع عن الغزو والجهاد المتراجعون، ويتقاعس عن ذلك المتقاعسون، ويُخذِّل عنه المخذِّلون.
عندما قال مفاوض المشركين في الحديبية ساعتئذ سهيل بن عمرو وكان مشركاً: "على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا"، قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلماً؟!
فبينما هم كذلك إذ جاء أبوجندل بن سهيل بن عمرو يَرْسَفُ في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهل – أبوه -: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليَّ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد"، قال: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي"، قال: ما أنا بمجيزه لك؛ قال: "بلى فافعل"، قال: ما أنا بفاعل؛ قال مكرَز: بلى قد أجزناه لك؛ قال أبو جندل: أي معشر المسلمين، أرَدُّ إلى المشركين وقد جئتُ مسلماً، ألا ترون ما قد لقيت؟! وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله.
وفي رواية لابن كثير كذلك: فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه، وقال: يا محمد، قد لجَّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا؛ قال: "صدقت"، فجعل – سهيل – ينتره بتلبيبه ويجره، يعني يرده إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرَدُّ إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد ذلك الناس على ما بهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم.
قال: فوثب عمر بن الخطاب إلى أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب؛ قال: ويدني قائم السيف منه، قال: يقول عمر: رجوتُ أن يأخذ السيف فيضرب أباه! قال: فضنَّ الرجل بأبيه، ونفذت القضية).
وعن أبي بصير رضي الله عنه قال ابن كثير: (ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبوبصير، رجل من قريش، وهو مسلم، أرسلوا في طلبه رَجُلين، فقالوا: العهد الذي جعلتَ لنا؛ فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيد؛ فاستله الآخر، فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت؛ فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه؛ فأمكنه منه، فضربه به حتى برد، وفرَّ الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: "لقد رأى هذا ذعراً"، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتِل واللهِ صاحبي وإني لمقتول؛ فجاء أبوبصير، فقال: يا نبي الله، أوفى الله ذمتك، قد رددتني ثم أنجاني الله منهم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويل أمه مِسْعَرَ حرب لو كان له أحد!"، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.(9/288)
قال: وينفلت منهم – أي من قريش – أبوجندل بن سهيل بن عمرو فيلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عَِصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم.
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم).
قال ابن عبد البر: (وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر في أبي بصير بأتم ألفاظ وأكمل سياقه. قال: وكان أبوبصير يصلي لأصحابه، وكان يكثر من قول: اللهُ العلي الأكبر، من ينصر الله فهو ينصره؛ فلما قدم عليهم أبوجندل، كان هو يؤمهم، واجتع إلى أبي جندل حين سمع بقدومه ناس من بني غفار، وأسلم، وجُهينة، وطوائف من العرب، حتى بلغوا ثلاثمائة، وهم مسلمون، فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها؛ قال: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي جندل وأبي بصير ليقدما عليه، ومن معهما من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم، فقدم كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي جندل وأبوبصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يقرأه وهو فرح به، فدفنه أبوجندل مكانه وصلى عليه وبنى على قبره مسجداً).
قلت: في عدم كتابة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك إقرار لهم على صنيعهم هذا، ولكن بعد أن فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجاً لم تكن هناك حاجة لمقاومتهم تلك، لأن راية الجهاد كانت مرفوعة في المدينة، وكانت غزواته وسراياه تجوب الجزيرة العربية.
ليس في بناء أبي جندل مسجداً على قبر أبي بصير دليل على مشروعية البناء على القبور، لأن هذا كان قبل النهي عن ذلك، فلم يكن أبو جندل يعلم نهياً عن ذلك وإلا لما أقدم على هذا العمل.
قال ابن عبد البر: قال أبوجندل وهو مع أبي بصير:
أبلغ قريشاً من أبي جندل أني بذي المروة بالساحل
في معشر تخفق أيمانُهم بالبيض فيها والقنى الذابل
يأبون أن تبقى لهم رفقة من بعد إسلامهم الواصل
أويجعل الله لهم مخرجاً والحق لا يُغلب بالباطل
فيسلم المرء بإسلامه أويُقتل المرء ولم يأتلِ
قلت: جزى الله أبا بصير وأبا جندل وإخوانهما عن الإسلام خير الجزاء، وجزى الله الإسلام عنا وعنهم خير الجزاء، فقد سنوا هذه السنة الحميدة وهي مقاومة الكفار بالوسائل المتاحة، وكانوا سبباً في مشروعية حرب العصابات وحرب الاستنزاف والمقاومة هذه التي يخوضها الأبطال هذه الأيام في عدد من بقاع الإسلام، بعد أن خذلهم إخوانهم، وتخلت الجيوش الإسلامية عن واجبها، وركن جُلُّ الحكام إلى الكفار، واستكانوا لهم، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فقد صلح أول هذه الأمة برفع راية الجهاد، وبالتضحيات، وبالعمليات الجهادية التي سنها كذلك البراء بن مالك وسلمة بن الأكوع رضي الله عنهما، وغيرهما كثير، ومن قبل غلامُ أصحاب الأخدود، فلا نامت أعين الجبناء، ولا تهنا بالعيش المخذلون التعساء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلوات ربي وسلامه على نبينا الضَّحوك القتَّال القائل: "وجعل رزقي تحت ظل سيفي، وجعل الصَّغار على من خالف أمري".
00000000000000000000
احذروا الركون إلى الكفار "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكم النار"
لم يواجه الإسلام عقيدة وشريعة منذ عهد أبينا آدم عليه السلام وإلى اليوم خطراً أشد ولا أكبر مما يواجهه اليوم، حيث لم يُستهدف الإسلام كما استهدف اليوم، فالحرب الصليبية اليهودية التي تقودها أمريكا في هذا العصر ليست حرباً عسكرية ولا اقتصادية فحسب، بل هي حرب عقدية، وثقافية، وحضارية، وسلوكية، واجتماعية، ويخطئ من يتوهم أن هدف الكفار من تلك الحرب الصليبية الشرسة هو القضاء على الإرهاب ممثلاً في تنظيم القاعدة وحكومة الطالبان لإيوائها لقادة القاعدة، أو لتخليص العالم من أسلحة الدمار الشامل، ومن أجل ذلك غزوا أفغانستان والعراق واستعمروهما، وليس كذلك هو تأمين إسرائيل والهيمنة على مصادر النفط العربي فحسب، بل هدفها القضاء على الإسلام، إسلام الوجه واليد واللسان، هدفها كل مسلم معتد بدينه، معتصم بربه.
هدفها محاربة العقيدة الصحيحة، والدفاع عن الشرك، وحماية الوثنيات القديمة، والمحافظة عليها وبثها من جديد، ومحاولة إرجاع الناس إليها، فإخراج الناس سيما المسلمين من النور إلى الظلمات مطلب أساسي من إشعال هذه الحرب وتوسيع دائرتها.(9/289)
هدفها كذلك تغيير الهوية الإسلامية، ولذلك عمدوا إلى تغيير المناهج وقفل الجامعات والمدارس والمعاهد الدينية، والتضييق على المنظمات والجمعيات الطوعية والخيرية، والعمل على منع العلماء والدعاة المؤثرين من التدريس والخطابة، وقد صدرت تعليماتهم الصارمة إلى الحكام بذلك، وشرع كثير من الحكام في تنفيذ هذا المخطط وإعانة الكفار على تحقيق مآربهم، وإنجاح حملتهم الصليبية.
هدفهم كذلك أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا كما شاعت في ديارهم، وذلك بإخراج ما تبقى من النساء المسلمات من بيوتهن، ونزع الحجاب والعفاف عنهن، وتوسيع دائرة الاختلاط، وتنويع محاوره وأشكاله.
هدفهم أيضاً أن تسيطر حضارتهم المادية اللادينية على جميع الحضارات، سيما الإسلام، إذ ليس هناك حضارة أوفكر يخشون منه سوى الإسلام.
هدفهم القضاء على المظاهر الإسلامية، نحو إعفاء اللحى وغيرها.
هدفهم كذلك القضاء على عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، التي هي سر بقاء هذا الدين، وسبب مقاومته للكفر والكافرين.
هدفهم كذلك زيادة عملائهم والتمكين لهم، والسعي على تسليم السلطة إليهم بعد أن يئسوا من عملائهم التقليديين، فلكل مرحلة صنف من العملاء وفريق من الخونة والبلهاء.
لقد سعى الكفار لتحقيق هذه الأهداف وغيرها منذ أمد بعيد، وسلكوا من أجلها كل سبيل، وجربوا كل طريق، وبذلوا ولا يزالون يبذلون كل غال وثمين.
لذلك فقد حققوا قدراً كبيراً مما يريدون، ونالوا نصيباً وافراً مما يصبون إليه.
ما كان لهؤلاء الكفار أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه أوأن ينالوا ما رموا إليه لولا شيئين، هما:
الأول: العمالة والموالاة لهم من بعض المنتسبين إلى الإسلام، فقد زاد عدد عملائهم بعد سقوط الاتحا السوفييتي، فقد انحاز كل عملاء الشيوعية إلى الإمبريالية العالمية بقدرة قادر، فاتسعت دائرة حزب الشيطان لتشمل الشيوعيين والعلمانيين وكافة أعداء الدين، فالكفر ملة واحدة، والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
الثاني: الركون إلى الكفار والتنازل لهم، وسرعة الاستجابة إلى مطالبهم بصورة لم يكن الكفار يحلمون بها من قبل، فاقت تصوراتهم وزادت من طموحاتهم، من العامة قبل الخاصة، ومن بعض الدعاة والمنتسبين إلى العلم والمحسوبين على الإسلام قبل غيرهم، ولخطورة الركون جعلت عقوبته النار: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار"، ولا أدل على ذلك من مطالبة "الكنقرس" حكام المسلمين بعدم تصدير كلامهم وخطبهم وأحاديثهم الرسمية بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"، وألا يفتتحوا المجالس والبرلمانات بقول عز وجل: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم" الآية.
والسبب الثاني أخطر من الأول، لأنه سبب وغاية لما يهواه الكفار.
حفظ الدين له شقان: نظري وعملي.
فالحفظ النظري قد تكفل به ربنا سبحانه، فقال: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ولم يدعه لغيره، والذكر يشمل القرآن والسنة.
أما الحفظ العملي فهو مسؤولية المسلمين عامة، بجميع طوائفهم وشرائحهم، حكاماً ومحكومين، علماء وعامة، وإن كان دور الحكام والعلماء أكبر من غيرهم، والمراد بذلك الثبات على المبادئ، والمحافظة على المسلمات، وعدم التنازل والركون مهما كانت النتائج.
فالركون هو طاعة الكفار والمنافقين والمبتدعة والفاسقين، ومداهنتهم، ومصانعتهم، والميل والتودد إليهم، والرضا عنهم.
أخطر صور الركون
لا شك أن مسؤولية الحفاظ على هذا الدين من الناحية العملية هي مسؤولية تضامنية، لكل مسلم منها حظ ونصيب، ذكراً كان أم أنثى، عالماً كان أم جاهلاً، حاكماً كان أم محكوماً، عاصياً كان أم طائعاً، شاباً كان أم شيخاً.
فما من مسلم إلا وهو على ثغرة من ثغور الإسلام، ومسؤول عن جانب من جوانبه: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" الحديث، حيث لم يستثن الرسول صلى الله عليه وسلم عن المسؤولية أحداً، فقد عمم فيه وخص ثم عمم.
ينبغي على كل مسلم أن يستشعر هذه المسؤولية، وينبغي لولاة الأمر من العلماء أن يذكِّروا إخوانهم المسؤولين بذلك، وأن ينبهوهم إلى الأخطار التي تحيط بهم من كل جانب، فالذكرى تنفع المؤمنين، وتنبه الغافلين، وفيها معذرة لرب العالمين.
صور الركون وأمثلته في هذا العصر، وفي هذه الأيام خاصة التي انفرد فيها الأمركان بقيادة العالم لا تحصى كثرة، ولكن سنشير إلى طرف منها تنبيهاً إلى غيرها، من تلك الأمثلة الواضحة الفاضحة على الركون والاستكانة والخضوع للكفار ومن والاهم في هذا العصر ما يأتي:
1. الدعوة إلى تقارب الأديان وتوحيدها، والمناداة بالتعايش السلمي بين أتباعها، وعقد المؤتمرات والندوات، والكتابة في الصحف والمجلات، ممن ينتسبون إلى ديننا ويتكلمون بلغتنا ويرفعون شعاراتنا، وينتمون إلى جماعتنا.
وهذا من أخبث أنواع الركون والاستكانة، وهو ناقض من نواقض الإسلام، علم دعاة ذلك بهذا أم لم يعلموا.(9/290)
2. الدعوة إلى إباحة الردة عن الدين الحق، الإسلام، وإنكار حدها، وهذا مما لا ينتطح فيه عنزان، ولا يختلف فيه عاميان، من أنه ناقل عن حظيرة الإسلام، ونشر ذلك في وسائل الإعلام المختلفة من غير نكير من المسؤولين.
3. الدعوة إلى السفور والتبرج والعمل على تحرير المرأة من القيود الشرعية، والمناداة بمساواتها بالرجل.
4. التشكيك في المسلمات والثوابت، والدعوة إلى إعادة النظر فيها، نحو سن قانون يحرم تعدد الزوجات، أويساوي بين الذكر والأنثى في الميراث، ولا شك أنه ناقض من نواقض الإسلام كذلك.
5. سن القوانين الوضعية والرضا بها والتحاكم إليها، ونبذ شرع رب العالمين، مع صريح قوله عز وجل: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".
6. بعض الفتاوى الفاجرة، نحو تجويز شيخ الأزهر للحكومة الفرنسية أن تسن قانوناً يحرم الحجاب على المسلمات هناك، وقد فرضه الله عليهن، ونحو إباحة البعض للفوائد الربوية من المصارف وغيرها.
7. منافقة كثير من المنتسبين إلى الإسلام في وسائل الإعلام لمن يمجد الزنادقة والملاحدة والمرتدين، الذين قتلوا بسيف الشرع، ووصفهم بأنهم مفكرون، وأنهم قتلوا ظلماً وعدواناً، وقد علم من دين الله ضرورة أن من لم يكفر الكافرين أوشك في كفرهم فقد كفر.
8. نبذ الجهاد ودعوى أن الإسلام لم ينتصر بحد السيف، ورد القاعدة: "الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة"، والاستخفاف بها.
9. التوسع في إباحة الأغاني والملاهي التي حرمها الله ورسوله.
10.البحث والتنقيب عن زلات وهفوات بعض أهل العلم ونشرها والاستدلال بها لما تهواه أنفسهم، منافقة للكفار والمنافقين.
11.الذبُّ والجدل عن البدع والمحدثات الشرعية وإشاعتها بين العامة.
12.محاولة البعض إجازة بعض الممارسات الشركية التي هي سبب لكل بلية.
13.التوسع في التشبه بالكفار في المخبر والمظهر، وقال رسولنا صلى الله عليه وسلم: "من تشبَّه بقوم فهو منهم".
14.الاستجابة لطلبات الكفار في تعديل المناهج، وحذف الآيات والأحديث التي تتكلم عن الجهاد والولاء والبراء، ولعن اليهود والنصارى، وفي قفل بعض المدارس والمعاهد، وفي منع بعض الأئمة والخطباء والدارسين، وفي قفل كثير من المنظمات الطوعية، وفي التحكم في مصارف الزكاة.
وكما قلت فإن الأمثلة على الركون كثيرة، وفيما ذكرنا غنى عما أغفلنا لمن كان له قلب أوألقى السمع وهو شهيد.
فاحذر أخي المسلم الركون والاستكانة إلى الكفار والمنافقين، الموجب لغضب الجبار، قليلاً كان هذا الركون أم كثيراً، فقد قال الله عز وجل محذراً لنا في شخص نبيه صلى الله عليه وسلم: "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً"، وتذكر أنك لن تقوى على النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد الداعي إلى صراطه المستقيم.
0000000000000000000000
أيها الطالب كيف تقضي عطلتك الصيفية؟
الفراغ نعمة إن استغل استغلالاً حسناً، ولكن سرعان ما ينقلب إلى نقمة وبلاء إن لم يُعرف قدره، فما أكثر الجاهلين بقيمة هذه النعمة المغبونين فيها، "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ"، ولهذا جاء في المثل: "الوقت من ذهب"، و"الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك"، سيما مع اجتماع المال والشباب: "إن الفراغ، والشباب، والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة".
واجب أولياء الأمور في البيوت، والمدارس، والمراكز الصيفية، ووزارة الشباب، وغيرها من المؤسسات، أن تعد البرامج النافعة، وتضع الخطط الهادفة لاستغلال طاقات الشباب والاستفادة من مواهبهم وقدراتهم وملكاتهم الذهنية والجسدية، خاصة في العطل الصيفية، بما فيه نفع لهم ولأهليهم ولمجتمعهم، وبما يحول بينهم وبين الانحرافات والممارسات الخاطئة السالبة، فهم أمانة في أعناقهم.
وسائل الاستفادة من الشباب في العطل الصيفية لها مساران:
1. فردي.
2. جماعي.
المساران ينبغي أن يشملا الأغراض التالية:
1. الأعمال الجادة المفيدة له ولأهله ولمجتمعه.
2. تنمية مقدراته وملكاته ومواهبه.
3. الترويح البريء.
4. صرفه عما يضره.
الجانب الفردي
• ... مساعدة والديه وأهله في عملهم، زراعياً كان أم حرفياً، أم تجارة، ونحوها.
• ... الاطلاع العام.
• ... زيارة الأقارب وصلة الأرحام والأصدقاء.
• ... ممارسة أي عمل يكتسب منه إن كان محتاجاً، والاجتهاد في توفير قدر من احتياجاته الدراسية.
• ... تنمية مواهبه وملكاته بالتدريب على ما يهواه.
• ... حضور الدروس في المساجد والمحاضرات.
• ... ارتياد المكتبات العامة.
الجانب الجماعي
يحتاج إلى إنشاء مراكز صيفية، مكتبات عامة، حوافز مالية وتشجيعية قيمة، وسائل ترحيل، عمل استبيان يوضح ميول واتجاهات ورغبات الطلاب، وعلى ضوئه يقسمون إلى هذه المجالات:
• ... قوافل جماعية، دعوية، تعليمية، تثقيفية، لمناطق السودان المختلفة.
• ... دورات لتحفيظ القرآن.
• ... العُمَر الجماعية.
• ... الرحلات الجماعية لبعض المناطق السياحية، والصناعية، والزراعية.(9/291)
• ... معسكرات مقفولة.
• ... دورات علمية هادفة مكثفة.
• ... الاشتراك في مواسم الحصاد.
• ... دورات تقوية.
• ... عمل حلقات لمحو الأمية وتعليم الكبار.
• ... المساهمة في الأعمال الطوعية والإنسانية.
• ... حملات نظافة للأماكن العامة.
• ... حملات تشجير للشوارع الرئيسية.
• ... عمل دورات توعية، مرورية وغيرها.
• ... معسكرات رياضية.
• ... معسكرات عسكرية.
• ... إعداد صحف ومجلات حائطية في المساجد والمدارس والأندية وغيرها.
• ... معسكرات لتعليم السباحة والرماية.
الحرص والتشجيع على الآتي في طول العام وفي العطلة خاصة
• ... الصلوات المكتوبة في المساجد.
• ... حضور الدروس التي تقام في المساجد.
• ... الارتباط بالمسجد، عن طريق التأذين، وكنسه، ونظافته، وتشجيره، وعمل صحف.
• ... حضور المحاضرات والاشتراك في الدورات التعليمية.
• ... الاعتماد على النفس في غسل وكي الملابس ونحوها.
• ... قراءة والاستماع إلى المفيد النافع في الدين والدنيا.
• ... التعلق بمعالي الأمور، وأن يكون للمرء هدف يسعى لتحقيقه في عمره القصير.
الحذر من الآتي
• ... كثرة النوم.
• ... كثرة الولوج والخروج في المواقع الساقطة.
• ... الاهتمام بسفاسف الأمور، نحو تشجيع الفرق الرياضية، وقراءة ما يتعلق بها وبالفن في الصحف ونحوها.
• ... الجلوس في الطرقات والدكات والميادين العامة.
• ... مصاحبة الأشرار والخروج والدخول معهم.
• ... الدخول على النساء الأجانب.
• ... الذهاب إلى الأسواق والجلوس في المقاهي والمطاعم.
• ... متابعة المسلسلات والاستماع للأغاني.
• ... الجلوس من غير عمل.
هل تعلم أيها الشاب أن الإمام الشافعي جلس للفتيا والتدريس وهو في سن الخامسة عشرة؟ وأن أسامة بن زيد رضي الله عنه قاد الجيش في غزوة مؤتة ولم يبلغ العشرين؟ وأن أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل رضي الله عنه مات وعمره أربع وثلاثون سنة؟ وهل تعلم أنه لن تزول قدماك عن الصراط حتى تُسأل فيما تُسأل "عن شبابك فيما أبليت"؟ وأن الشباب هم عدة هذه الأمة ونصرتها في جميع العصور؟
وفقك الله لما يحب ويرضى، وبصرك لما فيه خيرك في الدنيا والدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
00000000000000000000000000
لن يُفلح قومٌ ولَّوْا أمرهم امرأة
قوله عز وجل: "الرجال قوَّامون على النساء"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولَّوْا أمرَهم امرأة" قضيا وحكما بأن الولاية تكون للرجال، وليس للنساء حظ من ذلك، سواء كانت ولاية عامة أم خاصة، لا في الحكم ولا في الصلاة ولا في غيرهما من الأمور.
وإنما تصحُّ ولاية المرأة على بيت زوجها وعلى بني جنسها: "والمرأة راعية في بيت زوجها" الحديث.
لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تلي أمراً على الرجال، فلا يحل لها أن تكون والية، ولا وزيرة، ولا عاملة، ولا قاضية، ولا رئيسة في دائرة من الدوائر الحكومية ولا غيرها، ولا عميدة كلية، ولا مديرة مدرسة، ولا رئيسة قسم ولا لجنة في جامعة ولا مدرسة فيها رجل واحد، اللهم إلا على النساء.
ولا يحل لولاة الأمر من المسؤولين أن يولوا النساء على الرجال، فإن فعلوا فهم مؤاخذون على ذلك، وسيحاسبون عليه يوم القيامة حساباً عسيراً، لمخالفتهم لأمر الله ولأمر رسوله.
وليس في ذلك غض لمكانة المرأة، ولا انتقاص لها كما يدعي دعاة تفلت المرأة وتحررها من القيود الشرعية، بل في ذلك إعزاز وإكرام وصيانة لها.
رضي الله عن أبي بكرة نفيع بن الحارث، عندما خرجت عائشة رضي الله عنها إلى الكوفة، وكان غرضها من هذا الخروج أن يراها الناس ويصطلحوا ولا يقتتلوا ولكن دعاة الفتنة أخزاهم الله هم الذين أجَّجوا القتال، وطُلب منه أن يخرج مع من خرج، وكان ممن اعتزل الفتنة، قال: "لقد نفعني الله بكلمة أيام الجمل، لما بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن فارساً ملَّكوا ابنة كسرى قال: لن يفلح قومٌ ولوا أمرَهم امرأة"، حيث لم يقبل أن يخرج مع عائشة وهي أمه وأم المؤمنين جميعاً، ولم تخرج طالبة لزعامة وإنما خرجت للصلح.
الحمد لله الذي عافى الأمة عن مخالفة أمر ربها ورسوله، حيث لم تول امرأة قط على رجال في عصورها المختلفة إلا في هذا العصر الذي كثرت فيه البلايا، وعظمت فيه الرزايا، وابتلي فريق منهم بتقليد الكفار والتشبه بهم، هذا مع اعتراض الراسخين في العلم على ذلك الصنيع المنكر، وعدم رضى عامة المسلمين بذلك، تحقيقاً لما صح في الأثر أن هذه الأمة لن تجتمع على ضلالة قط.
في عصور الانحطاط في عهد المماليك عندما تولت "شجرة الدر" وكانت زوجاً لنجم الدين السلطة بعد ولده توران شاه الذي تولى بعد أبيه، حيث قتلته "شجرة الدر" واستولت على الحكم 648هـ، لم يكن توليها مقبولاً من العلماء ولا من ولاة الخليفة العباسي.(9/292)
فقد اعترض على توليها وأعلن ذلك سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله، وكتب الخليفة العباسي في وقته كتاباً إلى أهل مصر يعاتبهم على هذا الصنيع، إذ لم يكن سلطانه عليهم كاملاً، لانفراد المماليك بمصر والشام في ذلك الوقت، قائلاً: (إن كان ما بقي عندكم رجل تولونه فقولوا لنا نرسل إليكم رجلاً)، وقد وصل خطاب الخليفة هذا إلى المماليك بعد أن مضى على تولية "شجرة الدر" ثمانون يوماً، اقتنع أمراء المماليك بخطئهم وقالوا: لا يمكن حفظ البلاد والملك لامرأة؛ فأشاروا على "شجرة الدر" أن تتزوج كبير المماليك، وهو "الأتابك أيبك" التركماني، وتتنازل له عن العرش، فقبلت ذلك وخلعت نفسها عن السلطة.
وكذلك الأمر عندما أقام المماليك دولة لهم في دلهي بالهند سنة 602ه، وكان أول ملوكهم "إيلتش" الذي اعترف به الخليفة في بغداد، وبعد وفاته 634هـ تولت ابنته السلطة، فاعتُرض عليها وقُتِلت.
دعاة تحرير المرأة من القيود الشرعية والمنادين بخروج المرأة من بيتها، وبمساواتها بالرجل في كل شيء، أغراضهم مختلفة، وأهدافهم متباينة، وليس لهم جامع إلا الهوى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً".
فمنهم من هدفه التفسخ والتحلل، ويريد أن تكون المرأة لقمة سائغة كما هو الحال عند الكفار، ومنهم من يريد منافقة النساء والكسب السياسي الرخيص في الانتخابات، ومنهم من أشُرِب حب الكفار وتقليدهم فهواه تبع لهواهم، ومنهم الجاهل الذي يرى أن هذا من باب التطور والتقدم، فالكفار طالما أنهم متقدمون مادياً فكل ما فعلوه فهو حسن.
وأخس هذه الأصناف من يفتش ويبحث بل ويختلق الزلات والعثرات على بعض أهل العلم ويثير الشبه على السذج والمغفلين.
من ذلك الصنيع الخبيث والقول الخسيس زعم أحدهم أن الله فقط نفى الفلاح عمن يولون المرأة، ولم ينه عن تولية المرأة.
ومنهم من يشكك في الصحابي راوي الحديث أبي بكرة، والصحابة كلهم عدول رغم أنف أهل الأهواء، بحجة أنه أقيم عليه حد القذف، وهناك فرق كبير بين قبول الشهادة والرواية، ويقول آخر إنه حديث آحاد.
وغير ذلك من الأباطيل والأكاذيب التي جاد بها الشيطان على أوليائه من العلمانيين ذوي النكهة الإسلامية.
ولهذا فإن هؤلاء أخطر الأصناف جميعاً.
هذا ما كان عليه أهل الإسلام قديماً وحديثاً، وهذه هي سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً، وهذا هو الدين الذي بُعث به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وليتبع المتفلتون عن شرع رب العالمين المقلدون لأحفاد القردة والخنازير ما شاءوا، فلن يضروا الله شيئاً، ولن تزال طائفة من هذه الأمة – وهي المنصورة – قائمة على أمر الله متمسكة به، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى تقوم الساعة وهم ظاهرون على ذلك.
اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.
0000000000000000000
أيها المسؤولون، أيها الموظفون احذروا استغلال سلطتكم وجاهكم
من القواعد الفقهية والضوابط الرئيسية التي شرعها لنا الإسلام التي تحد من استغلال المسؤولين والموظفين لمناصبهم، ومن فسادهم وإفسادهم، ما يأتي:
(1) قاعدة سد الذرائع، فما من سبب يؤدي إلى أكل الحرام إلا وقد منعته الشريعة، وما من باب يمكن أن يولج منه إلى حرام أويحدث شبهة أوفساداً إلا وقد أوصد.
(2) قاعدة من أين لك هذا؟
(3) الشواهد الصامتة الناطقة، الماء والطين، أو"الإسمنت والخرسانة" في هذا العصر، أوالحسابات المودعة في المصارف، امتلاك الشركات والمؤسسات.
(4) اختيار الرجل المناسب للمكان المناسب، وهو الكفء الأمين، كما قال يوسف عليه السلام لعزيز مصر: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم"، وكما عللت بنت شعيب استئجار موسى: "إن خير من استأجرت القوي الأمين".
(5) المتابعة الدقيقة والمراقبة المستمرة مهما كان صلاح المسؤول.
(6) إنزال العقوبة الصارمة على من ثبتت خيانته ردعاً له ولأمثاله.
(7) الإسراع بعزل من يثبت عجزه في عمله بفسق أوفساد.
إذا التزم المسؤولون بهذه القواعد والضوابط في تعيين الكفء الأمين من المسلمين من غير محاباة ولا مجاملة، مستشعرين ومستصحبين تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف من المحاباة في ذلك: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمر عليهم أحداً محاباة، فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولاعدلاً حتى يدخله النار".
وفي رواية: "من استعمل رجلاً من عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين".
وقال عمر لأحد عماله: "عليك بأهل القرآن فإن لم يكن فيهم خير فمن سواهم أولى"؛ وقال: "إني لأتحرج أن أستعمل الرجل وأنا أجد أقوى منه"، وقال: "من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله"، وقال: "إنه لم يقم أمر الله في الناس إلا حصيف العقيدة، بعيد الغرة، لا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخشى الحق على جرأة، ولا يخاف في الله لومة لائم".(9/293)
ويروى عن الحسن أنه قال: قال عمر: أعياني أهل الكوفة، فإن استعملت عليهم ليناً استضعفوه، وإن استعملتُ عليهم شديداً شكوه، ولوددت أني أجد رجلاً قوياً أميناً مسلماً أستعمله عليهم، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أنا والله أدلك على الرجل القوي الأمين المسلم؛ فأثنى عليه، قال: من هو؟ قال: عبد الله بن عمر؛ قال عمر: قاتلك الله ما أردتَ بها وجه الله".
ولله در الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز فقد روي أنه كان جالساً في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً؟ فقال رجل منهم: لِمَ تعرض علينا ما لا تفعله؟ قال: ترون بساطي هذا؟ إني لأعلم أنه يصير إلى بلى وفناء، وإني أكره أن تدنسوه بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني، أوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم، هيهات؛ فقالوا له: لِمَ؟ أما لنا قرابة؟ أما لنا حق؟ قال: ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء، إلا رجل من المسلمين حبسني عنه طول شقته.
لهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل).
وفي إعطائه ما يكفيه ويغنيه هو وعياله حماية له من الفساد، لهذا عندما ولي أبوبكر الخلافة ذهب إلى السوق، فقيل له في ذلك، فقال: من أين أنفق على عيالي؟ فجعلوا له ألفي درهم في العام، فقال: مايغنيني وعيالي؛ فجعلوها ألفين وخمسمائة درهم.
فالموظف إن لم يُعط ما يكفيه تاقت نفسه إلى الحرام، إلى الرشوة واستغلال الجاه، إلا أن يكون ذا نفس أبية وأخلاق مرضية، فمطالبة المسؤول أوالموظف بالعفة والأمانة مع علم الجميع أن ما يُعطى من معاش لا يفي بمعشار ما يحتاجه هو وعياله من باب المطالبة بما لا يُطاق، وليس لهذا مثل إلا قول القائل:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
مع حسن الاختيار والتحري في ذلك، وإعطاء المسؤول ما يغنيه لابد من المراقبة والمتابعة المستمرة والمحاسبة الدقيقة، هذه المراقبة والمحاسبة والمتابعة من أوجب واجبات المسؤولين نحو الرعية.
لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن اللتبية – وقد اصطفاه اصطفاءً – عندما بعثه مصدقاً على بني سُلَيم، كما خرَّج البخاري بسنده في صحيحه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً على صدقات بني سُليم يدعى ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا ما لكم، وهذا هدية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فهلا جلستَ في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً؟"، ثم خطبنا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أوبقرة لها خُوار، أوشاة تَيْعَر"، ثم رفع يديه حتى رؤي بيا ض إبطه يقول: "اللهم هل بلغت؟ بصر عيني وسمع أذني".
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها، وكذلك كان أبوبكر وعمر رضي الله عنهما، ثم امتنع عمر عن قبول الهدية، وكتب إلى عماله أن لا يقبلوا هدية، ذلك أن جزاراً كان يهدي إلى عمر فخذ جزور إذا ذبح، وفي مرة كانت له قضية، فقال لعمر: أرجو أن تفصل في هذه القضية كما يفصل الفخذ من الجزور؛ فانتبه عمر، وامتنع عن قبول الهدية ومنع عماله.
وإذا كان عمر يحاسب ويراقب أمثال سعد بن أبي وقاص وعمير بن سعد الذي كان يعرف بنسيج وحده رضي الله عنهما، وغيرهما كثير من الصحابة الأخيار، فكيف بمن لا يدانونهم ولا يشابهونهم في شيء إلا في الهيئة والشكل، ويصدق على كثير منهم قول متمم بن نويرة:
وبعض الرجال نخلة لا جني لها ولا ظل إلا أن تعد من النخل
روى الذهبي في ترجمة عمير بن سعد هذا قال: بعثه عمر على حمص، فمكث حولاً لا يأتيه خبره، فكتب إليه: أقبل بما جبيت من الفيء؛ فأخذ جرابه وقصعته، وعلق إداوته، وأخذ عنزته وأقبل راجلاً، ودخل المدينة وقد شحَب، واغبر، وطال شعره، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين؛ فقال: ما شأنك؟ قال: ألستُ صحيح البدن، معي الدنيا! فظن عمر أنه جاء بمال، فقال: جئتَ تمشي؟ قال: نعم؛ قال: أما كان أحد يتبرع لك بدابة؟ قال: ما فعلوا، وما سألتهم؛ قال: بئس المسلمون! قال: يا عمر، إن الله قد نهاك الغيبة؛ فقال: ما صنعت؟ قال: الذي جبيته وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به؛ قال: جددوا لعمير عهداً؛ قال: لا عملتُ لك ولا لأحد، قلتُ لنصراني: أخزاك الله.(9/294)
وذهب إلى منزله على أميال من المدينة، فقال عمر: أراه خائناً؛ فبعث رجلاً بمائة دينار، وقال: انزل بعمير كأنك ضيف، فإن رأيت أثر شيء فأقبل، وإن رأيت حالاً شديدة فادفع إليه هذه المائة؛ فانطلق، فرآه يفلي قميصه، فسلم، فقال له عمير: انزل؛ فنزل، فساءله، وقال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: ضرب ابناً له على فاحشة فمات.
فنزل به ثلاثاً، ليس إلا قرص شعير يخصونه به، ويطوون؛ ثم قال: إنك قد أجعتنا؛ فأخرج الدنانير، فدفعها إليه، فصاح، وقال: لا حاجة لي بها، وردها عليه؛ قالت المرأة: إن احتجت إليها وإلا ضعها مواضعها؛ فقال: ما لي شيء أجعلها فيه؛ فشقت المرأة من درعها، فأعطته خرقة فجعلها فيها، ثم خرج يقسمها بين أبناء الشهداء.
وأتى الرجلُ عمرَ، فقال: ما فعل بالذهب؟ قال: لا أدري؛ فكتب إليه عمر يطلبه، فجاء، فقال: ما صنعت بالدنانير؟ قال: وما سؤلك؟ قدمتها لنفسي؛ فأمر له بطعام وثوبين، فقال: لا حاجة لي في الطعام، وأما الثوبان فإن أم فلان عارية؛ فأخذهما ورجع، فلم يلبث أن مات).
لقد ازدادت سطوة المسؤولين والموظفين واستشرى فسادهم وعم وطم في هذه الأيام، وأصبحوا أخطبوطاً يتسلطون على مصالح الناس، ويعطلون أعمالهم، ويعرقلون أشغالهم، فلا يمكن لمؤسسة، أوتاجر، أوفرد عادي أن يُنجز له عمل في جل دواوين الحكومة إلا إذا دخل في مساومة معهم وأجابهم لمطالبهم.
لم تكن الروشة والمحسوبية واستغلال الجاه بهذه الدرجة من الخطورة ولا بهذا الحجم من الانتشار من قبل، حيث كانت محصورة في بعض الطبقات الدنيا من الموظفين، أما الكبار فما كانوا يتعاطون شيئاً من ذلك.
أما الآن فقد تضاعفت هذه المفاسد أضعافاً كثيرة وتوسعت دائرة المستفيدين من الرشوة، بحيث أصبح الرائش وهو وسيط السوء يطالب بثلاثين وأربعين مليوناً أوأكثر مقابل تسجيل قطعة أرض استثمارية أومسحها، أولتكملة إجراءات تسليمها لصاحبها.
وأضحى العديد من كبار الموظفين في عدد من الوزارات والمصالح والمؤسسات والمصارف أغنى بكثير من بعض التجار، فمنهم من يمتلك العديد من المنازل والعمائر والعقار، ومنهم من يمتلك مصانع ومؤسسات ويدخل في مناقصات كبيرة، وهكذا، وكل هذا عن طريق استغلال الجاه والسلطة، سواء كان ذلك بطريق مباشر أوغير مباشر، بينما نجد أمثالهم من الموظفين بل من هو أقدم منهم وأجدر وأكفى من الأطهار الأخيار يسكنون في بيوت الإيجار ويعيشون عيشة الكفاف.
وسبب كل هذا الفساد والتردي يرجع إلى عدم الالتزام بالقواعد والضوابط السالفة الذكر، سيما عدم المراقبة والمحاسبة والعزل، وعدم إنزال العقوبات الصارمة على من تثبت إدانتهم ويتضح فسادهم وإفسادهم، فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
أين نحن من مسلك حكامنا الأخيار في النزاهة ومناصحة ومحاسبة من يولون؟ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، إليك هذه الآثار في النزاهة عن استغلال الجاه:
• روى أبو أمامة رضي الله عنه قال: "مكث عمر رضوان الله عليه زماناً لا يأكل من المال شيئاً حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، فأرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشارهم، فقال: قد شغلتُ نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي منه؟ فقال عثمان رضي الله عنه: كل وأطعم؛ وقال ذلك سعيد بن زيد، فقال عمر لعلي: ما تقول أنت؟ قال: غداء وعشاء؛ فأخذ عمر بذلك".
• وعن قتادة قال: "كان معيقيب على بيت المال – في عهد عمر - فكسح بيت المال يوماً فوجد فيه درهماً فدفعه إلى ابن عمر، قال معيقيب: ثم انصرفت إلى بيتي فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني، فجئت فإذا الدرهم في يده، فقال: وحيك يا معيقيب أوجدت عليَّ في نفسك سبباً؟ أومالي ولك؟ فقلت: وما ذاك؟ قال: أردت أن تخاصمني أمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الدرهم يوم القيامة؟".
• "أهدى عامل لعمر نمرقتين لامرأة عمر، فعندما دخل عمر ورآهما قال: من أين لك هاتان؟ اشتريتيهما؟ خبريني ولا تكذبيني؛ قالت: بعث بهما إليَّ فلان؛ فقال: قاتل الله فلاناً لما أراد حاجة فلم يستطعها من قبلي أتاني من قبل أهلي؛ فاجتذبهما اجتذاباً شديداًمن تحت من كان عليهما جالساً، فخرج يحملهما، فتبعته جاريتها فقالت: أصوافهما لنا؛ ففتقهما وطرح إليها الصوف وذهب بهما فأعطى إحداهما امرأة من المهاجرين والأخرى امرأة من الأنصار".
• روى سعيد بن المسيِّب: "أن عمر رضي الله عنه بعث معاذاً ساعياً على بني كلاب وعلى بني سعد بن ذيبان، فقسم فيهم حتى لم يدع شيئاً، وعاد إلى المدينة بثوبه الذي خرج به منها، فقالت امرأته: أين ما جئت به مما يأتي به العمال من عراضة لأهليهم؟ فقال:كان معي ضاغط؛ فقالت: كنت أميناً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر فبعث عمر معك ضاغطاً؟ فقامت بذلك في نسائها، واشتكت عمر، فبلغ ذلك عمر، فدعا معاذاً فقال: أنا بعثت معك ضاغطاً؟ قال: لم أجد شيئاً أعتذر به إليها إلا ذلك؛ فضحك عمر، وأعطاه شيئاً، وقال: أرضها".(9/295)
• وعن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر فقال له أهلها: نحن أعلم بعملها منكم؛ فأعطاهم إياه بالنصف، ثم بعث عبد الله بن رواحة يقسم بينه وبينهم، فأهدوا له، فرد هديتهم، وقال: لم يبعثني النبي صلى الله عليه وسلم لآكل أموالكم، إنما بعثني لأقسم بينه وبينكم؛ ثم قال: إن شئتم عملتُ وعالجتُ وكلتُ لكم النصف، وإن شئتم عملتم وعالجتم ووكلتم لنا النصف؛ فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض".
أرجو من المسؤولين أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي عمالهم، ووزرائهم، وفي رعاياهم، وأن يعملوا على نصر الظالم والمظلوم، وعلى محاسبة من يولون، ومعاقبتهم وعزلهم إن دعا الحال، وعليهم الاقتداء بما كان يفعله عمر مع عماله.
روي أن عمر رضي الله عنه كان يقاسم عماله أموالهم بناء على قرائن الأحوال، والشواهد الناطقة والصامتة، والمبدأ الذي قرره: "لي على كل خائن أمينان، الماء والطين".
وكان سبب مقاسمته لبعض عماله أن أبا المختار يزيد بن قيس بن الصَّعق قال شعراً كتب به إليه يشكو عماله على الأهواز وغيرها، جاء فيه:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة فأنت أمين الله في النهي والأمر
وأنت أمين الله فينا ومن يكن أميناً لرب العرش يسلم له صدري
فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى يسيغون مال الله في الأدم الوفر
فأرسل إلى الحجاج فاعرف حسابه وأرسل إلى جزء وأرسل إلى بشر
ولا تنسين النافعين كليهما ولا ابن غلاب من سراة بني نصر
وما عاصم منها بصغر عناية وذاك الذي في السوق مولى بني بدر
وأرسل إلى النعمان فاعرف حسابه وصهر بني غزوان إني لذو خبر
وشبلاً فسله المال وابن مجرش فقد كان في أهل الرساتيق ذا ذكر
ولا تدعوني للشهادة إنني أغيب ولكني أرى عجب الدهر
من الخيل كالغزلان و البيض كالدمى وما ليس ينسى من قرام و من ستر
ومن ريطة مطوية في صوانها ومن طي أستار معصفرة جمر
إذا التاجر الهندي جاء بفارة من المسك راحت في مفارقهم تجري
نبيع إذا باعوا ونغزو إذا غزوا فأنى لهم وفر ولسنا بذي وفر
فقاسمهم نفسي فيداؤك إنهم سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر
وقد قاسم عمر مالهم فعلاً، وكان يحصي أموالهم قبل توليتهم ويصادر كل زيادة غير معقولة.
والله أسأل أن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يرزقنا الحلال الطيب، ويغنينا بحلاله عن حرامه، وبفضله عمن سواه، ويقنعنا بما رزقنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا القائل: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"، والقائل: "أول ما ينتن من المرء بطنه، فإن استطعت أن لا تدخل فيه إلا الحلال الطيب فافعل"، أوكما قال.
000000000000000000
العاقل الذي يعرف خير الشرين
إذا تزاحمت الشرور وليس هناك طاقة ولا قوة لدفعها جميعاً فلابد من التخيير والتمييز بينها، فكما أن الخير والإيمان درجات فكذلك الكفر والشر دركات، وبعض الشر أهون من بعض.
على المسلمين أفراداً وجماعات أن ينحازوا ويعملوا لدفع شر الشرين، بخير الشرين، فمكره أخاك لا بطل.
إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبُها
ولهذا حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لغلبة الفرس المجوس على الروم المسيحيين، وعندما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يعجبه موافقة أهل الكتاب اليهود، إلى أن ثبت له أن اليهود أشر من المشركين، فأمر بمخالفتهم، وبادرهم العداء حتى أجلاهم من جزيرة العرب، وقرر أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان.
فالعاقل الحق الذي يخاير بين الأمور، ويوازن بين الشرور، آخذاً بقاعدة أخف الضررين، ودفعاً لأخطر الأمرين.
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين".
لقد تكالبت قوى الشر في الداخل والخارج وتنادت للقضاء على الإسلام، وانفردت قوى الشر والطغيان بقيادة العالم كله بعد القضاء على المعسكر الشرقي والشيوعية، ولم يبق للكفر عدو سوى الإسلام الخالص.
لهذا وجب على المسلمين قاطبة توحيد جهودهم، وتجميع صفوفهم، وتناسي خلافاتهم، والانتباه للخطر المحدق بهم، إن لم يتيسر جمع سائر أهل القبلة فأضعف الإيمان التأليف بين أهل السنة، وإن كان الخطر أكبر منهم بكثير.
لهذا كان لابد أن يكون شعار هذه المرحلة موالاة أي مسلم بقدر ما فيه من إيمان، والتنسيق معه سيما في العمل العام، والتنازل عن حظوظ النفس مقابل المحافظة على الهوية الإسلامية والانتماء للشريعة المحمدية.
ولا يليق بالمسلمين بحال من الأحوال أن يكون الجاهليون أكثر وعياً وعقلاً منهم، حيث كان شعارهم في الحروب والنزاعات: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، لو عمل المسلمون جميعاً بهذه القاعدة لما استطاع الغزاة دخول كابل ولا بغداد.(9/296)
انطلاقاً من هذا المبدأ فإني أهيبب بجميع إخوة العقيدة ورفقاء الدرب في الجامعات والمعاهد العليا خاصة أن يتجمعوا في صعيد واحد ضد قوى الشر والعدوان من الشيوعيين والمنافقين، وأن لا يشقوا عصا الطاعة على إخوانهم المسلمين، فخير لك أخي المسلم أن يرأسك أخوك المسلم وإن ظلمك من أن يسيطر عليك شيوعي أو منافق لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، واحذر خداعهم، وغشهم، وتدليسهم، وتظاهرهم بالخير: "وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم".
اللهم ألف بين قلوب المسلمين واهدهم سبل السلام ، وجنبهم الفتن والمحن والآثام، واجمع كلمتهم على الحق والدين، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على محمد القائل: "فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار"، والسلام
0000000000000000000
ردٌّ على كافرة ازدادت كفراً وردة بنيلها من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته
الحمد لله القائل: "لعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون".
وصلى الله وسلم وبارك على رسولنا القائل: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وبعد..
فقد جاء في الأثر أن موسى عليه السلام سأل الله أن يقطع عنه ألسنة الناس، فقال: "يا موسى لم أقطعهم عني، فكيف أقطعهم عنك"؟
لا غرابة أن يسب اليهود والنصارى أوأحدهم رسولاً من رسل الله عز وجل، فقد سبوا الله سباً - كما قال عمر رضي الله عنه - لم يسبه إياه أحد من قبل ولا من بعد، حيث نسبوا له الولد والصاحبة والشريك، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
هذا بجانب زعمهم أن الله فقير وهم الأغنياء، وأن يد الله مغلولة، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا، وبجانب قتلهم الأنبياء الذي هو أشد جرماً من السب والانتقاص.
لم أتعجب من الكفريات التي وردت فيما كتبته تلك المرأة النصرانية التي تدعى "سلاس" وأشاعته بين بعض المسلمين تحت عنوان: "مقارنة بين مؤسسي أكبر دينين في العالم"، وتعني بذلك عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهي تدعو للعجب، كتعجبي من جهلها الفاضح وجرأتها، ومن الفوضى الفكرية التي غشتنا في هذه الأيام، وعدم المراقبة لما يكتب من كفر صراح، وعدم المحاسبة والمؤاخذة لمنتقصي الإسلام ورسوله.
ومما يدل على جهلها الفاضح بالمسيحية التي تدعي اعتناقها قبل الإسلام أمران هما:
أولاً: زعمها أن الإسلام والمسيحية عبارة عن حزبين أسسهما محمد وعيسى عليهما السلام، وهما دينان سماويان وشريعتان ربانيتان، هذا قبل التحريف الذي أصاب المسيحية، وقبل أن تنسخ بشرع محمد الخاتم لجميع الشرائع، وبكتابه المهيمن على جميع الكتب السماوية.
رحم الله الإمام ابن القيم عندما قال: "ما بأيدي النصارى من الدين باطله أضعاف أضعاف حقه، وحقه منسوخ".
ثانياً: هذه المقارنة الجائرة بين شريعة عيسى المعدلة المنسوخة، وبين شرع محمد الذي بشر به عيسى عليه السلام: "ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد"، وذلك لأن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم تطوير وتكميل لما جاء به أخواه موسى وعيسى عليهما السلام.
قال شيخ الإسلام مفتي الأنام أحمد بن عبد الحليم الإمام في كتابه القيم "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح" في رده على تساؤل بعض أفراد هذه الملة المبدّلة المحرّفة للكلم عن مواضعه، ولما جاءهم به عيسى، حيث قالوا عن المسلمين: "إنا نعجب من هؤلاء القوم الذين مع أدبهم وما يأخذون به أنفسهم من الفضل، كيف لم يعلموا أن الشرائع شريعتان: شريعة عدل وشريعة فضل، فأرسل موسى إلى بني إسرائيل، فوضع شريعة العدل، وأمرهم بفعلها إلى أن استقرت في نفوسهم.
ولما كان الكمال الذي هو الفضل لا يمكن أن يضعه إلا أكمل الكمال، وجب أن يكون هو – تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه – الذي يضعه، لأنه ليس شيء أكمل منه، وليس في الموجودات أكمل من كلمته، ولذلك وجب أن يجود بكلمته، فلهذا وجب أن يتحد بذات محسوسة، يظهر منها قدرته وجوده.
ولم يكن في المخلوقات أجل من الإنسان، اتحد بالطبيعة البشرية من السيدة الطاهرة، من مريم البتول المصطفاة على نساء العالمين، وبعد هذا الكمال ما بقي شيء يوضع".
هل بعد ذلك سبٌّ وانتقاص لله عز وجل؟!
(الجواب عن هذا من وجوه:
أحدها أن يقال: بل الشرائع ثلاثة: شريعة عدل فقط، وشريعة فضل فقط، وشريعة تجمع العدل والفضل ، فتوجب العدل، وتندب إلى الفضل، وهذه أكمل الشرائع الثلاث، وهي شريعة القرآن الذي يجمع فيها بين العدل والفضل، مع أننا لا ننكر أن يكون موسى عليه السلام أوجب العدل وندب إلى الفضل، وكذلك المسيح أيضاً أوجب العدل وندب إلى الفضل).
فدل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذه الشرائع الثلاث متممة ومكملة لبعضها البعض، وأن الخير الذي ورد في جميع الشرائع جمع في شرع محمد وزيد عليه.(9/297)
قال شيخ الإسلام: (فليس في التوراة والإنجيل والنبوات ما هو من العلوم النافعة والأعمال الصالحة إلا وهو في القرآن، أو ما هو أفضل منه.
لكن النصارى لم يتبعوا لا التوراة والإنجيل، بل أحدثوا شريعة لم يبعث بها نبي من الأنبياء).
إلى أن قال مدللاً على تكميل هذه الشرائع لبعضها البعض، وعدم تناقضها: (إن شريعة التوراة يغلب عليها الشدة، وشريعة الإنجيل يغلب عليها اللين، وشريعة القرآن معتدلة جامعة بين هذا وهذا.
ولهذا جاء في وصف محمد صلى الله عليه وسلم: "إنه نبي الملحمة، وأنه الضحوك القتال".
إلى أن قال: ولهذا قال بعضهم: بعث موسى بالجلال، وبعث عيسى بالكمال، وبعث محمد بالكمال.
ثبت بذلك أنه لا مجال للمقارنة بين شرع محمد صلى الله عليه وسلم وبين جميع الشرائع السابقة له، لاشتمال شريعته لكل خير فيها وصلاحه لكل زمان ومكان، ولهذا تولى الله حفظها وجعلها المهيمنة إلى أن يقوم الناس لرب العالمين).
أما ما جاء في هذه المقارنة من الإثم والبهتان ما يأتي:
1. اعتراضها على لعن الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى، يردُّه لعن رسولين كريمين من بني إسرائيل لليهود والنصارى، وهما داود وعيسى عليهما السلام: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون".
فاليهود والنصارى ملعونون على ألسنة جميع الأنبياء، إما بلسان الحال أولسان المقال، فلا غرابة أن يلعنهم خاتمهم، فلعنهم قربى وعبادة.
أما حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم وحلمه ومسامحته فشهد بهما القرآن الكريم، ورب العالمين، حيث قال في وصفه: "وإنك لعلى خلق عظيم"، "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم".
ويدل عليه دعاؤه بالهداية للمشركين الذين أذوه وأخرجوه من بلده، حيث كان يقول: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".
وعندما كان يُطلب منه أن يدعو عليهم كان يقول: "لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله".
وعندما قال له الطفيل بن عمرو الدوسي: ادعُ على دوس، لقد غلبني عليهم الزنا؛ دعا لهم، وقال: اللهم اهدِ دوساً وائت بهم.
أما حلمه فيشهد عليه مواقفه مع الأعراب الغلاظ الجفاة، مما دعا أحدهم أن قال: اللهم اغفر لي ولمحمد ولا تغفر لأحد سوانا.
لكن نعوذ بالله من الحقد والجهل ومن عمى البصائر.
2. الافتراء الثاني زعمها: "استعباده الناس بالقوة وتجارة العبيد".
وتقصد بذلك إنكار فريضة الجهاد التي شرعها رب العباد لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، فمن أبى الإسلام والجزية كان الواجب أن يُقتل، ولكن تفضل عليهم الإسلام واستبدل ذلك بالاسترقاق عسى الله أن يمن عليهم بالهداية، فهذا التشريع ليس من وضع محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن وضعه رب الأرباب، وعندما آثر الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ الفداء من أسرى بددر بدلاً من القتل عوتب في ذلك: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض".
ثم حث أتباعه على العتق، ورتب عليه الأجر الجزيل، وشرع الكفارات بعتق الرقاب، فأي مأخذ في التزام الرسول صلى الله عليه وسلم بما أمره به ربه؟
أما تجارة الرقيق فقد كانت معروفة منذ القدم، قبل المسيحية والإسلام، وفي العصر الحديث أول من مارسها الأروبيون والأمريكان، حيث استرقوا الأحرار واستعبدوا البشر لمصالحهم الذاتية، وأخذوهم مقيدين من إفريقيا وآسيا للعمل في المناجم والمصانع، فما هذا الخلط والتدليس؟
أما حسن معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للخدم قبل البعثة وبعدها فيشهد لها إيثار زيد بن حارثة له على والده وعمه عندما جاءا لفدائه، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمنزلة الأب والعم؛ فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية؟ قال: نعم، لقد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً.
وقالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً له قط، ولا امرأة له قط، ولا دابة ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء، حتى ينتقم لله، وما عرض عليه أمران أحدهما أيسر من الآخر إلا أخذ بأيسرهما، إلا أن يكون مأثماً، فإن كان مأثماً كان أبعد الناس عنه".
وفي الصحيحين كذلك قال أنس رضي الله عنه: "خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أفٍّ قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته؟ ولا لما صنعتُ لما لا صنعتَ، وكان بعض أهله إذا عتبوني على شيء يقول: دعوه، فلو قدر شيء لكان هذا".(9/298)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ففي شريعته صلى الله عليه وسلم من اللين، والعفو، والصفح، ومكارم الأخلاق، أعظم مما في الإنجيل، وفيها من الشدة، والجهاد، وإقامة الحدود على الكفار والمنافقين أعظم مما في التوراة، وهذا هو غاية الكمال.
3. اعتراضها على حد القذف على من قذف الصديقة بنت الصديق.
نقول لمن يصر على رمي عائشة بالإفك بعد أن برَّأها الله منه ما قاله ابن الباقلاني رحمه الله عندما أرسله عضد الدولة ليناظر بعض القسس على رده على أحدهم بقوله: ما صنعت زوجة نبيكم؟ يريد قبَّحه الله عائشة وحادثة الإفك.
فقال ابن الباقلاني: هما امرأتان عفيفتان نزلت براءتهما من السماء، فإن وقع في الذهن الفاسد اتهام إحداهما بريبة فرميه للأخرى أولى، لأن إحداهما لم يكن لها زوج وأتت بولد، والأخرى لها زوج ولم تأت بولد؛ يعني مريم وعائشة، فبهت الذي كفر وأسكت وأخرس.
فإقامة الحد على من أشاع الفاحشة في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العدل والإنصاف الذي قامت عليه السموات والأرض، والذي يتهم عائشة بعد أن برأها الله إن كان مسلماً فقد كفر، وإن كان كافراً فقد ازداد كفراً، وحكم الإسلام عليهما القتل.
4. اعتراضها على أن يأتي الرجل ما ملكت يمينه، وهذا الاعتراض لا يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لأن هذا حكم ربنا: "والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أوما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين".
5. تشكيكها في عصمته صلى الله عليه وسلم، وقد أوتيت من قِبَل جهلها الفاضح باللغة العربية، وبالقرآن، وبالسيرة المرضية، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعمي بصرها كما أعمى بصيرتها، وأن ينتقم لرسوله منها في الحياة قبل الممات، ولضحالة هذا المأخذ فإنه لا يستحق رداً ولا تعليقاً.
6. أما اعتراضها على رب العالمين بأنه فرق بين الذكر والأنثى، وفضل بعضهما على بعض، فنحيلها إلى ما قالته المرأة الصالحة أم مريم عندما وضعتها، حيث قالت: "وليس الذكر كالأنثى".
والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على من نسخ الله به شرائع السابقين، ورضي الله عن أمنا عائشة، ولعائن الله المتتاليات مصحوبة بغضبه على اليهود الحاقدين، وعلى النصارى الجاهلين.
00000000000000000000
أيها الموسرون الأسخياء ارعوا العلم والعلماء
كما أن للآخرة سادة وهم الأتقياء، فكذلك فإن للدنيا سادة هم الأسخياء، فالسخاء مطلوب محبوب في كل المجالات، سيما في بث العلم ونشره، وعلى الغزاة والمجاهدين، والعلماء والدعاة العاملين، وعلى الأيتام، والأرامل، والفقراء، والمساكين، وفي سبل الخير المختلفة، وطرقه المتعدية النفع المتنوعة.
لقد أمر الله ورسوله بالإنفاق، ونهيا وحذرا من البخل والشح والإقتار، فقال عز من قائل: "وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه".
وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً؛ ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً".
قال صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة"، وفي رواية: "ما نقصت صدقة من مال".
وجعل الشارع الحكيم الإنفاق في سبل الخير قليلاً كان أم كثيراً من الكسب الطيب سبباً من أسباب دخول الجنة، فقال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، وقال: "من تصدق بعدلتمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلوَّه حتى تكون مثل الجبل".
لم يأمر الشارع أحداً أن يغبط أحداً إلا في خصلتين، فقال: "لا حسد – أي لا غبطة – إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها".
فالإنفاق الذي أمر الله ورسوله به، ووعدا بخلفه، هو الإنفاق في أوجه الخير والحق، وعلى العكس والنقيض من ذلك الإنفاق في أوجه الشر والباطل، كالإنفاق على أهل البدع والفسوق، والسفهاء من الفنانين، والأدباء، والشعراء، والرياضيين، والإعلاميين الخبثاء، فالإنفاق على هؤلاء وبال ليس بعده وبال، وخسران وكساد، واعلم أخي الموسر أنه لن تزول قدماك عن الصراط حتى تسأل عن أربع، منها: "عن مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته".
واحذر كذلك أن تكون من الكانزين الغافلين، ومن المكثرين المقلين الخاسرين: "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون".
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: "هم الأخسرون ورب الكعبة"، قلت: فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: "الأكثرون أموالاً، إلا من قال: هكذا وهكذا، من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم".
بعض الآثار في ذم البخل والإقتار(9/299)
لقد ذم السلف الصالح البخل وعابوه، وأكثروا من ذلك، نذكر طرفاً منها:
1. عن علي رضي الله عنه قال: "البخل جلباب المسكنة، وربما دخل السخي بسخائه الجنة"، أي مع قلة أعماله الصالحة إذا مات على التوحيد.
2. خطب الزبير بن العوام رضي الله عنه بالبصرة فقال: "أيها الناس، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا زبير، إن الله تعالى يقول: "أنفق أنفق عليك، ولا توكئ فيوكأ عليك، وأوسع يوسع الله عليك، ولا تضيق فيضيق الله عليك، واعلم يا زبير أن الله يحب الإنفاق، ولا يحب الإقتار، ويحب السماحة ولو على فلق تمرة، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية أوعقرب".
3. وقال جعفر بن محمد: "قال الله عز وجل: أنا جواد كريم، لا يجاورني في جنتي لئيم".
4. وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: أفٍ للبخل، والله لو كان طريقاً ما سلكته، ولو كان ثوباً ما لبسته".
5. وقال يونس بن عبد الأعلى: قال الشافعي: "السخاء والكرم يغطي عيوب الدنيا والآخرة، بعد أن لا يلحقه بدعة".
قلت: لأن المبتدع في دين الله لا يقبل منه صرف ولا عدل، أي لا فرض ولا سنة.
6. وقال حبيش بن مبشر الثقفي الفقيه: "قعدتُ مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والناس متوافرون، فأجمعوا أنهم لا يعرفون رجلاً صالحاً بخيلاً".
7. وقال بشر بن الحارث – الحافي: "لا تزوج البخيل ولا تعامله، ما أقبح القارئ أن يكون بخيلاً"، رواه الخلاف في "الأخلاق".
8. وقال بشر الحافي كذلك: "شاطر سخي أحب إلى الله من صوفي بخيل".
البخل قبيح من جميع الخلق
لا شك أن البخل قبيح من جميع الناس، ولكن يزداد قبحه ويسوء فعله من:
1. العلماء.
2. الأغنياء.
3. العباد.
والبخل من العلماء قبيح، سواء كان بخلهم بالمال، أوبالعلم، وبخلهم بالعلم أسوأ من بخلهم بالمال.
قال ابن المبارك رحمه الله: "من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما موت يُذهب علمه، وإما ينسي، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه".
أفضل ما ينفق فيه المال العلمُ الشرعي
سبل الخير كثيرة ومتتنوعة، وكل ميسر لما خلق له، ولكن أفضل وأحسن ما ينفق فيه المحسنون ويبذل فيه الموسرون أموالهم هو بث العلم ونشره، وتعهد العلماء، وطلاب العلم الشرعي، والدعاة، هذا كله بعد صدق النية وتجنب الأذية بالمن والأذى.
قال العالم التاجر المجاهد عبد الله بن المبارك رحمه الله وقد عُزل في إنفاقه على العلماء وطلاب العلم، وعوتب في ذلك، وكان ذلك هو الدافع له للاشتغال بالتجارة، دون أن يقتصر على بلده: "إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه، لحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم".
طلب العلم ونشره يحتاج فيما يحتاج إليه إلى تفرغ، ولا يمكن لأحد أن يقوم ببث العلم ونشره ولا حتى بطلبه على الوجه المرضي إلا إذا كفي مؤونة المعايش، خاصة في هذا العصر الذي ارتفعت فيه أسباب المعايش وتعسرت، وتعددت فيه متطلبات الحياة واختلفت، خاصة للمتزوجين وأصحاب العيال، فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.
إذا كان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم سأل من يأويه ويمنعه ويحميه حتى يبلغ رسالة ربه، وعرض نفسه على القبائل العربية عندما أعرض عنه قومه في مكة، إلى أن فازت بهذا الخير وحظيت بهذا الأمر الأنصار، لما ادخره سبحانه وتعالى لهم من الكرامة العظيمة، والآلاء الجسيمة في الدنيا والآخرة.
روى ابن إسحاق رحمه الله بسنده إلى العباس رضي الله عنه – وكان وقتها مشركاً – يقول: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى على القبائل العربية يقول: "يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي، وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به".
والعلماء هم ورثة الأنبياء وأتباع الرسل، ومهمتهم تبليغ هذا الدين وإرشاد العالمين، وحاجتهم إلى العناية والرعاية من إخوانهم المسلمين أكثر من حاجة الأنبياء والرسل، لأن الله عاصمهم، ولما زودهم الله به من القناعة والرضا بالقليل، لهذا فقد كان كثير من السلف حريصين على رعاية العلماء وطلاب العلم، مشتغلين بذلك، متكفلين لهم بما يهمهم من أمور معاشهم، وما يعينهم على تفرغهم لطلب العلم ونشره بين العباد.
نماذج لمن كان متكفلاً بطلبة العلم وراعياً لهم(9/300)
المجتمع المسلم مجتمع متكافل مترابط، متمم لبعضه البعض، فما من شريحة من شرائحه إلا وهي تقوم بدور فاعل، وتسد ثغرة من الثغور المهمة، فما كان للغزاة أن يغزو العدو، وأن يرابطوا بالثغور لولا أن الله هيأ بعض طوائف المسلمين للقيام بالزراعة، والتجارة، ونحوها من المكاسب، ليخلفوا هؤلاء الغزاة في أهليهم وأولادهم، ولولا أن الله سبحانه وتعالى هيأ بعض الموسرين والمحسنين، ويسرهم لمساعدة إخوانهم من العلماء والدعاة وطلاب العلم، لما استطاع هؤلاء أن يقوموا بواجبهم في نشر العلم وبثه، ودعوة الناس إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم في الدين والدنيا، فالمؤمن للمؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، كما أخبر الصادق المصدوق، ولهذا فإن أي تقصير أوخلل يحدث في شريحة من شرائح المجتمع المختلفة يكون له تأثيره السلبي على الإسلام والمسلمين.
لذا فلابد من التذكير والمناصحة والأخذ بيد المقصر حتى لا تغرق السفينة، وحتى لا يتواطأ الجميع على الباطل ثم يدعون فلا يُستجاب لهم.
أولاً من العلماء
أشهر الأمثلة وأصدق النماذج لاهتمام بعض العلماء المحسنين الموسرين بطلاب العلم والعلماء، وأكثر المهتمين بنشر العلم وإفشائه بين الناس، على سبيل المثال لا الحصر:
1. سعد بن عبادة رضي الله عنه
سيد الخزرج الجواد الكريم، كان من سلالة كرماء.
قال الذهبي: (وكان سعد وعدة آباء له قبله ينادي على أطمهم: من أحب الشحم واللحم فليأت أطم دُليم بن حارثة).
ويتمثل سخاء سعد وجوده واهتمامه بالعلم والعلماء وطلابه في الآتي:
أ. كانت له قصعة تدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه حيث دار.
قال الذهبي: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان يبعث إليه كل يوم جفنة من ثريد اللحم، أوثريد بلبن وغيره، فكانت جفنة سعد تدور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه).
ب. كان سعد يصحب معه كل ليلة ثمانين من أهل الصفة يعشيهم.
2. جعفر بن أبي طالب الملقب بالطيار رضي الله عنه
من الأسخياء الأجواد الرحماء على طلاب العلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، دعنا نستمع إلى حافظ السنة أبي هريرة – الذي كان متفرغاً لحفظ الحديث في أول الأمر – يصف لنا جود هذا الصحابي وإحسانه واهتمامه بطلاب العلم الفقراء من أهل الصفة.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: "ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، أفضل من جعفر بن أبي طالب"، قال الذهبي: يعني في الجود والكرم.
وقال أبو هريرة كذلك: "كنا نسمي جعفراً أبا المساكين، كان يذهب بنا إلى بيته، فإذا لم يجد لنا شيئاً أخرج إلينا عُكَّة أثرها عسل فنشقها ونلعقها".
وفي رواية عنه قال: "إن الناس كانوا يقولون أكثر أبو هريرة، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، حتى لا آكل إلا الخمير، ولا ألبس إلا الحبير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني"، ثم ذكر صنيع جعفر بهم.
قلت: ينبغي لطلاب العلم اليوم الاقتداء والتأسي بهذا الصحابي الجليل في الصبر على المشاق، وفي المثابرة على التحصيل، وفي التفرغ لطلب العلم، فلم ينل أبوهريرة ما ناله وكذلك جل الأئمة إلا بالجد والمثابرة، وبالصبرواليقين، فهما الطريق لحيازة الإمامة في الدين.
3. الليث بن سعد (94-175ه)
من العلماء الموسرين الأسخياء المشتغلين بكفالة العلماء وطلاب العلم والمساكين، فقيه مصر ومحدثها الليث بن سعد رحمه الله.
قال الشافعي: الليث أعلم من مالك، إلا أن تلاميذه أضاعوه.
قال ابن قتيبة: كان الليث يتصدق كل يوم على ثلاثمائة مسكين.
أما إنفاقه على العلماء والمحدثين فيدل عليه ما يأتي:
أ. قال سليم بن منصور بن عمار: حدثنا أبي قال: دخلتُ على الليث خلوة فأخرج من تحت وسادة كيس فيه ألف دينار، وقال: يا أبى السَّرى، لا تُعلِم بها ابني، فتهُونَ عليه.
ب. حج الليث، فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب، فجعل الليث على الطبق ألف دينار ذهب فرده.
ج. وكتب مالك إلى الليث إني أريد أن أدخل بنتي على زوجها، فأحب أن تبعث لي شيئاً من عُصْفر، فبعث إليه بثلاثين حِملاً عُصْفراً، فباع منه بخمسمائة دينار، وبقي عنده فضلة.
عن أبي صالح كاتب الليث قال: كنا على باب مالك، فامتنع من الحديث، فقلت: ما يشبه هذا صاحبنا؟ قال: فسمعها مالك، فأدخلنا، وقال: من صاحبكم؟ قلت: الليث؛ قال: تشبهوننا برجل كتبتُ إليه في قليل عُصْفر، نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ منه ما بعنا فضله بألف دينار.
وقال حرملة: كان الليث بن سعد يصل مالكاً بمائة دينار في كل سنة، فكتب إليه مالك: عليَّ دين، فبعث إليه بخمسمائة دينار.
د. احترقت كتب ابن لهيعة فوصله بألف دينار.
ولهذا كان دخله في كل سنة ثمانين ألف دينار، فما وجبت عليه زكاة درهم قط.(9/301)
قال: ما وجبت عليَّ زكاة منذ بلغت.
ه. جاءت امرأة إلى الليث وقالت: يا أبا الحارث، إن ابناً لي عليل واشتهى عسلاً؛ فقال: يا غلام، أعطها مِرطاً من عسل؛ والمرط عشرون ومائة رطل، وقال: سألت على قدرها، وأعطيناها على قدر السعة علينا.
و. وأعطى منصور بن عمار الواعظ مرة ألف دينار وجارية تسوى ثلاثمائة دينار.
وقال عبد الله بن صالح: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، وكان لا يأكل إلا بلحم، إلا أن يمرض.
4. العالم المجاهد عبد الله بن المبارك (118-181ه)
كانت همة ابن المبارك متعلقة بأمور، هي:
1. حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2. الغزو والجهاد في سبيل الله.
3. الحج والعمرة.
4. كفالة العلماء وطلاب العلم والإخوان.
5. الإنفاق على الفقراء والمساكين.
كان ابن المبارك رحمه الله من الأسخياء الأجواد، وكان سخاؤه لجميع الناس سيما العلماء وطلاب العلم والإخوان.
قال الذهبي رحمه الله: بلغنا أنه قال للفضيل بن عياض: لولاك وأصحابك ما اتجرتُ.
وقال مرة: لولا السفيانان ما اتجرت؛ يعني العالمين الكبيرين والمحدِّثين العظيمين: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، رحمهما الله، وكان ينفق على الفقراء كل سنة مائة ألف درهم.
وقال الذهبي: كان ابن المبارك غنياً شاكراً، رأس ماله نحو الأربعمائة ألف.
قال علي بن خَشْرم: قلت لعيسى بن يونس: كيف فضلكم ابن المبارك ولم يكن بأسن منكم؟ قال: كان يقدم ومعه الغِلْمة الخرسانية، والبزَّة الحسنة، فيَصِل العلماء، ويعطيهم، وكنا لا نقدر على هذا.
نماذج من إنفاق ابن المبارك على العلماء وغيرهم
أ. قال نعيم بن حماد: قدم ابن المبارك أيلية – بيت المقدس – على يونس بن يزيد، ومعه غلام مفرغ لعمل الفالوذج، يتخذه للمحدِّثين.
ب. دخل أبو أسامة – وهو من العلماء – على ابن المبارك، فوجد في وجهه أثر الضر، فلما خرج بعث إليه أربعة آلاف درهم، وكتب إليه:
وفتى خلا من ماله ومن المروءة غير خالِ
أعطاك قبل سؤاله وكفاك مكروه السؤالِ
ج. وقال المسيب بن واضح: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم، فقال: سد بها فتنة القوم عنك.
د. وممن كان يتكفل بهم ويصلهم إسماعيل بن علية، فلما ولي القضاء أوالصدقات لهارون الرشيد قطع صلته عنه، وكتب إليه بهذه الأبيات:
يا جاعل العِلْم له بازياً يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدِّين
فصرتَ مجنوناً بها بعدما كنتَ دواءً للمسَاكين
أين رواياتك في سردها عن ابن عَوْن وابن سيرين
أين رواياتك فيما مضى في ترك أبواب السَّلاطين
إن قلتَ أكرهتُ فماذا كذا زل حِمارُ العِلم في الطين
فلما قرأها إسماعيل اعتزل منصبه، وعاوده ابن المبارك بصلاته، فعلم الرشيد بذلك، فقال: لعل هذا المجنون كتب إليه أوقابله؛ أوكما قال.
قلت: رحم الله ابن المبارك، ما كان يريد من العلماء والمحدِّثين أن يتولوا الوظائف الحكومية التي تحد من نشاطهم وتفرغهم للعلم والدعوة، بل كان مراقباً لحركات العلماء وتصرفاتهم، فإذا رأى أحدَهم أراد التفرغ للعبادة أونوى اعتزال الغزو والجهاد، سواء كان بالمرابطة أوبنشر العلم باللسان والبنان أنبه على ذلك ونصحه، كما فعل بالفضَيْل بن عياض رحمه الله عندما آثر العبادة على المرابطة، والغزو، وتعليم العباد، لتعدي آثار هذه الأعمال على العبادة، كتب إليه هذه الأبيات.
قال ابن سُكينة: أملى عليَّ ابنُ المبارك سنةَ سبع وسبعين ومائة، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض من طَرْطوس:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمتَ أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضب جيده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أوكان يُتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم و نحن عبيرنا وهج السَّنابك والغبار الأطيب
و لقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يُكْذبُ
لا يستوي غبارُ خيل الله في أنف امرئ، ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلم يكابر الفضيل، ولم يستنكف من قبول نصيحته، وإقراره على ما قال، يقول ابن أبي سُكينة: فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه وبكى، ثم قال: صدق أبوعبد الرحمن ونصح.
إي وربي، صدق أبو عبد الرحمن ونصح، ولم يجامل ويداهن.
كيف كان تصرفه مع إخوانه من الغزاة والعلماء والعباد في الحج والغزو؟
د. روى الذهبي رحمه الله أن ابن المبارك خرج من بغداد يريد المصيصة، فصحبه الصوفية، فقال لهم: أنتم لكم أنفس تحتشمون أن ينفق عليكم، يا غلام هات الطَّسْت؛ فألقى عليه منديلاً، ثم قال: يلقي كل رجل منكم تحت المنديل ما معه؛ فجعل الرجل يلقي عشرة دراهم، والرجل يلقي عشرين، فأنفق عليهم إلى المصيصة، ثم قال: هذه بلاد نفير، فنقسم ما بقي؛ فجعل يعطي الرجل عشرين ديناراً، فيقول: يا أبا عبد الرحمن إنما أعطيتُ عشرين درهماً؛ فيقول: وما تنكر أن يبارك الله للغازي في نفقته؟(9/302)
ه. وقال: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل "مَرْو"، فيقولون: نصحبك؛ فيقول: هاتوا نفقاتكم؛ فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري لهم، ويخرجهم من "مَرْو" إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها؟ فيقول: كذا وكذا؛ فيشتري لهم، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متابع مكة؟ فيقول: كذا وكذا؛ فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصلوا إلى "مَرْو"، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسرُّوا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل منهم صرته، عليها اسمه.
5. المحدث الفقيه الإمام الحجة دعلج بن أحمد بن دعلج (259-353ه)
ممن كانت لهم صدقات جارية على العلماء والمحدثين دعلج هذا.
قال الذهبي: قال الحاكم: دعلج الفقيه شيخ أهل الحديث في عصره، له صدقات جارية على أهل الحديث بمكة وببغداد وسجستان.
وقال الخطيب البغداد: كان دعلج من ذوي اليسار، له وقوف على أهل الحديث.
وحكى الخطيب كذلك: أن رجلاً صلى الجمعة، فرأى رجلاً متنسكاً لم يُصَلِّ، فكلمه، فقال: استر عليَّ لدعلج عليَّ خمسة آلاف، فلما رأيته أحدثتُ؛ فبلغ ذلك دعلجاً، فطلبه إلى منزله وحلله من المال، ووصله بمثلها لكونه روَّعه.
ثانياً: من الخلفاء والوزراء
من الخلفاء والحكام والأمراء والوزراء الذين كانوا يعنون بالعلم والعلماء ويقومون بكفالتهم ورعايتهم وتفقد أحوالهم، على سبيل المثال لا الحصر:
1. الخليفة العباسي هارون الرشيد
قال عنه عبد الله بن المبارك: (ما رأيتُ عالماً، ولا قارئاً للقرآن، ولا سابقاً للخيرات، ولا حافظاً للحرمات، في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء الراشدين والصحابة، أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعِلم ويروي الحديث ويجمع الدواوين ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة؛ وما ذلك إلا بكثرة إنفاقه واهتمامه بالعلم والعلماء وطلابه.
2. الأمير المعز بن باديس
أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي، كان لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره عنده وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه، وعوَّل على آرائه، ومنحه أسمى الرتب.
3. الخليفة الموحدي الثالث المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن
الذي أنشأ "بيت الطلبة"، وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه حسد بعض حاشيته على موضع الطلبة النابغين عنده فزع منهم وخاطبهم قائلاً: يا معشر الموحدين أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجأهم، وإليَّ فزعهم، وإلي ينسبون؛ وقد بالغ في عنايته بالطبيب أبي بكر بن زهر.
4. صلاح الدين الأيوبي
كان من الحكام الراعين للعلم والعلماء من أهل السنة، المقربين لهم، لقد أزال هذا الحاكم الصالح والبطل الفالح كل آثار دولة الظلم والعدوان الدولة العبيدية في مصر، هذا بجانب تخليصه لبيت المقدس من الصليبيين.
5. الوزير ابن هبيرة
كان من العلماء، ولهذا كان مقرباً ومكرماً لأهل العلم.
6. الوزير نظام الملك السلجوقي
مؤسس المدرسة النظامية ببغداد وغيرها، المحتضن لكثير من أهل العلم في عصره، كالإمام الغزالي، وإمام الحرمين ابن الجويني، وغيرهما كثير، والذي عمل كذلك على القضاء على الدولة الرافضية - الدولة البويهية - كما فعل صلاح الدين رحمهما الله.
قلت: لا غرابة أن يهتم بعض الحكام برعاية العلم الشرعي وبكفالة العلماء وطلاب العلم، فهذا من أوجب واجباتهم، ومن أولى مسؤولياتهم، ومع ذلك يشكرون على قيامهم بواجبهم، ويثابون على ذلك ويحمدون، وتخلد مآثرهم وتذاع.
أما أن يقوم بعض الموسرين المحسنين بهذا الواجب الذي غفل عنه كثير من الحكام وأهملوه، فهذا ما يفرح النفس ويثلج الصدر، لأنهم بذلك يرفعون الحرج عن جميع الأمة، لأن الفروض الكفائية نحو نشر العلم وبثه، والأمر والنهي، وجهاد الطلب، إذا تركتها جميع الأمة أثمت، واستحقت غضب الله وسخطه.
فهنيئاً لكم أيها الموسرون المحسنون العاملون على نشر العلم وبثه، وعلى رعاية العلماء وطلاب العلم، وعلى طبع الكتب والرسائل، وبارك الله لكم في أموالكم وأولادكم وأهليكم، وتقبل منكم، وثقل بذلك موازينكم يوم تطيش الموازين، وأمنكم يوم الفزع الأكبر.(9/303)
واعلموا أن عملكم هذا بفضل من الله ورحمة وتلطف، ولولا ذلك لما تمكنتم من هذا العمل الصالح، فاشكروا الله شكراً جزيلاً أن وفقكم للإنفاق في سبيل الخير، وأن جعلكم شركاء وقسماء للمجاهدين، والغزاة، والعلماء، والدعاة، وكان يمكن أن تكونوا شركاء وقسماء في الوزر للفنانين واللاعبين: "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون"
واحذروا تخويف وتهديد الكافرين والمنافقين والمخذلين، واعلموا والله أنهم لن يغنوا عنكم من الله شيئاً، واعلموا أنكم أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد: "هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم".
أيها الأغنياء الفضلاء الأسخياء، أين أنتم ممن كان يفرح ويسر ويطرب ويتعجب باستقراض الرب لعباده وهو غني عنهم؟ وذلك عندما نزل قوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون".
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً"، قال أبو الدَّحْداح: يا رسول الله، أوإن الله تعالى يريد منا القرض؟ قال: نعم، يا أبا الدحداح؛ قال: إني أريد يدك؛ فناوله، قال: فإني أقرضتُ الله حائطاً فيه ستمائة نخلة؛ ثم جاء يمشي حتى أتى على الحائط، وأم الدحداح فيه وعياله، فناداها: يا أم الدحداح؛ قالت: لبيك؛ قال: اخرجي، قد أقرضتُ ربي عز وجل حائطاً فيه ستمائة نخلة.
وفي رواية عن زيد بن أسلم لما نزل: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً"، قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله! إن الله يستقرضنا وهو غني عن القرض؟ قال: نعم، يريد أن يدخلكم الجنة به؛ قال: فإني إن أقرضتُ ربي قرضاً يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟ قال: نعم؛ قال: فناولني يدك؛ فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقال: إن لي حديقتين إحداهما بالسافلة، والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضاً لله تعالى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل إحداهما لله، والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك؛ قال: فاشهد يا رسول الله أني قد جعلتُ خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة؛ قال: إذن يجزيك الله به الجنة؛ فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل، فأنشأ يقول:
هداك ربي سبيل الرشاد إلى سبيل الخير و السداد
بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التناد
أقرضته الله على اعتمادي بالطوع لا مَنَّى ولا ارتداد
إلا رجاء الضعف في المعاد فارتحلي بالنفس والأولاد
والبر لا شك فخير زاد قدمه المرء إلى المعاد
قالت أم الدحداح: ربح بيعُك! بارك الله لك فيما اشتريت؛ ثم أجابته أم الدحداح وأنشأت تقول:
بشرك الله بخير و فَرَح مثلك أدى ما لديه ونَصَحْ
قد متع الله عيالي ومنحْ بالعجوة السوداء والزَّهو البلحْ
والعبد يسعى وله ما كدح طول الليالي وعليه ما اجترح
ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تُخرِج ما في أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم، حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كم من عَذِق رداح ودار فياح لأبي الدحداح".
والله لا يدري المرء أيكون عجبه أشد بسخاء أبي الدحداح أم بأريحية أم الدحداح؟ لله درهما ما أصدقهما وأنبلهما، أجزل الله مثوبتهما.
فسبحان من خلق الخلق فجعل منهم النبلاء الأسخياء، وجعل منهم الفسلاء، البخلاء، الرذلاء.
قال ابن العربي المالكي معلقاً على صنيع أبي وأم الدحداح الفريد، وعملهما المجيد، وسلوكهما الحميد، مقارنة بما قاله السفلة الرَّذلاء المغضوب عليهم في العالمين من اليهود والمنافقين، الملعونين على ألسنة الأنبياء والمرسلين والمؤمنين، المتواصين بالبخل والشح: "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُّوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يعلمون"، والقائلين: "إن الله فقير ونحن أغنياء"، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً:
(انقسم الخلق بحكم الخالق وحكمته، وقدرته ومشيئته، وقضائه وقدره، حين سمعوا هذه الآية أقساماً، وتفرقوا فرقاً ثلاثة: الفرقة الأولى الرَّذلى قالوا: إن رب محمد محتاج فقير ونحن أغنياء؛ فهذه جهالة لا تخفى على ذي لب، فرد الله عليهم بقوله: "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء"، الفرقة الثانية لما سمعت هذا القول آثرت الشح والبخل، وقدمت الرغبة في المال، فما أنفقت في سبيل الله، ولا فكت أسيراً، ولا أعانت أحداً، تكاسلاً عن طاعة الله، وركوناً إلى هذه الدار، الفرقة الثالثة لما سمعت بادرت إلى امتثاله، وآثر المجيب منهم بسرعة بماله، كأبي الدحداح رضي الله عنه وغيره).(9/304)
اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً، اللهم يسرنا لليسرى، وانفعنا بالهدى، اللهم إنانسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك، وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأسخياء، وخاتم الأنبياء، وعلى آله وصحبه الأصفياء، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم اللقاء
000000000000000000
يا رجال المرور انتبهوا واعملوا على تدارك حوادث المرور
مما يحمد لإدارة المرور أن وجودهم وانتشارهم على الشوارع وعند الإشارات الضوئية أصبح ظاهراً وملحوظاً، ومما يشكر لوزارة الداخلية كذلك أنها زودت إدارة المرور بالعديد من السيارات والأجهزة الحديثة التي تعينهم وتساعدهم في أداء واجباهم المهم الخطر، وهو المحافظة على الأرواح والممتلكات.
ولكن يلاحظ أن جهود رجال المرور في الميدان قاصر إلى حد كبير على مراقبة رخص السيارات والسائقين، وفرض العقوبات على غير المرخِّصين والمجدِّدين، وهذا أمر مهم ومطلوب ولابد منه، ويعتبر من قواعد السلامة التي تجب مراعاتها.
هنالك أسباب تمنع كثيراً من أصحاب السيارات، أوتعوق وتأخر تجديدهم لرخصهم المتعلقة بالسيارات خاصة، أهمها:
أولاً: ارتفاع رسوم التجديد، مما يجعل كثيراً من الناس يتهرب، ويفضل الغرامة وإن تكررت على دفع مئات الآلاف في ساعة واحدة، وقد لا تكون الرسوم متيسرة لقطاع كبير منهم، وهذا الارتفاع شامل لجميع السيارات الخاصة والتجارية، على الرغم من تفاوت رسوم التجديد بين السيارات الخاصة والتجارية.
ثانياً: الترخيص في السودان لمدة عام واحد، وفي جل البلاد فإن الترخيص يكون لمدة ثلاث سنوات، والعام الواحد ينقضي كلمح البصر، خاصة وقد غشانا من تقارب الزمان ونزع البركة من الأوقات وغيرها ما لم يغش غيرنا، فكثير من أصحاب السيارات لا يشعرون بانقضاء العام إلا بعد حين، وبعد أن يوقفوا ويغرموا.
فهذان السببان وغيرهما عائق كبير في تهرب وتباطؤ قطاع من الناس في المسارعة بتجديد الترخيص.
هذا بجانب الزحام الذي يحدثه التجديد السنوي للرخص في مكاتب قسم تجديد الرخص، فقد سمعت أن أكثر من خمسين ألف ترخيص تتم يومياً في ولاية الخرطوم فقط، وهذا جهد كبير ضائع يمكن أن يوفر ويستفاد من رجال المرور في مهام أخر أكثر أهمية فيها قصور كبير وإهمال واضح.
مع تزايد عدد سكان العاصمة بسبب الهجرة العشوائية غير المدروسة من الأقاليم إلى العاصمة، حيث يقدر سكان المدن الثلاثة والضواحي بثمانية إلى عشرة ملايين نسمة، وتزايد عدد السيارات بأنواعها المختلفة التي تضخها الشحنات يومياً إلى العاصمة، ونسبة لضيق الطرق وعدم التزام كثير من سائقي السيارات ومن المواطنين بقواعد وإرشادات رجال المرور، ونسبة لعدم إضاءة جل الشوارع، وإن كان هناك بوادر وشروع في إضاءة الشوارع الرئيسية، لكل هذه الأسباب وغيرها فقد زادت الحوادث المرورية كماً وفداحة، مما يستوجب البحث والتفتيش عن أسباب هذه الحوادث، والاجتهاد في تدارك هذه الأسباب قبل وقوع الحوادث، لأن الوقاية خير من العلاج، علماً بأن الحذر لا يغني من القدر، ولكن أخذ أسباب الحيطة والعمل على تدارك والتقليل من الخسائر في الأنفس والأموال مطلب شرعي، فالأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل على الله.
من المخاطر العظيمة والأخطاء الجسيمة التي يمكن تداركها بمجهود قليل من رجال المرور، وبفرض عقوبة صارمة وحازمة على كل من يتجاوزها من غير استثناء أومحاباة، التي أعتقد أنها سبب في جل هذه الحوادث المرورية المفجعة، التي راح ضحيتها كثير من الأنفس الزكية، بعد تقدير الله عز وجل، ولم يشعر المواطن بمجهود مبذول لتداركها من رجال المرور، داخل العاصمة أوفي طرق المرور السريع، سيما طريق مدني الخرطوم، الذي يمثل عنق الزجاجة للطرق التي تلتقي به، وحديثي عن طريق مدني حديث من يسير فيه في الأسبوع الواحد مرة أومرتين تقريباً.
والمخاطر هي:
1. وقوف الشاحنات و"اللواري" المتعطلة في الشوارع الرئيسية، بل في طرق المرور السريع ولعدة أيام في بعض الحالات.
وهذا خطر داهم وسبب واضح لأسوأ الحوادث المرورية، وأنا لا أدري تبرير رجال المرور لهذا الوقوف مع ما فيه من المخاطر وزحم الطريق، وقد سمعت من البعض أن الشاحنة إذا حاولت النزول من الشارع ربما طاحت وانقلبت، وهذا عذر أقبح من الذنب.
فينبغي على إدارة المرور أن تسن قانوناً صارماً يمنع هذا الوقوف في قلب شارع من الشوارع الرئيسية، خاصة طرق المرور السريع، وإنزال العقوبة الصارمة مالية كانت أم تعزيرية بسحب الرخصة إلى حين، أوما يناسب هذا الجرم الكبير، ويطلب من رجال المرور السيار مراقبة هذا الأمر بحزم، وينبغي على الضباط أن يراقبوا تنفيذ رجالهم لذلك.
2. سير بعض الشاحنات الطويلة وبعض "اللواري" ليلاً من غير أنوار خلفية، ولا لوحات عاكسة ضوئية، سيما في طرق المرور السريع، وعلى الأخص في طريق مدني الخرطوم، وهذا من الأسباب الرئيسية لوقوع بعض الحوادث وحدوث مضايقات لمن خلفهم.(9/305)
فعلى رجال المرور تنفيذ العقوبات ورفعها على من يسير ليلاً من غير أنوار خلفية، وإيقافه في الحال، وعدم السماح له بالتحرك ليلاً حتى ولو دفع الغرامة.
3. إلزام الشاحنات الطويلة وغيرها بالسير في المسار اليمين، والتي تليها في الحجم والسرعة في المسار الوسط، ويكون المسار اليسار للسيارات الصغيرة والسريعة.
وهذه من القواعد المرورية الملتزم بها في كثير من البلاد، وقد لاحظت في عدة مرات سير الشاحنات، و"الرقشات"، والسيارات البطيئة، بل و"الكارو" في أحيان في أقصى اليسار.
فلابد من إرشاد السائقين لذلك، وإنزال العقوبات المالية على المخالفين، حتى يمكن تجنب المشاكل الناتجة عن التخطي.
4. وقوف الحافلات المفاجئ في الشوارع الرئيسية، وتجمعها عند التقاء الطرق بكميات كبيرة للتحميل والإنزال، وفي ذلك إعاقة للسير وتأخير لمن خلفهم، ولم أر رجال المرور يمنعون من ذلك إلا نادراً، بل يجب أن يعاقب السائق الذي يتصرف هذا التصرف.
5. لابد من عمل إشارات ضوئية خاصة في الطرق ذات الاتجاهين، كطريق عبيد ختم، وطريق الستين، وإن كانا يعتبران من طرق المرور السريع، ولكن لعدم وجود جسور للسيارات التي تريد العبور يحتم عمل إشارات ضوئية، وإلا ينتج عن ذلك كثرة الحوادث المرورية كما هو مشاهد الآن.
6. سوء استعمال الأنوار العالية من أقوى أسباب وقوع الحوادث المرورية سيما في طريق مدني – الخرطوم، وبعض السائقين يخيل إليك كأنه يتعمد ذلك، وما يدري ما يحدث الضوء العالي من أضرار، خاصة من السيارات الكورية ذات اللمبات المشعة.
على إدارة المرور أن تلزم أصحاب هذه السيارات باستبدال هذه "اللمض" وهذا حق مشروع، فلا ضرر ولا ضرار، وإنزال عقوبة صارمة على من يسيء استعمال الضوء العالي، ولا يمكن معالجة هذا الأمر إلا بمراقبة الطرق ليلاً، وهو أمر وإن كان موجوداً فإن السائر ليلاً لا يشعر بوجوده.
7. السرعة الجنونية، لا شك أن السرعة الزائدة عن الحد سبب رئيس في وقوع الحوادث، وفي عدم تجنبها أوالتقليل من أضرارها، فلو استطاعت إدارة المرور مراقبة الطرق السريعة خاصة بأجهزة "الرادار"، وإنزال العقوبات الصارمة على من يتعدى السرعة المحددة له، يمكن أن يحد من ذلك.
8. التشدد في الفحص الدوري، والتأكد من صلاحية السيارة أوالشاحنة للسير، والتأكد من وجود وسائل السلامة فيها، ومراقبة ذلك، لأن البعض قد يستلف هذه الوسائل عند الفحص، فالمراقبة المستمرة والتفتيش المفاجئ لهذه الوسائل يجعل السائقين أكثر حرصاً على امتلاكها.
9. مراقبة ومتابعة والمنع من الشُّحَن العالية "التكويشات"، سيما الفحم، والقصب، والعلف، لأن ذلك يتسبب في تعطيل الشاحنات ويؤدي إلى الوقوف الخاطئ، وقد يعرض السيارات الأخرى لحوادث.
10. مراقبة طرق المرور السريع ليلاً خاصة في آخر الأسبوع، وفي المناسبات والأعياد، كما حدث في عيد الأضحى الماضي نهاراً فقط في طريق مدني – الخرطوم، وهي سنة حسنة يشكر عليها رجال المرور، وكان ذلك سبباً بعد لطف الله في عدم وقوع حوادث مرورية في العيد.
وقبل الختام أقول: ما دفعني لكتابة ذلك إلا النصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، فالدين النصيحة، وكذلك من باب الذكرى، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
كما أرجو من إخواننا المسؤولين في إدارة المرور وغيرهم أن لا يستنكفوا من قبول النصيحة، وأن يولوها اهتمامهم لأهميتها، وحاجة جميع الخلق إليها، ولهذا فقد دعا عمر لمن أسدى إليه نصحاً فقال: "رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي"، فاعتبر النصيحة هدية، وهي فعلاً هدية قيمة.
وأخيراً لا يفوتني أن أتقدم بوافر الشكر لرجال المرور ولغيرهم لما يقومون به نحو إخوانهم المسلمين، ونطلب منهم المزيد، ونقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم، وفي دينكم، وفي أهليكم، وفي إخوانكم المسلمين، فلا تظلموا أحداً، ولا تأخذوا مال أحد بغير حق، واحذروا الرشوة والمحسوبية، والتهرب من أداء الواجب، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي، والمرتشي، والرائش، واعلموا أن كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، والله الموفق للخيرات، الغافر للزلات
--------------------
ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟
أيها المجاهدون كم خلودكم في الدنيا؟
أيها المجاهدون في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، ولإعزاز دين الله، في كل زمان ومكان، وفي كل صقع من ديار الإسلام، اصبروا، وصابروا، واثبتوا، واحتسبوا، ولا يهيلنكم كيد الأعداء، ولا مكر الأقرباء، ولا خذلان الجبناء، ولا عمالة العملاء، ولا تسلط المرتزقة الأذلاء، ولا تحليلات الوراقين والإعلاميين المنافقين السفهاء، فأنتم موصولون بالله، تستمدون النصر منه، فأنتم الأعلون دوماً وأبداً، فلا تهنوا ولا تحزنوا.
وليكن لكم في سلفكم الصالح، وخلفكم الفالح الأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة، فأنتم لستم بدعاً منهم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل".(9/306)
أيها المجاهدون إن كنتم تألمون فإن أعداءكم يألمون كما تألمون، وأكثر مما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون، وما هي والله إلا إحدى الحسنيين، وما بينكم وبين الجنة إن شاء الله إلا القتل.
تذكروا رد إخوانكم السحرة لما آمنوا على الطاغية فرعون، ونصيحتهم لإخوانهم المبتلين في كل وقت وحين: "قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضٍ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى. إنه من يأت ربه مجرماً فإن له نار جهنم لا يموت فيها ولا يحيى. ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى. جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى".
فهذه نصيحة واعية، وهدية غالية، وهمة عالية، وكلمات سامية، خرجت من قلوب ملؤها الإيمان، وغايتها أعلى الجنات ورضى ربها الرحمن.
من النصائح العظيمة، والوصايا الكريمة كذلك، ما وصت به الصحابية الجليلة أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين ابنها عبد الله لما استنصحها: (الله الله يا بني، إن كنتَ تعلم أنك على الحق تدعو إليه فامضٍ عليه، ولا تمكِّن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك، وإن كنت أردتَ الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكتَ نفسك ومن معك، وإن قلتَ: "إني كنتُ على حق فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي"؛ فليس هذا من فعل الأحرار، ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير، والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل؛ فقال: يا أماه، أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني؛ قالت: يا بني، إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله).
كذلك من أقيم الهدايا وأجلها التي يمكن أن تقدم للمجاهدين الأبطال الأحرار، ما قاله ذلكم الأعرابي جابر بن عامر، مثبتاً لإمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل رحمه الله، في محنته التي وقف فيها مواقف الأنبياء، وأرضى فيها رب الأرض والسماء.
قال أحمد يصف محنته: (صرنا إلى الرَّحْبة، ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا؛ فقال للجمَّال: على رسلك؛ ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة؟! ثم قال: أستودعك الله؛ فسألت عنه، فقيل لي: هذا رجل من العرب، من ربيعة، يعمل الصوف في البادية، يقال له جابر بن عامر، يُذكر بخير.
وفي رواية قال أحمد: ما سمعتُ كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مُتَّ شهيداً، وإن عشتَ عشتَ حميداً؛ فقوى قلبي.
وفي رواية لابن كثير: يا هذا، إنك وافد الناس، فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل).
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن لا تجعل للكافرين والمنافقين على المجاهدين والمؤمنين سبيلاً.
اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس.
اللهم ارفع علم الجهاد، واقمع أهل الكفر والفسق والعناد، وانشر رحمتك على العباد، واجعلها بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم هيئ للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان أمر رشد يُعز فيه أهل الطاعة، ويُذل فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
اللهم لِمَن تترك عبادك المجاهدين المستذلين المطاردين؟ إلى عدو خبيث ملكته أمرهم، أم إلى قريب عميل خائن غادر خسيس يتجشمهم، اللهم إن لم يكن بك غضب عليهم فلا يبالوا، ولكن رحمتك يرجون، وعافيتك يطلبون، فلك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه.
000000000000000000
التحقيق في موضع رأس الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما
اختلف الناس في الموضع الذي دفن به رأس الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما اختلافاً كثيراً، فبين قائل إنه لا يُعرف، وبين متخبط غير متثبت، وبين متثبت متحقق، وملخص هذه الأقوال على ما يأتي:
1. أن موضع الرأس لم يُعرف، وهذا كذب كما قال العلماء المحققون.
2. أنه بمشهد بعسقلان، وهذا كذب أيضاً.
3. أنه نقل إلى القاهرة، وهذا كذب أيضاً.
4. أنه دفن بالبقيع بالمدينة، عند قبر أمه فاطمة الزهراء رضي الله عنهما، وهذا هو الحق، أما جسده الطاهر فمدفون بكربلاء.(9/307)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يعدِّد المشاهد المكذوبة: (وكذلك مشهد الرأس الذي بالقاهرة، فإن المصنفين في مقتل الحسين اتفقوا على أن الرأس لم يُعرف، وأهل المعرفة بالنقل يعلمون أن هذا أيضاً كذب، وأصله أنه نقل من مشهد بعسقلان، وذلك المشهد بني قبل هذا بنحو من ستين سنة، في أواخر المائة الخامسة، وهذا بني في أثناء المائة السادسة، بعد مقتل الحسين بنحو من خمسمائة عام، والقاهرة بنيت بعد مقتل الحسين بنحو من ثلاثمائة عام، وهذا المشهد بني بعد بناء القاهرة بنحو مائتي عام.
وقال كذلك: وأما المكذوب قطعاً فكثير، مثل قبر علي بن الحسين الذي بمصر، فإن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع الناس، ودفن بالبقيع، ويقال إن قبة العباس بها قبره، وقبر الحسن، وعلي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر، وجعفر بن محمد، وفيها أيضاً رأس الحسين، وأما بدنه فهو بكربلاء باتفاق الناس، والذي صح ما ذكره البخاري في صحيحه من أن رأسه حُمِل إلى عبيد الله بن زياد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وقد شهد على ذلك أنس بن مالك، وفي رواية أخرى أبو برزة الأسلمي، وكلاهما كانا بالعراق، وقد روي بإسناد منقطع أومجهول أنه حُمل إلى يزيد، وجعل ينكت بالقضيب على ثناياه، وأن أبا برزة كان حاضراً، وأنكر ذلك، وهذا كذب، فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد وإنما كان بالعراق).
خرَّج البخاري في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: "أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي فجُعل في طَسْتٍ، فجعل ينكت، وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوباً بالوسمة".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (كان مولد الحسين في شعبان سنة أربع في قول الأكثر، ومات يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق، وكان أهل الكوفة لما مات معاوية واستخلف يزيد كاتبوا الحسين بأنهم في طاعته، فخرج الحسين إليهم، فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فخذَّل غالب الناس عنه، فتأخروا رغبة ورهبة، وقتِل ابن عمه مسلم بن عقيل، وكان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له على الناس، ثم جهز إليه عسكراً فقاتلوه إلى أن قتل هو وجماعة من أهل بيته).
وقال المناوي في فيض القدير: (لما مات معاوية أتته – أي الحسين – كتب أهل العراق إلى المدينة أنهم بايعوه بعد موته – أي معاوية – فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل، فبايعوه، وأرسل إليهم فتوجه إليهم فخذلوه وقتلوه بها يوم الجمعة عاشر محرم سنة إحدى وستين.
إلى أن قال:
وطيف برأسه في البلدان إلى أن انتهت إلى عسقلان فدفنها أميره بها، فلما غلب الفرنج على عسقلان استفداها منهم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمال جزيل، وبنى عليها المشهد بالقاهرة كما أشار إليه القاضي الفاضل في قصيدة مدح بها الصالح، ونقله عنه الحافظ ابن حجر، وأقره ولكن نازع فيه بعضهم بأن الحافظ أباالعلاء الهمداني ذكر أن يزيد بن معاوية أرسلها إلى المدينة، فكفنها عامله بها عمرو بن سعيد بن العاص ودفنها بالبقيع عند قبر أمه، وهذا أصح ما قيل.
وقال الزبير بن بكار: حُمل الرأس إلى المدينة فدفن بها، وقال القرطبي: والزبير أعلم بالنسب وأفضل العلماء بهذا السبب، والإمامية يقولون: الرأس أعيد إلى الحبشة ودفن بكربلاء بعد أربعين يوماً من القتل.
قال القرطبي: وما ذكر من أنه في عسقلان في مشهد هناك أوبالقاهرة فباطل لم يصح ولا يثبت.
إلى أن قال: وتفصيل قصة قتله تمزق الأكباد وتذيب الأجساد).
قلت: لقد أراد الله لهذا الإمام الشهادة ورفع الدرجة، وإلا فقد نهاه عن الخروج إلى العراق وحذره من خذلان الرافضة ابن عباس، وابن عمر، ومحمد بن الحنفية، وذكروه بخذلان الرافضة لأبيه وأخيه، ولكن كان أمر الله قدراً مقدوراً، فإن الذين شهروا السلاح في وجهه وقتلوه ومن معه من آل بيته هم نفس الرافضة الذين كتبوا إليه مبايعين وواعدين بنصره.
فيا أسفاً على المصائب مرة - كما قال العلامة ابن العربي المالكي – ويا أسفاً على مصيبة الحسين ألف مرة، وإن بوله يجري على صدر النبي صلى الله عليه وسلم، ودمه يُراق على البوغاء ولا يحقن، يا لله ويا للمسلمين.
لقد ابتلي الرافضة ومن قلدهم بعبادة القبور المكذوبة، والمشاهد المدسوسة، على الرغم من الوعيد الوارد في ذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقوله: "اشتد غضب على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وغيرهما، فبجانب مشهد رأس الحسن المكذوب، فهم يعبدون قبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، ظناً منهم أنه قبر أمير المؤمنين علي، ولو علموا أنه قبر المغيرة لرجموه بالحجارة.(9/308)
قال شيخ الإسلام معدداً القبور والمشاهد المكذوبة: (وكذلك قبر علي رضي الله عنه الذي بباطن النجف بالكوفة، فإن المعروف عند أهل العلم أنه دفن بقصر الإمارة بالكوفة، كما دفن معاوية بقصر الإمارة بالشام، ودفن عمرو بن العاص بقصر الإمارة بمصر، خوفاً عليهم من الخوارج أن ينبشوا قبورهم).
مما دفع الإمام الشعبي رحمه الله أن يصفهم: "بانهم لو كانوا حيوانات لكانوا حميراً، ولو كانوا طيوراً لكانوا بوماً"، أو كما قال.
0000000000000000000
أيها المنافقون احذروا
من يطالع وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمشاهدة في هذه الأيام يرى، ويسمع، ويشاهد فيها من الجرأة على الدين، والتطاول على أئمته القدماء والمحدثين، والدفاع عن الزنادقة والملحدين، الهالكين منهم والعائشين، العجب العجاب، والقول المعاب، والكفر الصراح، من غير ارتياب، صادر من سفهاء الأدباء والوراقين، وأئمة الكفر والمنافقين.
فمن منادٍ بإباحة الردة وإنكار حدها، ومن منادٍ بمساواة المنسوخ المنحرف من الأديان بشريعة ما بُعث به ولد عدنان، ومنهم من يدافع عمن قتِل مرتداً عن الإسلام، كالحلاج، ومحمود محمد طه، وغيرهما من زنادقة الباطنية، ومنهم من يتنقص شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام، بل لقد تطاول بعضهم حتى نال من ابن حنبل وأضرابه الكرام، ومدح أئمة الضلال من المعتزلة وغيرهم أولئك الأقزام، ومنهم من يمجد القرامطة، والإسماعيلية، والعبيديين، لما سفكوه من دماء المسلمين، وبسبب حقدهم الدفين، فالكفر ملة واحدة، والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
ليس لهؤلاء الزعانف، والخافيش، والعملاء المداسيس، الذين جيء بهم من كل صوب وحدب، وأرسلوا من كل قطر وبلد، ليقوموا بالواجب، وليؤدوا ثمن ما قدِّم لهم، لعلم الكفار أن ما يقوم به العملاء والمنافقون في هدم الدين وتغيير المفاهيم لا يستطيع القيام به لا المغضوب عليهم ولا الضالون، مثلاً إلا ما قاله طرفة بن العبد:
يا لك من قبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي واصفري
قد رُفِعَ الفخُّ فماذا تحذري ؟ ونقري ما شئتِ أن تنقري
قد ذهب الصياد عنك فابشري لابد من أخذك يوماً فاحذري
وسبب ذلك أن طرفة وكان صبياً لم يتعدَّ السابعة خرج مع عمه في سفرة، فنزلوا ماءً، فنصب طرفة فخاً له للقنابر، وجلس عامة يومه منتظراً، فلم يصد شيئاً، فلما أخذ فخه وذهب جاءت القنابر يلقطن الحب، فقال ذلك.
وذلك لخلو الجو للمنافقين الأشرار، والتضييق، والحبس، والمنع، والحجر على طائفة من العلماء الأخيار الأطهار، بسبب خوف الحكام من الكفار، وحرصهم على ملكهم المستعار، بعد أن أعلن الاتحاد اليهودي الكنسي حربه الصليبية على الإسلام والمسلمين.
ولكنا نقول لهؤلاء ولأسيادهم من قبل احذروا، وأبشروا بحرب الله ورسوله، فإن الله يمهل ولا يهمل، فقد وعد الله بنصر أوليائه، وبخذلان أعدائه، وبأن العاقبة للمتقين، وأن الأيام دول، والحرب سجال، ونقول لحكامنا ما قاله عبد المطلب عندما عدم المعين لمقاومة أبرهة وجنده من الصليبيين: إن للدين رباً يحميه.
0000000000000000000000
المستشار مُؤْتمن
من حقوق المسلم الكفائية على أخيه المسلم إذا نصحه أن يجتهد في النصح له، وإذا استشاره في أمر أن لا يألو جهداً في ذلك، وأن يشير عليه بما يعتقد صحته وصوابه، ولا يكتمه شيئاً.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حق المسلم على المسلم ست، إذا لقيته فسلم، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه".
وقال صلى الله عليه وسلم حاثاً وحاضاً على الاستشارة: "لا خاب من استخار ولا ندم من استشار"، أي استخار ربه واستشار أهل الدين والخُلُق من خلقه.
وعلى المرء المسلم أن لا يغتر برأيه، ولا يعتد بعقله، ولا يستبد بتفكيره، فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "الرأي الواحد كالخيط الواحد، يكاد ينقطع، والرأيان كالخيطين، والثلاثة كالثلاثة"، فقد شاور سيد الخلق المؤيد بالوحي، وشاور الشيخان أبو بكر وعمر في غير ما أمر واحد.
وعليه كذلك أن يتخير ويصطفي من يستشيرهم، فالاستشارة هي المناصحة، والمناصحة لا يصلح لها إلا من توفرت فيه هذه الشروط:
1. الدين.
2. الرأي السديد.
3. العقل الكبير.
4. المحبة والرفق.
5. الأمانة.
6. والتجرد.
فلا ينبغي للمرء أن يستشير كل أحد، ولا يبوح بسره لكل من لاقاه.
ولهذا جاء في الحديث: "المستشار مؤتمن"، عن أبي هريرة، وسمرة بن جندب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم بطرق مختلفة، رمز السيوطي في الجامع الصغير إلى أحدها بالصحة، وإلى الثاني بالحسن، وإلى الثالث بالضعف، وفي رواية: "المستاشر مؤتمن، فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه".(9/309)
قال المناوي معلقاً على هذا الحديث: (أي أمين على ما استشير فيه، فمن أفضى إلى أخيه بسره، وأمنه على نفسه، فقد جعله بمحلها، فيجب عليه أن لا يشير عليه إلا بما يراه صواباً، فإنه كالأمانة للرجل الذي لا يأمن على إيداع ماله إلا ثقة، والسر قد يكون في إذاعته تلف النفس، أولى بان لا يجعل إلا عند موثوق به، وفيه حث على ما يحصل به معظم الدين، وهو النصح لله ورسوله وعامة المسلمين، وبه يحصل التحابب والائتلاف، وبضده يكون التباغض والاختلاف).
ثم نقل عن أحد المشايخ في صفة المستشار ما يأتي:
فلذلك قالوا: يحتاج المشير والناصح إلى علم، وعقل، وفكر صحيح، ورؤية حسنة، واعتدال مزاج، وتؤدة، وتأن، فإن لم تجتمع هذه الخصال فخطأه أسرع من إصابته، فلا يشير ولا ينصح، قالوا: وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة.
قلت: على المستشار إن لم يأنس في نفسه الكفاءة، أوخشي أن يخدع المستشير، أوكان جاهلاً بما استشير فيه، أن يعتذر عن ذلك، ويوجه الشخص إلى غيره، فهو ليس ملزماً أن يشير في كل الأحوال، فقد جاء في إحدى روايات الحديث السابق: "المستشار مؤتمن إن شاء أشار، وإن شاء لم يشر".
وكما أن المستشار لابد أن يكون أميناً حفيظاً، كذلك لابد أن يكون عالماً متخصصاً، أودارياً مجرباً.
(يحتاج الناصح والمشير إلى علم كبير كثير، فإنه يحتاج أولاً إلى علم الشريعة، وهو العلم العام المتضمن لأحوال الناس، وعلم الزمان، وعلم المكان، وعلم الترجيح، إذا تقابلت هذه الأمور، فيكون ما يصلح الزمان يفسد الحال، فيشير بأهمها، وإذا عرف من حال إنسان بالمخالفة، وإنه إذا أرشده إلى شيء فعل ضده، يشير عليه بما لا ينبغي ليفعل ما ينبغي، وهذا يسمى علم السياسة، فإنه يسوس بذلك النفوس الجموحة الشاردة عن طريق مصالحها).
آثار في فضل المشورة ومن يشاور
ذكر ابن عبد البر رحمه الله عدداً من الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في فضل المشورة، ومن يشاور، وهي:
• ...
"ما تشاور قوم إلا هداهم الله لأرشد أمورهم".
• ...
"لن يهلك قوم عن مشورة".
• ...
"من نزل به أمر فشاور فيه من هو دونه تواضعاً منه عُزِم له على الرشد".
• ...
"الحزم في مشاورة ذوي الرأي وطاعتهم".
• ...
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "شاور في أمرك من يخاف الله عز وجل".
• ...
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "رأى الشيخ خير من مشهد الغلام".
• ...
وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ما نزلت بي قط عظيمة فأبرمتها حتى أشاور عشرة من قريش مرتين، فإن أصبت كان الحظ لي دونهم، وإن أخطأت لم أرجع على نفسي بلائمة".
• ...
وقال الحسن البصري: "إن الله لم يأمر نبيه بمشاورة أصحابه حاجة منه إلى رأيهم، ولكنه أراد أن يعرفهم ما في المشورة من البركة".
• ...
وسئل الحسن البصري عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين"، فقال: "أراد لا تستشيروا المشركين في أموركم ولا تأخذوا برأيهم".
• ...
وقيل: المشاورة حصن من الندامة، وأمن وسلامة.
الاستشارة من المواطن التي أبيحت فيها الغيبة، فإذا استشارتك امرأة مثلاً أورجل في خطبة فعليك أن تخبره بما تعلمه عن الخطاب، فعندما استشارت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي الجهم ومعاوية وقد خطباها، بيَّن لها الصادق الأمين ما في كل منهما من العيوب، فقال لها: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن كاهله، ولكن انكحي أسامة بن زيد"، تقول: فتزوجته واغتبطت به.
فعلى المستشير أن لا يسفه ما أشير به عليه.
فعليك أخي الكريم أن لا تتحرج في ذلك، ولا تتردد أن تقول كل ما تعرفه عمن سئلت عنهم، واستشرت فيهم، وعليك كذلك أن لا تداهن المستشير وتجامله، وعليك تبيين الحق له، وأن ترده إلى صوابه ورشده.
قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله لبعض ولده: "ولا تشر على مستبد، ولا على عدو، ولا على متلون، ولا على لجوج، ولا تكونن أول مستشار، ولا أول مشير، وإياك والرأي الفطير، وخف الله في المستشير، فإن التماس موافقته لؤم، وسوء الاستماع منك خيانة".
ما يتعين على المستشار
يتعين على المستشار الآتي:
1. الاجتهاد في النصح.
2. أن لا يكتمه شيئاً.
3. أن لا يبوح بسره للآخرين.
ويتعين ذلك على كل مسلم استشير في أمر من الأمور الخاصة أوالعامة، سيما على:
1. وزراء ومستشاري ولاة الأمر.
2. بيوت الخبرة، ومكاتب دراسات الجدوى والاستشارات.
3. مجالس الإدارات.
تجرد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه(9/310)
من النماذج النادرة، والصور الفريدة في المشاورة والتجرد فيها ما فعله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وذلك عندما تقدم الحسن، والحسين، وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم إلى المسيِّب بن نجية، كل يريد خطبة ابنته، فقال لهم: مكانكم حتى أعود؛ فأتى علياً، فقال: أتيتُ أمير المؤمنين لأشاوره، فقال علي: أما الحسين فمطلاق، ولا تخطئ النساء عنده، وأما الحسن فمعلق، زوِّج ابن جعفر؛ فزوجه فلامه الحسنان، فقال: أشار عليَّ أمير المؤمنين؛ فأتياه، فقالا: وضعت منا! قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المستشار مؤتمن".
00000000000000000000
أخي الشاب احذر الاشتغال بتصنيف الخلق
المسلمون صنفان لا ثالث لهما: أهل السنة، وأهل القبلة
من العادات السيئة، والصفات الرذيلة المذمومة التي درج عليها بعض الشباب في الآونة الأخيرة وابتلوا بها الاشتغال بتصنيف العلماء، والدعاة، وطلاب العلم، والبحث والتنقيب عن تصوراتهم، واتجاهاتهم، وانتماءاتهم، ثم بعد ذلك تحديد المواقف منهم، وتتبع عثراتهم وزلاتهم، وتجريحهم، بل وتشريحهم، ثم نشر ذلك على الملأ بغرض التشهير، وإشانة السمعة، والتحذير منهم.
ومما يحزُّ في النفس أن القائمين بذلك مجموعة من الشباب المنتسبين إلى السنة والسلفية، وعلى من؟ على مجموعة من إخوانهم المنتسبين كذلك إلى السنة والسلفية، على من هم أكبر منهم سناً، وأكثر منهم علماً وورعاً، من العلماء، والمشايخ، والدعاة الفضلاء، غير مكتفين بما يلاقي هؤلاء من أعداء الملة والدين، مما يجعل ظلم هؤلاء على إخوانهم أشد مرارة من وقع الحسام المهند.
وبادئ ذي بدء يجب أن أؤكد على أمور، منها:
1. ليس هناك أحد معصوم سوى الرسل والأنبياء، والنصيحة مطلوبة ومرغوب فيها إذا التزم الناصح بالآداب الشرعية، وتخلق بالأخلاق الإسلامية، واتبع الطرق السوية.
2. أن المسلمين عند أهل السنة مصنفون إلى قسمين كبيرين لا ثالث لهما:
أ. أهل السنة: ويشمل هذا الصنف كل من اعتصم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعت عليه الأمة، وكان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد، والتصور، والعبادة، والسلوك، وقد سئل مالك عن أهل السنة، فقال: كل من سوى الخوارج، والقدرية، والرافضة؛ أوكما قال.
قال الشاطبي: (وقال رجل لأبي بكر بن عيَّاش: يا أبا بكر، من السُّني؟ قال: الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها).
ب. وأهل القبلة: وهم من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، وهو اسم شامل لمن عدى أهل السنة من أهل الأهواء، كالخوارج، والرافضة، والمعتزلة، والمرجئة، والقدرية، وغيرهم، ومن ثم فينبغي للسني أن تكون موالاته لأهل السنة أكبر من موالاته لغيرهم، لأنهم نقاوة المسلمين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
3. أن الإسلام نهى عن الخصومات والنزاعات في الدين.
4. من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وعدم اشتغاله بما لا مصلحة له فيه.
5. لا يعني الانتساب إلى أهل السنة انتفاء الفوارق بينهم أوتحريم الانضواء إلى جماعة معينة أو حلف من باب التعاون على البر والتقوى، طالما أنهم ملتزمون بما كان عليه السلف الصالح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جُدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعي إليه في الإسلام لأجبتُ".
وبعد..
ليت هذا التصنيف قائم على أسس بينة، وقواعد واضحة، بل في كثير من الأحيان يحكمه الهوى، وتمليه النظرة الحزبية الضيقة: "من ليس معنا فهو ضدنا"، ولا أدل على ذلك من تلك التصنيفات التي ابتدعوها وصدقوها، نحو تكفيري، سَرُوري، قطبي، وغيرها، التي لا تقل خطراً وضرراً من تصنيف الناس إلى وهابي، أوخامسي، وغيرهما، إذ الهدف من إطلاق هذه المصطلحات التحذير من أهلها، وازدراء من ينتسبون إليها، وإشانة سمعتهم، بحجة أن جميع هذه المسميات حادثة ومخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة، بينما إذا دققت النظر تجد أن جلَّ من يُنسبون إلى هذه الأسماء ويلقبون بهذه الألقاب على منهج أهل السنة والجماعة في الجملة، مع تفاوت بينهم يمكن أن يتدارك، ونقص يمكن أن يتمم، هذا كله إذا افترضنا سلامة العقيدة والتصور، التي هي الأساس والمعيار، وما سواها تبع لها، نحو الوسائل والمناهج وطرق العمل، حيث يمكن للناس أن يأخذوا ويردوا فيها، ويقبلوا ويرفضوا منها، فمصطلح أهل السنة شمل جميع أتباع المذاهب السنية الأربعة وغيرهم مع اختلافات طفيفة بينهم، فهناك مدرسة فقهاء الحديث، والمدرسة التي غلب عليها القياس، وهناك أهل الظاهر الذين خالفوا أهل السنة في مصدر من مصادر التشريع وهو القياس حيث لم يعتدوا به، فما كان من أهل العلم إلا أن خطؤوهم في ذلك وبكتوا عليهم، ولكنهم لم يخرجوهم من جملة أهل السنة، إذ لا يمكن أن يخرج من أهل السنة أمثال داود بن علي الظاهري، ومحمد بن حزم، وهما هما.(9/311)
كذلك من أئمة أهل السنة المقتدى بهم والمستفاد من علمهم ومصنفاتهم طائفة من جلة أهل العلم، منهم على سبيل المثال لا الحصر الإمام النووي، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وابن العربي المالكي، وابن الباقلاني، على الرغم من أشعريتهم واقترافهم للتأويل غير المحمود، فهم محسوبون على السنة، ومنسوبون إليها، مع اجتناب ما خالفوا فيه أهل السنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معدداً جهود الأشاعرة في كسر شوكة المعتزلة والجهمية، وذاكراً لبعض أعلامهم، كابن مجاهد، والباقلاني، والقلانسي، والأشعري: (وصار هؤلاء يردُّون على المعتزلة ما رده عليهم ابن كلاب، والقلانسي، والأشعري، وغيرهم من مثبتة الصفات، فيبينون فساد قولهم بأن القرآن مخلوق وغير ذلك، وكان في هذا من كسر سورة المعتزلة الجهمية ما فيه ظهور شعار السنة، وهو القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة، وإثبات الصفات والقدر، وغير ذلك من أصول أهل السنة).
وإذا كان الشيخ محمد رشيد رضا سامحه الله على الرغم من تتلمذه على محمد عبده وتأثره به، وعلى الرغم من تضييقه لدائرة الغيبيات، وعقلانيته المفرطة، وتأثره ببعض الأفكار المغايرة لمذهب أهل السنة، كعقائد بعض المرجئة والمعتزلة التي سرت منه إلى بعض أهل السنة المعاصرين، يُعتبر من أهل السنة ومن السلفيين، الذين كانت لهم مجاهدات، وانتصارات لمذهب أهل السنة والجماعة لا ينكرها إلا جاحد.
مما لا شك فيه أن كثيراً من الذين يصنفهم بعض الشباب تصنيفات جائرة، ويرمونهم بشيء من البدع، وهم بريئون من ذلك براءة الذئب من دم ابن يعقوب، لم يذهبوا إلى ما ذهب إليه أمثال الأئمة الذين سلف ذكرهم، وإنما اجتهدوا في أمور خالفوا فيها بعض أهل العلم، وربما كان الحق معهم أومع غيرهم، فكل مجتهد إن كان من أهل الاجتهاد فهو مأجور، إما أجراً واحداً وإما أجرين، خاصة واجتهادهم ليس في المسائل العقدية وإنما في مسائل الفروع، وقد اختلف من هم خير منهم وتناظروا، وأدلى كل منهم بحجته، واحتفظ برأيه ووده لصاحبه، كما هو حال الإمام أحمد مع الشافعي في تكفير تارك الصلاة كسلاً وعدم تكفيره، ومع ذلك كان أحمد يقول: الشافعي حبيب قلبي؛ وكان الشافعي من جملة من يدعو لهم أحمد في السحر مع والديه، ويقابل الشافعي هذا الفضل بالعرفان بالجميل، فيثني على أحمد ويقول: خرجتُ من بغداد ولم أخلف بها أورع ولا أعلم ولا أزهد من أحمد بن حنبل؛ رحمهما الله، والأمثلة على ذلك من سير علماء السلف وتراجمهم لا تحصى كثرة، وفي تحملهم لخلاف بعضهم لبعض، ولرجوعهم إلى الحق، ولاعتذارهم عن إخوانهم من أهل العلم والفضل.
فلا ينبغي لأحد أن يُحَجِّر واسعاً، ولا يحل لأحد أن يحتكر مذهب أهل السنة والجماعة، ولا يضيِّقه ليدخل فيه من شاء ويخرج منه من شاء، فتضليل مستوري الحال من عامة المسلمين دعك من أهل العلم العاملين من سمات أهل البدع والأهواء، وكذلك الهجر والتشهير بهم.
فعلى هؤلاء الشباب أن يشتغلوا بتزكية نفوسم، وترقية عباداتهم، وتهذيب أخلاقهم، وتحصيل ما فيه فائدة من العلوم الشرعية وغيرها، ومحاسبة أنفسهم، بدلاً من هذا التطاول على الآخرين، وتجسيد أخطائهم، ونشر زلاتهم، وبثها بين العالمين، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، وشغلته عيوبه عن عيوب الآخرين، وأن يتسلحوا بالعلم، ويتدثروا بالورع، فهذا خير لهم من الجسارة والجرأة على عباد الله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وصلى الله وسلم وبارك على الناصح الأمين، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه الغر الميامين.
000000000000000
مفاهيم ينبغي أن تصحَّح هذا متشدد؟
هذا متشدد؟
بين التشدد - الغلو، والالتزام، والتفلت
الغلو والتشدد
النهي عن الغلو والتشدد في الدين
نماذج للغلو في الاعتقادات
نماذج للغلو في الأعمال
تشديدات ابن عمر رضي الله عنهما
التوسط والاعتدال
المتفلت
أسباب إطلاق لقب متشدد على البعض في هذا العصر
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وفضلك يا أرحم الراحمين.
هناك مفاهيم مغلوطة، وأحكام معكوسة، وتصنيفات ممقوتة، يطلقها بعض الناس على بعض العلماء، وطلاب العلم، والدعاة، لا يدركون خطورتها، ولا يعرفون ضررها، ولا يشعرون بمغبة حكايتها وترديدها وإشاعتها بين العامة، ولا ببشاعة نتائجها.(9/312)
منهم من يفعل ذلك بقصد ولإحن، ومنهم من يطلق تلك الأحكام لقلة علمه وضحالة فقهه، ومنهم من يعتقد أن كل من خالف ما تعارف عليه الناس، ودرجوا عليه، واعتادوه، وقلدوا فيه، ومشوا عليه، استحق أن يُصنف ويُحذر منه، سواء كان المخالف موافقاً لسلف الأمة، وملتزماً بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام أم لا؟ وسواء كان ما اعتاده الناس وتعارفوا عليه مغايراً للمحجة البيضاء والحنيفية السمحة أم لا؟
من تلك التصنيفات الجائرة، والأحكام الباطلة، والنعوت الفارغة، إطلاق نعت ولقب "متشدد" على نفر من طلاب العلم الملتزمين المجتهدين، العاملين على رد الأمة إلى شرعها المصفى، وعقيدتها النقية، وطريقتها المرضية، وسبلها السوية.
ومن العجيب الغريب تباين الناس واختلافهم وتناقضهم في تصنيف الملتزمين بالسنة، العاملين لإحيائها وإشاعتها بين الناس، تصنيفاً متفاوتاً ومتغايراً جداً، فنفس الشخص الذي يطلق عليه البعض لقب "متشدد" يصفه آخرون بأنه متساهل، متهاون، مجامل، بل ومداهن، وذلك لاختلاف الموازين، واختلال المفاهيم، وقلة العلم والفقه والورع في الدين، فإرضاء الناس غاية لا تنال.
ومما يسلي النفس ويعزيها أن هذا المسلك قديم، وقد ابتلي به بعض العلماء الأخيار، والأئمة الأطهار، نظمنا الله في سلكهم، وحشرنا في زمرتهم، وجمعنا في مستقر رحمته بهم، منهم على سبيل المثال لا الحصر شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الشاطبي، والإمام ابن بطة، والإمام ابن منده رحمهم الله.
ولله در الإمام الشاطبي حين قال: (فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالف بالموافقة جارٍ مع الأزمان لا يختص بزمان دون زمان، فمن وافق فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان، ومن خالف فهو المخطئ المصاب، ومن وافق فهو المحمود السعيد، ومن خالف فهو المذموم المطرود، ومن وافق فقد سلك سبيل الهداية، ومن خالف فقد تاه في طرق الضلالة والغواية.
إلى أن قال:
فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس - فلابد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، إلا أن في ذلك العبء الثقيل، مع ما فيه من الأجر الجزيل – وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذاً بالله من ذلك، إلا أني أوافق المعتاد، وأعد من المؤالفين، لا من المخالفين، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليَّ القيامة، وتواترت عليَّ الملامة، وفوَّق إليَّ العتاب سهامه، ونسبتُ إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة، وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجاً لوجدتُ، غير أن ضيق العطن، والبعد عن أهل الفطن، رقى بي مرتقى صعباً، وضيق عليَّ مجالاً رحباً، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات لموافقات العادات أولى من اتباع الواضحات، وإن خالفتُ السلف الأول.
وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب، أوخرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة، فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزي إليَّ بعض الناس، بسبب أنني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.
وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص، إذ لم يكن ذلك شأن من السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب، وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال: هو بدعة، ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة؛ قيل له: فدعاءه للغزاة والمرابطين؟ قال: ما ارى به بأساً عند الحاجة إليه، وأما أن يكون شيئاً يصمد له في خطبته دائماً فإني أكره ذلك؛ ونص أيضاً العز بن عبد السلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.
وتارة أضاف إليَّ القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم.
وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم أوفي غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسط في كتاب الموافقات.
وتارة نسبتُ إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المتنصبين – بزعمهم – لهداية الخلق، وتكلمتُ للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.(9/313)
وتارة نسبتُ إلى مخالفة السنة والجماعة، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها – وهي الناجية – ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا عليَّ في جميع ذلك، أووهموا، والحمد لله على كل حال.
فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال: "عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخرسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقاً أومخالفاً، دعاني إلى متابعته علىما يقوله، وتصديق قوله، والشهادة، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك – كما يفعله أهل هذا الزمان – سماني موافقاً، وإن وقفت في حرف من قوله، أوفي شيء من فعله، سماني مخالفاً، وإن ذكرتُ في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد سماني خارجياً، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني سالمياً، وإن كان في الإيمان سماني مرجئياً، وإن كان في الأعمال سماني قدرياً، وإن كان في المعرفة سماني كرَّامياً، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبياً، وإن سكت عن تفسير آية أوحديث سماني ظاهرياً، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنياً، وإن أجبت بتأويل سماني أشعرياً، وإن جحدتهما سماني معتزلياً، وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شافعياً، وإن كان في القنوت سماني حنفياً، وإن كان في القرآن سماني حنبلياً، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار – إذ ليس في الحكم والحديث محاباة – قالوا: طعن في تزكيتهم، ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرأون عليَّ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنتُ جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئاً، وإني متمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو الغفور الرحيم".
هذا تمام الحكاية، فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع، فقلما تجد عالماً مشهوراً أوفاضلاً مذكوراً إلا وقد نبذ بهذه الأمور أوبعضها، لأن الهوى قد يداخل المخالف، بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة، إنه غير صاحبها، ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله حتى ينسب هذه المناسب).
وما قاله هذان الإمامان قاله أبو القاسم عبد الرحمن بن منده الأصبهاني كما حكى عنه الذهبي في ترجمته: (قد عجبتُ من حالي، فإني وجدت أكثر من لقيته إن صدقتُه فيما يقول مداراة له سماني موافقاً، وإن وقفت في حرف من قوله، أوفي شيء من فعله، سماني مخالفاً، وإن ذكرتُ في واحد منهما أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك سماني خارجياً، وإن قرئ علي حديث في التوحيد سماني مشبهاً، وإن كان في الرؤيا سماني سالمياً.
إلى أن قال: وأنا متمسك بالكتاب والسنة، متبرئ إلى الله من الشَّبْه والمِثْل، والند والضد، والأعضاء والجسم والآلات، ومن كل ما ينسبه النسابون إليَّ، ويدعيه المدعون عليَّ من أن أقول في الله تعالى شيئاً من ذلك، أوقلته، أوأراه، أوأتوهمه، أوأصفه به).
من الظلم البين والتجني الواضح أن يصف المسلمُ أخاه بصفة هو بريء منها، وأن يرميه ويبهته بما ينفر الناس ويصدهم عنه بالظن والتخريص، من غير تثبت، ويحسبه هيناً وهو عند الله عظيم، لعدم استشعاره لخطورة ما يقول، ويذيع، وينشر، ولجريرة ما يقترف.
لذلك فإنه من الضرورة بمكان التعرف على حقيقة هذه المصطلحات، وتحديد مدلولاتها، حتى نكون على بينة من أمرها، وحتى لا نظلم إخواننا المسلمين ونبوء بغضب رب العالمين، لنميز ونفرق بين المتشدد، والمعتدل، والمتفلت.
فما المراد بالتشدد، والتوسط، والتفلت؟
الغلو والتشدد
أ . التشدد
قل ابن منظور: التشديد خلاف التخفيف، وشاده مشادة وشِداداً غالبه، وفي الحديث: "من يشاد هذا الدين يغلبه الدين"، أي من يقويه ويقاومه، ويكلف نفسه من العبادة فوق طاقته، والمشادة المغالبة، وهو مثل الحديث الآخر: "إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"، والمتشدد البخيل، كالشديد، قال طرفة:
أرى الموت يعتامُ الكرامَ ويصطفي عقيلة مالِ الفاحش المتشدد
ب . الغلو
مجاوزة الحد، قال ابن منظور : وغلا في الدين، والأمر يغلو غلواً، جاوز حده، وفي التهذيب: وقال بعضهم: غلوتَ في الأمر غلواً وغلانية، وغلانياً إذا جاوزت فيه الحد وأفرطتَ فيه.
وفي الحديث: "إياكم والغلو في الدين"، أي التشدد فيه ومجاوزة الحد.
ومنه الحديث: "وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه"، إنما قال ذلك لأن من آدابه وأخلاقه التي أمر بها القصد في الأمور، وخير الأمور أوسطها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
النهي عن الغلو والتشدد في الدين
لقد نهى الله ورسوله وحذرا الأمة من الغلو في الدين، في الاعتقادات، والأعمال، وجميع التصرفات.(9/314)
قال تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته".
وقال: "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين".
وقال: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلَّ الله لكم ولا تعتدوا".
وروى أحمد عن أنس يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق"، وصحَّ عنه أنه قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وقولوا عبد الله ورسوله".
أقوال أهل العلم في المراد بالغلو والتشدد
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم" الآية: (يعني بذلك فيما ذكره المفسرون غلو اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وغلو النصارى فيه حتى جعلوه رباً، فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر، ولذلك قال مطرف بن عبد الله: الحسنة بين سيئتين؛ وقال الشاعر:
وأوفِ ولا تستوفِ حقَّك كلَّه وصافح فلم يستوفِ قطُّ كريمُ
ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ
وقال آخر:
عليك بأوساط الأمور فإنها نجاةٌ ولا تركب ذلولاً ولا صعباً).
وقال المناوي رحمه الله في شرح الحديث: "إياكم والغلو في الدين": (أي التشدد فيه ومجاوزة الحد، والبحث عن غوامض الأشياء، والكشف عن عللها، وغوامض متعبداتها، "فإنما أهلك من كان قبلكم" من الأمم "الغلو في الدين"، والسعيد من اتعظ بغيره، وهذا قاله غداة العقبة وأمرهم بمثل حصى الخذف، قال ابن تيمية: قوله "إياكم والغلو في الدين" عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقادات والأعمال، والغلو مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء أوذمه على ما يستحق، ونحو ذلك، والنصارى أكثر غلواً في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن بقوله: "لا تغلوا في دينكم"، وسبب هذا الأمر العام رمي الجمار، وهو داخل فيه مثل الرَّمي بالحجارة الكبار على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بقوله بما يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقاً أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه الهلاك).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: (بدء الشرائع كان على التخفيف، ولا يعرف في شرع نوح وصالح وإبراهيم عليهم السلام تثقيل، ثم جاء موسى عليه السلام بالتشديد والإثقال، وجاء عيسى عليه السلام بنحوه، وجاءت شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بنسخ تشديد أهل الكتاب، ولا تنطق بتسهيل من كان قبلهم فهي على غاية الاعتدال).
وقال ابن القيم رحمه الله عن غلو النصارى: (ومعلوم أن هذه الأمة – القضبية – ارتكبت محذورين عظيمين، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة.
أحدهما: الغلو في المخلوق حتى جعلوه شريك الخالق وجزءاً منه وإلهاً آخر معه، وأنفوا أن يكون عبداً له.
والثاني: تنقص الخالق وسبه، ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه – سبحانه وتعالى عن قولهم علواً كبيراً – نزل من العرش عن كرسي عظمته، ودخل فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والنجو، وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل رضيعاً صغيراً يمص الثدي، ولف في القُمُط، وأودع السرير، يبكي ويجوع ويعطش، ويبول ويتغوط، ويحمل على الأيدي والعواتق، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصفوا قفاه، وصلبوه جهراً بين لصين، وألبسوه إكليلاً من الشوك، وسمَّروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام، هذا وهو إله الحق الذي بيده أتقنت العوالم، وهو المعبود.
ولعمر الله هذه مسبة لله سبحانه وتعالى ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم، كما قال تعالى فيما يحكي عنه رسوله الذين نزهه ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذي: "تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً"، فقال: "شتمني ابن آدم، وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد، الذي لم ألد، ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته".
وقال عمر رضي الله تعالى عنه في هذه الأمة: "أهينوهم ولا تظلموهم، فقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر").
نماذج للغلو في الاعتقادات
صور الغلو في الاعتقادات التي نهى الشارع عنها وحذر منها سداً للذريعة كثيرة جداً، ولكن سنشير إلى بعضها ليُقاس عليها:
1. اعتقاد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، وأنه خلق من نور، وأنه حي في قبره كحياته قبل موته، وأنه يُرى يقظة بعد موته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله".
2. التوسل والاستغاثة بذات الأنبياء والمرسلين أوبجاههم أحياء وأمواتاً.(9/315)
3. التعلق بقبور الأنبياء ومن يعتقد فيهم الصلاح، والدعاء عندها، والصلاة إليها، والطواف بها.
4. البناء على القبور وإيقاد السرج عليها.
نماذج للغلو في الأعمال
1. تحريم ما أحل الله لعباده، كالذي يحرم على نفسه أكل اللحم، أوالزواج، ونحو ذلك.
2. الغلو في العبادة، كمن يعزم على صيام النهار وقيام الليل كله.
جاء في سبب نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنه لا يحب المعتدين" عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني إذا أصبت اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي، فحرمت اللحم؛ وقيل إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر، وعلي، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبوذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرِّن، رضي الله عنهم، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقيموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، ولا يقربوا النساء والطيب، ويسيحوا في الأرض ويترهبوا.
وخرج مسلم في صحيحه عن أنس أن نفراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء؛ وقال بعضهم: لا آكل اللحم؛ وقال بعضهم: لا أنام على الفراش؛ فحمد الله وأثنى عليه فقال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
قال القرطبي: (قال علماؤنا رحمة الله عليهم: في هذه الآية وما شابهها والأحاديث الواردة في معناها رد على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين، إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه، قال الطبري: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، إذا خاف على نفسه بإخلال ذلك لها بعض العنت والمشقة، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على ابن مظعون، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب عباده إليه، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون، إذ كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم).
تشديدات ابن عمر رضي الله عنهما
كان ابن عمر رضي الله عنهما يأخذ من التشديدات بأشياء لم يوافقه عليها كبار الصحابة، كالخلفاء الراشدين وغيرهم.
ولهذا عندما طلب المنصور من مالك رحمهما الله أن يضع كتاباً ليحمل عليه جميع الأمة ويمنع ما سواه، وكان ذلك حوالي عام 148هـ، أوصاه أن يتجنب فيما يدونه شدائد ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود رضي الله عنهم.
روى ابن عبد البر بسنده إلى محمد بن سعد قال: (سمعتُ مالك بن أنس يقول: لما حج أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلت عليه فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: إني عزمتُ أن آمر بكتبك هذه التي قد وضعت، يعني الموطأ، فتنسخ نسخاً ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوها إلى غيرها، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث، فإني رأيتُ أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم، قال فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملوا به، ودانوا به من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم؛ فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرتُ به).
قلت: هذه القصة تدل على إنصاف مالك رحمه الله لإخوانه العلماء، وعلى تواضعه وورعه، وعلى عمق فقهه، لأن حمل الناس على قول واحد فيه من المشقة والعناء ما فيه.
من تشددات ابن عمر رضي الله عنهما ما ذكره ابن القيم وغيره، والتي لم تؤثر عن أبي بكر وعمر ولا غيرهما من كبار الصحابة، ما يأتي:
1. كان ابن عمر رضي الله عنهما يقضي حاجته في نفس المكان الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته في غزواته وأسفاره إذا مر بها.
2. وكان يربط دابته في نفس الشجرة التي ربط فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته.
3. وكان يصوم يوم الغيم ليلة تسع وعشرين من شعبان احتياطاً، وكان ابن عباس لا يصومه.
4. وكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي.
5. وكان يأخذ لمسح أذنيه ماءً جديداً، والراجح أن الأذنين يمسحان بما أخذ لمسح الرأس.
6. كان يمنع من دخول الحمام، وكان إذا دخله اغتسل منه، وكان ابن عباس يدخل الحمام.
7. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يتيمم بضربتين، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وهو مذهب مالك، ولا يقتصر على ضربة واحدة وهو الأرجح، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يخالفه في ذلك.(9/316)
8. وكان ابن عمر يتوضأ من قبلة امرأته ويفتي بذلك، وكان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى، وكان ابن عباس يقول: ما أبالي قبلتهما أوشممتُ ريحاناً.
9. وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في صلاة أخرى أن يتمها، ثم يصلي الصلاة الفائتة، ثم يعيدها، وهذا مذهب مالك.
10. وكان إذا فاتته ركعة مع الإمام سجد سجدتي السهو بعد قضاء صلاته.
11. وكان يأمر الحائض أن تنقض شعرها للغسل عندما تطهر، فقالت عائشة: هلا أمرها أن تحلق شعرها!
قال ابن القيم رحمه الله: (وكذلك كان هذان الصحابيان الإمامان أحدهما يميل إلى التشدد والآخر إلى الترخيص، وذلك في غير مسألة).
قلت: هؤلاء الصحابة الثلاثة من كبار علماء الصحابة، وقد أخذ عنهم المسلمون دينهم، بل كل فقه الكوفة أخذ من علي وابن مسعود، وكذلك فقه الحجاز جله أخذ من شيخي الصحابة في وقتهما ابن عمر وابن عباس، وهذه المآخذ لا تغض من مكانتهم العلمية، فقط علينا أن لا نقتدي بهم في ذلك.
التوسط والاعتدال
المعتدل المتوسط هو الذي يكون ملتزماً بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف الصالح لا يحيد عن ذلك أبداً، بين التشديد والتخفيف، إذ الحسنة بين سيئتين، فلا إفراط ولا تفريط، وهذا ما عليه أهل السنة قاطبة، متجنباً ما يأتي:
1. الأقوال الشاذة.
2. رخص وزلات أهل العلم.
3. اتباع الهوى.
4. تقليد أحد الناس في كل ما يقول سوى الرسول صلى الله عليه وسلم.
5. الابتداع في الدين.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً": (أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً" قال: "عدلاً"، قال: هذا حديث حسن صحيح؛ وفي التنزيل: "قال أوسطهم"، أي أعدلهم وخيرهم.
إلى أن قال: ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً، أي هذه الأمة لم تغلُ غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبياءئهم، وفي الحديث: "خير الأمور أوسطها"، وفيه عن علي رضي الله عنه: "عليكم بالنمط الأوسط، فإليه ينزل العالي، وإليه يرتفع النازل").
وقال الشاطبي في تعريف الوسطية: (المفتي البالغ الذروة الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم، الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.
وأيضاً فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الأكرمين، وقد رد عليهم عليه الصلاة والسلام التبتيل، وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: "أفتان أنت يا معاذ"، وقال: "إن منكم منفرين"، وقال: "سدِّدوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدُّلجة، والقصد القصد تبلغوا"، وقال: "عليكم بالعمل ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا"، وقال: أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، ورد عليهم الوصال، وكثير من هذا.
وأيضاً فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق، أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً).
روى جابر رضي الله عنهما قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط، فقال: هذا سبيل الله – ثم تلا هذه الآية: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله"؛ وهذه السبل تشمل اليهودية والنصرانية، والمجوسية، وسائر أهل الملل، وأهل البدع والضلالات من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد كما قال ابن عطية.
المتفلت
هو المتبع لهواه، الذي لا يدور مع الدليل حيث دار، ولا يكلف نفسه باتباع الأرجح الأقرب إلى السنة بالاجتهاد في أقوال المفتين ولو كان أمياً، فاتباع الهوى يحدث بالآتي:
1. التقليد لما تهواه نفسه، والتذرع باتباع أحد الأئمة المقتدى بهم قديماً أوحديثاً.
2. أوبالتشهي في اختيار الأقوال.
3. أوبتتبع الرخص والزلات.
4. أوباتباع ما لا يسبب له حرجاً مع مجتمعه ولا يخالف ما ألفه الناس واعتادوه.
5. أوعن طريق التزيين والتقبيح العقلي.
6. أوبالجدل والمراء.
7. أوعن طريق تقليد الآباء والأجداد.
أسباب اتباع الهوى كثيرة ولا يمكن الإحاطة بها، ولكن أخطرها ما يأتي:
1. الجهل بمصدر وكيفية التلقي في الشرع.
2. عدم تلقي العلم من المشايخ الملتزمين بمنهج السلف الصالح.
3. اتخاذ الرؤوس الجهال.
4. التعامل مع الكتب مباشرة.
5. غياب الأدب والسلوك، أي تزكية النفوس.(9/317)
6. التمذهب والتحزب و"التشرذم" جعل كل حزب بما لديهم فرحون.
7. ندرة المشايخ المقتدرين القدوة الأكفاء.
8. الغرور والاستكبار.
9. الاستهانة بالابتداع في الدين.
أسباب إطلاق لقب متشدد على البعض في هذا العصر
بالاستقراء يمكننا أن نشير إلى أهم الأسباب التي دعت البعض إلى تصنيف بعض العلماء وطلاب العلم وغيرهم إلى متشددين، أومتحجرين، أومتزمتين، أوغالين، إلى آخر هذه القائمة من الألفاظ والألقاب غير المنضبطة من جهة، بينما يوصف غيرهم بالمستنيرين، ولقائل أن يقول بالمتفلتين، أوالمتساهلين، أوالمداهنين المسايرين لما تهواه العامة، ولما يتمشى مع مجريات العصر، ولا يوقع في حرج من جهة أخرى، التزامُ الأولين وتمسُّكهم واقتداؤُهم بما كان عليه سلف هذه الأمة في أمور عقدية، أومسائل انعقد عليها إجماع الأمة واتفاقها بعد خلاف دام قليلاً، وذلك لأن الحق عند الله سبحانه وتعالى واحد لا يتعدد، وكل مجتهد مأجور إذا كان من أهل الاجتهاد، وحاز أدواته، وكان على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد والتعبد والسلوك، أما أهل الأهواء قديماً وحديثاً فهم غير داخلين ولا معدودين في سلك المجتهدين، ومن أطلق لفظ كل مجتهد مصيب فمراده أنه مأجور غير آثم، أما أن يكون الحق عند الله عز وجل متعدداً فهذا لا يقول به عاقل، دعك عن مجتهد مقتدى به.
والأسباب التي توصل إليها بالاستقراء ونتج عنها هذا التصنيف الجائر والحكم الخاسر من غير ذكر أدلتها لأن المقام لا يتسع لذلك هي:
أولاً: وصف الله سبحانه وتعالى بكل صفات الجلال والكمال، وبكل ما وصف به نفسه أووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل، ولا تعطيل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، وهذا ما كان عليه السلف قاطبة في القرون الثلاثة الفاضلة، وعليه الخلف الصالح ظاهرين إلى أن تقوم الساعة.
ثانياً: منعهم للتوسل غير المشروع، وهو التوسل بذات وجاه الأنبياء والمرسلين والصالحين، الأحياء منهم والميتين.
ثالثاً: عدم الحرج من إطلاق لفظ الشرك أوالكفر على من أكفرهم الله ورسوله، لتعاطيهم أسباب ذلك مع توفر الشروط وانتفاء الموانع، لأن الإكفار ملك للشارع الحكيم.
رابعاً: حرصهم على الهدي الصالح والسمت الصالح الذي هو جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، كما أخبر الصادق المصدوق، والمتمثل في إعفاء اللحى، وقص الشوارب، وتقصير الثياب، ولبس القمص والسراويل والعمائم، التي أضحت غيظاً للكافرين والمنافقين، وشعاراً لعباد الله الصالحين.
مما يدل على أهمية السمت الصالح في الدين ما قاله حامي الكفر والوثنية في هذا العصر بوش أمام الكونغرس عن حال "الاتحاد اليهودي المسيحي" بتاريخ 29/1/2002، حيث أعلن الحرب الصليبية على الإسلام والمسلمين: (ولن يخضع الرجال بعد الآن لشرط إطلاق اللحى، ولن تخضع النساء لشرط تغطية وجوههن وأجسادهن)، خاب فأله وخسرت آماله.
خامساً: حرصهم على تصحيح العقيدة من الممارسات الشركية، والاهتمام بنشرها وتعليمها للناس.
سادساً: محاربتهم للبدع والمحدثات في العبادات.
سابعاً: إفتاؤهم بتحريم الغناء، والموسيقى، والسماع الصوفي المصحوب بالتلحين والآلات الموسيقية.
ثامناً: حرصهم وإفتاؤهم بوجوب الحجاب على النساء، ونهيهم وتحذيرهم عن التبرج والسفور والاختلاط بالأجانب.
تاسعاً: تحذيرهم من زلات، وهفوات، وسقطات أهل العلم.
عاشراً: الالتزام بظواهر النصوص وعدم تفريغها من معانيها والتوسع في التأويل من غير دليل.
أحد عشر: إفتاؤهم بتحريم الإسبال على الرجال سواء كان مصحوباً بخيلاء وتكبر أم لا.
الثاني عشر: نهيهم وتحذيرهم عن تصوير ما فيه روح والاشتغال والتكسب بذلك لأنه من الكبائر.
الثالث عشر: نهيهم وتحذيرهم عن تقليد الرجال في كل ما يقولون وأنه ما من أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.
الرابع عشر: هجرهم لأهل البدع والفسوق المجاهرين ببدعهم وفسقهم.
الخامس عشر: ذمهم للرأي والقياس في معارضة النصوص الصحيحة الصريحة.
السادس عشر: اعتقادهم أن ليس كل خلاف يستراح له ويعمل به.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تحت عنوان: "خطأ من يقول: لا إنكار في مسائل الخلاف": (وقولهم: "إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى، أوالعمل، أما الأول في إذا كان القول يخالف سنة أوإجماعاً وجب إنكاره اتفاقاً، إن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان خلاف سنة أوإجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أوسنة، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أومقلداً.(9/318)
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.
والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها – إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به – الاجتهاد لتعارض الأدلة أولخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم: إن هذه المسألة قطعية أويقينة ولا يسوغ فيها الاجتهاد طعن على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب، والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثيرة، مثل – فذكرها:
1. الحامل تعتد بوضع الحمل، ولو كان المتوفى لم يدفن بعد، خلافاً لما كان يفتي به علي وابن عباس رضي الله عنهم.
2. إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، هذا بالنسبة للمطلقة ثلاثاً، لا تحل لزوجها الأول إلا بعد معاشرة الثاني لها.
3. أن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، نسخاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الماء من الماء".
4. وأن ربا الفضل حرام، وقد توقف في حرمته ابن عباس أولاً ثم رجع إلى قول العامة.
5. وأن المتعة حرام، يريد رحمه الله متعة النساء التي أجازها الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة من الغزوات، ثم عاد فحرمها في غزوة خيبر، هي والحمر الأهلية، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول بحلها حيناً، ولكن سرعان ما عاد إلى قول العامة عندما روجع في ذلك، وهذا هو اللائق بحبر الأمة وترجمان القرآن، وبهذا أجمع أهل السنة قاطبة، بحرمة متعة النساء، وبأنها أخت الزنا، ولم يبحها إلا أهل الأهواء الرافضة، وقد بلغت وقاحتهم وانحطاطهم أن أباحوها مع الرضيعة شريطة عدم الإيلاج!! فنعوذ بالله من الخذلان.
6. أن النبيذ المسكر حرام، خلافاً لمن قال بإباحته من أهل الكوفة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخمر ما خامر العقل، وكل مسكر خمر"، أوكما قال، فالحمد لله الذي لم يتعبدنا بأقوال الرجال، ولا بتقليدهم في كل ما يقولون.
7. أن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً، لم ينكر ذلك إلا أهل الأهواء من الرافضة والخوارج الذين لم يحفل باتفاقهم، ولا يحزن لاختلافهم، بل إن المسح على الجوارب، والعمامة، والخمار، رخصة أخذ بها طائفة من أهل العلم، وعمل بها كبار الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.
8. أن المسلم لا يقتل بكافر، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، لأن نفس الكافر ليست مكافئة لنفس المؤمن.
9. أن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق الذي نسخ، وهو وضع الكفين بين الركبتين، الذي كان يقول به ابن مسعود رضي الله عنه، لأن حديث النسخ لم يبلغه، وإلا لما تعداه.
1. أن رفع اليدين – الترويح – عند الركوع والرفع منه سنة، وقد صح ذلك عن عدد كبير من الصحابة، منهم الخلفاء الراشدون، وفي مذهب مالك روايتان في الترويح والقبض، أصحهما القول بالترويح والقبض، وهذا مذهب المدنيين والشاميين من المالكية، ورواه ابن وهب عن مالك، ولكن أشهر المالكية رواية ابن القاسم عن مالك في عدم القبض والترويح، وفي ذلك إجحاف وظلم على أتباع المذهب المالكي، فعلى علماء المالكية أن يذكروا الروايتين عن مالك، سيما وأن رواية القبض والترويح هي الأصح، وآخر ما أثر عن مالك كما قال العلماء المحققون، بجانب موافقتها للسنة الصحيحة ولعامة أهل العلم، وقد رواهما عنه ابن وهب.
11. أن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، أي أن الجار أولى بشراء أرض وعقار جاره بسعر المثل إلا إذا لم يرغب في ذلك أوعَجَز عن سعر المثل.
12. الوقف – وهو الحبس – صحيح لازم، خلافاً لما قاله أبو حنيفة رحمه الله، وأن الوقف على شرط صاحبه، ولا يصح نقله عن غير ما حدده صاحبه أوالتلاعب فيه كما هو حادث الآن، فهناك أوقاف كثيرة بيعت واستبدلت عن طريق جهات رسمية وغير رسمية، وهذا حرام ولا يحل أبداً، فعلى المسؤولين ونظار الوقف أن يتقوا الله في أنفسهم وفي الواقفين والموقوف عليهم.
13. أن دية الأصابع سواء، وهي عشرة من الإبل، لا فرق بين إبهام، وسبابة، ووسطى، وخنصر، وبنصر، ولا بين أصابع اليدين والرجلين.
14. أن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، خلافاً للاحناف الذين قالوا لا تقطع إلا في عشرة دراهم لصحة الخبر في القول الأول.
15. أن الخاتم من الحديد يجوز أن يكون صداقاً، لم يحدد الشارع قدراً للصداق، أي المهر، فيجوز أن يكون قليلاً أوكثيراً، ولكن السنة دلت على عدم المغالاة، ونهت وحذرت من ذلك، وما اشتهر على ألسنة بعض الخطباء وأئمة المساجد من أن عمر نهى عن المغالاة في المهور فقامت امرأة وقالت رادة عليه: يعطينا الله وتحرمنا؛ فقال: أخطأ عمر وأصابت امرأة؛ ليس له أساس من الصحة، ولم يرد في ديوان من دواوين السنة، وإنما وجد في بعض التفاسير، وما قاله عمر هو السنة، وهو الحق، فلا ينبغي للخطباء والوعاظ أن يحلوا وعظهم وخطبهم بما لم تثبت صحته.(9/319)
16. أن التيمم إلى الكوعين مع الوجه ضربة واحدة جائز، بل هو الراجح، وقد ذهب ابن عمر إلى أنه ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وتبعه مالك في ذلك.
17. أن صيام الولي عن الميت يجزئ عنه، سيما في النذر، والله أعلم.
18. أن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وكان بعض أهل العلم يقول: التلبية تقطع قبل ذلك.
19. أن المُحْرِمَ له استدامة الطيب دون ابتدائه، بمعنى لو تطيب قبل إحرامه وبقي أثر الطيب عليه بعد الإحرام فلا شيء عليه.
20. أن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره "السلام عليكم ورحمة الله"، لا أن يكتفي بقول "السلام عليكم" فقط وإلى جهة اليمين دون اليسار، وهذا القول مرجوح.
21. أن خيار المجلس ثابت، وذلك لتفسير ابن عمر راوي الحديث أن التفرق بالأبدان، وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إلى أن التفرق بالكلام، ولهذا لم يأخذوا بخيار المجلس، والصواب الأخذ بخيار المجلس.
22. أن المصراة يرد معها عوض من اللبن صاعاً من تمر.
23. أن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وهي ركعتان كل ركعة ركوعان وسجودان.
24. أن القضاء – أي الحكم – جائز بشاهد واحد ويمين.
بهذا اتضح لنا أن إطلاق لفظ متشدد أوتصنيف البشر إلى متشددين وغير متشددين نتيجة الالتزام بما صح عن الله ورسوله وما أجمعت عليه الأمة من الظلم الواضج، والجهل الفاضح، والتعدي البين، وأن الملتزمين بما كان عليه سلف هذه الأمة هم المعتدلون المتوسطون المحمودون، وأن من سواهم من الغالين المتشددين، أوالمتساهلين المتهاونين المقصرين المفرطين هم المذمومون المؤاخذون، وأن بيان هذا التوضيح ونشره بين الناس من باب النصيحة الواجبة.
وعلى المسلم أن يتقي الله في نفسه، وفي إخوانه المسلمين، وأن لا يكون همه تصنيف الخلق والحكم عليهم بغير وجه حق، وليعلم أن عليه رقيب عتيد، وأنه لن تزول قدماه عن الصراط حتى يسأل عن ذلك، وحتى يقتص منه لمن وسمهم بهذه السمة، وانتقصهم بالتشدد والتنطع والغلو مع براءتهم وسلامتهم من هذا السلوك المشين والخلق غير المستقيم، واحذر شهادة الزور وقول الزور الذي سيكتب عليك وتسأل عنه.
وتذكر قول الله في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"، والأولياء هم العلماء كما قال أبو حنيفة والشافعي: "إن لم يكن العلماء هم الأولياء فليس لله ولي"، فلحوم العلماء مسمومة، ورحم الله الحافظ ابن عساكر عندما قال ناصحاً لإخوانه المسلمين ومبيناً خطورة الطعن والتشكيك في العلماء وانتقاصهم: اعلم أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب، "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم".
واحذر أن ينطبق عليك قول القائل: "رمتني بدائها وانسلت"، فالبعض يغلو ويعظم من يجب أن يُهجروا ولا يُوالوا، وينتقص ويعيب من تجب عليه موالاتهم ومحبتهم، فقط اتباعاً للهوى والاستلطاف، ولحمية، سيما وأن الفاصل بين الحق والباطل قد يكون شعرة.
والله أسأل أن يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجنبنا الهوى والفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه
000000000000000000000
سعادة الدَّارين في برِّ الوالدين
تعريف البر
حكم بر الوالدين
فضل بر الوالدين
الأم مقدمة في البر على الأب
ما يُطاع فيه الوالدان وما لا يُطاعان فيه
ما لا يعمل إلا بعد إذن الوالدين
أولاً: السفر لطلب علم مندوب أومباح
ثانياً: السفر للحج والعمرة
ثالثاً: الخروج إلى الجهاد
الأدلة على أن الجهاد إن كان فرض كفاية فلا يخرج إليه إلا بعد إذن والديه
رابعاً: الهجرة
خامساً: السفر للعمل والتجارة
ما يستحب فيه رضا الوالدين ولا يجب
أولاً: الزواج
ثانياً: الطلاق
ما يختص به الوالد في ولده دون غيره
هذا الرفق وتلك المداراة واجبة مع الوالدين حتى في حال الأمر والنهي
بمَ يكون برُّ الوالدين؟
أولاً: المسلمين
ثانياً: الكافرين أوالمشركين
فضل وثواب بر الوالدين في الدنيا والآخرة
جزاء الوالدين
تعريف العقوق
عقوبة العاق لوالديه
من صور العقوق
نماذج للأبناء البررة
نماذج للأبناء العاقين
المراجع
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه.(9/320)
ليس هناك حق بعد حقوق الله ورسوله أوجب على العبد ولا آكد من حقوق والديه عليه، ولهذا فقد أمره الإسلام ببرهما والإحسان إليهما، وقرن ذلك بعبادته وطاعته، فقال عز من قائل: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"ً، ونهى وحذر من عقوقهما، وعصيانهما، والإساءة إليهما، وعدَّ ذلك من أكبر الكبائر وأعظم العظائم، فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبُّ الرجل أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبُّ أمه فيسبّ أمه"
بل قرَنَ شكرهما بشكره، فقال: "أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير"، فمن لا يشكر لوالديه فإن الله غني عن شكره، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "ثلاثة مقرونة بثلاثة، قال تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، فمن أقام الصلاة ولم يؤت الزكاة الواجبة لا تقبل له صلاة، وقال: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لا يقبل الله طاعته، وقال: "أن اشكر لي ولوالديك"، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لا يقبل الله شكره"، أوكما قال.
بل جعل رضاه في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما.
فالسعيد السعيد من وفق بعد تقوى الله عز وجل لبر والديه – أحياءً وأمواتاً – والإحسان إليهما، والشقي التعيس من عقَّ والديه وعصاهما وأساء إليهما ولم يرع حقوقهما، فبر الوالدين سبب من أسباب دخول الجنة، وعقوقهما من أقوى أسباب دخول النار: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه".
عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أصبح مطيعاً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة، وإن واحداً فواحد، ومن أصبح عاصياً لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار، وإن كان واحداً فواحد؛ قال رجل: وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه".
فيا سعادة البارين بوالديهم، ويا تعاسة العاقين لهما، إن كنت أخي المسلم باراً فازدد في برك لهما أحياءً وأمواتاً، وإن كنتَ عاقاً فعليك أن تتوب من هذا الذنب العظيم، وتحاول إدراك ما يمكن إدراكه، واعلم أنك كما تدين تدان، ولله در القائل: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم.
واحذروا أيها الأبناء والبنات عقوق الأمهات، فإن برهن وحقهن آكد من بر الآباء وحقهم، واعلموا أنه ما من جرم يعجِّل لصاحبه العذاب في الدنيا مع ما يُدَّخر له في الآخرة أخطر من عقوق الوالدين وقطيعة الرحم.
من فضل الله علينا ورحمته بنا فإن بر الوالدين لا ينقطع بموتهما، وإنما يستمر بالدعاء والاستغفار والتصدق لهما، وبصلة أقاربهما وأرحامهما، وبصدق التوبة والندم على ما مضى من تقصير، فإن فاتك برهما أوأحدهما أحياء فلا يفتك استدراك ما يمكن استدراكه وتحصيل ما يمكن تحصيله، قبل أن يُحال بينك وبين ما تشتهي، حين تأتيك المنون، وتبلغ الروح الحلقوم، وتحرم عما كنت تروم.
تعريف البر
البر كلمة جامعة لخيري الدنيا والآخرة، وبر الوالدين يعني الإحسان إليهما وتوفية حقوقهما، وطاعتهما في أغراضهما في الأمور المندوبة والمباحة، لا في الواجبات والمعاصي، والبر ضد العقوق، وهو الإساءة إليهما وتضييع حقوقهما.
ويكون البر بحسن المعاملة والمعاشرة، وبالصلة والإنفاق، بغير عوض مطلوب.
تعريف الوالدين
الوالدان هما الأب والأم، سواء كانا من نسب أورضاع، مسلمين كانا أم كافرين، وإن عليا، فالأجداد والجدات، آباء وأمهات، سواء كانوا من قبل الأب أوالأم، والخالة بمنزلة الأم كما صح بذلك الخبر.
حكم بر الوالدين
بر الوالدين فرض واجب، وعقوقهما حرام ومن الكبائر.
دليل الحكم
الكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب قوله تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً".
وقوله: "ووصينا الإنسان بوالديه
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل قائلاً: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك"، وفي رواية: "ثم أدناك أدناك".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف، من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أوكليهما، فلم يدخل الجنة".
وقد أجمعت الأمة على وجوب بر الوالدين وأن عقوقهما من أكبر الكبائر.
فضل بر الوالدين
بر الوالدين والإحسان إليهما من أقوى الأسباب لدخول الجنة، ولنيل رضا الله عز وجل، وقد ورد في ذلك العديد من الآيات والأحاديث والآثار، نشير إلى طرف منها:
1. عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحبُّ إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها؛ قلت: ثم أيُّ؟ قال: بر الوالدين؛ قلت: ثم أيُّ؟ قال: الجهاد في سبيل الله".
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجزئ ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه".(9/321)
3. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه".
الأم مقدمة في البر على الأب
ذهب أهل العلم في هذه المسألة مذهبين، هما:
1. الأب والأم يستويان في البر، وهذا مذهب مالك.
2. للأم ثلاثة أضعاف البر، وللأب ضعف، وهذا مذهب الليث بن سعد.
استدل من قدَّم الأم على الأب في البر بحديث: "من أحق الناس بحسن صحابتي"، حيث قال له: "أمُّك" ثلاثاً، وفي الرابعة قال: "أبوك"، وبغيره.
ورد عليهم القائلون بتسوية الوالدين في البر أن المراد بذلك التأكيد على بر الأم، لتهاون الأبناء في بر أمهاتهم أكثر من تهاونهم في بر آبائهم.
أقوال العلماء
قال القرطبي رحمه الله معلقاً على الحديث: "من أحق الناس بحسن صحابتي": (فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبة الأب، لذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأم ثلاث مرات، وذكر الأب في الرابعة فقط، وإذا توصل هذا المعنى شهد له العيان، وذلك أن صعوبة الحمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب، ورُوي عن مالك أن رجلاً قال له: إن أبي في ا، وقد كتب إليَّ أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له: أطع أباك ولا تعصٍ أمك؛ فدل قول مالك هذا على أن برهما متساوٍ عنده، وقد سئل عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم، وزعم أن لها ثلثي البر، وحديث أبي هريرة – السابق – يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر، وهو الحجة على من خالف، وقد زعم المحاسبي في كتاب "الرعاية" له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع، على مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والله أعلم).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة السابق في الفتح: (قال ابن بَطَّال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم، وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين"، فسوى بينهما في الوصية، وخص الأم بالأمور الثلاثة، قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة؛ وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك، والصواب الأول، قلت: إلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نقل الحارث المحاسبي الإجماع على تفضيل الأم في البر وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحاً في ذلك، فقد ذكره ابن بطال، فقال: سئل مالك: طلبني أبي، فمنعتني أمي؛ قال: أطع أباك ولا تعصٍ أمك؛ قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برهما سواء، كذا قال، وليست الدلالة على ذلك واضحة، قال: وسئل الليث يعني عن هذه المسألة بعينها، فقال: أطع أمك فإن لها ثلثي البر؛ وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذكر الأم فيه إلا مرتين، وقد وقع كذلك في رواية محمد بن فضيل بن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الباب، ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب فيما أخرجه المصنف في "الأدب المفرد"، وابن ماجة، وصححه الحاكم، ولفظه: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب"، كذا وقع في حديث بَهْز بن حكيم).
وقال فضل الله الجيلاني في توضيح الأدب المفرد: (الأم مقدمة في الإجماع في البر على الأب، وأن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، وذلك لتحمل المشاق في الحمل والوضع حتى تكاد تموت، ولا أقل من أن تذوقه في كل وضع إذا ضربها الطلق، ثم المحنة زمن الرضاع إلى أن يكبر الولد ويستغني عن خدمتها، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في الإنفاق والتربية وأنواع من المؤنة والخدمة – كذا ذكره السيوطي – أخذ ذلك من تكرار حق الأم، والأظهر أن يكون تأكيداً ومبالغة في رعاية حق الأم، وذلك لتهاون أكثر الناس في حق الأم بالنسبة إلى الأب، لأن أمر الأم كله في البيت تحت الستور ولا يطلع عليه الناس، فيجترئ الناس على عقوقها أكثر من عقوق الوالد حياء من الناس، وكذا قوته تزجر عن الجرأة عليه، وضعفها يحمل الدنيء على الإساءة إليها، ولا يبعد أن الشريعة بالغت في البر بها أكثر من البر بالأب مواساة لها ومراعاة لضعف قلوب النساء وشفقة على الولد، مع أن الأب ليس أنقص حقاً من حقوقها، لأن الأم للين طبعها وضعف بنيتها لا تستطيع أحياناً أن تتحمل إباء وسوء خلقه فتعجل أن تغضب، فتسرع بالدعاء عليه، والمذكور في كتب الفقه أن حق الوالد أعظم من حق الوالدة وبرها أوجب).(9/322)
قال ابن قتيبة رحمه الله: (خاصمت أم عوف – امرأة أبي الأسود الدؤلي – أبا الأسود إلى زياد في ولد منه، قال أبو الأسود: أنا أحق بالولد منها، حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه؛ فقالت أم عوف: وضعته شهوة، ووضعتُه كرهاً، وحملتَه خفاً، وحملتُ ثقلاً؛ فقال زياد: صدقت، أنت أحق به؛ فدفعه
قلت: هذا في الحضانة، فالولد للأم دون السابعة، والبنت إلى الزواج، ما لم تتزوج الأم، أويكون هناك مانع.
تقديم الأم في البر يكون في الإنفاق، والرعاية، والعطف، فإذا قصُرَت يَدُ الأبناء عن الإنفاق على الوالدين جميعاً تقدم الأم على الأب، وكذلك في زكاة الفطر إن لم يتمكن الابن من إخراج الزكاة عن أبويه الفقيرين أخرج عن أمه، وهكذا، وكذلك الأمر في الرعاية والعطف، أما في التعظيم والاحترام فيقدم الأب على الأم، والله أعلم.
قال فضل الله الجيلاني: (قيل إذا تعذر مراعاة حق الوالدين جميعاً بأن يتأذى أحدهما بمراعاة الآخر يترجح حق الأم فيما يرجع إلى الخدمة والإنعام، حتى لو دخلا عليه يقوم للأب، ولو سألا منه شيئاً يبدأ في الإعطاء بالأم، كما في "منبع الآداب"، قال الفقهاء: تقدم الأم على الأب في النفقة إذا لم يكن عند الولد إلا كفاية أحدهما، لكثرة تعبها عليه، وشفقتها، وخدمتها، ومعاناة المشاق في حمله، ثم وضعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته، وخدمته، ومعالجة أوساخه، وتأنيسه في مرضه، وغير ذلك – روح المعاني بتصرف)
ما يُطاع فيه الوالدان وما لا يُطاعان فيه
بعد أن أجمع أهل العلم علىأن الوالدين يطاعان في فعل:
1. المباح.
2. والمندوب.
ولا يطاعان في:
1. فعل الحرام.
2. وترك الواجب.
اختلفوا في طاعتهما فيما فيه شبهة على قولين.
قال ابن مفلح رحمه الله: (وقد قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: هل للوالدين طاعة في الشبهة؟ قال: في مثل الأكل؟ قلت: نعم؛ قال: ما أحب أن يقيم معهما عليها، وما أحب أن يعصيهما، يداريهما، ولا ينبغي للرجل أن يقيم على الشبهة مع والديه.
وذكر المروذي له قول الفضيل: كل ما لم تعلم أنه حرام بعينه؛ فقال أبو عبد الله – أحمد بن حنبل -: وما يدريه أيها الحرام؟ وذكر له المروذي قول بشر بن الحارث وسئل هل للوالدين طاعة في الشبهة؟ فقال: لا؛ قال أبو عبد الله: هذا شديد؛ قلت لأبي عبد الله: فللوالدين طاعة في الشبهة؟ فقال: إن للوالدين حقاً؛ قلت: فلهما طاعة فيها؟ قال: أحب أن تعفيني، أخاف أن يكون الذي يدخل عليه أشد مما يأتي؛ قلتُ لأبي عبد الله: إني سألت محمد بن مقاتل العبَّاداني عنها، فقال لي: بر والديك؛ فقال: هذا محمد بن مقاتل قد رأيت ما قال، وهذا بشر الحارث قد قال ما قال؛ ثم قال أبو عبد الله: ما أحسن أن يداريهم.
وروى المروذي عن علي بن عاصم أنه سئل عن الشبهة، فقال: أطع والديك، وسئل عنها بشر بن الحارث، فقال: لا تدخلني بينك وبين والديك.
وذكر الشيخ تقي رواية المروذي ثم قال: وقال في رواية ابن إبراهيم فيما هو شبهة فتعرض عليه أمه أن يأكل فقال: إذا علم أنه حرام بعينه فلا يأكل.
قال الشيخ تقي الدين: مفهوم هذه الرواية أنهما قد يطاعان إذا لم يعلم أنه حرام، ورواية المروذي فيها أنهما لا يطاعان في الشبهة، وكلامه يدل على أنه لولا الشبهة لوجب الأكل، لأنه لا ضرر عليه فيه، وهو يُطيِّب أنفسهما).
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله: (أكثر العلماء على أن طاعة الوالدين واجبة في الشبهات، وإن لم تجب في الحرام المحض، حتى إذا كانا يتنغصان بانفرادك عنهما بالطعام فعليك أن تأكل معهما لأن ترك الشبهة ورع، ورضا الوالدين حتم).
أمثلة للمباح الذي تجب فيه طاعة الوالدين
الأحكام الشرعية خمسة، حلال، وحرام، ومندوب، ومكروه، ومباح، فالمباح هو ما يجوز فعله وتركه، فمن أمثلة المباح الذي تجب فيه طاعة الوالدين ما لم يكن مانع شرعي آخر أن يطلبا منك أوأحدهما:
1. أن تسكن معهما في المنزل.
2. أن تتزوج امرأة معينة.
ومن أمثلة المندوب الذي تجب فيه طاعة الوالدين أوأحدهما، مثل:
1. النهي عن صيام يوم تطوعاً لشدة الحر مثلاً.
2. الذهاب لخلوة لحفظ القرآن الكريم كله.
ومن أمثلة الحرام الذي لا يجب فعله، والواجب الذي لا يجوز تركه ولا تجوز طاعتهما فيه ما يأتي:
1. الأمر بحلق اللحية.
2. الأمر بمصافحة الأجنبيات والدخول عليهن من الأقارب.
3. الأمر بإسبال الملابس.
4. طلب الانتماء إلى طريقة من الطرق الصوفية أوحزب من الأحزاب العلمانية، سواء كان ينتمي إليها الوالدان أم لا.
5. النهي عن الذهاب إلى صلاة الجماعة إلا بسبب خوف من لصوص ليلاً، قال الحسن البصري: إذا نهته أمه عن شهود العشاء شفقة عليه فلا يطعها؛ ومن أهل العلم من قال يطيعها.
6. النهي عن الحجاب الشرعي للبنات.
7. إذا طُلب منه ممارسات شركية نحو الذهاب لزيارة رجل مبتدع أودخول قبة شيخ والخشوع والدعاء عندها مثلاً.
8. الإجبار على الدراسة في الجامعات المختلطة.
9. إذا طلب منه العمل في البنوك أوالشركات الربوية أوفي خمارة.(9/323)
10. إذا طلب منه الهجرة إلى دار الكفر ولا ضرورة لذلك.
ما لا يعمل إلا بعد إذن الوالدين
أولاً: السفر لطلب علم مندوب أومباح
طلب العلم منه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية أومندوب أومباح، فالسفر لطلب العلم الواجب تعلمه لا يحتاج إلى إذن الوالدين، أما ما سوى فرض العين فلا يجوز أن يسافر له ويبتعد عن والديه إلا بإذنهما ورضاهما معاً، وكذلك الأمر لفرض العين إذا كان هو الكافل أوالملازم الوحيد، وهما أوأحدهما في حاجة إليه.
قال أبو حامد الغزالي: (وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أونافلة إلا بإذنهما.. والخروج لطلب العلم نفل إلا إذا كنت تطلب علم الفرض من الصلاة والصوم ولم يكن في بلدك من يعلمك، وذلك كمن يُسْلِم ابتداء في بلد ليس فيها من يعلمه شرع الإسلام فعليه الهجرة ولا يتقيد بحق الوالدين).
ثانياً: السفر للحج والعمرة
من كان حياً والداه أوأحدهما فلا يجوز له الذهاب والسفر إلى الحج أوالعمرة إلا بعد إذنهما.
وليس لهما أو لأحدهما أن ينهياه عن حج الفريضة إذا وجب عليه خاصة أن الراجح من قولي العلماء أن الحج يجب على الفور، ما لم يكونا في حاجة لرعايته لهما، ولم يكن لهما راعٍ غيره، هذا في حال الكبر والمرض، أما في الأحوال العادية فلا يجوز لهما أن يمنعاه عن حج الفريضة.
أما بالنسبة لحج وعمرة التطوع فلهما منع الابن عن ذلك، وله أن يرضيهما إن لم تكن بهما حاجة إليه أوكان هناك من يقوم بواجبهما.
قال أبو حامد الغزالي: (والمبادرة إلى الحج الذي هو فرض الإسلام نفل لأنه على التأخير)
ثالثاً: الخروج إلى الجهاد
جهاد الكفار والمنافقين بالنفس لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى من أجل القربات، وهو نوعان:
1. فرض عين واجب، وهذا لا يستأذن فيه الوالدان، وهو نوعان كذلك:
أ. إذا استنفر الإمامُ المسلمين لقتال الكفار.
ب. إذا هجم الكفار وغزوا داراً من ديار المسلمين، كما هو الحال الآن في فلسطين، وأفغانستان، والعراق، وكشمير، والشيشان، وجنوب الفلبين، وغيرها من البلاد المغصوبة، وجهاد الدفاع يكون تحت راية الإمام وغير الإمام، إذا دعا إليه ولاة الأمر من العلماء.
2. فرض كفاية، وهو جهاد الطلب، بأن يخرج المسلمون رافعين راية الجهاد تحت إمام من أئمتهم يدعون الكفار والمشركين للدخول في الإسلام، وهو الذي خاضه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والمسلمون من بعدهم، حتى حل علينا هذا العصر الحديث الكبيس، حيث ركن المسلمون إلى الدنيا واستسلموا للكفار.
وجهاد الطلب لا يخرج إليه إلا بعد إذن الوالدين.
وجهاد الدفاع يتعين على أهل البلد الذي غلب عليه أوغزاه الكفار، فإن لم يغنوا فعلى من يليهم من المسلمين، وهكذا حتى يشمل الحكم سائر المسلمين، أما إذا استغنى أهل البلد المغزو وقاموا بالواجب فلا يجب على غيرهم.
الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وإجماع الأمة
فمن الكتاب:
1. قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم".
2. وقوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون".
3. وقوله: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم".
ومن السنة:
1. "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من
2. "أبواب الجنة تحت ظلال السيوف".
3. "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم، القائم، القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله، وتوكل الله للمجاهد في سبيل الله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة، أويرجعه سالماً مع أجر وغنيمة".
وقد أجمعت الأمة على وجوب جهاد الدفاع وعند النفرة، وعلى ندب جهاد الطلب.
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "انفروا خفافاً وثقالاً.." الآية: (وذلك إذا تعين الجهاد بغلبة العدو على قطر من الأقطار، أوبحلوله بالعُقر، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الديار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافاً وثقالاً، شباباً وشيوخاً، كل على قدر طاقته، من كان له أب بغير إذنه، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أومكثر، فإن عَجَزَ أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم وعلم أنه يدركهم ويمكنه غياثهم لزمه أيضاً الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل بها العدو عليها، واحتل بها سقط الفرض على الآخرين.
ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلوها لزمهم أيضاً الخروج إليه، حتى يظهر دين الله، وتحمى البيضة، وتحفظ الحوزة، ويخزى العدو، ولا خلاف في هذا.(9/324)
وقسم ثانٍ من واجب الجهاد، فرض أيضاً على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو كل سنة مرة، يخرج معهم بنفسه، أويخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام، ويرعبهم، ويكف أذاهم، ويظهر دين الله عليهم، حتى يدخلوا في الإسلام ويعطوا الجزية عن يدٍ.
ومن الجهاد أيضاً ما هو نافلة، وهو إخراج الإمام طائفة بعد طائفة، وبعث السرايا في أوقات العِزَّة وعند إمكان الفرصة، والإرصاد لهم بالرباط في موضع الخوف، وإظهار القوة).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: (والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين، إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع.
وأما الجهاد بالنفس ففرض، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه
الأدلة على أن الجهاد إن كان فرض كفاية فلا يخرج إليه إلا بعد إذن والديه
من الأدلة على ذلك ما يلي:
1. عن عبد الله بن عمرو قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أجاهد؟ قال: ألك أبوان؟ قال: نعم؛ قال: ففيهما فجاهد".
2. وخرَّج أحمد عن أبي سعيد قال: "هاجر رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل باليمن أبواك؟ قال: نعم؛ قال: أذنا لك؟ قال: لا؛ قال: ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك وإلا فبرهما".
3. وعن عبد الله بن عمرو قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة، وترك أبويه يبكيان، فقال: ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما
4. وعن معاوية بن جاهمة عن أبيه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألك والدان؟ قلت: نعم؛ قال: الزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما"
قلت: بعض الآباء والأبناء في هذه المسألة على طرفي نقيض، بينما نجد بعض الشباب متحمساً للجهاد والغزو، ودائماً يحدث ويمني النفس به وهو صادق في ذلك، نجد بعض الآباء والأمهات على العكس والنقيض من ذلك، فمنهم من لا يسمح ولا يأذن لابنه بذلك حتى لو تعين الجهاد على ابنه، وتختلف دوافع المنع، فمنها:
1. الحرص الشديد على الأبناء والخوف عليهم.
2. الجهل بقيمة الجهاد وفضله، وما أعده الله للمجاهدين في سبيله.
3. حب الدنيا والتعلق بها، وكراهية الموت، سواء كان شهادة أوبسبب حادث حركة.
4. إطلاق الكفار وعملاؤهم وإعلامهم مصطلح الإرهاب الذي يمارسونه ضد المسلمين على الجهاد الذي شرعه رب العالمين، وهو رهبانية الإسلام.
5. غلبة الفكر العلماني، مما دفع بعض العلمانيين المتزيين بالإسلام أن يزعموا "أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة" هذه كلمة مضى عليها التاريخ، وتخطاها الزمن، وأن الإسلام لم ينتصر بحد السيف، وإنما انتشر عن طريق التجاور والطرق الصوفية، عن طريق دق الطبول، والرقص، والتواجد، وهم يعلمون كذب هذا قبل غيرهم.
فعلى الآباء أن يتقوا الله في إسلامهم، وفي أنفسهم، وأن يتخلصوا من هذه العواطف الحيوانية، والهواجس الشيطانية، والأفكار العلمانية، وأن يتحرروا من هذه القيود الأرضية.
وليقتدوا في ذلك بسلف الأمة، بعمرو بن الجموح، ذلكم الشيخ الأعرج الذي عذره الله ورسوله، وخرج أبناؤه في أحُد، ولكنه اشتهى أن يطأ الجنة بعرجته تلك، فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم له، ونال ما تمناه واشتهاه.
وبأبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما، فقد أمرا ابنيهما أن يطلقا زوجيهما خشية أن يمنعهما ذلك من الغزو والجهاد.
وعليكن أيتها الأمهات الاقتداء بتلك الصحابية التي استشهد لها أربعة أبناء، فلم يهلها ذلك، ولم تجزع، بل حمدت الله واسترجعت، وأرادت فقط أن تطمئن على سلامة الرسول الكريم، والقائد العظيم، فلما قيل لها هو بخير كما تشتهين، طلبت أن تراه، فلما رأته قالت: كل شيء بعدك جلل – أي كل مصيبة بعدك يسيرة وحقيرة.
عليك أيتها الأم أن تقتدي بالخنساء تماضر بنت عمرو بن الشريد السُّلمية، تلك الشاعرة العربية، المسلمة، المخضرمة، أرق شعراء العرب، وأحزن من بكى وندب، التي بكت أخاها صخراً بكاءً حاراً وقالت فيه شعراً صادقاً في قصيدتها التي مطلعها:
أعيني جودا ولا تجمدا ألا تبكيان لصخر الندى؟
والتي جاء فيها:
يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل غروب شمس
فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
و ما يبكين مثلَ أخي ولكن أسلي النفسَ عنه بالتأسي(9/325)
عندما أسلمت تغيرت نفسيتها، وتهذبت عاطفتها، وعلت وسمت همتهما، فقد كان لها أربعة بنين خرجت معهم لخدمتهم في حرب القادسية، فقالت مشجعة وحاثة لهم على الإقدام في القتال: إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين؛ وذكرت من صونها لبنيها وعدم خيانتها لأبيهم ما ذكرت، ثم قالت لهم: وقد تعلمون ما أعد الله لكم من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرب لظاها على سياقها، وجللت ناراً على أروقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالمغنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة.
فخرج بنوها قابلين لنصحها، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم، وأنشأ أولهم يقول:
يا إخوتي إن العجوز الناصحة قد نصحتنا إذ دعتنا البارحة
مقالة ذات بيان واضحة فباكروا الحرب الضروس الكالحة
وإنما تلقون عند الصائحة من آل ساسان كلاباً نابحة
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة وأنتم بين حياة صالحة
أوميتة تورث غُنْماً صالحة
وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى، ثم تقدم الثاني وهو يقول:
إن العجوز ذات حزم و جلد والنظر الأوفق والرأي الأسد
لقد أمرتنا بالسداد و الرَّشَد نصيحة منها وبراً بالولد
فباكروا الحرب حُماةً في العدد إما لفوز بارد على الكبد
أوميتة تورثكم غنم الأبد في جنة الفردوس والعيش الرغد
فقاتل حتى استشهد رحمه الله تعالى، ثم تقدم الثالث وهو يقول:
و الله لا نعصي العجوز حرفاً قد أمرتنا حدباً وعطفاً
نصحاً وبراً صادقاً ولطفاً فبادروا الحرب الضروس زحفاً
حتى تلقَّوا آل كسرى لفاً وتكشفون عن حماكم كشفاً
فقاتل حتى استشهد رحمه الله تعالى، وحمل الرابع وهو يقول:
لستُ لخنسا ولا للأخرم ولا لعمرو ذي السنا الأقدم
إنْ لم أرُدْ في الجيش جيش العجم ماضٍ على هول خِضَم خِضْرَم
إما لفوز عاجل ومغنم أو لوفاة في السبيل الأكرم
فقاتل حتى قتل رحمه الله، فبلغ خبرُهم الخنساء أمهم، فقالت: الحمد الله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته؛ فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطي الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة، لكل واحد منهم مائتي درهم.
وأنتم أيها الشباب عليكم بمداراة آبائكم وأمهاتكم، وإقناعهم باللطف وبالحسنى، واحذروا المواجهة والمكاشرة، فبالرفق واللين ينال الابن ما يريده من والديه مهما كانوا متعنتين متمنعين.
أما إذا كان الأب علمانياً منافقاً، فهذا لا يستأذن في الخروج إلى الجهاد والغزو، فالمنافق نفاق الاعتقاد فهو كافر وإن تظاهر بالإسلام.
واعلم ايها الشاب أن الأجداد، والجدات، والأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات، والإخوة والأخوات الكبار هم بمنزلة الآباء عند فقدهم، ولهذا فلابد من الاستئذان منهم وطلب رضاهم للخروج للغزو والجهاد والرباط، إن كان من فروض الكفايات.
رابعاً: الهجرة
هجر المعاصي والهجرة من ديار الكفر ومن البلاد التي لا يتمكن فيها المسلم من القيام بشعائره الدينية أويخشى أن يفتن فيها عن دينه ولو كانت بلاداً إسلامية جائزة، وقد تكون واجبة في بعض الأحيان.
فمن أراد أن يهاجر وله أبوان أوأحدهما فعليه أن يستأذنهما ويسترضيهما، أما إن كانت الهجرة وجبت عليه خوفاً على دينه هاجر، أذنا له أم يأذنا له، أما إن لم تجب الهجرة في حقه فلا يهاجر إلا بعد إذنهما، أما الهجرة إلى ديار الكفر من غير ضرورة فلا تجوز أذن له والداه أم لا.
خامساً: السفر للعمل والتجارة
كذلك لا يجوز لابن أن يسفر إلى بلد من البلاد الإسلامية، أوإلى محلة بعيدة من سكنى والديه، للعمل أوللتجارة، أولديار الكفر إن اضطر إلى ذلك إلا بعد أن يأذن له والداه.
ما يستحب فيه رضا الوالدين ولا يجب
من الأمور المباحة التي يستحب فيها استئذان الوالدين والاجتهاد في إرضائهما ومداراتهما مسألتان هما:
أولاً: الزواج.
ثانياً: الطلاق.
أولاً: الزواج
أ. البنت
لا يحل للبنت أن تتزوج من غير إذن ورضا أبيها أووليها في حال موت الأب أوفقدانه، بكراً كانت البنت أم ثيباً، بالغة أم غير بالغة، وذلك لما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"، ولا ينبغي للأب أوالولي أن يعضل وليته ويمنعها من الزواج أوالرجوع من كفء تقدم لها إلا لسبب شرعي، فإن فعل فهو آثم، والسلطان ولي من لا ولي لها.
ويستحب للأب أوالولي أن لا يزوج وليته إلا بعد الاطمئنان لرضاها بمن تقدم لها، وأجاز الجمهور للأب خاصة أن يزوج بنته البكر غير البالغ لمن يأنس فيه الكفاءة، أسوة بما فعله أبوبكر رضي الله عنه حيث زوج عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إذنها ورضاها.
هذا وقد صحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الزانية هي التي تزوج نفسها يعني من غير ولي.(9/326)
صحَّ في سبب نزول قوله تعالى: "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون": "أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبي البدَّاح، فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم جاء فخطبها، فرضيت، وأبى أخوها أن يزوجها، وقال: وجهي من وجهك حرام إن تزوجتيه؛ فنزلت الآية، فقال مقاتل: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلاً فقال: إن كنت مؤمناً فلا تمنع أختك من أبي البداح؛ فقال: آمنت بالله؛ وزوَّجها منه"
قال القرطبي: (إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي، لأن أخت معقل كانت ثيباً، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذاً في قوله تعالى: "فلا تعضلوهن" للأولياء).
ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رحمه الله بأنه يجوز للمرأة أن توكل من يزوجها من كفء من غير رضا وليها مردود بالقرآن، والسنة، وقول عامة أهل العلم، والحمد لله الذي لم يتعبدنا بأقوال الرجال مهما كانت منزلتهم ودرجتهم في العلم، ولهذا قال أبو حنيفة: إذا خالف قولي الحديث فاضربوا به عُرْض الحائط؛ فاعلم أنه ليس كل خلاف يُستراح له ويُعمل به.
ب. الابن
يستحب للابن أن يتزوج بإذن ورضا والديه، وينبغي للوالدين أن لا يجبروا أبناءهم وبناتهم على زواج من يكرهون ولا يحبون، فالزواج عشرة طويلة، فإذا كان لا يجب على ابن أن يأكل ما يجبره عليه أبواه فمن باب أولى لا يجب عليه أن يتزوج من لا يرغب في زواجها، وإن رغب في زواجها له والداه أوأحدهما.
ولكن عليه أن يداري في ذلك حتى يقنعهما أويقنعانه.
بل لا تجب طاعة الأبوين إذا كان المرغوب في زواجه من الأبوين أوأحدهما:
1. منافقاً نفاق اعتقاد مثل الشيوعيين، والجمهوريين، والعلمانيين.
2. لا يصلي.
3. مبتدعاً أورافضياً.
4. منحرفاً في عقيدته بممارسة بعض الشركيات.
5. متحرراً من القيود الشرعية.
6. بالنسبة للمرأة إذا كانت متبرجة سافرة.
7. فاسقاً، شارب خمر، مرابٍ، ممثلاً، فناناً، ونحوه.
أما إذا توفر الدين والخلق، وراقت للابن فالأفضل له طاعة والديه.
ثانياً: الطلاق
لا يجب على الابن طاعة والديه أوأحدهما في طلاق زوجته من غير سبب شرعي، سيما إذا كانت الزوجة مستورة الحال، مقيمة للصلاة، راعية لحق زوجها، غير متبرجة، فليس عليه أن يطيع والديه في ذلك لعدم استلطافهما لها، أولمشكلة حدثت بين أم هذه المرأة أوأختها مع أحد الوالدين أوإحدى بناتهن.
أما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر أن يطلق زوجه التي كان يحبها وكان عمر يأمره بطلاقها لأنه خشي أن تشغله عن الغزو والجهاد وليس لحظوظ نفس ولا أمر دنيوي، لهذا قال أحمد رحمه الله لرجل طلب منه أبوه أن يطلق زوجه لغير عذر شرعي: لا تطلق؛ فقال له: ألم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر أن يطلق زوجه لأن أباه أمره بذلك؟ فقال له أحمد: إن كان أبوك مثل عمر أوبشر بن الحارث الحافي فطلق.
بهذا تفهم الأحاديث والآثار التي أمرت بطاعة الأبوين في الأمر بالطلاق، وهي:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كانت تحتي امرأة، وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها؛ فأبيتُ، فأتى عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها"
2. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها؟ فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أواحفظه"
قال الونشريسي المالكي: (سئل أبو إسحاق التونسي عن رجل له زوجة موافقة له، وبينها وبين أمه سرورة، هل يلزمه طلاقها، إذا طالبته أمه بفراقها للسرورة التي بينهما؟ وهل يكون عاقاً لأمه في ترك طلاق زوجته وهو يعلم أن زوجته غير ظالمة لأمه؟ وهل له أن يرجع على زوجته ويعين عليها مع أمه فيما يجري بينهما من السرورة، ويصول عليها ويقصر من حقوقها ولا يحسن إليها لترضى بذلك أمه إذا لم ترض عنه الأم إلا بفعل ما ذكرنا؟ وهل يلزمه أن تكون معه أمه في بيت واحد على قصعة واحدة؟
فأجاب: لا يلزم الابن ذلك، وإنما عليه القيام بواجبات أمه، ولا يلزمه أن تكون مع زوجته، وإذا كانت زوجته موافقة عنده، ولم يثبت عنده ظلم زوجته لأمه، ولم يكن في ترك طلاق زوجته رضى لوالدته وإثم، وليترَضَّ أمه بما قدر من غير أن يوافقها على ما لا يجوز له من الإضرار بها، ولا يساعدها عليه)
قال ابن مفلح: (قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إنه ليس لأحد الوالدين أن يلزم الولد بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفر عنه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه كان النكاح كذلك، وأولى، فإن أكل المكروه مرارة ساعة، وعشرة المكروه من الزوجين على طول تؤذي صاحبه، ولا يمكنه فراقه.(9/327)
وقال أحمد في رواية أبي داود: إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثاً إن فعل لم آمره بفراقها، وإن كان له والدان يأمرانه بالتزويج أمرته أن يتزوج، وإن كان شاباً يخاف العنت أمرته أن يتزوج، وإذا قال له والداه: تزوج فلانة، فإنه يمكنه أن يتزوج غيرها، وهذا معنى ما نقله الفضل بن زياد.
إلى أن قال: فإن أمره أبوه بطلاق امرأته لم يجب، ذكره أكثر الأصحاب، قال سَنَدي: سأل رجل أبا عبد الله فقال: إن أبي يأمرني أن أطلق امرأتي؟ فقال: لا تطلقها؛ قال: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أن يطلق امرأته؟ قال: حتى يكون أبوك مثل عمر رضي الله عنه.
واختار أبو بكر من أصحابنا أنه يجب، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر، ونص أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه إذا أمرته أمه بالطلاق لا يعجبني أن يطلق، لأن حديث ابن عمر في الأب.
ونص أحمد أيضاً في رواية محمد بن موسى أنه لا يطلق لأمر أمه، فإن أمره الأب بالطلاق طلق إذا كان عدلاً، وقول أحمد رضي الله عنه: لا يعجبني كذا، هل هو يقتضي التحريم أوالكراهة؟ فيه خلاف بين أصحابه، وقد قال الشيخ تقي الدين فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته، قال: لا يحل له أن يطلقها، بل عليه أن يبرها، وليس تطليق امرأته من برها، قال أحمد في رواية أبي داود: إذا خاف العنت أمرته أن يتزوج، وإذا أمره والده أمرته أن يتزوج.
وقال في رواية جعفر: والذي يحلف بالطلاق انه لا يتزوج أبداً؟ قال: إن أمره أبوه تزوج، قال الشيخ تقي الدين: كأنه أراد الطلاق المضاف إلى النكاح، كذا قال، أوكأنه مزوَّجاً فحلف أن لا يتزوج أبداً سوى امرأته، وقال في رواية المروذي: إذا كان الرجل يخاف على نفسه، ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهم ذلك، وقال له رجل: لي جارية وأمي تسألني أن أبيعها، قال: تتخوف أن تتبعها نفسك؟ قال: نعم؛ قال: لا تبعها، قال: إنها تقول: لا أرضى عنك أوتبيعها، قال: إن خفت على نفسك فليس لها ذلك.
قال الشيخ تقي الدين – ابن تيمية -: لأنه إذا خاف على نفسه يبقى إمساكها واجباً، أو لأن عليه في ذلك ضرراً، ومفهوم كلامه أنه إذا لم يخف على نفسه يطيعها في ترك التزويج وفي بيع الأمَة، لأن الفعل حينئذ لا ضرر عليه فيه، لا ديناً ولا دنيا.
وقال أيضاً: قيد أمره ببيع السرية إذا خاف على نفسه، لأن بيع السرية ليس بمكروه، ولا ضرر عليه فيه، فإنه يأخذ الثمن، بخلاف الطلاق، فإنه مضر في الدين والدنيا، وأيضاً فإنها متهمة في الطلاق ما لا تتهم في بيع السرية)
ما يختص به الوالد في ولده دون غيره
هنالك أمور خص بها الشارع الوالد في ولده دون غيره من الأولياء، من تلك الأمور ما يأتي:
1. يجوز للوالد تزويج بنته البكر من غير إذنها ورضاها
ولا يجوز ذلك لأحد من الأولياء سوى الأب، لأنه غير متهم في تحقيق ما فيه مصلحتها.
2. لا يقتاد من أحد الوالدين وإن علا بابنه وإن سفل
لا يقتص من أحد الوالدين بابنه، لأنه ربما نتج القتل بسبب ضربه وتأديبه، قال مالك رحمه الله: إلا إذا تكاه وذبحه ذبح الشاة؛ في هذه الحال يقتاد به لأنه لا مجال للتأويل لظهور التعمد في القتل.
وفرق بعض أهل العلم بين الأب والأم، فقالوا: تقتل الأم بولدها ولا يقتل الأب لأن له الولاية دونها؛ والراجح التسوية بينهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُقتل والد بولده"، ولأن شفقة الأم ورحمتها على ولدها أشد من شفقة الأب.
قال ابن قدامة رحمه الله في شرح ما قاله الخرقي في مختصره: "ولا يقتل والد بولده وإن سفل": (وجملته أن الأب لا يقتل بولده، والجد لا يقتل بولد ولده، وإن نزلت درجته، وسواء في ذلك ولد البنين أوالبنات، وممن نقل عنه أن الولد لا يقتل بولده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبه قال ربيعة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي – الأحناف، وقال ابن نافع، وابن عبد الحكم، وابن المنذر: يقتل به لظاهر آي الكتاب والأخبار الموجبة للقصاص، ولأنهما حران مسلمان من أهل القصاص، فوجب أن يقتل كل واحد منهما بصاحبه، كالأجنبيين؛ وقال ابن المنذر: قد رووا في هذا الباب أخباراً؛ وقال مالك: إن قتله حذفاً بالسيف ونحوه لم يقتل به، وإن ذبحه أوقتله قتلاً لا يشك في أنه عَمَدَ إلى قتله دون تأديبه، أقيد به؛ ولنا ما روى عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُقتل والد بولده".
إلى أن قال: والجد وإن علا كالأب في هذا، سواء كان من قبل الأب أومن قبل الأم في قول أكثر مسقطي القصاص عن الأب، وقال الحسن بن حيّ: يقتل به؛ ولنا أنه والد، فيدخل في عموم النص.. والجد من قبل الأم كالجد من قبل الأب)
3. تصرفه في مال ابنه
مما خص به الوالدان دون غيرهما أنه يجوز لهما أن يتصرفا في أموال أبنائهما من غير إسراف ولا إضرار به وبزوجه وأولاده، فلا ضرر ولا ضرار.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: إن أبي أخذ مالي- وفي رواية: اجتاح مالي-: "أنت ومالك لأبيك".
وفي ذلك قصة.(9/328)
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله: "وبالوالدين إحساناً الآية: (وقد روينا بالإسناد المتصل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: فائتني بأبيك؛ فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول لك إذا جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه؛ فلما جاء الشيخ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك يشكوك أتريد أن تأخذ ماله؟ فقال: سله يا رسول الله، هل أنفقه إلا على إحدى عماته، أوخالاته، أوعلى نفسي! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعنا من هذا، أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك؟ فقال الشيخ: والله يا رسول الله، ما زال الله عز وجل يزيدنا بك يقيناً، لقد قلت في نفسي شيئاً ما سمعته أذناي؛ قال: قل وأنا أسمع؛ قال: قلت:
غَذَوتُك مولوداً ومُنْتُك يافعاً تُقلّ بما أجني عليك وتُنْهِلُ
إذا ليلة ضافتك بالسُّقم لم أبِتْ لسقمك إلا ساهراً أتململُ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طُرِقتَ به دوني فعيني تَهْمَلُ
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغتَ السن والغاية التي إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمل
جعلتَ جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلتَ كما الجار المصاقب يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن عليَّ بمال دون مالك تبخل
قال فحينئذ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه، وقال: "أنت ومالك لأبيك").
4. لا يحل له أن يشتكيهما لحاكم أوقاضٍ أويتظلم منهما لأحد من الناس
مما خص به الأبوان دون غيرهما أنه لا يحق للابن أن يشكو أحد أبويه ويوقفه في المحاكم ولا أن يتظلم منه عند أحد من الناس وإن ظلماه وتعديا على ماله، أونفسه، أوعياله، أوزوجه، لمنافاة ذلك لبرهما، قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أمسى وأصبح مرضياً لوالديه، أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان من الجنة، وإن واحداً فواحداً، ومن أمسى وأصبح مسخطاً لوالديه أمسى وأصبح وله بابان مفتوحان إلى النار، وإن واحداً فواحد؛ فقال رجل: يا رسول الله، وإن ظلماه؟ قال: وإن ظلماه، وإن ظلماه، وإن ظلماه".
5. أن يبالغ في مداراتهما ويحذر من مغايظتهما
مما يخص به الأبوان دون غيرهما من الأبناء المبالغة في مداراتهما والحذر من مخاشنتهما والإغلاظ عليهما.
قال ابن أبي زيد رحمه الله: (وسأله – أي مالكاً – رجل له والدة وأخت وزوجة، قال: فكلما رأت لي شيئاً قالت: أعطِ هذا لأختك؛ فأكثرت عليَّ من هذا، فإن منعتها سبتني ودعت عليًّ؟ قال له مالك: ما أرى أن تغايظها، وتخلص منها بما قدرتَ عليه، وغيِّب عنها ما كان لك؛ قال: أين أخبئه؟ ذلك معي في البيت، قال: أما أنا فما أرى أن تغايظها، وأن تتخلص من سخطها بما قدرتَ عليه.
وذكر عن مالك أن رجلاً قال له: إن أبي في بلد السودان، فكتب إليَّ أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك؟ قال له مالك: أطع أباك ولا تعصِ أمك؛ وكره أن يأمره بعصيان أمه.
وذكر أن الليث أمره – أي هذا السائل – بطاعة الأم لأن لها ثلثي البر)
قلت: مالك رحمه الله أمر هذا السائل بمداراة والديه كلاهما، وأبى له أن يغضب أحدهما على حساب الآخر، وطريقة مالك هذه أسلم مما ذهب إليه الليث.
هذا الرفق وتلك المداراة واجبة مع الوالدين حتى في حال الأمر والنهي
قال ابن مفلح رحمه الله: (قال أحمد في رواية يوسف بن موسى: يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر؛ وقال في رواية حنبل: إذا رأى أباه على أمر يكرهه يكلمه بغير عنف ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام، وإلا تركه، ليس الأب كالأجنبي؛ وقال في رواية يعقوب بن يوسف: إذا كان أبواه يبيعان الخمر لم يأكل من طعامهما وخرج عنهما.
وقال في رواية ابن هاني: إذا كان له أبوان، ولهما كَرْمٌ يعصران عنبه ويجعلانه خمراً يسقونه، يأمرهما وينهاهما، فإن لم يقبلا خرج من عندهما، ولا يأوي معهما؛ ذكره أبو بكر في "زاد المسافر" وذكر المروزي أن رجلاً من أهل حمص سأل أبا عبد الله: أن أباه له كروم يريد أن يعاونه على بيعها؛ قال: إن علمتَ أنه يبيعها ممن يعصرها خمراً فلا تعاونه.
قال المروذي لأبي عبد الله: فإن كان يرى المنكر ولا يقدر أن يغيره؟ قال: يستأذنها، فإن أذنت له خرج، قال المروذي: سألتُ أبا عبد الله عن قريب لي أكره ناحيته، يسألني أن أشتري له ثوباً أوأسلم له غزلاً؛ فقال: لا تعنه ولا تشتر له إلا بأمر والدتك، فإن أمرتك فهو أسله، لعلها أن تغضب)
بمَ يكون برُّ الوالدين؟
أولاً: المسلمين
أ. في حياتهما
يكون بر الوالدين المسلمين في حياتمها بالآتي:
1. طاعتهما في المعروف.
2. موافقتهما فيما يريدان في غير معصية الله.
3. الإنفاق عليهما إن كانا محتاجين.
4. الإحسان والإهداء إليهما إن كانا مكتفين.
5. عدم التعرض لسبهما.(9/329)
6. لا يحدّ النظر إليهما.
7. لا يمشي أمام أبيه إلا في الظلمة.
8. ولا يقعد قبله.
9. لا يدعو أباه باسمه.
10. التكلم معهما بلين وتلطف.
11. عدم رفع الصوت عليهما.
قال البغوي رحمه الله: (سئل الحسن: ما بر الوالدين؟ قال: أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية.
ثم قال: ألم تعلم أن نظرك في وجوه والديك عبادة، فكيف بالبر بهما؟
وقال عروة بن الزبير: ما برَّ والده من سدَّ الطريق إليه، وقال أبو هريرة لرجل وهو يعظه في بر أبيه: لا تمش أمام أبيك، ولا تجلس قبله، ولا تدعه باسمه.
وقال ابن محيريز: من مشى بين يدي أبيه فقد عقه إلا أن يميط له الأذى عن الطريق، وإن كناه أوسماه باسمه فقد عقه إلا أن يقول يا أبه)
قال تعالى: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أف ولا تهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً"، قال ابن عباس: لو كان هناك أدنى من الأف لنهى عنه.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (أي لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، وعن أبي رجاء العطاردي قال: الأف الكلام الفَزَع الرديء الخفي، وقال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه منك في الصغر فلا تقذرهما وتقول أف، والآية أعم من هذا، والأف والتف وسخ الأظفار.
ثم قال: خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى بره، لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، فألزم في هذه الحالة من مراعاة أحوالهما أكثر مما ألزمه من قبل، لأنهما في هذه الحالة قد صارا كلاً عليه، فيحتاجان أن يلي منهما في الكبر ما كان يحتاج في صغره أن يليا منه، ولهذا خص هذه الحالة بالذكر، وأيضاً فطول المكث للمرء يوجب الاستثقال للمرء عادة، ويحصل الملل ويكثر الضجر، فيظهر غضبه على والديه، وتنتفخ لهما أوداجه، ويستطيل عليهما بدالة البنوة وقلة الديانة، وأقل المركوه ما يظهره بنَفَسِه المتردد من الضجر، وقد أمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب)
ب. بعد وفاتهما
أما بر الأبوين المسلمين بعد وفاتهما فيكون بالآتي:
1. الدعاء والاستغفار لهما.
2. قضاء ما عليهما من دين لله أوللآدميين مثل أن يحج ويعتمر عنهما إن لم يحجا ويعتمرا، وإخراج الزكاة عنهما إن وجبت عليهما وحال عليها الحول.
3. تنفيذ وصاياهما.
4. التصدق عنهما.
5. صلة أرحامهما.
6. صلة أهل ودهما.
ثانياً: الكافرين أوالمشركين
أ. في حياتهما
1. الإحسان إليهما.
2. الرفق بهما.
3. وصلهما إن كانا محتاجين.
4. الدعاء لهما بالهداية.
5. الاجتهاد في دعوتهما إلى الإسلام وترغيبهما فيه.
6. يستأذنهما في الخروج إلى السفر ونحوه، وفي استئذانهما للخروج للجهاد قولان.
ب. بعد وفاتهما
1. لا يدعو ولا يستغفر لهما لنهي الإسلام عن ذلك.
2. صلة أرحامهما المسلمين خاصة.
فضل وثواب بر الوالدين في الدنيا والآخرة
لقد وعد الله البارين بأبائهم وأمهاتهم بالخير الكثير والفضل العميم في الدنيا، والثواب الجزيل والأجر الكبير في الآخرة.
أولاً: ما يناله البار بوالديه في الدنيا
1. يُنسأ له في أجله - هذا بالنسبة لعلم المَلَكِ الموكل بكتابة الأجل.
2. يُوسَّع له في رزقه - هذا بالنسبة لعلم المَلَكِ الموكل بكتابة الرزق.
3. تُجاب دعوته.
4. يبره أبناؤه وأحفادُه ويكافئونه.
5. يحبه أهله وجيرانه.
6. تدفع عنه ميتة السوء.
7. يحمده الناس ويشكرونه.
8. يرضى عنه ربه لرضا والديه عنه.
الأدلة على ذلك
• عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر"
• حديث الثلاثة الذين دخلوا غاراً في جبل فانحطت على فم الغار صخرة فسدته، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها صالحة فادعوا الله بها لعله يفرجها؛ فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنت أرعى عليهم، فإذا رجعت عليهم فحلبت بدأت بوالديّ أسقيهما قبل ولدي، وإنه قد نأى بي طلب الشجر، فما أتيت حتى أمسيتُ، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء؛ ففرج الله لهم حتى يرون السماء.." الحديث
وفي الحديث فوائد، منها:
1. أن بر الوالدين سبب قوي لإجابة الدعاء.
2. أن التوسل المشروع يكون بالأعمال الصالحة كما يكون بسؤال الله باسم من أسمائه أوصفة من صفاته، أوبطلب الدعاء من الحي الحاضر من غير اعتقاد أنه ينفع ويضر، وما سوى ذلك من التوسل بجاه وذات الأنبياء والصالحين أحياءً وأمواتاً، حاضرين وغائبين، فهو ممنوع محرم.(9/330)
3. أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان مخلصاً لله وموافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
• وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم: "رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد"
• وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من بر والديه فطوبى له زاد الله في عمره"
ثانياً: فضل وثواب البارّين بوالديهم في الآخرة
1. البر من أقوى أسباب دخول الجنة.
2. يدخل الجنة مع أول الداخلين.
3. مكفر للذنوب.
الأدلة على ذلك
• عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الوالد أوسط باب الجنة، فإن شئتَ فاحفظ الباب أوضيِّع"
• وروى أبوبكر بن حفص أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أصبت ذنباً عظيماً، فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا؛ قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم؛ قال: فبرها"، وروي نحوه عن ابن عمر
• وقال مكحول: "بر الوالدين كفارة للكبائر، ولا يزال الرجل قادراً على البر ما دام في فصيلته من هو أكبر منه"
جزاء الوالدين
لا يستطيع أحد أن يجزي والديه أوأحدهما إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه، ولكن الأبناء مطالبون بالإحسان والبر، وليس بالإجزاء، والله يبارك في القليل، ويجزي باليسير كثيراً.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه"
وعن سعيد بن أبي بردة قال: "سمعت أبي يحدث أنه شهد ابن عمر رجلاً يمانياً يطوف بالبيت، حمل أمَّه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
حملتها أكثر مما حملت فهل ترى جازيتها يا ابن عمر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جازيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة، ولكنك أحسنتَ، والله يجزيك بالقليل كثيراً"
وقد صدق من قال:
لأمك حق لوعلمتَ كبير كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليك مشقة ومن ثديها شُرْب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حُنواً وإشفاقاً وأنت صغير
فضيعتها لما أسنت جهالة وطال عليك الأمر وهو قصير
فآهاً لذي عقلٍ ويتبع الهوى وواهاً لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
ولما ماتت أم إياس الذكي القاضي المشهور بكى عليها، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فغلق أحدهما.
وكان رجل يقبِّل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يوماً على أصحابه فسألوه، فقال: كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات
تعريف العقوق
العقوق لغة: من العق، وهو القطع.
العقوق شرعاً: كل فعل أوقول يتأذى به الوالد من ولده ما لم يكن شركاً أومعصية.
قال الحسن البصري وقد سئل: إلى ما ينتهي العقوق؟ قال: أن يحرمهما، يهجرهما، ويحد النظر إليهما؛ وقال عطاء: لا ينبغي لك أن ترفع يديك على والديك؛ وقال عروة بن الزبير: لا تمتنع من شيء أحباه.
حكم العقوق
العقوق حرام ومن أكبر الكبائر.
دليل ذلك
من القرآن قوله تعالى: "إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أفٍ"
ومن السنة: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور"
وقد أجمعت الأمة على حرمة العقوق وأنه من الكبائر المتفق عليها.
عقوبة العاق لوالديه
أ. في الدنيا
1. يضيَّق عليه في رزقه وإن وسِّع عليه فمن باب الاستدراج.
2. لا يُنسأ له في أجله كما ينسأ للبار لوالديه والواصل لرحمه.
3. لا يُرفع له عمل يوم الخميس ليلة الجمعة.
4. لا تفتح أبواب السماء لعمله.
5. يبغضه الله.
6. يبغضه أهله وجيرانه.
7. يخشى عليه من ميتة السوء.
8. يلعنه الله وملائكته والمؤمنون.
9. لا يستجاب دعاؤه.
10. تعجل له العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له يوم القيامة.
11. يعقه أبناؤه وأحفاده.
ب. في الآخرة
1. لا يدخل الجنة إن كان من الموحدين مع أول الداخلين.
2. لا ينظر الله إليه وإن دخل الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث"، وفي رواية: "لا يدخل الجنة منان، ولا عاق، ولا مدمن خمر".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رَغِمَ أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه"، قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أوأحدهما ثم لم يدخل الجنة"
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة قاطع"، وفي رواية: "قاطع رحم".
من صور العقوق
العقوق صوره كثيرة، ونماذجه وفيرة، وسنشير إلى بعض تلك الصور، وهي:
1. السب واللعن.
2. التبرؤ من والديه.
3. تقديم الصديق على الأب والزوجة على الأم.
4. الكذب عليهما.
5. غيبتهما.
6. التكبر والترفع عليهما.
7. التسبب في بكائهما.
8. عدم طاعتهما في ترك المباحات والمستحبات.
الأدلة على ذلك(9/331)
• عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه؛ قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسبُّ الرجل أبا الرجل فيسب أباه، ويسبُّ أمه فيسب أمه"
• قال ابن عمر رضي الله عنهما: "بكاء الوالدين من العقوق والكبائر".
• وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث دعوات مستجابات لهن، لا شك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالدين على ولديهما"
أسباب العقوق
لا يقدم على عقوق والديه، ويتجرأ في الإساءة إليهما إلا شقي جاهل، وأسباب العقوق كثيرة، ولكن سنشير إلى بعضها، وهي:
1. الجهل بقدر الوالدين، وبالعقوبة المترتبة على عقوقهما في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: كل من عصى الله فهو جاهل؛ ولذلك قيل: من جهل شيئاً عاداه.
2. تفضيل بعض الأبناء وإيثارهم على بعض، ولهذا نهى الشارع الحكيم عن ذلك نهياً شديداً، وحذر من مغبته، وعندما جاء بشير بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليهب لابنه النعمان، قال له: "أكل بنيك منحت هكذا؟" قال: لا؛ قال: "لا تشهدني على جور، أشهد على هذا غيري، ألا تحب أن يكونوا لك في البر سواء؟".
3. التقصير في الإنفاق على الأبناء في الصغر وإهمالهم.
4. التقصير في حق الأم والميل لإحدى الزوجات على حساب غيرها.
5. رفقاء السوء.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعينوا أولادكم على البر، من شاء استخرج العقوق من ولده"
مما يدل على أهمية العلم في معرفة الحقوق والواجبات على العبد، ومتى يقدم هذا ويؤخر هذا، قصة جريج العابد ودعاء أمه عليه، لأنه قدم التطوع بالصلاة وهي سنة على طاعة والدته، وعدم إجابته لها – وهي واجبة - وقد دعته ثلاث مرات، إذ لو كان عالماً لقطع صلاته وأجاب أمه، ثم دخل في صلاته مرة ثانية.
خرج مسلم في مسنده بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "كان جريج يتعبد في صومعة، فجعلت أمه – قال حميد: فوصف لنا أبو رافع صفة أبي هريرة لصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه حين دعته كيف جعلت كفها فوق حاجبها، ثم رفعت رأسها إليه تدعوه – فقالت: أنا أمك كلمني؛ فصادفته يصلي، فقال: اللهم أمي وصلاتي؛ فاختار صلاته، فرجعت ثم عادت في الثانية، فقالت: يا جريج أنا أمك فكلمني؛ فقال: اللهم أمي وصلاتي؛ فاختار صلاته، فقالت: اللهم إن هذا جريج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلمني، اللهم فلا تمته حتى يرى المومسات؛ قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن، قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، قال: فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها الراعي، فحملت فولدت غلاماً، فقيل لها: ما هذا؟ قالت: من صاحب هذا الدير؛ قال: فجاءوا بفؤوسهم ومساحيهم، فنادوه فصادفوه يصلي، فلم يكلمهم، قال: فأخذوا يهدمون دَيْره، فلما رأى ذلك نزل إليهم، فقالوا له: سل هذه؛ قال: فتبسم، ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضأن؛ فلما سمعوا ذلك منه قالوا: نبني لك ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة؛ قال: لا، ولكن أعيدوه تراباً كما كان؛ ثم علاه".
في هذه القصة من الفوائد والعبر ما يأتي:
1. تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم الدقيق لأم جريج وهي تنادي ابنها بوضع كفها على حاجبها ورفع رأسها إليه كما تفعل العجائز.
2. دقة وجودة حفظ أبي هريرة رضي الله عنه.
3. إذا تزاحم على الشخص أمران قدم الأهم ثم المهم، وقدم الواجب على الندب.
4. تحذير الوالدين من استعجال الدعاء على الأبناء.
5. أن العلم مقدم على العمل.
6. أن عقوبة العقوق تعجل، مع ما يُدخر للعاق في الآخرة.
7. ما دعت به أم جريج على جريج بأن لا يموت حتى يرى المومسات - وهن الزواني – مصيب لكل المشاهدين للفنانات، والممثلات، والنساء الكاسيات العاريات، فهن في حكم الزواني لتبرجهن، وسفورهن، وفتنتهن لعباد الله.
قال الإمام النووي معلقاً على قصة جريج هذه: (فيه – أي في الباب – قصة جريج رضي الله عنه، وأنه آثر الصلاة على إجابتها فدعت عليه فاستجاب الله لها، وقال العلماء هذا دليل على أنه كان الصواب في حقه إجابتها، لأنه كان في صلاة نفل، والاستمرار فيها تطوع لا واجب، وإجابة الأم وبرها واجب، وعقوقها حرام، وكان يمكنه أن يخفف الصلاة ويجيبها ثم يعود لصلاته، فلعله خشي أنها تدعوه لمفارقة صومعته والعود إلى الدنيا ومتعلقاتها وحظوظها، وتضعف عزمه فيما نواه وعاهد عليه)
قلت: كانت هذه هي العقوبة بسبب عدم إجابته لأمه وهو في حال عبادة وتقرب إلى الله عز وجل، فكيف تكون عقوبة من يدعوه أحد والديه وهو مرتكب لحرام أومكروه ولا يجيب؟ فكثير من الأبناء قد يدعوهم أحد الأبوين ويكون وهو يشاهد مسلسلاً، أويلعب "بالكتشينة" "الورق"، أويلعب كرة، أووهو يقرأ، أويكون جالساً مع صديقه، ونحو ذلك، ولا يتردد مجرد تردد كما تردد جريج في إجابة أمه أم الاستمرار في صلاته.(9/332)
على الأبناء أن يتقوا الله في أنفسهم وفي والديهم، وليعلموا أنهم ليسوا أعز على الله من جريج، ذلكم العابد الناسك، حيث عجَّل الله له العقوبة لصالحه، ولكن كثيراً من الأبناء والبنات قد تؤخر عنهم العقوبة استدراجاً لهم لشدة غفلتهم وعظيم جريمتهم، لأن بعض الأخيار قد يطهره الله من الذنوب والآثام في الدنيا، ويمحصهم بشيء من الابتلاءات، ولهذا جاء في الخبر: "أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل والأمثل"، وهذا مصداق قوله عز وجل: "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً".
لقد ورد في حديث قال الترمذي غريب، عن أبي هريرة يرفعه: "إذا اتخِذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً، والزكاة مغرماً، وتعلم لغير العلم، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء، وزلزلة، وخسفاً، ومسخاً، وقذفاً، وآيات تتابع كنظام بالٍ قطع سلكه فتتابع"، الشاهد فيه التحذير من طاعة الزوجة على حساب بر الأم، وإدناء الصديق وإقصاء الأب، وعد ذلك من علامات الساعة المنذرة بنهاية الدنيا وظهور الشرور.
قال ابن قتيبة رحمه الله: (كان صخر بن الشريد أخو الخنساء خرج في غزوة فقاتل فيها قتالاً شديداً، فأصابه جرح رغيب، فمرض، فطال به مرضه وعاده قومه، فقال عائد من عواده يوماً لامرأته سلمى: كيف أصبح صخر اليوم؟ قالت: لا حياً فيُرجى، ولا ميتاً فينسى؛ فسمع صخر كلامها فشق عليه، وقال لها: أنت القائلة كذا وكذا؟ قالت: نعم، غير معتذرة إليك؛ ثم قال آخر لأمه: كيف أصبح صخر اليوم؟ فقالت: أصبح بحمد الله صالحاً، ولا يزال بحمد الله بخير ما رأينا سواده بيننا؛ فقال صخر:
أرى أمَّ صخر ما تمل عيادتي وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنتُ أخشى أن أكون جنازة عليك ومن يغتر بالحدثان؟
فأي امرئ ساوى بأمٍ حليلة فلا عاش إلا في أذى و هوان
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه وقد حيلَ بين العَيْر والنزوان
لعمري قد أنبهت من كان نائماً وأسمعت من كانت له أذنان
فلما أفاق عَمَدَ إلى سلمى فعلقها بعمود الفسطاط حتى فاضت نفسها، ثم نكس من طعنته فمات)
نماذج للأبناء البررة
سنورد في هذه الصفحات بعض النماذج الحية والصور النادرة لبر الوالدين والإحسان إليهما، عسى أن تكون شاحذاً ودافعاً للأخيار، ومذكراً ومنبهاً للمقصرين والعاقين لآبائهم، فالاقتداء بالسلف الصالح هو سبيل المهتدين، وطريق العقلاء الكيسين من المؤمنين، فنقول وبالله التوفيق:
1. سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم
يتجلى بر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوالديه، وعمه، وزوجه خديجة بعد وفاتها، وبقومه في أحسن صوره في حرصه على هداية الأحياء منهم الذين أدركوا الإسلام، وفي سؤاله لربه أن يستغفر لأمه، فلم يجبه ربه لذلك، ولكن عندما سأله أن يزور قبرها أذن له في ذلك، فزار قبرها.
قال تعالى: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم. وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم"
خرج مسلم في صحيحه عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله"؛ فقال أبوجهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب؛ وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"؛ فأنزل الله عز وجل: "ما كان للنبي..." الآية، وأنزل الله في أبي طالب لرسوله صلى الله عليه وسلم: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين".
قال القرطبي: (هذه الآية تضمنت قطع موالاة الكفار حيهم وميتهم، فإن الله لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين)
2. سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنت باراً بأمي، فأسلمتُ، فقالت: لتدعنَّ دينك، أولا آكلُ ولا أشربُ حتى أموت فتعيَّر بي، ويقال: يا قاتل أمه؛ وبقيت يوماً ويوماً، فقلت: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي؛ فلما رأت ذلك أكلت، ونزلت: "ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون")(9/333)
وكذلك نزلت فيه آية لقمان: "ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمُّه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير. وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليَّ ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون".
قال القرطبي: (وجملة هذا الباب أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات، ويستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه أمر الجهاد الكفاية، والإجابة للأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، على أن هذا أقوى من الندب، لكن يعلل بخوف هلكة عليها، ونحوه مما يبيح قطع الصلاة فلا يكون أقوى من الندب، وخالف الحسن في هذا التفصيل فقال: إن منعته أمه من شهود العشاء شفقة فلا يطعها)
3. حارثة بن النعمان رضي الله عنه
ممن اشتهروا ببر الأبوين الصحابي البدري الجليل، فقد نال ببره لأمه الدرجات العلا، وشهد له بذلك رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة فسمعتُ فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، كذلكم البر، كذلكم البر"، قالت عائشة: وكان باراً بأمه
4. عبد الله بن عبد الله بن أبيّ الصحابي الجليل رضي الله عنه
كان عبد الله بن عبد الله بن أبي باراً بأبيه عبد الله رأس النفاق قبل الإسلام، وعندما تظاهر أبوه بالإسلام كان عبد الله حريصاً على هداية أبيه، ولكن أبى الله ذلك.
من بره بأبيه بجانب ما سبق ذكره كما قال ابن عمر: جاء عبد الله بن عبد الله بن أبيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين مات أبوه، فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلِّ عليه، واستغفر له؛ فأعطاه قميصه، وقال: "إذا فرغتم فآذنوني"، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر، وقال: أليس قد نهى الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا بين خيرتين، استغفر لهم أولا تستغفر لهم"، فصلى عليه، فأنزل الله عز وجل: "ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً"، فترك الصلاة عليهم.
قال أبو عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني على عبد الله بن عبد الله بن أبيّ هذا، واستشهد عبدالله بن عبدالله بن أبيّ يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق سنة12ه، وروت عنه عائشة)
5. أبو هريرة رضي الله عنه
كان من البارين بأمهاتهم المحسنين إليهن.
عن أبي مُرَّوة مولى عقيل: "أن أبا هريرة كان يستخلفه - مروان على المدينة - وكان يكون بذي الحليفة، وكانت أمه في بيت وهو في آخر، قال: فإذا أراد أن يخرج وقف على بابها، فقال: السلام عليك يا أمتها ورحمة الله وبركاته؛ فتقول: وعليك يا بني ورحمة الله وبركاته؛ فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً؛ فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً؛ ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثله"
6. عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
كان عبد الله بن عمر من عباد الله المتقين، ومن الصحابة المتميزين، ومن الأبناء البارين بآبائهم في الحياة وبعد الممات، ومن ذلك بره وإحسانه لبدوي كان أبوه من أصحاب عمر رضي الله عنه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أبر البر أن يصل الرجلُ وُدَّ أبيه".
وعن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُداً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبر البر صلة الرجل أهل ودّ أبيه".
وفي رواية عن ابن دينار عن ابن عمر أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروَّح عليه إذا مل ركوب الراحلة، وعمامة يشد بها رأسه، فبينما هو يوماً على ذلك الحمار، فقال: اركب هذا، وأعطاه العمامة، وقال اشدد بها رأسك؛ فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك، أعطيتَ هذا الأعرابي حماراً كنت تروَّح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولى"، وإن أباه كان صديقاً لعمر رضي الله عنه
7. أويس القرني رحمه الله
أويس القرني سيد التابعين منعه من الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بره بأمه، فعوضه الله عما فقده من الهجرة أن كان مجاب الدعاء والاستغفار.(9/334)
عن أسير بن جابر قال: "كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم؛ قال: من مراد ثم من قَرَن؟ قال: نعم؛ قال: فكان بك برص، فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم؛ قال: ألك والدة؟ قال: نعم؛ قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن، من مراد ثم من قَرَن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بار، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل"، فاستغفر لي؛ قال: فاستغفر له؛ فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة؛ قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؛ قال: أكون في غُبُرَّات الناس أحب إلي؛ قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم، فوافق عمر، فسأله عن أويس، قال: تركته رث الهيئة، قليل المتاع.
فأخبره عمر بحاله، فعندما رجع إلى الكوفة قال لأويس: استغفر لي؛ قال: لقيتَ عمر؟ قال: نعم؛ فاستغفر له، قال: ففطن له الناس، فانطلق على وجهه، قال أسير: وكسوته بردة، وكان كل من رآه قال: من أين لأويس هذه البردة"
8. محمد بن سيرين رحمه الله
من الأبناء البررة كذلك الإمام محمد بن سيرين التابعي الجليل، والمعبِّر القدير.
روى الذهبي في ترجمته عن هشام بن حسان قال: (حدثتني حفصة بنت سيرين قالت: كانت والدة محمد حجازية، وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا اشترى لها ثوباً اشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد، صبغ لها ثياباً، وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها)
9. عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز رحمه الله
كان من أبر أهل زمانه ومن أتقاهم رحمه الله.
قال ابن قتيبة رحمه الله: (كان لعمر بن عبد العزيز أربعة عشر ابناً، منهم عبد الملك الولد الصالح ابن الصالح، كان من أعبد الناس، توفي في خلافة أبيه وهو ابن سبعة عشرة سنة وستة أشهر، وكان أحد المشيرين على عمر بمصالح رعيته، والمعينين له على الاهتمام بمصالح الناس، وكان وزيراً صالحاً وبطانة خير رحمه الله، وكان أبر أهل عصره بوالده، أومن أبرهم، وله مناقب مشهورة)
10. محمد بن المنكدر رحمه الله
قال: "بتُّ أغمز رجلي أمي، وبات عمي يصلي ليلته، فما سرني ليلته بليلتي".
11. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنما ردَّ الله عقوبة سليمان عن الهدهد لبره لأمه".
نماذج للأبناء العاقين
سنعرض في مقابل الأبناء البررة نماذج من الأبناء العاقين حتى تكتمل الصورة، ويتضح الفرق بين الصنفين، وكما قيل: وبضدها تتميز الأشياء، فلولا وجود الكفر والشرك لما عُرفت قيمة الإيمان، ولولا وجود الأشرار لما عُرف فضل الأخيار.
1. الذي قال لوالديه أفٍّ لكما
يمثل العقوق أصدق تمثيل ما حكاه لنا القرآن على لسان ذلك الابن الكافر العاق لوالديه: "والذي قال لوالديه أفٍّ لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين. أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين"
قال الحسن وقتادة: (هي نعت عبد كافر عاق لوالديه)
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، وقد كان أبوه يدعوه إلى الإسلام فلا يجيبه، وقيل نزلت في أخيه عبد الرحمن، ولا يصح ذلك، وقد كذبت ذلك عائشة رضي الله عنها ونفته نفياً قاطعاً.
خرَّج ابن كثير بسنده إلى ابن أبي حاتم قال: (أخبرني عبد الله بن المديني قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان، فقال: إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وإن يستخلف فقد استخلف أبوبكر عمر رضي الله عنهما؛ فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده؛ فقال مروان: ألستَ الذي قال لوالديه أفٍّ لكما؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ألستَ ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك؟ قال: وسمعتهما عائشة رضي الله عنها، فقالت: يا مروان، أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا؟ كذبتَ ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان؛ ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها، فجعل يكلمها حتى انصرف.
وفي رواية للنسائي عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية رضي الله عنه لابنه، قال مروان: سنة أبي بكروعمر رضي الله عنهما؛ فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: سنة هرقل وقيصر؛ فقال مروان: هذا الذي أنزل الله تعالى فيه: "والذي قال لوالديه أفٍّ لكما" الآية؛ فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان فضفض من لعنة الله)(9/335)
2. يحكى أن شاباً كان مكباً على اللهو واللعب، لا يفيق عنه، وكان والده صالحاً ذا دين وخلق، كثيراً ما يعظه ويقول له: يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألحَّ عليه زاد في العقوق وجار على أبيه، وفي يوم ألحَّ على ابنه بالنصح كعادته، فمدَّ الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهداً ليأتين بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو على ولده، فخرج إلى البيت الحرام وتعلق بأستار الكعبة، وأنشأ يقول:
يا من إليه الحجاج قد قطعوا عَرْضَ المهامة من قرب ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيِّب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا مُنُازلُ لا يرتد من عققي فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
وشلَّ منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد و لم يلد
فاستجاب الله دعاءه فشلَّ شق ولده الأيمن في الحال.
3. وحُكي أن رجلاً كان من المياسير بالبصرة، وكان يتمنى أن يرزق ولداً وينذر عليه النذور، فولد له وسرَّ به، وأحسن تربيته حتى ارتفع عن مبلغ الأطفال إلى حد الرجال، ولم يهمه شيء من أمر الدنيا سوى هذا الولد، وقد أحسن إليه غاية الإحسان، فلم يشعر الأب ذات يوم إلا بخنجر خالط جوفه من وراء ظهره، فاستغاث بابنه مرتين فلم يجبه، فالتفت فإذا هو صاحب الضربة، فقال الشيخ وهو يضطرب من الألم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أستغفر الله، صدق الله؛ أراد بالتهليل أن يلقى الله بالإيمان، وأراد بالاستغفار أن الله حذره فلم يحذر من ابنه بقوله: "إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ، فجمع في هذه الكلمات كل ما يحتاج إليه في هذه الحال.
4. ورد في سبب نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم" عن ابن عباس رضي الله عنه أنها نزلت بالمدينة – وبقيتها مكية – في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده.
وعن عطاء بن يسار: كان – أي عوف – ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه، فقالوا: إلى من تدعنا؛ فيرق فيقيم.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا يبين وجه العداوة، فإن العدو لم يكن عدواً لذاته وإنما كان عدواً بفعله، فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدواً، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة.
قال القرطبي: (كما أن الرجل يكون ولده وزوجه عدواً، كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدواً بهذا المعنى بعينه، وعموم قوله: "من أزواجكم" يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية.
ثم قال: قال الحسن في قوله "إن من أزواجكم": أدخل من للتبعيض لأن كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر "من" في قوله تعالى: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما)
5. من العقوق البيِّن الواضح تصرف بعض الأبناء الغلاة الجفاة مع آبائهم وأمهاتهم، ومخاشنتهم لهم، والغلظة عليهم، ثم هجرهم وتكفيرهم في نهاية المطاف.
الواجب على هؤلاء أن يتلطفوا ويرفقوا بآبائهم وأمهاتهم، وذوي أرحامهم، وأن يتأسوا بالأنبياء والرسل في صنيعهم مع آبائهم وذويهم من الكفار، فقد سلكوا معهم شتى السبل، وسألوا الله نجاتهم، فنوح عليه السلام: "ونادى نوح ربه فقال ربِّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِِ ما ليس لك به علمإني أعظك أن تكون من الجاهلين، ولم ييأس من ابنه ولم يتوقف عن دعوته حتى بعدما ركب السفينة، قال له: "يا بنيَّ اركب معنا".
وهاهو إبراهيم أبو الأنبياء وإمام الأتقياء لم يتبرَّأ من أبيه وقومه إلا بعد أن بذل معهم كل مجهود، وداراهم وناظرهم، بل إن أباه كان يلزمه في أول نشأته أن يبيع له مع إخوته الأصنام التي كان يصنعها، فكان إبراهيم عليه السلام يأخذها ويخرج، وينادي عليها: من يشتري ما يضره ولا ينفعه؟ فيرجع إخوته وقد باعوا أصنامهم، ويرجع إبراهيم بأصنامه كما هي.
وها هو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لم ييأس من عمه إلى ساعة الاحتضار، وسأل ربه أن يستغفر لأمه، فأبى، ثم سأله أن يزورها فأذن له في ذلك.
ما يفعله هؤلاء منافٍ للدين، والعقل، والعرف، إذ أن أمر الوالدين حتى في الأمر والنهي يختلف عن أمر الآخرين، وإن كان الرفق مطلوباً مع جميع الخلق، فما دخل في شيء إلا زانه، فهو مع الوالدين من باب أولى وبالأحرى، حتى إذا يئس منهم اعتزلهم بالحسنى، ورحم الله أبا داود صاحب السنن عندما سئل هل يروي عن أبيه، فقال للسائل: سل عن هذا غيري؛ فأصرَّ عليه، فقال: إنه الدين، لا تروِ عنه.
ولله در ابن عمر عندما سئل عن الخوارج، وقيل له: ما تقول في فتية شببة، ظراف، نظاف، وذكِر له من اجتهادهم في العبادة، ثم قيل له: ولكن يكفِّر بعضهم بعضاً؛ قال: ماذا تركوا من دناءة الأخلاق إلا أن يكفِّر بعضهم بعضاً.(9/336)
فالتكفير بالذنوب والمعاصي من غير استحلال من علامات أهل الأهواء، وعلامة على قلة العلم والفقه في الدين، وعلى دناءة الأخلاق وفساد الاعتقاد.
المراجع
• ... الآداب الشرعية لابن مفلح.
• ... إحياء علوم الدين للإمام الغزالي.
• ... الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر.
• ... بهجة المجالس وأنس المجالس وشحذ الذاهن والهاجس لأبي عمر يوسف بن عبد البر (368-463ه) تحقيق محمد مرسى الخولي.
• ... تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي.
• ... الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي.
• ... رياض الصالحين للإمام النووي.
• ... حسن الأسوة فيما ثبت عن الله ورسوله في النسوة، لصديق حسن خان.
• ... فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني.
• ... فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للبخاري تأليف فضل الله الجيلاني – طبع دار الفكر.
• ... كتاب الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المتوفى 386هـ، حققه وعلق عليه محمد أبو الأجفان – عثمان بطيخ – طبع مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1403ه.
• ... شرح السنة للإمام أبي الحسن محمد بن مسعود البغوي (436-516ه) تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى.
• ... موارد الظمآن لدروس الزمان لعبد العزيز المحمد السليمان، الطبعة الحادية عشرة 1402ه.
0000000000000000000000
التحية بالقُبَل من المنكرات المحرمات
تحية الإسلام السَّلام، والمصافحة، والمعانقة، في بعض الأحيان
أولاً: تحية الإسلام السلام
يسلم الرجالُ على الرجال والنساءُ على النساء
متى يجوز سلام الرجل على المرأة أوالعكس بالتلفظ ومتى لا يجوز؟
ثانياً: المصافحة
أدلة مشروعية المصافحة لغير الأجانب
أدلة تحريم مصافحة الأجانب
ثالثاً: المعانقة
رابعاً: التقبيل
1. التقبيل الممنوع
2. التقبيل الجائز وأدلته
أ. تقبيل الأطفال الصغار
ب. تقبيل الرجل ولده وبنته الكبيرين
ج. تقبيل الأبناء لآبائهم وأمهاتهم
د. تقبيل يد ورأس العلماء، والكبراء، وأهل الفضل والصلاح من الرجال
ه . تقبيل ومعانقة المودَّع والقادم من سفر
و. تقبيل الميت الصالح في رأسه وجبهته
خامساً: القيام للسلام
سادساً: الانحناء
الحمد لله الذي لم يخلقنا عبثاً، ولم يتركنا سدىً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا القائل: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك"، ورضي الله عن سلمان بن الإسلام الذي قال: "علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة وآداب قضاء الحاجة".
على الرغم من ذلك فإننا نجد طوائف من المسلمين لم يسعهم ما وسع سلفهم الصالحين، فهم لا يزالون مولعين بالابتداع في الدين، وبالتشبه بالمغضوب عليهم والضالين.
فما من يوم يمر بل ولا ساعة إلا ونرى فيها ما كنا ننكر، بغياب سنة وظهور بدعة.
من تلك المصائب ما ابتدعته بعض البنات واخترعنه في الجامعات وخارجها، مقلدات فيه وناقلات لما يشاهدنه في المسلسات الهابطات، والمواقع الساقطات، والعادات الوافدات، وهي التحية بالقبلات، حيث تحيي إحداهن صاحبتها أوزميلتها بوضع فمها في فمها، وليت الأمر اقتصر على البنات، على الرغم من حرمته ونكارته وشناعته، بل قاسمهن في ذلك بعض الشباب والرجال، حيث أصبح البنات يحيين الرجال والنساء بتلك التحية المحرمة.
أولاً: تحية الإسلام السلام
معلوم أن تحية الإسلام السلام، في الدنيا والآخرة، كما أخبر ربنا: "وتحيتهم فيها سلام"، وصيغته: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، والرد كذلك، سواء كان المسلِّم أوالمسلَّم عليه فرداً أوجماعة فيأتي بصيغة الجمع.
وقد صحَّ أن الله لما خلق آدم عليه السلام قال له: "اذهب فسلم على أولئك، نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك؛ فقال: السلام عليكم؛ فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله".
يسلم الرجالُ على الرجال والنساءُ على النساء
يسلم الرجال على الرجل أوالرجال مستوري الحال ممن لم يشتهروا ببدعة أوفسق، أما المجاهر ببدعة وفسق فلا يسلَّم عليه، وإن سلَّم لا يرد عليه، وكذلك النساء مع النساء، تسلم المرأة الواحدة على المرأة وعلى جماعة النساء بالتلفظ والإشارة، ويجب على المسلَّم عليه الرد.
متى يجوز سلام الرجل على المرأة أوالعكس بالتلفظ ومتى لا يجوز؟
• ... يجوز لكل من الرجال والنساء السلام على محارمهم.
• ... يسلم الرجل على المرأة العجوز التي لا يفتتن بها، وتسلم هي كذلك على الشيخ إذا أمنت الفتنة.
• ... يجوز للرجل الواحد أن يسلم على جماعة النساء، وكذلك للمرأة الواحدة أن تسلم على جماعة الرجال إذا أمنت الفتنة.
• ... لا يجوز للرجل الواحد أن يسلم على المرأة الواحدة في الطريق خاصة، ولا أن تبدأ المرأة الرجل الواحد بالسلام في الطريق.
قال ابن أبي زيد: (قيل لمالك: أيُسَلَّمُ على النساء؟ قال: أما المتجالة فلا أكرهه، وأما الشابة فلا أحبه).(9/337)
قال الإمام النووي: (اعلم أن الرجل المسلم الذي ليس مشهوراً بفسق ولا بدعة يسلِّم ويسلَّم عليه، فيسن له السلام ويجب الرد عليه، قال أصحابنا: والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، وأما المرأة مع الرجل فقال الإمام أبو سعد المتولي: إن كانت زوجته، أوجاريته، أومحرماً من محارمه فهي معه كالرجل، فيستحب لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر رد السلام عليه، وإن كانت أجنبية، فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يسلم الرجل عليها، ولو سلم لم يجز لها رد الجواب، ولم تسلم هي عليه ابتداء، فإن سلمت لم تستحق جواباً، فإن أجابها كُره له، إن كانت عجوزاً لا يفتتن بها جاز أن تسلم على الرجل، وعلى الرجل السلام عليها، وإذا كانت النساء جميعاً فيسلم عليهن الرجل، أوكان الرجال كثيراً فسلموا على المرأة الواحدة جاز، إذا لم يخف عليه أوعليهن الفتنة).
وقال القرطبي: (وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أوخائنة، وأما المتجالات والعُجْز فحسن للأمن فيما ذكرناه، هذا قول عطاء وقتادة، وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء، ومنع منه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم، وقالوا لما سقط عن النساء الأذان، والإقامة، والجهر بالقراءة في الصلاة، سقط عنهن رد السلام، فلا يسلم عليهن والصحيح الأول).
دليل جواز سلام الرجال على المتجالات ما خرجه البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كانت لنا عجوز.. فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلم عليها".
وكذلك ما رواه الترمذي وحسنه عن أسماء بنت يزيد: "مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا".
قال ابن حجر: (قال ابن بطال عن المهلب: سلام الرجال على النساء والنساء على الرجال جائز إذا أمنت الفتنة، وفرق المالكية بين الشابة والعجوز سداً للذريعة، ومنع منه ربيعة مطلقاً، وقال الكوفيون: لا يشرع للنساء ابتداء السلام على الرجال، فلو اجتمع في المجلس رجال ونساء جاز السلام من الجانبين عند أمن الفتنة).
وقال معمر عن يحيى بن أبي كثير قال: (بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء، فقال: ما كان الرجال يسلمون على النساء، إنما النساء يسلمن على الرجال، وقال منصور عن إبراهيم: كانوا يسلمون على النساء).
ثانياً: المصافحة
حكمها
مستحبة لمن تجوز لك مصافحتهم، هذا ما عليه عامة أهل العلم، وقد كرهها مالك في رواية عنه.
من تجوز مصافحتهم
1. الرجل للرجل.
2. المرأة للمرأة.
3. لمحارم كل من الرجل والمرأة.
من لا تجوز مصافحتهم
1. النساء الأجنيات، فلا يجوز لأجنبي أن يصافح أجنبية، سواء كانت أمينة سر - ويحرم على الرجل أن يتخذ أمينة سر من النساء - أوزميلة دراسة، أوعمل، أوجارة.
2. الشاب الأمرد.
أدلة مشروعية المصافحة لغير الأجانب
1. عن قتادة قال: قلت لأنس: "أكانت المصافحة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم".
2. وعن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب".
3. وعن أنس رضي الله عنه قال: "قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أوصديقه أينحني له؟ قال: لا؛ قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا؛ قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم".
4. وصح من حديث كعب بن مالك في توبته قال: "فقام إليّ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يهرول، حتى صافحني وهنأني".
5. وعن أنس رضي الله عنه قال: "لما جاء أهل اليمن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة".
6. وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا".
7. وأخرج مالك في موطئه من مراسيل عطاء الخرساني قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء".
أدلة تحريم مصافحة الأجانب
أدلة تحريم مصافحة الأجانب رجالاً ونساءً صحيحة، وصريحة، ومفزعة، منها:
1. عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لا والله ما مست يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة قط، غير أنه بايعنه بالكلام".
2. وفي رواية عنها: "والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كفُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفَّ امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن كلاماً".
3. وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً؛ ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة".(9/338)
4. وعن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن "أن لا يشركن بالله شيئاً" الآية، وقال: فيما استطعتن وأطقتن؛ قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا؛ قلنا: يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة".
5. وعن معقل بن يسار رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يُطعن في رأس أحدكم بمِخْيَط من حديد خير له من أن يمس امرأة أجنبية".
امتناعه صلى الله عليه وسلم عن مصافحة النساء الأجانب في البيعة وهي مظنة المصاحفة دل على تأكيد حرمتها فيما سوى البيعة، وهذا الحكم ليس من خصائصه كما يزعم البعض، لأن خصائصه صلى الله عليه وسلم معلومة ومعروفة، وقد وضحها العلماء.
أقوال العلماء في المصافحة المستحبة والمحرمة
قال ابن أبي زيد القيرواني: (وسئل مالك عن المصافحة؟ قال: إن الناس ليفعلون ذلك، وأما أنا فما أفعله.
ثم قال: وروي عنه في المصافحة غير هذا، أنه صافح سفيان بن عيينة).
وقال الإمام النووي: (واعلم أن هذه المصافحة مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له.
إلى أن قال:
وينبغي أن يحترز من مصافحة الأمرد الحسن الوجه، فإن النظر إليه حرام كما قدمنا في الفصل الذي قبل هذا، وقد قال أصحابنا: كل من حرم النظر إليه حرم مسه، بل المس أشد، فإنه يحل النظر إلى الأجنبية إذا أراد أن يتزوجها، وفي حال البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ونحو ذلك، ولا يجوز مسها؛ ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه، والدعاء بالمغفرة، وغيرها).
قال ابن حجر: (قال ابن بطال: المصافحة حسنة عند عامة العلماء، وقد استحبها مالك بعد كراهته.
إلى أن قال: ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية، والأمرد الحسن.
وقال: قال ابن عبد البر: روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة وذهب إلى هذا سحنون وجماعة، وقد جاء عن مالك جواز المصافحة، وهو الذي يدل عليه صنيعه في الموطأ، وعلى جوازها جماعة العلماء سلفاً وخلفاً).
وقال البغوي في شرح السنة: (وقال عبد الله بن مسعود: من تمام التحية المصافحة؛ وصافح حماد بن زيد ابن المبارك بيديه).
ثالثاً: المعانقة
1. المعانقة من غير شهوة
المعانقة لمن قدم من سفر
ذهب أهل العلم في مشروعية المعانقة واستحبابها أوكراهيتها مذهبين، هما:
أ. المعانقة للقادم من السفر مشروعة ومستحبة، ودليلها:
• ... معانقة الرسول صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب عندما رجع من الحبشة.
• ... وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه بلغه حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فابتعتُ بعيراً، فشددت إليه رحلي شهراً، حتى قدمتُ الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أن جابراً بالباب، فرجع الرسول، فقال: جابر بن عبدالله؟ فقلت: نعم؛ فخرج فاعتنقني".
• ... وعن أنس رضي الله عنه: "كانوا إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا".
• ... وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "ما لقيته – أي رسول الله صلى الله عليه وسلم – إلا صافحني، وبعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ولم أكن في أهلي، فلما جئت فأخبرت أنه أرسل إليَّ فأتيته، وهو على سرير فالتزمني، فكانت تلك أجود أجود".
• ... وقد عانق الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة حين رجع من قتال بني فزارة.
وهذا مذهب سفيان بن عيينة ومن وافقه، وهو الراجح للأدلة السابق.
ب. المعانقة للقادم من السفر غير مشروعة، وهذا مذهب مالك بن أنس ومن وافقه، وعد معانقة جعفر بن أبي طالب وغيره من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولا دليل على ذلك.
2. المعانقة بشهوة
وهي حرام، سواء كان المعانق من ذوي المحارم أومن غيرهم.
3. المعانقة للمرأة الأجنبية وللأمرد الحسن الوجه
محرمة.
أقوال أهل العلم في المعانقة
روى ابن أبي زيد عن مالك بعدما صافح سفيان بن عيينة: (قال له: لولا أنها بدعة لعانقتك؛ فاحتج عليه سفيان بمعانقة النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر حين قدم من أرض الحبشة، فقال مالك: كان ذلك خاصاً لجعفر؛ ورآه سفيان عاماً، وأجاز مالك في رسالته لهارون الرشيد أن يعانق قريبه يقدم من سفر، وقيل: إن هذه الرسالة لم تثبت لمالك).
وقال ابن حجر: (قال ابن بطال: اختلف الناس في المعانقة، فكرهها مالك، وأجازها ابن عيينة، ثم ساق قصتها، قال: استأذن ابن عيينة على مالك فأذن له، فقال: السلام عليكم؛ فردوا عليه، ثم قال: السلام خاص وعام، السلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته؛ فقال: وعليك السلام يا أبا محمد ورحمة الله وبركاته؛ ثم قال: لولا أنها بدعة لعانقتك؛ قال: قد عانق من هو خير منك؛ قال: جعفر؟ قال: نعم؛ قال: ذاك خاص؛ قال: ما عمه يعمنا؛ الحديث.(9/339)
قال الذهبي في "الميزان": هذه الحكاية باطلة، وإسنادها مظلم، قلت: والمحفوظ عن ابن عيينة بغير هذا الإسناد).
وقال النووي في الأذكار: (وأما المعانقة وتقبيل الوجه لغير الطفل ولغير القادم من سفر ونحوه فمكروهان، نص على كراهيتهما أبو محمد البغوي، إلى أن قال: وهذا الذي ذكرناه في التقبيل والمعانقة، وأنه لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، هو في غير الأمرد الحسن الوجه، فأما الأمرد الحسن فيحرم بكل حال تقبيله، سواء قدم من سفر أم لا؛ والظاهر أن معانقته كتقبيله، أوقريبة من تقبيله؛ وقال ابن أبي زيد: (وكره مالك معانقة الرجل الرجلَ وقال: قال الله: "تحيتهم فيها سلام).
وقال العلامة فضل الله الجيلاني: (والمكروه من المعانقة ما كان على وجه الشهوة، فأما على وجه البر والكرامة إذا كان عليه قميص واحد فلا بأس به، وعليه يحمل حديث أنس أخرجه الترمذي في المصافحة وحديث أبي ريحانة شمسون: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المكاعمة والمكامعة، فالمكاعمة المعانقة، والمكامعة التقبيل بشهوة).
وقال البغوي: (وكره قوم المعانقة، ورخص فيها قوم، قال أبو هريرة: جاء الحسن بن علي فالتزمه رسول الله).
رابعاً: التقبيل
من يجوز لهم التقبيل، ولمن، وفي أي موضع من الجسم
هذه المسألة هي الدافعة لكتابة هذا البحث، وفيها تفصيل، منه ما هو جائز مشروع، ومنه ما هو ممنوع.
1. التقبيل الممنوع
• ... التقبيل بشهوة في أي موضع من الجسم لذوي المحارم وغيرهم على النساء والرجال.
• ... تقبيل المرأة الأجنبية.
• ... تقبيل الصبي الأمرد حسناً كان أم قبيحاً.
• ... تقبيل حالق اللحية.
• ... التقبيل لغرض دنيوي لمال أوجاه أوشوكة، وهو ما كان على وجه الملق.
• ... في الحضر.
• ... التقبيل في الفم، سواء كان بين النساء بعضهم لبعض، أوبين الرجال، أوبين النساء والرجال.
2. التقبيل الجائز وأدلته
ويكون في الرأس، والخد، واليد، والجبهة.
أ. تقبيل الأطفال الصغار
ذكوراً كانوا أم إناثاً، كانوا له أولغيره، للرجال والنساء، وشمهم مالم يكن بشهوة، أومن عائن.
وإليك الأدلة:
• ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد، ما قبلتُ منهم أحداً؛ فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم".
• ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم؛ قالوا: لكنا والله ما نقبل؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوأملك إن كان الله تعالى نزع منكم الرحمة؟".
• ... وعن أنس رضي الله عنه قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم فقبله وشمه".
• ... وعن إياس بن دغفل قال: "رأيت أبا نضرة قبَّل خد الحسن بن علي رضي الله عنهما".
قال النووي: (أما تقبيل الرجل خد ولده الصغير، وأخيه، وقبلة غير خده وأطرافه ونحوها على وجه الشفقة والرحمة والتلطف ومحبة القرابة فسنة، والأحاديث فيه كثيرة صحيحة مشهورة، وسواء الولد الذكر والأنثى، وكذلك قبلته ولد صديقه وغيره من صغار الأطفال، على هذا الوجه، وأما التقبيل بالشهوة فحرام بالاتفاق، وسواء في ذلك الوالد وغيره، بل النظر إليه بالشهوة حرام بالاتفاق على القريب والأجنبي).
ب. تقبيل الرجل ولده وبنته الكبيرين
كذلك يجوز للرجل تقبيل ولده وبنته الكبيرين في الرأس والجبهة والخد، وإليك الأدلة:
• تقبيل الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيتُ أحداً أشبه حديثاً ولا كلاماً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فرحب بها، وقبلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فرحبت وقبلته وأجلسته، فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فرحب بها وقبلها".
• تقبيل أبي بكر لعائشة رضي الله عنهما
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: "دخلتُ مع أبي بكر رضي الله عنه أول ما قدم المدينة، فإذا عائشة ابنته رضي الله عنها مضطجعة قد أصابتها حمى، فأتاها أبو بكر، فقال: كيف أنت يا بنية؟ وقبل خدها".
• تقبيل ابن عمر رضي الله عنهما لولده سالماً
كان ابن عمر يقبل ولده سالماً ويقول: شيخ يقبل شيخاً؛ وفي رواية: اعجبوا من شيخ يقبل شيخاً.
ج. تقبيل الأبناء لآبائهم وأمهاتهم
من التقبيل المشروع تقبيل الأبناء والبنات الكبار والصغار لآبائهم وأمهاتهم، فقد مر أن فاطمة رضي الله عنها كانت تبادر وتقبل أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
د. تقبيل يد ورأس العلماء، والكبراء، وأهل الفضل والصلاح من الرجال
كذلك يجوز تقبيل يد ورأس العالم، والصالح، والحاكم العادل، والأعمام، والأخوال، والقرابات، وذي الشيبة المسلم، من غير اعتقاد أنه ينفع أو يضر.(9/340)
أنكر التقبيل مالك، وأجازه طائفة من أهل العلم.
وإليك الأدلة:
• ... عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه: "اذهب بنا إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات، فذكر الحديث إلى قوله: قبلا يده ورجله، وقالا: نشهد إنك نبي".
• ... عن ابن عمر رضي الله عنهما أنهم لما رجعوا من الغزو حين فروا قالوا: نحن الفرارون؛ فقال: بل أنتم العكارون، أنا فئة المؤمنين؛ قال: فقبلنا يده".
• ... قبل أبو لبابة وكعب بن مالك وصاحباه يد النبي صلى الله عليه وسلم حين تاب الله عليهم.
• ... وقبل أبو عبيدة يد عمر حين قدم الشام.
• ... وقبل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين أخذ ابن عباس بركابه.
قال الحافظ ابن حجر: وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقري جزءاً في تقبيل اليد سمعناه، أورد فيه أحاديث كثيرة وآثاراً، فمن جيدها:
• ... حديث الزارع العبدي، وكان في وفد عبد القيس، قال: "فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله" أخرجه أبو داود.
• ... ومن حديث مزيدة العصري مثله.
• ... ومن حديث أسامة بن شريك قال: "قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده"، وسنده قوي.
• ... ومن حديث جابر: "أن عمر قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقبل يده".
• ... ومن حديث بريدة في قصة الأعرابي والشجرة، فقال: "يا رسول الله ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك؛ فأذن له".
• ... وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من رواية عبد الرحمن بن رزين قال: "أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفاً له ضخمة كأنها كف بعير فقمنا إليها فقبلناها".
• ... وعن ثابت أنه قبل يد أنس.
• ... وأخرج أيضاً أن علياً قبل يد العباس ورجله.
• ... وقال أبو مالك الأشجعي: قلت لابن أبي أوفى ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فناولنيها فقبلتها.
• ... وقال النووي: إن سهل بن عبد الله التُّسْتَري كان يأتي أبا داود السجستاني، ويقول: "أخرج لي لسانك الذي تحدث به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقبله فيقبله".
• ... وقال الإمام مسلم لشيخه البخاري رحمهما الله: "دعني أقبل رجليك - بعد أن قبل يده ورأسه – يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله".
أقوال العلماء في تقبيل اليد والرأس لأهل العلم والفضل والصلاح
لا شك أن تقبيل يد ورأس أهل العلم والفضل والصلاح من العلماء، والحكام الأخيار، والأكابر جائز، أما الممنوع المنهي عنه فهو التقبيل لأحد سببين:
1. الاعتقادات الشركية الفاسدة.
2. الملق والأغراض الدنيوية.
قال الإمام النووي رحمه الله بعد أن أورد عدداً من الآثار لجواز تقبيل يد العلماء والفضلاء: (وأفعال السلف في هذا الباب أكثر من أن تحصر، والله أعلم).
وقال الحافظ ابن حجر: (قال ابن بطال: الأخذ باليد هو مبالغة المصافحة، وذلك مستحب عند العلماء، وإنما اختلفوا في تقبيل اليد، فأنكره مالك وأنكر ما روي فيه، وأجازه آخرون).
ثم دلل على ذلك، إلى أن قال:
قال الأبهري: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه الكبر والتعظيم، وأما إذا كانت على وجه القربة إلى الله لدينه، أولعلمه، أولشرفه، فإن ذلك جائز).
وقال النووي: (إذا أراد تقبيل يد غيره، إن كان ذلك لزهده، وصلاحه، أوعلمه، وشرفه، وصيانته، أونحو ذلك من الأمور الدينية لم يكره بل يستحب، وإن كان لغناه، ودنياه، وثروته، وشوكته، ووجاهته عند أهل الدنيا ونحو ذلك فهو مكروه شديد الكراهة، وقال المتولي من أصحابنا: لا يجوز، فأشار إلى أنه حرام).
وقال ابن أبي زيد القيرواني: (وسئل مالك عن الرجل يقبل يد الوالي أورأسه، والمولى يفعل ذلك بسيده؟ قال: ليس ذلك من عمل الناس، وهو من عمل الأعاجم.
قيل: فيقبل رأس أبيه؟ قال: أرجو أن يكون خفيفاً.
وسئل في رواية أخرى : هل يقبل يد أبيه أوعمه؟ قال: لا أرى أن يفعل، وإن من العبرة أن من مضى لم يكن يفعل).
مما يدل على إنكار مالك للآثار المجيزة للتقبيل ما رواه ابن أبي زيد كذلك: (قيل – أي لمالك -: كان ابن عمر إذا قدم من سفر قبل سالماً، وقال: شيخ يقبل شيخاً؛ فأنكر الحديث، وقال: لا نتحدث بمثل هذه الأحاديث، لا تهلكوا فيها).(9/341)
وقال البغوي: (قال حميد بن زنجويه: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المعانقة والتقبيل، وجاء أنه عانق جعفر بن أبي طالب وقبله عند قدومه من أرض الحبشة، وأمكن من يده حتى قبلت، وفعل ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك بمختلف، ولكل وجه عندنا، فأما المكروه من المعانقة والتقبيل فما كان على وجه الملق والتعظيم، وفي الحضر، فأما المأذون فيه فعند التوديع، وعند القدوم من السفر، وطول العهد بالصاحب، وشدة الحب في الله، ومن قبل فلا يقبل الفم، ولكن اليد والرأس والجبهة، وإنما كُره ذلك في الحضر فيما يُرى لأنه يكثر ولا يستوجبه كل أحد، فإن فعله الرجل ببعض الناس دون بعض وجد عليه الذين تركهم، وظنوا أنه قد قصر في حقهم، وآثر عليهم، وتمام التحية المصافحة).
وقال فضل الله الجيلاني: (لا بأس بتقبيل يد العالم، والمتورع، والحاكم المتدين، والسلطان العادل، وتقبيل رأسه أجود، أي أكثر ثواباً، ولا رخصة فيه لغير عالم وعادل.
وفي "المحيط" إن كان التعظيم لإسلامه وإكرامه جاز، وإن كان لنيل الدنيا كره أوحرم بحسبه، والتقبيل على سبيل البر بلا شهوة جائز بالإجماع، وتقبيل يد نفسه إذا لقي غيره فهو مكروه ولا رخصة فيه.
أما تقبيل يد إنسان ليس عالماً ولا صالحاً ولا عادلاً ولا ممن يرجى صلاحه فمكروه بالإجماع).
ه . تقبيل ومعانقة المودَّع والقادم من سفر
من الحالات التي يجوز فيها التقبيل وبالأحرى المعانقة والالتزام عند وداع المسافر وعند استقباله.
فيجوز للرجال أن يفعلوا ذلك بالرجال، وبمحارمهم من النسب، وكذلك يجوز للنساء أن يفعلن ذلك مع النساء وبمحارمهن من النسب.
وإليك الأدلة:
• ... عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما قدم جعفر استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل ما بين عينيه".
• ... وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم عُرياناً يجر ثوبه فاعتنقه وقبله".
• ... وعن أبي الهيثم بن التيهان أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه فاعتنقه وقبله.
أقوال العلماء
قال ابن أبي زيد: (قيل لمالك: أرأيت من قدم من سفر فتلقاه ابنته أوأخته فتقبله؟ قال: لا بأس بذلك؛ وقال أيضاً: لا بأس أن يقبل خد ابنته؛ قيل: أفترى أن تقبله ختنته، أوتعانقه وهي متجالة؟ فكره ذلك.. وكره معانقة الرجل للرجل.
وقال مالك: لا بأس أن يقبل الرجلُ خد ابنته إذا قدم من سفره.
وقال: ويقال من تعظيم الله تعالى تعظيم ذي الشيبة المسلم).
وقال النووي: (وهذا الذي ذكرناه في التقبيل والمعانقة أنه لا بأس به عند القدوم من السفر ونحوه ومكروه كراهة تنزيه في غيره، هو في غير الأمرد الحسن الوجه، وأما الأمرد الحسن الوجه فيحرم بكل حال تقبيله، سواء قدم من سفر أم لا، والظاهر أن معانقته كتقبيله، أوقريبة من تقبيله، ولا فرق في هذا أن يكون المقبِّل والمقبَّل رجلين صالحين أوفاسقين، أوأحدهما صالحاً، فالجميع سواء، والمذهب الصحيح عندنا تحريم النظر إلى الأمرد الحسن، ولو كان بغير شهوة، وقد أمن الفتنة، فهو حرام كالمرأة لكونه في معناها).
وقال البغوي: (وعن تميم بن سلمة قال: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام، استقبله أبو عبيدة بن الجراح، فأخذ بيده فقبلها، قال تميم: كانوا يرون أنها سنة؛ وقال الشعبي: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصافح بعضهم بعضاً، وإذا جاء أحدهم من سفر عانق صاحبه، وقدم سلمان فدخل المسجد فقام إليه أبوالدرداء فالتزمه، وقال عمر بن ذرٍّ: كنتُ إذا ودعت عطاء بن أبي رباح التزمني بيده وضمني إلى جلده).
و. تقبيل الميت الصالح في رأسه وجبهته
كذلك من الحالات التي يجوز فيها التقبيل تقبيل الميت الصالح، يقبله أهله وغيرهم، الرجال يقبلون الرجال الصالحين، وكذلك النساء يقبلن إن شئن الصالحات منهن ومحارمهن.
فقد صح عن عائشة رضي الله عنها في الحديث الطويل في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: "دخل أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أكب عليه فقبله، ثم بكى".
قال النووي: (ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرك، ولا بتقبيل الرجل وجه صاحبه إذا قدم من سفر ونحوه).
خامساً: القيام للسلام
ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار
• ... عن أنس رضي الله عنه قال: "لم يكن شخص أحب إليهم رؤية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك".
• ... وعن أبي مِجْلز أن معاوية خرج وعبد الله بن عامر وعبد الله بن الزبير جالسان، فقام ابن عامر، وقعد ابن الزبير، فقال معاوية: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده في النار".
• ... وقال النبي صلى الله عليه وسلم لبني قريظة حين أقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه: "قوموا لسيدكم".
حكم القيام للسلام(9/342)
يختلف حكم القيام باختلاف المقام إليه، وله حالات:
الحالات التي يجوز فيها القيام
1. يجوز القيام لأهل العلم، والفضل، ولولاة الأمر المقسطين.
2. للآباء والأجداد ونحوهم من الكبراء من الأقارب وذوي الأرحام.
3. لذي الشيبة المسلم.
4. إذا تعارف أهل بلد واعتادوا أن يقوموا للمسلم المصافح.
الحالات التي يحرم فيها القيام
1. لمن أحب أن يُقام إليه.
2. لأهل البدع والفجور المجاهرين بذلك.
3. للطغاة المتجبرين.
فهؤلاء لا يُقام لأحد منهم إلا لمن خاف من شرهم، فدرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.
أقوال العلماء
قال ابن أبي زيد: (قيل – لمالك -: فالرجل يقوم للرجل له الفقه والفضل فيجلسه؟ قال: يكره ذلك، ولا بأس أن يوسع له.
قيل له: فالمرأة تبالغ في بر زوجها، فتلقاه فتنزع ثيابه، ونعليه، وتقف حتى يجلس؟ قال: أما تلقيها ونزعها فلا بأس، وأما قيامها حتى يجلس فلا، وهذا فعل الجبابرة، وربما يكون الناس ينتظرونه، فإذا طلع قاموا إليه، ليس هذا من فعل الإسلام.
ويقال: إن عمر بن عبد العزيز فُعِلَ ذلك به أول ما ولي حين خرج إلى الناس فأنكره، وقال: إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، وإنما يقوم الناس لرب العالمين).
وقال النووي: (وأما إكرام الداخل بالقيام، فالذي نختاره أنه مستحب لمن كان فيه فضيلة ظاهرة من علم، أوصلاح، أوشرف، أوولاية مصحوبة بصيانة، أوله ولادة، أورحم مع سن، ونحو ذلك، ويكون هذا القيام للبر والإكرام والاحترام، لا للرياء والإعظام، وعلى هذا الذي اخترناه استمر عمل السلف والخلف).
وقال البغوي: (وهذا فيمن سلك فيه طريق التكبر – أي النهي عن القيام – فأما القيام على وجه الاحترام فغير مكروه).
زار أبو جعفر المنصور المدينة بعد حجة حجها، وحضر الناس لزيارته والسلام عليه، فعندما خرج على الناس قام الكل إلا ابن أبي ذئب، فقيل له: لِمَ لمْ تقم؟ فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين؛ وقال أبو جعفر لحاجبه: دعه، فقد قامت كل شعرة من شعر رأسي – أي هيبة منه.
وقال فضل الله الجيلاني: (قال النووي في التبيان في آداب حملة القرآن: يجوز بل يندب القيام تعظيماً للقادم، أي إذا كان ممن يستحق التعظيم، وقيام الجالس في المسجد لمن دخل عليه تعظيماً، وقيام القارئ القرآن لمن يجيء تعظيماً لا يكره إذا كان ممن يستحق التعظيم.
وفي "مشكل الآثار": القيام لغيره ليس بمكروه لعينه، إنما المكروه محبة القيام لمن يقام له، فإن قام لمن لا يقام له لا يكره، وقال ابن وهبان: وفي عصرنا ينبغي أن يستحب ذلك لما يورث تركه من الحقد والبغضاء والعداوة لا سيما إذا كان في مكان اعتيد فيه القيام، وما ورد من التوعد عليه في حق من يحب القيام بين يديه، كما يفعله الترك والأعاجم، وعن الشيخ الحكيم أبي القاسم: كان إذا دخل عليه غني يقوم له ويعظمه ولا يقوم للفقراء وطلبة العلم، فقيل له في ذلك، فقال: الغني يتوقع مني التعظيم فلو تركته لتضرر، والطلبة إنما يطمعون في جواب السلام، والكلام منهم في العلم).
سادساً: الانحناء
الانحناء عند اللقاء وفي التحية لا يجوز سواء فُعِلَ تديناً أوعادة، وما يفعله بعض المريدين لمشايخهم تقديراً أواحتراماً، وبعض المسلمين من الأفارقة والآسيويين وغيرهم تمشياً ومجاراة للعادات والتقاليد عندهم لا أصل له في الدين، ولا يحل فعله وتقليدهم فيه.
وما حكاه لنا القرآن في سورة يوسف: "ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً"، فقد نُسِخَ بشرعنا.
قال النووي: (ويكره حني الظهر في كل حال، لكل أحد، ويدل عليه ما قدمناه في الفصلين المتقدمين من حديث أنس وقوله: "أينحني له؟ قال: لا"، وهو حديث حسن كما ذكرنا، ولم يأت له معارض فلا مصير إلى مخالفته، ولا يغتر بكثرة من يفعله ممن ينتسب إلى علم أوصلاح وغيرهما من خصال الفضل، فإن الاقتداء إنما يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا"، وقال: "وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم".
وقال الفضيل بن عياض: اتبع طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطريق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين").
المراجع
• ... الأذكار للنووي.
• ... التبيان في آداب حملة القرآن للنووي.
• ... الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
• ... شرح السنة للبغوي.
• ... فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر.
• ... فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد للبخاري – تأليف العلامة فضل الله الجيلاني.
• ... الكتاب الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ لأبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني المتوفى 386ه .
00000000000000000
صلة الرّحم وقطعها
تعريف صلة الرحم
نوعا الرحم
حكم صلة الرحم وقطعها
فضل وثواب واصل الرحم في الدنيا والآخرة
عقوبة ووزر قاطع الرحم في الدنيا والآخرة
بم توصل الرحم؟
ذوو الأرحام ليسوا سواء
بم يوصل ذوو الأرحام من الكفار والفجَّار غير المحاربين؟
ليس الواصل بالمكافئ(9/343)
تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم
أهمية عقيدة الولاء والبراء في صلة الأرحام وقطيعتها
نماذج للتبري والتخلي عن القرابات الكافرة والفاجرة
ليحذر الواصل المخالفات الشرعية
صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك
لقد أمر الله بصلة الأرحام، والبر والإحسان إليهم، ونهى وحذر عن قطيعتهم والإساءة إليهم، وعدَّ صلى الله عليه وسلم قطيعة الأرحام مانعاً من دخول الجنة مع أول الداخلين، ومُصْلٍ للمسيئين لأرحامهم بنار الجحيم.
على الرغم من وصية الله ورسوله بالأقارب، وعدِّ الإسلام صلة الرحم من الحقوق العشرة التي أمر الله بها أن توصل في قوله تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.. وبذي القربى" إلا أن جلّ المسلمين أضاعوا هذا الحق مثل إضاعتهم لغيره من الحقوق، أوأشد، مما جعل الحقد، والبغضاء، والشحناء، تحل محل الإلفة، والمحبة، والرحمة، بين أقرب الأقربين وبين الإخوة في الدين على حد سواء.
فعلى المسلمين أن يحاسبوا أنفسهم، ويرعوا وصية ربهم ورسولهم، ويقوموا بواجباتهم، لينالوا حقوقهم، فكما تدين تدان، فالإسلام دين الحق والعدل، ولهذا فإنه يقوم على مبدأ الحقوق والواجبات مع أمره بالعفو عن الزلات والهفوات، ومقابلة السيئات بالحسنات.
وبعد..
فهذا بحث مختصر عن صلة الأرحام، وعن حقوق الأقارب والأهل، عن تعريف الرحم بنوعيها الخاصة والعامة، وعن فضل وثواب الصلة، ووزر وعقوبة القطيعة، وعن الفروق الرئيسية بين صلة الرحم المؤمنة المستقيمة، والرحم الكافرة والفاجرة، وما يتعلق بذلك، فأقول:
تعريف صلة الرحم
الصلة: الوصل، وهو ضد القطع، ويكون الوصل بالمعاملة نحو السلام، وطلاقة الوجه، والبشاشة، والزيارة، وبالمال، ونحوها.
الرحم: اسم شامل لكافة الأقارب من غير تفريق بين المحارم وغيرهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى قصر الرحم على المحارم، بل ومنهم من قصرها على الوارثين منهم، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد رحمهما الله، والراجح الأول.
نوعا الرحم
الرحم التي أمر الله بها أن توصل نوعان:
الأول: رحم الدين، وهي رحم عامة تشمل جميع المسلمين، وتتفاوت صلتهم حسب قربهم وبعدهم من الدين، وكذلك حسب قربهم وبعدهم الجغرافي.
ويدل على ذلك قوله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم"، فأثبت الله الأخوة الإيمانية لجميع المسلمين، وقوله: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطِّعوا أرحامكم"، قال القرطبي: (وظاهر الآية أنها خطاب لجميع الكفار).
الثاني: رحم القرابة، القريبة والبعيدة، من جهتي الأبوين.
ولكل من هذين النوعين حقوق ونوع صلة.
قال القرطبي رحمه الله: (وبالجملة فالرحم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين، ويجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم والنصيحة لهم، وترك مضارتهم، والعدل بينهم، والنَّصفة في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى، وحقوق الموتى من غسلهم، والصلاة عليهم، ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم، وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقة، وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب، وقال بعض أهل العلم: إن الرحم التي تجب صلتها هي كل رحم مَحْرَم، وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال، وقيل: بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث مِحْرماً كان أم غير مَحْرم، فيخرج من هذا أن رحم الأم التي لا يتوارث بها لا تجب صلتهم ولا يحرم قطعهم، وهذا ليس بصحيح، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم يجب صلته في كل حال قربة ودينية).
وقال ابن مفلح رحمه الله: (وذكر أبو الخطاب وغيره في مسألة العتق: قد توعد الله سبحانه وتعالى بقطع الأرحام باللعن وإحباط العمل، ومعلوم أن الشرع لم يرد صلة كل ذي رحم وقرابة، إذ لو كان ذلك لوجب صلة جميع بني آدم، فلم يكن بد من ضبط ذلك بقرابة تجب صلتها وإكرامها ويحرم قطعها، وتلك قرابة الرحم المَحْرَم.
إلى أن قال معلقاً على قول أبي الخطاب: وهذا الذي ذكره من أنه لا يجب إلا صلة الرحم المَحْرَم، اختاره بعض العلماء، ونص أحمد الأول، أنه تجب صلة الرحم محرماً كان أولا).
وقال الحافظ في الفتح: (يطلق على الأقارب وهم مَنْ بينه وبين الآخر نسب، سواء كان يرثه أم لا، سواء كان ذا مَحْرَم أم لا، وقيل هم المحارم فقط، والأول هو المرجح، لأن الثاني يستلزم خروج أولاد الأعمام وأولاد الأخوال من ذوي الأرحام، وليس كذلك).
حكم صلة الرحم وقطعها
صلة الرحم واجبة وقطيعتها محرمة، ومن الكبائر.
قال القرطبي رحمه الله: (اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة).(9/344)
وقال ابن عابدين الحنفي: (صلة الرحم واجبة ولو كانت بسلام، وتحية، وهدية، ومعاونة، ومجالسة، ومكالمة، وتلطف، وإحسان، وإن كان غائباً يصلهم بالمكتوب إليهم، فإن قدر على السير كان أفضل).
الأدلة على ذلك
الأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1. قوله تعالى: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام".
2. وقوله تعالى: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم".
3. وجاء في حديث أبي سفيان لهرقل عندما قال له: فما يأمر؟ قال: "يأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف، والصلة".
4. وعن عائشة رضي الله عنها ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرحم شُجْنة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته".
فضل وثواب واصل الرحم في الدنيا والآخرة
لقد وعد الله ورسوله واصل الرحم بالفضل العظيم، والأجر الكبير، والثواب الجزيل، من ذلك:
أولاً: في الدنيا
1. فهو موصول بالله عز وجل في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الخلق، حتى إذا فَرَغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؛ قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب؛ قال: فهو لك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأوا إن شئتم: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم".
2. يُبسط له في رزقه.
3. يُنسأ له في أجله – أن يزاد في عمره بسبب صلته لرحمه.
4. تعمر داره.
5. صلة الرحم تدفع عن صاحبها ميتة السوء.
6. يحبه الله.
7. يحبه أهله.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سرَّه أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه".
وعن عائشة مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "صلة الرحم، وحسن الجوار، وحسن الخلق يعمران الديار ويزيدان في الأعمار" ، ولأبي يَعْلى من حديث يرفعه: "إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء".
لا تعارض أخي الكريم بين هذه الأحاديث وبين قوله عز وجل: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولايستقدمون"، لأن هذه الزيادة وهي على حقيقتها بالنسبة إلى علم المَلك الموكل بكتابة الأجل، وشقي أم سعيد، أما الآية فهذا بالنسبة إلى علم الله عز وجل، فعلم الله لا زيادة فيه ولا نقصان، ولكن يوحى للملك بأن عمر فلان ستون سنة، وبسبب صلته لرحمه يبلغ عمره ثمانين سنة مثلاً، وهو الذي أشار إليه ربنا بقوله: "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب"، ولهذا لا داعي لصرف اللفظ عن معناه الظاهر بأن المراد أن يبارك الله في عمره، والله أعلم.
ثانياً: في الآخرة
صلة الرحم سبب من أسباب دخول الجنة مع أول الداخلين، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم".
عقوبة ووزر قاطع الرحم في الدنيا والآخرة
أولاً: في الدنيا
1. لا يرفع له عمل ولا يقبله الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أعمال بني آدم تعرض على الله تبارك وتعالى عشية كل خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم".
وفي رواية: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر فيهما لمن لا يشرك بالله إلا المهاجرين".
2. لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع
الشر يعم والخير يخص، فلا تنزل رحمة على قوم فيهم قاطع رحم، ولهذا يجب التواصي ببر الآباء وصلة الأرحام، والتحذير من العقوق، فإذا فعلوا ذلك سلموا من هذه العقوبة.
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم".
قال الطِّيبي في توجيه ذلك: (يحتمل أن يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم، ولا ينكرون عليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة المطر، وأنه يحبس عن الناس بشؤم التقاطع، ولا يدخل في القوم عبد قطع من أمر الله بقطعه، لكن لو وصلوا بما يباح من أمر الدنيا لكان فضلاً، كما رق صلى الله عليه وسلم لأهل مكة لما سألوه برحمهم بعدما دعا عليهم بالقحط، وكما أذن لعمر ولأسماء رضي الله عنهما) ببر أرحامهما من المشركين.
3. تعجيل العقوبة للعاق في الدنيا قبل الآخرة
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أحرى أن يعجل اللهُ لصاحبه العقوبة في الدنيا – مع ما يدِّخره له في الآخرة – من قطيعة الرحم والبغي".
4. أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم
ثانياً: في الآخرة
1. لا يدخل الجنة مع أول الداخلين
قاطع الرحم لا يدخل الجنة مع أول الداخلين إن كان من الموحدين، ولكن بعد أن يطهره الله بالنار من تلك المخالفة، لأنه لا يبقى في النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.(9/345)
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قاطع".
وعن أبي موسى رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مصدِّق بسحر، ولا قاطع رحم".
2. لا تفتح له أبواب الجنة أولاً.
3. يدخر له من العذاب يوم القيامة مع تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يتب أويتغمده الله برحمته.
4. يُسف المَلّ، وهو الرماد الحار
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسنُ إليهم ويسيئون إليّ، ويجهلون عليّ، وأحلم عنهم؛ قال: "لئن كان كما تقول كأنما تسفُّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمتَ على ذلك".
قال النووي: (كأنما تطعمهم الرماد الحار، وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم).
بم توصل الرحم؟
الصلة تكون بالفعلن وهو الإحسان، أوبالترك وهو كف الأذى، وهي درجات دنيا وعليا.
أولاً: صلة الرحم العامة
وهي رحم الدين، ووشيجة التقوى، فإنها تحصل بالآتي:
1. التناصح والتشاور.
2. التوادد.
3. العدل والإنصاف.
4. القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة على قدر الطاقة.
5. التعليم، والإرشاد، والتوجيه.
6. الأمر والنهي.
7. الشفاعة الحسنة.
8. تحمل الأذى.
9. كفُّ الأذى عنهم، وهذا أضعف الإيمان أن يكفَّ الإنسان أذاه عن إخوانه المسلمين.
والأدلة على ذلك كثيرة جداً، فمن القرآن:
1. "إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم".
2. "واخفض جناحك للمؤمنين".
ومن السنة:
1. "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً"، وشبَّك بين أصابعه.
2. "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
3. "المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه، وماله، ودمه، التقوى ههنا، بحسب امرئ من الشر أن يحْقِر أخاه المسلم".
4. "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة".
5. "انصر أخاك ظالماً أومظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إن كان مظلوماً، أرأيتَ إن كان ظالماً كيف أنصره؟ قال: "تحجُزُه – أوتمنعه – عن ظلمه فإن ذلك نصره".
6. "حق المسلم على المسلم خمس: ردُّ السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس".
7. "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح"، أي المضمر العداوة.
هذه الحقوق من الواجبات الكفائية، وقد تتعين في بعض الأحيان لبعض المسلمين على بعض.
والحقوق الكفائية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وإذا تركها الجميعُ أثم الجميعُ، ولهذا فإن بعض الحقوق الكفائية المضاعة قد تكون أهم من الحقوق العينية، لأهميتها، وخطورتها، وحاجة المسلمين العامة إليها، نحو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والتعليم والإرشاد.
ثانياً: صلة الرحم الخاصة
وهم جميع القرابات من جهة النسب، من قبل الأم والأب، وهؤلاء صلتهم عامة كذلك وخاصة:
(أ ) الصلة العامة
وهي شاملة لجميع حقوق الصلة لعامة المسلمين التي ذكرناها آنفاً.
(ب ) صلة خاصة
وهي زيادة حقوق على حقوق المسلم العامة.
على المرء أن يسع جميع أرحامه بالحقوق العامة والخاصة، فإن تزاحمت أرحامُه فعليه أن يصل الأقرب فالأقرب، كما ورد في الحديث: "من أحقُّ الناس بحسن صحابتي"، الذي جاء فيه: "ثم أدناك أدناك".
وفي الجملة فإن الصلة الخاصة تكون بالآتي:
الحد الأدنى
وهذا يحصل بـ:
1. السلام.
2. طلاقة الوجه، التبسم.
3. كف الأذى.
الحد الأعلى
وهذا يحصل بـ:
1. الزيارة.
2. عيادة المريض.
3. الإهداء.
4. الإنفاق على المعسرين.
5. المشاركة في الأفراح والأتراح.
6. التهنئة بالأعياد، وليس للمسلمين سوى عيدي الفطر والأضحى.
7. تمييزهم على غيرهم في الصدقات الواجبة والصدقات التطوعية.
8. تمييزهم في الشفاعات الحسنة.
9. تمييزهم في التوجيه والتعليم.
10. تمييزهم على غيرهم في الجيرة.
11. تمييزهم على غيرهم في تحمل الأذى.
الأدلة على ذلك كثيرة جداً، فمن القرآن:
1. "وأنذر عشيرتك الأقربين"، فقد أمر صلى الله عليه وسلم بأن يبدأ بدعوة أهله وعشيرته أولاً.
2. "وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها".
3. "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً".
فالأهل والأقارب أولى بالتوجيه والمناصحة والتعليم من غيرهم.
ومن الأحاديث:(9/346)
1. عندما نزل قوله تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" قال أبو طلحة رضي الله عنه: إن أحبَّ مالي إليّ بَيْرَحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بَخٍ! ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين؛ فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه".
2. وعن ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة، ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرتَ يا رسول الله إني أعتقتُ وليدتي؟ قال: أوفعلتِ؟ قالت: نعم؛ قال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك".
3. "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة".
4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: "وأنذر عشيرتك الأقربين" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً، فاجتمعوا، فعمَّ وخصَّ، وقال: "يا بني عبد شمس، يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مُرَّة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رَحِماً سأبلها ببلالها".
5. "بلوا أرحامكم ولو بالسلام".
ذوو الأرحام ليسوا سواء
لقد أمر الله بالعدل والإنصاف، ونهى وحذر من الظلم، وقد حرمه الله على نفسه وجعله بيننا محرماً، لهذا فليس من العدل والإنصاف التسوية في الصلة بين الأرحام، مسلمهم وكافرهم، برَّهم وفاجرهم، مستقيمهم وفاسقهم، سنيهم ومبتدعهم، لهذا فلابد للمسلم أن يراعي هذه الفروق في صلته ومعاملته لذوي الأرحام الخاصين والعامين، فعليه أن يصل من أمر الله بوصلهم، وأن يقطع - ولا يتحرَّج في ذلك – من أمر الله بقطعهم: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم والآخر يوادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أوأبناءهم أوإخوانهم أوعشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون".
بل الكفار والمبتدعة والفجار ليسوا سواء، فالكفار منهم المحارب المقاتل للمسلمين، ومنهم المسالم، والمبتدعة والفجار منهم المجاهر ببدعته وفسقه الداعي لذلك، ومنهم المستتر ببدعته وفجوره، ولكل من هؤلاء حكم، ولهذا فرَّق الله سبحانه وتعالى بين الكافرين، حيث جعل النار دركات كما أن الجنة درجات، فأبو لهب في الدركات السفلى من النار وذلك لشدة بغضه وعداوته وفجوره في الخصومة لابن أخيه، وأبو طالب في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، وذلك لحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفاعه عنه حميَّة.
فذو الأرحام في الصلة درجات كذلك:
الأولى: أهل الاستقامة والدين والتقوى
وهؤلاء يوصلون بالأسباب السابقة الذكر، سواء كانت رحمهم عامة أم خاصة.
الثانية: أهل البدع والفسق والفجور
وهؤلاء نوعان:
أ. مجاهر ببدعته، وفسقه، وفجوره، داعٍ لذلك.
فهؤلاء يهجرون هجراً تاماً، وهجر هؤلاء من أجلِّ القرب عند الله عز وجل، ولا ينبغي أن يجامل في ذلك. وإن كان في مداراتهم واتقائهم درء مفسدة أوجلب منفعة استحب مداراتهم واتقاؤهم حسب الحاجة إلى ذلك، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، وقد قال الله عز وجل: "إلا أن تتقوا منهم تقاة"، وقد هشَّ وبشَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في وجه عيينة بن حصن، وقد قال عندما استأذن عليه: "بئس أخو العشيرة"، وعندما قيل له في ذلك، قال: "إنا نهشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم"، أوكما قال.
ب. متسترين ببدعهم وفسقهم.
هؤلاء يعاملون معاملة المسلم مستور الحال، إلا لمن علم حقيقتهم، وحتى في هذه الحال إن كان في معاملتهم والإحسان إليهم درء مفسدة أوجلب منفعة لهم أولغيرهم عوملوا ووصلوا، سيما من أقربائهم.
الثالثة: الكفار والمنافقون
وهؤلاء نوعان كذلك:
أ. محاربون، وهؤلاء يقاطعون ولا يوصلون إلا من باب المداراة واتقاءً لشرهم.
ب. غير محاربين، وهؤلاء يوصلون بالإحسان وبحسن المعاملة ونحو ذلك.
بم يوصل ذوو الأرحام من الكفار والفجَّار غير المحاربين؟
إجمالاً، فإن هؤلاء يوصلون بالطرق التالية:
1. بذل الجهد في وعظهم ومناصحتهم، ودعوتهم إلى الإسلام وإلى الاستقامة بشتى الطرق، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية عمه أبي طالب حتى ساعة الاحتضار، ولم ييأس منه إلىأن نزل قوله تعالى: "إنك لا تهدي من أحببتَ ولكن الله يهدي من يشاء".
2. الدعاء لهم بالهداية بظهر الغيب، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو لقومه: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون"، "اللهم اهدِ دوساً وائتِ بهم".(9/347)
3. برُّهم وصلتهم ووصلهم إن لم يكونوا محاربين معاندين.
وإليك الأدلة:
1. "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون".
2. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "رأى عمر حُلَّة سِيَراء تُباع، فقال: يا رسول الله ابتع هذه والبسها يوم الجمعة وإذا جاءك الوفود؛ قال: إنما يلبس هذه من لا خلاق له؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم منها بحلل، فأرسل إلى عمر بحلة، فقال: كيف ألبسها وقد قلتَ ما قلتَ؟ قال: إني لم أعطكها لتبلبسها، ولكن لتبيعها أوتكسوها؛ فأرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم".
3. وعن أسماء قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم إذ عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم – مع أبيها، فاستفتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة؛ قالت: نعم، صلي أمك".
ليس الواصل بالمكافئ
الناس في صلة الرحم وقطيعتها أصناف ودرجات:
الأول: الواصل للمسيء إليه
وهي حال المصطفَيْن الأخيار من الرسل وأتباعهم، كحال رسولنا مع قومه، ومقابلة إساءتهم له بالإحسان إليهم، فقد دعا الله أن ينزل عليهم الغيث وقد أخرجوه من بلده ومسقط رأسه، وكان دائماً يسأل لهم الهداية، وعندما دخل مكة فاتحاً منتصراً وقال لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخي كريم؛ فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء" وقال: "من دخل الكعبة فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، أوكما قال صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فعل أبوبكر الصديق رضي الله عنه مع مِسْطح ابن خالته الذي كان ينفق عليه، بعد أن سعى في إشاعة الفاحشة على الصديقة بنت الصديق عائشة، فأقسم أبوبكر أن لا ينفق عليه، ولكن ما إن نزل قوله تعالى: "ولا يأتلِ أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم"، حتى عاد أبوبكر إلى الإنفاق والإحسان إلى مسطح، وقال: نحبّ؛ أوكما قال.
الثاني: الواصل
وهو الذي يصل من قطعه، وهذه درجة رفيعة كذلك، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها".
ولا يقدر على ذلك إلا الصابرين المحتسبين الأجر عند الله عز وجل.
الثالث: المكافئ
وهو الذي يصل من وصله ويقطع من قطعه، أي يعامل الناس بمثل ما يعاملونه به، والمكافأة فيها نوع من الصلة، ودرجة من الوصل.
الرابع: المقاطع
الذي يقطع من وصله، وهو الذي يُتفضَّل عليه، ولا يَتفضَّل.
الخامس: المسيء
وهو أسوأ الأصناف، وهو الذي يسيء إلى من أحسن إليه، ولم يكتف بقطعه بل تعدى ذلك لإيذائه، ولهذا شاع بين الناس: "اتق شرَّ من أحسنتَ إليه" وهو من الأحاديث الموضوعة الشائعة على الألسن.
تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم
مما يدل على مكانة صلة الأرحام في الإسلام وعلو منزلتها أن الشارع الحكيم أمر بتعلم الأنساب ومعرفة القرابات التي تعين على صلة الأرحام والإحسان إليهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم".
فيجب على الآباء والأجداد تبصير الأبناء والأحفاد بحقوق القرابات، وبصلتهم بها، فإن كثيراً من شباب اليوم لا يعرف شيئاً عن كثير من أرحامهم، ويرجع ذلك إلى تقصير الكبار في هذا الشأن، فقد جاء في الأثر: "لا يزال الناس بخير ما تعلم الصغير قبل موت الكبير"، فإذا مات الكبار ذهبوا بما عندهم من علوم وتجارب ومعارف قد لا توجد عند غيرهم من الناس.
فعلم النسب من أهم العلوم ما لم يدع إلى التفاخر والعصبية، وكان أبوبكر الصديق وابنته عائشة من أعلم المسلمين بالأنساب، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت بملازمة أبي بكر ليمده بمخازي القوم المشركين ليتمكن من الرد عليهم والذبِّ عن الإسلام ورسول الإسلام.
أهمية عقيدة الولاء والبراء في صلة الأرحام وقطيعتها
من المجالات المهمة التي تتجلى فيها عقيدة الولاء والبراء عند المسلم أصدق تجلٍ، وتتضح فيها في أجمل صورها، صلة من يستحقون الصلة من الأقارب والمسلمين، وقطع من يستحقون القطع من غير خوف ولا وجل ولا حرج، لأنه ينبغي للمسلم أن يكون حبه وبغضه في الله، ووصله وقطعه لله، وحركاته وسكناته في ابتغاء مرضات الله.
لقد جسد هذه العقيدة الأنبياءُ والرسلُ وأتباعُهم في أقربائهم وذويهم أصدق تجسيد، وحققوا هذه العقيدة أفضل تحقيق، وإليك بعض النماذج، حيث لم تأخذهم في ذلك لومة لائم.
نماذج للتبري والتخلي عن القرابات الكافرة والفاجرة(9/348)
1. نوح عليه السلام، حيث قال الله على لسانه: "ربِّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً"، وفي هؤلاء الكافرين الذين دعا عليهم ابنه وزوجه وكثير من أقاربه.
2. إبراهيم عليه السلام وقومه: "إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة البغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده".
3. آسيا امرأة فرعون عليها السلام، حيث تبرَّأت من زوجها الكافر: "وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجِّني من فرعون وعمله ونجِّني من القوم الظالمين".
4. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إن وليِّي الله ورسوله وصالح المؤمنين" الحديث.
5. وقال صلى الله عليه وسلم عندما جاء أسامة بن زيد يشفع في المخزومية التي كانت تسرق المتاع وتجحده: "والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعتُ يدها".
6. الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه بعد إسلامه ورجوعه إلى أهله، جاءته زوجه وأبوه، فقال مخاطباً لكل منهما: إليكَ عني، فلستُ منك ولستَ مني؛ فقالا: لِمَ؟ فقال: لقد فرَّق الإسلامُ بيني وبينك؛ حتى قال له كلٌّ منهما: ديني دينك؛ فأمرهما بالاغتسال ثم تشهدا، فسلم عليهما.
أورد القرطبي في تفسير قوله تعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادََّ الله ورسوله" عدداً من النماذج الفريدة في هذا الباب، وهي:
7. قال السدي: نزلت في عبد الله بن عبد الله بن سلول رضي الله عنه، جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ماءً، فقال له: يا رسول الله، ما أبقيتَ من شرابك فضلة أسقيها أبي، لعل الله يطهر بها قلبه؟ فأفضل له، فأتاه بها، فقال له عبد الله: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وسلم، جئتُك بها تشربُ بها لعل الله يطهر قلبك بها؛ فقال له أبوه – لعنه الله -: فهلا جئتني ببول أمك، فإنه أطهر منها؛ فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، ما أذنتَ لي في قتل أبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل ترفق به وتحسنُ إليه".
8. وهذا موقف آخر لعبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول مع أبيه، رأس الكفر والنفاق، عندما قال وهم راجعون من غزوة: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ"، ويعني الأذل الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقف له ابنه الصالح هذا عند مدخل المدينة، وقال: والله لا تدخلها حتى يأذن لك الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فأذن له الرسول، وقيل إنه استأذن الرسول في قتله كذلك فلم يأذن له.
9. وقال ابن جريج: حُدثتُ أن أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم، فصكه أبوبكر ابنه صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: أوفعلته؟ لا تعد إليه؛ فقال: والذي بعثك بالحق نبياً، لو كان السيف مني قريباً لقتلته؛ وقيل كان هذا سبب نزول هذه الآية.
10. وقال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجراح، قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وقيل يوم بدر، وكان الجراح يتصدى لأبي عبيدة، وأبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله حينئذ: "لا تجد قوماً.."، قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجلاً من بني الحرث بن فهر فقالوا: توفي أبوه قبل الإسلام.
11. لقد دعا أبو بكر ابنه عبد الله إلى البراز يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "متعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر".
ويروي أنه بعدما أسلم عبد الله قال لأبي بكر: كنت أحيدُ عنك – يعني يوم بدر؛ فقال له أبوبكر: لو رأيتُك لقتلتك.
12. وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد الله بن عمير يوم بدر.
13. وقتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر.
14. ما قاله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لأمه وكان باراً بها عندما أسلم وخرجت في الشمس وامتنعت عن الأكل والشرب، فراجعها فلم ترجع، ثم قال لها: والله يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت الواحدة تلو الأخرى ما تركت دين محمد صلى الله عليه وسلم.
15. هجر عبد الله بن المغفل رضي الله عنه لأحد أقاربه لأنه نهاه عن الخسف بالحجارة فلم ينته.
16. هجر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لابن بلال عندما قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله؛ فقال بلال: أنا أمنع – من باب الغيرة -، فسبه عبد الله سباً لم يسبه أحداً من قبل وهجره حتى الممات.
17. أم حبيبة رضي الله عنها عندما جاءها أبوها أبو سفيان وكان مشركاً، وأراد الجلوس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطوته عنه ومنعته من الجلوس عليه لشركه.
ليحذر الواصل المخالفات الشرعية(9/349)
تمسك البعض بالعادات والتقاليد والأعراف المخالفة للشرع، وإصرارهم وحرصهم عليها، يوقع الملتزمين في حرج اجتماعي لا يقوى عليه كثير منهم.
من تلك الأعراف والتقاليد التي تمحق أجر وثواب صلة الرحم لمن يقترفها ما يأتي:
1. مصافحة المرأة الأجنبية، وهي كل من يجوز لك زواجها من غير المحارم، نحو بنت العم والعمة والخال والخالة، وأخت الزوجة، وما أشبه ذلك.
2. دخول الرجال على النساء الأجنبيات والانبساط معهن.
3. اختلاط النساء بالرجال.
4. الخلوة بالأجنبية.
5. شهود حفلات الزواج وغيرها.
6. المجاملة بالجلوس للعزاء.
7. التكلف بما لا يستطاع في مناسبات الأفراح والأتراح.
وغيرها كثير.
وعليك أخي الكريم أن تعلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، فإذا كانت صلتك لرحمك توقعك في أحد هذه المحاذير الشرعية فلا تجب عليك الصلة والحال هكذا.
والتخلص من هذه العادات الرذيلة والمخالفات الجاهلية القبيحة تحتاج إلى تضافر وتعاون من الجميع، وذلك لسيطرة هذه العادات والتقاليد على بعض المجتمعات، والتعاون على ذلك مرغوب فيه لأنه تعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على ذلك بالضرورة تعاون على الإثم والعدوان.
لا ينبغي لأحد أن يجامل في دينه، ولا أن يبيع آخرته بهذا الثمن البخس، وليعلم أن من أرضى الناس بسخط الله عز وجل أسخط اللهُ عليه الناسَ، ومن أسخطهم برضا الله أرضى الله عليه كلَّ الناس.
صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك
وأخيراً أخي الحبيب عليك بفواضل الأعمال، ودع عنك قبيحها وسيئها، واعمل بوصية ربك ورسولك، وتخلق بخلق الأنبياء الأخيار، واحذر سلوك الحمقى الأغمار.
عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: لقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؛ فقال: "يا عقبة، صِلْ من قطعك، وأعطِ من حرمك، وأعرض عمن ظلمك".
واحرص أخي المسلم أن تكون سيرتك مع أهلك وأقاربك المحسنين منهم والمسيئين كسيرة المقنع الكندي مع أهله وعشيرته، لتسعد في آخرتك، وتُحمد وتُشكر في دنياك، حيث قال مبيناً منهجه ومعاملته لهم:
يعاتبني في الدين قومي وإنما ديوني في أشياء تكسبهم حَمْداً
أسُدُّ به ما قد أخلوا وضيعوا حقوق ثغور ما أطاقوا لها سداً
و لي جفنة لا يغلق الباب دونها مكللة لحماً مدفقة ثرداً
ولي فرس نهد عتيق جعلته حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبداً
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً
إذا أكلوا لحمي وفرتُ لحومهم وإن هدموا مجدي بنيتُ لهم مجداً
وإن ضيعوا غيبي حفظتُ غيوبهم وإن هُمْ هَووا غيِّي هويتُ لهم رشداً
وليسوا إلى نصري سراعاً وإن هُمُ دَعَوْني إلى نصر أتيتُهم شداً
وإن زجروا طيراً بنحس يمر بي زجرت لهم طيراً يمر بهم سَعْداً
ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيسُ القوم من يحملُ الحقدا
لهم جلُّ مالي إنْ تتابع لي غنى وإن قلَّ مالي لم أكلفهم رفداً
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا
وأخيراً اعلم أيها الأخ الكريم أن العبرة بسلامة الصدر، وتقارب القلوب، ونقاء الطوية والسريرة، ولله در ابن عباس حين قال: "قد تقطع الرحم، وقد تكفر النعمة، ولا شيء كتقارب القلوب"؛ وفي رواية عنه: "تكفر النعمة، والرحم تقطع، والله يؤلف بين القلوب لم يُزحزحها شيء أبداً"؛ ثم تلا: "لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما ألفتَ بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم".
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والإحن والآثام.
ونسألك اللهم قلباً سليماً، ولساناً صادقاً، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك من خير ما نعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم، إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصلى الله وسلم وبارك على محمد صاحب القلب السليم، والقدر العظيم، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
000000000000000000000000
أيها المسلمون اتقوا الله في الخدم وارعوا فيهم وصية نبيِّكم
حق الخادم على مستخدمه
نماذج حسنة لمعاملة بعض الأخيار لخدمهم
العفو عن الخدم من أجلِّ القربات
الحمد لله الذي جعل الكرم الحقيقي والشرف الأصلي بالتقوى، فقال: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ولهذا نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الانخداع بالمظاهر، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "مرَّ رجل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع؛ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يُشفع، وإن قال أن لا يُسمع لقوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا".(9/350)
وبيَّن أن الله عز وجل لا ينظر إلى الصور والأجسام، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، فقال: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، وقال: "رُبَّ أشعث – أغبر – مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره".
اللهم إنا نعوذ بك أن نكون عظماء في أنفسنا وعند الناس، حقراء أذلاء مدفوعين عندك.
وبعد..
أخي المسلم، عليك أن تتقي الله عز وجل فيمن اضطرته الظروف، ودفعته الحاجة، وسخره الله لخدمتك وخدمة آل بيتك، من إخوانك المسلمين وغيرهم، وأن ترعى فيهم وصية نبيك صلى الله عليه وسلم، حيث قال موصياً بالإحسان إليهم، ومحذراً من تكليفهم ما لا يطيقون، ومن الإساءة إليهم: "إخوانكم خولكم، جعلهم الله قِنْيَة تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه، وليلبسه من لباسه، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه".
واعلم أخي المسلم وأختي المسلمة أن خادمك هذا أوخادمتك تلك قد تكون عند الله عز وجل أكرم وأفضل منكما، وربما كان الخادم أعف نفساً، وأحسن خلقاً، وأعز معتداً، وأفضل نسباً من مخدمه.
كثير من المسلمين اليوم يعاملون الخدم الأجراء معاملة الخدم الأرقاء في الخلوة والانبساط معهم، وبين الخدم الأرقاء والخدم الأجراء من الفروق الشيء الكبير، حيث نجد الرجل يخلو بخادمته الأجيرة، والمرأة تخلو بخادمها وتبرز محاسنها أمامه، وكذلك الأمر بالنسبة للأولاد والبنات البالغين، ونجد المخدمين يرسلون الخادمات إلى المحال التجارية، وإلى الأسواق، مما يعرضهن للفتن، ولا يحرص على حجابها الشرعي حرصه على محارمه، وفي ذلك وغيره كثير من المخالفات الشرعية وانتهاك لحدود الله ومخالفة لأوامره.
وفي بعض الأحيان قد يتعدى الأمر أكثر من ذلك إلى الشروع في الزنا ومقدماته، هذا إلى جانب الضرب، والسباب، والشتم، والإهانة، مما يضطر بعض الخدم لارتكاب بعض الحماقات، كالانتحار، والانتقام، والهروب، ونحو ذلك، وما نسمعه من سوء معاملة بعض المستخدمين وذويهم لخدمهم من أمور يندي لها الجبين، ويشمئز منها الضمير، ولا تناسب بحال من الأحوال ولا تشبه أخلاق أتباع محمد البشير النذير.
فعليك أخي المسلم إذا دعتك قدرتك إلى ظلم من جعله الله تحت ولا يتك وسلطانك من خادم، أوعامل، أورعية، أن تتذكر قدرة الله وبطشه وجبروته عليك.
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: "كنت أضرب غلاماً لي، فسمعت خلفي صوتاً: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود – مرتين - أن الله أقدر عليك منك عليه؛ فالتفتُ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
حق الخادم على مستخدمه
لم يُحْوجنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك إلى تشريعات منظمات العمل المحلية والدولية، وإنما بين لنا كل ما نحتاجه في أمر ديننا ودنيانا، من ذلك فقد وضَّح صلى الله عليه وسلم أهم حقوق الخدم على مستخدميهم، كما مر في الحديث السابق وغيره، سواء كانوا أرقاء أم أجراء، وهي:
أولاً: أن يطعم خادمه مما يطعم.
ثانياً: أن يلبسه مما يلبس.
ثالثاً: لا يكلفه ما يغلبه وإلا أعانه عليه، إما بنفسه، أوبأجراء آخرين.
رابعاً: أن يسكنه فيما يسكن، أوفي سكن يقيه الحر، والبرد، والمطر.
خامساً: أن يعطيه من الأجر ما يناسب عمله ومجهوده، ولا ينبغي أن يستغل حاجته وفقره، وانخفاض مستوى دخل الفرد في بلده، كما يحدث الآن في كثير من البلاد.
وينبغي على ولاة الأمر أن ينتبهوا لاستغلال الشركات والمؤسسات والأفراد الذين يقومون بالتعاقد مع هؤلاء الخدم واستجلابهم من بلادهم، ففي بعض الأحيان تكون هناك عقود صورية مخالفة لما يتعاطاه الخادم عندما يباشر عمله.
واعلم أخي المسلم أن مثل هذه الإجراءات التعسفية واستغلال حاجة الخدم الماسة للعمل لا تحلل الحرام ولا تجيز استغلال حاجة المضطرين.
سادساً: أن لا يسبه، ولا يشتمه، ولا يضربه.
سابعاً: أن يحسن معاملته ويكرمه.
ثامناً: أن يعامله ذكراً أوأنثى المعاملة الشرعية التي بينها الشارع.
تاسعاً: أن يتجاوز عن خطئه وتقصيره.
عاشراً: يجتهد أن يعوضه ما فقده من أهل وعشيرة وتباين بيئة.
أحد عشر: أن يمسكه بإحسان أويتخلى عنه بإحسان، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء.
الثاني عشر: أن يخصَّ الخدم المسلمين بعناية ورفق أكثر من غيرهم، وأن لا يظلم غير المسلمين، بل ينبغي أن يدعوهم إلى الإسلام بسلوكه الحسن، ومعاملته الطيبة، ولا ينفرهم ويبغضهم في الإسلام بسلوكه، فالدين المعاملة.
قال المناوي في فيض القدير في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "فليطعمه": (أي وجوباً، والأفضل كونه "من طعامه" الذي يأكله، ويلبسه مما يليق من لباسه، قال الرافعي: لا مناقضة بينه وبين الخبر الآتي: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف"، لأن ما هنا في حق العرب الذين طعامهم وطعام عبيدهم وكسوتهم متقاربة، وذلك في حق المترفهين في الطعام واللباس، فليس عليهم لمماليكهم إلا المتعارف لهم بالبلد، سواء كان من جنس نفقة السيد أوفوقه أودونه).(9/351)
نماذج حسنة لمعاملة بعض الأخيار لخدمهم
سنعرض في هذه العجالة لبعض النماذج الطيبة، والصور الحسنة، لمعاملة نفر من الأخيار لخدمهم، لعل الله ينفع بها، فنقول:
1. سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم
كانت معاملة رسولنا صلى الله عليه وسلم لمن يخدمه معاملة الوالد الشفوق لولده، والأخ الرحيم لأخيه، لا يميز بين رقيق وأجير ومتطوع، مما جعل زيد بن حارثة رضي الله عنه يفضله على والديه وعشيرته.
زيد بن حارثة عربي من بني كلب أسِرَ وهو طفل في الجاهلية، وبيع بمكة، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زواجه بها، ثم تبناه بعدُ، وكان يُدْعى زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى: "ادعوهم لآبائهم" الذي أبطل التبني.
قال ابن عبد البر رحمه الله: (قال أبوه حارثة بن شراحيل حين فقده:
بكيتُ على زيد ولم أدر ما فعلْ أحَيٌّ يُرْجَّى أم دونه أتى الأجلْ
فوالله لا أدري وإن كنتُ سائلاً أغالك سَهْلُ الأرض أم غالك الجبلْ
فياليت شعري هل لك الدَّهْرُ رجعة فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجَلْ
تذكرنيه الشمسُ عند طلوعها وتعرضُ ذكراه إذا قارب الطَّفَلْ
وإن هبت الأرواحُ هيجن ذكره فيا طول حزني عليه ويا وَجَلْ
سأعمِلُ نَصَّ العيس في الأرض جاهداً ولا أسأمُ التطواف أوتسأم الإبلْ
حياتي أو تأتي عليَّ منيتي وكل امرئ فانٍ وإن غرَّه الأجلْ
سأوصي به عمراً وقيساً كليهما وأوصي يزيدَ ثم من بعده جَبَلْ
إلى أن قال:
فحج ناس من كلب، فرأوا زيداً فعرفهم وعرفوه، فقال لهم: أبلغوا عني أهلي هذه الأبيات، فإني أعلم أنهم قد جزعوا عليَّ؛ فقال:
أحن إلى قومي وإن كنتُ نائياً فإني قعيد البيت عند المشاعر
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم ولا تعملوا في الأرض نَصَّ الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة كرام معدٍّ كابراً بعد كابر
فانطلق الكلبيون فأعلموا أباه، فقال: ابني وَرَبَّ الكعبة؛ ووصفوا له موضعه، وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل لفدائه، وقدما مكة، فسألا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو في المسجد؛ فدخلا عليه، فقال: يا ابن عبد المطلب، يا ابن هاشم، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني وتطعمون الأسير، جئناك في ابننا عندك، فامنن علينا، وأحسن إلينا في فيدائه؛ قال: ومن هو؟ قالوا: زيد بن حارثة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا غير ذلك! قالوا: وما هو؟ قال: أدعوه فأخيِّره، فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً؛ قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت؛ فدعاه فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم؛ قال: من هذا؟ قال: هذا أبي وهذا عمي؛ قال: فأنا من قد علمتَ ورأيتَ صحبتي لك، فاخترني أواخترهما؛ قال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني مكان الأب والعم؛ فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وعلى أهل بيتك! قال: نعم، قد رأيت من هذا الرجل شيئاً، ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً؛ فلما رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحِجْر، فقال: يا من حضر، اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه؛ فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفا).
وإليك نموذجاً آخر لحسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لخدمه، عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً، قالت أم سليم رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا غلامي أنس يخدمك؛ فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمره آنذاك عشر سنين، فخدم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فقال: "خدمتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ما قال لي لشيء فعلتُه لم فعلتَه، ولا لشيء تركتُه لم تركته".
2. عمر بن الخطاب رضي الله عنه
من النماذج الطيبة، والصور الحسنة، والمواقف النادرة، معاملة الخليفة الراشد والإمام العادل عمر بن الخطاب لخدمه ومماليكه، هذا على الرغم من شدة عمر في الحق وهيبة الناس له، يوضح ذلك ما حكاه عنه مولاه أسلم رحمه الله.
قال الحافظ الذهبي في ترجمة أسلم: (وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال ابن عمر: يا أبا خالد، إني أرى أمير المؤمنين يلزمك لزوماً لا يلزمه أحداً من أصحابك، لا يخرج سفراً إلا وأنت معه، فأخبرني عنه؛ قال: لم يكن أولى القوم بالظل، وكان يرحِّل رواحلنا، ويرحل رحله وحده، ولقد فزعنا ذات ليلة وقد رحَّل رحالنا وهو يرحل رحله ويرتجز:
لا يأخذ الليلُ عليك بالهم وألبسن له القميص واعتم
وكن شريك نافع وأسلم واخدم الأقوام حتى تُخدم
3. أبو ذر الغفاري رضي الله عنه
لقد ضرب أبو ذر الغفاري رضي الله عنه في حسن معاملة الخدم المثل الأعلى الذي لا يدانى، فكان يُلبس خادمه ويُطعمه ويُسكنه من نفس ما يلبس ويطعم ويسكن، وذلك لأن مناسبة الحديث السابق: "إخوانكم خولكم" كانت خاصة به.(9/352)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث السابق: (وفيه قصة أي وذلك لأن المعرور بن سويد رأى أبا ذر وعليه حُلَّة وعلى غلامه مثلها، فسأله عن ذلك، فذكر أنه سابَّ رجلاً فعيره بأمه، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك امرؤ فيك جاهلية – أي خلق من أخلاقهم، فذكره).
العفو عن الخدم من أجلِّ القربات
لم يقتصر كثير من السلف على حسن معاملة ومعاشرة الخدم، وإنما تعدوا ذلك إلى العفو والصفح عنهم عند حدوث الزلات، والعتق للأرقاء.
جاء في تفسير قوله تعالى: "والعافين عن الناس" كما قال القرطبي رحمه الله: (العفو عن الناس من أجل ضروب فعل الخير، حيث يجوز للإنسان أن يعفو، وحيث يتجه حقه، وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه، واختلف في معنى "عن الناس"، فقال أبو العالية والكلبي والزجاج: "والعافين عن الناس" يريد عن المماليك، قال ابن عطية: وهذا حسن علىجهة المثال، إذ هم الخَدَمَة، فهم يذنبون كثيراً، والقدرة عليهم متيسرة، وإنفاذ العقوبة سهل، فلذلك مثل هذا المفسِّر به.
وروي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بصحفة فيها مرقة حارَّة، وعنده أضياف، فعثرت فصبت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قول الله تعالى: "والكاظمين الغيظ"؛ قال لها: قد فعلت؛ فقالت: اعمل ما بعده "والعافين عن الناس"؛ فقال: قد عفوتُ عنك؛ فقالت الجارية: "والله يحب المحسنين"؛ قال ميمون: قد أحسنتُ إليك، فأنت حرة لوجه الله تعالى؛ وروي عن الأحنف بن قيس مثله، وقال زيد بن أسلم: "والعافين عن الناس" عن ظلمهم وإساءتهم، وهذا عام، وهو ظاهر الآية).
اللهم كما حسَّنتَ خلْقنا فحسِّن أخلاقنا، وأخلاق أبنائنا وبناتنا، وأصلح أحوالنا، واختم بالصالحات أعمالنا، وبالطيبات آجالنا، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
00000000000000000000000
ما خاب من استخار ولا ندم من استشار
ما يُستخار فيه وما لا يُستخار
هل يفرد دعاء الاستخارة بصلاة ركعتين غير الفريضة أم يستخير عقب أي نافلة؟
ما يقرأ في ركعتي الاستخارة بعد الفاتحة
دعاء الاستخارة يكون بعد التشهد أم بعد السلام؟
السُّنة أن يسمي حاجته
ما يفعله المستخير بعد الاستخارة
المستشار مؤتمن
الرضا بما اختاره الله
الحذر الحذر من الخيرة وما يعرف بفتح الكتاب
من نعم الله العظيمة، وآلائه الجسيمة على العبد المسلم، استخارته لربه، ورضاه وقناعته بما قسمه وقدَّره له خالقه ومولاه، ففي ذلك السعادة الأبدية، وفي التبرم والتسخط بالمقدور الشقاوة السَّرمدية، وذلك لأن الغيب لا يعلمه إلا الله، ولا يطلع عليه أحد سواه.
لهذا روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سعادة ابن آدم استخارته الله".
لقد أرشد الناصح الأمين والرؤوف الرحيم محمد بن عبد الله أمته وعلمها ودلها على جميع ما ينفعها في دينها ودنياها، من ذلك إرشاده الأمة لدعاء الاستخارة.
فما معنى الاستخارة؟ وما حكمها؟ ودليلها؟ وكيفيتها؟ وماذا يفعل بعدها؟ وهل هناك وسيلة شرعية غيرها؟
كل ذلك وغيره سنعرض له بتوفيق الله في هذا البحث المختصر، فنقول:
تعريف الاستخارة لغة وشرعاً
لغة: الاستخارة هي استفعال من الخير، أومن الخِيَرَة، بكسر أوله وفتح ثانيه، اسم من قولك خار الله له، واستخار الله، طلب منه الخيرة، وخار الله له أعطاه ما هو خير له.
اصطلاحاً: طلب خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما.
حكمها
مندوب إليها ومستحبة، والأمر بها أمر إرشاد.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (قوله "من غير الفريضة": أن الأمر بصلاة ركعتي الاستخارة ليس على الوجوب، قال شيخنا: ولم أر من قال بوجوب الاستخارة لورود الأمر بها).
دليلها
ما خرجه البخاري في صحيحه بسنده عن جابر رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن: إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري – أوقال: في عاجل أمري وعاجله – فاقدره لي، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري – أوقال: في عاجل أمري وآجله – فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به؛ ويسمي حاجته"، وإن لم يحفظ هذا الدعاء فله أن يقرأه من كتاب أوأن يُلقنه.
ما يُستخار فيه وما لا يُستخار
بعد أن أجمع أهل العلم في أنه يُستخار في فعل:
1. المباح.
2. والمستحب الموسع في وقته.
وأنه لا يُستخار في:
1. الحرام.
2. والمكروه.
اختلفوا في الاستخارة في فعل الواجب على قولين:
1. منهم من قال يُستخار في فعل الواجب.(9/353)
2. ومنهم من قال لا يُستخار في فعل الواجب، لأنه لا يُستخار فيما ترجحت مصلحته أومفسدته.
أقوال أهل العلم في ذلك
قال ابن مفلح رحمه الله تحت "فصل في الاستخارة وهل هي فيما يخفى أوفي كل شيء": (قال جعفر بن الصائغ: سمعتُ أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: كل شيء من الخير يبادر به.
وقال محمد بن نصر العابد: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: كل شيء من الخير يبادر فيه؛ قال: وشاورته في الخروج إلى الثغر، فقال لي: بادر بادر؛ وهذا يحتمل أنه لا استخارة فيه كما قال بعض الفقهاء لظهور المصلحة، ويحتمل أن مراده بعد فعل ما ينبغي فعله من صلاة الاستخارة وغيره.
وقول جابر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها.
وقد استخارت زينب بنت جحش لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها، قال في "شرح صحيح مسلم": فيه استحباب صلاة الاستخارة لمن همَّ بأمر، سواء كان الأمر ظاهر الخير أم لا؛ قال: ولعلها استخارت لخوفها من تقصيرها في حقه صلى الله عليه وسلم).
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله: (الاستخارة سنة إذا هم بشيء، ولم يتبين له رجحان فعله أوتركه، أما ما تبين له رجحان فعله أوتركه، فلا تشرع فيه الاستخارة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل الأمور الكثيرة، ولا يفعلها إلا بعد الهم بها قطعاً، ولم ينقل عنه أنه كان يصلي صلاة الاستخارة، فلو همَّ الرجل بالصلاة، أوأداء الزكاة، أوترك المحرمات، أونحو ذلك، أوهمَّ أن يأكل، أويشرب، أوينام، لم يُشرع صلاة الاستخارة).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (قوله "في الأمور كلها"، قال ابن أبي جمرة: هو عام أريد به الخصوص، فإن الواجب والمستحب لا يستخار في فعلهما، والحرام والمكروه لا يستخار في تركهما، فانحصر الأمر في المباح وفي المستحب إذا تعارض منه أمران أيهما يبدأ به ويقتصر عليه، قلت: وتدخل الاستخارة فيما عدا ذلك في الواجب والمستحب المخير، وفيما كان زمانه موسعاً، ويتناول العموم العظيم من الأمور والحقير، فرب حقير يترتب عليه الأمر العظيم).
الراجح والله أعلم أن ما ترجحت مفسدته لا يُستخار فيه، وما ترجحت مصلحته لا يُستخار فيه كذلك إلا إذا كان أمراً أجاز الشرع فيه التراخي، ومن استخار في كل أوبعض ما ترجحت مصلحته فله ذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا همَّ بأمر"، ولم يخصص.
هل يفرد دعاء الاستخارة بصلاة ركعتين غير الفريضة أم يستخير عقب أي نافلة راتبة أم مطلقة؟
أقوال لأهل العلم:
1. دعاء الاستخارة يفعل عقب صلاة أي ركعتين من النافلة، راتبة أم مطلقة.
2. دعاء الاستخارة لا يفعل إلا عقب ركعتين مستقلتين لدعاء الاستخارة.
3. يجوز عقب نافلة إذا نوى الاستخارة قبل الشروع فيها.
قال الإمام النووي في الأذكار: (قال العلماء: يستحب الاستخارة بالصلاة والدعاء المذكور، وتكون الصلاة ركعتين من النافلة، والظاهر أنها تحصل بركعتين من السنن الرواتب، وبتحية المسجد، وغيرها من النوافل).
قال الحافظ ابن حجر: (قوله "من غير الفريضة" فيه احتراز عن صلاة الصبح مثلاً، ويحتمل أن يُراد بالفريضة عينها، وما يتعلق بها، فيحترز عن الراتبة كركعتي الفجر مثلاً.
وعلق على ما قاله النووي: كذا أطلق وفيه نظر، ويظهر أن يقال: إن نوى تلك الصلاة بعينها، وصلاة الاستخارة معاً أجزأ، بخلاف ما إذا لم ينو.
إلى أن قال: ويبعد الإجزاء لمن عرض له طلب بعد فراغ الصلاة، لأن ظاهر الخبر أن تقع الصلاة والدعاء بعد وجود إرادة الأمر).
وقال الشيخ العثيمين: (ولا يقال دعاء الاستخارة إذا صلى تحية المسجد أوالراتبة ولم ينوه من قبل، لأن الحديث صريح بطلب صلاة الركعتين من أجل الاستخارة، فإذا صلاهما بغير هذه النية لم يحصل الامتثال.
وأما إذا نوى الاستخارة قبل التحية والراتبة، ثم دعا بدعاء الاستخارة، فظاهر الحديث أن ذلك يجزئه لقوله: "فليركع ركعتين من غير الفريضة"، فإنه لم يستثن سوى الفريضة، ويحتمل أن لا يجزئه، لأن قوله: "إذا همَّ فليركع" يدل على أنه لا سبب لهاتين الركعتين سوى الاستخارة، والأولى عندي أن يركع ركعتين مستقلتين، لأن هذا الاحتمال قائم، وتخصيص الفريضة بالاستثناء قد يكون المراد به أن يتطوع بركعتين، فكأنه قال: فليتطوع بركعتين، والله أعلم).
الراجح والله أعلم أن يستخير المرء عقب ركعتين مستقلتين لذلك، وإن نوى الاستخارة قبل الشروع في نافلة راتبة أومقيدة فله ذلك.
ما يقرأ في ركعتي الاستخارة بعد الفاتحة
استحب بعض أهل العلم أن يقرأ في ركعتي الاستخارة بعد الفاتحة في الأولى بالكافرون، وفي الثانية بالإخلاص، وإن قرأ بما تيسر له جاز ذلك.
قال النووي في الأذكار: (ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة: قل يا أيها الكافرون، وفي الثانية: قل هو الله أحد).(9/354)
وقال الحافظ في الفتح: (وأفاد النووي أن يقرأ في الركعتين الكافرون والإخلاص، قال شيخنا في "شرح الترمذي": لم أقف على دليل ذلك، ولعله ألحقهما بركعتي الفجر والركعتين بعد المغرب، قال: ولهما مناسبة بالحال لما فيهما من الإخلاص والتوحيد، والمستخير محتاج لذلك، قال شيخنا: ومن المناسب أن يقرأ فيهما مثل قوله: "وربك يخلق ما يشاء ويختار"، وقوله: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللهُ ورسولُه أمراً أن يكون لهم الخيرة"، قلت: والأكمل أن يقرأ في كل منهما السورة والآية الأوليين في الأولى والأخريين في الثانية).
دعاء الاستخارة يكون بعد التشهد أم بعد السلام؟
قولان لأهل العلم:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (فلو دعا به في أثناء الصلاة احتمل الإجزاء، ويحتمل الترتيب على تقديم الشروع في الصلاة قبل الدعاء، أن المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة، فيحتاج إلى قرع باب الملك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح من الصلاة، لما فيها من تعظيم الله، والثناء عليه، والافتقار إليه مآلاً وحالاً).
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية: (دعاء الاستخارة يكون بعد التسليم من صلاة الاستخارة).
الذي يترجح لدي والله أعلم أن الأفضل أن يكون دعاء الاستخارة بعد السلام، ولو دعا به بعد التشهد لا يبعد، ويستحب أن يفتتحه بحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يختمه.
قال النووي رحمه الله: (ويستحب افتتاح الدعاء المذكور وختمه بالحمد لله والصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم).
السُّنة أن يسمي حاجته
المتسخير يسمي حاجته في نهاية الدعاء لقوله صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث: "ويسمي حاجته"، وفي رواية: "ثم يسميه بعينه"، وإن نواها ولم ينطق بها هل يجزئه ذلك؟ محتمل.
قال الحافظ ابن حجر: (وظاهر سياقه أن ينطق به، ويحتمل أن يكتفي باستحضاره بقلبه عند الدعاء، وعلى الأول تكون التسمية بعد الدعاء، وعلى الثاني تكون الجملة حالية، والتقدير فليدع مسمياً حاجته).
ما يفعله المستخير بعد الاستخارة
بعد الاستخارة لا تخرج حال المستخير عن ثلاث حالات، هي:
الأولى: قد يطمئن المستخير لأحد الأمرين، ويحدث هذا بأحد طريقين:
1. إما أن ينشرح صدره لذلك ويطمئن.
2. وإما أن يرى رؤيا حسنة.
الثانية: قد يظل في حيرة من أمره، ففي هذه الحال عليه أن يكرر الاستخارة مرات ومرات، فقد استخار أبوبكر رضي الله عنه عندما أراد جمع القرآن كله في مصحف واحد شهراً كاملاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، وليس في عدد مرات الاستخارة حد، وقد ورد في ذلك حديث لا تقوم به الحجة أنه يستخير سبع مرات.
الثالثة: قد يستخير عدة مرات ولا يستبين له ترجيح أحد الأمرين على الآخر، فعليه في هذه الحالة أن يستشير أهل الفضل والصلاح من ذوي الاختصاص، ثم يتوكل على الله، ويشرع فيما أشير به عليه، ولا يتردد، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار" الحديث، وكما أن الاستشارة مشروعة قبل الاستخارة فكذلك تشرع بعدها.
قال الإمام النووي رحمه الله: (واعلم انه يستحب لمن همَّ بأمر أن يشاور فيه من يثق بدينه، وخبرته، وحذقه، ونصيحته، وورعه، وشفقته، ويستحب أن يشاور جماعة بالصفة المذكورة ويستكثر منهم، ويعرِّفهم مقصوده من ذلك الأمر، ويبين لهم ما فيه من مصلحة ومفسدة إن علم شيئاً من ذلك، ويتأكد الأمر بالمشاورة في حق ولاة الأمور العامة، كالسلطان، والقاضي، ونحوهما).
المستشار مؤتمن
المستشار مؤتمن، فعليه أن يتقي الله ويجتهد ويجد في نصح من استشاره، وليحذر خداع وغش من استشاره، فإن هذا من حق المسلم لأخيه المسلم: "فإذا استنصحك فانصح له" الحديث.
الرضا بما اختاره الله
على العبد بعد الاستشارة والاستخارة أن يقدم على ما ترجح لديه نفعه، وعليه أن لا يتردد، فقد روي عن وهب بن منبه قال: قال داود عليه السلام: "يارب، أيُّ عبادك أبغض إليك؟ قال: عبد استخارني في أمر فخرت له فلم يرض".
فإذا استخار الله عز وجل فعليه أن لا يفعل ما ينشرح إليه صدره مما كان له فيه هوى ورغبة قبل الاستخارة، لأنه في هذه الحالة لم يصنع شيئاً بالاستخارة، وإنما فعل ما كان يهواه.
قال الحافظ ابن حجر: (والمعتمد أنه لا يفعل ما ينشرح به صدره مما كان له فيه هوى قوي قبل الاستخارة، وفي ذلك الإشارة بقوله في آخر حديث أبي سعيد: "ولا حول ولا قوة إلا بالله").
الحذر الحذر من "الخيرة" وما يعرف "بفتح الكتاب"(9/355)
الاستخارة هي الطريقة الوحيدة لمن تردد في مصلحة أومضرة أمر من الأمور، ولم يستبن له رجحان أحدهما على الآخر، أما ما يفعله بعض الناس مما يعرف "بالخيرة"، بأن يرقد له بعض المشايخ بالخيرة، أويطلب من بعضهم أن "يفتح له الكتاب"، فهذا العمل ليس له أصل في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُؤثر عن علم من أعلام المسلمين المقتدى بهم، وإنما هو من جرب بعض المشعوذين، فينبغي للمسلم أن لا يفعله، ولا يعتقد فيه، وهو من باب الكهانة، وقد نهينا عن إتيان الكهان: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد"، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
واعلم أخي الكريم أن الخير كل الخير في الاتباع، والشر كل الشر في الابتداع في الدين ما لم ينزل به سلطاناً، ورحم الله مالكاً حيث كان كثيراً ما ينشد:
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع
اللهم خر لنا واختر لنا، ورضِّنا بما قسمت لنا.
00000000000000000000
لقد أخطأت إسْتُكَ الحفرةَ يا شيخ الأزهر!!
"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم
واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون"
وقال صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة" – أهل السنن
استنكر واستهجن المؤمنون الأخيار الأغيار كلام شيخ الأزهر بحضرة المسؤول الفرنسي الكافر قبل أيام، استنكاراً واستهجاناً شديدين، القاضي بعدم وجوب الحجاب على المسلمات المقيمات في فرنسا وغيرها من ديار الكفر بحجة أن قوانين تلك البلاد لا تسمح بذلك، وهي قوانين هوائية تعدَّل حسب الأهواء والمصالح.
وبادئ ذي بدء نقول: إن مثل هذه الفتاوى المشبوهة المشؤومة لا تحل حراماً ولا تحرم حلالاً، إلا أنها تعطي الكفار مستنداً غير شرعي يرفعونه في وجوه الملتزمين هناك، وتباعد بين قائلها وبين الأخيار، ومن فضل الله على هذه الأمة أنها لا تجتمع على ضلال، فقد اعترض على كلام شيخ الأزهر جل المشايخ الحاضرين، واستنكروا وصرحوا بذلك جزاهم الله خيراً، وذلك لأن الحجاب واجب على المسلمة سواء كانت في دار الإسلام أودار الكفر، بل وجوبه عليها في دار الكفر أكبر، للتفسق، والتحلل، والإباحية، والبهيمية التي يتمتع بها أهل تلك البلاد، فهم كالأنعام بل هم أضل.
ومما يجب التنبيه إليه والتحذير منه أن العيش في بلاد الكفر لا يحل إلا لمضطر لم يجد بلداً من بلاد المسلمين يأويه، وأن الهجرة لا تحل إليها، بل يجب على المسلمين فيها أن يهاجروا إلى بلاد الإسلام إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ومما يؤسف له أن البلاد الإسلامية لا تسمح بهجرة كثير من هؤلاء إليها، بينما يسمح لهم الكفار ويرحبون بهم، ولا فرق في ذلك لمن هدفه الدعوة أوالدنيا.
هذه الفتوى الخاطئة الخاسرة إما أن تكون صدرت من شيخ الأزهر نتيجة جهل، وفي هذه الحال نقول له كما قال عمر لمن هو خير من ملء الأرض منه، الصحابي البدري قدَامَة بن مظعون رضي الله عنه، عندما أخطأ في تأويل قوله تعالى: "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا.." الآية، فظن أن الخمر حلال له: "أخطأت إستُك الحفرة"، ثم أمر الحاضرين من الصحابة أن يردوا عليه خطأه، فلا تستغرب وتستنكر أخي الكريم هذه المقولة، فقد قالها من هو خير مني لمن هو خير من شيخ الأزهر كما قلت.
أوصدرت نتيجة هوى ومجاملة للزائر الكافر، فنقول له ونبشره بما قاله وبشر به الرسول صلى الله عليه وسلم من يسلكون هذا المسلك: "من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة" الحديث، أوكما قال، ونبشره كذلك بما بشر به ربنا أحبار السوء الكاتمين للحق: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون".
ولله در عبد الله بن المبارك العالم المجاهد حين قال:
وهل افسد الدينَ إلا الملوكُ وأحبارُ سوء ورهبانُها؟!
ففساد الدين بسبب هذه الأصناف الثلاثة: الحكام الظلمة، وعلماء السوء، والعُبَّاد الضالين المبتدعين.
ونذكِّر كذلك شيخ الأزهر أن هذه الفتوى لن تضر إلا قائلها، ونقول له على لسان الفتيات والنساء المتحجبات في تلك الديار لمن يعتقد أن مثل هذه الفتاوى تحول دون الحجاب الذي أمرنا به ربنا ورسولنا، والتزمت به أمهات المؤمنين، والصحابيات، وجميع المسلمات الصالحات: "امصص بظر اللات"، ولا تستنكر هذه المقولة كذلك أخي القارئ، فقد قالها أبو بكر الصديق، وهو خير مني، لعروة بن مسعود وهو خير من شيخ الأزهر، عندما اتهم عروةُ الصحابة بأنهم سيفرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركونه في الحديبية.(9/356)
ومن عجيب أمر هذا الشيخ، وأمره كله عجب، تأكيده لزلته هذه بقوله: "من حقهم – ثلاثاً – أن يمنعوا الحجاب!!"، ألا يعلم أنه ليس لمخلوق حق مؤمناً كان أم كافراً إلا أن يتبع شرع محمد صلى الله عليه وسلم، وما يصنعه الكفار والمتفلتون من المسلمين ظلم بيِّن لأنفسهم.
وأخيراً نقول لشيخ الأزهر، سيد طنطاوي، سامحه الله: لقد نافقتَ في فتواك، وأغضبتَ ربك ومولاك، وخنتَ من ائتمنك وولاك من المسلمين، ولو كانوا راضين بمقولتك هذه، لأن كل من عصى الله فهو جاهل، وخذلتَ المؤمنين، ونصرتَ الكافرين، والمنافقين، والإباحيين، وبُؤتَ بوزرك ووزر من يقلدك في ذلك، حيث لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً.
عليك أن تتقي الله في نفسك أولاً، وفي هذه المشيخة والمسلمين ثانياً، وعليك أن تبادر بتخطئة نفسك، فالرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة وأي رذيلة؟ فإنك إن كنت أرضيت مسؤوليك فقد أغضبتَ ربك، ورسولك، والمؤمنين.
فقد روى الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها وقد بعثت به إلى معاوية رضي الله عنه، ترفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أرضى اللهَ بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس"، وفي لفظ: "رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً"، وفي لفظ: "عاد حامدُه من الناس ذاماً".
وثمة أمر لا أحسب أن شيخ الأزهر يجهله، وإلا تكون تلك مصيبة أخطر وأكبر من هذه الطامة التي جاء بها، وهي أن الضرورة التي تبيح المحظور هي القتل أوالتعذيب الشديد، وحتى في مثل هذه الحال فالثبات على المبادئ أولى من الأخذ بالرخصة، ونحن نعلم أن من يخالف هذا القانون الجائر إما أن يُمنع من الدراسة، وهذه قد تكون نعمة وليست نقمة، وغاية ما هناك أن يرحل، وفي ذلك والله خير كثير.
وقبل هذا وذاك نقول كما قال ربنا: "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً".
وكلنا يعلم أن معاملة الحكام الكفار للمسلمين أفضل من معاملة حكام المسلمين لكثير من إخوانهم المسلمين، وأن القوانين والمحاكم عند الكفار أرحم بالمسلمين في بعض الأمور منها في البلاد الإسلامية، ولهذا فمن يرد الكفار الانتقام منه والمكر به يحاكمونه خارج بلادهم في البلاد الإسلامية وغيرها، وبغير قوانينهم، نحو مكرهم وعزمهم على محاكمة صدام بالعراق.
وأخيراً أحب أن أذكر نفسي وشيخ الأزهر وغيره من العلماء وطلاب العلم الشرعي أن العلماء والحكام مثلهما كمثل الملح، فإذا فسد الملح فما الذي يصلحه؟!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والسلام
0000000000000000000
المحافظة على رمم وجيف الكفار الهالكين، وعلى الأصنام، وعلى آثارهم مخلفاتهم عمل جاهلي وثني
"لقد أعزنا الله بالإسلام فمن أراد العزة في غيره أذله الله"
لا غرابة أن يهتم الكفار ويحافظوا على جيف ورمم الهالكين من أسلافهم، وعلى الأصنام، حماية للوثنية ودفاعاً عن الشرك، والجاهلية.
ولا غرابة كذلك أن تغضب أمريكا راعية الكفر وحلفاؤها من الكفار على حكومة الطالبان عندما شرعت في هدم وتحطيم صنم بوذا.
ولكن العجيب الغريب أن يذهب وفد من العلماء لإثناء تلك الحكومة الراشدة عن ذلك، لأن ما قامت به كان من أوجب واجبات الحاكم، وهو حماية جناب التوحيد، وهو من أجل أعمالهم التي قاموا بها في عهدهم الراشد.
ما فعله الطالبان بـ"بوذا" فعله أسلافهم الفاتحون الأول.
روى الطبري وابن كثير رحمهما الله أن قتيبة بن مسلم رحمه الله عندما فتح مدينة سمرقند ودخلها بُني له فيها مسجد، فصلى فيه، وأتي بالأصنام فسلبت، ثم وضعت بين يديه، فكانت كالقصر العظيم حين جمعت، فأمر بتحريقها، فقالت الأعاجم: إن فيها أصناماً من حرقها هلك؛ فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي؛ فجاء "غورك" فجثا بين يديه، وقال: أيها الأمير إن شكرك عليَّ واجب، لا تعرض لهذه الأصنام؛ فدعا قتيبة بالنار، وأخذ شعلة بيده، فخرج وكبر ثم أشعلها وأشعل الناس، فاضطرمته، فوجدوا من بقايا ما كان فيها من مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال.
لقد قلد كثير من المسلمين الكفار، وتشبهوا بهم في كل شيء، في حماية الوثنيات القديمة، والمحافظة على رمم وجيف الهالكين والأصنام والتماثيل، وفي إنشاء وزارات للسياحة تعنى بما يعتني به الكفار، ومتاحف، ومعاهد لدراسة حضارات الكفار، وإنفاق الأموال الطائلة في ذلك.
كما قلت لا يعجب الإنسان كثيراً من اهتمام أمريكا، وأذنابها، والمنظمات التي تدور في فلكها أن يكونوا هم المسؤولون الأول عن جميع الأصنام، وجيف الكفار في سائر العالم، إلى درجة أن مصر لا تستطيع أن تتصرف في شيء من أصنامها إلا تحت رعاية تلك المنظمات.
ولكن العجب كل العجب من المسلمين في سلوكهم لهذا المسلك المشين، وتقليدهم وتشبههم بالكافرين، ويتمثل ذلك في الآتي:
1. أن تنقل مصر صنماً من أصنامها بطائرة خاصة إلى إيطاليا لترميمه هناك.(9/357)
2. وأن تكون مدائن صالح في شمال المملكة العربية السعودية منطقة سياحية يؤمها الأساتذة والطلاب وغيرهم في العطل، وتهيأ لاستقبالهم، وتعنى بها الدولة، وهي من مناطق العذاب التي لا ينبغي لأحد أن يدخلها إلا وهو باكٍ، وفي غزوة تبوك – جيش العسرة – عندما أخذ بعض المسلمين ماءً من آبارها من غير علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا في غاية الضيق والعطش، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريقوا ما أخذوه من ماء، وأن يتخلصوا من الأطعمة التي صنعوها بهذا الماء.
3. أن ينازع ويجادل البعض في هل أصل ومنبع الحضارة النوبية السودان أم مصر؟
4. أن يُنْشأ معهد لرعاية وحماية جيف الفراعنة وأصنامهم وآثارهم في البجراوية، ومروي، ودنقلا، وغيرها في السودان، وأن تبنى الاستراحات وتحمى تلك الرمم، وتفتخر مصلحة الآثار بأنها تمكنت من القبض على من يريدون سرقة جيفة من تلك الجيف!
5. أن تطمئن الحكومة المصرية – متمثلة في وزارة السياحة – حكومة إيران بأنها ستقوم بترميم وصيانة ما أصاب الأصنام في مدينة "بم" التي ضربها الزلزال فوراً.
هذه مجرد أمثلة، وما غاب عني وما لم أذكره أضعاف ما ذكرته.
ونحن نسأل أليس من الأولى أن تنفق هذه الأموال الطائلة على الأحياء المحتاجين من المسلمين؟ هل ترميم أصنام "بم" أولى من بناء مساكن لآلاف الأسر التي تسكن في المقابر في القاهرة، والتي تسكن في درج بعض العمائر؟
وهل حماية جيف الفراعنة وأصنامهم في البجراوية ومروي ودنقلا وغيرها في السودان أولى من حفر آبار للأعراب الذين لا يجدون ما يشربون ويغتسلون به ويغسلون به أمواتهم في بعض مناطق السودان؟
ألم يعلم المسؤلون أن الأحياء أولى من الأموات ولو كانوا مسلمين؟ ألم يأمر أبو بكر أن يكفَّن في ثوبيه اللذين مات فيهما وأن يشترى له ثوب واحد، وقال: "الحي أولى بالجديد من الميت، إنما هو للدود"؟ قل لي بربك كم غرفة تبنيها تكلفة بناء قبة على جيفة من الجيف عندنا في السودان وغيره؟ أواستراحة أقيمت عند هذه الأصنام والأوثان؟
أرجو أن تقارن أخي الكريم بين اهتمام حكام المسلمين اليوم وحرصهم على المحافظة على جيف ورمم الكفار، والأصنام، وآثار الحضارات الوثنية، وما أمر به عمر أن يفعل بجثة دانيال عليه السلام، لتعلم الفرق الشاسع والبون الواسع بيننا وبين أسلافنا.
لما فتح المسلمون "تُسْتَر" التي يسميها العجم "شُشْتَر" وجدوا عندها قبراً عظيماً، قالوا: إنه قبر دانيال؛ ووجدوا عنده مصحفاً، قال أبو العالية: أنا قرأت ذلك المصحف، فإذا فيه أخباركم، وسيرُكم، ولحون كلامكم؛ وشموا من القبر رائحة طيبة، ووجدوا الميت بحاله لم يُبْل، فكتب في ذلك أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب، فأمره أن يحفر بالنهار عشر قبراً، فإذا كان الليل دفنه في قبر من تلك القبور، ليخفى أثره، لئلا يفتتن به الناس، فينزلون به، ويصلون عنده، ويتخذونه مسجداً.
وثمة شيء آخر، ما للمسلم وللحضارات الوثنية؟! ألم يغضب الرسول صلى الله عليه وسلم على عمر عندما جاءه بصحيفة من التوراة غضباً شديداً؟ ألم يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء يقربنا من الجنة ويباعد بيننا وبين النار؟
رضي الله عن لبيد، ذلكم الشاعر المسلم المخضرم، الذي عاش مائة وعشرين سنة، ستين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام، عندما طلب منه عمر أن يكتب له شيئاً من شعره، كتب له سورة البقرة وآل عمران، وفي رواية قال له: إن الله أبدلني خيراً منه؛ وكذلك لم تقل الخنساء شعراً بعد إسلامها، وهما من فحول الشعراء.
جل المسلمين اليوم يجهلون أوجب الواجبات عليهم نحو ربهم، ورسولهم، ودينهم، ولا يعرفون شيئاً عن الغزوات، ولا الفتوح الإسلامية، ولا الأبطال المسلمين، أليس من الأولى أن ندرسهم ذلك ونعلمهم إياه؟ رحم الله أخانا العبد الصالح الشيخ عبد الرحيم عمر، عندما هلك "جيفارا" وأقام الشيوعيون الدنيا ولم يقعدوها في جامعة الخرطوم، فسأله أحد الإخوة مداعباً له: هل تعرف "جيفارا"؟ فقال: لا أعرفه ولا أريد أن أعرفه، هل أنا أ عرف جميع الصحابة؟!
اللهم إنا نسألك أن تردنا إليك رداً جميلاً، وأن تستعملنا في طاعتك، وأن تشغلنا بمعرفتك ومعرفة رسولك ودينك، والسلام
0000000000000000000
تغيير المناهج الذنب الذي لا يُغتفر، والخطر المحدق
ليس للمسؤولين عن التعليم في معظم البلاد الإسلامية هذه الأيام شغل وهم سوى تغيير المناهج الدينية، وتعديل الكتب الدراسية، لتتمشى مع الخطة الأمريكية، ولتخدم أهداف الحرب الصليبية العسكرية، والثقافية، والتعليمية، والإعلامية، والاجتماعية، وقد صدرت التعليمات إلى حكام المسلمين، وكررت التحذيرات لهم، ولهذا فهم يتسابقون في ذلك ويتنافسون ولا يستحيون.
ما كنا نظن والله أن يصل الذل والهوان بالمسلمين، ويستكين حكامهم للكافرين، حتى يتدخلوا في أخص خصائصهم، وفي قراراتهم السيادية.(9/358)
ما كنا نظن أن تبلغ الجرأة بالكفار أن يأمروا حكام المسلمين أن يحذفوا من المقررات الدينية كل آية أوحديث أو أثر يتكلم عن الجهاد، أوعن الولاء والبراء، أوفيه لعن لليهود والنصارى الملعونين على ألسنة الأنبياء والمرسلين إلى يوم الدين، في كتاب الله المبين: "لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون".
أوأن يتحكم الكفار ويأمروا بإغلاق العديد من المدارس والمعاهد الدينية داخل البلاد الإسلامية في باكستان والسعودية وغيرهما.
أوأن يتدخلوا في مصارف الزكوات والصدقات، فيحرموا منها من شاءوا من أصحابها الذين بينهم ربنا في كتابه الكريم، بحجة تجفيف منابع الإرهاب، وما علم هؤلاء أن أمثال هذه التصرفات تولد أصنافاً من الإرهاب، لا يعلم مداه إلا الله والراسخون في العلم.
ما كنا نظن أن الأمر يصل إلى أن يتدخل الكفار عن طريق إخوانهم المنافقين في عزل ومنع بعض الخطباء والمدرسين من الخطب والتدريس، وتعيين آخرين لا يكون لهم أدنى تأثير إلا التأثير السلبي.
بل ما كنا نصدق أن بعض أئمة المساجد منعوا عن القنوت والدعاء على الكفار.
ما كنا نتخيل أن يكون لأحفاد القردة والخنازير من اليهود والصليبين الكلمة الأولى والأخيرة في مصير العالم الإسلامي قبل غيره.
كل هذا وغيره حدث بسبب الغفلة وتخلي المسلمين عن دينهم، وبسبب اشتغالهم بخلافاتهم الداخلية، وتعلقهم بمصالحهم الدنيوية، وبركونهم إلى الدنيا، وبإسناد الأمر إلى غير أهله، وبترك التناصح والأمر والنهي، وبتمكين الفكر الإرجائي والصوفي، وبالتهاون في أمر العقيدة والسلوك، وصدق الله العظيم: "من يُهن الله فما له من مكرم"، "إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
وصدق القائل:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
لقد نسي حكام المسلمين قبل الكفار أن أمر هذا الكون بيد الله عز وجل، وأن الله يُمهل ولا يُهمل، وأن الحكم لله يؤتيه من يشاء ويصرفه عمن يشاء، وأن الله غالب على أمره، وأن العاقبة للتقوى، وأنه لن تزول قدما عبد عن الصراط حتى يُسأل عن كل ما جنته يداه، وخطاه بنانه، ونطقه بلسانه.
اللهم اصرف عنا كيد الأشرار، واحفظنا من فتن الليل والنهار، ولا تجعل للكافرين والمنافقين علينا وعلى المؤمنين سبيلاً، ولا تؤاخذنا بما كسبت أيدين
0000000000000000000000
الأدلة الشرعية والحجج القوية في تحريم مصافحة المرأة الأجنبية:
"لأن يُطعن أحدكم بمِخْيَط من حديد في رأسه خيرٌ له من أن يمس امرأة لا تحل له"
حديث رواته ثقات
الأدلة على حرمة مصافحة الأجنبية
قَسَمُ عائشة رضي الله عنها وتأكيدها على عدم مصافحته صلى الله عليه وسلم في البيعة يدل على ردها لآثار وشبه واهية في جواز المصافحة
عدم المصافحة ليست من خصائصه صلى الله عليه وسلم
كيف ومتى يسلم على النساء؟
الخلاصة
لقد شاع في كثير من مجتمعات المسلمين في العصورالمتأخرة بسبب الجهل، والاستعمار، والتعليم المدني، والإعلام الموجه، كثير من المخالفات الشرعية، من تلك المخالفات ما يتعلق بالمرأة، نحو الدعوة إلى تحريرها، وخروجها من بيتها، والمطالبة بحقها السياسي، واختلاطها بالرجال، والتهاون في مصافحة الرجال الأجانب لها، ودخول الرجال على النساء، والاختلاط بهن، والانبساط معهن، على الرغم من نهي الإسلام الصحيح الصريح عن كل ذلك وغيره.
من الأمور التي عمت بها البلوى في مجتمعنا السوداني خاصة، وغيره من المجتمعات الأخرى، مصافحة المرأة الأجنبية، سيما لو كانت زميلة للرجال في العمل أوالدراسة، أوجارة في السكن، أوقريبة، لغير محارمها.
وأسوأ من المصافحة التهاون والتساهل فيها، ومقابلة ومواجهة من لا يصافح من الرجال والنساء بالإزدراء والاستهجان، والنيل منهم، والشين لهم، واعتبار بعض النساء، أن الذي لا يصافحهن فقد أهانهن وجرح كرامتهن، وخدش وطعن في أنوثتهن، بل زين الشيطان لهؤلاء أن المانع لمن لا يصافح سوء النية وسواد الطوية، وإلا لو كانت نيته سليمة وقلبه أبيض لما امتنع عن ذلك، وأن العفه في القلب، فالعفيف عفيف ولو عانق دعك أن يصافح.
وقد تعجبت كثيراً ممن تجاوز المصافحة باليد إلى السلام بالحضن والمعانقة بين من لا يجتمعان إلا في آدم وحواء عليهما السلام، من الموظفين، والطلاب، والعاملين في مصلحة واحدة، ونسي هؤلاء أن الإسلام يحكم بالظاهر ولا يلتفت إلى السرائر التي لا يملك علمها إلا صاحبها وخالقها، فلا مكان لسلامة القلب وخبثه، ولا داعي لاتهام النيات، والتطاول على الأبرياء والبريئات، وانتهاك الحرمات بمثل هذه الحجج الواهيات.
فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما حذر من الدخول على النساء الأجنبيات، بقوله: "إياكم والدخول على النساء"، لم يستثن من ذلك سليمي النيات من غيرهم، وهل هناك أبرُّ قلوباً وأطهر نفوساً من الصحابة الذين خوطبوا بذلك؟!(9/359)
الدافع لهذه الاتهامات، والمبرر لارتكاب تلك المحظورات هو الجهل والغرور، ومن العجائب الغرائب أن يخوَّن الأمين ويؤتمن الخائن، ويجرح الملتزم ويمدح المتهاون، ويشكر المتفلت ويذم المتعفف عن ذلك.
وبعد..
فإليك أخي المسلم وأختي المسلمة الأدلة الشرعية والحجج القوية على حرمة مصافحة المرأة الأجنبية، لتكونا على بينة من هذا الأمر، نصيحة لله، ولرسوله، ولدينه، ولعامة المسلمين والمسلمات، لعلها تجد أذناً صاغية، وآذاناً واعية، وقلوباً سالمة من الشبه، ولنعلم أي القولين أرجح، وأي الطريقين أفلح، طريقة المحرِّمين للمصافحة، أم المجيزين لها الحاملين على من خالفهم في ذلك؟
الأدلة على حرمة مصافحة الأجنبية
الأول: عدم مصافحته صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم، وهو ولي لكل نساء العالمين للمبايعات له على الإسلام، ولو جازت المصافحة للأجنبية لجازت في هذه الحال، ولما لم يجزها صلى الله عليه وسلم في البيعة فعدم جوازها فيما سواها أولى وأحرى.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمتحن بقول الله عز وجل: "يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولايزنين.." إلى آخر الآية.
قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقن فقد بايعتن؛ ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، غير أنه بايعنه بالكلام.
قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمره الله تعالى، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن كلاماً".
قال الندوي في شرح الحديث السابق: (فيه أن بيعة النساء بالكلام، من غير أخذ كف، وفيه أن بيعة الرجال بأخذ الكف).
وفي رواية لعروة عن عائشة عند البخاري: "فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاماً؛ ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة".
وعن أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها قالت: "أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: "أن لا يشركن بالله شيئاً.." الآية، وقال: فيما استطعتن وأطقتن؛ قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا؛ قلنا: يا رسول الله: ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة".
الثاني: التحذير من ملامسة المرأة ومصافحتها: عن معقل بن يسار رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمِخْيَط من حديد خير له من أن يمس امرأة أجنبية".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرْج ويكذبه".
قَسَمُ عائشة رضي الله عنها وتأكيدها على عدم مصافحته صلى الله عليه وسلم في البيعة يدل على ردها لآثار وشبه واهية في جواز المصافحة
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على قسم عائشة وتأكيدها ونفيها لعدم مصافحته صلى الله عليه وسلم لامرأة أجنبية ولا في البيعة، مشيراً لقولها: "ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة: (كأن عائشة رضي الله عنها أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية رضي الله عنها).
ثم أورد عدداً من الآثار بعضها واهٍ، وبعضها مرسل، وبعضها مبهم، وليس فيها شيء يقاوم ما صح عن عائشة، وأميمة، ومعقل بن يسار رضي الله عنهم، وليس فيها كذلك ما يدل على أنه لامس أوصافح.
والآثار هي
1. ما عند ابن خزيمة، وابن حبان، والبزار، والطبري، وابن مردويه، عن طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة، قالت: "فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللهم اشهد".
2. وفي رواية عنها قالت: "قبضت منا امرأة يدها".
الشبهة التي يثيرها البعض من قبض هذه المرأة ليدها "أي ولم يقبض سائر النساء"، وينفي هذا هذا الفهم الخاطئ قَسَمُ عائشة وقولُ أميمة، وسبب قبض هذه المرأة ليدها عندما نهاهن صلى الله عليه وسلم عن النياحة، فاستدركت واستفسرت هذه المرأة الصادقة قائلة: "فلانة أسعدتني -أي أنها بكت معي ميتاً لي- وأنا أريد أن أكافئها بالبكاء على ميتها"، والبكاء بالدمع من غير نياحة جائز.
قال ابن حجر معلقاً على هذين الخبرين: (فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن، ويمكن الجواب عن الأول بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة، وإن لم تقع المصافحة، وعن الثاني: أن المراد بالقبض التأخر عن القبول، أوكانت المبايعة تقع بحائل).(9/360)
3. روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بايع النساء أتى ببُرْد قطري فوضعه على يده وقال: إني لا أصافح النساء".
4. وعند عبد الرزاق من طريق إبراهيم النخعي مرسلاً نحوه.
5. وعند سعيد بن منصور من طريق قيس بن أبي حازم كذلك.
قلت: ما في الصحيح الصريح المرفوع غنى عن هذه المراسيل المقطوعة المبهمة، هذا بجانب ما فيها من التكلف الذي ينافي هديه صلى الله عليه وسلم.
6. وأخرج ابن إسحاق في المغازي من رواية يونس بن بُكَيْر عنه عن إبان بن صالح أنه صلى الله عليه وسلم: "كان يغمس يده في إناء وتغمس يدها فيه".
قلت هذا الخبر على ما فيه من التعسف والكلفة ومخالفة السنة، لا يمكن أن يورد معارضاً للأخبار الصحيحة الصريحة.
روى كذلك الحافظ نور الدين الهيثمي رحمه الله عدداً من الآثار الضعيفة والواهية في هذا الشأن، وواحداً مقبولاً ولكنه ليس في موضع النزاع، نذكر طرفاً منها حتى لا يغتر بهاأحد.
7. عن أم عطية قالت: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلم عليهن فرددن السلام، فقال: أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن، فقلن: مرحباً برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: تبايعن على ألا تشركن بالله شيئاً، ولاتسرقن، ولاتزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف؛ قلن: نعم؛ فمد عمر يده من خارج الباب، ومددن أيديهن من داخل، ثم قال: اللهم اشهد؛ وأمر أن يخرج في العيدين الحيض والعتق، ونهينا عن اتباع الجنائز، ولا جمعة علينا، فسألته عن البهتان، وعن قوله: ولا يعصينك في معروف؛ قال: هي النياحة".
قلت: ليس هذا الأثر في موضع النزاع، وليس فيه أن عمر رضي الله عنه صافحهن، ولكن مد يده وهو خارج الباب، ومددن أيديهن وهن داخل الدار، وتلى عليهن مفردات البيعة، وأشهد الله على ذلك.
8. وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يصافح النساء من تحت الثوب".
9. وعن عروة بن مسعود الثقفي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده الماء، فإذا بايع النساء غمسن أيديهن في الماء".
عدم المصافحة ليست من خصائصه صلى الله عليه وسلم
يرفع البعض شبهة أخرى، وهي أن تحريم مصافحة المرأة الأجنبية من خصائصه صلى الله عليه وسلم، وهذا من باب التدليس، إذ أن خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم معلومة ومعروفة، وقد أفردت بمصنفات، وكتب عنها، فلم يشر واحد من أهل العلم إلى إدخال المصافحة في ذلك، مما يدل على أن هذه مجرد شبهة الغرض منها التدليس والتلبيس على العوام، فالخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح صريح.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله وهو يتكلم عن المصافحة، وعن أنها حسنة وسنة: (.. ويستثنى من عموم الأمر بالمصافحة المرأة الأجنبية والأمرد الحسن).
كيف ومتى يسلم على النساء؟
المرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، والنساء إما محارم وإما أجنبيات بالنسبة للرجل.
فالمحارم يسلم عليهن ويصافحهن كما يصافح الرجال، أما الأجنبيات: فيجوز السلام عليهن مجتمعات، أما الواحدة فإن كانت مُتَجَالَّة، أوأمِن الفتنة، أوكانت من أهله وأقاربه ومعارفه سلم عليها.
وكيفية سلام الرجال أوالرجال على المرأة والنساء الأجنبيات أن يلوي أحدهم يده بالتسليم ويتلفظ به من غير مباشرة ولا مصافحة.
الأدلة على ذلك
عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: "مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فسَلَّم علينا".
وفي رواية للترمذي عن أسماء كذلك: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوماً وعصبة من النساء قعود، فألوى يده بالتسليم".
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كانت فينا امرأة"، وفي رواية: "كانت لنا عجوز، تأخذ من أصول السلق فتطرحه في القدر وتكرر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا نسلم عليها فتقدمه لنا".
وعن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو يغتسل، وفاطمة تستره، فسلمت".
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على نسوة فسلم عليهن".
أقوال العلماء في ذلك
قال الإمام النووي رحمه الله: (قال أصحابنا ـ الشافعيةـ : والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل، وأما المرأة مع الرجل فقال الإمام أبو سعيد المتولي: إن كانت زوجته، أوجاريته، أومحرماً من محارمه فهي معه كالرجل، فيستحب لكل واحد منهما ابتداء الآخر بالسلام، ويجب على الآخر رد السلام عليه، وإن كانت أجنبية فإن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لم يسلم الرجل عليها، ولو سلم لم يجز لها رد الجواب، ولم تسلم هي عليه ابتداء، فإن سلمت لم تستحق جواباً، فإن أجابها كُره له، وإن كانت عجوزاً لا يفتن بها جاز أن تسلم على الرجال، وعلى الرجل أن يسلم عليها.(9/361)
وإذا كانت النساء جمعاً فيسلم عليهن الرجل، أوكان الرجال جمعاً كثيراً فسلموا على المرأة الواحدة جاز، إذا لم يخف عليه ولا عليهن الفتنة، ولا عليها وعليهن فتنة).
وقال الشيخ صديق حسن خان رحمه الله وهو يتكلم عن الفروق بين الرجل والمرأة: (ومنها أنها لا تبتدئ شابة بسلام وتعزية، ومنها أنها لا تجاب ولاتشمت، قال الحموي: يعني أنها لو بدأت بالسلام قيل عليه في باب "البزازية" ما يدل على أنه يجيبها بصوت غير مسموع، وعبارته: امرأة عطست أوسلمت شمتها ورد عليها لو عجوزاً بصوت يسمع، وإن شابة بصوت لا يسمع، انتهى. وفي "خزانة المفتين": وإذا عطست امرأة فلا بأس بتشميتها إلا أن تكون شابة يرد عليها سراً في نفسه انتهى.
إلى أن قال موجهاً للكلام السابق: سلام الشابة غير مسنون بل منهي عنه، لما في ذلك من الفتنة، فلا يجب رده فضلاً عن أن يشترط فيه الإسماع، وإن أبيح له أن يرد عليها بصوت لا يسمع لأن السلام تحية أهل الإسلام فيباح له الرد عليها بصوت لا يسمع رعاية لحق الإسلام والله أعلم).
وقال المقدم في كتابه "عودة الحجاب" القسم الثالث وهو من الكتب النافعة المفيدة في هذا الجانب: (ومن تساهل في مصافحة النساء، واحتج بطهارة قلبه، وسلامة نيته، وأنه لا يتأثر بذلك فإنه ينادي على نفسه بنقص الرجولة، وهو كذاب في دعواه طهارة قلبه وسلامة نيته، وهذا أطهر ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وأخوفهم لله، وأرعاهم لحدوده، يقول وهو المعصوم: "لا أمس أيدي النساء"، ويقول: "إني لا أصافح النساء"، ويمتنع عن ذلك حتى في وقت البيعة الذي يقضي عادة المصافحة، فكيف يباح لغيره من الرجال مصافحة النساء مع أن الشهوة فيهم غالبة، والفتنة غير مأمونة، والشيطان يجري منهم مجرى الدم؟! كيف وقد قال تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً").
الخلاصة
ذهب الناس في مصافحة الأجنبية ثلاثة مذاهب: وسط وطرفي نقيض، يمثل طرفي النقيض المتمسكون بالعادات والأعراف والتقاليد، وهم صنفان:
أحدهما: لا يصافح محرمة عليه أوأجنبية، لا أختاً، ولا عمة، ولا غيرهما من المحارم، ومن باب أولى الأجنبيات، بسبب الجهل، وتقليداً وتمسكاً ببعض العادات والتقاليد القبلية، وهم كم هائل من المسلمون في إفريقيا وآسيا.
الثاني: يصافح كل النساء، لا يميز بين محارمه والأجنبيات، بل انبساطه مع الأجنبيات أكثر، بسبب الجهل كذلك، وتمشياً مع العادات والتقاليد السائدة في المجتمع، وبسبب التعليم المدني، وتقليداً للكفار، وتمشياً مع الدعوات التحررية، وهؤلاء صنفان كذلك: مقلد للآباء والأجداد، وسافر متحرر من القيود الشرعية.
أما الوسط فهم الملتزمون بهدي نبيهم وسنته صلى الله عليه وسلم، فيصافحون من كان يصافح، ويسلمون بالكلام لمن كان لا يصافحهن، فالحسنة بين سوأتين، وهم الوسط بين أهل الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير، كثر الله سوادهم، وثبتهم على الحق والسنة، وما ذهبوا إليه هو الحق الذي تؤيده النصوص الصريحة الصحيحة، وهو الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والسلف العظام، والخلف العقلاء، الممتثلين لسنة خير الأنام.
فعجلا أخي وأختي المتهاونين في المصافحة بالتوبة والاستغفار، قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وتجتمع عليكما سكرة الموت وحسرة الفوت، واحذرا أن تكونا عبيداً للعادات، ومقلدين للكفار، واعلما أنكما لن تقويا على أن تُطعنا بكل مصافحة واحدة في رأسيكما بمخيط من حديد، هذا إذا كنتما موقنين أن رسولكما لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وإن كنتما موقنين بالجنة والنار، وأنه لن تزول قدماكما حتى تسألا عن كل مخالفاتكما الشرعية، وتأكدا أنه لا فرق في حرمة المصافحة بين غريبة وقريبة، وجارة وبعيدة، وزميلة وغير زميلة، فالكل سواء.
واعلم أخي المسلم كذلك أن الحرج الذي ليس بعده حرج مخالفة الأوامر الشرعية، وانتهاك الحدود والآداب المرعية، وأن ما تعانيه من حرج وصدود بسبب الامتناع عن المصافحة في أول الأمر لا يساوي شيئاً بالنسبة لما ينتظرك من الحرج، والتثريب، والتعذيب، والطعن، فانظر أي الأمرين أيسر؟ وأي الحرجين أخف؟ واختر لنفسك ما فيه صلاحها، وتيقن أن رضا الناس غاية لا تنال، وأن رضا العامة لا ينال إلا بغضب الجبار.
واعلمي اختي المسلمة أن الذي لا يصافحك مكرم معز لك، وأن الذي يصافحك مذل مهين لك، علم بذلك أم لم يعلم، وتذكري قول ربك: "الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين"، فاحذري أصدقاء الدنيا أعداء الآخرة.
وفقني الله وإياك أخي المسلم وأختي المسلمة لما يحب ويرضى، وقَسَم لنا من الخشية ما يحول بيننا وبين معاصيه، وختم لنا بخير، وجعل عاقبة أمورنا كلها إلى خير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الناصح الأمين، وعلى آله وأصحابه أئمة الدين، وعلى من تبعهم بإحسان وتأسى بهم إلى أن تكتمل العدتان.
00000000000000(9/362)
المنافقون اليوم أكثر عدداً، وأعظم خطراً وشراً من المنافقين الماضين، أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإخوانهم اليوم يعلنون نفاقهم
كثرة المنافقين ووفرتهم في الماضي والحاضر
كذب دعوى بعض المرجئة أنه ليس في هذه الأمة نفاق بعد العهد النبوي
أسباب كثرة المنافقين وظهورهم في هذا العصر
أخطر أدوار المنافقين في حرب الإسلام والمسلمين في هذا العصر ووسائلهم في ذلك
لا ولن تبتلى الأمة الإسلامية قط، في ماضيها ولا حاضرها ولا في مستقبلها، بأخطر من النفاق والمنافقين، فالمنافقون أعظم ضرراً وأكثر خطراً وأدوم مصيبة على الإسلام والمسلمين من إخوانهم الكافرين، لأنهم من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، ويرفعون شعاراتنا، ويتظاهرون بإسلامنا، وينتمون إلى جماعاتنا وفرقنا، ومع ذلك لا يفتُرون ولا ييأسون من الكيد لنا، ويتعاونون مع أعدائنا، ويوالونهم أكثر من موالاة المسلمين، لهذا فقد حذر الله ورسوله والمؤمنون من خطرهم، ونبهوا على ضررهم، وأمروا بأخذ الحيطة والحذر منهم، ويدل على ذلك ما يأتي:
1. أن الحديث عن النفاق والمنافقين ورد في القرآن في سبع عشرة سورة مدنية من جملة ثلاثين سورة، واستغرق ذلك قرابة ثلاثمائة وأربعين آية، حتى قال ابن القيم رحمه الله: (كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم).
2. خوف الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته من أئمتهم، فعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي منافق عليم اللسان".
قال المناوي رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: (كل منافق عليم اللسان، أي عالم للعلم، منطلق اللسان به، لكنه جاهل القلب والعمل، فاسد العقيدة، مغرٍ للناس بشقاشقه وتفحصه وتقعره في الكلام).
3. خوف السلف الصالح على أنفسهم من النفاق.
o فقد قال عمر لحذيفة ـ أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين رضي الله عنهما: ناشدتك بالله هل سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم؟ فقال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً.
o وكان أبو الدرداء يكثر التعوذ في صلاته بعد تشهده من النفاق، فقيل له: ومالك يا أبا الدرداء أنت والنفاق؟ فقال: دعنا عنك، فوالله إن الرجل ليقلب عن دينه في الساعة الواحدة فيخرج منه.
o وقال ابن أبي مليكة ووهو من كبار التابعين: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه.
o وقال الحسن البصري رحمه الله: ما خافه ـ أي النفاق ـ إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق.
o وقيل لأحمد: ما تقول فيمن لا يخاف النفاق على نفسه؟ فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟
وسبب ذلك كما قال ابن القيم رحمه الله: (إن بلية الإسلام بالمنافقين شديدة جداً، لأنهم منسوبون إليه وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وصلاح، وهو غاية الجهل والفساد، فلله كم من معقل للإسلام هدموه؟ وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه؟ وكم من علم له قد طمسوه؟ فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، يزعمون أنهم بذلك مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
كثرة المنافقين ووفرتهم في الماضي والحاضر
كان المنافقون بقسميهم ـ نفاق الاعتقاد والعمل ـ ولا يزالون في الماضي والحاضر أكثر من المؤمنين، ويزداد عددهم ويعظم خطرهم كلما مضى الزمان، وضعف الإيمان، وقويت شوكة الكفار، مما يدل على كثرة المنافقين ووفرة عددهم حتى في القرون الفاضلة أن حذيفة رضي الله عنه سمع رجلاً يقول: اللهم أهلك المنافقين؛ فقال: "يا ابن أخي، لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك".
وقال الحسن البصري أيضاً رحمه الله: "لولا المنافقون لاستوحشتم في الطرقات".
وقال ابن القيم رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم، لكثرتهم على ظهر الأرض، وفي أجواف القبور، فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات وتتعطل بهم أسباب المعايش، وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات".
إذا لم ينج من هذا الداء العضال والمرض البطال بعض العلماء والمتنسكة في الماضي فكيف بغيرهم وبمن بعدهم؟ قال الحافظ الذهبي رحمه الله في شأن الحلاج: (فهو صوفي الزي والظاهر، متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل، كما كان جماعة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم منتسبون إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن مردة المنافقين، قد لا يعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعلم بهم، قال تعالى: "ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم"، فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم بعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته).
كذب دعوى بعض المرجئة أنه ليس في هذه الأمة نفاق بعد العهد النبوي(9/363)
الآثار التي ذكرناها عن حذيفة، والحسن، وأحمد رحمهم الله فيها تكذيب للدعوى الباطلة والشبهة الخاسرة التي يرفعها بعض المرجئة، وهي نفيهم لوجود النفاق في هذه الأمة، وإنما كان النفاق في العهد الأول فقط، أما اليوم فلا نفاق، وإنما كفر وإيمان فقط.
وقصروا قوله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها" الحديث في المنافقين الأولين، وبرأوا من هم شر منهم، انتصاراً لمذهبهم واغتراراً ببدعتهم، حيث يشهدون على كل من نطق بالشهادتين أنه مؤمن كامل الإيمان، وأن إيمانه مثل إيمان جبريل وميكائيل!!
وقد رد السلف الصالح على هؤلاء المرجئة قولهم هذا، وأنكروا عليهم أشد الإنكار، وشنعوا بهم، واعتبروا بدعة الإرجاء صنواً لبدعة الخروج.
قيل للحسن البصري: "إن قوماً يزعمون أن لا نفاق، ولا يخافون النفاق؛ فقال: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من طلاع الأرض ذهباً".
وقال سفيان الثوري رحمه الله: "خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث؛ وذكر منها: نحن نقول النفاق، وهم يقولون لا نفاق".
وجاء رجل من المرجئة إلى أيوب السختياني رحمه الله فقال: "إنما هو الكفر والإيمان؛ فقال أيوب: أرأيت قوله: "وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم"، أمؤمنون هم أم كفار؟ فسكت الرجل، فقال أيوب: اذهب فاقرأ القرآن، فكل آية في القرآن فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي".
بل إن حذيفة رضي الله عنه اعتبر المنافقين التالين أشر من السابقين، فقال: "المنافقون الذين فيكم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإن هؤلاء يعلنون".
لهذا عد بعض أهل العلم بدعة الإرجاء أخطر من بدعة الخروج، وكلاهما خطر.
قال الزهري رحمه الله: "ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه"، يعني أهل الإرجاء.
وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: "المرجئة أخوف عندي على الإسلام من عدتهم من الأزارقة"، والأزارقة شر فرق الخوارج.
وقال سعيد بن جبير رحمه الله: "مثل المرجئة مثل الصابئين".
وقال الأوزاعي رحمه الله: قد كان يحيى وقتادة يقولان: "ليس في الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء".
وذلك لأنهم لا يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، بل يقولون: لا يضر مع الإيمان -أي مجرد النطق بالشهادتين- معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
قد يقول قائل: ما تقولون فيما خرَّج البخاري عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: "إنما كان النفاق على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان"؟ نقول لهم ما بينه الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: (والذي يظهر أن حذيفة لم يرد نفي الوقوع -أي وقوع النفاق- وإنما أراد نفي اتفاق الحكم، لأن النفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ووجود ذلك ممكن في كل عصر، وإنما اختلف الحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألفهم ويقبل ما أظهروه من الإسلام، ولو ظهر منهم احتمال خلافه، وأما بعده فمن أظهر شيئاً فإنه يؤاخذ به ولا يترك لمصلحة التألف، لعدم الاحتياج إلى ذلك).
ويؤيد ما قاله الحافظ الآثار العديدة عن حذيفة رضي الله عنه التي بين فيها كثرة المنافقين في عهده، وحذر من خطورتهم.
أسباب كثرة المنافقين وظهورهم في هذا العصر
الأسباب التي أدت إلى وفرة المنافقين وظهورهم وعظيم خطرهم في هذا العصر أكثر من ذي قبل، كثيرة جداً، نشير إلى طرف منها، فنقول من ذلك:
1. تفشي الفكر الصوفي في معظم بلاد الإسلام.
2. تفشي الفكر الإرجائي من غير انتساب إليه.
3. تفشي الفكر الاعتزالي كذلك من غير انتساب إليه.
وذلك لتسرب هذه الأفكار الخطيرة إلى المسلمين عن طريق المدرسة التي نسبت إلى الإصلاح، التي أنشأها محمد عبده، حيث أفرزت الكثير من الأفكار الاعتزالية، متمثلة في تجسيم وتعظيم دور العقل، وجعله الحَكَم على كثير من النصوص التي توقع المنهزمين في حرج مع الكفار، وكذلك أفرزت بعض عقائد المرجئة.
4. فساد العقيدة، وانتشار كثير من الممارسات الشركية والبدع، حتى اعتبرت من أصل الدين.
5. تفشي الجهل في الأمة بسبب هيمنة التعليم اللاديني، وإنشاء الكثير من المعاهد والجامعات على غرار المعاهد والجامعات عند الكفار.
6. إقصاء الإسلام عن معظم مناحي الحياة، وحكم المسلمين بالقوانين الوضعية المستمدة من القانون الفرنسي وغيره.
7. ضعف عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، الذي نتج من الأسباب السابقة الذكر، وعقيدة الولاء والبراء هي صمام الأمان لهذه الأمة.
8. تقدم الكفار العسكري والاقتصادي والمدني حبَّب للمسلمين الجهلة المغلوبين على أمرهم تقليد الكفار والتشبه بهم.
9. السياسة التي انتهجها الكفار بعد أن قضوا على الدولة العثمانية، وتقاسموها مستعمرات فيما بينهم -فرِّق تسد- وسعت دائرة الخلاف بين المسلمين.(9/364)
10. هيمنة الكفار على أنظمة الحكم في جل البلاد الإسلامية.
11. حرص كثير من حكام المسلمين على كراسي الحكم، ولو أدى ذلك إلى إقصاء الإسلام بالكلية.
12. غياب فريضتي الجهاد -جهاد الطلب والدفاع- والأمر بالمعروف عن الأمة.
13. تضخيم دور الإعلام الكافر جعل الإعلام في بلاد الإسلام عبارة عن بوق لما تنشره وسائل الإعلام الكافرة.
14. حرب المصطلحات التي أفلح فيها الكفار أدت إلى تغيير كثير من المفاهيم، وزعزت كثيراً من المسلمات عند المسلمين.
15. سيطرة المنافقين على وسائل الإعلام في البلاد الإسلامية قاطبة، وحجب الأخيار عن ذلك، حيث لا يفتح لغيرهم إلا لمن اطمأنوا أنه لا للإسلام الخالص ناصر، ولا للكافرين والمنافقين والزنادقة كاسر.
16. الحرب الصليبية التي شنتها أمريكا وأذيالها وعملاؤها على الإسلام وفي كل المجالات في آخر القرن الماضي وأول الحالي، وهيمنتها على المؤسسات الدولية، وعلى الحكومات الإسلامية وغيرها، زاد من جرأتهم ورفع عقيرتهم ومجاهرتهم بمحاربة الإسلام.
أخطر أدوار المنافقين في حرب الإسلام والمسلمين في هذا العصر ووسائلهم في ذلك
ما من مجال يكون فيه ضرب للإسلام وإضعاف لأهله إلا ونجد للمنافقين المتظاهرين بالإسلام في هذا العصر أوفر الحظ والنصيب، كانت المجالات التي يسلكها المنافقون لضرب الإسلام ومحاولة القضاء عليه كلما وجدوا سانحة ولا تزال هي:
1. التخذيل للمسلمين والتهوين من شر أعداء الدين.
2. الإشاعات المغرضة.
3. التجسس على المسلمين ومد الأعداء بما يعينهم على ذلك.
4. الإعلام لتغيير المفاهيم، والتشكيك في المسلمات، وزرع الخوف في نفوس الضعفاء.
5. موالاة الكفار ومعاداة أهل الإسلام.
كل هذه المجالات سلكها المنافقون في الماضي، ولكن زاد عليها منافقو هذا العصر مجالات أخر لم تخطر ببال إخوانهم وسلفهم الطالح، ألا وهي:
6. القتال والتخطيط والتعاون على ذلك جنباً إلى جنب مع الكفار، من غير خوف ولا وجل ولا حياء، مبررين لذلك بتبريرات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تخطر على بال الشيطان.
7. إعلان حربهم ومجاهرتهم بعدائهم للإسلام والمسلمين، بينما كان شيوخهم عبدا السوء ابن سلول، وابن سبأ، ومن والاهما يستترون من الناس، ويستحيون بعض الشيء، ولكن منافقي اليوم نُزِع الحياء من قلوبهم بسبب اطمئنانهم وتقويهم بالكفار.
الأدلة على ما ذكر لا تحصى كثرة، ولكن سنكتفي بالتمثيل لدور المنافقين في حربهم ضد الإسلام والمسلمين في جانب واحد ولقطاع واحد من قطاعاتهم العديدة، وجوانبهم الكثيرة، الا وهو الجانب الإعلامي، حيث يقوم المنافقون بحملات مسعورة لطمس الحقائق، ولتزوير الوقائع، وللتشكيك في المسلمات، والطعن في الثوابت، والتلبيس والتدليس على العامة، ويتمثل هذا الدور أصدق تمثيل في الآتي:
1. تقسيم الإسلام إلى إسلام سياسي وإسلام غير سياسي، والتركيز على أن الإسلام السياسي هذا من صنع الحركات الإسلامية، ولا وجود له في الدين، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض نفاقاً، وإلا فجلهم لا يؤمن بجميع الكتاب، ويصورون للعامة أن الإسلام السياسي محدث، وشن حملة شرسة ضد الحركات الإسلامية، مع التركيز على بعض الرموز.
2. تحرير المرأة من القيود الشرعية حتى تنطلق كما انطلقت أختها في الغرب، وتخرج من بيتها سافرة متبرجة لتكون لقمة سائغة للذئاب البشرية، زاعمين حرصهم على المرأة، لتتمكن من الحصول على حقها السياسي، ولتساوي الرجل، ولتنزع الحجاب، ولتختلط بالرجال، فالنساء شقائق الرجال، فلِمَ يخص الرجل بوظائف والمرأة بوظائف أخرى؟ هذا من نسج خيال الأصوليين المتطرفين.
3. الدعوة إلى مساواة الأديان والاعتراف بالأديان المحرفة المنسوخة، ووضعها على قدم المساواة مع الإسلام، والتوحيد بين أتباعها تحت مظلة الحزب الإبراهيمي، إذ الجميع مؤمنون، ومن ثم الدعوة إلى التعايش السلمي بين أتباع هذه الأديان، وذلك على أساس "النسبية الثقافية"، وعدم هيمنة ثقافة واحدة على الثقافات الأخرى، ويعنون بالثقافة الواحدة الإسلام، أما أن تهيمن الثقافة المادية الكافرة علىجميع الثقافات فهذا لا غبار عليه ولا خطر فيه.
4. السعي إلى إباحة الردة وإنكار حدها، حتى يتسنى لهم ما يهوون مصداقاً لقول الله عز وجل: "بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يسأل أيان يوم القيامة".
5. القضاء على عقيدة الولاء والبراء، لأنها تفرق ولا تجمع بين البشر.
6. محاولة شطب مفهوم الجهاد من قاموس المسلمين، والتدليل على أن الإسلام لم ينشر بحد السيف، ورداً لقوله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة".
7. القضاء على ما تبقى من أثارة من شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
8. التدخل السافر والدعوة الماكرة لإصلاح المناهج والمقررات، حتى تؤتي ثمارها، وتقضي على ما تبقى عند المسلمين من نخوة ورجولة واعتداد بهذا الدين.(9/365)
9. التبرير لما تقوم به أمريكا في حربها الصليبية المتعددة الجوانب والأهداف لإذلال المسلمين وإضعافهم، عن طريق غزو البلاد الإسلامية واستعمارها وإشاعة الرعب والفوضى في ربوعها.
10. إظهار أن أمريكا قوة لا تقهر، وأن المسلمين لا قبل لهم بها، ولهذا عليهم أن يستسلموا لها ويخضعوا لسيطرتها.
هذه مجرد أمثلة لما يقوم به المنافقون بألوانهم المختلفة، ونكهاتهم المتعددة في الجانب الإعلامي، بغرض القضاء على الإسلام، واستسلاماً للقطب الأوحد والطاغوت الأكبر، دعك عن الجوانب الأخرى.
فعلى المسلمين أن يحذروا مكر هؤلاء، وتدليسهم، وتخطيطهم، وعليهم أن يواجهوا هذا التخريب والإفساد بحزم وعزم وشدة، وبرجوع صادق إلى شرع الله المصطفى، وبتوحيد الجهود وتنسيق العمل، وبنبذ الخلافات، وتغيير ما بهم من ضعف واستكانة وخذلان، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وليعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الضيق بعده الفرج، وأن الأمر بيد الله، وأن الله غالب على أمره، وناصر لمن نصره، ومتولٍ لمن تولاه، وخاذل لمن عاداه وخالف أمره.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفتن والفواحش والآثام، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وصل اللهم على محمد خير الأنام، وآله وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
000000000000000000000
لا حوار مع الكفار في سوى التخيير بين الإسلام، والجزية، والقتال
محاورة معاذ بن جبل رضي الله عنه مع زعماء الروم في فتح بلاد الشام
محاورة أبي عبيدة رضي الله عنه مع رسول الروم
محاورة عبادة بن الصامت رضي الله عنه للمقوقس
مخاطر الحوار مع الكفار في غير الخصال الثلاث
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
عندما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم جزيرة العرب، ودخل كافة أهلها في دين الإسلام، وتشرفوا وعزوا وأكرموا بالانتساب إلى ملة خير الأنام، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه إلى كافة ملوك الدنيا ورؤسائها المحيطين بالجزيرة في ذلك الوقت يدعوهم إلى الإسلام، فمنهم من أجاب، ومنهم من أذعن وهادن، ومنهم من استكبر واستنكف ومزق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشقاهم كسرى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمزق ملكه، وأن تدك دولته، وأن يخسر آخرته، فكان ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد دُكت هذه الدولة المجوسية، ودخل أهل فارس في دين الإسلام كما دخل غيرهم عندما رُفعت راية الجهاد ـ جهاد الطلب ـ وخرج المسلمون فاتحين، ومبشرين، وناصحين للبشرية، في تبوك وما تلتها من الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين، ولم تزل هذه السنة الحميدة ماضية في المسلمين في عهد الدولتين الأموية والعباسية وما تلاهما، استجابة لأمر ربهم: "انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله"، وطلباً للتجارة الرابحة، وحرصاً على السلعة الغالية: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين".
وهروباً من النفاق ومن الميتة الجاهلية، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق"، وفي رواية عن أبي أمامة: "من لم يغز، أويجهز غازياً، أويخلف غازياً في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة".
هكذا كان حال المسلمين إلى أن أسقطت الدول العثمانية، بعد تكالب اليهود، والنصارى، والمنافقين عليها، وقسِّمت إلى دويلات فيما بينهم، وجثم الكفار على صدر الأمة، وعملوا على تغيير هويتها، وإذابة شخصيتها، والإخلال بعقيدتها، والتشكيك في مسلماتها، ولهذا استبدل البعض الذي هو أدنى بالذي هو خير، ورضوا بالدنية في دينهم، وطلبوا العز في غيره فأذلهم الله.
فقد استبدلوا الحوار مع الكفار، والتعايش السلمي معهم، والتشبه بهم، وموالاتهم، برفع راية الجهاد، والاعتداد بهذا الدين، والتبرؤ من الكفار، وعمل فيهم الإعلام الكافر والموجه عمله، فتغيرت الموازين، وتبدلت المفاهيم، فأضحى جهاد المدافعين عن أوطانهم ودينهم إرهاباً، واغتصاب الكفار لديار الإسلام وقتل الأبرياء والآمنين منهم عملاً مشروعاً، وسخروا عملاءهم في الداخل والخارج لتحقيق أهدافهم، ومنهم كثير من بني جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، ويرفعون شعاراتنا، بعد أن فرقوا بين المسلمين، وزرعوا الشك وسوء الظن بينهم، وصدقت فيهم نبوءة رسولهم: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها"، قالوا: أمن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: "لا، ولكن غثاء كغثاء السيل".(9/366)
ونسوا أوتناسوا أوجهلوا أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما لم يكن في ذاك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً، وأن رضا الكفار لا ينال إلا بالانسلاخ من دين الإسلام، وأن موالاة الله ورسوله والمؤمنين لا تجتمع في قلب واحد مع موالاة وممالأة الكافرين.
الأدلة على أن الحوار مع الكفار لا يكون إلا في الاختيار بين أحد ثلاث خيارات، هي: الإسلام، أوالجزية، أوالقتال، من الكتاب، والسنة، وسيرة السلف الصالح كثيرة، نورد منها ما تيسر:
قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".
وقوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كما في صحيح مسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ـ إلى قوله: فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون".
وبهذه الخصال خيَّر قواد المسلمين في الفتوحات الإسلامية الأولى أبو عبيدة، وعبادة بن الصامت، ومعاذ بن جبل، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم وغيرهم الكفار، ولم يتعد حوارهم ذلك أبداً، وكان لهم ما أرادوا، وإليك نماذج من ذلك:
محاورة معاذ بن جبل رضي الله عنه مع زعماء الروم في فتح بلاد الشام
طلب زعماء الروم من أبي عبيدة أن يرسل إليهم رجلاً ليعرفوا حاجة المسلمين، فأرسل إليهم أبو عبيدة معاذ بن جبل وكان ذلك في سنة 13 هـ، قبل معركة اليرموك.
قال معاذ لترجمانهم: افهم عني أن أول ما أنا ذاكر حمد الله الذي لا إله إلا هو، والصلاة على محمد نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن أول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بالله وحده وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن تصلوا صلاتنا، وتستقبلوا قبلتنا، وأن تستنوا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وتكسروا الصليب، وتجتنبوا شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ثم أنتم منا ونحن منكم، وأنتم إخواننا في ديننا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فأدوا الجزية إلينا في كل عام وأنتم صاغرون، ونكف عنكم، وإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شيء مما خلق الله عز وجل نحن قابلوه منكم، فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، فهذا ما نأمركم به وندعوكم إليه.
فلما فرغ معاذ من خطابه قالوا: ما نرى بيننا وبينك إلا متباعداً، وهذه خصلة نحن نعرضها عليكم، فإن قبلتموها منا فهو خير لكم، وإن أبيتم فهو شر لكم، نعطيكم البلقاء وما إلى أرضكم من سواد الأرض، وتنحَّوا عن بقية أرضنا وعن مدائننا، ونكتب لكم كتاباً نسمي فيه خياركم وصلحاءكم.
فقال معاذ: هذا الذي عرضتم علينا وتعطونه كله في أيدينا، ولو أعطيتمونا جميع ما في أيديكم مما لم نظهر عليه ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاث التي وصفت لكم ما فعلنا.
فغضبوا عند ذلك، وقالوا: نتقرب إليك وتتباعد عنا؟ اذهب إلى أصحابك، إنا لنرجوا أن نفرقكم في الجبال غداً.
فقال معاذ: أما الجبال فلا، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا، أولنخرجنكم من أرضكم أذلة وأنتم صاغرون، فانصرف معاذ إلى أبي عبيدة فأخبره بما قالوا، وبما رد عليهم.
محاورة أبي عبيدة رضي الله عنه مع رسول الروم
ثم بعثوا إلى أبي عبيدة رجلاً يخبر به عنهم قالوا: إنك بعثت إلينا رجلاً لا يقبل النَّصَف، ولا يريد الصلح، ولا ندري أعن رأيك ذلك أم لا، وإنا نريد أن نبعث إليك رجلاً منا يعرض عليك النَّصَف. فقال لهم أبو عبيدة: ابعثوا من شئتم.
عندما وصل رسولهم قام أبو عبيدة فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الله بعث فينا رسولاً نبياً، وأنزل علينا كتاباً حكيماً، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادة ربهم، رحمة منه للعالمين.
إلى أن قال: وأمرنا رسولنا فقال: إذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله، وبالإقرار بما جاء به من عند الله عز وجل، فمن آمن وصدَّق فهو أخوكم في دينكم، له ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية حتى يؤدوها عن يد وهم صاغرون، فإن أبوا أن يؤمنوا أويؤدوا الجزية فاقتلوهم وقاتلوهم، فإن قتيلكم المحتسب بنفسه شهيد عند الله، وهو في جنات النعيم، وقتيل عدوكم في النار.
فإن قبلتم ما سمعتم مني فهو لكم، وإن أبيتم ذلك فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
محاورة عبادة بن الصامت رضي الله عنه للمقوقس(9/367)
طلب المقوقس من عمرو بن العاص رضي الله عنه رسولاً يفاوضه، فأرسل إليه عبادة بن الصامت رضي الله عنه وآخرين، وكان عبادة أسود قصيراً، وأمره أن لا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الثلاث، وقال: إن أمير المؤمنين قد تقدم إليَّ في ذلك، وأمرني أن لا أقبل شيئاً إلا خصلة من هذه الثلاث خصال، وهي: الإسلام، أودفع الجزية، وإلا فالقتال؛ فالتزم عبادة بوصية أميره أبي عبيدة.
هذه هي الخصال التي ينبغي أن يحاور فيها المسلمون الكفار، ليختاروا ما يرونه، أما ما سوى ذلك فلا مجال للحوار.
هذا إن كان للمسلمين قوة ومنعة وعدة على ذلك، وإلا فعليهم أن يعدّوا لذلك العدة، وأن يغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم، كما فعل أسلافهم في حرب التتار، وحرب الصليبيين، شيخُ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه، وصلاحُ الدين الأيوبي وأسلافه.
فهل يا ترى سيلتزم المحاورون الآن للكفار بهذه الخصال، وليس لهم قدرة عليها ولا شأن بها؟ أم أن الحوار يتركز على محاولة إيقاف جهاد الدفاع المشروع الذي يمارسه المستضعفون من المسلمين في كثير من بلاد الدنيا، وعلى كيفية التعايش السلمي بين المسلمين والكفار، وعلى تطبيع العلاقات وتحسينها بين الدول الإسلامية والكافرة؟! أم لدفع تهمة الإرهاب عن الإسلام، التي أشاعها الكفار عن المسلمين زوراً وبهتاناً؟ وكما قيل: رمتني بدائها وانسلت!!
مخاطر الحوار مع الكفار في غير الخصال الثلاث
1. إزالة ما تبقى من عقيدة الولاء والبراء التي هي أساس هذا الدين.
2. خذلان إخواننا المجاهدين عن دينهم وأرضهم وعرضهم في كل من فلسطين، والعراق، وأفغانستان، والشيشان، وكشمير، والفلبين، وغيرها من البلاد.
3. تنكيس راية الجهاد بنوعيه: جهاد الطلب الذي هو أساس الجهاد، وجهاد الدفاع الذي هو الوسيلة الوحيدة لرد الحقوق إلى أهلها.
4 . تشجيع ظاهرة الغلو والتطرف لدى الشباب.
5. زعزعة الثقة أوانعدامها لدى طائفة كبيرة من الشباب في هؤلاء المحاورين، وفي ذلك خسارة كبيرة.
6. توسيع دائرة الخلاف في الأمة الإسلامية.
7. الاعتراف بالأديان المنسوخة والمبدلة كاليهودية والنصرانية، والتسوية بينها وبين الدين الناسخ للأديان، الإسلام.
8 . المستفيد الأول من هذه الدعوات التقريبية بين الأديان هم الكفار، والخاسرون هم المسلمون.
9. الدعوة إلى المساواة بين الأديان المبدلة والإسلام بأي صورة من الصور من الدعوات الإنسانية التي تسعى لتجميع الخلق على غير الدين، وهي دعوة كفرية.
10 . التشكيك في كفر اليهود والنصارى ناقض من نواقض الإسلام.
11. الغرض من هذه الحوارات أن يكف الكفار أذاهم عن المسلمين ويرضوا عنهم، وهذه غاية لا تنال بنص القرآن إلا بالانسلاخ عن الإسلام: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم".
وأخيراً أحب أن أذكر أننا لا نشك قط في نوايا الداعين والمشاركين في هذه المؤتمرات والحوارات، بأن هدفهم من ذلك رفع العناء والضغط عن المسلمين، ودفع الشبه التي يرفعها أعداء الإسلام ضد الإسلام والمسلمين، لكن كم من طالب أمر لم يصبه؟ وراج رجاء فأخطأه، وصدق النية وحده لا يكفي، فلابد من موافقة ذلك لما جاء به الشارع الحكيم، ولهذا ننصح جميع إخواننا المسلمين بعدم الدعوة والمشاركة في هذه المؤتمرات والحوارات، لما فيها من الأضرار والمخالفات الشرعية.
والله أسأل أن يردنا وجميع إخواننا المسلمين إلى الحق رداً جميلاً، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، ويجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان أمر رشد يعز به أهل الطاعة، ويذل فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكرن، اللهم ارفع علم الجهاد، وأهلِك أهل الكفر، والفسق، والعناد، وانشر رحمتك وأمنك على العباد.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى أتباعهم ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
بمناسبة مؤتمر "الإسلام والغرب في عالم متغير"
الذي عقد في الخرطوم السبت 19 شوال 1424ه
000000000000000000000000
عدم نظر الكريم المنان لمسبل الأزر، والثياب، والسراويل، والقمصان
جر الإزار خُيلاء كبيرة من الكبائر، ويمنع من نظر المولى للعبد، ويحتاج إلى توبة
الإسبال يكون في كل الملابس
حكم الإسبال
الإسبال حرام، سواء كان فعله بطراً أم عادة وجهلاً
الحالات التي يجوز فيها الإسبال
الحالات التي يجوز فيها الإسبال
حكم وضوء وصلاة المسبل
الخلاصة(9/368)
الحمد لله الذي أمرنا بالاقتداء والتأسي بالأنبياء وأتباعهم، وحذرنا من التشبه بالكفرة، والفجرة، والفاسقين، فقال: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر"، وقال: "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله... لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد"، ورضي الله عن ابن مسعود حين قال ناصحاً لإخوانه المسلمين من التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا فضلهم، واتبعوهم في أقوالهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على صراط مستقيم".
اعلم أخي الكريم أن أحب الكلام كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، واعلم كذلك أن الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة كما أخبر الصادق المصدوق.
وما من هدي ولا سمت أفضل ولا أحسن ولا أكرم ولا أصلح من هدي وسمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، ومن تبعهم بإحسان من الأنام.
من هذا السمت الصالح والهدي الفالح تعاهد الأزر، والقمصان، والسراويل، والعمائم، والأكمام، ألا تزيد وتتجاوز على ما كان عليه هدي سيد ولد عدنان، (وكان هديه في لبسه لما يلبسه، أنفع شيء للبدن، فإنه لم يكن يطيل أكمامه ويوسعها، بل كان كم قميصه إلى الرُّسْغ، لا تجاوز اليد، فتشق على لابسها، وتمنعه خفة الحركة والبطش، ولا تقصُرُ عن هذه فتبرز للحر والبرد.
وكان ذيل قميصه وإزاره إلى أنصاف الساقين، لم يتجاوز الكعبين، فيؤذي الماشي ويؤوده، ويجعله كالمقيد، ولم يقصر عن عضلة ساقه فتنكشف فيتأذى بالحر والبرد.
ولم تكن عمامته بالكبيرة التي يؤذي الرأس حملها ويضعفه، ويجعله عُرضة للضعف والآفات كما يشاهد من حال أصحابها، ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد، بل وسط بين ذلك).
ومن عجيب أمر غالبية الذكران من المسلمين تهاونهم في أمر تواترت فيه الأحاديث والسنن تواتراً معنوياً، وزاد عدد رواتها عن ست وعشرين صحابياً، وورد فيه من التحذير والتغليظ الشيء الكثير، نحو: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً"، و"ما أسفل من الكعبين فهو في النار"، و"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم"، وذكر منهم: "المسبل".
وأعجب من إسبال الرجال، تشمير بعض النساء عن سوقهن بعد الإسفار عن شعورهن ووجوهن، وقد أمرن بإسبال ذيولهن ذراعاً، مخالفات بذلك أمر رسولهن، ومخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح تورد المهالك، قال تعالى: "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم"، قال الإمام أحمد: (الفتنة الشرك، لعله إن ترك بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك)، ومخالفات لما سنته لهن هاجر أم إسماعيل عليها السلام، كما ذكر ذلك الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في "الاستذكار": (أول امرأة جَرَّت ذيلها هاجر أم إسماعيل عليه السلام)، فقد عكسن الآية كما يقولون.
ولله در أمنا أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها، ما أطهرها وأعفها، عندما خشيت أن يكون التشمير عاماً للرجال والنساء استفسرت عن ذلك في الحال، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جرَّ ثوبه خُيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال: "يرخين شبراً، فقالت: إذاً تنكشف أقدامهن، فقال: يرخينه ذراعاً لا يزدن عليه".
وبعد..
فهذا بحث عن الإسبال في اللباس، عن حكمه للرجال والنساء، وعن الحالات التي يباح فيها الإسبال، وعن أدلته، وهل هناك فرق بين من يصنعه تكبراً وخيلاء وبين من يفعله عادة وتقليداً؟ وعن مذاهب أهل العلم في حكم وضوء وصلاة المسبل، وما يتعلق بذلك.
والله أسأل أن يرزقنا الصدق والإخلاص، وأن يوفقنا للاتباع، وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكره إلينا وإلى جميع المسلمين الكفر والفسوق والعصيان، وصلى الله وسلم وبارك على أفضل الرسل والنبيان، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديهم واتبع رضاهم.
الإسبال يكون في كل الملابس
الإسبال يكون في جميع ما يلبسه الرجال، سيما في الآتي:
1. الإزار.
2. القميص، الثوب، الجلباب.
3. الكم.
4. السراويل.
5. لعمامة.
6. العباءة، المشلح.
قال صلى الله عليه وسلم: "الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة" .
القدر المستحب والجائز الذي يصل إليه حد الثوب في الإزار، والقميص، والسراويل يختلف من نوع إلى آخر فيما فوق الكعبين، وإليك التفصيل:
1. الإزار
له ثلاثة حدود، وهي:
أ. عضلة الساق، وهي أعلاها.(9/369)
ب. نصف الساقين، وهو أوسطها.
ج. فوق الكعبين، وهو أدناها، وما غطى الكعبين أوزاد فهو حرام.
2. القميص، الثوب، والجلباب، والعباء
هذه لها حدان:
أ. أعلاهما وأحبهما إلى نصف الساقين.
ب. وأدناهما إلى ما فوق الكعبين، وهو الجائز.
هذا في الطول، أما في العرض فينبغي أن لا يكون واسعاً فضفاضاً وأن لا يكون ضيقاً واصفاً للعورة.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج ـ أولا جناح ـ فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار".
3. الكُمّ
الإسبال يكون في طوله وعرضه، أما الطول فينبغي أن لا يتجاوز الرّسغ، وأما العرض فلا يكون واسعاً.
4. العمامة
الإسبال يكون في طولها وعرضها على أن لا يزيد الطول على المعتاد 3-4 أمتار، وفي ذؤابتها أن لا تتدلى أكثر من شبر.
5. السراويل
من نصف الساقين إلى ما فوق الرجلين.
6. العباءة والمشلح
من لبس عباءة عليه أن يدخل يديه في كميها فيضمها إلى جانبيه.
قال الشيخ بكر أبو زيد: (وبه يُعلم أن من يلبس العباءة أي "المشلح" فيرسله على جانبيه دون أن يدخل يديه في كميه، فيضمه، أويضم جانبيه، أن هذا من السدل المنهي عنه، وهو مُشاهَد من عمل الروافض، ولدى بعض المترفين من المسلمين).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وقال الطبري: إنما ورد الخبر بلفظ الإزار لأن أكثر الناس في عهده كانوا يلبسون الإزار والأردية، فلما لبس الناس القميص والدراريع كان حكمها حكم الإزار في النهي، قال ابن بطال: هذا قياس صحيح لو لم يأت النص بالثوب، فإنه يشمل جميع ذلك، وفي تصوير جر العمامة نظر، إلا أن يكون المراد ما جَرَتْ به عادة العرب من إرخاء العذبات، فمهما زاد على العادة في ذلك كان من الإسبال، وقد أخرج النسائي من حديث جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه قال: "كأني أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة قد أرخى طرفيها بين كتفيه"، وهل يدخل في الزجر عن جر الثوب تطويل أكمام القميص ونحوه؟ محل نظر، والذي يظهر أن من أطالها حتى خرج عن العادة كما يفعله بعض الحجازيين دخل في ذلك.
قال شيخنا في شرح الترمذي: ما مس الأرض منها خيلاء لا شك في تحريمه. قال: ولو قيل بتحريم ما زاد على المعتاد لم يكن بعيداً، ولكن حدث للناس اصطلاح بتطويلها، وصار لكل نوع من الناس شعار يعرفون به، ومهما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شك في تحريمه، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ما لم يصل إلى جر الذيل الممنوع. ونقل عياض عن العلماء كراهة كل ما زاد على العادة وعلى المعتاد في اللباس من الطول والسعة).
حكم الإسبال
(أ) حكم الإسبال للرجال
كل ما زاد على الكعبين أوالرسغين فهو حرام وكبيرة، وإن كان مصحوباً ببطر وخيلاء فهذا مع كونه كبيرة فإنه لا ينظر الله إليه يوم القيامة.
(ب) حكم الإسبال للنساء
ما زاد على الذراع فهو حرام.
الأدلة على ذلك
الأدلة على تحريم الإسبال على الرجال كثيرة جداً بلغت حد التواتر المعنوي، وقد رواها ما يقارب الثلاثين من الصحابة، منها ما هو في الصحاح، ومنها ما هو في السنن والمسانيد، ومنها ما هو في دواوين السنة الأخرى، وإليك طرفاً منها:
1. عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ قال أبو بكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لستَ ممن يصنعه خيلاء".
2. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسفل عن الكعبين ففي النار".
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً".
4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجل جمته، إذ خسف الله به، فهو يجلجل إلى يوم القيامة".
5. وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله عنها قالت: "كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرُّسغ".
6. وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم؛ قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبوذر: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".
7. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" .
8. وعن أبي جُرَي جابر بن سُليم رضي الله عنه يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة".(9/370)
9. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك؛ فرفعته، ثم قال: زد؛ فزدتُ، فما زلت أتحراها بعد؛ فقال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: إلى أنصاف الساقين".
الإسبال حرام، سواء كان فعله بطراً أم عادة وجهلاً
الإسبال حرام، فإن كان مصحوباً بخيلاء وبطر فهو كبيرة من الكبائر، ولا ينظر إلى صاحبه يوم القيامة، والوصف بالخيلاء خرج مخرج الغالب، والقيد إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له عند عامة الأصوليين كما قال الشيخ بكر أبو زيد، كما في قوله: "وربائبكم اللاتي في حجوركم"، فبنت المرأة محرمة على زوجها، ربيبة كانت عنده أم لا، ونحو قوله: "ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة"، فالربا قليلُه وكثيرُه حرام.
والأدلة على ذلك كثيرة، منها:
1. عن ابن عمر يرفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جرَّ الإزار من المخيلة".
2. وعن أبي جري رضي الله عنه مرفوعاً: "وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة".
3. وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على جابر بن سليم رضي الله عنه، وأنكر على عمرو الأنصاري رضي الله عنه رفع إزاره.
4. وأنكر على رجل من ثقيف، ورفع كذلك.
قال الشيخ بكر أبو زيد: (ورد النهي عن الإسبال مطلقاً في حق الرجال، وهذا بإجماع المسلمين، وهو كبيرة إن كان للخيلاء، فإن كان لغير الخيلاء فهو محرم مذموم في أصح قولي العلماء، والخلاف للإمام الشافعي والشافعية إنه إذا لم يكن للخيلاء فهو مكروه كراهة تنزيه، على أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقضي بأن مجرد الإسبال خيلاء).
قلت: ليس كل خلاف يستراح له، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أقوى الأدلة على تحريم الإسبال من غير خيلاء استفسار أم سلمة رضي الله عنها، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها بأن تسدل المرأة ذيلها مقدار شبرين معتدلين، أي حوالي ذراع.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله معلقاً على استفسار أم سلمة: (ويستفاد من هذا الفهم التعقب على من قال: إن الأحاديث المطلقة في الزجر عن الإسبال مقيدة بالأحاديث الأخرى المصرحة بمن فعله خيلاء، قال النووي: ظواهر الأحاديث في تقييدها بالجر خيلاء يقتضي أن التحريم مختص بالخيلاء، ووجه التعقيب أنه لو كان كذلك لما كان في استفسار أم سلمة عن حكم النساء في ذلك لاحتياجهن إلى الإسبال من أجل ستر العورة، لأن جميع قدمها عورة، فبين لها أن حكمهن في ذلك خارج عن حكم الرجال في هذا المعنى فقط، وقد نقل عياض الإجماع على أن المنع في حق الرجال دون النساء، ومراده منع الإسبال لتقريره صلى الله عليه وسلم على فهمها.
إلى أن قال: والحاصل أن للرجال حالين: حال استحباب، وهو أن يقصر الإزار على نصف الساق، وحال جواز وهو إلى الكعبين، وكذلك النساء على استحباب وهو ما يزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الشبر، وحال جواز بقدر ذراع، ويؤيد هذا التفصيل في حق النساء ما أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريق معتمد عن حميد عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم شبر لفاطمة شبراً"، ويستنبط من سياق الأحاديث أن التقييد بالجر خرج للغالب، وأن البطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه).
الحالات التي يجوز فيها الإسبال
الإسبال إما كبيرة من الكبائر إذا قرن بالبطر والخيلاء، بجانب عدم نظر المولى إليه، وإما حرام إذا خلا من ذلك، ولا يحل إلا في بعض الحالات التي استثناها الشرع، وهي:
1. للنساء لستر أقدامهن.
2. عند الضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات، ولهذا فإن للضرورات أحكام خاصة.
3. عند الاستعجال، حيث يغفل الإنسان ويسها عن بعض الأمور من غير قصد، فإذا ذكر وجب عليه في الحال أن يرفع.
4. لمن يتعاهد ذلك دائماً، ولكن يسبل إزاره لنحافته، كحال أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وإليك الأدلة على ذلك
1. الحديث السابق عن ابن عمر: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة؛ قال أبوبكر: يا رسول الله، إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لستَ ممن يصنعه خيلاء".
وأبوبكر في الحقيقة لا يفعله خيلاء ولا من غير خيلاء، ولكن لنحافته فإن إزاره مهما شمره ينزل ما لم يتعاهده دائماً.
2. عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: خسفت الشمس ونحن عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقام يجر ثوبه مستعجلاً حتى أتى المسجد، وثاب الناس، فصلى ركعتين، فجلي عنها، ثم أقبل علينا وقال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا الله حتى يكشفها"، والشاهد فيه: "فقام يجر ثوبه مستعجلاً"، وذلك لفزعه صلى الله عليه وسلم من هذه التغييرات الكونية.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح معلقاً على هذا الحديث: (فإن فيه أن الجر إذا كان بسبب الإسراع لا يدخل في النهي).(9/371)
وقال كذلك: (ويستثنى من إسبال الإزار مطلقاً ما أسبله لضرورة، كمن يكون بكعبيه جرح مثلاً يؤذيه الذباب مثلاً إن لم يستره بإزاره، حيث لا يجد غيره، نبه على ذلك شيخنا في "شرح الترمذي"، واستدل على ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف في لبس القميص الحرير من أجل الحكة، والجامع بينهما جواز تعاطي ما نهي عنه من أجل الضرورة، كما يجوز كشف العورة للتداوي).
3. والدليل على إباحة ذلك للنساء استفسار أم سلمة السابق وإقراره صلى الله عليه وسلم على ذلك.
أما لدقة الساقين أولعيب فيهما فلا يحل الإسبال، ويدل على ذلك ما أخرجه الطبراني من حيث أبي أمامة رضي الله عنه: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حُلة إزار ورداء قد أسبل، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بناحية ثوبه ويتواضع لله، ويقول: عبدك وابن عبدك وأمتك؛ حتى سمعها عمرو فقال: يا رسول الله إني حمش الساقين؛ فقال: يا عمرو إن الله قد أحسن كل شيء خلقه، يا عمرو إن الله لا يحب المسبل" الحديث.
قال ابن حجر في الفتح: (وأخرجه أحمد من حديث عمرو نفسه، لكن قال في روايته عن "عمرو بن فلان"، وأخرجه الطبراني أيضاً عن "عمرو بن زرارة"، وفيه: "وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع تحت ركبة عمرو، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار؛ ثم ضرب بأربع أصابع تحت الأربع، فقال: يا عمرو هذا موضع الإزار" الحديث، ورجاله ثقات، وظاهره أن عمرو المذكور لم يقصد بإسباله الخيلاء، وقد منعه من ذلك لكونه مظنة.
وأخرج الطبراني من حديث الشريد الثقفي قال: "أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد أسبل إزاره فقال: ارفع إزارك؛ فقال: إني أحنف تصطك ركبتاي؛ قال: ارفع إزارك، فكل خلق الله حسن"، وأخرجه مسدّد وأبوبكر بن أبي شيبة من طرق عن رجل من ثقيف لم يسم، وفي آخره: "ذاك أقبح مما بساقك" أي الإسبال، وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود بسند جيد: "أنه كان يسبل إزاره، فقيل له في ذلك، فقال: إني أحمش الساقين"، فهو محمول على أنه أسبله زيادة على المستحب، وهو أن يكون إلى نصف الساقين، ولا يظن أنه جاوز به الكعبين، والتعليل يرشد إليه، ومع ذلك فلعله لم تبلغه قصة عمرو بن زرارة، والله أعلم، وأخرج النسائي وابن ماجةو صححه ابن حبان من حديث المغيرة بن شعبة: "رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ برداء سفيان بن سهل وهو يقول: "يا سفيان لا تسبل فإن الله لا يحب المسبلين").
حكم وضوء وصلاة المسبل
ذهب أهل العلم في وضوء وصلاة المسبل مذهبين:
الأول: صحح وضوء وصلاة المسبل مع الكراهة، وهم العامة من أهل العلم.
الثاني: أبطل وضوء وصلاة المسبل، وهذا مذهب ابن حزم وأحمد بن حنبل.
استدل المبطلون لوضوء وصلاة المسبل بما يأتي:
1. بما أخرجه أبوداود بإسناد صحيح على شرط مسلم كما قال النووي في رياض الصالحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما رجل يصلي مسبل إزاره، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ؛ فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال: اذهب فتوضأ؛ فقال له رجل: يا رسول الله، مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟ قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل".
2. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام".
قال الشيخ بكر أبو زيد: (لشدة تأثير الإسبال على نفس المسبل، وما لكسب القلب من حالة وهيئة منافية للعبودية، منافاة ظاهرة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسبل بإعادة الوضوء، وأن الله لا يقبل صلاة مسبل، وحمل الفقهاء ذلك الحديث على الإثم مع صحة الصلاة، كحال فيمن صلى في كل ثوب يحرم لبسه، وفي الدار المغصوبة، وكما في تحريم آنية الذهب والفضة اتخاذاً واستعمالاً، وتحريم الوضوء منهما، خلافاً لابن حزم، ومذهب أحمد القائل ببطلان وضوء المسبل صلاته، وأن عليه الإعادة لهما غير مسبل، نعم، لا يصلي المسلم خلف مسبل اختياراً).
الخلاصة
1. أن ما زاد على الكعبين للرجال، ويقاس عليه ما زاد على الرُّسغين من اليدين، من الأزر، والقمصان، والسراويل، والأكمام، ونحوها فهو في النار، أما بالنسبة للمرأة فتجر مقدار شبر أوذراع.
2. لا فرق في الإسبال بين القميص، والإزار، والرداء، والعمامة، والكم، والعباءة.
3. لا فرق في حرمة الإسبال بين من فعله خُيلاء وبطراً أم لا، إلا أن من فعله بطراً إثمه أشد ووزره أكبر لأنه كبيرة، ويحتاج إلى توبة منه قبل اجتماع سكرات الموت وحسرات الفوت عليه.
أدل دليل على عدم التفريق ما قاله الخليفة الراشد، والإمام العادل، والعبقري الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو محتضر لذلك الشاب الأنصاري العاقل، الذي أثنى على عمر خيراً، وعندما خرج قال عمر: ردوه عليّ؛ فعندما رد إلى عمر قال له: "ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك".(9/372)
قال الإمام أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله: (لا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه، ويقول: لا أجرُّه خيلاء! لأن النهي قد تناوله لفظاً، ولا يجوز لمن تناوله اللفظ حكماً أن يقول: لا أمتثله لأن تلك العلة ليست فيّ، فإنها دعوى غير مسلمة، بل إطالته ذيله دالة على تكبره).
وقال الحافظ ابن حجر معلقاً على ما قاله الإمام ابن العربي المالكي: (وحاصله أن الإسبال يستلزم جر الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس الخيلاء، ويؤيده ما أخرجه أحمد بن منيع من وجه آخر عن ابن عمر في أثناء حديث رفعه: "وإياك وجر الإزار فإن جر الإزار من المخيلة").
4. الإسبال حرام، ولا يليق بأي مسلم ذكر، صغيراً كان أم كبيراً، وتشتد حرمته ويقبح فعله من المنتسبين إلى العلم والدين، سيما الأئمة منهم في الصلاة، لما يعرض وضوءهم وصلاتهم إلى النقصان إن لم نقل إلى البطلان، فالحذر الحذر أخي الحبيب من الإسبال المؤدي إلى البطر والخيلاء والخسران، وعليك أن تبادر باتباع أمر رسولك وحبيبك محمد، وعليك أن تقتدي بأصحاب رسولك في سرعة الاستجابة لأوامره ونواهيه، وعليك أن يكون لك في خُريم الأسدي الأسوة الحسنة، عندما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نعم الرجل خُريم، لولا طول جمته وإسبال إزاره"، فأخذ خريم شفرة وقطع بها جمته، ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه.
فعليك أخي الحميم أن تأخذ جلاليبك وسراويلك وقمصانك، وإن كنت مبتلياً بلبس "البناطلين" فخذها كذلك واذهب بها إلى أقرب ترزي، وقص ما زاد على الكعبين والرسغين، والله يسامحك على سعتها، واحذر أن تخيط ثياباً جديدة تزيد على كعبيك ورسغيك، وإلا فاعلم أن النار ستسع ذلك كله، أعاذنا الله وإياكم من النار ومن غضب الجبار.
5. لا ترغب أخي المسلم عن نظر الله إليك يوم القيامة، فهو من أعظم النعم، وقد توعد الله أنه لا ينظر إلى من جر إزاره خيلاء وبطراً، واعلم أن مجرد الجر هو خيلاء.
6. احذر اخي الكريم لباس الشهرة، ولا تشمر سراويلك، وقمصانك، وجلاليبك أعلى من نصف ساقيك، فإسبال الثياب وسعتها شهرة وكذلك تشميرها الزائد عن الحد الشرعي شهرة، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وخير الأمور الوسط، فلتكن ثيابك ما بين نصف ساقيك إلى ما فوق كعبيك.
والشهرة في اللباس تكون في الإسبال، وفي التشمير المخل، وفي السعة، واللون، والهيئة، والصفة، والتشبه بالكفار، وهو كل ما خرج عن العادة والعرف الشرعي، خرَّج أبو داود بسنده عن ابن عمر يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله"، زاد عن أبي عوانة: "ثم تلهب فيه النار"، وعن ابن عمر رضي الله عنهما يرفعه كذلك: "من تشبه بقوم فهو منهم".
قال الشيخ بكر أبوزيد: (وتحصل الشهرة بتميز عن المعتاد: بلون، أوصفة تفصيل للثوب، وشكل له، أوهيئة في اللبس، أومرتفع أومنخفض عن العادة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يحرم لبس الشهرة، وهو ما قصد به الارتفاع، وإظهار الترفع، أوإظهار التواضع والزهد، لكراهة السلف لذلك.
وقال غير واحد من السلف: لباس الشهرة مما يزري بصاحبه ويسقط مروءته.
وقال معمر: عاتبت أيوب على طول قميص، فقال: إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله، وهي اليوم في تشميره.
وقد روى إسحاق بن إبراهيم بن هاني قال: دخلت يوماً على أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وعليَّ قميص أسفل من الركبة وفوق الساقين، فقال: أي شيء هذا؛ وأنكره، وقال: هذا بالمرة لا ينبغي.
وإذا حملتك الغيرة في الإنكار على المسلمين، فتخلص قبلُ من لباس الشهرة، كما يتعين على المسبل أن لا ينكر على المرتدي لباس الشهرة وهو متلبس بالإسبال، ابدأ بنفسك فانهها عن غيها..).
7. أما حجاب المرأة فلا يدخل في هذا، فلها أن تلبس العباءة أوأي لباس يغطي جميع جسدها، سواء كان معتاداً في بلدها أم غير معتاد، فالمعروف ما عرفه الشرع، والمنبوذ ما نبذه الشرع.
8. كانت العرب في جاهليتها وبعد إسلامها تمدح تشمير الإزار كما قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في "الاستذكار"، قال متمم بن نويرة في مدح ورثاء مالك أخيه:
تراه كنصل السيف يهتز للندى وليس على الكعبين من ثوبه فضل
وقال العجير السلولي:
و كنتُ إذا داعٍ دعا لمضوفة أشمر حتى يَنْصُفَ السَّاقَ مئزري
وفي رواية:
وكنتُ إذا جاري دعا لمضوفة أشمر حتى يبلغ السَّاقَ مئزري
بله قال عمر بن أبي ربيعة معرضاً برجل يجر ثوبه:
كتب القتلُ والقتالُ علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول
وأحب أن أختم هذا بما قال الحافظ الذهبي معلقاً على قول ابن عمر رضي الله عنهما: "أخاف أن أكون مختالاً فخوراً، والله لا يحب كل مختال فخور"، لما فيه من الرد على القائلين أن الإسبال ليس حراماً إلا إذا صُحِبَ بكِبْر وبطر:(9/373)
(قلت: كل لباس أوجد في المرء خيلاء وفخراً فتركه متعين ولو كان من غير ذهب ولا حرير، فإنا نرى الشاب يلبس الفرجية الصوف بفرو من أثمان أربع مئة درهم ونحوها، والكبر والخيلاء على مشيته ظاهر، فإن نصحته ولمته برفق كابر، وقال: ما فيّ خيلاء ولا فخر؛ وهذا السيد ابن عمر يخاف ذلك على نفسه، وكذلك ترى الفقيه المترف إذا ليم في تفصيل فرجية تحت كعبيه، وقيل له: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار"، يقول: إنما قال هذا فيمن جر إزاره خيلاء، وأنا لا أفعل خيلاء؛ فتراه يكابر، ويبرئ نفسه الحمقاء، ويعمد إلى نص مستقل عام، فيخصه بحديث آخر مستقل بمعنى الخيلاء، ويترخص بقول الصديق: إنه يا رسول الله يسترخي إزاري؛ فقال: "لستَ يا أبا بكر ممن يفعله خيلاء"، فقلنا: أبوبكر رضي الله عنه لم يكن يشد إزاره مسدولاً على كعبيه أولاً، بل كان يشده فوق الكعب، ثم فيما بعد يسترخي، وقد قال عليه السلام: "أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، ولا جناح عليه فيما بين ذلك والكعبين"، ومثل هذا في النهي لمن فصل سراويل مغطياً لكعابه، ومنه طول الأكمام زائداً، وتطويل العذبة، وكل هذا من خيلاء كامن في النفوس، وقد يُعذر الواحد منهم بالجهل، والعالم لا عذر له في تركه الإنكار على الجهلة، فإن خُلع على رئيس خلعة سِيَراء من ذهب وحرير وقندس، يحرمه ما ورد في النهي عن جلود السباع ولبسها، الشخص يسحبها ويختال فيها، ويخطر بيده ويغضب ممن لا يهنيه بهذه المحرمات، ولا سيما إن كانت خلعة وزارة وظلم ونظر مَكَس، أوولاية شرطة، فليتهيأ للمقت وللعزل والإهانة والضرب، وفي الآخرة أشد عذاباً وتنكيلاً، فرضي الله عن ابن عمر وأبيه، وأين مثلُ ابن عمر في دينه، وورعه، وعلمه، وتألهه، وخوفه، من رجل تُعرض عليه الخلافة فيأباها، والقضاءُ من مثل عثمان فيرده، ونيابة الشام لعليّ فيهرب منه؟ فالله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من ينيب).
واللهَ أسأل أن يؤلف بين قلوب المسلمين ويهديهم سبل السلام، وأن يوفقنا وإياهم إلى التمسك بسنة خير الأنام صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه الكرام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
000000000000000000
أحكام تارك الصلاة في الحياة وبعد الممات
من القرآن
من السنة
إجماع الصحابة
الآثار عن الصحابة
الآثار عن التابعين وتابعيهم
أولاً: في الدنيا
ثانياً: بعد الممات
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد..
فالصلاة عماد الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين، وهي آخر عُرى الإسلام نقضاً، وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلاته فقد فاز ونجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، كما أخبر الصادق المصدوق.
بعد أن أجمع أهل العلم على كفر جاحد وجوب الصلاة، وأجمعت العامة منهم على قتل تاركها المقرِّ بوجوبها، اختلفوا هل يُقتل كفراً أم حداً على قولين، أرجحهما أنه يقتل كفراً، وذلك للأدلة الآتية:
من القرآن
قوله تعالى على لسان الكافرين، وقد قيل لهم: "ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين"
وقوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً"، والغي وادٍ في جهنم.
وقوله: "فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين"، فقد نفى الله عن تاركي الصلاة الأخوة الإيمانية.
وقوله: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون"، فيسجد المصلون لله في الدنيا، ويُجعل ظهر تارك الصلاة والمنافق المرائي بصلاته طبقة واحدة، فلا يتمكن من السجود.
من السنة
ما صح عن جابر عند مسلم يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة".
وعن بريدة رضي الله عنه عند أهل السنن: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر".
إجماع الصحابة
قال عبد الله بن شقيق وهو من كبار التابعين: "لم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ـ ورضي الله عنهم ـ يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة".
الآثار عن الصحابة
قال عليّ رضي الله عنه: "من ترك صلاة واحدة متعمداً فقد برئ من الله وبرئ الله منه".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من ترك الصلاة فلا دين له".
وقيل لابن مسعود: "إن الله تعالى يكثر من ذكر الصلاة في القرآن: "الذين هم على صلاتهم دائمون"، و"الذين هم على صلاتهم يحافظون"، و"ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون"؛ قال: ذلك على مواقيتها؛ قالوا: ما كنا نرى يا أبا عبد الرحمن إلا على تركها؟ قال: تركها كفر".
وقال عمر وهو مطعون: "لا حظ في الإسلام لمن أضاع الصلاة".(9/374)
وعن زيد بن وهب قال: "كنا مع حذيفة جلوساً في المسجد إذ دخل رجل من أبواب كندة، فقام يصلي، فلم يتم الركوع والسجود، فلما صلى قال له حذيفة: منذ كم هذه صلاتك؟ قال: منذ أربعين سنة؛ قال: ما صليت منذ أربعين سنة، ولو مت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمداً صلى الله عليه وسلم".
وقال أبو الدرداء: "لا إيمان لمن لا صلاة له".
وقال ابن عباس: "من ترك الصلاة فقد كفر".
هذا مذهب عمر، وعلي، وابن مسعود، وحذيفة، وسعد بن أبي وقاص، وابن عباس من الصحابة، ولم يوجد لهم مخالف.
الآثار عن التابعين وتابعيهم
هذا مذهب نافع مولى ابن عمر، قال معبد بن عبيد الله الجزري: (قلت لنافع: رجل أقر بما أنزل الله تعالى وبما بين نبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أترك الصلاة وأنا أعرف أنها حق من الله تعالى؟ قال: ذاك كافر؛ ثم انتزع يده من يدي غضباناً مولياً).
وأيوب السختياني رحمه الله قال: (ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه).
وعبد الله بن المبارك رحمه الله، قال يحيى بن معين: (قيل لعبد الله بن المبارك: إن هؤلاء يقولون من لم يصم ولم يصل بعد أن يقر به فهو مؤمن مستكمل الإيمان؟ قال: لا نقول نحن كما يقول هؤلاء ـ يعني المرجئة ـ من ترك الصلاة متعمداً من غير علة، حتى أدخل وقتاً في وقت فهو كافر).
وسئل أحمد بن حنبل رحمه الله عمن ترك الصلاة متعمداً؟ فقال: (لا يكفر أحد بذنب إلا تارك الصلاة عمداً، فإن ترك صلاة إلى أن يدخل وقت صلاة أخرى يستتاب ثلاثاً).
وسئل صدقة بن فضل عن تارك الصلاة، فقال: (كافر).
وقال محمد بن نصر المروذي في كتابه القيم "تعظيم قدر الصلاة": (سمعت إسحاق بن راهويه يقول: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر).
فهذا مذهب من علمتَ من الصحابة والتابعين وتابعيهم، هذا بجانب أنه مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومن الأئمة المعاصرين فهو مذهب الشيخين الفاضلين الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد صالح العثيمين، رحم الله الجميع.
وعليه فتارك الصلاة كسلاً كافر كفراً أكبر يُخرج من الملة، وتُجْري عليه أحكام المرتدين في الدنيا والآخرة.
أولاً: في الدنيا
1. لا يُسلم عليه ولا يُردُّ عليه إذا سلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إنه لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي ولا يجيب دعوته).
2. لا تُجاب دعوته.
3. لا يُزوج بمسلمة، فإن عُقد له فالنكاح باطل، قال تعالى: "فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن".
وإذا ترك الصلاة بعد العقد والدخلة يفسخ نكاحه ولا تحل له زوجة.
إذا كان شارب الخمر يحال بينه وبين زوجه فكيف بتارك الصلاة؟!
قال مهنا: (سألت أحمد، قلت: ختن لي، زوج أختي، يشرب هذا المسكر، أفرق بينهما؟ قال: الله المستعان.
وقال علي بن الخواص: نقل المروزي عن أحمد أنه قال لرجل سأله عن مثل هذه، فقال: حولها إليك).
4. لا يُزار في بيته.
5. لا يُعاد إذا مرض.
6. لا يُساكن في منزل معه.
7. يُمنع من دخول مكة المكرمة، قال تعالى: "إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا".
8. لا يُعطى شيئاً من الزكاة الواجبة.
9. لا تُؤكل ذبيحته.
10. يُمنع من التصرف في ماله.
11. لا يرث أحداً من أقاربه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث الكافرُ المسلم".
12. لا يُزوج كريمته ولا وليته.
13. يقتل كفراً بعد أن يؤتى به إلى الإمام أوالقاضي فيأمره بالصلاة ويبين له كفر تاركها، فإن أبى أن يصلي حتى خرج وقت الصلاة الحاضرة قتِل، ولا يُستتاب، ومن أهل السنة من قال يُستتاب ثلاثاً، والراجح الأول.
ثانياً: بعد الممات
1. لا يُغسل.
2. ولا يُكفن، ويُدفن في ملابسه.
3. لا يُصلى عليه، قال تعالى: "ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً".
4. لا يُدفن في مقابر المسلمين، وإنما تحفر له حفرة في الصحراء فيُوارى فيها كي يؤذي المسلمين.
5. لا يشيعه أحد من المسلمين.
6. يُعزي أهله ولا يترحم عليه، فيقال لوليه: أعظم الله أجرك، وأحسن الله عزاءك؛ وإذا كان وليه كافراً يقال له: أخلف الله عليك.
7. لا تعتد عليه زوجه إن لم يفرَّق بينهما من قبل.
8. لا يرثه أهله لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلمُ الكافر"، ويكون ماله لبيت مال المسلمين، وقيل يصرف منه على ورثته.
9. لا يُدعى له بالرحمة، ولا يُستغفر له، ولا يُزار قبره.
10. تحرم عليه الجنة، ويخلد في النار مع قارون، وهامان، وأبيِّ بن خلف، وغيرهم من أئمة الكفر.
11. يُحرم من شفاعة سيد الأبرار، ومن شفاعة غيره.
والله أسأل أن يجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا، وأن يتقبل دعاءنا، ويتجاوز عن أخطائنا، ويرحم أمواتنا، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة.
000000000000000000000(9/375)
أيها المسلمون لا يكن أهل الجاهلية والكلاب أحسن جواراً منكم
الجيران ثلاثة
وصية الله ورسوله بالجار
حد الجيرة
الجار الحسن يُشترى
الجار السوء يباع بأبخس الأثمان
حفظ ورعاية حق الجار ولو كان مسيئاً
أذى الجيران وحسدهم والبغي عليهم من الكبائر
الإسلام دين الحق والعدل، ولهذا فإنه يقوم على مبدأ الحقوق والواجبات، بدءاً بالعلاقة بين الخالق والمخلوقين، وانتهاءً بالعلاقة بين المسلم وأخيه، فمن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا معه غيره، ومن حقهم عليه إن فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة، وكذلك العلاقة بين الحاكم والمحكومين، وبين الزوج والزوجة، وبين الجار والجار، وبين المسلم والمسلم.
وهذه الحقوق منها ما هو واجب، ومنها ما هو من فروض الكفايات.
لقد أضاع جل المسلمين كثيراً من هذه الحقوق وقصروا فيها، وأكثر الحقوق ضياعاً حقوق الجوار، خاصة في المدن وفي هذه الأعصار.
وإذا كان أبو حازم رحمه الله، وهو من التابعين، ينعي على المسلمين في وقته ضياع حقوق الجار، حيث قال كما روى عنه مالك: كان أهل الجاهلية أحسن جواراً منكم، وإلا فبيننا وبينكم قول الشاعر:
ناري ونار الجار واحدة وإليه قَبْلي تنزل القدر
ما ضر جار لي أني أجاوره أن لا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر
ونحن لا نطالب الجار بما قرره هذا الشاعر الجاهلي، فهذا مطلب بعيد المنال، عزيز التحقق، ولكن نطالب الجار بالالتزام بما أمر به الشارع، نحو:
1. أن يتعرف عليه إذا حل في جواره.
2. أن يبدأه بالسلام إذا خرج أودخل.
3. أن يشاركه أفراحه وأتراحه.
4. أن يعوده إذا مرض أوأحد من أهله.
5. أن يشيع جنازته.
6. أن يتفقده إذا غاب أومرض.
7. أن لا يؤذيه.
8. أن لا يتجسس ولا يتحسس عليه.
9. أن يجيب دعوته.
10. أن يصون حرمته.
11. أن يعينه عند الشدائد.
12. أن يواسيه ويكثر بره ويحسن إليه.
13. أن يستر عيبه.
14. أن ينصح له.
15. أن يحسن عشرته.
لقد ورد في ذلك حديث عن معاذ بن جبل، قال القرطبي: سنده حسن، وبيّن أهم حقوق الجار: "قلنا: يا رسول الله، ما حق الجار؟ قال: إن استقرضك أقرضته، وإن أعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير سرك وهنيته، وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته، ولا تؤذه بقُتَار قدرك إلا أن تغرف له منها، ولا تستطيل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها، وإلا فأدخلها سراً لا يخرج ولدك بشيء منه يغيظون به ولده، وهل تفقهون ما أقول لكم، لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم".
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: من حق الجار أن تبسط له معروفك، وتكف عنه أذاك.
وقال علي للعباس رضي الله عنهما: ما بقي من كرم أخلافك؟ قال: الإفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران.
وكان يقال: ليس من حسن الجوار ترك الأذى، ولكن الصبر على الأذى.
والجوار ليس قاصراً على السكن، وإنما يشمل الجار في السوق، وفي الزراعة، والطلب، ونحوها.
?
الجيران ثلاثة
1. جار قريب مسلم، وهذا له ثلاثة حقوق: حق الجوار، والقرابة، والإسلام.
2. وجار مسلم، وهذا له حقان: حق الجوار، وحق الإسلام.
3. جار كافر، وهذا له حق واحد هو حق الجوار.
وحقوق الجار تتفاوت كذلك بين الجار الأقرب، والأدنى، والأبعد.
?
وصية الله ورسوله بالجار
لقد وصى الله ورسوله بالجار حقاً، فقال تعالى: "واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب".
قال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "والجار ذي القربى والجار الجنب": (أما الجار فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه والوصاة برعي ذمته في كتابه وعلى لسان نبيه، ألا ترى سبحانه أكد ذكره بعد الوالدين والأقربين: "والجار ذي القربى" أي القريب، "والجار الجنب" أي الغريب.
إلى أن قال: وعلى هذا فالوصاة بالجار مندوب إليها مسلماً كان أوكافراً، وهو الصحيح، والإحسان قد يكون بمعنى المواساة، وقد يكون بمعنى حسن العشرة وكف الأذى والمحاماة دونه).
أما الأحاديث التي توصي بالجار وتأمر بالإحسان إليه وتنهى عن أذاه فكثيرة، منها:
1. ما صح عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه".
2. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "إن خليلي أوصاني: إذا طبخت مرقاً فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك، فأصبهم منها بمعروف"، وفي رواية: "فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك".
3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسِن شاة".
4. وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن؛ قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقه".(9/376)
5. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره"، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم".
6. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك باباً".
?
حد الجيرة
ذهب أهل العلم في حد الجوار مذاهب هي:
1. أربعون داراً من كل ناحية، وهذا مذهب الأوزاعي والزهري.
2. من سمع النداء فهو جار.
3. من سمع إقامة الصلاة فهو جار المسجد.
4. من ساكن رجلاً في محلة أومدينة.
والجيرة مراتب بعضها ألصق من بعض وأولى.
?
الجار الحسن يُشترى
حسن الجوار من النعم العظيمة والآلاء الكريمة، ولهذا قال علي: الجار قبل الدار؛ فالدار الطيبة الواسعة القريبة تضيق بساكنيها إذا ابتلوا بجار سوء، والدار الضيقة البعيدة تطيب لساكنيها إذا حظوا بحسن الجوار.
باع أبو الجهم العدوي داره بمائة ألف دينار، ثم قال للمشترين: بكم تشترون جوار سعيد بن العاص؟ فقالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا عليَّ داري، وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل: إن فقدتُ سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألتُه أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني جائحة فرّج عني.
فبلغ ذلك سعيداً فبعثه إليه بمائة ألف درهم.
?
الجار السوء يباع بأبخس الأثمان
كان أبو الأسود الدؤلي ـ ظالم بن عمرو ـ صاحب علي من سادات التابعين وأعيانهم، واضع علم النحو بتوجيه من علي رضي الله عنه، (من أكمل الرجال رأياً، وأسدهم عقلاً، ويعد من الشعراء، والمحدثين، والبخلاء، والفرسان، والبُخْر، والعُرْج، والمفاليج، والنحويين)، وصاحب ملح ونوادر، من ذلك:
كان له جيران بالبصرة، كانوا يخالفونه في الاعتقاد، ويؤذونه في الجوار، ويرمونه في الليل بالحجارة، ويقولون له: إنما يرجمك الله تعالى؛ فيقول لهم: كذبتم، لو رجمني الله لأصابني، وأنتم ترجمونني ولا تصيبونني؛ ثم باع الدار، فقيل له: بعتَ دارك؟! فقال: بل بعت جاري؛ فأرسلها مثلاً.
ولله در القائل:
يلومونني أن بعت بالرخص منزلي ولم يعرفوا جاراً هناك ينغصُ
فقلت لهم كفوا الملام فإنها بجيرانها تغلو الديار وترخص
?
حفظ ورعاية حق الجار ولو كان مسيئاً
ورد في وفيات الأعيان أن الإمام أبا حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله كان له جار إسكافي يعمل نهاره، فإذا رجع إلى منزله ليلاً تعشى ثم شرب، فإذا دب الشراب فيه أنشد يغني، ويقول متمثلاً بقول العرجي:
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
ولا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وأبو حنيفة يسمع جلبته في كل يوم ويصبر.
وفي يوم كان أبو حنيفة يصلي بالليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسعس منذ ليالٍ، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته وأتى دار الأمير، فاستأذن عليه، فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكباً، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط؛ ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه، وقال له: ما حاجتك؟ فشفع في جاره، فقال الأمير: أطلقوه وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومناً هذا؛ فأطلقوهم أيضاً، فذهبوا وركب أبو حنيفة بغلته، وخرج الإسكافي معه يمشي وراءه، فقال له أبو حنيفة: يا فتى هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت، فجزاك الله خيراً عن حرمة الجوار.
ثم تاب، ولم يعد إلى ما كان يفعل، بسبب هذه المعاملة الكريمة ومقابلة الإساءة بالإحسان.
قال الأصمعي رحمه الله: ومن أحسن ما قيل في حسن الجوار:
جاورت شيبان فاحلوى جوارهم غريباً عن الأوطان في زمن المحل
فما زال بي إكرامهم وافتقادهم وبرهم حتى حسبتهم أهلي
لقد استعاض بعض الناس من الكفار وغيرهم الكلاب بالجيران، فأصبحوا يربونها، ويعتنون بها، ويوصون لها بالأموال بعد هلاكهم، لما لمسوا من وفائها وتنكر الأهل والجيران لهم.
ذكر صاحب كتاب "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" ابن بسام محمد بن خلف المرزبان المؤرخ، المترجم، الأديب، البغدادي المتوفى 309هـ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قتيلاً، فقال: ما شأنه؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زُهْرة فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله؛ فقال: قتل نفسه، وأضاع دينه، وعصى ربه، وخان أخاه، وكان الكلب خيراً منه".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "كلب أمين خير من صاحب خؤون".
وقال كذلك: كان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه ندماؤه، فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا، ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما، فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين فعرف الأمر، فأنشد يقول:
وما زال يرعى ذمتي ويحوطني ويحفظ عرسي و الخليل يخون
فيا عجباً للخل يهتك حرمتي ويا عجباً للكلب كيف يصون(9/377)
فاحذر أخي المسلم أن يكون الجاهليون أحسن جواراً منك، بل والكلاب، واحذر أن تكون جار سوء، واحرص أن ترعى وصية ربك ورسولك في جيرانك، واجتهد أن يكون لك في رسولك، والصحب الكرام، والسلف العظام، والجاهليين الراعين لحق الجوار الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، والمثال الذي يحتذى.
ما نسمعه من قصص وحكايات عن سوء الجوار، وغلظتهم وغفلتهم عن حقوق إخوانهم المسلمين يندي لها الجبين، ويشيب لها الوليد، فكم سمعنا أن شخصاً مات في شقته ولم يعلم جيرانه بوفاته حتى تجيّف ويشموا رائحة ذلك فيبلغوا الشرطة فتأتي لتكسر الباب.
وأن شخصاً مات أبوه أوماتت أمه ولم يجد من جيرانه من يعزيه، دعك من أن يعينه على تجهيز الميت وحمله وتشييعه ودفنه إلا عن طريق الأجرة، وهذه كلها من الحقوق الكفائية للمسلم على إخوانه المسلمين، وبالنسبة للجيران اللصيقين من الواجبات العينية.
وكم سمعنا أن جاراً يمرض ويذهب إلى الاستشفاء خارج البلد ولا يسمع به جيرانه الأقربون.
هذا بجانب الكيد، والتجسس، والإيذاء الحسي والمعنوي، والحسد، وغير ذلك.
فهؤلاء وأولئك لا بوصية ربهم ونبيهم عملوا، ولا بأخلاق أجدادهم تمسكوا، ولا من مسبات الأحاديث خافوا، قال حاتم الطائي مخاطباً أزواجه:
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ويا ابنة ذي البُرْدين والفرس الورد
إذا ما عملت الزاد فاتخذي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي
بعيداً قصياً أوقريباً فإنني أخاف مذمات الأحاديث من بعدي
وكيف يُسيغُ المرءُ زاداً وجاره خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد
?
أذى الجيران وحسدهم والبغي عليهم من الكبائر
الواجب على الجار أن يحسن إلى جاره، وأن يصبر على أذاه، ويسر لنفعه، ويحزن لضره، فإن لم تستطع على ذلك فأضعف الإيمان أن تكف عن جارك أذاك، وحسدك، وعداوتك.
وأنت أخي الكريم إذا ابتلاك الله بجار سوء، حسود، ظلوم، فعليك أن تصبر على أذاه، وأن تحسن إليه، فالإحسان يزيل العداوات ويصيرها صداقات، واعلم أن المؤمن مبتلى، بل "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"، كما أخبر الصادق المصدوق، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلي بنعمائه.
فقد يبتلى الصالحون بالطغاة الظالمين، أوبالسفهاء الجاهلين، أوبالجيران المؤذين الحاسدين الحاقدين، أوبالأقارب المعادين المخاصمين، أوبالأبناء العاقين، أوبالنساء الخميم الرميم، أوبالمنافقين الفاجرين، وكل ذلك لحكمة يعلمها هو، لدرجة يرفعها، أولخطيئة يكفرها، إذا صبر العبد واحتسب.
قال الحسن البصري رحمه الله: إلى جنب كل مؤمن منافق يؤذيه.
ولهذا قيل: أزهد الناس في عالم جيرانه.
وقيل: الحسد في الجيران والعداوة في الأقارب؛ لغلبة ذلك عليهم.
قال رجل لسعيد بن العاص: والله إني لأحبك؛ فقال له: ولمَ لا تحبني ولست بجار لي ولا ابن عم.
وقيل: إن أحسد الناس لعالم وأنعاه عليه قرابته وجيرانه.
وأخيراً نقول كما روي عن داود عليه السلام أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من جار سوء، عينه ترعاني، وقلبه لا ينساني، ونسأله سبحانه أن يوفقنا للقيام بجميع الحقوق، وأن يغفر لنا تقصيرنا في ذلك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أفضل جار في العالمين، محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
000000000000000000000
أيها المبتدعة احذروا أن يحل بكم ما حل بعمرو بن لحي الخزاعي لتغييره دين إسماعيل عليه السلام
"ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً"
الابتداع في دين الله خطره جسيم، وضرره عظيم، وعاقبته يوم القيامة وخيمة، خاصة لمن مات وخلف بدعته بعده، فالويل له ثم الويل له، إذ البدعة وزر جارٍ وذنب دائم على صاحبها، بحيث لا ينقص ذلك من أوزار متبعيها شيئاً إلى يوم القيامة، كما أخبر الصادق المصدوق.
ولخطورة الابتداع في الدين فإن المبتدع لا يُقْبل منه صرف ولاعدل، أي لا فرض ولا سنة: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، "ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
والمبتدع تندر توبته، وتصعب رجعته منها، كما هو مشاهد، وترد عليه عبادته، ويخسر آخرته.
فالمبتدعة في الدين في الحقيقة مغيِّرون لشرع الله، مبدلون لما جاء به محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه، محيون لملة عمرو بن لحي الخزاعي، مغير دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام وغيره، ومجددون لها، شاءوا أم أبوا، علموا بذلك أم لم يعلموا.
خرَّج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رأيتُ عمرو بن لُحي بن قَمعَة بن خِنْدِف يجر قُصَبه في النار، وكان أول من سيَّب السوائب"، وفي رواية في الصحيح كذلك: "عمرو بن لحي بن قَمَعة بن خِنْدِف أخا بني كعب هؤلاء، يجر قُصْبه في النار".(9/378)
وعن أبي هريرة كذلك قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجُون: "رأيتُ عمرو بن لحي بن قمعَة بن خِنْدِف يجر قُصَبه في النار، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به، ولا به منك"، فقال أكثم: أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؛ قال: "لا، إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غيَّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة، وسيَّب السائبة، وحمى الحامي"، وفي رواية: "رأيته رجلاً قصيراً أشعر له وفرة يجر قُصَبه في النار"، وفي رواية لمالك: "إنه يؤذي أهل النار بريحه".
قال القرطبي رحمه الله: (روى ابن إسحاق أن سبب نصب الأوثان وتغيير دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي، خرج من مكة إلى الشام، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نستمطر بها المطر فنمطر، ونستنصر فننصر؛ فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنماً أسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنماً يقال له هُبَل، فقدم به مكة فنصبه، وأخذ الناس بعبادته وتعظيمه).
اعلم أخي الكريم أن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب إلا التقوى، واتباع هذا النبي الكريم، فإذا كان الله عز وجل صنع بعمرو بن لحي هذا ما حكى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتغييره لملة إبراهيم ولشرعة إسماعيل عليهما السلام، وهو امرؤ جاهلي من أهل الفترة، فما عساه فاعلاً بمن ينتسبون إلى الإسلام، ويسيرون بسيرة عباد الأوثان، المغيرين لشرعة ولد عدنان؟!
لا تظنن أخي المسلم أن ماجاء به عمرو بن لحي مغاير ومخالف لما يمارسه كثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم، بل ما تفعله طائفة كبيرة من المسلمين اليوم يفوق ما جاء به عمرو بن لحي وما كان عليه الجاهليون الأوائل، فقد بين الله لنا أنهم كانوا عند الشدائد يدعون الله ويذرون هذه الأصنام، لعلمهم أنه هو الخالق القادر المتصرف في هذا الوجود: "فإذا ركبوا في الفلك دَعَوُا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون".
خرج البيهقي في سنه بسند حسن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للحصين الخزاعي قبل إسلامه: "يا أبا عمران، كم إلهاً تعبد؟ قال: أعبد سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء؛ قال: فإذا هلك المال من تدعو؟! قال: أدعو الذي في السماء؛ قال: فإذا انقطع القطر من تدعو؟ قال: أدعو الذي في السماء؛ قال: فإذا جاع العيال من تدعو؟ قال: أدعو الذي في السماء؛ قال: فيستجيب لك وحده أم يستجيبون لك كلهم؟ قال: بل يستجبيب وحده؛ فقال: يستجيب لك وحده، وينعم عليك وحده، وتشركهم في الشكر، أم أنك تخاف أن يغلبوه عليك؟ قال حصين: لا، ما يقدرون عليه؛ فقال: يا حصين، أسلم أعلمك كلمات ينفعك الله بهن" الحديث، ثم أسلم.
لكن قومي في الرخاء وضده يدعون غير الله بالإحسان، كما صور ذلك أبو السمح أحد أئمة الحرمين الشريفين السابقين، حيث قال مقارناً بين حال المشركين الأوائل وحال بعض المنتسبين إلى الإسلام، الذين يستغيثون بالأموات في الشدة والرخاء:
ولقد أتى في الذكر أن دعاءهم في الكرب كان لربنا الرحمن
وإذا دنا فرج و شاموا برقه عادوا إلى الكفران و الطغيان
لكن قومي في الرخاء و ضده يدعون غير الله بالإحسان
يدعون أمواتاً غدوا تحت الثرى ما إن لهم في ذي الورى من شأن
و الله كاشف كل كرب قادر وسواء ذو عجز فقير فان
بل منهم من يستغيث بالأموات وهو في الصلاة إذا شعر بألم، قال أحدهم وهو في صلاة: "يا أب شام"، ومنهم من يعتقد أن بعض المشايخ له "كوتة" في الخلق، نحو الذي يقول: "تخلق خلائقك يا أب كساوي"، ومنهم من يحلف ويقول: "وحيات الشيخ تاي الله الخلقني شحمة ولحمة"، ومنهم من يزعم أنه يعرف المولود الذي منحه الشيخ يوسف "أبو شرا" بأنه مختوم في عنقه يوسف، وأن الشيخ دفع الله كان يجر الشمس مع الملائكة ولا يزال، وهو ميت، ويمدح بذلك:
(الشمس مع الملاك جرها ما غلبو والتمساح حجر في شان جلوك قلبه)
وجاء في قصيدة "جل جلاله" للشيخ المكاشفي:
بهاري بهر بنور الكون
من الله بمحروس بالصون
أوتي الحرف الكاف و النون
أي إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
ويقول الشعراني في طبقاته الكبرى وقد نقل عنه ذلك "ود ضيف" في الطبقات: "هذه أقل المراتب"، بل هناك من الأولياء من هم أعلى مرتبة من مرتبة الألوهية.
ألا توافقني أخي الكريم أن ما جاء به بعض قومنا لا يدانيه ولا يقاربه ما جاء به عمرو بن لحي، وأن التغيير الذي أحدثه هؤلاء في شرع محمد صلى الله عليه وسلم لا يساويه التغيير الذي أحدثه عمرو بن لحي في شرعة إسماعيل؟!
o فقومنا كثير منهم يدعون ويستغيثون بالأموات والأحياء في حال الرخاء والشدة.
o وقومنا منهم من يعتقد أن "صلاة الفاتح لما أغلق" تعدل القرآن ستة آلاف مرة.(9/379)
o وقومنا منهم من يعتقد أن مقام الولي أعلى من مقام الرسل، ويلبسون على الجهلة بأن ولاية الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر من نبوته، يقول كبير مجددي ملة عمر بن لحي فاتح باب الزندقة "ماحي الدين" ابن عربي:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون النبي
o وقومنا منهم من يستغيث بالحلاج وابن عربي، فيقول: "بالشبل بالحلاج بابن عربي"، وقد حكم العلماء بكفر الحلاج وابن عربي، يقول القاضي عياض المالكي رحمه الله: (أجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية وغيرهم على قتل الحلاج وصلبه، لدعواه الألوهية، والقول بالحلول، وقوله أنا الحق، مع تمسكه في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته).
وقال عنه الذهبي رحمه الله: (فهو صوفي الزي والظاهر.. وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل).
o وقومنا منهم من يبني القباب، ويطوف بالأضرحة، ويسأل الأموات الحاجات التي لا يستطيعها إلا الله، نحوالعافية، والولد، والسعادة في الآخرة، وهذه القباب والأضرحة ما هي إلا أصنام تعبد من دون الله عز وجل.
هل تعلم أن بمصر وحدها حوالي ستة آلاف ضريح -كبرى وصغرى-، نحو ضريح الحسين، والسيدة زينب، والشافعي، منها ما هوكذب كضريح الحسين رضي الله عنه، يطاف حولها ويستغاث بأصحابها، ولهذا زعم الشيخ عبد الرحيم البرعي السوداني أنها مؤمنة بأهل الله، ولهذا فهي من أكثر البلاد اختراقاً منذ عهد محمد علي، ولو اعتمد أهلها على الله وتوكلوا عليه حق التوكل لأمنهم.
وفي دمشق وحدها حوالي 194 ضريحاً، منها ما هو كذذب كضريح يحيى وزكريا عليهما السلام، ولذلك عندما خاف أهل دمشق من التتار طمأنهم أحد القبوريين بقوله:
يا خائفين من التتار لوذوا بقبر أبي عمر
لوذوا بقبر أبي عمر ينجيكم من التتار
فقال له شيخ الإسلام مفتي الأنام في حياته وبعد وفاته ابن تيمية رحمه الله: لو كان أبو عمر حياً لما استطاع أن يفعل شيئاً، ونحن في هذه الحال من الانغماس في الشركيات والمعاصي وعدم الإعداد لهم؛ فعندما حرض شيخ الإسلام حكام الشام على القتال، وحث العامة عليه هو وتلاميذه، واستعدوا لذلك، نصرهم الله على عدوهم.
o وقومنا منهم من يعتقد أن الأولياء يحضرون موت المريد وهم أموات، ويلقنونه كلمة التوحيد، فقال أحدهم:
هم حاضرين يا ليلى مع المَلَكين يا ليلى
وملقنين يا ليلى للكلمتين يا ليلى
o وقومنا منهم من يدين الله بعقيدة الحلول والاتحاد والفناء، وهي عقائد كفرية، فقد قال شيخ شامي لأتباعه وقد مرت عليهم بقرة، فقال لهم: وحدوه؛ فما كان منهم إلا أن قالوا جميعاً: لا إله إلا الله؛ من اعتقد هذه العقيدة كان كفره أشد من كفر اليهود والنصارى، لأن النصارى يعتقد بعضهم بحلول اللاهوت في الناسوت، وهؤلاء يعتقدون بحلول الله في كل مخلوق حتى الكلب والخنزير.
يقول ابن عربي في كتابه "فصوص الحكم":
الرب حق والعبد حق يا ليت شعري من المكلف؟
إن قلتَ عبد فذاك ميت وإن قلتَ رب أنى يكلف؟
يقول شيخ الإسلام عمن يعتقد ذلك: (ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كمن يشك في كفر اليهود والنصارى).
o ومن قومنا من يعتقد أن بعض المشايخ يمكنهم الاستغناء عن شرع محمد صلى الله عليه وسلم، وأن التكاليف رفعت عنهم، فبعضهم لا يصلي ولا يصوم ولا يحج، ومع ذلك يوجد من يعتقد أنهم من الأقطاب الكبار.
o ومن قومنا من ابتدع العديد من الاحتفالات، كالاحتفال بالمولد النبوي الشريف، أسبوعي وسنوي، والاحتفال بالإسراء والمعراج "الرجبية"، والاحتفال بأول السنة الهجرية، والاحتفال ببعض الغزوات ونحوها، وكلها أمور محدثة، ابتدعت في العصور المتأخرة في القرن السابع الهجري وقبله وبعده، واستغواهم الشيطان فأحدثوا حوليات المشايخ، بل ومن الناس من أحدث حولية لأفراد الناس وعزموا أن يستمروا عليها.
o ومنهم من تمسك بالذي أدنى وترك الذي هو خير، فاستعاض عن الأوراد والأذكار التي علمنا لها صاحب الشريعة بأوراد وأذكار بدعية وشركية.
o ومن قومنا من أباح الردة عن الإسلام وأنكر حدها، وأنكر كثيراً مما هو معلوم من الدين ضرورة.
o ومن قومنا من يدعو إلى وحدة الأديان ويعتقد أن الكل سواء، لا فرق بين مسلم، ونصراني، ويهودي، وشيوعي، وجمهوري، وعلماني، ومنافق.
o وجل قومنا اليوم لا يريدون التحاكم لشرع الله عز وجل، بل نبذوه ونابذوه وراءهم ظهرياً.
o ومن قومنا من يحب الكفار ويواليهم أكثر من محبته للمسلمين وموالاتهم، ويتشبه بهم ويقتدي بهم، ويقاتل معهم.
o ومن قومنا من يعتقد أن الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله إرهاب، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في الحرية الشخصية.
o ومن قومنا من يقتل أهل الإسلام ويعز ويكرم ويَسْتَحْيي أهل الكفر والفسوق والعصيان.(9/380)
كل هذا وغيره مما لم أذكر شرع جديد، وملل محدثة، قامت وتقوم على أنقاض شرع محمد صلى الله عليه وسلم، ويعتبر أصحاب كل واحدة من هذه البدع من مجددي ملة عمرو بن لحي، ومن المغيرين لشرع الله الخارجين عليه، وعليهم أن يحرصوا على تجديد إسلامهم، وإلا فإنه سيصيبهم ما أصاب قدوتهم وسلفهم الطالح عمرو بن لحي، ولن يضروا الله شيئاً: "يا عبادي، لو أن أولكم، وآخركم، وإنسكم، وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً"، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والله غالب على أمره، ومميت لجميع هذه البدع والملل، ومحيي للملة الخالدة والشريعة الباقية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على المغيِّرين المبدلين لشرائع الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعلينا وعلى جميع عباد الله الصالحين، لا ينال سلامه ورضاه المبدلو
000000000000000000000000
من وقَّر صاحب بدعة أوفسق فقد أعان على هدم الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولاعدوان إلا على الظالمين الجاهلين، ونعوذ بالله من اختلال المفاهيم، واختلاف الموازين، وقلة العقل والدين، وتعظيم الفسقة والفجرة المجاهرين، وصلى الله وسلم على محمد الناهي عن تسويد المنافقين، إذ تسويدهم مغضبٌ لرب العالمين، ولهذا جاء في الأثر: "من بجَّل صاحب بدعة فقد أعان على هدم الدين".
وبعد..
لقد ساءني جداً وساء كل مسلم تكريم جامعة الخرطوم متمثلة في إدارتها واتحادها لمحمد وردي، بمنحه الدكتوراة الفخرية، وذلك لسببين، هما:
الأول أن وردي شيوعي مجاهر بشيوعيته، واعتناق الشيوعية كفر ومحادّة للدين، سواء كان منكراً لوجود الخالق أومؤمناً بنظريتها الاقتصادية التي تنكر لها أسياد الشيوعية في روسيا، ولا ينفعه مع هذا الاعتقاد النطق بالشهادتين ونحو ذلك.
الثاني أن وردي مشتغلٌ بالغناء، والاشتغال بالغناء فسق وسفه تردُّ به الشهادة، ولهذا قال مالك الإمام: "إنما يفعله عندنا الفساق"، هذا إن لم يكن مستحلاً له، فإن كان مستحلاً له فمصيبته أكبر، وقال الأحناف: التلذذ بالغناء كفر؛ وقد نقل الإجماع على تحريم الغناء والموسيقى عدد من أهل العلم، ولم يقل بتحليل ذلك إلا من زلَّ وأخطأ كابن حزم رحمه الله.
وهذا يدلُّ على قلة علم إدارة الجامعة بما هو معلوم من الدين ضرورة، إذ لو كان عندهم أقل القليل من العلم الشرعي لاستبان لهم فداحة وشناعة ما أقدموا عليه من تكريم الفسقة الداعين إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
روى ابن ماجة في سننه عن صفوان بن أمية يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمرو بن قرة عندما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن له في الغناء في غير فاحشة قائلاً: "فما أراني أرْزَق إلا من دفي بكفي"، فقال له: "لا آذن لك ولا كرامة ولا نعمة عين، كذبتَ يا عدو الله، لقد رزقك الله حلالاً طيباً فاخترت ما حرَّم الله عليك من رزقه مكان ما أحلَّ الله لك من حلاله"؛ فقام عمرو وبه من الشر والخزي ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هؤلاء العصاة من مات منهم بغير توبة حشره الله عز وجل عريان لا يستتر بهدبه كلما قام صرع".
هذا بجانب ما صحب ذلك من الحفلات والرقص المختلط الذي حدث في كلية الطب وفي الميدان الشرقي للجامعة، والذي تولت كبره وحمته إدارة الجامعة بالحرس الجامعي، وكان الواجب عليها المحافظة على هذه الأعراض التي سيُسألون عنها يوم القيامة، حيث لن تزول أقدامهم عن الصراط إلا بعد أن يسألوا عنها، فليعدوا للسؤال جواباً فإنه كائن ولابد، وكل آت قريب، ولن يفيدهم يومئذ منافقتهم للشيوعيين وغيرهم.
أرجو أن تقارن أخي الكريم بين ما فعلته إدارة جامعة الخرطوم وبين ما همَّ به سليمان بن عبد الملك رحمه الله عندما أراد أن يخصي المغنيين الذين سمعهم بناحية عسكره، لولا أن نهاه عمر بن عبد العزيز رحمه الله بأن ذلك مثلة؛ وبما فعله عمر بن عبد العزيز عندما ولي الخلافة وأراد الدخول عليه جرير، والفرزدق، والأخطل، فمنعهم من الدخول ولم يأذن إلا لجرير، وهم قطعا أفضل وأحسن حالاً من محمد وردي، بما فيهم الأخطل النصراني، فالنصراني خيرٌ من الشيوعي، بل ليس هناك وجه للمقارنة بين وردي وهؤلاء، فقد كانوا من فحول الشعراء.
ماذا قدَّم وردي حتى يستحق التكريم؟ وردي هو الذي أهدر طاقات الأمة وضيَّع شبابها، بدلاً من أن يملأوا ساحات الجهاد والدعوة ملأوا ساحات الغناء، والرقص، والطرب، قال تعالى: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله"، وهو الذي يدعو إلى عبادة غير الله، كقوله "بعبد حبِّك".(9/381)
أرجو من المسؤولين أن يتقوا الله في أنفسهم وفي هذا الدين، وفي هذه الأمة التي ولاهم الله أمرها، ولا يسلطوا عليها العلمانيين أعداء الملة والدين، والله أسأل أنْ يرينا وجميع إخواننا المسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعل ولايتنا فيمن خافه، واتقاه، واتبع رضاه.
0000000000000000000
الحكمُ بغير ما أنزل الله كفرٌ ناقلٌ عن الملة إلا في صورتين
الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر ناقلاً عن الملة
الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر
تنبيهات
الأدلة على ذلك
أقوال أهل العلم في ذلك، قديماً وحديثاً
الإسلام دين كامل لا يتجزَّأ ولا يتبعَّض، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر فلا يضرَّن إلا نفسه: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً" الحديث.
لقد حكم الله بكفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض من اليهود وغيرهم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقال: "أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردُّون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون".
لم ينتقل رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أكمل الله على يديه الدين، وأتم علينا النعمة، فتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وحذرنا من الالتفات إلى غيرها ولو كان موافقاً لشرعنا، مهما كانت منزلة الملتفت إلى غيره.
روى خالد بن عرفطة قال: (كنتُ جالساً عند عمر، إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس، فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم؛ فضربه بعصا معه، فقال الرجل: مالي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: اجلس؛ فجلس، فقرأ عليه: "بسم الله الرحمن الرحيم. ألر. تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون. نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين"، فقرأها عليه ثلاثاً وضربه ثلاثاً، فقال الرجل: مالي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنت الذي نسخت كتب دانيال؟ قال: مرني بأمرك أتبعه؛ قال: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه أنت، ولا تقرئه أحداً من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أوأقرأته أحداً من الناس لأنهتك عقوبة؛ ثم قال: اجلس، فجلس بين يديه، قال: انطلقتُ أنا فانتسخت كتاباً من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي في يدك يا عمر؟ فقلتُ: يا رسول الله كتاب نسخته لنزداد علماً إلى علمنا؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرَّت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم، السلاح السلاح؛ فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس، إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتمه، واختصر لي اختصاراً، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهوَّكوا ولا يغرَّنكم المتهوِّكون"؛ فقال عمر: فقمتُ فقلتُ: رضيتُ بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبك رسولاً؛ ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وعن أبي الدرداء قال: جاء عمر بجوامع من التوراة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، هذه جوامع من التوراة أخذتها من أخ لي من بني زريق؛ فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن زيد الذي أري الأذان: أمسخ الله عقلك، ألا ترى الذي بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إماماً؛ فسرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "والذي نفس محمد بيده، لو كان موسى بين أظهركم ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ضلالاً بعيداً، أنتم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين".
قلتُ: إذا كان جزاء عمر رضي الله عنه الزجر، وجزاء العبدي الضرب والزجر، لمجرد أنهما نسخا ونظرا لشي من التوراة وإلى ما نسب إلى دانيال، فكيف يكون جزاء أولئك الجراء، الأشقياء، المتفيقهون، المتطفلون، الذين سطروا الدساتير العلمانية، وكتبوا القوانين الوضعية الجاهلية على غرار دساتير وقوانين الكفار، سيما الدستور الفرنسي، الضالون المضلون، المفضِّلون لزبالة أذهان الكفار ونحالة أفكارهم الساقطة، كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية الأسبق رحمه الله، على حكم الله ورسوله، حيث لم يكتفوا بتسوية القوانين الوضعية مع الشريعة الربانية ـ وذلك كفر صريح ـ بل فضَّلوها عليها، وفتنوا الراعي والرعية؟!(9/382)
جزاؤهم في الدنيا أن يقتلوا أويصلبوا لمحاربتهم لله ورسوله، التي هي أشدُّ من محاربة قطاع الطريق، وفي الآخرة فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، حينما يعترفون بضلالهم، وتُكشف عنهم أستارُهم، وتُقطَّع الحسرة أكبادهم: "تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسوِّيكم برب العالمين".
وبعد..
فإن الحكم بغير ما أنزل الله والرضا به ينقسم إلى قسمين كبيرين، هما:
1. كفر اعتقاد أكبر ناقل عن الملة، وله عدة صور.
2. كفر عمل أصغر، وله صورتان لا ثالث لهما.
الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر ناقلاً عن الملة
الأولى: أن يضع الحاكم دستوراً علمانياً على غرار دساتير الكفار، نحو الدستور الفرنسي، مستبدلاً الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومستعيضاً به عن حكم الله ورسوله، سواء كانت هذه الاستعاضة كلية أوجزئية.
وهذا اعتقاد ضمني من واضعي الدستور، ومنفذيه من الحكام والقضاة، والراضين به من الرعية، على تفضيله على حكم الله ورسوله أو مساواته له.
الثانية: أن يعتقد أن حكم الله ليس بواجب عليه، وإنما هو بالخيار، إن شاء حكم به وإن شاء حكم بغيره.
الثالثة: أن يعتقد أن حكم الله واجب، ولكن القوانين الوضعية أفضل منه، وأصلح لمشاكل العصر.
الرابعة: أن يعتقد أن القوانين الوضعية المستمدة من الكفار ليست أصلح من حكم الله ولكنها مساوية له.
الخامسة: أن يعتقد أنه يجوز له أن يتحاكم للقوانين الوضعية.
السادسة: أن يتحاكم إلى ما وضعه زعماء العشائر والقبائل، من العادات، والتقاليد، والأعراف، وسوالف الجاهلية، نحو "الياسق" الذي وضعه جنكيز خان لقومه.
السابعة: أن يدع التحاكم لشرع الله خوفاً من الكفار وحرصاً على الكرسي.
الحالات التي يكون فيها الحكم بغير ما أنزل الله كفراً أصغر
حالتان فقط، هما:
الأولى: أن يجتهد في الوصول إلى حكم الله ولكنه لا يوفق لذلك.
الثانية: أن تحمله شهوته وهواه في قضية معينة، فيحيد عن حكم الله، مع تيقنه أن ما حاد عنه هو حكم الله.
تنبيهات
1. هذا فيما يتعلق بالحكام، والقضاة، وواضعي الدساتير والقوانين المحادة لكتاب الله وسنة رسوله، أما العامة والجمهور فمن رضي بهذا الحكم وانشرح له صدره فحكمه حكمهم، إذ الرضا بالكفر كفر، قال تعالى: "إنكم إذاً مثلهم"، فمن لم يرض وأنكر ولو بقلبه فلا حرج عليه.
2. على هاتين الحالتين: وهما أن يجتهد في الوصول إلى حكم الله فلا يوفق لذلك وأن تحمله شهوته على مخالفة حكم الله مع إقراره بأنه حكم الله ويجب عليه التحاكم به يُحمَلُ كلامُ ابن عباس رضي الله عنهما، وطاوس، وعطاء، وأبي مِجْلَز رحمهم الله.
قال ابن عباس: "ليس بالكفر الذي يذهبون إليه".
وقال عطاء: "كفرٌ دون كفر، وظلمٌ دون ظلم، وفسقٌ دون فسق".
وقال أبو مِجْلز: "إنهم يعملون بما يعملون، ويعلمون أنه ذنب".
أما أن يحمل كلام هؤلاء الأئمة على الصور السبعة الأوَل ففي ذلك تعدٍّ وتجنٍّ.
3. إنزال مثل هذه النصوص على حال حكام المسلمين اليوم فيه اعتداء كبير وعدم إنصاف، لأن جل البلاد الإسلامية اليوم تحكم بدساتير وقوانين علمانية من وضع البشر قامت على أنقاض الإسلام، بينما كان المسلمون إلى سقوط الدولة العثمانية لا يعرفون لحكم الله ورسوله بديلاً، ولم يكن لهم دستور ولا قانون مخالف لشرع الله، والذي كان يحدث من مخالفات يرجع إما إلى خطأ المجتهدين أوميل عن الحق لشهوة وهوى، فأين هذا مما نحن عليه الآن؟
4. دعوى أن الحاكم بغير ما أنزل الله لا يكفر كفراً أكبر إلا إذا اعتقد ذلك بقلبه، هذه عقيدة المرجئة الكرامية الذين يقولون: الإيمان مجرد تلفظ باللسان، أوالمرجئة الجهمية الذين حصروا الإيمان في معرفة القلب؛ فعلى شرعهم هذا فإن إبليس وفرعون من أهل الإيمان، تعالى الله أن يكون إبليس وفرعون من أوليائه، أما أهل الحق والعدل، أهل السنة، فيحكمون على الناس بما ظهر منهم ويدعون سرائرهم إلى الله، إذ الكفر الأكبر ليس قاصراً على الاعتقاد فقط.
5. لا يغني عمن ردَّ حكم الله ورضي بحكم الطاغوت صلاة ولا صيام ولا غيرهما.
الأدلة على ذلك
الأدلة على كفر من رفض حكم الله ورضي بحكم الطواغيت من الكتاب كثيرة جداً، نشير إلى طرف منها.
• ... قوله تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيتَ ويسلموا تسليماً".
• ...
وقوله عن المنافقين: "ويقولن آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين".
• ...
وقال مادحاً المؤمنين: "إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون".
• ...
وقوله في سورة المائدة: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.." إلى آخر الآيات.
• ...
وقوله: "فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى".
• ...(9/383)
وقوله: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً".
أقوال أهل العلم في ذلك، قديماً وحديثاً
لقد أطبق أهل العلم من أهل السنة قاطبة، قديماً وحديثاً، على كفر من ردَّ حكم الله ورضي بحكم الطواغيت، وإليك بعضاً من أقوالهم.
1. ابن حزم رحمه الله
قال عند قوله تعالى: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ.." الآية: (لما كان اليهود والنصارى يحرِّمون ما حرَّم أحبارُهم ورهبانُهم، ويحلون ما أحلوا، كانت هذه ربوبية صحيحة، وعبادة صحيحة، وقد دانوا بها، وسمى الله تعالى هذا العمل اتخاذ أرباب من دون الله عبادة، وهذا هو الشرك بلا خلاف).
وما ذهب إليه ابن حزم قرّره الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى الصليب على عدي بن حاتم، وتلا عليه هذه الآية، فقال: ما عبدناهم؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال؟" قال: نعم؛ قال: "تلك عبادتكم إياهم" الحديث.
فدل ذلك على أن الرضا بما يشرعه البشر ليس ناقضاً لتوحيد الألوهية فقط، بل ناقض لتوحيد الربوبية.
2. ابن تيمية رحمه الله
قال: (ذمَّ اللهُ عز وجل المدعين الإيمان بالكتب كلها، وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله، كما يعيب ذلك كثير ممن يدعي الإسلام وينتحله في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أوغيرهم، أوإلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام.
إلى أن قال: ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يجب تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء ألا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما حكم ويسلموا تسليماً".
3. ابن القيم رحمه الله
قال: (أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفس قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع، وأحكام الشرع وأحكام المعاد، ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج، وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضا والتسليم، وعدم المنازعة، وانتفاء المعارضة والاعتراض).
4. العز بن عبد السلام
قال: (وتفرَّد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه، وكذلك لا حكم إلا له).
5. ابن كثير رحمه الله
قال: (فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله، وشهد له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، ولهذا قال تعالى: ".. إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر"، أي ردُّوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر).
6. ابن أبي العز الحنفي رحمه الله
قال: (إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب، وأنه مخير فيه، أواستهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفر أكبر).
7. أبو السعود محمد بن محمد العمادي الحنفي المفسَّر المتوفى 982ه رحمه الله
قال عند تفسير قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون": (ومن لم يحكم بما أنزل الله كائناً من كان دون المخاطبين خاصة، فإنهم مندرجون فيه اندراجاً أولياً، أي من لم يحكم بذلك مستهيناً منكراً.. فأولئك هم الكافرون لاستهانتهم).
8. القرطبي المفسِّر رحمه الله
قال: (إن حكم بما عنده ـ أي بما وضعه من قوانين ـ على أنه من عند الله تعالى فهو تبديل يوجب الكفر).
9. الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
قال: (من اعتقد أن غير هدى الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أوأن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه، فهو كافر).
10. الشوكاني رحمه الله
قال في تفسير قوله تعالى: "فلا وربك لايؤمنون.." الآية: (فلا يثبت الإيمانُ لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم، ولا يجد الحرج في صدره مما قضى عليه، ويسلم لحكم الله وشرعه تسليماً لا يخالطه رد ولا تشوبه مخالفة).
11. محمود شكري الألوسي رحمه الله
قال: (لاشك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع ويقول هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة، ويتميز غيظاً ويتقصف غضباً إذا قيل له في أمر أمر الشارع، كما شهدنا ذلك في بعض من خذلهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم..
فلا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بيِّن المخالفة للشرع منها ـ أي القوانين ـ ويقدمه على الأحكام الشرعية منتقصاً لها).
12. محمد رشيد رضا رحمه الله(9/384)
قال في تفسير المنار في تفسير قوله تعالى: "وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله.." الآية: (والآية ناطقة بأن من صدَّ وأعرض عن حكم الله ورسوله عمداً ،ولا سيما بعد دعوته إليه وتذكيره به، فإنه يكون منافقاً لا يُعتد بما يزعمه من الإيمان، وما يدعيه من الإسلام).
13. الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية الأسبق رحمه الله
قال: (إن قوله تعالى: "يزعمون" تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه).
14. الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله
قال: (ومن أصرح الأدلة في هذا أن الله جل وعلا في سورة النساء بيَّن أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يُتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا أن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب، وذلك في قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت").
15. الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله
قال في تفسيره: (الرد إلى الكتاب والسنة شرط في الإيمان.. فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن حقيقة، بل مؤمن بالطاغوت كما جاء في الآية "ألم تر إلى الذين يزعمون.." الآية، فإن الإيمان يقتضي الانقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من الأمور، فمن زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت فهو كاذب في ذلك).
16. الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله
قال: (القرآن مملوء بأحكام وقواعد جلية، في المسائل المدنية، والتجارية، وأحكام الحرب والسلم، وأحكام القتال، والغنائم، والأسرى، وبنصوص صريحة في الحدود والقصاص، فمن زعم أنه دين عبادة فقط فقد أنكر كل هذا، وأعظم على الله الفرية، وظن أن لشخص كائناً من كان، أولهيئة كائنة من كانت، أن تنسخ ما أوجب الله من طاعته والعمل بأحكامه، وما قال ذلك مسلم ولا يقوله، ومن قاله فقد خرج عن الإسلام جملة ورفضه كله، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم).
17. الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله
قال: (الذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها.
وقال عن تعلق أهل الأهواء بكلام التابعي أبي مِجْلز السدوسي السابق: (اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء، والأعراض، والأموال، بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون الكفر شريعة في بلاد الإسلام، فلما وقف على هذين الخبرين اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها والعامل بها.
إلى أن قال: لم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.
ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مِجْلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سنَّ حاكم حكماً وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة، وأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة وتلحقه المغفرة).
18. الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله
قال وقد سئل: هل يعتبر الذين يحكمون بغير ما أنزل الله كفاراً؟ وإذا قلنا إنهم مسلمون، فماذا نقول عن قوله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" الآية؟(9/385)
قال: (الحكام بغير ما أنزل الله أقسام، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم، فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين، وهكذا من يحكم بالقوانين الوضعية بدلاً من شرع الله ويرى أن ذلك جائز، حتى لو قال: إن تحكيم الشريعة أفضل، فهو كافر، لكونه استحل ما حرَّم الله، أما من حكم بغير ما أنزل الله اتباعاً للهوى، أوللرشوة، أولعداوة بينه وبين المحكوم عليه، أولأسباب أخرى، وهو يعلم أنه عاصٍ لله بذلك، وأن الواجب عليه تحكيم شرع الله، فهذا يعتبر من أهل المعاصي والكبائر، ويعتبر قد أتى كفراً أصغر، وظلماً أصغر، وفسقاً أصغر، كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن طاوس، وجماعة من السلف، وهو المعروف عند أهل العلم، والله ولي التوفيق).
19. الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله
قال: (من لم يحكم بما أنزل الله استخفافاً به، أواحتقاراً له، أواعتقاداً أن غيره أصلح منه وأنفع للخلق، فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة، ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه).
20. هيئة كبار العلماء بالسعودية
قالوا، وقد سئلوا: من لم يحكم بما أنزل الله، هل هومسلم أم كافر كفراً أكبر؟ بعد ذكر آيات المائدة: (لكن إن استحل ذلك واعتقده جائزاً فهو كافر كفراً اكبر، وظلماً أكبر، وفسقاً أكبر، يخرج من الملة، أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة، أومقصد آخر، وهو يعتقد تحريم ذلك، فإنه آثم يعتبر كافراً كفراً أصغر).
21. سيد قطب رحمه الله
قال: (فما يمكن أن يجتمع الإيمان، وعدم تحكيم شريعة الله، مع الرضى بحكم هذه الشريعة، والذين يزعمون لأنفسهم أولغيرهم أنهم مؤمنون، ثم لا يتحاكمون بشريعة الله في حياتهم، أولايرضون حكمها إذا طبق عليهم.. إنما يدَّعون دعوى كاذبة، وإنما يصطدمون بهذا النص القاطع: "وما أولئك بالمؤمنين").
22. د. صلاح الصاوي
قال: (إن الحالة التي تواجهها مجتمعاتنا المعاصرة هي حالة الإنكار على الإسلام أن تكون له صلة بشؤون الدولة، والحجر عليه ابتداء أن تتدخل شرائعه لتنظيم هذه الجوانب، وتقرير الحق في التشريع المطلق في هذه الأمور للبرلمانات والمجالس التشريعية، وإننا أمام قوم يدينون بالحق في السيادة العليا والتشريع المطلق للمجالس التشريعية، فالحلال ما أحلته، والحرام ما حرَّمته، والواجب ما أوجبته، والنظام ما شرعته..).
وأخيراً أسأل الله أن يؤلف بين قلوب المسلمين، ويهديهم سبل السلام، وأن يهيئ للأمة الإسلامية في كل مكان أمر رشد يعزُّ فيه أهل الطاعة، ويذلك فيه أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن يجعل ولاية المسلمين فيمن خافه واتقاه واتبع رضاه، وأن يرد حكام المسلمين وعامتهم إلى الدين رداً جميلاً، اللهم من كان من هذه الأمة يظن أنه على الحق وهو ليس من أهله، اللهم فردَّه إلى الحق حتى يكون من أهله، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم رسله وأنبيائه، وعلى آله، وصحبه، ومن اتبعهم بإحسان، وسلم.
00000000000000000000000
قال عمر رضي الله عنه: "إن الله قد كلفني أن أصرف عنه الدعاء"
قال ذلك عمر رضي الله عنه في أول خطبة خطبها حين ولِي الخلافة.
قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله: (ومعنى صرف الدعاء عن الله أن ينصف المظلومين من الظالمين، ولا يُحوجهم أن يسألوا الله، وكذلك أن يدفع حاجات الناس وضروراتهم بحيث لا يحوجهم أن يطلبوا ذلك من رب العالمين، فما أفصح هذه الكلمة، وما أجمعها لمعظم الحقوق).
نفس هذا المعنى قاله أبو بكر عندما ولي الخلافة في أول خطبة له: "أيها الناس إن قويكم عندنا ضعيف حتى نأخذ الحق منه، وإن ضعيفكم عندنا لقوي حتى نأخذ الحق له"، ولا غرو في ذلك فهما حسنتان من مدرسة النبوة، وأفضل ما خرجته تلك المدرسة، حيث كانا وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كثيراً ما يقول صلى الله عليه وسلم: "خرجتُ أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر" رضي الله عنهما.
لقد جمع عمر رضي الله عنه في مقالته تلك جل دعاء المسألة، فدعاء الناس عامة لا يكون إلا لطلب الحاجات أو لدفع الظلم والمضرات.
أما حكامنا اليوم ـ أصلح الله حالنا وحالهم ـ فكأنما كلفوا بتوجه جل الدعاء إلى الله عز وجل، لكثرة تقصيرهم في حقوق الرعية، وتضييعهم لها، وبسبب توليهم ومن يليهم لتقنين الظلم والتعدي.(9/386)
فكم من حقوق ضائعة للرعية، ومظالم واقعة عليها؟! بدءاً بعدم تحكيم شرع الله فيهم، ومروراً بعدم الحكم بالسوية، والعدل في القضية، والتفريط في حق الرعية، وانتهاء باللهو والانشغال عما فيه صلاح الدين والدنيا، وتضييع فريضتي الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما المظالم التي تدفع الناس دفعاً إلى توجيه الدعاء إلى الله، والتي تفتح لها أبواب السماء، فلا تُحصى ولا تُعدّ، منها التعدي على المال العام، وفرض الباهظ من الضرائب والرسوم من غير مراعاة لحال الفقراء والضعفاء، والتقصير وعدم القيام بما يخفف ويرفع المعاناة عن الفقراء والمساكين خاصة في مجال التعليم والعلاج، وفي خلف الوعود، والتسويف في الفصل بين المتخاصمين، وحماية كثير من المتعدين على حقوق الضعفاء، ومن تفشي المحسوبية، والرِّشوة، وأكل المال بالباطل.
أين حكامنا من حرص عمر على العدل وخدمة الرعية: "لو أن بغلة بشاطئ الفرات عثرت لخشيتُ أن أسال عنها: لِمَ لم أعبِّد لها الطريق؟"، ومن قول سيد البرية: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها"، ومن قول أبي بكر في أول الردة: "أينتقص الدينُ وأنا حي؟"
فكم من حد معطَّل، وبدعة ممكِّن لها، وفساد مقنَّن، وغني مترف، وفقير معدم، وحق مضيَّع، ومحبوس مهمَل، وأمين مخوَّن، وخائن مؤتمن، ومستعاذٍ بهم يسلم، وكافر وفاسق مكرَّم معظَّم، وولي لله مهان مُحْرَم.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال عن الولاية: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها"، ونصح حين صرفها عن عمه العباس وصاحبه أبي ذر رضي الله عنهما، وحين قال: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة".
والله الموعد، وسيعلم الذين ظلموا أي مُنقلب ينقلبون.
000000000000000000000
رسالة إلى حكام المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله الصادق الوعد المبين.
وبعد..
التفرُّق، والتشتت، والتشرذم الذي أصاب الأمة في القرن الهجري المنصرم وبداية القرن الحالي، والذي أدى إلى ضعفها، وذلِّها، وهوانها، وتكالب الأمم عليها، له عدة أسباب رئيسة، هي:
[1] الفرقة: وقد دلَّ عليها قوله تعالى: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات".
[2] اتباع المتشابه من القرآن والسنة والأحكام: وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولوا الألباب".
[3] اتباع الهوى: ودلَّ عليه قوله تعالى: "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم"، وقوله: "ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله".
[4] حكام المسلمين: وبادئ ذي بدء لا بد من التنبيه على أن جميع شرائح المجتمع مسؤولة عن ذلك ـ من حكام وعلماء، ودعاة وعامة، مع تفاوت مسؤولياتهم واختلاف تقصيرهم ـ مسؤولية تامة، ولها دور في الذي حدث ويحدث الآن، ولكن دور الحكام أكبر، ومسؤوليتهم أخطر وأعظم، ولهذا سأقصر حديثي على حكام المسلمين ومسؤوليتهم فيما أصاب الأمة، وأحب أن أذكر أن حديثي هذا شامل لكل حكام المسلمين ممن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وليس خاصة لطائفة منهم دون غيرهم، لأن الدين النصيحة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: "لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"، وسأقصر حديثي كذلك في جانب واحد فقط، وهو جانب اختلاف المواقف وتباين الرؤى في القضية الواحدة المعينة من وجه نظر الدين، لما لهذه القضية من أثر بليغ في توسيع دائرة الخلاف، وزعزعة ثقة العامة في الخاصة، ولله درُّ عمر عندما غضب لاختلاف أُبيٍّ وزيد في مسألة فرعية، وقال: "من أين يصدر الناس؟".
ولهذا أسباب عديدة فيما يتعلق بالحكام، ألخصها في الآتي:
[1] استجابة حكام المسلمين للسياسة التي انتهجها أعداء الإسلام بعد القضاء على الدولة العثمانية وتقسيمها إلى دويلات وأسلاب صغيرة، وهي سياسة (فرِّق تَسُدْ)، فقد عملوا على زعزعة الثقة بين الحكام المسلمين، وقد أججوا نار ذلك بالحدود السياسية الوهمية التي بين الدول.
[2] طلب العزة والوحدة في غير الإسلام: في النزعات الوطنية، والقومية، والعرقية، كالطورانية، والعربية، والهندية، ومن طلب العزة في غير الإسلام أذله الله.
[3] حرص الحكام على كراسيهم وأنظمتهم أكثر من حرصهم على الإسلام، بحيث إذا تعارضت المصلحتان ضربوا بالإسلام عرض الحائط ولم يبالوا.
[4] اعتماد جل الحكام على أحزاب علمانية.
[5] تخويف الكفار للحكام من الجماعات والأحزاب الإسلامية، وتحذيرهم لهم منهم؛ مما جعل حاجزاً وهمياً منيعاً بين الحكام وبين هذه الجماعات.
[6] موالاة كثير من الحكام للكفار، إن رغبة أو رهبة، وثقتهم بهم، وقيام تحالفات بينهم وبين الكفار.(9/387)
[7] عمل كثير من الحكام على نشر الفاحشة واللهو في الذين آمنوا، عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، والرياضة، واللهو، ليلهوهم عن الجادة، ويشغلوهم عن معالى الأمور بسفاسفها.
[8] عدم تحكيم جلُّ الحكام لشرع الله واستعاضتهم عن ذلك بالقوانين الوضعية.
[9] إضعاف المنظمات التي كانت تمثل كل الدول الإسلامية والعربية: جامعة الدول العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، بسبب الخلافات، والاستعاضة عنها بمنظمات إقليمية ضعيفة: مجلس التعاون الخليجي، منظمة الدول الإفريقية، كل ذلك أدى إلى ضعف التضامن الإسلامي.
[10] انتشار الفساد أدى إلى إفراط وتفريط: طائفة استجابت للفساد، وطائفة غلت.
[11] كسر شوكة العلماء وإلزامهم بتبني ما تراه الدولة، مما نتج عنه تضارب في الفتاوى والمواقف، كما حدث ويحدث في سلسلة الحروب الصليبية التي قادتها أمريكا على أفغانستان والعراق.
[12] اعتماد الحكام على الوزراء والمستشارين العلمانيين الذين لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
[13] شراء الدول الغنية لبعض وسائل الإعلام وبعض الأقلام الرخيصة.
نتج عن كل ذلك:
[1] غياب عقيدة الولاء والبراء، حيث أصبح المسلم يوالي الكافر ويعادي أخاه المسلم، بل يقاتل جنباً إلى جنب تحت راية الكفار للقضاء على دولة مسلمة وأرض مسلمة، دونما خجل ولا مواراة.
[2] الجهل بأبسط قواعد الشرع: درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، أي قاعدة أخف الضررين التي هي أساس الدين.
[3] الخضوع والاستكانة للكفار، وتسلطهم على المسلمين، والتدخل في أخص خصائصهم، مثل تعديل مناهج وأساليب التربية.
[4] انقلاب الموازين، بحيث اعتبر دفاع المظلومين عن أعراضهم وأنفسهم إرهاباً وجريمة يعاقب عليها حكام المسلمين قبل رواد الكفر.
[5] ضعف روح العزة والاعتداد بالدين لدى كثير من المسلمين.
[6] استسلام كثير من المسلمين إلى اليأس والقنوط والرضا بالواقع.
[7] هيمنة قوى الشر والطغيان وتحكُّمها في مصير العالم، وأصبح لسان حالها: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، كما قال الطاغية فرعون لعنه الله.
[8] تداعي قوى الشر على الإسلام والمسلمين كما تداعى الأكلة على قصعتها:
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
0000000000000000000
الدين النصيحة
النصيحة في الدين مكانتها عظيمة، ومنزلتها عند الله عالية رفيعة، وحاجة الإنسان، كل إنسان للنصح لا تقل عن حاجته إلى الطعام والشراب و الهواء، لذلك حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الدين فيها فقال: "الدين النصيحة" ثلاثاً، لأنها بها قوامه و صلاحه؛ وعندما قيل له: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم."
ولهذا عُدَّ هذا الحديث من جملة الأحاديث الأربعة التي تجمع أمر الإسلام؛ قال الخطابي: "معنى الحديث قوام الدين وعماده النصيحة، كقوله الحج عرفة".
حكم النصيحة لكل مسلم الوجوب وإن لم يسأله، وقد قال بعضهم وجوب النصح يتوقف على السؤال، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنصحك فانصح له"، وهو يعد من حقوق المسلم على أخيه المسلم.
ووجوبها آكد من ولاة الأمر، علماء و حكام نحو رعاياهم ، لما صح عنه صلى الله عليه وسلم: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجتهد لهم وينصح إلا لم يدخل الجنة معهم."1
والنصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه تكون بالإيمان والتصديق والعمل بما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والإنتهاء عما نهيا عنه، والذب والدفاع عن الله وكتابه ورسوله، وإزالة الشبه، وتعليم الناس ما جهلوا من ذلك؛ والنصيحة لله، ولرسوله، ولكتابه في حقيقتها نصح لأنفسنا، وتزكية وتطهير لها.
ولهذا فإن هدفنا وغرضنا الأول والأخير في هذا الموقع إسداء النصح للمسلمين، وتبصيرهم و إرشادهم لما فيه صلاحهم في دينهم ودنياهم، متلزمين في ذلك بالآداب الشرعية والسنن المرعية، من غير تعنيف ولا تشهير، راجين الأجر والثواب من العلي القدير؛ قال المروزي: "سمعت أبا عبد الله يقول: قال رجل لمسعر بن كدام: تحب أن تنصح؟ قال: نعم، أما من ناصح فنعم، وأما من شامت فلا"؛ وقال مسعر: "رحم الله من أهدى إليّ عيوبي في سر بيني و بينه، فإن النصيحة في الملأ تقريع".
هذا فيما يتعلق بالأمور الشخصية ولمستورى الحال؛ أما المسائل العامة، وللمجاهرين بالبدع والمعاصي، المعلنين عنها، الداعين إليها ، فلا حرج من نصحهم علناً؛ وذلك عن طريق التعليم، والتذكير، والإفتاء.
والله أسأل التوفيق والسداد والعون والرشاد ؛ وأقول كما قال العبد الصالح عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله امرءاً أهدى إلي عيوبي.
**********************
الفهرس العام
مقدمة هامة ... 1
الباب الأول- ركن النصيحة ... 3
إمامة المرأة للرجال ... 3
الفضائيات وخطرها على الناشئة والمجتمع ... 7
هل تعلم أيها الصوفي؟! ... 10(9/388)
الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان نداء عاجل إلى الأمة الإسلامية: أغيثوا إخوانكم المحاصرين ... 21
الحكم بغير ما أنزل الله ... 23
أباطيل الترابي المنكرة توجب التكفير والتشهير ... 33
من لم يكفِّر اليهود والنصارى أوشك في كفرهم أوصحَّح مذهبهم فقد كفر ... 62
الحلاج قُتل بسيف الشرع الذي لا يقع إلا بين كتفي زنديق والله أعدل من أن يسلطه على صدِّيق ... 73
لم يعد يوم الجنائز ذلكم اليوم المشهود ... 79
أيها الشباب المسلم ألِلْعَبث واللعب وُجدتم، أم للعبادة والجد خلقتم؟ ... 81
دخول قوات التحالف الكافرة ما هو إلا غزو مغلف للسودان ... 84
ها أنتم هؤلاء جادلتم عن الترابي في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنه يوم القيامة؟ ... 85
ما هكذا تورد الإبل يا أستاذ أبو النجا ... 87
تلك عبادتكم إياه ... 91
نعم للوسطية، ولكن ما هي الوسطية؟ ... 93
ومنزلة الفقيه من السفيه كمنزلة السفيه من الفقيه ... 96
بين شرعنا العتيق وشرع الترابي المبدل ... 97
أَوَ يَكْفُر أحد من أهل القبلة؟! ... 108
بين حزب الله وحزب الشيطان ... 116
الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان ... 118
"لكنَّ الله أمرنا ببغض الأعداء" ... 121
عام الرمادة، ومواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه والعظات والعبر المستفادة ... 129
حكم مالك وأتباعه في السماع الصوفي، والرقص، والتواجد ... 139
" إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ "نصيحة إلى ولاة الأمر ... 149
أيها السنيون احذروا أحفاد ابن سبأ، وابن العلقمي، وأبي طاهر القرمطي... الشيعة ... 165
أيها السنيون السلفيون انتبهوا واتحدوا فأنتم المعنيون ... 173
من الكفر البيِّن تقسيم الإسلام إلى إسلام سياسي وإسلام تعبدي ... 174
الاعتراف بالآخر كلمة حق يُراد بها باطل ... 184
حرية الفكر صنم هذا العصر ... 192
من شك في كفر وردة محمود "مذموم" محمد طه أوصحَّح ما يعتقده فهو كافر مرتد ... 195
لا خير في أمة لا تثأر لرسولها المجتبى ولحبيبها المصطفى ... 197
تعقيب على ما جاء في ندوة د. الترابي ببورسودان ... 205
وقفات مع أخطر مخالفات دستور السودان 1426ه - 2005م للإسلام ... 221
لا للختان الفرعوني، لا لقرار المجلس الطبي، نعم للختان السني ... 238
الوعيد الشديد لمن هنّأ أوشارك في أعياد عبّاد الصليب ... 243
الأعياد وعلاقتها بالعقائد والشرائع ... 246
مذاهب العلماء في حكم صلاة المنفرد خلف الصف ... 254
حكم الهجرة إلى ديار الكفار، والعيش بين ظهرانيهم، والتجنس بجنسية إحدى الدول الكافرة ... 260
ختان الإناث بين شريعة الإسلام وقانون حقوق الإنسان ... 267
أيها الشاب المسلم إذا قلد البعضُ الفنانين والفسقة، فاقتد أنت بنبيك والسلف البررة ... 270
العدالة ليست شرطاً في الآمر الناهي ... 274
أين أنت يا والي الخرطوم من هذه المهازل؟ ... 280
أيها الحكام أين أنتم من سلفكم الصالح في عدم الأخذ بالظنة وفي عدم التجسس واتباع العورات؟ ... 282
ويل لمن غلبت آحادُه أعشارَه، ولا يهلك على الله إلا هالك ... 301
توبة من بيده مال حرام ... 303
تباً لعبدة الشيطان وتباً لمن عبد سوى الرحمن ... 306
العمليات الجهادية الاستشهادية بين المجيزين والمانعين ... 308
العمليات الجهادية الاستشهادية حكمها، شروطها، فضلها، ثوابها ... 316
ما أطيب الإسلام وأحسنه، وما أخبث الكفر وأقبحه ... 324
الحق لا يُعرف بالكثرة ولا بالرجال، ولكن بالأدلة والآثار ... 328
الفروق الأساسية بين السياسة الشرعية والسياسة الجاهلية ... 330
يا أيها المؤمنون احذروا كيد الكفار والمنافقين ... 336
ما هو من الأقوال، والأعمال، والاعتقادات كفر ... 338
النحس في الكفر، والشرك، والمعاصي، وليس في الأيام والشهور ... 351
بيان من الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة حول قرار مجلس الأمن الجائر ... 353
حكم الانتماء والانتساب إلى الأحزاب الكافرة والعلمانية ... 356
بمناسبة عيد الأم ... 358
أمينة ودود من المبدلات لشرع الله، المستحقات لمقته وغضبه ... 360
أيها العلماء احذروا أن يؤتى الإسلام من قبلكم ... 363
تنبيه الإخوان للبدع والمخالفات المصاحبة لختم القرآن ... 406
تذكير الساجد بعدم جواز تخطي ما يليه من المساجد ... 418
بدع الجنائز ومحدثاتها ... 420
تعقيب على مقال"السلفيون الجدد وفتاوى الفتنة" ... 463
رسالة إلى طالب جامعي مبتدئ ... 473
رسالة إلى أصحاب الحافلات وسيارات الأجرة، وسائقيها، ومعاونيهم ... 476
إذاعة "المانجو" 96 FM وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ... 479
رفعة الدين وعز الإسلام والمسلمين بمجاهدة الكفاروالمنافقين ... 482
مفاهيم ينبغي أن تصحح بين اليسر والتفلت ... 500
مفاهيم ينبغي أن تصحح ما حقيقة الصوفية؟ ... 509
تهنئة وتعزية بالعيد ... 519
بدع رمضانية ومحدثات محلية وعالمية ... 522
أخي الكريم كن ربانياً ولا تكن رمضانياً ... 527(9/389)
أيها الموسرون الأخيار ساهموا في نشر ميراث سيد الأبرار ... 529
أيها المسلمون أشركوا المجاهدين في دعائكم، ولا تنسوا أمواتكم ... 532
رسالة إلى تارك الصلاة ... 534
أشر ما دخل جوف ابن آدم الربا ... 537
رسالة إلى محروم ... 538
إمام ظلوم غشوم ، خير من فتنة تدوم ... 540
التثويب "الصلاة خير من النوم" في أي أذَانَي الصبح يُقال: الأول أم الثاني؟ ... 572
ما ينبغي أن يستقبل به المسلمون شهر رمضان ... 583
غياب المرجعية الشرعية لدى المسلمين في هذا العصر سبب لكل بلية ... 585
خير الناس من طال عُمُرُه وحَسُنَ عَمَلُه ... 592
أيها المفرط في قضاء الصوم والكفارة انتبه فإن رمضان على الأبواب ... 593
الأهلة لا تثبت بالحساب وإنما بالرؤية ... 595
أيها المسلمون دارفور تستغيث بكم فأغيثوها ... 603
بمناسبة مأساة دارفور "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقابَ بعض" ... 608
فتنة الرجل في ماله، وأهله، وولده، وكفارتها ... 613
ما ذُبِح لغير الله عز وجل فلا يؤكل ... 625
إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم ... 627
من تهاون في المندوب ترك الواجب، ومن تساهل في المكروه فعل الحرام ... 630
أهم العوائق والصعاب التي تواجه معلمي العلوم الشرعية للمبتدئين الناطقين بغير العربية ... 635
النصائح الغالية في التحذير من أسباب الخلاف الواهية ... 643
مطل الغني ظلم ... 665
احذر أخي المسلم أن يكون الحلال عندك ما حلَّ في يدك، والحرام ما حُرِمته ... 666
من علامات النفاق المتهاون فيها خلف الوعد ... 668
أيها المسؤولون تداركوا مشروع الجزيرة ... 670
لِمَ أخي المسلم تعطى الدنية في دينك؟! ... 673
إسرائيل وأمريكا رائدتا الإرهاب والقرصنة اليوم في العالم ... 677
أيها المسلمون لا تبخلوا على إخوانكم المجاهدين بأموالكم ودعائكم ... 678
أيها العلماء والدعاة احذروا أسباب التفرق: التشرذم، والانغلاق، وسوء الظن ... 680
أيها المجاهدون إنكم تقاتلون عن دينٍ وعد الله بنصره ... 683
لتسألنَّ يومئذ عن النعيم ... 684
أبوبصير وأبوجندل رضي الله عنهما أول من سنَّا حرب المقاومة والعصابات في الإسلام ... 687
احذروا الركون إلى الكفار "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسَّكم النار" ... 691
أيها الطالب كيف تقضي عطلتك الصيفية؟ ... 696
لن يُفلح قومٌ ولَّوْا أمرهم امرأة ... 699
أيها المسؤولون، أيها الموظفون احذروا استغلال سلطتكم وجاهكم ... 701
العاقل الذي يعرف خير الشرين ... 708
ردٌّ على كافرة ازدادت كفراً وردة بنيلها من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته ... 709
أيها الموسرون الأسخياء ارعوا العلم والعلماء ... 715
يا رجال المرور انتبهوا واعملوا على تدارك حوادث المرور ... 728
ماذا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ ... 735
التحقيق في موضع رأس الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنهما ... 737
أيها المنافقون احذروا ... 740
المستشار مُؤْتمن ... 741
أخي الشاب احذر الاشتغال بتصنيف الخلق ... 745
مفاهيم ينبغي أن تصحَّح هذا متشدد؟ ... 748
سعادة الدَّارين في برِّ الوالدين ... 767
التحية بالقُبَل من المنكرات المحرمات ... 808
صلة الرّحم وقطعها ... 826
أيها المسلمون اتقوا الله في الخدم وارعوا فيهم وصية نبيِّكم ... 844
ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ... 850
لقد أخطأت إسْتُكَ الحفرةَ يا شيخ الأزهر!! ... 857
المحافظة على رمم وجيف الكفار الهالكين، وعلى الأصنام، وعلى آثارهم مخلفاتهم عمل جاهلي وثني ... 860
تغيير المناهج الذنب الذي لا يُغتفر، والخطر المحدق ... 863
الأدلة الشرعية والحجج القوية في تحريم مصافحة المرأة الأجنبية: ... 864
المنافقون اليوم أكثر عدداً، وأعظم خطراً وشراً من المنافقين الماضين، أولئك كانوا يسرون نفاقهم، وإخوانهم اليوم يعلنون نفاقهم ... 873
لا حوار مع الكفار في سوى التخيير بين الإسلام، والجزية، والقتال ... 881
عدم نظر الكريم المنان لمسبل الأزر، والثياب، والسراويل، والقمصان ... 886
أحكام تارك الصلاة في الحياة وبعد الممات ... 900
أيها المسلمون لا يكن أهل الجاهلية والكلاب أحسن جواراً منكم ... 904
أيها المبتدعة احذروا أن يحل بكم ما حل بعمرو بن لحي الخزاعي لتغييره دين إسماعيل عليه السلام ... 912
من وقَّر صاحب بدعة أوفسق فقد أعان على هدم الإسلام ... 918
الحكمُ بغير ما أنزل الله كفرٌ ناقلٌ عن الملة إلا في صورتين ... 919
قال عمر رضي الله عنه: "إن الله قد كلفني أن أصرف عنه الدعاء" ... 930
رسالة إلى حكام المسلمين ... 932
الدين النصيحة ... 934(9/390)
فضل الدعاء
آداب الدعاء ومستحباته
أولى ما يُدعى به
ما يكره في الدعاء
آداب الدعاء ومستحباته
1- الطهارة.
2- استقبال القبلة.
3- تحرِّي الأوقات والحالات الفاضلة، كالسجود والصيام والسفر ولقاء العدو وجوف الليل وبين الأذان والإقامة ويوم الجمعة....
4- رفع اليدين وبسط الكفَّين.
5- إظهار الفقر والمسكنة.
6- التضرُّع والخشوع.
7- اختيار أحسن الألفاظ وأنبلها وأجمعها للمعاني وأبينها.
8- الإعراب ومجانبة اللحن، ما أمكن إلى ذلك سبيلا.
9- افتتاحه بالحمد والثناء على الله -عزَّ وجلَّ- بما هو أهله، والصلاة على النبي.
10- تقديم التوبة والإستغفار والاعتراف بالذنب والإخلاص في الدعاء.
11- التوسُّل بالأسماء الحسنى والصفات العليا، قال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [الأعراف: 180].
12- التوسُّل بالأعمال الصالحة.
13- الإلحاح على الله فيه بتكرير ذكر ربوبيته، وهو أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء.
14- التأمين بعده، فهو كالخاتم له.
15- ملازمة الطلب، وعدم اليأس من الإجابة.
فضل الدعاء
للدعاء فضائل كثيرة، منها:
1- أنَّه سنَّة الأنبياء والمرسلين، ودأب الأولياء والصالحين، فمن تركه فقد سلك سبل الأشقياء والمتكبرين، قال الله تعالى: إنَّهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين [الأنبياء: 90]، وقال: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيُّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه [الإسراء: 57]، وقال: إنَّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنَّم داخرين [غافر: 60].
2- أنَّ الله تعالى أمر به وحثَّ عليه، وكذلك رسوله الكريم ، قال تعالى: واسألوا الله من فضله [النساء: 32]، وقال: وقال ربُّكم ادعوني أستجب لكم [غافر: 60]، وقال: فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون [غافر: 14]، وقال: ادعوا ربَّكم تضرُّعا وخفية إنَّه لا يحبُّ المعتدين إلى قوله تعالى: وادعوه خوفا وطمعا [الأعراف: 55-56].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من لم يسألِ اللهَ يغضبْ عليه)) أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وابن ماجه والبزار والحاكم.
3- أنَّ أهل الجنَّة علَّلوا به نجاتهم من عذاب النار فقالوا: فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السموم إنَّا كنَّا من قبل ندعوه إنَّه هو البرُّ الرحيم [الطور: 27-28].
4- أنَّ الله تعالى أمر نبيه أن يجالسَ ويلازمَ أهلَ الدعاء، وأن لا يعدُوَهم إلى غيرهم بالنظر فضلا عمَّا هو فوقه، قال الله تعالى: واصبِر نفسَك مع الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشيِّ يريدون وجهَه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطعْ من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطا [الكهف: 28].
5- أنَّه من أفضل العبادات، قال الله تعالى: وقال ربُّكم ادعوني أستجب لكم إنَّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنَّم داخرين وقال النبيُّ : ((الدعاء هو العبادة)).
6- أنَّ الله تعالى نهى عن الإساءة إلى أهل الدعاء تشريفا وتكريما لهم فقال: ولا تطردِ الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشِيِّ يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردَهم فتكونَ من الظالمين [الأنعام: 52].
7- أنَّ الله تعالى لمَّا ذكر جملةَ ما أمر به ذكر من بين ذلك الدعاء فقال تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كلِّ مسجدٍ وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون [الأعراف: 29].
8- أنَّ الله تعالى وصف به أهل الإيمان فقال تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكِّروا بها خرُّوا سجَّدا وسبَّحوا بحمد ربِّهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربَّهم خوفا وطمعا وممَّا رزقناهم ينفقون [السجدة: 15-16].
9- أنَّ من لزم الدعاء فلن يدركه الشقاء، قال الله تعالى عن زكريَّا: ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًّا [مريم: 4]، وقال عن خليله إبراهيم: عسى ألاَّ أكون بدعاء ربِّي شقيًّا [مريم: 48].
10- أنَّه من صفات أهل الجنة في الجنة، قال تعالى: دعواهم فيها سبحانك اللهمَّ وتحيَّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين [يونس: 10].
11- أنَّه ليس شيء أكرم منه على الله تعالى فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)) أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم.
12- أنَّ الله تعالى يحبُّه ويحبُّ الملحِّين فيه، عن ابن مسعود مرفوعا: ((سلوا الله من فضله، فإنَّ الله يحبُّ أن يسأل)) أخرجه الترمذي، وعن عائشة مرفوعا: ((إنَّ الله يحبُّ الملحِّين في الدعاء)) أخرجه الطبراني في "كتاب الدعاء".
13- أنَّ الدعاء كلَّه خير، فعن أبي سعيد رفعه: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلاَّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن يُعجِّل له دعوته، وإمَّا أن يدَّخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرف عنه من السوء مثلها)) أخرجه أحمد وصححه الحاكم.(10/1)
14- أنَّ الله تعالى وعد بإجابة الدعاء فقال: وإذا سألك عبادي عنِّي فإنِّي قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [البقرة: 186]، وقال: أمَّن يجيب المضطرَّ إذا دعاه ويكشف السوء [النمل: 62]، وقال: ادعوني أستجب لكم .
ما يكره في الدعاء
1- الجهر الشديد بالصوت.
2- الإشارة بأصبعين، وإنَّما يشير بالسبَّابة من يده اليمنى فقط.
3- الاعتداء فيه، [أي تجاوز الحد فيه كسؤال الله محرما أو إثما] وليس من الاعتداء الإكثار منه.
4- الدعاء بالمحال [كطلب الخلود في الدنيا]، وطلب ما لا مطمعَ فيه.
5- الدعاء بالمعصية.
6- الدعاء بالأدعية المبتدعة المخترعة المنكرة.
7- السجع وتكلُّف صنعة الكلام له، [والمكروه منه هو المتكلَّف، لأنَّه لا يلائم الضراعةَ والذلَّة والخشوع المطلوب في الدعاء].
8- الاستثناء فيه، أي تعليق الدعاء بمشيئة الله تعالى (مثل قول اللهم اغفر لي إن شئت) لما في ذلك من شائبة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه، ولما في ذلك أيضا من الإشعار بأنَّ لله مكرها له، تعالى الله عن ذلك.
9- التوسُّل البدعيُّ فيه، كالتوسُّل بجاه النبي أو بذاته الشريفة، أو بغيره من الأنبياء والملائكة والصالحين.
أولى ما يُدعى به
أولى ما يدعى به وما يُستعمل منه ما صحَّت به الرواية عن رسول الله وثبت عنه بالأسانيد الصحيحة، فإنَّ الغلط يعرض كثيرا في الأدعية التي يختارها الناس، لاختلاف معارفهم، وتباين مذاهبهم في الاعتقاد والانتحال.
قال الطبراني مبينا سبب تأليفه "كتاب الدعاء": هذا الكتاب ألفته جامعا لأدعية رسول الله ، حداني على ذلك أني رأيت كثيرا من الناس قد تمسكوا بأدعية سجع، وأدعية وضعت على عدد الأيام مما ألفها الوراقون، لا تروى عن رسول الله ، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن أحد من التابعين بإحسان، مع ما روي عن رسول الله من الكراهية للسجع في الدعاء، والتعدي فيه. فألفت هذا الكتاب بالأسانيد المأثورة عن رسول الله اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "القاعدة الجليلة" (1/336 -مجموع الفتاوى-): وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة التي جاء بها الكتاب والسنة، فإنَّ ذلك لا ريب في فضله وحسنه، وأنَّه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقا. اهـ(10/2)
فضل الدعاء
آداب الدعاء ومستحباته
أولى ما يُدعى به
ما يكره في الدعاء
آداب الدعاء ومستحباته
1- الطهارة.
2- استقبال القبلة.
3- تحرِّي الأوقات والحالات الفاضلة، كالسجود والصيام والسفر ولقاء العدو وجوف الليل وبين الأذان والإقامة ويوم الجمعة....
4- رفع اليدين وبسط الكفَّين.
5- إظهار الفقر والمسكنة.
6- التضرُّع والخشوع.
7- اختيار أحسن الألفاظ وأنبلها وأجمعها للمعاني وأبينها.
8- الإعراب ومجانبة اللحن، ما أمكن إلى ذلك سبيلا.
9- افتتاحه بالحمد والثناء على الله -عزَّ وجلَّ- بما هو أهله، والصلاة على النبي.
10- تقديم التوبة والإستغفار والاعتراف بالذنب والإخلاص في الدعاء.
11- التوسُّل بالأسماء الحسنى والصفات العليا، قال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [الأعراف: 180].
12- التوسُّل بالأعمال الصالحة.
13- الإلحاح على الله فيه بتكرير ذكر ربوبيته، وهو أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء.
14- التأمين بعده، فهو كالخاتم له.
15- ملازمة الطلب، وعدم اليأس من الإجابة.
فضل الدعاء
للدعاء فضائل كثيرة، منها:
1- أنَّه سنَّة الأنبياء والمرسلين، ودأب الأولياء والصالحين، فمن تركه فقد سلك سبل الأشقياء والمتكبرين، قال الله تعالى: إنَّهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين [الأنبياء: 90]، وقال: أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيُّهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه [الإسراء: 57]، وقال: إنَّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنَّم داخرين [غافر: 60].
2- أنَّ الله تعالى أمر به وحثَّ عليه، وكذلك رسوله الكريم ، قال تعالى: واسألوا الله من فضله [النساء: 32]، وقال: وقال ربُّكم ادعوني أستجب لكم [غافر: 60]، وقال: فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون [غافر: 14]، وقال: ادعوا ربَّكم تضرُّعا وخفية إنَّه لا يحبُّ المعتدين إلى قوله تعالى: وادعوه خوفا وطمعا [الأعراف: 55-56].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من لم يسألِ اللهَ يغضبْ عليه)) أخرجه أحمد والبخاري في "الأدب المفرد" والترمذي وابن ماجه والبزار والحاكم.
3- أنَّ أهل الجنَّة علَّلوا به نجاتهم من عذاب النار فقالوا: فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السموم إنَّا كنَّا من قبل ندعوه إنَّه هو البرُّ الرحيم [الطور: 27-28].
4- أنَّ الله تعالى أمر نبيه أن يجالسَ ويلازمَ أهلَ الدعاء، وأن لا يعدُوَهم إلى غيرهم بالنظر فضلا عمَّا هو فوقه، قال الله تعالى: واصبِر نفسَك مع الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشيِّ يريدون وجهَه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطعْ من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطا [الكهف: 28].
5- أنَّه من أفضل العبادات، قال الله تعالى: وقال ربُّكم ادعوني أستجب لكم إنَّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنَّم داخرين وقال النبيُّ : ((الدعاء هو العبادة)).
6- أنَّ الله تعالى نهى عن الإساءة إلى أهل الدعاء تشريفا وتكريما لهم فقال: ولا تطردِ الذين يدعون ربَّهم بالغداة والعشِيِّ يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردَهم فتكونَ من الظالمين [الأنعام: 52].
7- أنَّ الله تعالى لمَّا ذكر جملةَ ما أمر به ذكر من بين ذلك الدعاء فقال تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كلِّ مسجدٍ وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون [الأعراف: 29].
8- أنَّ الله تعالى وصف به أهل الإيمان فقال تعالى: إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكِّروا بها خرُّوا سجَّدا وسبَّحوا بحمد ربِّهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربَّهم خوفا وطمعا وممَّا رزقناهم ينفقون [السجدة: 15-16].
9- أنَّ من لزم الدعاء فلن يدركه الشقاء، قال الله تعالى عن زكريَّا: ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًّا [مريم: 4]، وقال عن خليله إبراهيم: عسى ألاَّ أكون بدعاء ربِّي شقيًّا [مريم: 48].
10- أنَّه من صفات أهل الجنة في الجنة، قال تعالى: دعواهم فيها سبحانك اللهمَّ وتحيَّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله ربِّ العالمين [يونس: 10].
11- أنَّه ليس شيء أكرم منه على الله تعالى فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)) أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم.
12- أنَّ الله تعالى يحبُّه ويحبُّ الملحِّين فيه، عن ابن مسعود مرفوعا: ((سلوا الله من فضله، فإنَّ الله يحبُّ أن يسأل)) أخرجه الترمذي، وعن عائشة مرفوعا: ((إنَّ الله يحبُّ الملحِّين في الدعاء)) أخرجه الطبراني في "كتاب الدعاء".
13- أنَّ الدعاء كلَّه خير، فعن أبي سعيد رفعه: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلاَّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن يُعجِّل له دعوته، وإمَّا أن يدَّخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرف عنه من السوء مثلها)) أخرجه أحمد وصححه الحاكم.(11/1)
14- أنَّ الله تعالى وعد بإجابة الدعاء فقال: وإذا سألك عبادي عنِّي فإنِّي قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [البقرة: 186]، وقال: أمَّن يجيب المضطرَّ إذا دعاه ويكشف السوء [النمل: 62]، وقال: ادعوني أستجب لكم .
ما يكره في الدعاء
1- الجهر الشديد بالصوت.
2- الإشارة بأصبعين، وإنَّما يشير بالسبَّابة من يده اليمنى فقط.
3- الاعتداء فيه، [أي تجاوز الحد فيه كسؤال الله محرما أو إثما] وليس من الاعتداء الإكثار منه.
4- الدعاء بالمحال [كطلب الخلود في الدنيا]، وطلب ما لا مطمعَ فيه.
5- الدعاء بالمعصية.
6- الدعاء بالأدعية المبتدعة المخترعة المنكرة.
7- السجع وتكلُّف صنعة الكلام له، [والمكروه منه هو المتكلَّف، لأنَّه لا يلائم الضراعةَ والذلَّة والخشوع المطلوب في الدعاء].
8- الاستثناء فيه، أي تعليق الدعاء بمشيئة الله تعالى (مثل قول اللهم اغفر لي إن شئت) لما في ذلك من شائبة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه، ولما في ذلك أيضا من الإشعار بأنَّ لله مكرها له، تعالى الله عن ذلك.
9- التوسُّل البدعيُّ فيه، كالتوسُّل بجاه النبي أو بذاته الشريفة، أو بغيره من الأنبياء والملائكة والصالحين.
أولى ما يُدعى به
أولى ما يدعى به وما يُستعمل منه ما صحَّت به الرواية عن رسول الله وثبت عنه بالأسانيد الصحيحة، فإنَّ الغلط يعرض كثيرا في الأدعية التي يختارها الناس، لاختلاف معارفهم، وتباين مذاهبهم في الاعتقاد والانتحال.
قال الطبراني مبينا سبب تأليفه "كتاب الدعاء": هذا الكتاب ألفته جامعا لأدعية رسول الله ، حداني على ذلك أني رأيت كثيرا من الناس قد تمسكوا بأدعية سجع، وأدعية وضعت على عدد الأيام مما ألفها الوراقون، لا تروى عن رسول الله ، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن أحد من التابعين بإحسان، مع ما روي عن رسول الله من الكراهية للسجع في الدعاء، والتعدي فيه. فألفت هذا الكتاب بالأسانيد المأثورة عن رسول الله اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "القاعدة الجليلة" (1/336 -مجموع الفتاوى-): وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية المشروعة التي جاء بها الكتاب والسنة، فإنَّ ذلك لا ريب في فضله وحسنه، وأنَّه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقا. اهـ(11/2)
كيف تحضر خطبة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثم أما بعد:
فإن لكل خطيب طريقته وأسلوبه في إعداد خطبته والتفاعل معها. لذا كان الهدف من إنشاء هذه الصفحة المستقلة، هو الإفادة من خبرات الإخوة الخطباء وعرض تجاربهم على إخوانهم في أنحاء المعمورة.
والمنبر، يهيب بالإخوة الخطباء التفاعل مع هذه الزاوية والمشاركة في إثرائها بالتجارب والخبرات. والله الموفق.
كيف تحضر خطبة الجمعة:
عند البدء في تحضير خطبة الجمعة، لابد من مراعاة التسلسل التالي، حتى تكون الخطبة محكمة ومنظمة.
الخطوة الأولى:
اطرح على نفسك السؤال التالي، ولتكن إجابته في كلمتين أو ثلاث:
ماذا أريد أن أقول؟؟!
إن الإجابة المركزة على هذا السؤال، هي أساس خطبتك.
إجابة صحيحة:
وجوب صلاة الجماعة أو أهمية صلاة الجماعة فهناك فروقات دقيقة بين الموضوعين، فالخطيب الذي يرغب الحديث عن وجوب صلاة الجماعة، سيتطرق إلى مناقشة الأدلة وتوضيحها وربما احتاج إلى الرد على شبهات المخالفين.
وأما الحديث عن أهمية صلاة الجماعة، فمختلف تماماً من حيث الاستدلال والهدف. فالهدف من الموضوع الأول تحذير الناس وتخويفهم وتذكيرهم بأهمية الصلاة جماعة وعاقبة من فرط في ذلك.
وأما الموضوع الثاني، فيعتمد على الترغيب وإثارة الهمم ورفعها.
والخطيب الذي لا يدرك الفرق بين الموضوعين، يخرج المصلون من مسجده وهم لا يدرون ماذا خطب صاحبهم؟!
إجابة خاطئة:
أهمية الصلاة والتحذير من التهاون بها وبيان أن بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة والحرص على أمر الأبناء بها.
فهذه الإجابة من الخطيب، تدل بوضوح على عدم وضوح الرؤية لديه حول موضوع محدد.
لذا نؤكد أن الإجابة على السؤال لابد وأن تكون مختصرة ومحددة وعلى شكل عنوان، تسمى به الخطبة.
الخطوة الثانية:
لماذا هذا الموضوع؟! ما الدافع لطرح هذا الموضوع؟!
ما الفائدة في طرح هذا الموضوع؟!
وتعتبر هذه الخطوة أهم مراحل إعداد الخطبة على الإطلاق، فالإجابة الدقيقة المرتبة، ستكون بمثابة متن الخطبة وعناصرها الرئيسة، التي لابد من بحثها وتفصيلها.
وإذا لم تكن لديك إجابة مفصلة ودقيقة، فتريث أيها الأخ الفاضل، فخطبتك قد تكون ركيكة، بعيدة عن الموضوعية والتناسق.
إجابة موفقة للسؤال السابق:
لنفرض أن الخطيب اختار الحديث عن حكم ترك الصلاة؟! فيسأل نفسه: لماذا اخترت هذا الموضوع؟!
فتكون الإجابة:
1- لتهاون الناس في أداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام.
2- لأن تارك الصلاة يكفر ويخرج عن دين الإسلام.
3- لأن كفره يترتب عليه أحكام خاصة تحكم علاقته بمن حوله من الأقارب والأباعد من المسلمين.
4- انتشار ظاهرة الإرجاء وتشجيع الكسالى والفسقة على المعاصي واقتراف المنكرات.
فهذه الأسباب الأربعة، أسباب قوية تدفعك لطرح هذه الموضوع. وستشكل العناصر الرئيسة لخطبتك.
فمثلاً:
السبب الأول:
سيكون بمثابة الافتتاحية لخطبتك. فتستهل الخطبة ببيان أن الناس تهاونوا في أمر عظيم.
وأما السبب الثاني:
فسيكون محور الحديث، إذ يلزمك إثبات كفر تارك الصلاة بالآيات والأحاديث والآثار وأقوال أهل العلم.
والسبب الثالث:
خير ما تختم به خطبتك، مخوفاً العباد ومحذراً لهم من العقوبات المترتبة على ترك الصلاة، ومصير علاقته وولايته بأقرب الناس إليه من زوجةٍ وولد.
والسبب الرابع:
يكون تنبيهاً موجزاً في الخطبة الثانية تبين فيه ضلال القائلين بهذا القول. مع ملاحظة الإجمال والدقة في طرح الموضوع، لأن تفصيله لا يناسب كونه في الخطبة الثانية ذات الوقت الضيق وكما رأيت فقد أضحت إجابتك على السؤال هي متن الخطبة وبنيتها الأساسية.
الخطوة الثالثة:
ما مدى مناسبة الموضوع للزمان؟ وللبيئة؟!
سؤال مهم جداً، ويحتاج إلى نباهة وفطنة من الخطيب، فمراعاة الزمان وأحوال الناس وما يشغلهم من قضايا، عوامل رئيسة في قبول الخطبة وتأثيرها.
فلا شك أن موضوعاً كالصلاة، هو خير موضوع ولكنه قد لا يكون مناسباً من حيث الزمان أو البيئة؟! فتنبه.
مثال عدم مناسبة الزمان:
إذا اختار الخطيب طرح موضوع حكم ترك الصلاة في أزمنة معينة.
قد يكون الطرح غير مناسب البتة، بالرغم من أهمية الموضوع وجلالته.
فمثلاً: لا يحسن بالخطيب طرح هذا الموضوع وهو يستقبل شهر رمضان المبارك، كأن توافق الخطبة يوم الثامن والعشرين من شعبان، إذ يتوقع الناس حديثاً من الصيام وأحكامه وتذكيراً بها.
أو يكون وقت الخطبة في السابع من أيام العشر الأول من ذي الحجة والناس يستعدون لسماع أحكام وآداب لا يسع الخطيب تأخيرها عن وقتها.
مثال لعدم مناسبة الموضوع للبيئة أو المكان:(12/1)
فموضوع الصلاة السابق الذكر، قد لا يناسب مجتمعاً محافظاً على الصلوات حريصاً عليها. وحينما أقول لا يناسب طرحه، فالمقصود أن غيره أولى منه، لا أنه غير مفيد أو غير هام. بل كلٌ من عند ربنا وهو علم نافع ومدارسة للعلم وذكرٌ يثاب المرء على سماعه.
ولكن قد يحتاج الناس إلى موضوعات أكثر أهمية من حيث الأولوية.
الخطوة الرابعة:
براعة الاستهلال!
إن اختيارك لمقدمة مناسبة لها أكبر الأثر في حصول الأثر المرجو من الخطبة. وقد تكسب أذهان الحضور وتركيزهم منذ اللحظة الأولى أو تفقده كذلك. فرب مقدمة موفقة، شدت عقول الناس وانتباههم ومشاعرهم. وأخرى غير موفقة أو غير معبرة تجعل من الصعوبة بمكان الاستحواذ على انتباه المصلين.
وبعض الخطباء يبالغ في المقدمة ويطيل فيها لدرجة تؤثر على وقت الخطبة.
وقد يكون من المناسب أحياناً، بل من المفيد أن يبدأ الخطيب حديثه دون مقدمة، فيستهل خطبة بقوله: حديثنا اليوم معاشر المؤمنين سيكون حول ترك الصلاة.
وهذا قد يكون – أحياناً – أبلغ وأفضل وأحفظ للوقت وأرعى للتركيز، والله أعلم.
الخطوة الخامسة:
خاتمة الموضوع!
يظن بعض الخطباء خطأ، أن لكل موضوع خاتمة مستقلة، ولا شك أن هذا المفهوم غير مطرد، وإن كان هو الغالب.
والهدف من اختيار الخاتمة المناسبة هو التأكد من حصول الأثر وتحقق الأهداف التي طرحها الخطيب في الخطوة الثانية.
فإذا شارف الخطيب على إنهاء خطبته، ولم يتمكن من التعريج المناسب والمفصل لعناصر خطبته، ولم يكمل بيانها، فعليه مراجعة الخطبة مجدداً. فبراعة الختام وأهميته، لا تقل بحال عن براعة الاستهلال.
وبعد أيها الأخ الفاضل، وفقك الله لمرضاته.
فالخطابة كما تكون كسبية لها طرق ودروب يسلكها الراغب، فهي كذلك وهبية، من الكريم الوهاب، والموفق من جمع الله له الأمرين، فسل الله من فضله.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.(12/2)
مباحث فقهية حول الجمعة
مسالة حكم السفر (*) يوم الجمعة قبل الصلاة :
لا خلاف بين العلماء في جواز السفر ليلة الجمعة قبل طلوع الفجر إلا ما حكاه العبدري عن إبراهيم النخعي أنه قال : لا يسافر بعد دخول العشاء من يوم الخميس حتى يصلي الجمعة . ذكر هذا الإمام النووي و قال : و هذا مذهب باطل لا أصل له (6).
و أما السفر من طلوع الفجر إلى الزوال فاختلف العلماء في جوازه على خمسة أقوال ذكرها الإمام الشوكاني : الأول الجواز :
قال العراقي : و هو قول أكثر العلماء ، فمن الصحابة : عمر بن الخطاب ، و الزبير بن العوام ، و أبو عبيدة بن الجراح ، و ابن عمر . و من التابعين : الحسن و ابن سيرين و الزهري . و من الأئمة : أبو حنيفة ، و مالك في الرواية المشهورة عنه ، و الأوزاعي ، و أحمد بن حنبل في الرواية المشهورة عنه ، و هو القول القديم للشافعي ، و حكاه ابن قدامة عن أكثر أهل العلم .
و القول الثاني المنع منه :
و هو قول الشافعي في الجديد ، و هو إحدى الروايتين عن أحمد و عن مالك .
و الثالث :جوازه لسفر الجهاد دون غيره : و هو إحدى الروايات عن أحمد .
و الرابع : جوازه للسفر الواجب دون غيره : و هو اختيار إسحاق المروزي من الشافعية ،
و مال إليه إمام الحرمين .
و الخامس :جوازه لسفر الطاعة واجباً كان أو مندوباً :
و هو قول كثير من الشافعية من الشافعية و صححه الرافعي (1).
و قال النووي : " … و أما السفر بين الفجر و الزوال فقد ذكرنا أن الأصح عندنا تحريمه و به قال ابن عمر و عائشة و النخعي ، و جوزه عمر بن الخطاب و الزبير بن العوام و الحسن و ابن سيرين و مالك و ابن المنذر . و احتج لهم بحديث ابن رواحة رضى الله عنه و هو حديث ضعيف جداً و ليس في المسألة حديث صحيح " (2).
و قال ابن القيم : بعد أن ذكر الخلاف في السفر قبل الجمعة : " … هذا إذا لم يخف المسافر فوت رفقته ، فإن خاف المسافر فوت رفقته و انقطاعه بعدهم ، جاز له السفر مطلقاً ، لأن هذا عذر يُسقط الجمعة و الجماعة . و لعل ما رُوي عن الأوزعي- أنه سُئل عن مسافر سمع أذان الجمعة و قد أسرج دابته ، فقال : ليمض على سفره – محمول على هذا ، و كذلك قول ابن عمر رضى الله عنه الجمعة لا تحبس عن السفر .
و إن كان مرادهم جواز السفر مطلقاً ، فهي مسألة نزاع . و الدليل هو الفاصل . على أن عبد الرازق قد روى في مصنفه عن معمر ، عن خالد الحذَّاء ، عن ابن سيرين أو غيره ، أن عمر بن الخطاب رأى رجلاً عليه ثياب سفر بعدما قضى الجمعة ، فقال : ما شأنك ؟ قال : أردت سفراً ، فكرهت أن أخرج حتى أصلي ، فقال عمر : إن الجمعة لا تمنعك السفر ما لم يحضر وقتها (3). فهذا قول يمنع السفر بعد الزوال ، و لا يمنع منه قبله .
و ذكره عبد الرازق أيضاً عن الثوري ، عن الأسود بن قيس ، عن أبيه قال : أبصر عمر بن الخطاب رجلاً عليه هيئة السفر ، و قال الرجل : إن اليوم يوم الجمعة و لولا ذلك لخرجت ، فقال عمر : إن الجمعة لا تحبس مسافراً ، فاخرج ما لم يحن الرواح (1). "(2) .
و قد استدل المانعون من السفر يوم الجمعة قبل دخول وقتها بحديث ابن عمر مرفوعاً بلفظ : " من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره "(3) ، و حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ : " من سافر يوم الجمعة دعا عليه ملكاه أن لا يصاحب في سفره و لا تقضى له حاجة " (4).
و ذكر الشوكاني الحديثين و أورد ما يدل على ضعفهما ، ثم قال : " و الظاهر جواز السفر قبل دخول وقت الجمعة و بعد دخوله لعدم المانع من ذلك ، و حديث أبي هريرة ة كذلك حديث ابن عمر لا يصلحان للاحتجاج بهما على المنع لما عرفت من ضعفهما و معارضة ما هو أنهض منهما و مخالفتهما لما هو الأصل ، فلا ينتقل عنه إلا بناقل صحيح و لم يوجد .
و أما وقت صلاة الجمعة فالظاهر عدم الجواز لمن قد وجب عليه الحضور إلا أن يخشى حصول مضرة من تخلفه للجمعة ، كالانقطاع عن الرفقة التي لا يتمكن من السفر إلا معهم و ما شابه ذلك من الأعذار ، و قد أجاز الشارع التخلف عن الجمعة لعذر المطر ، فجوازه لما كان أدخل في المشقة منه أولى " (5) أه .
و قال الألباني رحمه الله: " و ليس في السنة ما يمنع من السفر يوم الجمعة مطلقاً ، بل روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه سافر يوم الجمعة من أول النهار ، و لكنه ضعيف لإرساله … " (6).
و كذا ذهب الشيخ ابن عثيمين أن السفر قبل الزوال يوم الجمعة جائز ، قال : و ذلك لأنه لم يؤمر بالحضور فلم يتعلق الطلب به ، فجاز له أن يسافر قبل الزوال …(7)
و أما السفر بعد الزوال يوم الجمعة :
فذهب عامة العلماء من المالكية و الشافعية و الحنابلة و داود و غيرهم إلي أنه لا يجوز السفر بعد الزوال من يوم الجمعة .
و ذهب أبو حنيفة و الأوزاعي إلي جوازه كسائر الصلوات .(13/1)
قال الشوكاني : " و أما وقت صلاة الجمعة فالظاهر عدم الجواز لمن قد وجب عليه الحضور إلا أن يخشى حصول مضرة من تخلفه كالانقطاع عن الرفقة التي لا يتمكن من السفر إلا معهم و ما شابه ذلك من الأعذار … " (1).
و ذهب ابن القيم إلي أنه لا يجوز السفر في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها (2).
و قال الشيخ ابن عثيمين في شرحه علي زاد المستنقع عند تعليقه علي قول المصنف : " و لا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال " قال :" … أي لا يجوز السفر في يومها بعد الزوال لمن تلزمه بنفسه ، أو بغيره ، و ذلك أنه بعد الزوال دخل الوقت بالاتفاق ، و الغالب أنه إذا دخل الوقت يحضر الإمام و تُصلى الجمعة فيحرم أن يسافر " .
فإذا قال قائل : ما الدليل ؟
الجواب : قلنا : قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر الله و ذروا البيع ) [ الجمعة : 9 ] فأمر بالسعي إليها و ترك البيع ، و كذا يترك السفر ، لأن العلة واحدة ، فالبيع مانع من حضور الصلاة ، و السفر كذلك مانع من حضور الصلاة ، لكن المؤلف علق الحكم بالزوال ، لأن الزوال هو سبب وجوب صلاة الجمعة ، إذ إنه يدخل به الوقت و دخول الوقت سبب ، فعلق الحكم بالسبب ، و الأولى أن يعلق الحكم بما علق الله به ، و هو النداء إلي يوم الجمعة ، لأنه من الجائز أن يتأخر الإمام عن الزوال ، و لا يأتي إلا بعد الزوال بساعة ، فلا ينادى للجمعة إلا عند حضور الإمام ….
و يستثنى من تحريم السفر مسألتان :
الأولى : إذا خاف فوات الرفقة … لأن هذا عذر في ترك الجمعة نفسها ، فيكون عذراً في السفر بعد الزوال(3) . لأن علة التحريم هو خوف فوات الجمعة ، و هنا
الجمعة لن تفوت "(2).
الثانية : إذا كان يمكنه أن يأتي بها في طريقه(1)
ساعة الإجابة من يوم الجمعة:
و قد اختلف الناس في هذه الساعة : هل هي باقية أو قد رفعت ؟
على قولين ، حكاهما ابن عبد البر و غيره ، و الذين قالوا هي باقية و لم ترفع ، اختلفوا : هل هي في وقت من اليوم بعينه ، أم هي غير معينة ؟ علي قولين .
ثم اختلف من قال بعدم تعيينها : هل هي تتنقل في ساعات اليوم أولاً ؟ علي قولين أيضاً .
و الذين قالوا بتعيينها ، اختلفوا أحد عشر قولاً :
الأول : هي من طلوع الفجر إلي طلوع الشمس ، و بعد صلاة العصر إلي غروب الشمس ، حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة .
الثاني : أنها عند الزوال . حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري و أبي العالية .
الثالث : أنها إذا أذن المؤذن بصلاة الجمعة . حكاه ابن المنذر عن عائشة .
الرابع : أنها إذا جلس الإمام علي المنبر يخطب حتى يفرغ . حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري أيضاً .
الخامس : هي الساعة التي اختار الله وقتها للصلاة . قاله أبو بردة .
السادس : هي ما بين زوال الشمس إلي أن تدخل الصلاة . قاله أبو السوار العدوي .
السابع : هي ما بين أن ترتفع الشمس شبراً إلي ذراع . قاله أبو ذر .
الثامن : أنها ما بين العصر إلي غروب الشمس . حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة و عطاء و عبد الله بن سلام و طاءوس
التاسع : أنها آخر ساعة بعد العصر . و هو قول أحمد و جمهور الصحابة و التابعين .
العاشر : أنها من حين خروج الإمام إلي فراغ الصلاة . حكاه النووي .
الحادي عشر : أنها الساعة الثالثة من النهار . حكاه صاحب المغني .
قال ابن القيم بعد سرد هذه الأقوال ، و أرجح هذه الأقوال :
قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة ، و أحدهما أرجح من الآخر :
الأول : أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة .
و حجة هذا القول ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى أن عبد الله بن عمر قال له : أسمعت أباك يُحدث رسول الله صلى الله عليه و سلم في شأن ساعة الجمعة ، قال : نعم ، سمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول " هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة " (1) .
و القول الثاني :
أنها بعد العصر ، و هذا أرجح القولين ، و هو قول عبد الله بن سلام و أبي هريرة و
الإمام أحمد ، و خلق . و حجة هذا القول ما رواه أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد و أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال " إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه الله إياه ، و هي بعد العصر " (2) .
و روى أبو داود و النسائي عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، قال : " يوم الجمعة اثنا عشر ساعة ، فيها ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه ، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر " (1) .(13/2)
و في سنن ابن ماجة : عن عبد الله بن سلام ، قال : قلتُ و رسولُ الله صلى الله عليه و سلم جالس : إنا لنجد في كتاب الله ( يعني التوراة ) في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يُصلي يسأل الله عز و جل شيئاً إلا قضى الله له حاجته . قال عبد الله : فأشار إليَّ رسول الله صلى الله عليه و سلم : أو بعض ساعة . قلتُ : صدقتَ يا رسول الله ، أو بعض ساعة . قلتُ : أي ساعة هي ؟ قال : هي آخر ساعة من ساعات النهار . قلتُ : أنها ليست ساعة صلاة ، قال : بلى ، إن العبد المؤمن إذا صلى ثم جلس لا يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة " (2) (3) .
قال ابن القيم : " و عندي أن ساعة الصلاة تُرجى فيها الإجابة أيضاً ، فكلاهما ساعة إجابة ، و إن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر ، فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم و لا تتأخر ، و أما ساعة الصلاة ، فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت ، لأن لاجتماع المسلمين و صلاتهم و تضرعهم و ابتهالهم إلي الله تعالى تأثيراً في الإجابة ، فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة ، و علي هذا تتفق الأحاديث كلها ، و يكون النبي صلى الله عليه و سلم قد خص أمته علي الدعاء و الابتهال إلي الله تعالى في هاتين الساعتين .
و نظير هذا قوله صلى الله عليه و سلم و قد سئل عن المسجد الذي أسس علي التقوى ، فقال : " هو مسجدكم هذا " و أشار إلي مسجد المدينة . و هذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذي نزلت فيه الآية مؤسساً على التقوى ، بل كل منهما مؤسس على التقوى .
و كذلك قوله في ساعة الجمعة : " و هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة " لا ينافي قوله في الحديث الآخر : " فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر " … و هذه الساعة هي آخر ساعة بعد العصر ، يُعظمها جميع أهل الملل ، و عند أهل الكتاب هي ساعة الإجابة ، و هذا مما لا غرض لهم في تبديله و تحريفه ، و قد اعترف به مؤمنهم .
و أما من قال بتنقلها ، فرام الجمع بذلك بين الأحاديث ، كما قيل ذلك في ليلة القدر ، و هذا ليس بقوي ، فإن ليلة القدر قد قال فيها النبي صلى الله عليه و سلم : " فالتمسوها في خامسة تبقى ، في سابعة تبقى ، في تاسعة تبقى " (1) و لم يجئ ذلك في ساعة الجمعة .
و أيضاً فالأحاديث التي في ليلة القدر ، ليس فيها حديث صريح بأنها ليلة كذا و كذا ، بخلاف أحاديث ساعة الجمعة ، فظهر الفرق بينهما .
و أما قول من قال : أنها رفعت ، فهو نظير قول من قال : إن ليلة القدر رفعت ، و هذا القائل ، إن أراد أنها كانت معلومة ، فرفع علمها عن الأمة ، فيقال له : لم يُرفع علمها عن كلَّ الأمة ، و إن رفع عن بعضهم . و إن أراد أن حقيقتها و كونها ساعة إجابة رُفعت ، فقول باطل مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة ، فلا يعول عليه . و الله أعلم " (2) .
و ذكر الحافظ بن حجر الاختلاف في هذه الساعة و أوصل الأقوال فيها إلي اثنين و أربعين قولاً ثم زاد قولاً آخر فصار مجموعهما ثلاثة و أربعين قولاً : ، ثم قال :
و لا شك أن أرجح الأقوال المذكورة حديث أبي موسى و حديث عبد الله بن سلام كما تقدم . قال المحب الطبري : أصح الأحاديث منها حديث أبي موسى ، و أشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام و ما عداهما إما موافق لهما أو لأحدهما ، أو ضعيف الإسناد أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف .
و لا يعارضهما حديث أبي سعيد في كونه صلى الله عليه و سلم أنسيها بعد أن علمها ؟ لاحتمال أن يكونا سمعا ذلك منه قبل أن أنسي . أشار إلي ذلك البيهقي و غيره .
و قد اختلف السلف في أيهما أرجح ، فروى البيهقي من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري أن مسلماً قال : حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب و أصحه ، و بذلك قال البيهقي و ابن العربي و جماعة . و قال القرطبي : هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره .
و قال النووي : هو الصحيح ، بل الصواب . و جزم في الروضة بأنه الصواب ، و رجحه أيضاً بكونه مرفوعاً صريحاً و في أحد الصحيحين .
و ذهب آخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام ، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال : أكثر الأحاديث على ذلك . و قال ابن عبد البر : أنه أثبت شيء في هذا الباب . و روى سعيد بن منصور بإسناد صحيح إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أن ناساً من الصحابة اجتمعوا فتذاكروا ساعة الجمعة ، ثم افترقوا فلم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة . و رجحه كثير من الأئمة أيضاً كأحمد و إسحاق و من المالكية الطرطوشي ، و حكى العلائي أن شيخه ابن الزملكاني شيخ الشافعية في وقته كان يختاره و يحكيه عن نص الشافعي .
و أجابوا عن كونه ليس في أحد الصحيحين بأن الترجيح بما في الصحيحين أو أحدهما إنما هو حيث يكون مما انتقده الحفاظ ، كحديث أبي موسى هذا فإنه أعل بالانقطاع و الاضطراب … " (3) .(13/3)
و قال ابن المنير في الحاشية : إذا علم أن فائدة الإبهام لهذه الساعة و لليلة القدر بعث الداعي على الإكثار من الصلاة و الدعاء ، و لو بيَّن لاتكل الناس على ذلك و تركوا ما عداها ، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها (4) .
و قريب من هذا قول ابن عمر : إن طلب الحاجة في يوم ليسير . و معناه : أنه ينبغي المداومة على الدعاء يوم الجمعة كله ليمر بالوقت الذي يستجاب فيه الدعاء .
و كان كعب الأحبار يقول : لو أن إنساناً قسم جمعة في جمع لأتى علي تلك الساعة . قال ابن المنذر : معناه أنه يبدأ فيدعو في جمعة من الجمع من أول النهار إلي وقت معلوم ، ثم في جمعة أخرى من ذلك الوقت إلي آخر ، حتى يأتي على آخر النهار .
قال الحافظ : و الذي قاله ابن عمر يصلح لمن يقوى علي ذلك ، و إلا فالذي قاله كعب الأحبار سهل على كل أحد (1) .
اختلف العلماء في حكم إفراد يوم الجمعة بالصوم ؟
فكرهه أحمد ، قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : صيام يوم الجمعة ؟ فذكر حديث النهي عن أن يفرد ، ثم قال : إلا أن يكون في صيام كان يصومه ، و أما أن يفرد فلا . قلت : رجل كان يصوم يوماً و يفطر يوماً ، فوقع فطره يوم الخميس ، و صومه يوم الجمعة ، و فطره يوم السبت ، فصار الجمعة مفرداً ؟ قال : هذا إلا أن يتعَّمد صومه خاصة ، إنما كُرِه أن يتعمد الجمعة .
و أباح مالك و أبو حنيفة صومه كسائر الأيام ، قال مالك : لم أسمع أحداً من أهل العلم و الفقه و من يُقتدي به ينهى عن صيام يوم الجمعة ، و صيامه حسن ، و قد رأيت بعض أهل العلم يصومه ، و أراه كان يتحراه . قال ابن عبد البر : اختلفت الآثار عن النبي صلى الله عليه و سلم في صيام يوم الجمعة ، فروى ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ، و قال قلما رأيته مفطراً يوم الجمعة (1) …
و الأصل في يوم الجمعة أنه عمل بر لا يُمنع منه إلا بدليل لا معارض له .
قال ابن القيم : قد صح المعارض صحةً لا مطعن فيها البتة ، ففي الصحيحين عن محمد بن عباد ، قال : سألت جابراً : أنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيام يوم الجمعة ؟ قال : نعم (2) و في صحيح مسلم عن محمد بن عباد قال : سألت جابر بن عبد الله ، و هو يطوف بالبيت : أنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيام يوم الجمعة ؟ قال : نعم و ربَّ هذه البَنيَّة (3) .
و في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول " لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يُصوم يوماً قبله ، أو يوماً بعده "(4) .
و في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، و لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " (5) .
و في صحيح البخاري عن جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه و سلم دخل عليها يوم الجمعة و هي صائمة ، فقال : " أصمت أمس ظ قالت : لا . قال : فتريدين أن تصومي غداً ؟ قالت : لا . قال : فأفطري " (6)(7) .
قال الحافظ في الفتح :
" و هذه الأحاديث تقيد النهي المطلق في حديث جابر و تؤيد الزيادة التي تقدمت من تقييد الإطلاق بالإفراد ، و يؤخذ من الاستثناء جوازه لمن صام قبله أو بعده ، أو اتفق وقوعه في أيام له عادة بصومها ، كمن يصوم الأيام البيض أو من له عادة بصوم يوم معين كيوم عرفة فوافق يوم الجمعة ، و يؤخذ منه جواز صومه لمن نذر يوم قدوم زيد مثلاً أو يوم شفاء فلان "(1) .
علة كراهة صوم يوم الجمعة :
قال ابن القيم في الزاد : و ذكر ابن جرير عن مغيرة عن إبراهيم أنهم كرهوا صوم الجمعة ليقووا علي الصلاة . قلت - أي ابن القيم - : المأخذ في كراهيته :
ثلاثة أمور ، هذا أحدها ، و لكن يشكل عليه ، زوال الكراهية بضم يوم قبله ، أو بعده إليه .
و الثاني : أنه يوم عيد ، و هو الذي أشار إليه صلى الله عليه و سلم ، , قد أورد علي هذا التعليل إشكالان :
أحدهما : أن صومه ليس بحرام ، و صوم يوم العيد حرام .
و الثاني : أن الكراهة تزول بعدم إفراده .
و أجيب علي الإشكالين ، بأنه ليس عيد العام ، بل عيد الأسبوع ، و التحريم إنما هو لصوم عيد العام ، و أما إذا صام يوماً قبله ، أو يوماً بعده ، فلا يكون قد صامه لأجل كونه جمعة و عيداً ، فتزول المفسدة الناشئة من تخصيصه ، بل يكون داخلاً في صيامه تبعاً ، و علي هذا يجمل ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده و النسائي و الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود إن صح قال : قلما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يفطر يوم الجمعة . فإن صح هذا تعين حمله علي أنه كان يدخل في صيامه تبعاً ، لا أنه كان يفرده ، لصحة النهي عنه …
و المأخذ الثالث :(13/4)
سد الذريعة من أن يُلحق بالدَّين ما ليس فيه ، و يوجب التشبه بأهل الكتاب في تخصيص بعض الأيام بالتجرد عن الأعمال الدنيوية ، و ينضم إلي هذا المعنى : أن هذا اليوم لما كان ظاهر الفضل علي الأيام ، كان الداعي إلي صومه قوياً ، فهو في مظنة تتابع الناس في صومه و احتفالهم به ما لا يحتفلون بصوم يوم غيره ، و في ذلك إلحاق بالشرع ما ليس منه ، و لهذا المعنى – و الله أعلم – نهي عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام من بين الليالي ، لأنها من أفضل الليالي ، حتى فضَّلها بعضهم علي ليلة القدر ، و حكيت رواية عن أحمد ، فهي في مظنة تخصيصها بالعبادة فحسم الشارع الذريعة ، و سدًّها بالنهي عن تخصيصها بالقيام . و الله أعلم (2) .
هل يُستحب جماع الأهل قبل الجمعة ؟
ذهب بعض العلماء إلى استحباب ذلك ، و احتج بألفاظ بعض الأحاديث التي استنبط منها ذلك ، و من ذلك : ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعاً " من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة … " .
قال الحافظ في الفتح : " قوله ( غسل الجنابة ) بالنصب علي أنه نعت لمصدر محذوف ، أي غسلاً كغسل الجنابة ، و هو كقوله تعالى : ( و هي تمر مر السحاب ) [ النمل ] و في رواية ابن جريج عن سمي عند عبد الرازق : " فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة " و ظاهره : أن التشبيه للكيفية لا للحكم ، و هو قول الأكثر .
و قيل : فيه إشارة إلي الجماع يوم الجمعة ، ليغتسل فيه من الجنابة ، و الحكمة فيه أن تسكن نفسه في الرواح إلي الصلاة و لا تمتد عينه إلي شيء يراه ، و فيه حمل المرأة أيضاً علي الاغتسال ذلك اليوم…
قال النووي : ذهب بعض أصحابنا إلي هذا و هو ضعيف أو باطل ، و الصواب الأول . أ ه .
و قد حكاه ابن قدامة عن الإمام أحمد ، و ثبت أيضاً عن جماعة من التابعين ، و قال القرطبي : أنه أنسب الأقوال فلا وجه لادعاء بطلانه ، و إن كان الأول أرجح ، و لعل عنى أنه باطل في المذهب " (1).
قال النووي في المجموع : " و قوله صلى الله عليه و سلم : " غسل الجنابة " معناه غسلاً كغسل الجنابة في صفاته ، و إنما قال ذلك لئلا يتساهل فيه و لا يكمل آدابه و مندوباته لكونه سنة ليس بواجب ، هذا هو المشهور في معناه ، و لم يذكر جمهور أصحابنا و جماهير العلماء و غيره .
و حكى القاضي أبو الطيب في تعليقه ، و صاحب الشامل و غيرهما من أصحابنا أن بعضهم حمله علي الغسل من الجنابة حقيقة .
قالوا : و المراد به أنه يستحب له أن يجامع زوجته إن كان له زوجة أو أمته لتسكن نفسه في يومه ، و يؤيده الحديث المذكور بعد هذا " من غسل و اغتسل " علي أحد المذاهب في تفسيره (*).
-و من ذلك أيضاً ما رواه أصحاب السنن من حديث أوس بن أوس مرفوعاً : " من اغتسل يوم الجمعة و غسَّل ، و بكَّر و ابتكر … "(2) الحديث .
قال المباركفوري : " قوله : ( من اغتسل و غسَّل ) رُوي بالتشديد و التخفيف (1)، قيل : أراد به غسل رأسه ، و بقوله ( اغتسل ) غسل سائر بدنه .
و قيل : جامع زوجته فأوجب عليها الغسل ، فكأنه غسَّلها و اغتسل .
و قيل : كرر ذلك للتأكيد .
و يُرجح التفسير الأول ما في رواية أبي داود في هذا الحديث بلفظ : " من غسل رأسه و اغتسل " ، و ما في البخاري عن طاءوس ، قلت لابن عباس : ذكروا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " اغتسلوا و اغسلوا رءوسكم … " .
و قال وكيع : اغتسل هو و غسَّل امرأته . قال الجزري في النهاية : ذهب كثير من الناس أن غسَّل أراد به المجامعة قبل الخروج إلي الصلاة ، لأن ذلك يجمع غض الطرف في الطريقين ، يقال : غسَّل الرجل امرأته بالتشديد و التخفيف ، إذا جامعها ، و قد روي مخففاً ، و قيل : أراد غسَّل غيره ، و اغتسل هو ، لأنه إذا جامع زوجته أحوجها إلي الغسل ، و قيل : هما بمعنى ، كرره للتأكيد " (2).
هل تجب الجمعة علي المسجون ؟
صرح الفقهاء بأن للوالي و القاضي منع المسجون من الخروج للجمعة و الجماعة و نحوهما …
فإن كان حبسه لسبب يمكن دفعه كالمماطلة في دفع الدين فهو آثم ، و إن كان حبسه لسبب لا يمكن دفعه كمن حُبس ظلماً كما هو حال كثير من الدعاة و العلماء في كثير من بلاد الإسلام حيث يتعرضون للحبس و السجن أعواماً طويلة و غالباً ما يمنعون من شهود الجمعة حتى في السجن ، في حين يسمح لغيرهم ، و هذا معلوم مشاهد ، فهل يجب علي من كان هذا حاله إقامة الجمعة في محبسه ؟! و إذا علمنا أن في كثير من السجون يكون المسجونون موزعين علي غرف " زنزانات " لا يسمح لساكنيها بالخروج منها و الالتقاء بغيرهم ، فمعنى ذلك أن تقام جمعات بعدد الغرف " الزنزانات " فما حكم ذلك ؟
ذهب ابن حزم و كثير من الشافعية علي أن السجناء يقيمون صلاة الجمعة في السجن .(13/5)
قال ابن حزم : " و سواء فيما ذكرنا- من وجوب الجمعة – المسافر في سفره و العبد و الحر المقيم ، و كل ما ذكرنا يكون إماماً فيها ، راتباً و غير راتب ، و يصليها المسجونون ، و المختفون ركعتين في جماعة بخطبة كسائر الناس ، و تصلى في كل قرية صغرت أم كبرت ، كان هناك سلطان أو لم يكن ، و إن صليت الجمعة في مسجدين في القرية فصاعداً جاز ذلك " (1).
و قال صاحب رسالة حكم الحبس في الشريعة الإسلامية : " و إذا كان أهل السجن لا يخرجون للجمعة فإنه يلزمهم إقامتها في السجن ، إذا توفرت شروطها ، و يعين لهم الإمام خطيباً منهم ، أو من خارج السجن ، و ذلك لعموم قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه : " جمعوا حيثما كنتم " (2).
و في الاحتجاج بهذا الأثر المروي عن عمر رضى الله عنه علي ما ذهب إليه نظر ، إذ إن عمر رضى الله عنه قد خالفه غيره من الصحابة في هذه المسألة ، و قال الحافظ : " فلما اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلي المرفوع "(3) و هذا في مسألة اشتراط المدينة للجمعة ، فكيف يستفاد العموم من هذا القول إذن ؟! .
و جاء في طبقات الشافعية الكبرى أن الإمام أحمد رحمه الله كان يصلي بأهل السجن عندما سجن في فتنة القول بخلق القرآن ، و كان يقول : " إني كنت أصلي بأهل السجن و أنا مقيد "(1) .
و كان الإمام البويطي رحمه الله و هو في الحبس بسبب هذه الفتنة يغتسل كل جمعة و يتطيب و يغسل ثيابه ، ثم يخرج إلي باب السجن إذا سمع النداء ، فيرده السجان ، و يقول : ارجع رحمك الله ، فيقول البويطي : " اللهم إني أجبت داعيك فمنعوني "(2) .
مسألة : حكم تعدد الجمعة في المصر الواحد :
اختلف العلماء في هذه المسألة علي أقوال(1) :
الأول : أنه لا يجوز جمعتان في بلد لا يعسر الاجتماع فيه في مكان .
و هو مذهب الشافعي و حكاه ابن المنذر عن ابن عمر و مالك و أبي حنيفة .
الثاني : أنه إذا عظم البلد كبغداد و البصرة جاز جمعتان فأكثر إن احتاجوا و إلا فلا يجوز أكثر من جمعة واحدة .
و هو مذهب أحمد .
الثالث : يجوز في بغداد دون غيرها ، و هو قول أبي يوسف ، لأن الحدود تقام فيها في موضعين ، و الجمعة حيث تقام الحدود ، و مقتضى قوله أنه لو وجد بلد آخر تقام فيه الحدود في موضعين ، جازت إقامة الجمعة في موضعين .
الرابع : يجوز جمعتان سواء كان جانبان أم لا .
و هو قول محمد بن الحسن .
الخامس : يجوز في البلد جمع دون تقيد بحاجة أو بغيرها .
و هو قول عطاء و داود و ابن و الشوكاني .
و يمكن أن نخلص من ذلك إلى ثلاثة أقوال :
الأول : أن التعدد ممنوع مطلقاً .
الثاني : أنه جائز بقدر الحاجة .
الثالث : أنه يجوز مطلقاً من غير حاجة .و هو قول عطاء و داود و ابن حزم و الشوكاني .
احتج الأولون على مذهبهم بالآتي :
1-أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يُجمع إلا في مسجد واحد ، و كذلك الخلفاء بعده ، و لو جاز لم يعطلوا المساجد . حتى إن الإمام أحمد سئل عن تعدد الجمعة ؟ فقال : ما علمت أنه صلي في المسلمين أكثر من جمعة واحدة .
2-ما نقله ابن حجر عن ابن عساكر في مقدمة تاريخ دمشق " أن عمر كتب إلي أبي موسى و إلي عمرو بن العاص و إلي سعد ابن أبي وقاص أن يتخذوا مسجداً جامعاً للقبائل ، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلي المسجد الجامع فشهدوا الجمعة " .
قالوا : فلو لم يكن الموضع الواحد شرطاً في صحتها لما أمرهم عمر رضى الله عنه بتحمل هذه المشقة الناتجة عن تركهم لقبائلهم و اجتماعهم في المسجد الكبير الجامع .
3-قول ابن عمر : لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي يصلي فيه الإمام .
4-أن القول بتعدد الجمعة يؤدي لفوات المقصود الأعظم و هو اجتماع المسلمين و ائتلافهم .
و احتج القائلون بجواز التعدد مطلقاً بالآتي :
1-قول عمر : جمعوا حيث كنتم .
2-قول عطاء : لكل قوم مسجد يجمعون فيه ، ثم يجزئ ذلك عنهم .
3-لو كان منع التعدد شرطاً لصحة الجمعة لبينه النبي صلى الله عليه و سلم لصحابته ، لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .و أما ترك النبي صلى الله عليه و سلم إقامة جمعتين فلغناهم عن إحداهما ، و لأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته و شهود جمعته و إن بعدت منازلهم ، لأنه المبلغ عن الله تعالى ، و شارع الأحكام ، و لما دعت الحاجة إلي ذلك في الأمصار صليت في أماكن ، و لم يُنكر فصار إجماعاً ، و قول ابن عمر يعني أنها لا تقام في المساجد الصغار ، و يترك الكبير ، و أما اعتبار ذلك بإقامة الحدود فلا وجه له .
4-قياساً على جواز التعدد في صلاة العيد ، فكان على يخرج يوم العيد إلى المصلى و يستخلف على ضعفة الناس أبا مسعود فيصلي بهم ، فتقاس الجمعة على العيد بجامع أن كليهما صلاة شرع لها الاجتماع و الخطبة .
5-أن في القول بإقامة الجمعة في موضع واحد حرجاً بيناً ، و الحرج مدفوع شرعاً .(13/6)
قال الشوكاني : " هذه المسألة – تعدد الجمعة – قد اشتهرت بين أهل المذاهب و تكلموا فيها ، و صنف فيها من صنف منهم ، و هي مبينة على غير أساس ، و ليس عليها إشارة من علم قط ، و ما ظنه بعض المتكلمين من كونه دليلاً عليها هو بمعزل من الدلالة ، و ما أوقعهم في هذه الأقوال الفاسدة إلا ما زعموه من الشروط التي اشترطوها بلا دليل و لا شبهة دليل .
فالحاصل أن صلاة الجمعة صلاة من الصلوات ، يجوز أن تقام في وقت واحد كما تقام جماعات سائر الصلوات في المصر الواحد ، و لو كانت المساجد متلاصقة ، و من زعم خلاف هذا ، فإن كان مستند زعمه مجرد الرأي فليس ذلك بحجة علي أحد ، و إن كان مستند زعمه الرواية فلا رواية "(1)
و احتج أصحاب القول الثاني القائلين بجواز التعدد للحاجة ، بأدلة القول الأول إلا أنهم حملوها علي أنه لم يكن هناك حاجة لتعدد الجمعة فلما دعت الحاجة إلي ذلك في الأمصار صليت في أماكن و لم ينكر فصار إجماعاً .(1)
قال ابن قدامة : " فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز أكثر من واحدة ، و إن حصل الغنى باثنتين لم تجز الثالثة ، و كذلك ما زاد ، لا نعلم في هذا مخالفاً إلا أن عطاء قيل له : إن أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر . قال : لكل قوم مسجد يجمعون فيه ، و يجزئ ذلك من التجميع في المسجد الأكبر . و ما عليه الجمهور أولى ، إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم و خلفائه أنهم جمعوا أكثر من جمعة ، إذ لم تدع الحاجة إلي ذلك ، و لا يجوز إثبات الأحكام بالتحكم بغير دليل … "(2) .
قال ابن عثيمين : " و المراد بالحاجة هنا ما يشبه الضرورة … و مثل الحاجة إذا ضاق المسجد عن أهله و لم يمكن توسيعه … و كذا إذا تباعدت أقطار البلد و صار الناس يشق عليهم الحضور فهذا أيضاً حاجة … و من الحاجة أيضاً أن يكون بين أطراف البلد حزازات و عداوات يخشى إذا اجتمعوا في مكان واحد أن تثور فتنة ، فهنا لا بأس أن تعدد الجمعة ، لكن هذا مشروط بما إذا تعذر الإصلاح ، أما إذا أمكن الصلح وجب الإصلاح و توحيدهم علي إمام واحد .
و ليس من الحاجة أن يكون الإمام مسبلاً أو فاسقاً ، لأن الصحابة صلوا خلف الحجاج بن يوسف ، و هو من أشد الناس ظلماً و عدواناً يقتل العلماء و الأبرياء … "(3) .
و بعد عرض الأدلة و النظر في أقوال كل فريق ، فإذا كانت أدلة القائلين بعدم جواز التعدد مطلقاً لا تخلو من نظر و اعتراض ، كذا فإن القول بجوازه مطلقاً خروجاً عن مقصود الجمعة من الاجتماع ، و يبقى القول بجوازها للحاجة هو أقربها ، إلا أن القول بعدم صحة الصلاة و بطلانها إذا كان التعدد لغير حاجة لا دليل عليه من كتاب أو سنة أو إجماع أو دليل صحيح ، و غاية عدم الفعل لا تدل علي بطلان الفعل أو عدم جوازه ، و قد سبق إجابة ابن قدامة و غيره عن تركه صلى الله عليه و سلم إقامة جمعتين ، و ما نقل من آثار و أقوال فمع وجود ما يعارضها فيمكن حملها علي اعتبا مصلحة راجحة في حينها ، و ربما كان راجعاً لرغبتهم في تكثير سواد المسلمين بالنسبة لمن حولهم من غير المسلمين ، خاصة في البلدان المفتوحة حديثاً و التي تضم المسلمين و غيرهم ، و الله أعلم .
مسألة : اجتماع الجمعة مع العيد :
اختلف العلماء في هذه المسألة علي أقول :
الأول : وجوبها علي أهل البلد و سقوطها عن أهل القرى .
و هو مذهب الشافعي ، قال النووي : و به قال عثمان بن عفان و عمر بن عبد العزيز و جمهور العلماء .
و احتج الشافعية و من وافقهم بما رواه البخاري في صحيحه عن عثمان رضى الله عنه قال في خطبته : " أيها الناس قد اجتمع عيدان في يومكم ، فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة فليصل ، و من أراد أن ينصرف فلينصرف "(1) .
و لأنهم إذا قعدوا في البلد لم يتهيئوا بالعيد ، فإن خرجوا ثم رجعوا للجمعة كان عليهم في ذلك مشقة ، و الجمعة تسقط بالمشقة .
الثاني : تسقط الجمعة عمن صلى العيد من أهل القرى و أهل البلد ، و لكن يجب الظهر .
و هو مذهب الإمام أحمد ، و اختاره ابن قدامة و احتج له بحديث زيد بن أرقم قال : صلى النبي صلى الله عليه و سلم العيد ثم رخص في الجمعة فقال : " من شاء أن يُصلي فليصل "(2) .
و في لفظ لأحمد : " من شاء أن يجمع فليجمع "(3) .
قال ابن قدامة : " و لأن الجمعة إنما زادت عن الظهر بالخطبة ، و قد حصل سماعها في العيد فأجزأ عن سماعها ثانياً ، و لأن وقتهما واحد بما بيناه ، فسقطت إحداهما بالأخرى ، كالجمعة مع الظهر .
و في وجوبها على الإمام روايتان :
الأولى : لا تسقط ، لقوله عليه الصلاة و السلام : " قد اجتمع في يومكم هذا عيدان ، فمن شاء أجزأه من الجمعة ، و إنا مجمعون "(4) .
و لأن الإمام لو تركها لامتنع فعل الجمعة في حق من تجب عليه ، و من يريدها ممن سقطت عنه ، بخلاف غيره من الناس .(13/7)
الثانية : تسقط ، لعموم قوله : " فمن شاء " ، و لما أخرجه النسائي و أبو داود عن وهب بن كيسان قال : اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير ، فأخَّر الخروج حتى تعالى النهار ، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ، و لم يصلَّ للناس يوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أصاب السنة (1).
و في رواية أبي داود : " فجمعهما جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر "(2) .
قال الشوكاني : " و يدل علي أن الترخيص عام لكل أحد ترك ابن الزبير للجمعة ، و هو الإمام إذ ذاك ، و قول ابن عباس : أصاب السنة ، رجاله رجال الصحيح ، و عدم الإنكار عليه من أحد من الصحابة ، و أيضاً لو كانت الجمعة واجبة علي البعض لكانت فرض كفاية ، و هو خلاف معنى الرخصة "(3) .
قال المنبر: و هذا الذي ذكره الإمام الشوكاني رحمه الله فيه نظر ، إذ يحتمل أن يكون ابن الزبير رضى الله عنه قد قدَّم الجمعة إلي قبل الزوال علي القول بذلك ، بل هذا هو الظاهر لأن الزبير أخر الصلاة عن الخطبة ، و معلوم أن خطبة العيد تتأخر عن الصلاة بخلاف الجمعة .
و يؤيده قول ابن عباس : أصاب السنة ، إذ السنة في حق الإمام صلاة الجمعة و إن صلى العيد ، كما هو ظاهر قوله صلى الله عليه و سلم : " و إنا مجمعون " ، و الله أعلم .
الثالث : لا تسقط عن أهل البلد و لا أهل القرى .
و هو قول أبي حنيفة ، و ابن حزم .
و احتج أصحاب هذا القول بعموم الآية ، و الأضرار الدالة علي وجوبها ، قالوا : و لأنهما صلاتان واجبتان ، فلم تسقط إحداهما بالأخرى .
و قال ابن حزم : و لا يصح أثر بخلاف ذلك (4).
و قد أجاب ابن قدامة علي أدلة أصحاب القول الثالث فقال : " ما احتجوا به مخصوص بما رويناه ، و قياسهم منقوض بالظهر مع الجمعة " (5).
و أما الشافعية و من وافقهم فقد تأولوا الأخبار في سقوط الجمعة عمن صلى العيد علي أهل القرى .و حديث زيد نص في موضع النزاع ، و هو عام في أهل البلد و غيرهم .
و أما الإمام فلا تسقط عنه لما ذكرناه ، و الله أعلم .
هل يُصلى الظهر إذا ترك الجمعة ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة علي قولين :
الأول : تجب الظهر علي من صلى العيد و لم يصل الجمعة . و هو قول جمهور العلماء .
الثاني : لا تجب الظهر علي من صلى العيد .
وهذا قول عطاء ، و قال ابن المنذر : و روينا نحوه عن علي بن أبي طالب و ابن الزبير رضى الله عنهم(1) .
و احتج عطاء بما رواه هو قال : " اجتمع يوم الجمعة و يوم عيد علي عهد ابن الزبير ، فقال : عيدان اجتمعا فجمعها جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر "(2) .
قال الشوكاني : " قوله : " لم يزد عليهما حتى صلى العصر " ، ظاهره أنه لم يصل الظهر ، و فيه أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة لم يجب علي من سقطت عنه أن يصلي الظهر ، و إليه ذهب عطاء "(3) .
قال الخطابي : " و هذا لا يجوز أن يحمل إلا علي قول من يذهب إلي تقديم الجمعة قبل الزوال ، فعلى هذا يكون ابن الزبير قد صلى الجمعة فسقط العيد و الظهر ، و لأن الجمعة إذا سقطت مع تأكدها ، فالعيد أولى أن يسقط بها ، أما إذا قدم العيد ، فإنه يحتاج إلي أن يُصلي الظهر في وقتها إذا لم يصل الجمعة "(4) .
و تعقب الشوكاني هذا التوجيه فقال : و لا يخفى ما في هذا الوجه من التعسف (5).
و يشهد لتوجيه الخطابي ما جاء في رواية النسائي : اجتمع عيدان علي عهد ابن الزبير فأخّر الخروج حتى تعالى النهار ، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ، و لم يصل للناس يوم الجمعة ، فذكرت ذلك لابن عباس فقال : أصاب السنة(1) . ففيها أن الصلاة بعد الخطبة و هذا معلوم أنه في الجمعة لا في العيد . و كذلك قول ابن عباس : أصاب السنة ، ظاهره أنها الجمعة ، إذ السنة في حق الإمام صلاة الجمعة و إن صلى العيد كما هو الظاهر قوله صلى الله عليه و سلم : " و إنا مجمعون " . و الله أعلم(13/8)
مباحث فقهية حول الحمد
المواطن التي يتأكد فيها الحمد
معنى الحمد، والفرق بينه وبين الشكر
دليل القول الثاني
دليل القول الأول
معنى الحمد، والفرق بينه وبين الشكر:
قال ابن منظور : الحمد نقيض الذم( لسان العرب 3/155). وقال ابن فارس (( الحاء والميم والدال كلمة واحدة وأصل واحد يدل على خلاف الذم ، يقال : حمدت فلاناً أحمده ، ورجل محمود ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة غير المذمومة )) معجم مقاييس اللغة ( 2/ 100 ) وقال القرطبي (( الصحيح : أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان وعلى هذا الحد قال علماؤنا :الحمد أعم من الشكر ))الجامع لأحكام القرآن ( 1/134) وعلى هذا فلو أثنى الإنسان على ربه بذكر أسمائه الحسنى وصفاته العلى فهذا يسمى حمداً .
قال شيخ الإسلام ابن تيمة ((الحمد : يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه سواء كان الإحسان إلى الحامد أم لم يكن. والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر لأنه يكون على المحاسن والإحسان فإن الله تعالى يحمد على ماله من الأسماء الحسنى والمثل العلى وما خلقه في الآخرة والأولى)) الفتاوى ( 11/133)
المواطن التي يتأكد فيها الحمد:
الحمد مطلوب من المسلم في كل وقت وفي كل حين إلا أن هناك أوقاتاً معينة وأحوالاً مخصوصة يكون فيها الحمد أكثر تأكيداً ، فمن ذلك : •
• ... حمد الله تعالى في الصلاة ولاسيما عند الرفع من الركوع فعن علي رضي لله عنه قال : كان رسول لله إذا رفع رأسه قال : سمع لله لمن حمده ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد . أخرجه مسلم
• ... منها: حمد الله إذا عطس العبد ، قال : (( إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله. . . . )) أخرجه البخاري . •
• ... ومنها حمد الله تعالى عند الفراغ من الطعام والشراب قال (( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها )) أخرجه مسلم .
• ... ومنها وهو المراد بهذا المبحث، حمد الله تعالى في ابتداء الخطب والدروس :
اعلم رحمك الله تعالى أن العلماء قد اتفقوا على مشروعية خطبة الجمعة قبل الصلاة لفعل رسول الله وعمل خلفائه من بعده .وإن كانوا قد اختلفوا في حكمها هل هي شرط لصحة الجمعة أم هي واجبة وليست شرطاً .كما اختلفوا أيضاً في شروط الخطبة وأركانها والمراد بيان حكم الحمد والثناء على الله تعالى في الخطبة: فذهبت الشافعية والحنابلة إلى أن حمد لله تعالى في الخطبة ركن من أركانها وأنه يتكرر وأنه في الخطبتين ويتعين لفظ الحمد فيه [ انظر روضة الطالبين للنووي (1/529)والكافي لابن قدامة المقدسي (1/220) ]. .
وخالفت الحنفية والمالكية في هذا فذهبت الحنفية إلى أن المطلوب هو مطلق الذكر من تحميدة أو تسبيحة أو تهليلة بقصد الخطبة خلافاً لأبي يوسف ومحمد القائلين : لابد من ذكر طويل يسمى خطبة وهو مقدار ثلاث آيات.أما المالكية فقالوا : يكفي في الخطبة كل كلام تسميه العرب خطبة ولو سجعتين ، نحو :اتقوا الله فيما أمر ، وانتهوا عما نهى عنه وزجر. انظر الشرح الصغير للدردير (1/214 ) والتمهيد ( 2/166)
دليل القول الأول :
استدلوا بما ثبت عن من أنه كان يبدأ خطبته بحمد الله والثناء عليه فعن جابر رضي لله عنه قال : ((كانت خطبة النبي يوم الجمعةيحمد الله ويثني عليه ...)) أخرجه مسلم . قالوا : فمواظبته على فعل لاسيما في العبادات تستلزم الاتباع والتأسي قطعاً خصوصاً إذا كان هذا الفعل هو بيان لما أجمل الأمر به في القرآن وهو قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر لله .[الجمعة (9)] واستدلوا بحديث أبي هريرة مرفوعاً أنه قال : ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد فهوا أقطع )) أخرجه أبوداود وابن ماجة واستدلوا بحديث أبي هريرة أيضاً عن النبي قال : (( ك ل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)) أخرجه أبو داود والترمذي . قالوا : ففي هذين الحديثين ردع وتحذير من ترك الحمد ولا يكون ذلك إلا في ترك ما فعله متحتم .
دليل القول الثاني :(14/1)
استدلوا بإطلاق الذكر في الآية فاسعوا إلى ذكر لله فكل ما يسمى ذكر يدخل فيها . وأجابوا على استدلال أصحاب القول الأول بفعل رسول لله بأنه يدل على الاستحباب والندب لأنه مجرد فعل والفعل المجرد لا يفيد الوجوب . قال الشوكاني: وأما اشتمال الخطبة على حمد لله والصلاة والسلام على رسول لله فهكذا كانت خطبته وليس ذلك إلا استفتاحا للخطبة المقصودة ومقدمة من مقدماتها والمقصود بالذات هو الوعظ والتذكير وهو الذي يساق إليه الحديث ولأجله شرع الله هذه الخطبة ولم يشرعها لمجرد الحمد لله والصلاة على رسوله . اهـ كلامه من من السيل الجرار 1/299. وقال صديق خان : ثم اعلم أن الخطبة المشروعة هي ماكان يعتاده من ترغيب الناس وترهيبهم فهذا في الحقيقة روح الخطبة الذي لأجله شرعت وأما اشتراط الحمد لله أو أو قراءة شيء من القرآن فجميعه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة واتفاق مثل ذلك في خطبته لا يدل على أنه مقصود متحتم وشرط لازم ولايشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم اهـ ( الروضة الندية 1/346) . وقد ذكر الشيخ الألباني رحمه لله كلام محمد صديق بتمامه مؤيداً له في كتاب الأجوبة النافعة ص 54. الراجح في المسألة: مما لا شك فيه أن النبي كان من هديه في خطبه المحافظة على الحمد لله وهذا أمر متفق عليه بين العلماء وهو ثابت عن رسول الله قال ابن القيم رحمه لله تعالى فصل في هدية في خطبه: ((كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته ويقول: أما بعد فإن خير الحديث كتاب لله ...)) وفي لفظ كانت خطبة النبي يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه))الزاد 1/425 والخلاف في فعله هذا هل يدل على الوجوب أم لا ؟ وهذه مسألة تكلم فيها علماء الأصول. قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى : وقد تقرر في الأصول أن فعل النبي إذا كان لبيان نص من كتاب لله فهو على اللزوم والتحتم ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع لأن قطع النبي للسارق من الكوع بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى فاقطعوا أيدهما لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق وإلى المنكب . أضواء البيان 1/203 وفي مسألتنا هذه ، هديه في استفتاح الخطبة بيان لما أجمل في قوله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله ولا شك أن الخطبة داخله في ذكر الله . ويؤيد هذا قوله (( كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء )) وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود في سننه، والترمذي في سننه وقال عنه حديث حسن صحيح غريب. وصححه الشيخ الألباني رحمه لله تعالى ، الصحيحة 1/275 قال الشيخ ابن عثيمين حفظه الله تعالى في شرحه للكافي لابن قدامه: اشتراط الحمد لعله يؤيده أن رسول الله ما كان يخطب إلا حمد الله وأثنى عليه، ثم الخطبة إذا لم تبدأ بالحمد تصبح بتراء لابركة فيها فالقول باشتراطه قول قوي لكن لا يشترط له صيغة معينة بل الحمد معتبر بأي لفظ اهـ.( نقلا عن شريط مسجل للشيخ ) وأما حديث أبي هريرة المتقدم كل أمر ذي بال ... فهو حديث ضعيف تكلم فيه الشيخ الألباني كلاماً جيداً رحمه لله، انظر إرواء الغليل 1/29 والمراد بقوله تشهد ( في الحديث السابق ) هو خطبة الحاجة التي كان الرسول يعلمها أصحابه قال الشيخ الألباني رحمه لله : ويدل لذلك حديث جابر بلفظ : ((كان رسول الله يقوم فيخطب فيحمد الله ويثني عليه بماهو أهله ويقول : من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ،إن خير الحديث كتاب الله .وفي رواية عنه بلفظ كان يقول في خطبته بعد التشهد إن أحسن الحديث كتاب الله .....الحديث )) رواه أحمد وغيره . فقد أشار في هذ اللفظ إلى أن ما في اللفظ الأول قبيل ((إن خير الحديث .. هو التشهد)) اهـ كلام الألباني من الصحيحة 1/276(14/2)
مواضع الخطبة
عناصر البحث:
الفصل الأول: الخطب المشروعة.
المبحث الأول: الخطب المشروعة الدورية.
المطلب الأول: الخطبة الدورية الأسبوعية وهي خطبة لجمعة.
المطلب الثاني: الخطب الدورية السنوية.
أولاً: خطبة العيدين.
ثانياً: خطب المناسك الأربعة في الحج:
1- خطبة اليوم السابع.
2- خطبة اليوم التاسع.
3- خطبة اليوم العاشر .
4- خطبة اليوم الحادي عشر.
المبحث الثاني: الخطب المشروعة الطارئة.
المطلب الأول: خطبة الكسوف والخسوف.
المطلب الثاني: خطبة الاستسقاء.
المبحث الثالث: الخطبة المشروعة العامة، وهي خطبة النكاح.
الفصل الثاني: نماذج من الخطب النبوية العامة:
المبحث الأول: خطب في بيان وتصحيح بعض المسائل الاعتقادية:
الخطبة الأولى: دعوة العشيرة الأقربين إلى الدين وإنذارهم من النار.
الخطبة الثانية: التحذير من الشرك الأصغر.
المبحث الثاني: خطب في بيان وتوضيح بعض الأحكام:
الخطبة الأولى: تحري ليلة القدر في العشر الأواخر .
الخطبة الثانية: ذم الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان.
المبحث الثالث: خطب تتعلق بالغزوات والسرايا:
الخطبة الأولى: رفع معنويات الصحابة في غزوة حنين.
الخطبة الثانية: إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما حصل في غزوة مؤتة.
المبحث الرابع: خطب في فضائل بعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين:
الخطبة الأولى: فضائل الصديق رضي الله عنه.
الخطبة الثانية: في فضل الأنصار رضي الله عنهم.
الفصل الثالث: خطب غير مشروعة.
ومنها: الخطبة بعد ختم القرآن.
*****
مواضع الخطبة
الفصل الأول: الخطب المشروعة:
تمهيد:
قال النووي: "فرع: قال أصحابنا: الخطب المشروعة عشر: خطبة الجمعة، والعيدين، والكسوفين، والاستسقاء، وأربع خطب في الحج، وكلها بعد الصلاة إلا خطبة الجمعة وخطبة الحج يوم عرفة"().
ومن الخطب المشروعة غير هذه العشر: خطبة النكاح().
المبحث الأول: الخطب المشروعة الدورية:
المطلب الأول: الخطبة المشروعة الدورية الأسبوعية، وهي خطبة الجمعة:
دليل مشروعيتها:
من القرآن الكريم: قال تعالى: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9].
قال الشيخ محمد ابن العثيمين: "فأمر بالسعي إلى ذكر الله من حين النداء، وبالتواتر القطعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أذن المؤذن يوم الجمعة خطب، إذن فالسعي إلى الخطبة واجب، وما كان السعي إليه واجباً فهو واجب، لأن السعي وسيلة إلى إدراكه وتحصيله، فإذا وجبت الوسيلة وجبت الغاية"().
ومن السنة: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت))().
ومن الأدلة أيضاً: مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على خطبة الجمعة مواظبة غير منقطعة، فلم يأت يوم من أيام الجمعة لم يخطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الدوام المستمر صيفاً وشتاءً شدة ورخاءً يدل على وجوبهما.
وكذلك أنه لو لم تجب لها خطبتان لكانت كغيرها من الصلوات، ولا يستفيد الناس من التجمع لها، ومن أهم أغراض التجمع لهذه الصلاة الموعظة وتذكير الناس().
المطلب الثاني: الخطب المشروعة الدورية السنوية:
أولاً: خطبة العيدين:
وقد وردت نصوص كثيرة تدل على مشروعيتها ومنها:
1- حديث جابر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم الفطر فصلى، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب الناس. الحديث().
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة().
3- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة().
ثانياً: خطب المناسك الأربعة في الحج:
اختلف العلماء في عدد خطب الحج على قولين():
الأول: أنها ثلاثة خطب، وبه قال الحنفية والمالكية والشافعية، على خلاف بينهم في تحديد أيامها.
الثاني: أنها أربعة، وبه قال الشافعية.
أما الخطبة الأولى: فهي في اليوم السابع من ذي الحجة، عند الحنفية والمالكية والشافعية، وعند الحنابلة خطبة عرفة هي الأولى.
هذه الخطبة في مكة عند الكعبة يوم السابع بعد صلاة الظهر، وهي خطبة واحدة لا يجلس فيها بالاتفاق، يعلِّمهم فيها الإمام مناسك الحج.
واستُدلّ على ذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قبل التروية بيوم خطب الناس فأخبرهم بمناسكهم().
الخطبة الثانية: خطبة اليوم التاسع، وهي خطبة عرفة:(15/1)
وهي الخطبة الأولى عند الحنابلة، وقال النووي: "ويخطب الإمام قبل صلاة الظهر خطبتين... يبين لهم... كيفية الوقوف وشروطه وآدابه، ومتى الدفع من عرفات إلى مزدلفة، وغير ذلك من المناسك التي بين أيديهم إلى الخطبة التي تكون بمنى يوم النحر بعد الزوال، وهذه المناسك التي يذكرها في خطبة عرفة هي معظم المناسك ويحرضهم فيها على إكثار الدعاء والتهليل وغيرهما من الأذكار والتلبية في الموقف..." ().
ودليل مشروعية هذه الخطبة حديث جابر رضي الله عنهما الطويل، وفيه: حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا...)) الخ الحديث().
الخطبة الثالثة: خطبة اليوم العاشر، وهو يوم النحر (خطبة واحدة):
وهي الخطبة الثانية عند الحنابلة.
وردت أحاديث كثيرة تدل على مشروعيتها، ومنها:
1- عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا... الحديث().
2- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: ((يأيها الناس، أي يوم هذا؟)) قالوا: يوم حرام. قال: ((فأي بلد هذا؟)) قالوا: بلد حرام. قال: ((فأي شهر هذا؟)) قالوا: شهر حرام... الحديث().
وقت خطبة يوم النحر:
عن رافع بن عمرو المزني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى، حين ارتفع الضحى، على بغلة شهباء، وعليٌ يُعَبِّرُ عنه، والناس بين قاعد وقائم().
الخطبة الرابعة: في اليوم الثاني من أيام التشريق:
وهي الخطبة الثالثة عند الحنابلة.
قال ابن قدامة: "فصل: ويستحب أن يخطب الإمام في اليوم الثاني من أيام التشريق، خطبة يعلم الناس فيها حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم..."().
والدليل على مشروعيتها ما رواه أبو نجيح عن رجلين من بني بكر قالا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب بمنى().
المبحث الثاني: الخطب المشروعة الطارئة:
المطلب الأول: خطبة الكسوف والخسوف():
وردت أحاديث كثيرة تدل على مشروعية خطبة الكسوف والخسوف ومنها:
حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا)) ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم كثيراً ولبكيتم كثيراً))().
وبوب البخاري في صحيحه فقال: "باب خطبة الإمام في الكسوف"، وذكر تحته: "وقالت عائشة وأسماء: خطب النبي صلى الله عليه وسلم"، ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم، ولكن باختلاف في بعض ألفاظه، وفيه: ثم قام فأثنى على الله بما هو أهله().
قال الحافظ ابن حجر شارحاً صنيع البخاري هذا: "قوله: (باب خطبة الإمام في الكسوف) اختلف في الخطبة فيه، فاستحبها الشافعي وإسحاق وأكثر أصحاب الحديث، قال ابن قدامة: لم يبلغنا عن أحمد ذلك. وقال صاحب الهداية من الحنفية ليس في الكسوف خطبة لأنه لم ينقل. وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه وهي ذات كثرة. والمشهور عند المالكية أن لا خطبة لها، مع أن مالكاً روى الحديث، وفيه ذكر الخطبة، وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقصد لها خطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس، وتعقب بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل، وقد استضعف ابن دقيق العيد التأويل المذكور وقال: إن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين، بعد الإتيان بما هو المطلوب منها من الحمد والثناء والموعظة، وجميع ما ذكر من سبب الكسوف وغيره هو من مقاصد خطبة الكسوف، فينبغي التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيذكر الإمام ذلك في خطبة الكسوف.(15/2)
نعم نازع ابن قدامة في كون خطبة الكسوف كخطبتي الجمعة والعيدين، إذ ليس في الأحاديث المذكورة ما يقتضي ذلك، وإلى ذلك نحا ابن المنير في حاشيته وَرَدَّ على من أنكر أصل الخطبة لثبوت ذلك صريحاً في الأحاديث وذكر أن بعض أصحابهم احتج على ترك الخطبة بأنه لم ينقل في الحديث أنه صعد المنبر، ثم زيفه بأن المنبر ليس شرطاً، ثم لا يلزم من أنه لم يذكر أنه لم يقع"().
المطلب الثاني: خطبة الاستسقاء:
وردت أحاديث كثيرة تدل على مشروعية خطبة الاستسقاء سواء بعد الصلاة أو قبلها() منها حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر، فكبر صلى الله عليه وسلم، وحمد الله عز وجل، ثم قال: ((إنكم شكوتم جدب دياركم واستئجار المطر عن إبان زمانه عنكم... ونزل فصلى ركعتين...)) الحديث().
ومنها حديث عبد الله بن زيد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء فخطب واستقبل القبلة، ودعا واستسقى، وحول رداءه، وصلى بهم().
المبحث الثالث: الخطبة المشروعة العامة: وهي خُطبة النكاح:
يستحب لمن يخطب أو يعقد النكاح أن يخطب بين يدي خطبته أو عقده خُطبة الحاجة المشهورة.
وقد وردت هذه الخطبة "خطبة الحاجة" عن ستة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم: عبد الله بن سعود، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، ونبيط بن شريط، وعائشة، رضي الله عنهم، وعن تابعي واحد هو الزهري رحمه الله.
وهي مشهورة أيضاً بـ"خطبة ابن مسعود" ورويت عنه من أربعة طرق، وأخرجها أصحاب السنة الأربعة، وأحمد وغيرهم.
قال الإمام أبو داود(): حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود في خطبة الحاجة [في النكاح وغيره]().
قال: ح وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري المعنى، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص وأبي عبيدة، عن عبد الله قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة: إن الحمد لله، نستعينه، ونستغفره..." الحديث.
قال الألباني: "خاتمة: قد تبين لنا من مجموع الأحاديث المتقدمة، أن هذه الخطبة تفتح بها جميع الخطب، سواء كانت خطبة نكاح، أو خطبة جمعة، أو غيرها، فليست خاصة بالنكاح كما قد يظن، وفي بعض طرق حديث ابن مسعود التصريح بذلك كما تقدم، وقد أيد ذلك عمل السلف الصالح، فكانوا يفتتحون كتبهم بهذه الخطبة..." انتهى كلامه رحمه الله().
الفصل الثاني: نماذج من الخطب النبوية العامة:
المبحث الأول: خطب في بيان وتصحيح بعض المسائل الاعتقادية:
الخطبة الأولى: دعوة العشيرة الأقربين إلى الدين وإنذارهم من النار:
عن أبي هريرة قال: لما أنزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فعم وخص، فقال: ((يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها)) وجاء من حديث عائشة أيضا().
الخطبة الثانية: التحذير من الشرك الأصغر:
عن طفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها قال: رأيت فيما يرى النائم كأني مررت برهط من اليهود فقلت من أنتم؟ فقالوا نحن الوليد، فقلت أنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله قالوا وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت برهط من النصارى فقلت أنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله فقالوا وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد.
فلما أصبحت أخبرت بها ناساً، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بها، فقال: ((هل أخبرت بها أحداً؟)) فقلت: نعم، فلما صلى الظهر قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((إن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنه، فلا تقولوا ما شاء وشاء محمد)) ().
المبحث الثاني: خطب في بيان وتوضيح بعض الأحكام:
الخطبة الأولى: تحري ليلة القدر في العشر الأواخر:(15/3)
عن أبي سلمة قال: انطلقت إلى أبي سعيد الخدري فقلت: ألا تخرج بنا إلى النخل نتحدث؟ فخرج، فقال: قلت: حدثني ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر، قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً صبيحة عشرين من رمضان فقال: ((من كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم فليرجع، فإني أريت ليلة القدر، وإني نسيتها وإنها في العشر الأواخر في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء...)) الحديث().
الخطبة الثانية: ذم الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان:
عن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول صلى الله عليه وسلم؟ فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أتشفع في حد من حدود الله؟!)) ثم قام فخطب فقال: ((يا أيها الناس، إنما ضلّ من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد. وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها))().
المبحث الثالث: خطب تتعلق بالغزوات والسرايا:
الخطبة الأولى: رفع معنويات الصحابة في غزوة حنين:
عن كثير بن عباس قال: كان عباس وأبو سفيان معه يعني النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فخطبهم وقال: ((الآن حمي الوطيس)) وقال: ((ناد: يا أصحاب سورة البقرة))().
الخطبة الثانية: إعلام النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما حصل في غزوة مؤتة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح له)) وقال: ((ما يسرنا أنهم عندنا)) قال أيوب أو قال: ((ما يسرهم أنهم عندنا، وعيناه تذرفان))().
المبحث الرابع: خطب في فضائل بعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين
الخطبة الأولى: فضائل الصديق رضي الله عنه:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس() وقال: ((إن الله خيرَّ عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله)) قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه، أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخبر، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا تخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)) ().
الخطبة الثانية: في فضل الأنصار رضي الله عنهم:
عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يُعْطِ الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟)) كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ: قال: ((ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)) قال: كلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمنّ، قال: ((لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا. ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة، لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار. إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض))().
الفصل الثالث: خطب غير مشروعة:
ومنها: الخطبة بعد ختم القرآن:
ذكر الطرطوشي: أن الخطب في أعقاب الختم مما أحدثه الناس().
وقال ابن الحاج: "والخطب الشرعية معروفة مشهورة، ولم يذكر فيها خطبة عند ختم القرآن في رمضان ولا غيره، وإذا لم تذكر فهي بدعة ممن فعلها، سيما إن كان الموضع معروفاً مشهوراً..."().
وكذلك ذكرها الشيخ بكر أبو زيد من بدع الختم().
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
() المجموع (5/31). وانظر أيضاً: الإقناع للشربيني (1/187). حاشية ابن عابدين (1/377). نهاية الزين (1/111). وإعانة الطالبين (2/63). الفقه الإسلامي وأدلته (2/1405).
() انظر: رسالة العلامة الألباني (خطبة الحاجة)، وكتاب: الصحيح المسند من أحكام النكاح (184-186).
() الشرح الممتع (5/66).
() البخاري في كاب الجمعة، باب: الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب [934]، ومسلم في كتاب الجمعة، باب: في الإنصات يوم الجمعة في الخطبة [851].
() الشرح الممتع (5/66-67).
() أخرجه مسلم في كتاب صلاة العيدين (2/603) [885].(15/4)
() أخرجه البخاري في كتاب العيدين، باب: الخطبة بعد العيد (3/130 ـ الفتح ـ) [962]، ومسلم في كتاب صلاة العيدين (2/602) [884].
() البخاري في كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد (3/30 ـ الفتح ـ) [963].
() انظر: حاشية المحتار (2/175، 502). الكافي لابن عبد البر (1/415)، المجموع شرح المهذب (8/106-109). المغني (5/319، 334). الفتح (3/674-675). شرح النووي على مسلم: المجلد (5)/ جزء (9)/57. نيل الأوطار: المجلد (2)/ جزء (3)/364.
() أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، في كتاب المناسك، باب: خطبة الإمام يوم السابع من ذي الحجة (4/245) (2793). والحاكم في المستدرك، في كتاب المناسك (1/632) (1693/85)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، والحديث صححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (5/119) [2082].
() المجموع شرح المهذب (8/114).
() هذه رواية محمد بن علي بن الحسين، أبو جعفر الباقر، أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، (2/886-892) [1218]، وانظر: روايات الحديث وتخريجاته مفصلاً في كتاب حجة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواها عنه جابر رضي الله عنه للعلامة الألباني رحمه الله.
() أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب: الفتيا على الدابة عند الجمرة (1/527) [1737]، ومسلم في كتاب الحج، باب: من حلق قبل النحر، أو نحر قبل الرمي (2/949) [329].
() أخرجه البخاري في كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى (1/401) [1739].
() أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب: أي وقت يخطب يوم النحر؟ (2/489) [1956]. وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/368) [1723].
() المغني (5/334).
() أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب المناسك، باب: أي يوم يخطب بمنى؟ (2/488) [1952]، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/368) [1720]. وأخرجه أيضاً البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الحج، باب: خطبة الإمام بمنى أوسط أيام التشريق (5/151)، وأحمد في المسند (20172)، والدارمي في سننه: ص (825) [2537].
() قال الحافظ في الفتح (3/234-235): "والمشهور في استعمال الفقهاء أن الكسوف للشمس والخسوف للقمر، وأختاره ثعلب، وذكر الجوهري أنه أفصح".
() أخرجه البخاري في كتاب الكسوف، باب: الصدقة في الكسوف (3/226-227 ـ الفتح ـ) [1044]. ومسلم في كتاب الكسوف (6/200-201 ـ شرح النووي ـ).
() البخاري (3/232-233 ـ الفتح ـ).
() فتح الباري (3/232-233).
() انظر: الشرح الممتع (5/279-281).
() سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الاستسقاء (1/692-693) [1173] وقال: "وهذا حديث غريب إسناده جيد". وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/217) [1040]، وفي صحيح موارد الظمآن (1/285) [500].
() أخرجه ابن خزيمة في صحيحه، جماع أبواب صلاة الاستسقاء وما فيها من السنن، باب: الخطبة قبل صلاة الاستسقاء (2/332) [1407]. وصحح إسناده الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة [1407].
() سنن أبي داود: كتاب النكاح، باب في خطبة النكاح (2/591-592) [2118]. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/398-399) [1860]. وانظر: رسالته "خطبة الحاجة".
() قال الشيخ الألباني: "وهذه الزيادة (في النكاح وغيره) هي لأبي داود من طريق سفيان عن أبي إسحاق وظاهرها أنها من قول ابن مسعود، لكن خالف شعبة فجعلها من قول أبي إسحاق حيث قال: قلت لأبي إسحاق: هذه في خطبة النكاح أو في غيرها؟ قال: في كل حاجة". انظر: خطبة الحاجة (ص13).
() رسالة "خبطة الحاجة" (ص31).
() أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (1/192) [348، 350].
() رواه أحمد في مسنده (5/72)، والطبراني في المعجم الكبير (8/388) [8214]، والدارمي في سننه كتاب الاستئذان، باب: النهي عن أن يقول: ما شاء الله وشاء فلان (2/382) [2699]، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/265) [138].
() رواه البخاري في كتاب الأذان، باب السجود على الأنف والسجود على الطين (1/263) [813]، ومسلم كتاب الصيام [1167].
() رواه البخاري في كتاب الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان (4/248) [6788]. ومسلم في كتاب الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود (3/1315) [1688].
() رواه أحمد في مسنده (3/1776) [1776]، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر.
() رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب تمني الشهادة (2/305) [2798].
() وذلك في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم.
() رواه البخاري، في كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب المهاجرين وفضلهم (3/7) [3654]، ومسلم في فضائل الصحابة [2382].
() رواه البخاري في كتاب المغازي، باب غزوة الطائف... (3/158) [4330]، ومسلم في الزكاة [1061].
() انظر: كتاب الحوادث والبدع (ص 154).
() المدخل: (2/444).
() تصحيح الدعاء (ص 289-290).(15/5)
( وتلك الأيام نداولها بين الناس (2) )
عناصر الموضوع :
1. الوعد الإلهي بنصر الإسلام
2. المبشرات لا تعني ترك العمل للدين
وتلك الأيام نداولها بين الناس (2)
المستقبل للإسلام بلا شك، رغم محاولات أعدائه لإطفاء نوره، وفي ذلك نصوص من القرآن والسنة تستمد منها هذه الخطبة معظم مادتها، بالإضافة إلى الحديث في نزول المسيح عليه السلام، مع توضيح للخلافة الراشدة في آخر الزمان. ومن الحقائق التي لا خلاف فيها أن هذه المبشرات بالفجر الإسلامي القريب لا تعني مطلقاً ترك العمل الإسلامي.
الوعد الإلهي بنصر الإسلام:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * < يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إخواني: تكلمنا في الخطبة الماضية عن مفهوم من المفاهيم الإسلامية المهمة التي يجب أن تترسخ في ذهن كل إنسان مسلم يعيش في هذا العصر الذي عمت فيه الفتن واختلط فيه الأمر، وأصبح المسلمون في ذلة وقلة وهوان مستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، وذلك المفهوم الذي تكلمنا فيه هو قول الله عز وجل: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] وأن لله الأمر من قبل ومن بعد، وأن الله تعالى يأذن بنصر هذا الدين فينتصر، ثم يأذن بغلبة الكفار فيغلبون، وهكذا يداول الله الأيام بين الناس، وهذه النقط مهمة أيها الإخوة حتى لا يستشري اليأس في نفوس المخلصين، وحتى يحس المسلم بنور الله عز وجل والأمل في الله تعالى، وحتى لا ييأس من روح الله، ونحن نختم هذا الموضوع في هذه الخطبة بعرضه من جهة أخرى حتى تكتمل الصورة شيئاً ما، وحتى يكتمل الإحساس من المسلمين بأن نصر الله قادم وأن المستقبل للإسلام. أيها الإخوة: إن المستقبل للإسلام شيءٌ لاشك فيه بنصوص القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها نصوصٌ وأحاديثٌ عظيمة ينبغي للمسلم أن يقف أمام عظمتها متأملاً متفحصاً مدققاً، مشرباً في قلبه تلك المعاني القرآنية والنبوية التي تتدفق من خلالها الآمال والتطلعات نحو مستقبل إسلامي مشرق بإذن الله. أيها الإخوة: إن لله تعالى ديناً لابد أن ينصره، وإن الله عز وجل ما أرسل رسوله ولا أنزل هذا الدين إلا ليعلو في الأرض، فقال سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33] لماذا أرسل رسوله بالهدى ودين الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33] ليظهر دين الإسلام على سائر الملل والنحل والأديان، وحتى يستعلي الإسلام على سائر الفرق الضالة والمذاهب الهدامة التي وضعها البشر لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33] وهذه الكلمة (الدين): اسم جنس يشمل سائر الأديان التي حرفها البشر ووضعوها من عند أنفسهم لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
محاولات أعداء الله لإطفاء نوره:(16/1)
إن المشركين أيها الإخوة في كل وقت وفي كل عصر ومصر يعملون ليلاً ونهاراً، لكي يقوضوا صرح الإسلام، ولكي يضعوا من عظمة هذا الدين، ولكي يدحروا المسلمين ويردوهم على أعقابهم، يعملون بالليل والنهار، إنهم ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36] ثم تكون هذه الأموال التي ينفقونها من أجل صد المسلمين عن الإسلام وبذر بذور النفاق في أراضي المسلمين، ستكون عليهم حسرةً ثم يغلبون، هكذا قال الله تعالى في القرآن. إنهم أيها الإخوة ليلاً ونهاراً يفكرون بأشد ما أوتوا من قوة وتفكير، وينفقون ما استطاعوا من الأموال، ليصدوا الناس عن دين الله، إنهم يفعلون هذا وينشئون مساجد الضرار في العالم الإسلامي، التي تلفت أنظار المسلمين عن مساجد الله الحقيقية التي أذن الله عز وجل أن ترفع ويذكر فيها اسمه، حتى تتطلع تلك الأنظار من قبل أولئك الضعفة من المسلمين إلى تلك المنشئات التي تصرف الناس عن دين الله، وتوهمهم بأن هذا هو الدين وليس لها علاقة بالدين مطلقا، مجرد مسميات خالية من المضامين الحقيقية، مجرد أسماء خالية مما تعنيه حقيقةً. أيها الإخوة! إن هؤلاء هم الذين قال الله فيهم: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة:32] وقال الله في آية الصف: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8] عجباً لهذه الآية التي تصور حمق أولئك الناس وغفلتهم الذين يريدون أن يطفئوا نور الله الذي أنزله من السماء، بتلك الأفواه البشرية العفنة التي لا تملك مطلقاً أن تحجب الحقيقة عن ناظري كل مسلم متجرد؛ يسير في طريق الإسلام على هدىً من ربه يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ [الصف:8] ويعملون من أجل ذلك ليلاً ونهاراً، وتنجح مخططاتهم في أوقات كثيرة وأماكن كثيرة، حتى يظن المسلم الذي دخله اليأس أنه لا يمكن أن تقوم للإسلام قائمة مطلقاً، وأن نور الله قد حجب، وأن المسلمين لم تعد لهم شوكة ولا منعة، وأنه ليس هناك أحد ينصر هذا الدين. ولكن -أيها الإخوة- إذا تفحصنا وتأملنا في النصوص نجد بأن الله لابد أن يظهر نوره، ليس الظهور الذي حصل في فترة الخلفاء الراشدين، وإنما ظهورٌ سيكون بعد هذا الوقت الذي نحن فيه الآن، كما سيأتيكم من خلال تلك النصوص التي نطق بها الذي لا ينطق عن الهوى.
مدلولات بداءة الإسلام غريباً:(16/2)
أيها الإخوة: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) إن الإسلام بدأ غريباً، الذي يريد أن يعرف كيف يمكن أن يظهر الإسلام على الأرض كلها وليس هناك إلا حفنة قليلة من المسلمين هي الملتزمة بشرع الله فقط، الذين يقولون: إن المسلمين اليوم ألف مليون، يكذبون على أنفسهم وعلى الناس كلهم، إننا نعرف أيها الإخوة أن كثيراً من المسلمين هم في الحقيقة مشركون من عبدة القبور، أو مرتدون عن الإسلام لا يؤدون الصلاة بالكلية مثلاً، أو يسخرون بدين الله ويشتمون ويستهزئون، فهم كفرة بالله العظيم، أو يتبعون مذاهب فكريه كافرة ضالة كالشيوعية والبعثية ونحوها تخرج الإنسان عن ملة الإسلام، ملايين تتبع قادة الضلال وتجري وراءهم، هؤلاء لا يمكن أن يكونوا مسلمين. إذاً: أيها الإخوة، المسلمون الحقيقيون هم قلة، لا يمكن أن يبلغوا هذا العدد الذي يدخل فيه من يعدهم به كثيراً من الطوائف الضالة وأصحاب البدع الكافرة التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، الذي يريد أن يتصور كيف يمكن لحفنة قليلة من البشر أن تنشئ المد الإسلامي من جديد، وأن تعلي كلمة الله عز وجل كما كانت قبل ذلك، بل وأكثر منه الأرض، يتصور تلك الحقيقة العظيمة التي كانت في يوم من الأيام: (بدأ الإسلام غريبا). يا إخواني: عندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كم كان عدد المسلمين في الأرض؟ كم عدد الذين يحملون الفكرة الإسلامية الصحيحة ويطبقونها في واقعهم ويجاهدون في سبيلها؟ إنه رجل واحد فقط، رجل واحد فقط في تلك الأرض المظلمة بظلمات الجاهلية التي تغط في الشرك وأوحال الجاهلية، إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يوجد غيره على الدين الصحيح. بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واحد، فكيف أصبح الأمر بعد بعثته بنحو اثنتين وعشرين سنة فقط؟ بعد اثنتين وعشرين سنة فقط من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو رجل واحد، تقول الروايات بأنه حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أربعة وعشرون ألفاً ومائة ألف صحابي. وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم امتد المد الإسلامي ليكتسح أراضي كثيرة ويدخل ملايين في دين الله عز وجل، من الذي نشر الدين؟ رجل واحد فقط، واحد انبثقت عنه تلك الملايين التي دخلت في دين الله بفضل الله عز وجل، ثم التمسك بدينه والجهاد في سبيله حق الجهاد. إذاً لا نستغرب أن يكون هناك اليوم آلاف من المسلمين الحقيقيين، سينبثق عنهم ويبزغ فجر الإسلام من جديد، كما بدأ أول مرة ( إن الإسلام بدأ غريباً ) غريب في الأرض، من الذي يحمله؟ واحد فقط، بدأ غريباً، ثم انتشر بعد ذلك ( وسيعود غريباً كما بدأ ) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن ولا شك أيها الإخوة في هذا الزمان في عصر غربة الإسلام، عصر غربة الإسلام، وبما أنه سيعود غريباً كما بدأ، كيف بدأ؟ بدأ بالقلة، ثم انتشر، فإذا كان سيعود غريباً كما بدأ، فسيرجع قليلاً أيضاً، ثم ينتشر بعد قلته وضعفه كما حصل في المرة الأولى. إذاً هذا الحديث الذي يفهم منه كثير من المتثبطون أن الإسلام سيندحر وأن الإسلام سيزول، هو في الحقيقة فهم خاطئ، لأن هذه الغربة التي نحن فيها الآن سيعبقها بإذن الله عز وجل مد إسلامي يكتسح الأرض كلها.
مبشرات بالنصر اللامحدود للإسلام:(16/3)
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد عن أبي مرفوعاً قال عليه السلام: (بشر هذه الأمة بالسناء -وهو العلو والارتفاع- والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض) هذه الأشياء التي يبشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم لابد أن تحصل لأنه لا ينطق عن الهوى، وكما تحقق ما قاله في الماضي من أشياء كثيرة، فلابد أن يتحقق ما يخبر عنه عليه السلام في المستقبل كما أخبر عنه عليه السلام عندما بعث. ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الطبراني عن أبي أمامة قال: قال عليه السلام: (والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالي حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم) حتى يبلغ هذا الدين مبلغ هذا النجم، يفسر هذا الحديث الحديث الصحيح الآخر الذي رواه الإمام أحمد ومسلم عن ثوبان رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: ( إن الله زوى لي الأرض ) يعني: جمع الأرض وضمها، فرآها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ معجزة من عند الله (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) وإن ملك أمة الرسول صلى الله عليه وسلم سيبلغ ما جمع له منه، ما الذي جمع له منها؟ جمعت له كلها، فرآها عليه السلام شرقيها وغربيها، وملك هذه الأمة سيبلغ الشرق والغرب، أي: سيعم الإسلام الأرض كلها، هل سبق أن حصل في التاريخ الماضي أن عم الإسلام الأرض كلها فما بقي كافر واحد ولا دولة كافرة على وجه الأرض؟ حتى في عصر الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، وحتى في عصر الدولة العثمانية، هل حصل أن الإسلام اكتسح الأرض كلها لم يبق كيان كافر واحد على وجه الأرض؟ الجواب أيها الإخوة: لا، لم يحصل هذا في الماضي، ما حصل مع انتشار الإسلام في الماضي، بل كان لا يزال هناك كيانات كافرة موجودةٌ على الأرض. إذاً: بما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام سيعم الأرض كلها شرقها وغربها، فلا بد أن يحصل، فإذا ما حصل في الماضي، فإذاً ما هي النتيجة؟ لابد أن يحصل في المستقبل (وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها) يوضح هذه الأحاديث حديث ثالث، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه ابن حبان وغيره: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار) أي: كل الأرض (ليبلغن هذا الأمر -الإسلام- ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر) لا بيت حجر وعمارات شاهقة ولا بيت وبر للبدو في الصحراء، لا يترك أي بيت من أي نوع كان (إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الله الإسلام، وذلاً يذل به الكفر). إذاً: سيأتي اليوم الذي يدخل الإسلام فيه كل البيوت على وجه الأرض، ولا يبقى بيت واحد إلا ودخله الإسلام.
مبشرات ببلوغ الإسلام أماكن لم يبلغها بعد:(16/4)
وهذه بشارات أخرى توضح ما سبق أن ذكرناه آنفاً، في الحديث الصحيح يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب ما يقول من الأحاديث، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية ؟ يعني: هل القسطنطينية تفتح أولاً أم روما ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مدينة هرقل تفتح أولاً) التي هي القسطنطينية ، وقد فتحت القسطنطينية في عهد السلطان العثماني محمد الفاتح ، لكن هل فتحت روما عاصمة النصارى؟ هل فتحت روما معقل الكفرة؟ لا. لم تفتح روما حتى الآن، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بأنها ستفتح ويخبر أن القسطنطينية ستفتح قبل روما. إذاً: لابد أن تفتح روما كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم لابد أن يحصل هذا أيها الإخوة، المشكلة أنه لا يوجد إيمان عند الكثيرين لكي يوقنوا بما أخبر به عليه السلام، لا يوجد تصديق عند الكثيرين من المسلمين حتى يؤكدوا لأنفسهم أن ما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حق لا بد أن يقع. ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة يقول عليه السلام: (سمعتم بمدينة جانب منها في البر وجانب في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله سمعنا بها، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق والمحفوظ من بني إسماعيل) يعني: من مسلمي العرب سبعون ألفاً سيغزون تلك المدينة التي نصفها في البر ونصفها في البحر (فإذا جاءوها فنزلوا عند تلك المدينة- وهي محصنة بالكفار- فلم يقاتلوا بسلاح ولم يرموا بسهم) قالوا: مجرد ما فعل هؤلاء المسلمون من صدق إيمانهم وتأييد الله لهم (قالوا: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر- يسقط بيد المسلمين- ثم يقول الثانية: لا إله إلا الله والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر- الذي في البر- ثم يقول الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرج لهم فيدخلونها فيغنمون) حديث صحيح. إذاً: سيأتي اليوم الذي يؤيد الله المسلمين بمجرد الذكر (لا إله إلا الله والله أكبر) تسقط معاقل الكفرة، بمجرد الذكر بدون قتال، يلقي الله الرعب على الأعداء فينصر المسلمين، فتسقط أراضي الكفرة ومدنهم بغير قتال.
حديث في نزول المسيح عليه السلام:(16/5)
وأيضاً -أيها الإخوة- نعلم بأن عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل من السماء، عيسى عليه الصلاة والسلام سينزل من السماء، ويحكم الأرض بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى الآن عيسى عليه السلام لم يقبض الله روحه، وإنما رفعه حياً إلى السماء، وسينزله مرةً أخرى في آخر الزمان كما وردت بذلك الأحاديث التي بلغت مبلغ التواتر، يعني: رواها جماعة عن جماعة في عصورٍ مختلفة حتى دونت في كتب الحديث، أحاديث متواترة رويت في نزول عيسى عليه السلام، فمن هذه الأحاديث، يقول صلى الله عليه وسلم في شأن المسلمين لما ينزل عيسى عليه السلام: (وإمامهم يومئذ رجل صالح -إمام المسلمين يومئذ رجل صالح- فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم، فرجع ذلك الإمام إلى الخلف ليتقدم عيسى -لأن عيسى نبي- فيضع عيسى يده بين كتفيه ويدفعه إلى الأمام، ويقول له: تقدم فصل، فإنها لك أقيمت) تصوروا أيها الإخوة كرامة الله عز وجل لهذه الأمة أن يجعل واحداً منهم إماماً يأتم به عيسى عليه السلام، كرامة الله لهذه الأمة: (فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم أمامهم، فإذا انصرف قال عيسى: افتحوا الباب -لأن المسلمين في ذلك الوقت يكونون على مشارف أبواب تجمع اليهود في فلسطين - فيفتحون ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي، فإذا نظر إليه الدجال -إلى عيسى- ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً، فيدركه عيسى عليه السلام عند باب لد -المدينة المعروفة الآن مدينة لد في فلسطين - بباب لد الشرقي فيقتله، ويريهم عيسى أثر الدم على حِربةٍ في يده، دلالةً على أنه قتله قبل أن يتلاشى، فيهزم الله اليهود، فلا يبقى شيء مما خلقه الله عز وجل يتواقى به يهودي -يعني: يستتر- إلا أنطق الله ذلك الشيء؛ لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة إلا الغرقدة، فإنها من شجرهم) نوع من الشجر لا ينطق بما وراءه؛ لأنه من شجر اليهود، ولذلك أيها الإخوة جاءت الأخبار بأنهم يكثرون من زراعتها الآن في أرض فلسطين ، يعرفون عن الإسلام أكثر مما يعرفه بعض المسلمين: (إلا قال هذا الشيء: يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، يدق الصليب ويذبح الخنزير ويضع الجزية -لا تطبق الجزية لماذا لا تطبق الجزية؟ لأنه لا يكون هناك يهود أو نصارى تؤخذ منهم الجزية، كلهم يدخلون في الإسلام- ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض وتنزع حمة كل ذات حمة -يعني: كل حيوان فيه سم ينزع هذا السم منه- حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتضر الوليدة الأسد فلا يضرها) وفي رواية صحيحة (ويطأ الرجل على الحية فلا تضره، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها الذي يحرسها، وتملأ الأرض من السلم -السلام- والإسلام كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة، فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتكون الأرض كفاتور الفضة -يعني: مثل الخوان عليه أصناف المطعومات والمشروبات- وتنبت الأرض نباتها بعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب -على العنقود من العنب- فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ويستظلون بقشرتها) كبر الرمانة من البركة التي حصلت في الأرض بتطبيق شرع الله. أيها الإخوة: لو طبق شرع الله في الأرض كاملاً يمكن للناس أن يشبعوا برمانة واحدة ويستظلون بقشرتها كما سيحدث (ويكون الفرس بالدريهمات) بالدراهم البسيطة يشترى الفرس، حديث صحيح رواه ابن ماجة وابن خزيمة.
بركة آخر الزمان والخلافة الراشدة فيه:(16/6)
وفي حديث آخر صحيح (يؤذن للسماء فتمطر، ويؤذن للأرض بالنبات حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت) لو وضعت الحب (البذر) على الصخر لنبت. إذاً تكون هناك بركة عظيمة، وقد يتساءل متسائل، فيقول: هل هذا النصر بالضروري أن يحدث في عهد عيسى أم يمكن أن يحدث قبل ذلك؟ الجواب أيها الإخوة: يمكن أن يحدث قبل ذلك، يمكن أن تحدث انتصارات كثيرة قبل ذلك، خصوصاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث الصحيح، قال: (لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة تجتمع عليهم الأمة كلهم من قريش، ثم يكون الهرج بعد ذلك) كم مضى من الخلفاء؟ لم يمض هذا العدد، مضى أقل من اثنى عشر. إذاًَ: البقية ستأتي وستظهر لا محالة وستقوم الخلافة الإسلامية في الأرض، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون -بعد النبوة- خلافة على منهاج النبوة -الخلافة الراشدة- فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه ما شاء الله أن يرفعه، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعه إذا ما شاء الله أن يرفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت). إذاً: هذه الخلافة لابد أن تأتي، ولابد للنصر أن يأتي بإذن الله أيها الإخوة، لكن النصر لا يأتي هكذا، لا ينام المسلمون اليوم يقومون غداً صباحاً فيرون خليفة المسلمين قد ظهر والإسلام قد انتشر في الأرض، لا. نسأل الله أن يبصرنا بدينه وأن يرزقنا الإخلاص والاستقامة وصلى الله على نبينا محمد وعلى آل نبينا محمد.
المبشرات لا تعني ترك العمل للدين:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المؤمنين، وأشهد أن محمداً رسول الله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة. أيها الإخوة: كلامنا في الخطبة الماضية وفي هذه الخطبة كان القصد منه إحياء النفوس بهذه المبشرات الإسلامية التي نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الآيات في القرآن العظيم، هذه التي تبعث الأمل ثانيةً في تلك النفوس التي ملئت يأساً وحسرةً حتى كادت أن تخمد جذوة الإسلام في نفوس المسلمين، الغرض من هذا الكلام بعث الأمل في تلك النفوس اليائسة، التي يئست مع مشاهدة الواقع الحاضر، ومع المعيشة في الواقع الحاضر أن يرجع الإسلام ثانيةً، هذا هو القصد، لكن قد يؤدي هذا الكلام إلى محذورٍ آخر، وهو أن يتواكل كثير من المسلمين ويعتمدون على النصر الذي سيأتي من عند الله، والخلافة التي ستكون، فيتركون العمل للإسلام، ويقول كثير من أولئك الذين ما فقهوا الدين، يقولون: ما دام الله سينصر الدين فلماذا نعمل نحن؟! بما أن الله سينصر الدين بالتأكيد إذاً لا داعي للعمل! نجري وراء الدنيا والشهوات والأهواء وللبيت رب يحميه. كلا أيها الإخوة ما كان هذا أبداً فهماً صحيحاً للإسلام في الماضي، وليس فهماً صحيحاً مطلقاً لدين الله عز وجل، لأن الله يقول: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] وقل اعملوا في سبيل الله، اعملوا من أجل رفع راية الإسلام، اعملوا من أجل إعزاز دين الله، اعملوا من أجل نشر منهج الله في الأرض، اعملوا من أجل الدعوة إلى الله، اعملوا من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَقُلِ اعْمَلُوا [التوبة:105] أمر عام يشمل جميع أنواع العمل الصالح وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ [التوبة:105] ما قال الله عز وجل للمسلمين ناموا وأنا أنصر الدين، لا. وهذا الفهم أيها الإخوة هو الذي فهمه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين يقول شاعرهم يوم الخندق وهم يرون الرسول صلى الله عليه وسلم يعمل:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل(16/7)
لئن قعدنا والنبي يعمل، فهذا عمل ضال لا يمكن أن يكون، فقاموا مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعملون ويحفرون بأصابعهم الخندق، يعملون عملاً من أجل إيجاد وسيلة لصد المشركين، وبالإضافة إلى ذلك أيها الإخوة قد يتصور البعض بأن عملنا للإسلام بدافع أننا إذا لم نعمل يفوتنا الأجر، يعني: إذا لم نعمل فات علينا أجر عظيم ولذلك نعمل، هذا صحيح، لكن ليس هذا فقط كل شيء، إننا نعمل للإسلام أيها الإخوة؛ لأن الواجب علينا أن نعمل، ولأننا إذا لم نعمل أثمنا كلنا، ولأن الله يقول: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] إذا نبذنا العمل ونمنا وجلسنا نجري الآن وراء الدنيا والماديات والشهوات ونشبع رغبات نفوسنا، ماذا سيحدث؟ الله عز وجل لابد أن ينصر الدين، والله عز وجل لا ينصر الدين بملائكة ينزلون من السماء يقيمون حكم الله في الأرض، لا، الله عز وجل ينصر الدين بأسباب، ينصر الدين بأناس ينصرون هذا الدين، يبعثهم الله عز وجل من المجددين والعلماء والمجاهدين أفراد الطائفة المنصورة . إذاً: أيها الإخوة لله سنن في الأرض تعمل، لابد أن تعمل هذه السنن ومن سننه أن يجعل النصر لعباده، وأن يجعل قيام الإسلام على أيدي مسلمين مخلصين وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54] الذي يرتد عن الدين ويترك العمل ما الذي سيحدث؟ سيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه؛ أجيال أخرى تنشأ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]. إذاً أيها الإخوة! إذا ما عملنا نحن الآن: أولاً: يفوتنا الأجر. ثانياً: علينا الإثم. ثالثاً: سيأتي الله بقوم من بعدنا يعملون فينصر الله بهم الدين، فلماذا نتخاذل ونقعد وننتظر أن ينتصر الإسلام ونحن مكتوفو الأيدي؟ لا أيها الإخوة! يجب أن نكون من أفراد الطائفة المنصورة التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجودها إلى قيام الساعة، ما هي الطائفة المنصورة ؟ هذا حديث أدرجت فيه الصفات من الأحاديث التي وردت، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق) مهما كان الأمر، ومهما ضعف الإسلام، ومهما تقهقر المسلمون ومهما طم العدو وعلا على بلاد المسلمين (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق) وفي رواية: (قائمةٌ بأمر الله) وفي رواية: (قوامة على أمر الله) وفي رواية: (منصورين) وفي رواية: (لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) وفي رواية: (يقاتلون على الحق ظاهرين حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال). هذه الطائفة المنصورة موجودة في الأرض وهذه صفاتها على الحق، منصورة بالحجة قبل أن تكون منصورة بالسيف، تعرف العقيدة وتعرف التوحيد، مستقيمة على أمر الله، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها من الشرق والغرب. يجب أن نكون من أفراد هذه الطائفة المنصورة التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقيم الله الإسلام، سواء رأيناه بأعيننا أو تأخر بعد موتنا، فلا يهم، المهم أن ننقذ أنفسنا من النار، هذا هو المهم أيها الإخوة، أن ننقذ أنفسنا من النار، سواءً رأينا النتيجة أو لم نرها، وعدم رؤية النتيجة ليس باعثاً على اليأس، لأن المسألة إذا لم تتحقق في هذا الجيل، فستتحقق في الأجيال القادمة بإذن الله: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم واجعلنا من جندك وأعوانك قائمين على الحق، عاملين بالحق ومجاهدين من أجل الحق، اللهم واجعلنا من أتباع رسولك صلى الله عليه وسلم، وارزقنا الإخلاص والاستقامة في الأقوال والأعمال، اللهم واجعلنا من أفراد الطائفة المنصورة من أهل السنة والجماعة الذين ينصرون الحق وبه يعدلون، اللهم طهر أعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وقلوبنا من النفاق، اللهم واجعل بيوتنا بيوتاً إسلامية، اللهم وارزقنا وأنت خير الرازقين، وعافنا في أنفسنا وفي أبداننا وفي أموالنا وفي أولادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا يا أرحم الراحمين! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون.(16/8)
10 قصص عن الخاتمة
نحن اليوم مع قصه النهاية 00 نعم النهاية التي لطالما غفلنا أو تغافلنا عنها مع أننا مستيقنين بها . إنها اللحظات الأخيرة من عمر لعله يكون طويلا أو قصيرا..
أنها اللحظات التي قال المولى عز وجل : { كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق } . نعم عباد الله إنه الفراق ... إنه ليس فراقا عاديا وليست رحله عاديه يودع فيها المرء أهله وذويه فترة ثم يعود إليهم وليست تجربه حرة يؤديها الإنسان فإن فشل فيها لجأ إلى غيرها حتى يرتاح إلى نتائجها .إنها تجربة نادرة مع المرء .. ورحلة إلى عالم آخر وفراق في غاية الألم والحرقة .
إنها لحظات تكون فيها حالة الزفير أطول من الشهية ويضيق مجرى التنفس حتى وكأن المرء بتنفس من ثقب إبرة والمهم هنا وقبيل توديع الحياة في اللحظات الأخيرة .. في الدقائق الأخيرة من العمر .. بماذا يتلفظ الإنسان ؟
مما يشار إليه هنا أن المرء لا يقدر أن يتلفظ بما خطط له في حياته ولا يستطيع أن يقول الكلمات التي دبلجها سابقا الله اكبر ما أعظمها من لحظات .
القصة الأولى
إنه يقرأ القرآن
شخص يسير بسيارته سيراً عادياً , وتعطلت سيارته في أحد الأنفاق المؤدية إلى المدينة . ترجّل من سيارته لإصلاح العطل في أحد العجلات وعندما وقف خلف السيارة لكي ينزل العجلة السليمة . جاءت سيارة مسرعة وارتطمت به من الخلف .. سقط مصاباً إصابات بالغة .
يقول أحد العاملين في مراقبة الطرق : حضرت أنا وزميلي وحملناه معنا في السيارة وقمنا بالاتصال بالمستشفى لاستقباله شاب في مقتبل العمر .. متديّن يبدو ذلك من مظهره . عندما حملناه سمعناه يهمهم .. ولعجلتنا لم نميز ما يقول , ولكن عندما وضعناه في السيارة وسرنا .. سمعنا صوتاً مميزاً إنه يقرأ القرآن وبصوتٍ ندي .. سبحان الله لا تقول هذا مصاب .. الدم قد غطى ثيابه .. وتكسرت عظامه .. بل هو على ما يبدو على مشارف الموت .
استمرّ يقرأ القرآن بصوتٍ جميل .. يرتل القرآن .. لم أسمع في حياتي مثل تلك القراءة . أحسست أن رعشة سرت في جسدي وبين أضلعي . فجأة سكت ذلك الصوت .. التفت إلى الخلف فإذا به رافعاً إصبع السبابة يتشهد ثم انحنى رأسه قفزت إلي الخلف .. لمست يده .. قلبه .. أنفاسه . لا شيء فارق الحياة .
نظرت إليه طويلاً .. سقطت دمعة من عيني..أخفيتها عن زميلي.. التفت إليه وأخبرته أن الرجل قد مات.. انطلق زميلي في بكاء.. أما أنا فقد شهقت شهقة وأصبحت دموعي لا تقف.. أصبح منظرنا داخل السيارة مؤثر.
وصلنا المستشفى.. أخبرنا كل من قابلنا عن قصة الرجل.. الكثيرون تأثروا من الحادثة موته وذرفت دموعهم.. أحدهم بعدما سمع قصة الرجل ذهب وقبل جبينه.. الجميع أصروا على عدم الذهاب حتى يعرفوا متى يُصلى عليه ليتمكنوا من الصلاة عليه.اتصل أحد الموظفين في المستشفى بمنزل المتوفى.. كان المتحدث أخوه.. قال عنه.. إنه يذهب كل اثنين لزيارة جدته الوحيدة قي القرية.. كان يتفقد الأرامل والأيتام.. والمساكين.. كانت تلك القرية تعرفه فهو يحضر لهم الكتب والأشرطة الدينية.. وكان يذهب وسيارته مملوءة بالأرز والسكر لتوزيعها على المحتاجين..وحتى حلوى الأطفال لا ينساها ليفرحهم بها..وكان يرد على من يثنيه عن السفر ويذكر له طول الطريق..إنني أستفيد من طول الطريق بحفظ القرآن ومراجعته.. وسماع الأشرطة والمحاضرات الدينية.. وإنني أحتسب عند الله كل خطوة أخطوها..
من الغد غص المسجد بالمصلين .. صليت عليه مع جموع المسلمين الكثيرة .. وبعد أن انتهينا من الصلاة حملناه إلى المقبرة .. أدخلناه في تلك الحفرة الضيقة ..
استقبل أول أيام الآخرة .. وكأنني استقبلت أول أيام الدنيا *
الزمن القادم ــ عبد الملك القاسم .
القصة الثانية
وهذا شابٌ في سكرات الموت يقولون له : قل لا إله إلا الله .فيقول: أعطوني دخاناً. فيقولون: قل لا إله إلا الله .
فيقول: أعطوني دخاناً. فيقولون : قل لا إله إلا الله عله يختم لك بها. فيقول : أنا برئٌ منها أعطوني دخاناً .
شريط الشيخ على القرني / الإيمان والحياة
القصة الثالثة
وشابٌ آخر كان صاداً وناداً عن الله سبحانه وتعالى وحلت به سكرات الموت التي لابد أن تحل بي وبك .
جاء جُلاسه فقالوا له : قل لا إله إلا الله . فيتكلم بكل كلمة ولا يقولها . ثمّ يقول في الأخير أعطوني مصحفاً ففرحوا واستبشروا وقالوا : لعله يقرأ آية من كتاب الله فيختم له بها
فأخذ المصحف ورفعه بيده وقال:
أشهدكم إني قد كفرت برب هذا المصحف .
المصدر السابق
القصة الرابعة
توبة شاب .. معاكس(17/1)
حدثت هذه القصة في أسواق العويس بالرياض . يقول أحد الصالحين : كنت أمشي في سيارتي بجانب السوق فإذا شاب يعاكس فتاة , يقول فترددت هل أنصحه أم لا ؟ ثم عزمت على أن أنصحه , فلما نزلت من السيارة هربت الفتاة والشاب خاف توقعوا أني من الهيئة ,فسلمت على الشاب وقلت : أنا لست من الهيئة ولا من الشرطة وإنما أخٌ أحببت لك الخير فأحببت أن أنصحك . ثم جلسنا وبدأت أذكره بالله حتى ذرفت عيناه ثم تفرقنا وأخذت تلفونه وأخذ تلفوني وبعد أسبوعين كنت أفتش في جيبي وجدت رقم الشاب فقلت: أتصل به وكان وقت الصباح فأتصلت به قلت : السلام عليكم فلان هل عرفتني , قال وكيف لا أعرف الصوت الذي سمعت به كلمات الهداية وأبصرت النور وطريق الحق . فضربنا موعد اللقاء بعد العصر, وقدّر الله أن يأتيني ضيوف, فتأخرت على صاحبي حوالي الساعة ثم ترددت هل أذهب له أو لا . فقلت أفي بوعدي ولو متأخراً, وعندما طرقت الباب فتح لي والده . فقلت السلام عليكم قال وعليكم السلام , قلت فلان موجود , فأخذ ينظر إلي , قلت فلان موجود وهو ينظر إلي باستغراب قال يا ولدي هذا تراب قبره قد دفناه قبل قليل . قلت يا والد قد كلمني الصباح , قال صلى الظهر ثم جلس في المسجد يقرأ القرآن وعاد إلى البيت ونام القيلولة فلما أردنا إيقاظه للغداء فإذا روحه قد فاضت إلى الله . يقول الأب :ولقد كان أبني من الذين يجاهرون بالمعصية لكنه قبل أسبوعين تغيرت حاله وأصبح هو الذي يوقظنا لصلاة الفجر بعد أن كان يرفض القيام للصلاة ويجاهرنا بالمعصية في عقر دارنا , ثم منّ الله عليه بالهداية .
ثم قال الرجل : متى عرفت ولدي يا بني ؟
قلت : منذ أسبوعين . فقال : أنت الذي نصحته ؟ قلت : نعم
قال : دعني أقبّل رأساً أنقذ أبني من النار
شريط نهاية الشباب منوع
القصة الخامسة
سقر وما أدراك ما سقر
وقع حادث في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب كانوا يستقلون سيارة واحدة تُوفي اثنان وبقي الثالث في الرمق الأخير يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث قل لا إله إلا الله . فأخذ يحكي عن نفسه ويقول :
أنا في سقر .. أنا في سقر حتى مات على ذلك . رجل المرور يسأل ويقول ما هي سقر ؟ فيجد الجواب في كتاب الله {سأصليه سقر . وما أدراك ما سقر . لا تبقي ولا تذر . لواحةٌ للبشر ...} { ما سلككم في سقر . قالوا لم نكُ من المصلين ...}
شريط كل من عليها فان .. منوع
القصة السادسة
توبة محمد
يقول أحد الشباب :
نحن مجموعة من الشباب ندرس في إحدى الجامعات وكان من بيننا صديقٌ عزيزٌ يقال له محمد . كان محمد يحيي لنا السهرات ويجيد العزف على النّاي حتى تطرب عظامنا.
والمتفق عليه عندنا أن سهرة بدون محمد سهرةٌ ميتة لا أنس فيها.
مضت الأيام على هذا الحال. وفي يوم من الأيام جاء محمد إلى الجامعة وقد تغيّرت ملامحه ظهر عليه آثار السكينة والخشوع فجئت إليه أحدّثه فقلت : يا محمد ماذا بك؟ كأن الوجه غير الوجه. فرد عليه محمد بلهجة عزيزة وقال :
طلّقت الضياع والخراب وإني تائبٌ إلى الله. فقال له الشاب على العموم عندنا الليلة سهرة لا تفوّت وسيكون عندنا ضيفٌ تحبه إنه المطرب الفلاني . فرد ّ محمد عليه : أرجو أن تعذرني فقد قررت أن أقاطع هذه الجلسات الضائعة فجنّ جنون هذا الشاب وبدأ يرعد ويزبد . فقال له محمد:
اسمع يا فلان . كم بقي من عمرك؟ ها أنت تعيش في قوة بدنية وعقلية . وتعيش حيوية الشباب فإلى متى تبقى مذنباً غارقاً في المعاصي . لما لا تغتنم هذا العمر في أعمال الخير والطّاعات وواصل محمد الوعظ وتناثرة باقة ٌمن النصائح الجميلة . من قلبٍ صادق من محمد التائب. يا فلان إلى متى تسوّف؟ لا صلاة لربك ولا عبادة . أما تدري أنك قد تموت اليوم أو غداً . كم من مغترٍ بشبابه وملك الموت عند بابه كم من مغتر عن أمره منتظراً فراغ شهره وقد آن إنصرام عمره . كم من غارقٍ في لهوه وأنسه وما شعر . أنه قد دنا غروب شمسه . يقول هذا الشاب : وتفرقنا على ذلك وكان من الغد دخول شهر رمضان . وفي ثاني أيام رمضان ذهبت إلى الجامعة لحضور محاضرات السبت فوجدت الشباب قد تغيّرت وجوههم . قلت : ما بالكم ؟ قال أحدهم:
محمدٌ بالأمس خرج من صلاة الجمعة فصدمته سيارة مسرعة .. لا إله إلا الله توفاه الله وهو صائم مصلّي الله أكبر ما أجملها من خاتمة .
قال الشاب : صلينا على محمد في عصر ذلك اليوم وأهلينا عليه التراب وكان منظراً مؤثراً
المصدر السابق
القصة السابعة
مصيبة(17/2)
أتوا بشاب إلى جامع الراجحي بالرياض بعد إن مات في حادث لكي يُغسل . وبدأ أحد الشباب المتطوعين يباشر التغسيل وكان يتأمل وجه ذلك الشاب. إنه وجهٌ أبيض وجميل حقاً لكان هذا الوجه بدأ يتغير تدريجياً من البياض إلى السمرة . والسمرة تزداد حتى أنقلب وجهه إلى أسود كالفحم . فخرج الشاب الذي يغسله مسرعاً خائفاً وسأل عن وليّ هذا الشاب . قيل له هو ذاك الذي يقف في الركن ذهب إليه مسرعاً فوجده يدخن . قال : وفي مثل هذا الموقف تدخن ماذا كان يعمل أبنك؟
قال : لا أعلم . قال : أكان يصلي؟ قال: لا والله ما كان يعرف الصلاة. قال: فخذ أبنك والله لا أغسله في هذه المغسلة ثم حُمل ولا يُعلم أين ذُهب به .
المصدر السابق
القصة الثامنة
الرحيل ..
بدت أختي شاحبة الوجه نحيلة الجسم.. لكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم .. تبحث عنها تجدها في مصلاها راكعة ساجد رافعة يديها إلى السماء .. هكذا في الصباح وفي المساء وفي جوف الليل لا تفتر ولا تمل ..
كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية والكتب ذات الطابع القصصي .. أشاهد الفيديو بكثرة لدرجة أني عُرفت به.. ومن أكثر من شيء عُرف به.. لا أؤدي واجباتي كاملة , ولست
منضبطة في صلواتي ..
بعد أن أغلقت جهاز الفيديو وقد شاهدت أفلاماً منوعة لمدة ثلاث ساعات متواصلة.. ها هو ذا الأذان يرتفع من المسجد المجاور .. عدت إلى فراشي .
تناديني من مصلاها .. قلت نعم ماذا تريدين يا نورة ؟
قالت لي بنبرة حادة : لا تنامي قبل أن تصلي الفجر ..
أوه.. بقي ساعة على صلاة الفجر وما سمعته كان الأذن الأول بنبرتها الحنونة ــ هكذا هي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث وتسقط طريحة الفراش ــ نادتني : تعالي يا هناء إلى جانبي .. لا أستطيع إطلاقاً ردّ طلبها ..تشعر بصفائها وصدقها نعم ماذا تريدين ؟ أجلسي .. ها قد جلست ماذا تريدين ؟
بصوت عذب {كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة }.
سكتت برهة .. ثم سألتني: ألم تؤمني بالموت ؟.. بلى مؤمنة ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة ؟
بلى .. لكن الله غفور رحيم .. والعمر طويل ..
يا أختي ألا تخافين من الموت وبغتته ؟
انظري هنداً أصغر منكِ وتوفيت في حادث سيارة .. وفلانة وفلانة .. الموت لا يعرف العمر وليس مقياساً له ..
أجبتها بصوت خائف حيث مصلاها المظلم ..
إنني أخاف من الظلام وأخفتيني من الموت .. كيف أنام الآن؟
كنت أظن أنكِ وافقتي على السفر معنا هذه الإجازة .
فجأة .. تحشرج صوتها وأهتز قلبي ..
لعلي هذه السنة أسافر سفراً بعيداً.إلى مكان آخر..ربما يا هناء الأعمار بيد الله .. وانفجرتُ بالبكاء..
تفكرت في مرضها الخبيث وأن الأطباء أخبروا أبي سراً أن المرض ربما لن يمهلها طويلاً .. ولكن من أخبرها بذلك .. أم أنها تتوقع هذا الشيء ؟
ما لك بما تفكرين ؟ جاءني صوتها القوي هذه المرة ..
هل تعتقدين أني أقول هذا لأني مريضة ؟ كلا .. ربما أكون أطول عمراً من الأصحاء .. وأنت إلى متى ستعيشين ؟ ربما عشرين سنة .. ربما أربعين .. ثم ماذا ؟
لمعت يدها في الظلام وهزتها بقوة..لا فرق بيننا, كلنا سنرحل وسنغادر هذه الدنيا إما إلى الجنة أو إلى النار ..
تصبحين على خير هرولتُ مسرعة وصوتها يطرق أذني هداك الله .. لا تنسي الصلاة ..
وفي الثامنة صباحاً أسمع طرقاً على الباب .. هذا ليس موعد استيقاظي .. بكاء .. وأصوات .. ماذا جرى ؟
لقد تردت حالة نورة وذهب بها أبي إلى المستشفى ..
إنا لله وإنا إليه راجعون ..
لا سفر هذه السنة , مكتوب عليّ البقاء هذه السنة في بيتنا ..
بعد انتظار طويل .. بعد الواحدة ظهراً هاتفنا أبي من المستشفى .. تستطيعون زيارتها الآن .. هيا بسرعة..
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن وأن صوته متغير ..
ركبنا في السيارة .. أمي بجواري تدعو لها ..إنها بنت صالحة ومطيعة .. لم أرها تضيّع وقتاً أبداً ..
دخلنا من الباب الخارجي للمستشفى وصعدنا درجات السلم بسرعة . قالت الممرضة : إنها في غرفة العناية المركزة وسآخذكم إليها , إنها بنت طيّبة وطمأنت أمي إنها في تحسن بعد الغيبوبة التي حصلت لها .. ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد . هذه غرفة العناية المركزة .
وسط زحام الأطباء وعبر النافذة الصغيرة التي في باب الغرفة أرى عيني أختي نورة تنظر إليّ وأمي واقفة بجوارها , بعد دقيقتين خرجت أمي التي لم تستطع إخفاء دمعتها .
سمحوا لي بالدخول والسلام عليها بشرط أن لا أتحدّث معها كثيراً .
كيف حالك يا نورة ؟ لقد كنتِ بخير البارحة.. ماذا جرى لك ؟
أجابتني بعد أن ضغطت على يدي : وأن الآن والحمد لله بخير كنتُ جالسة على حافة السرير ولامست ساقها فأبعدته عني قلت آسفة إذا ضايقتكِ .. قالت : كلا ولكني تفكرت في قول الله
تعالى : { والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق }
عليك يا هناء بالدعاء لي فربما أستقبل عن ما قريب أول أيام الآخرة .. سفري بعيد وزادي قليل .
سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيت ..(17/3)
لم أنتبه أين أنا .. استمرت عيناي في البكاء .. أصبح أبي خائفاً عليّ أكثر من نورة .. لم يتعودوا هذا البكاء والانطواء في غرفتي ..
مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين .. ساد صمت طويل في بيتنا .. دخلت عليّه ابنة خالتي .. ابنة عمتي
أحداث سريعة.. كثر القادمون .. اختلطت الأصوات .. شيء واحد عرفته .........
نورة ماتت .
لم أعد أميز من جاء .. ولا أعرف ماذا قالوا ..
يا الله .. أين أنا ؟ وماذا يجري ؟ عجزت حتى عن البكاء ..
تذكرت من قاسمتني رحم أمي , فنحن توأمان .. تذكرت من شاركتني همومي .. تذكرت من نفّست عني كربتي .. من
دعت لي بالهداية .. من ذرفت دموعها ليالي طويلة وهي تحدّثني عن الموت والحساب ..
الله المستعان .. هذه أول ليلة لها في قبرها .. اللهم ارحمها ونور لها قبرها .. هذا هو مصلاها .. وهذا هو مصحفها ..
وهذه سجادتها .. وهذا .. وهذا ..
بل هذا هو فستانها الوردي الذي قالت لي سأخبئه لزواجي..
تذكرتها وبكيت على أيامي الضائعة .. بكيت بكاءً متواصلاً ودعوت الله أن يتوب علي ويعفو عنّي .. دعوت الله أن يثبّتها في قبرها كما كانت تحب أن تدعو .
الزمن القادم ــ عبد الملك القاسم
القصة التاسعة
يريد أن يجدّد العلاقة مع ربه
يقول من وقف على القصة : ذهبنا للدعوة إلى الله في قرية من قرى البلاد فلما دخلناها وتعرفنا على خطيب الجامع فيها قال خطيب الجامع: أبنائي أريد منكم أحد أن يخطب عني غداً الجمعة . يقول فتشاورنا , فكانت الخطبة عليّ أنا . فتوكلت على الله . وقمت في الجمعة خطيباً ومذكراً وواعظاً, وتكلمت عن الموت وعن السكرات وعن القبر وعن المحشر وعن النار وعن الجنّة . يقول : فإذا البكاء يرتفع في المسجد فلما انتهينا من الصلاة فإذا شابٌ ليس عليه سمات الالتزام يتخطى الناس ويأتي إليّ وكان حليق اللحية مسبل الثوب رائحة الدخان تنبعث من ثيابه فوضع رأسه على صدري وهو يبكي بكاءً مراً , ويقول : أين أنتم أخي ؟ أريد أن أتوب مللت من المخدرات مللت من الضياع . أريد أن أتوب ــ يريد أن يجدد العلاقة مع الله , يريد أن يمسك الطريق المستقيم ــ
يقول فأخذناه إلى مكان الوليمة الذي أعد لنا . فأعطيناه رقم الهاتف .. واتصل بنا بعد أيام وقال : لا بد أن أراكم . يقول فذهبنا إليه وأخذناه إلى محاضرة . وبعد أيام أتصل بنا أيضاً وقال سآتيكم .
يقول : فيا للعجب عندما رأيناه وقد قصر ثوبه وأرخى لحيته وترك الدخان , يقول والله لقد رأيت النور يشعّ من وجهه .
يقول : ثم ذهب من قريته إلى مدينة أخرى في نجد . ذهب إلى أمه . جلس معها عند أخيه فإذا هو بالليل قائم وبالنهار صائم لمدة ثلاثة أشهر وفي رمضان قال لأمه : أريد أن أذهب إلى إفغانستان .. لا يكفر ذنوبي إلى الجهاد . قالت أمه:
أذهب بني .. أذهب رعاك الله .
قال : بشرط أن أذهب بكِ إلى العمرة قبل أن أذهب إلى إفغانستان . فإذا بأخيه يقول له : أخي لا تذهب بسيارتي إلى العمرة فقد اشتريتها بأقساط ربويه . قال : والله لن أذهب إلى مكة ولكن سوف أذهب إلى الرياض لأبيع هذه السيارة واشتري لك سيارة خيراً منها .
وفي طريقه إلى الرياض تنقلب به السيارة ويموت وهو صائم .. ويموت وهو يحمل القرآن .. ويموت ذاهبٌ إلى إفغانستان .. ويموت وهو بارٌ بأمة .. ويموت وهو بنية العمرة
شريط نهاية الشباب .. منوع
القصة العاشرة
من يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار
** ذكر هشام عن أبي حفص قال :
دخلتُ على رجلٍ بالمصيصة {مدينة على شاطيء جيحان} وهو في الموت . فقلت : قل لا إله إلا الله . فقال : هيهات حيل بيني وبينها .
** وقيل لآخر : قل لا إله إلا الله . فقال : شاه رخ { اسمان لحجرين من أحجار الشطرنج لأنه في حياته كان مفتوناً به} غلبتك . ثم مات .
** وقيل لآخر : قل لا إله إلا الله. فجعل يهذي بالغناء ويقول تاتنا تنتنا حتى مات .
** وقيل لآخر : قل لا إله إلا الله . فقال : ما ينفعني ما تقول ولم أدع معصية إلا ارتكبتها ثم مات ولم يقلها .
** وقيل لآخر ذلك . فقال : وما يغني عنّي وما أعرف أني صليت لله صلاة ثم قُضي ولم يقلها .
** وقيل لآخر ذلك فقال : هو كافر بما تقول وقضي
من كتاب :الجزاء من جنس العمل د/ سيد حسين العفاني
شبكة أنا المسلم(17/4)
1426خطط وبرامج
الحمد لله بارئ النسم خالق الخلق من عدم، مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار لا إله إلا هو العزيز الغفار خلق الخلق لأجل معدود وقهرهم بذاته لذاته فهم إليه صمود، سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار...
أما بعد:
فها هو العام قد تصرمت أيامه لتفنى معها سنة من حياتنا، وتهب رياح انقضائه لتقطف ورقة من غصن أعمارنا، فيحزن عليها قلب العارف بحقيقتها وتدمع عين البصير بكنهها ولا يقول أو يعمل المشمر فيها إلا ما يرضي ربه..
عام ينقضي وتنقضي أيامه، وتالله إنها لرواحل الجنة ومطايا الآخرة وزاد المتقي إلى ربه..
عام يحل وشيكاً وآخر يمضي قريباً, فتختم معه برامج وخطط وتستمر أخرى وتبدأ ثالثة مع بدء العام الجديد..
ونحن في زاوية حدث وتعليق من موقع إمام المسجد، نضع هذا الحدث للمشاركة, ونأمل من الإخوة وضع الخطط والبرامج للدعاة أئمة المساجد؛ الخطط والبرامج التي تبصرهم بأولويات حديثهم في المرحلة القادمة، وما هي المناحي الدعوية التي تتطلب منهم خططاً مستقبلية جادةٍ.
ولأن أيام الناس لا تحسب بعدد ساعاتها كما تحسب بأحداثها ووقائعها؛ فإن من المناسب بل من المفترض أن يضع الداعية لنفسه أو مرفقه أو مؤسسته نقاطاً تكون علامات للبدء أو انقضاء المراحل المحددة، تترتب وتقسم من خلالها أوراقه وتقيم مراحله ومنجزاته. والعام الهجري نقطة جديرة بالبدء من عندها، و محطة خليقة بالوقوف أمامها...
ولذلك نقول:
أولاً لإمام المسجد، ما هي خططك وبرامجك للعام الجديد؟ ما هي أهدافك وأفكارك الجديدة وأولوياتك؟ وكيف تسير شؤون تحفيظك ومدرستك؟ هل تسير على الوجه المرضي؟ هل أنت راض عما أنجزت فيها؟ هل عرفت كوامن الضعف والخلل إن كان هناك ضعفاً؟ ثم ما هي برامجك الموجه لرواد مسجدك وأهل حيّك؛ ما المواضيع التي خططت لها في دروسك وكلماتك ومحاضراتك واجتماعاتك للحديث معهم فيها؟
ونقول لكم إخوتاه:
ما رأيكم أنتم ؛ ما الذي سيعنيه العام الجديد بالنسبة للداعية إمام المسجد؟
ثم في الأخير نرجوا منكم أن تضعوا لإخوانكم أئمة المساجد خططاً وبرامجاً يستفيدون منها في القيام بها أو تحسين أدائهم فيها.
سائلين الله أن يجعلها في ميزان حسناتكم
________________________________________
التعليقات
• شكر : أكرم عصبان الحضرمي
أشكر القائمين على موقع إمام المسجد لا سيما الشيخ المنجد حيث يقدم هذا الموقع ما يحتاج إليه المسلم وخاصة ما يتعلق بالمسجد وإني أدعو إخواني بالواوج إلى رحابه والاغتراف من زلاله وأن شاء الله نتواصل معكم والله الموفق
• شكر : ابراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم انا اتوجه بالشكر الى كل من يقوم على انجاح هدا الموقع واتمنى من الله العلي القدير ان يزيد في انجاحه .
• المسجد : بدر
السلام عليكم ورحمة الله وبركتة اخوني فنتفكر في مدرسة المسجد العضيمة من تربية على انفسنا وابنائنا من عضة واقتدء اكثر الامة هدنا الله وايهم يصلون الصلوات وبس والله انا بعضهم يكاد ان يطردك من المسجد بعد الفريضة فا الشهد نريد دروس او قراء بعد الصلاة على المصلين من كتاب الصلحين او اي كتب نافع او التحدث عن امور الحي على سبيل المثال هذا والله اعلم والله من وراء القصد ( ودمتم لنا سلمين ) وسلام عليكم ورحمة الله وبركتة(18/1)
33 سبباً للخشوع في الصلاة
محمد بن صالح المنجد
دار الوطن
أولاً: الحرص على ما يجلب الخشوع ويقويه:
1- الاستعداد للصلاة والتهيؤ لها: ويحصل ذلك بأمور منها الترديد مع المؤذن والإتيان بالدعاء المشروع بعده ، والدعاء بين الأذان والإقامة، وإحسان الوضوء والتسمية قبله والذكر والدعاء بعده. والاعتناء بالسواك وأخذ الزينة باللباس الحسن النظيف، و التبكير والمشي إلى المسجد بسكينة ووقار وانتظار الصلاة، وكذلك تسوية الصفوف والتراص فيها .
2- الطمأنينة في الصلاة: كان النبي : { اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحريّ أن يحسن صلاته، وصلّ صلاة رجل لا يظن أنه يصلي غيرها }.
4- تدبر الآيات المقروءة وبقية أذكار الصلاة والتفاعل معها: ولا يحصل التدبر إلا بالعلم بمعنى ما يقرأ فيستطيع التفكّر فينتج الدمع والتأثر قال الله تعالى: [الفرقان:73].
* و مما يعين على التدبر التفاعل مع الآيات بالتسبيح عند المرور بآيات التسبيح و التعوذ عند المرور بآيات التعوذ..وهكذا.
* ومن التجاوب مع الآيات التأمين بعد الفاتحة وفيه أجر عظيم، قال رسول الله ، فكانت قراءته مفسرة حرفا حرفا.
6- ترتيل القراءة وتحسين الصوت بها: لقوله تعالى: [المزمل:4]، ولقوله : { قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجّدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل }.
8- الصلاة إلى سترة والدنو منها: من الأمور المفيدة لتحصيل الخشوع في الصلاة الاهتمام بالسترة والصلاة إليها، وللدنو من السترة فوائد منها:
* كف البصر عما وراءه، و منع من يجتاز بقربه... و منع الشيطان من المرور أو التعرض لإفساد الصلاة قال عليه الصلاة والسلام: { إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها حتى لا يقطع الشيطان عليه صلاته } [رواه أبو داود].
9- وضع اليمنى على اليسرى على الصّدر: كان النبي إذا صلى طأطأ رأسه و رمى ببصره نحو الأرض، أما إذا جلس للتشهد فإنه ينظر إلى أصبعه المشيرة وهو يحركها كما صح عنه : { لهي أشد على الشيطان من الحديد }، و الإشارة بالسبابة تذكّر العبد بوحدانية الله تعالى والإخلاص في العبادة وهذا أعظم شيء يكرهه الشيطان نعوذ بالله منه.
12- التنويع في السور والآيات والأذكار والأدعية في الصلاة: وهذا يُشعر المصلي بتجدد المعاني، ويفيده ورود المضامين المتعددة للآيات والأذكار فالتنويع من السنّة وأكمل في الخشوع.
13- أن يأتي بسجود التلاوة إذا مرّ بموضعه: قال تعالى: [الإسراء:109]، وقال تعالى: [مريم:58]، قال رسول الله إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً إذا حضرت الصلاة يتزلزل و يتلون وجهه، فقيل له: ما لك؟ فيقول: جاء والله وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملتُها. و كان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته.
16- معرفة مزايا الخشوع في الصلاة: ومنها قوله ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً قال: كان قِرام ( ستر فيه نقش وقيل ثوب ملوّن ) لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي يصلي في خميصة ذات أعلام - وهو كساء مخطط ومربّع - فنظر إلى علمها فلما قضى صلاته قال: { اذهبوا بهذه الخميصة إلى أبي جهم بن حذيفة و أتوني بأنبجانيّه - وهي كساء ليس فيه تخطيط ولا تطريز ولا أعلام -، فإنها ألهتني آنفا في صلاتي } [رواه مسلم].
21- أن لا يصلي وبحضرته طعام يشتهيه: قال أن يصلي الرجل و هو حاقن: أي الحابس البول، أوحاقب: و هو الحابس للغائط، قال اصلى الله عليه وسلم: { لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان } [صحيح مسلم]، وهذه المدافعة بلا ريب تذهب بالخشوع. ويشمل هذا الحكم أيضا مدافعة الريح.
23- أن لا يصلي وقد غلبه النّعاس: عن أنس بن مالك قال، قال رسول الله نهى عن ذلك فقال: { لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث } لأن المتحدث يلهي بحديثه، ويشغل المصلي عن صلاته.والنائم قد يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته. فإذا أُمن ذلك فلا تُكره الصلاة خلف النائم والله أعلم.
25- عدم الانشغال بتسوية الحصى: روى البخاري رحمه الله تعالى عن معيقيب رضي الله عنه: { أن النبي : { ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة } أو قال ( في الصلاة ) [رواه أبو داود].(19/1)
27- ترك الالتفات في الصلاة: لحديث أبي ذر : { لا يزال الله عز وجل مقبلا على العبد وهو في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه } وقد سئل رسول الله : { إذا كان أحدكم في الصلاة فلا يرفع بصره إلى السماء } [رواه أحمد]، واشتد نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن ذلك حتى قال: { لينتهنّ عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم } [رواه البخاري].
29- أن لا يبصق أمامه في الصلاة: لأنه مما ينافي الخشوع في الصلاة والأدب مع الله لقوله : { إذا تثاءَب أحدُكم في الصلاة فليكظِم ما استطاع فإن الشيطان يدخل } [رواه مسلم].
31- عدم الاختصار في الصلاة: عن أبي هريرة قال: { نهى رسول الله : { نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه } [رواه أبو داود] والسدل ؛ إرسال الثوب حتى يصيب الأرض.
33- ترك التشبه بالبهائم: فقد نهى رسول الله FPRIVATE "TYPE=PICT;ALT=" في الصلاة عن ثلاث: عن نقر الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المقام الواحد كإيطان البعير، وإبطان البعير: يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد مخصوصا به يصلي فيه كالبعير لا يُغير مناخه فيوطنه.
هذا ما تيسر ذكره من الأسباب الجالبة للخشوع لتحصيلها والأسباب المشغلة عنه لتلافيها.
والحمد لله و الصلاة و السلام على نبينا محمد. ...
موقع كلمات
http://www.kalemat.org
عنوان المقال
http://www.kalemat.org/sections.php?so=va&aid=120 ...(19/2)
55 قصة من قصص قيام السلف لليل ...
اعلم – يا راعاك الله – أن كثيراً من الكسالى والبطالين إذا سمعوا بأخبار اجتهاد السلف الأبرار في قيام الليل ، ظنوا ذلك نوعاً من التنطع والتشدد وتكليف النفس مالا يطاق ، وهذا جهل وضلال ، لأننا لمّا ضعف إيماننا وفترت عزائمنا ، وخمدت أشواقنا إلى الجنان ، وقل خوفنا من النيران ، ركنا إلى الراحة والكسل والنوم والغفلة ، وصرنا إذا سمعنا بأخبار الزهّاد والعّباد وما كانوا عليه من تشمير واجتهاد في الطاعات نستغرب تلك الأخبار ونستنكرها ، ولا عجب فكل إناء بالذي فيه ينضح ، فلما كانت قلوب السلف معلقة باللطيف القهار ، وهممهم موجهة إلى دار القرار ، سطروا لنا تلك المفاخر العظام ، وخلفوا لنا تلك النماذج الكرام ، ونحن لمّا ركنا إلى الدنيا ، وتنافسنا على حطامها ، صرنا إلى شر حال ، فأفق أخي الحبيب من هذه الغفلة فقد ذهب أولئك العبّاد المجتهدون رهبان الليل ، وبقي لنا قرناء الكسل والوسادة !!
1- قال سعيد بن المسيب رحمه الله : إن الرجل ليصلي بالليل ، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم ، فيراه من لم يره قط فيقول : إن لأحبُ هذا الرجل !! .
2- قيل للحسن البصري رحمه الله : ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها ؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره .
3- صلى سيد التابعين سعيد بن المسيب – رحمه الله – الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء وكان يسرد الصوم.
4- كان شريح بن هانئ رحمه الله يقول :ما فقد رجل شيئاً أهون عليه من نعسة تركها!!! ( أي لأجل قيام الليل ) .
5- قال ثابت البناني رحمه الله : لا يسمى عابد أبداً عابدا ، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان : الصوم والصلاة ، لأنهما من لحمه ودمه !!
6- قال طاووس بن كيسان رحمه الله : ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل ، فيصبح وقد كتبت له مائة حسنة أو أكثر من ذلك .
7- قال سليمان بن طرخان رحمه الله : إن العين إذا عودتها النوم اعتادت ، وإذا عودتها السهر اعتادت .
8- قال يزيد بن أبان الرقاشي رحمه الله : إذا نمت فاستيقظت ثم عدت في النوم فلا أنام الله عيني .
9- أخذ الفضيل بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحم الله ، فقال له : يا حسين : ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب : كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ؟!! أليس كل حبيب يخلو بحبيبه ؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل ،.....، غداً أقر عيون أحبائي في جناتي .
10- قال ابن الجوزي رحمه : لما امتلأت أسماع المتهجدين بمعاتبة [ كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ] حلفت أجفانهم على جفاء النوم .
11- قال محمد بن المنكدر رحمه الله : كابدت نفسي أربعين عاماً ( أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات ) حتى استقامت لي !!
12- كان ثابت البناني يقول كابدت نفسي على القيام عشرين سنة !! وتلذذت به عشرين سنة .
13- كان أحد الصالحين يصلي حتى تتورم قدماه فيضربها ويقول يا أمّارة بالسوء ما خلقتِ إلا للعبادة .
14- كان العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل ، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه ثم يقول : ما ألينك !! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته .
15- قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل ، كبلتك خطيئتك .
16- قال معمر : صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حتى أتى على هذه الآية {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا ، ثم خرجت إلى بيتي ، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة !! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }.
17- قالت امرأة مسروق بن الأجدع : والله ما كان مسروق يصبح من ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام !! ....، وكان رحمه الله إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف ( أي إلى فراشه ) كما يزحف البعير !!
18- قال مخلد بن الحسين : ما انتبه من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم رحمه الله يذكر الله ويصلي إلا أغتم لذلك ، ثم أتعزى بهذه الآية { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} .
19- قال أبو حازم رحمه الله : لقد أدركنا أقواماً كانوا في العبادة على حد لا يقبل الزيادة !!(20/1)
20- قال أبو سليمان الدارني رحمه الله : ربما أقوم خمس ليال متوالية بآية واحدة ، أرددها وأطالب نفسي بالعمل بما فيها !! ولولا أن الله تعالى يمن علي بالغفلة لما تعديت تلك الآية طول عمري ، لأن لي في كل تدبر علماً جديدا ، والقرآن لا تنقضي عجائبه !!
21- كان السري السقطي رحمه الله إذا جن عليه الليل وقام يصلي دافع البكاء أول الليل ، ثم دافع ثم دافع ، فإذا غلبه الأمر أخذ في البكاء والنحيب .
22- قال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله : إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال : لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل ، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف .
23- قال سفيان الثوري رحمه الله : حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أذنبته .
24- قال رجل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد : إني أبيت معافى وأحب قيام الليل ، وأعد طهوري فما بالي لا أقوم ؟!! فقال الحسن : ذنوبك قيدتك !!
25- وقال رجل للحسن البصري : أعياني قيام الليل ؟!! فقال : قيدتك خطاياك .
26- قال ابن عمر رضي الله عنهما : أول ما ينقص من العبادة : التهجد بالليل ، ورفع الصوت فيها بالقراءة .
27- قال عطاء الخرساني رحمه الله : إن الرجل إذا قام من الليل متهجداً أًبح فرحاً يجد لذلك فرحاً في قلبه ، وإذا غلبته عينه فنام عن حزبه ( أي عن قيام الليل ) أصبح حزيناً منكسر القلب ، كأنه قد فقد شيئاً ، وقد فقد أعظم الأمور له نفعا ( أي قيام الليل ).
28- رأى معقل بن حبيب رحمه الله :قوماً يأكلون كثيراً فقال : ما نرى أصحابنا يريدون أن يصلوا الليلة .
29- قال مسعر بن كدام رحمه الله حاثاً على عدم الإكثار من الأكل :
وجدت الجوع يطرده رغيف *** وملء الكف من ماء الفرات
وقل الطعم عون للمصلي *** وكثر الطعم عون للسبات
30- كان العبد الصالح علي بن بكار رحمه الله تفرش له جاريته فراشه فيلمسه بيده ويقول : والله إنك لطيب !! والله إنك لبارد !! والله لا علوتك ليلتي ( أي لا تمت عليك هذه الليلة ) ثم يقوم يصلي إلى الفجر !!
31- قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة !! إنما هو على الجنب ، فإذا تحرك ( أي أفاق من نومه ) قال : ليس هذا لك !! قومي خذي حظك من الآخرة !!.
32- قال هشام الدستوائي رحمه الله : إن لله عبادا يدفعون النوم مخافة أن يموتوا في منامهم.
33- عن جعفر بن زيد رحمه الله قال : خرجنا غزاة إلى [ كأبول ] وفي الجيش [ صلة بين أيشم العدوي ] رحمه ، قال : فترك الناس بعد العتمة ( أي بعد العشاء ) ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس ، حتى إذا نام الجيش كله وثب صلة فدخل غيضة وهي الشجر الكثيف الملتف على بعضه ، فدخلت في أثره ، فتوضأ ثم قام يصلي فافتتح الصلاة ، وبينما هو يصلي إذا جاء أسد عظيم فدنا منه وهو يصلي !! ففزعت من زئير الأسد فصعدت إلى شجرة قريبة ، أما صلة فوالله ما التفت إلى الأسد !! ولا خاف من زئيره ولا بالى به !! ثم سجد صلة فاقترب الأسد منه فقلت : الآن يفترسه !! فأخذ الأسد يدور حوله ولم يصبه بأي سوء ، ثم لما فرغ صلة من صلاته وسلم ، التفت إلى الأسد وقال : أيها السبع اطلب رزقك في مكان آخر !! فولى الأسد وله زئير تتصدع منه الجبال !! فما زال صلة يصلي حتى إذا قرب الفجر !! جلس فحمد محامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله ، ثم قال : الله إني أسألك أن تجيرني من النار ، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة !!! ثم رجع رحمه الله إلى فراشه ( أي ليوهم الجيش أنه ظل طوال الليل نائماً ) فأصبح وكأنه بات على الحشايا ( وهي الفرش الوثيرة الناعمة والمراد هنا أنه كان في غاية النشاط والحيوية ) ورجعت إلى فراشي فأصبحت وبي من الكسل والخمول شيء الله به عليم .
34- كان العبد الصالح عمرو بن عتبة بن فرقد رحمه الله يخرج للغزو في سبيل الله ، فإذا جاء الليل صف قدميه يناجي ربه ويبكي بين يديه ، كان أهل الجيش الذين خرج معهم عمرو لا يكلفون أحداً من الجيش بالحراسة ؛ لأن عمرو قد كفاهم ذلك بصلاته طوال الليل ، وذات ليلة وبينما عمرو بن عتبة رحمه الله يصلي من الليل والجيش نائم ، إذ سمعوا زئير أسد مفزع ،فهربوا وبقي عمرو في مكانه يصلي وما قطع صلاته !! ولا التفت فيها !! فلما انصرف الأسد ذاهبا عنهم رجعوا لعمرو فقالوا له : أما خفت الأسد وأنت تصلي ؟!! فقال : إن لأستحي من الله أن أخاف شيئاً سواه !!
35- قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : أفضل الأعمال ما أكرهت إليه النفوس .(20/2)
36- قال أبو جعفر البقال : دخلت على أحمد بن يحيى رحمه الله ، فرأيته يبكي بكاء كثيرا ما يكاد يتمالك نفسه !! فقلت له : أخبرني ما حالك؟!! فأراد أن يكتمني فلم أدعه ، فقال لي : فاتني حزبي البارحة !! ولا أحسب ذلك إلا لأمر أحدثته ، فعوقبت بمنع حزبي !!ثم أخذ يبكي !! فأشفقت عليه وأحببت أن أسهل عليه ، فقلت له : ما أعجب أمرك !! لم ترض عن الله تعالى في نومة نومك إياها ، حتى قعدت تبكي !! فقال لي : دع عنك هذا يا أبا جعفر !! فما احسب ذلك إلا من أمر أحدثته !! ثم غلب عليه البكاء !! فلما رأيته لا يقبل مني انصرفت وتركته .
37- عن أي غالب قال : كان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل علينا بمكة ، وكان يتهجد من الليل ، فقال لي ذات ليلة قبل الصبح : يا أبا غالب : ألا تقوم تصلي ولو تقرأ بثلث القرآن ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن قد دنا الصبح فكيف اقرأ بثلث القرآن ؟!! فقال إن سورة الإخلاص { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن .
38- كان أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يقول : يا معشر الشباب جدوا واجتهدوا ، وبادروا قوتكم ، واغتنموا شبيبتكم قبل أن تعجزوا ،ـ فإنه قلّ ما مرّت عليّ ليلة إلا قرأت فيها بألف آية !!
39 - كان العبد الصالح عبد الواحد بن يزيد رحمه الله يقول لأهله في كل ليلة : يا أهل الدار انتبهوا !! ( أي من نومكم ) فما هذه ( أي الدنيا ) دار نوم ، عن قريب يأكلكم الدود !!
40- قال محمد بن يوسف : كان سفيان الثوري رحمه الله يقيمنا في الليل ويقول : قوموا يا شباب !! صلوا ما دمتم شبابا !! إذا لم تصلوا اليوم فمتى ؟!!
41- دخلت إحدى النساء على زوجة الإمام الأوزاعي رحمه الله فرأت تلك المرأه بللاً في موضع سجود الأوزاعي ، فقالت لزوجة الأوزاعي : ثكلتك أمك !! أراك غفلت عن بعض الصبيان حتى بال في مسجد الشيخ ( أي مكان صلاته بالليل ) فقالت لها زوجة الأوزاعي : ويحك هذا يُصبح كل ليلة !! من أثر دموع الشيخ في سجوده .
42- قال : إبراهيم بن شماس كنت أرى أحمد بن حنبل رحمه الله يحي الليل وهو غلام .
43- قال أبو يزيد المعَّنى : كان سفيان الثوري رحمه الله إذا أصبح مدَّ رجليه إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل !!
44- كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل فإذا أصابه فتور أو كسل قال لنفسه : أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه ، والله لأزاحمنهم عليه ، حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالا !! ثم يصلي إلى الفجر .
45- رأى أحد الصالحين في منامه خياماً مضروبة فسأل : لمن هذه الخيام ؟!! فقيل هذه خيام المتهجدين بالقرآن !! فكان لا ينام الليل!!
46- كان شداد بن أوس رضي الله عنه إذا دخل على فراشه يتقلب عليه بمنزلة القمح في المقلاة على النار!! ويقول اللهم إن النار قد أذهبت عني النوم !! ثم يقوم يصلي إلى الفجر .
47- كان عامر بن عبد الله بن قيس رحمه الله إذا قام من الليل يصلي يقول : أبت عيناي أن تذوق طعم النوم مع ذكر النوم .
48- قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - : إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأُصبح وما قضيت نهمتي ( أي ما شبعت من القرآن والصلاة ) .
49- لما احتضر العبد الصالح أبو الشعثاء رحمه الله بكى فقيل له : ما يبكيك !! فقال : إني لم أشتفِ من قيام الليل !!
50- قال الفضيل بن عياض رحمه الله : كان يقال : من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرة قلوبهم ، خلائق ثلاثة : الحلم والإنابة وحظ من قيام الليل .
51- كان ثابت البناني رحمه الله يصلي قائما حتى يتعب ، فإذا تعب صلى وهو جالس .
52- قال السري السقطي رحمه الله : رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل .
53- كان بعض الصالحين يقف على بعض الشباب العبّاد إذا وضع طعامهم، ويقول لهم : لا تأكلوا كثيرا ، فتشربوا كثيرا ، فتناموا كثيرا ، فتخسروا كثيرا !!
54- قال حسن بن صالح رحمه الله : إني أستحي من الله تعالى أن أنام تكلفا ( أي اضطجع على الفراش وليس بي نوم ) حتى يكون النوم هو الذي يصير عني ( أي هو الذي يغلبني ) ، فإذا أنا نمت ثم استيقظت ثم عدت نائما فلا أرقد الله عيني !!
55- كان العبد الصالح سليمان التميمي – رحمه الله – هو وابنه يدوران في الليل في المساجد ،فيصليان في هذا المسجد مرة ، وفي هذا المسجد مرة ، حتى يصبحا !!
وأخيراً أخي الحبيب قم ولو بركعة واختم بهذا الحديث قال صلى الله عليه وسلم { من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين } [رواه أبو داوود وصححه الألباني ] والمقنطرون هم الذين لهم قنطار من الأجر . ...
صيد الفوائد(20/3)
55قصة من قصص قيام السلف لليل
اعلم – يا راعاك الله – أن كثيراً من الكسالى والبطالين إذا سمعوا بأخبار اجتهاد السلف الأبرار في قيام الليل ، ظنوا ذلك نوعاً من التنطع والتشدد وتكليف النفس مالا يطاق ، وهذا جهل وضلال ، لأننا لمّا ضعف إيماننا وفترت عزائمنا ، وخمدت أشواقنا إلى الجنان ، وقل خوفنا من النيران ، ركنا إلى الراحة والكسل والنوم والغفلة ، وصرنا إذا سمعنا بأخبار الزهّاد والعّباد وما كانوا عليه من تشمير واجتهاد في الطاعات نستغرب تلك الأخبار ونستنكرها ، ولا عجب فكل إناء بالذي فيه ينضح ، فلما كانت قلوب السلف معلقة باللطيف القهار ، وهممهم موجهة إلى دار القرار ، سطروا لنا تلك المفاخر العظام ، وخلفوا لنا تلك النماذج الكرام ، ونحن لمّا ركنا إلى الدنيا ، وتنافسنا على حطامها ، صرنا إلى شر حال ، فأفق أخي الحبيب من هذه الغفلة فقد ذهب أولئك العبّاد المجتهدون رهبان الليل ، وبقي لنا قرناء الكسل والوسادة !!
1- قال سعيد بن المسيب رحمه الله : إن الرجل ليصلي بالليل ، فيجعل الله في وجه نورا يحبه عليه كل مسلم ، فيراه من لم يره قط فيقول : إن لأحبُ هذا الرجل !! .
2- قيل للحسن البصري رحمه الله : ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوها ؟ فقال لأنهم خلو بالرحمن فألبسهم من نوره .
3- صلى سيد التابعين سعيد بن المسيب – رحمه الله – الفجر خمسين سنة بوضوء العشاء وكان يسرد الصوم.
4- كان شريح بن هانئ رحمه الله يقول :ما فقد رجل شيئاً أهون عليه من نعسة تركها!!! ( أي لأجل قيام الليل ) .
5- قال ثابت البناني رحمه الله : لا يسمى عابد أبداً عابدا ، وإن كان فيه كل خصلة خير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان : الصوم والصلاة ، لأنهما من لحمه ودمه !!
6- قال طاووس بن كيسان رحمه الله : ألا رجل يقوم بعشر آيات من الليل ، فيصبح وقد كتبت له مائة حسنة أو أكثر من ذلك .
7- قال سليمان بن طرخان رحمه الله : إن العين إذا عودتها النوم اعتادت ، وإذا عودتها السهر اعتادت .
8- قال يزيد بن أبان الرقاشي رحمه الله : إذا نمت فاستيقظت ثم عدت في النوم فلا أنام الله عيني .
9- أخذ الفضيل بن عياض رحمه الله بيد الحسين بن زياد رحم الله ، فقال له : يا حسين : ينزل الله تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول الرب : كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ؟!! أليس كل حبيب يخلو بحبيبه ؟!! ها أنا ذا مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل ،.....، غداً أقر عيون أحبائي في جناتي .
10- قال ابن الجوزي رحمه : لما امتلأت أسماع المتهجدين بمعاتبة [ كذب من أدعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ] حلفت أجفانهم على جفاء النوم .
11- قال محمد بن المنكدر رحمه الله : كابدت نفسي أربعين عاماً ( أي جاهدتها وأكرهتها على الطاعات ) حتى استقامت لي !!
12- كان ثابت البناني يقول كابدت نفسي على القيام عشرين سنة !! وتلذذت به عشرين سنة .
13- كان أحد الصالحين يصلي حتى تتورم قدماه فيضربها ويقول يا أمّارة بالسوء ما خلقتِ إلا للعبادة .
14- كان العبد الصالح عبد العزيز بن أبي روّاد رحمه الله يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل ، فكان يضع يده على الفراش فيتحسسه ثم يقول : ما ألينك !! ولكن فراش الجنة ألين منك!! ثم يقوم إلى صلاته .
15- قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل ، كبلتك خطيئتك .
16- قال معمر : صلى إلى جنبي سليمان التميمي رحمه الله بعد العشاء الآخرة فسمعته يقرأ في صلاته : {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} حتى أتى على هذه الآية {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فجعل يرددها حتى خف أهل المسجد وانصرفوا ، ثم خرجت إلى بيتي ، فما رجعت إلى المسجد لأؤذن الفجر فإذا سليمان التميمي في مكانه كما تركته البارحة !! وهو واقف يردد هذه الآية لم يجاوزها {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }.
17- قالت امرأة مسروق بن الأجدع : والله ما كان مسروق يصبح من ليلة من الليالي إلا وساقاه منتفختان من طول القيام !! ....، وكان رحمه الله إذا طال عليه الليل وتعب صلى جالساً ولا يترك الصلاة، وكان إذا فرغ من صلاته يزحف ( أي إلى فراشه ) كما يزحف البعير !!
18- قال مخلد بن الحسين : ما انتبه من الليل إلا أصبت إبراهيم بن أدهم رحمه الله يذكر الله ويصلي إلا أغتم لذلك ، ثم أتعزى بهذه الآية { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} .
19- قال أبو حازم رحمه الله : لقد أدركنا أقواماً كانوا في العبادة على حد لا يقبل الزيادة !!(21/1)
20- قال أبو سليمان الدارني رحمه الله : ربما أقوم خمس ليال متوالية بآية واحدة ، أرددها وأطالب نفسي بالعمل بما فيها !! ولولا أن الله تعالى يمن علي بالغفلة لما تعديت تلك الآية طول عمري ، لأن لي في كل تدبر علماً جديدا ، والقرآن لا تنقضي عجائبه !!
21- كان السري السقطي رحمه الله إذا جن عليه الليل وقام يصلي دافع البكاء أول الليل ، ثم دافع ثم دافع ، فإذا غلبه الأمر أخذ في البكاء والنحيب .
22- قال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله : إني لا أقدر على قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال : لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل ، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف .
23- قال سفيان الثوري رحمه الله : حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أذنبته .
24- قال رجل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد : إني أبيت معافى وأحب قيام الليل ، وأعد طهوري فما بالي لا أقوم ؟!! فقال الحسن : ذنوبك قيدتك !!
25- وقال رجل للحسن البصري : أعياني قيام الليل ؟!! فقال : قيدتك خطاياك .
26- قال ابن عمر رضي الله عنهما : أول ما ينقص من العبادة : التهجد بالليل ، ورفع الصوت فيها بالقراءة .
27- قال عطاء الخرساني رحمه الله : إن الرجل إذا قام من الليل متهجداً أًبح فرحاً يجد لذلك فرحاً في قلبه ، وإذا غلبته عينه فنام عن حزبه ( أي عن قيام الليل ) أصبح حزيناً منكسر القلب ، كأنه قد فقد شيئاً ، وقد فقد أعظم الأمور له نفعا ( أي قيام الليل ).
28- رأى معقل بن حبيب رحمه الله :قوماً يأكلون كثيراً فقال : ما نرى أصحابنا يريدون أن يصلوا الليلة .
29- قال مسعر بن كدام رحمه الله حاثاً على عدم الإكثار من الأكل :
وجدت الجوع يطرده رغيف *** وملء الكف من ماء الفرات
وقل الطعم عون للمصلي *** وكثر الطعم عون للسبات
30- كان العبد الصالح علي بن بكار رحمه الله تفرش له جاريته فراشه فيلمسه بيده ويقول : والله إنك لطيب !! والله إنك لبارد !! والله لا علوتك ليلتي ( أي لا تمت عليك هذه الليلة ) ثم يقوم يصلي إلى الفجر !!
31- قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة !! إنما هو على الجنب ، فإذا تحرك ( أي أفاق من نومه ) قال : ليس هذا لك !! قومي خذي حظك من الآخرة !!.
32- قال هشام الدستوائي رحمه الله : إن لله عبادا يدفعون النوم مخافة أن يموتوا في منامهم.
33- عن جعفر بن زيد رحمه الله قال : خرجنا غزاة إلى [ كأبول ] وفي الجيش [ صلة بين أيشم العدوي ] رحمه ، قال : فترك الناس بعد العتمة ( أي بعد العشاء ) ثم اضطجع فالتمس غفلة الناس ، حتى إذا نام الجيش كله وثب صلة فدخل غيضة وهي الشجر الكثيف الملتف على بعضه ، فدخلت في أثره ، فتوضأ ثم قام يصلي فافتتح الصلاة ، وبينما هو يصلي إذا جاء أسد عظيم فدنا منه وهو يصلي !! ففزعت من زئير الأسد فصعدت إلى شجرة قريبة ، أما صلة فوالله ما التفت إلى الأسد !! ولا خاف من زئيره ولا بالى به !! ثم سجد صلة فاقترب الأسد منه فقلت : الآن يفترسه !! فأخذ الأسد يدور حوله ولم يصبه بأي سوء ، ثم لما فرغ صلة من صلاته وسلم ، التفت إلى الأسد وقال : أيها السبع اطلب رزقك في مكان آخر !! فولى الأسد وله زئير تتصدع منه الجبال !! فما زال صلة يصلي حتى إذا قرب الفجر !! جلس فحمد محامد لم أسمع بمثلها إلا ما شاء الله ، ثم قال : الله إني أسألك أن تجيرني من النار ، أو مثلي يجترئ أن يسألك الجنة !!! ثم رجع رحمه الله إلى فراشه ( أي ليوهم الجيش أنه ظل طوال الليل نائماً ) فأصبح وكأنه بات على الحشايا ( وهي الفرش الوثيرة الناعمة والمراد هنا أنه كان في غاية النشاط والحيوية ) ورجعت إلى فراشي فأصبحت وبي من الكسل والخمول شيء الله به عليم .
34- كان العبد الصالح عمرو بن عتبة بن فرقد رحمه الله يخرج للغزو في سبيل الله ، فإذا جاء الليل صف قدميه يناجي ربه ويبكي بين يديه ، كان أهل الجيش الذين خرج معهم عمرو لا يكلفون أحداً من الجيش بالحراسة ؛ لأن عمرو قد كفاهم ذلك بصلاته طوال الليل ، وذات ليلة وبينما عمرو بن عتبة رحمه الله يصلي من الليل والجيش نائم ، إذ سمعوا زئير أسد مفزع ،فهربوا وبقي عمرو في مكانه يصلي وما قطع صلاته !! ولا التفت فيها !! فلما انصرف الأسد ذاهبا عنهم رجعوا لعمرو فقالوا له : أما خفت الأسد وأنت تصلي ؟!! فقال : إن لأستحي من الله أن أخاف شيئاً سواه !!
35- قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : أفضل الأعمال ما أكرهت إليه النفوس .(21/2)
36- قال أبو جعفر البقال : دخلت على أحمد بن يحيى رحمه الله ، فرأيته يبكي بكاء كثيرا ما يكاد يتمالك نفسه !! فقلت له : أخبرني ما حالك؟!! فأراد أن يكتمني فلم أدعه ، فقال لي : فاتني حزبي البارحة !! ولا أحسب ذلك إلا لأمر أحدثته ، فعوقبت بمنع حزبي !!ثم أخذ يبكي !! فأشفقت عليه وأحببت أن أسهل عليه ، فقلت له : ما أعجب أمرك !! لم ترض عن الله تعالى في نومة نومك إياها ، حتى قعدت تبكي !! فقال لي : دع عنك هذا يا أبا جعفر !! فما احسب ذلك إلا من أمر أحدثته !! ثم غلب عليه البكاء !! فلما رأيته لا يقبل مني انصرفت وتركته .
37- عن أي غالب قال : كان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل علينا بمكة ، وكان يتهجد من الليل ، فقال لي ذات ليلة قبل الصبح : يا أبا غالب : ألا تقوم تصلي ولو تقرأ بثلث القرآن ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن قد دنا الصبح فكيف اقرأ بثلث القرآن ؟!! فقال إن سورة الإخلاص { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن .
38- كان أبو إسحاق السبيعي رحمه الله يقول : يا معشر الشباب جدوا واجتهدوا ، وبادروا قوتكم ، واغتنموا شبيبتكم قبل أن تعجزوا ،ـ فإنه قلّ ما مرّت عليّ ليلة إلا قرأت فيها بألف آية !!
39 - كان العبد الصالح عبد الواحد بن يزيد رحمه الله يقول لأهله في كل ليلة : يا أهل الدار انتبهوا !! ( أي من نومكم ) فما هذه ( أي الدنيا ) دار نوم ، عن قريب يأكلكم الدود !!
40- قال محمد بن يوسف : كان سفيان الثوري رحمه الله يقيمنا في الليل ويقول : قوموا يا شباب !! صلوا ما دمتم شبابا !! إذا لم تصلوا اليوم فمتى ؟!!
41- دخلت إحدى النساء على زوجة الإمام الأوزاعي رحمه الله فرأت تلك المرأه بللاً في موضع سجود الأوزاعي ، فقالت لزوجة الأوزاعي : ثكلتك أمك !! أراك غفلت عن بعض الصبيان حتى بال في مسجد الشيخ ( أي مكان صلاته بالليل ) فقالت لها زوجة الأوزاعي : ويحك هذا يُصبح كل ليلة !! من أثر دموع الشيخ في سجوده .
42- قال : إبراهيم بن شماس كنت أرى أحمد بن حنبل رحمه الله يحي الليل وهو غلام .
43- قال أبو يزيد المعَّنى : كان سفيان الثوري رحمه الله إذا أصبح مدَّ رجليه إلى الحائط ورأسه إلى الأرض كي يرجع الدم إلى مكانه من قيام الليل !!
44- كان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل فإذا أصابه فتور أو كسل قال لنفسه : أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه ، والله لأزاحمنهم عليه ، حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالا !! ثم يصلي إلى الفجر .
45- رأى أحد الصالحين في منامه خياماً مضروبة فسأل : لمن هذه الخيام ؟!! فقيل هذه خيام المتهجدين بالقرآن !! فكان لا ينام الليل!!
46- كان شداد بن أوس رضي الله عنه إذا دخل على فراشه يتقلب عليه بمنزلة القمح في المقلاة على النار!! ويقول اللهم إن النار قد أذهبت عني النوم !! ثم يقوم يصلي إلى الفجر .
47- كان عامر بن عبد الله بن قيس رحمه الله إذا قام من الليل يصلي يقول : أبت عيناي أن تذوق طعم النوم مع ذكر النوم .
48- قال الفضيل بن عياض - رحمه الله - : إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأُصبح وما قضيت نهمتي ( أي ما شبعت من القرآن والصلاة ) .
49- لما احتضر العبد الصالح أبو الشعثاء رحمه الله بكى فقيل له : ما يبكيك !! فقال : إني لم أشتفِ من قيام الليل !!
50- قال الفضيل بن عياض رحمه الله : كان يقال : من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرة قلوبهم ، خلائق ثلاثة : الحلم والإنابة وحظ من قيام الليل .
51- كان ثابت البناني رحمه الله يصلي قائما حتى يتعب ، فإذا تعب صلى وهو جالس .
52- قال السري السقطي رحمه الله : رأيت الفوائد ترد في ظلم الليل .
53- كان بعض الصالحين يقف على بعض الشباب العبّاد إذا وضع طعامهم، ويقول لهم : لا تأكلوا كثيرا ، فتشربوا كثيرا ، فتناموا كثيرا ، فتخسروا كثيرا !!
54- قال حسن بن صالح رحمه الله : إني أستحي من الله تعالى أن أنام تكلفا ( أي اضطجع على الفراش وليس بي نوم ) حتى يكون النوم هو الذي يصير عني ( أي هو الذي يغلبني ) ، فإذا أنا نمت ثم استيقظت ثم عدت نائما فلا أرقد الله عيني !!
55- كان العبد الصالح سليمان التميمي – رحمه الله – هو وابنه يدوران في الليل في المساجد ،فيصليان في هذا المسجد مرة ، وفي هذا المسجد مرة ، حتى يصبحا !!
وأخيراً أخي الحبيب قم ولو بركعة واختم بهذا الحديث قال صلى الله عليه وسلم { من قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كُتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين } [رواه أبو داوود وصححه الألباني ] والمقنطرون هم الذين لهم قنطار من الأجر .(21/3)
آثار الاستغفار
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
جاء رجلُ إلى الحسن البصري يشكو إليه الجذب والقحط فأجابه قائلاً : " استغفر الله " ، ثم جاءه رجلُ آخر يشكو الحاجة والفقر فقال له : " استغفر الله " ، ثم جاءه ثالثُ يشكو قلة الولد فقال له : " استغفر الله " ،
فعجب القوم من إجابته فأرشدهم إلى الفقه الإيماني والفهم القرآني والهدي النبوي وتلا قول الحق جل وعلا :
{ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموالِ وبنين يجعل لكم جناتِ ويجعل لكم أنهاراً } .
تأمل - أخي المسلم - إلى هذا الفهم والفقه واليقين في إجابة هذا الإمام من أئمة التابعين ليس قولاً مجرداً ولا فلسفةً ولا هرطقة وإنما يقين ومعرفةُ وتجربةُ وتوكلُ واعتمادُ على الله سبحانه وتعالى .
فهل فكرت يوماً عندما يصيبك همٌ أو غمٌ ، أوعندما تقع في مشكلةِ ومعضلة هل فكرت في أن المخرج هو مد الحبال إلى الله - عز وجل – دعاءً وتوسلاً واستعانة وخفض الجبهة وتمريغها ذلاً وخضوعاً واستغفاراً واستكانة .
هل عرفنا مثل هذا النهج الذي كان عليه أسلافنا في واقع حياتهم ؟
تأمل كيف رأى الحسن البصري هذه الآية ورأى صدقها يقيناً في واقع الحياة فأرشد المسترشد ، وأجاب السائل إجابةً موجزةً إيمانيةً واقعيةً لمن أيقن بها وصدقها : { فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموالِ وبنين ويجعل لكم جناتِ ويجعل لكم أنهارا } .
الخير عند الله في السماء يمسكه عن الناس لذنوبِ أحدثوها وفضائع وجرائم ارتكبوها ولولا شيوخ ركّع وأطفال رضع وبهائم رتع ومن يدعو الله - عز وجل - لحرم الناس القطرة ولأصيبوا بالسنين والجدب ولأنزل الله - عز وجل - عليهم السخط والعذاب .
من أين لك يا حسن البصري مثل هذا الفقه ؟ ..لقد تلقاه من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين أخذوا عن النبي - عليه الصلاة والسلام - الذي ترجم لهم القرآن ترجمةَ عملية .
فهذا الحديث يكشف لنا عن سرِ من هذه الأسرار وهو من رواية عليِ بن أبي طالبِ قال :
كان الرجل يحدثني فأستحلفه على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدثني أبو بكرِ - رضي الله عنه - وصدق أبو بكرِ قال أبو بكرِ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
( ما من رجلِ يذنب ذنباَ ثم يقوم فيتطهر فيحسن الوضوء ، ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله - عز وجل - إلا غفر له ثم تلا - عليه الصلاة والسلام - قول الحق جل وعلا : { والذين إذا فعلوا فاحشةَ أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يففر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } ) .
هذه الآية القرآنية وهذا هو التقريب والتفيهم النبوي وهذه هي الرواية الصحابية وذلك هو الفهم التابعي وتلك هي الحياة الإسلامية التي تربط بالله - سبحانه وتعالى - وتدرك أن الأمور كلها مغاليقها ومفاتيحها وأسبابها ومنعها بيد الله سبحانه وتعالى .
فانظر - رعاك الله - إلى آثار هذا الاستغفار في دفع الرزايا والبلايا والمشكلات والمعضلات الدنيوية ، وانظر إلى الأثر الذي ثبت في هذا الحديث من أثر الاستغفار في محو الذنوب والآثام وصقلها وإزالتها من صحائف المسلم بإذن الله عز وجل .
فإذاَ نحن في بابِ عظيمِ من أبواب نعم الله - عز وجل - وفي رحمةٍ واسعةٍ من رحمات المولى - سبحانه وتعالى - فأين نحن منها وأين فقهنا لنا وأين ارتباطنا بها وأين عملنا بمقتضياتها ؟
فوائد كثيرة ومنافع عديدة تفوتنا نفرط فيها نغفل عنها نتجاهلها تعصف بنا رياح الفتن تمر بنا زينة الدنيا نغرق في أوحال الشهوات نتعثر في المعاصي والسيئات وننسى أحبال النجاة وننسى سبل السلامة التي جعلها الله - عز وجل - قريبةٌ منا وساقها إلينا وأهداها لنا لتظل القلوب موصولةَ به لتظل الدموع تدرف خوفاَ وتضرعاَ وخضوعا لتظل الجباه تسجد تضرعاَ واستكانةَ لله - سبحانه وتعالى - ليظل عند المسلم سلاح من الله - سبحانه وتعالى - يستعين به على أمور دينه ودنياه .
أثر عظيم من الآثار لهذا الاستغفار ورد في حديث أبي سعيدِ الخدري - رضي الله عنه - وهو عند الحاكم والطبراني بسندِ حسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
" يقول إبليس لله - عز وجل - بعزتك وجلالك لا أبرح أغويهم ما رأيت الأرواح فيهم " .
هذه مهمته وهذا قسمه الذي خلده القرآن بأن يغوي بني أدم :
" بعزتك وجلالك لا أبرح أغويهم ما رأيت الأرواح فيهم " فيقول الحق جل وعلا :
( فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني ) .
فهذا السلاح رد لكيد الشيطان في نحره وإغاضةُ له بفضل الله - سبحانه وتعالى - الذي ساقه لعباده المؤمنين وحرم منه ذلك الإبليس اللعين الذي تكبر عن الخضوع والذلة والصغار والاندحار لله رب العالمين .(22/1)
فأنت كلما استغفرت الله - عز وجل - كأنما تسدد سهماَ أو تضرب بسيفِ بتار في إبليس عليه لعنة الله - عز وجل - فلا يصيب من المؤمن غرةً أو سهوةً أو غفلةً حتى يتذكر القلب المؤمن : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفُ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } .
هذه اليقظة الإيمانية تدعوك إلى الاستغفار تدعوك إلى أن تواجه هذا الشيطان اللعين بهذا العطاء الرباني وتلك المنحة الإلهية التي خص الله - سبحانه وتعالى - به عباده المؤمنين .
وأثرُ رابع عظيم ينتظره الإنسان في وقتٍ يكون فيه أشد احتياجاً إلى ما ينفعه بين يدي الله - عز وجل - في وقتٍ تنقطع فيه الأسباب وتنعدم فيه الإعانة يحتاج حينئذٍ إلى ذلك الاستغفار الذي لهج به لسانه ، وخفق به قلبه ، وظهر على سمته وخضوعه وخشوعه وخشيته من ربه هذا حديث الزبير أخرجه الطبراني في الدعاء بسندٍ حسن والبيهقي بسندِ لا بأس به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار ) .
من أحب أن تسره صحيفته يوم القيامة فليكثر فيها من الاستغفار ، وعند ابن ماجه بسندِ صحيح وعند النسائي في عمل اليوم والليلة بسندِ صحيح أيضاَ عن عبد الله بن بسر - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراَ كثيرا ) .
كل ذلك من أقوال سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - وانظر إلى تطبيقه العملي فهذا حديث السنن يروي فيه الصحابة أنهم كانوا يعدون للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد أنه يقول : ( أستغفرك وأتوب إليك في المجلس سبعين مرة وفي بعض الروايات مائة مرة ) .
وفي حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ) . وفي بعض الروايات : ( مائة مرة ) .
فلو تذكرنا - أحبتنا الكرام - هل نستغفر في يومنا وليلتنا مثل هذا العدد ؟ وهل استغفارنا لو استغفرنا مثل هذا العدد مثل استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل حاجتنا ونحن مثقلون بالذنوب والخطايا مثل حاجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للاستغفار وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟
فقد كان - عليه الصلاة والسلام - دائماَ في عبادةِ وتقربِ وتضرعِ لله عز وجل وازديادِ في الخير فيستغفر إن لم يكن زاد في الخير لا يستغفر من ذنبِ وقع فيه وقال بعض أهل العلم في هذا أيضاَ : " إنه السهو الذي ليس فيه عملُ باطل لكنه يستغفر أن لم يشغل كل وقتِ بطاعةِ وذكرِ واستغفارِ وتهليلِ وتسبيحِ لله عز وجل " .
وقيل ايضاً :
"
إن هذا الاستغفار منه تشريع لأمته تعليمُ لهذه الأمة التي يمتد أمدها إلى قيام الساعة أن تعلن دائماَ أنها ذات أوبةِ ورجعةِ إلى الله عز وجل وأنها ذات طلبِ واستجداءِ واستعانةِ بالله سبحانه وتعالى " .
وذكر في ذلك أيضاَ قولُ آخر وهو :
أن استغفاره - صلى الله عليه وسلم - استغفارُ لأمته ؛ فإنه كان - عليه الصلاة والسلام - دائم الدعاء لأمته ودائم السؤال لربه في حق أمته ) … وقد جاء قول الحق سبحانه وتعالى : { استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } .
فهذا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إنه لن يغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ) .
وهذا التطبيق العملي يجعل القلب في انصقالٍ دائمٍ وفي حياةٍ وارتباطٍ قوي بالله سبحانه وتعالى .
وانظر كذلك إلى الأثر العظيم المهم من آثار الاستغفار وهو دفع العذاب ورفع المصائب ، مصداقاً لقول الله عز وجل : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم و ما كان الله يعذبهم وهم يستغفرون } .
وقد ورد في معنى ذلك آثار وأحاديث فيها ضعف لكن المعنى الذي في الآية واضح بين أن الاستغفار من أسباب رفع العذاب وعدم نزول نقمة رب الأرباب سبحانه وتعالى .
وهذا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - يبين هذا في حديثِ صحيحِ عظيم يخطئ بعض الناس فهمه ويسيؤن تصوره واستخدامه وهو حديثه عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه كما في صحيح مسلم : ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا فتستغفروا لذهب الله بكم ولجاء بقومِ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم ) .
ليس في الحديث دعوةُ لمقارفة الذنب والاستغفار من بعد ، وإنما في الحديث تصويرُ لطبيعة الإنسان في غفلته ووقوعه في زلته وطبيعة ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن إذا وقع في الخطأ أن يبادر بالاستغفار ؛ فإن لم يفعل ذلك لم يكن متحققاً بمعنى العبودية لم يظهر مظاهر التذلل والخضوع لم يبتهل لرب الأرباب لم يعظم ربه - سبحانه وتعالى - لم يعرف حقيقة أسماء الله الحسنى التواب الغفار الرحيم إلى غير ذلك من أسمائه العظيمة الجليلة الحسنة فلذلك جعل الله عز وجل بتبليغ رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن الغفلة عن هذا الاستغفار مع ما هو مقرر من طبيعة وقوع العبد من طبيعة غفلته أنها نوعُ مما يستحق به العقاب ونوع مما يظهر جحود أولئك القوم الذي لم يقروا ولم يظهروا ولم يبرزوا عبودية الله .(22/2)
ألا ترى شعائر الإسلام وهي تعلن العبودية لله وتظهر تذلل العباد لله في صلاة الاستسقاء في الصلوات الخمس في غيرها من الأمور التي يريد الله عز وجل ويحب أن يظهر تذلل عباده له وتضرعهم إليه وابتهالهم وافتقارهم إلى ما عنده سبحانه وتعالى .
وأثر سابعُ أيضاَ يتعلق بهذا القلب الذي كثرة فيه في هذا العصر الظلمات وتكالبت عليه الشبهات ، وغشيته الشهوات ، وتزينت له المحرمات وواجهته كثيرٌ وكثير من الفتن العظيمة ،كيف نحافظ على وضاءته ؟ كيف نحسن صيانته ؟ أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث الأغر من حديث أنسِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن العبد إذا أخطأ خطيئةَ نكتة في قلبه - أي جاء أثرها من سوادها وظلمتها وانعدام تأثر القلب بالآيات وانعدام تأثر القلب بالمواعظ والشواهد الحية في واقع الحياة - نكتة فيه نكت فإن نزع واستغفر صقلت فإن عادت زيد فيها حتى تعلو قلبه وذلك الران الذي قال الله عنه : { كلا بل ران على قلوبهم } ) .
فهذه فائدةُ عظمى من فوائد هذا الاستغفار أيضا فنحن عندما نتأمل في هذه النصوص ، وفي تلك التطبيقات العملية في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام على ما كانوا عليه من الفضل والسبق في أعمال الخير وعلى ما كانوا عليه من الترفع من الدنايا والبعد عن الخطايا والبكاء على الذنوب ، ودوام التوبة والاستغفار رأينا سوء حالنا وأدركنا خطر وضعنا فنحن الذين نكثر الذنوب وكأنا قد أمنا العقوبة عليها ، ونلهو ونسهو عن التوبة والاستغفار وكأننا قد استغنينا عنها .
وهذا الحسن البصري يخاطبنا مرةً أخرى ، ويقول مخاطباً لذلك الجيل الذي كان فيه ولذلك العهد لذي كان فيه من الخير والصلاح ما فيه يقول : " لقد أدركت أقواماً - يعني الصحابة الكرام رضوان الله عليهم - كانوا أخوف ألا تقبل منهم حسناتهم منكم من ان تحاسبوا على سيئاتكم " يقصد الذين يحدثهم : لستم في خوفِ من المحاسبة على السيئات وأنتم تعلمونها وأنتم ترونها وأنتم تقعون فيها ، وقد كان القوم من قبلكم قد أمنوا هذا ؛ لأنهم لم يقعوا في تلك المعاصي ولكنهم عندهم خوفُ أعظم وهو ألا تقبل منهم الحسنات ، فأين نحن من هذه القلوب الحية والمواقف التي كانت في سير أسلافنا رضوان الله عليهم بل أين نحن من أمرِ أعظم وأجل من هذا أين نحن من هذه الرحمة الواسعة والنعمة العظيمة التي يقدمها الله لنا ويسوقها إلينا ، ثم نغفل عنها كأن لا نعظم ربنا كأن لا نفتقر إليه كأن لا ندرك عبوديتنا له - سبحانه وتعالى - كأن قدر أدبرنا بظهورنا وأعرضنا بغفلتنا وسهونا وشهواتنا عن باب ربنا الذي فتحه لنا ، وعن دعائه الذي دعانا إليه من الاستغفار والتوبة الدائمة إليه ، ولذلك قد قال أهل العلم في معنى هذه الأحاديث إن الله - عز وجل - قد فتح الباب لعلمه بطبيعة العبد وأنه يحتاج إلى ذلك الاستغفار ؛ فإنه قد ورد في الصحيح عند الإمام مسلم :
( أن عبداً أذنب ذنباً فقال يا رب أذنبت ذنباَ فاغفرلي فقال الله - عز وجل - لملائكته : علِمَ عبدي أن له رب يغفر الذنب ويؤاخذ به فاستغفرني أشهدكم أني قد غفرت له ، ثم أذنب ذنباَ فقال يا رب أذنبت ذنباَ فاغفرلي فقال الله - عز وجل - : علم عبدي أن له رب يغفر الذنب ويؤاخذ بالذنب أشهدكم أني قد غفرت له ، ثم ثالثةَ فيعاد القول فليعمل عبدي ما شاء فإني أغفر له ) . . ( يا ابن أدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة ) .
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه **** من جود كفيك ما علمتني الطلب
وهذا مصداق قول الله - عز وجل - في قصة أدم أن الله - عز وجل - هو الذي علّمه الكلمات : { فتلقى أدم من ربه كلماتِ فتاب عليه } .
علّمه الاستغفار حتى يغفر له فضل من الله سبحانه وتعالى عظيم لماذا ؟
لأنه يعلم طبيعة الإنسان وغفلته وما يقع منه من سهوِ : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زادِ يقدم به العبد على مولاه ؛ وإن من التقوى دوام الأوبة ومتابعة التوبة والإكثار من الاستغفار فإنها أبواب الرحمة الربانية التي فتحها سبحانه وتعالى فضلاً منه ومنةً على عباده ولم يجعل لذلك حداً ينتهى إليه ولا وقت يتوقف عنده فكيف بنا نغفل عن هذه الأبواب وعن هذه النعم وكيف بنا نغفل فنغوص في أوحار المعاصي لا ندرك ما يوقفنا هذا الهوي وهذا الانزلاق ولا ندرك الأسباب التي بإذن الله عز وجل نتوصل بها إلى الاستمساك بأمر الله والاعتصام به من تلك الزلات ومن وساوس الشيطان ونزغات الهوى ومضلات الفتن .
قد جعل الله لنا سبل النجاة ورسم لنا طريق السلامة فأين نحن منها قد غفلنا عنها والله سبحانه وتعالى قد جعل الفضل عظيما حتى لا يتاعظم مذنبَ ذنبه .(22/3)
لكن هذا الاستغفار يحتاج إلى أن ندرك معانيه وأن نعرف حقيقته فإن الله عز وجل قد قال في سياق الآية القرآنية :
{ ولم يصروا على ما فعلوا } .
قال أهل العلم فيه دليلَ على أن الاستغفار المقبول هو الذي يقع به الإقلاع عن الذنب مع استحضار الندم في القلب والاستغفار باللسان .
وليس مجرد ذكر هذه الكلمات كما نسمع في أدبار الصلوات أصوات الصفير بحرف السين أس أس ولا نسمع استغفاراً يستحضره القلب ولا ندرك حقيقة ما نحن فيه من هذه المعاني .
وانظر إلى ذلك الاستغفار المأثور في أدبار الصلوات فهذه الصلاةلا شيء فيها يستغفر منه إن الاستغفار يبين لنا حقيقتنا فنحن نستغفر في عبادتنا مما وقع فيها من تقصير وما وقع فيها من قصورِ عن الكمال ومما وقع فيها من غفلةِ وسهوة قلبِ وعدم استحضار المعاني التي يجب استحضارها في تلك الصلاة أو تلك العبادة .
وكل ذلك جبرَ وكل ذلك إعانةَ فإن في هذا الاستغفار تلك الفوائد العظيمة والمنافع الجليلة والأبواب الواسعة .
أخرج الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه عن سول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلالة أنه قال :
( يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي ، يا بن آدم لو لقيتني بقراب الأرض معصيةً ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لقيتك بقرابها مغفرة ) .
فأي فضلِ أعظم من هذا فهل يقابل هذا الفضل من الله بالاستهتار من العباد والغفلة ومزيد المعصية من المسلمين رغم ما أعطاهم الله عز وجل .
وانظر إلى جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وسلم كيف يجعلك تتعلم كيف تستغفر الله ومن أي شيءِ تستغفر الله إن بعض الناس اليوم إذا قلت له قل:
" استغفر الله " ، قال : وأي شيءِ فعلت ؟ .
سبحان الله ! أما كان في قلبك خاطر سوء أما مرة بك نيةَ غير سليمة أما تلفظت بكلمة غير حسنة أما فعلت فعلاً أما نظرت نظرةً كلنا ذاك الرجل المذنب .
فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهذا الدعاء الخاشع الجامع الذي يرويه الإمام مسلم من حديث أبي موسى الأشعري عن رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو فيقول :
( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطأي وعمدي وكل ذلك عندي ، اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني اللهم أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءِ قدير ) .
فنسأل الله - عز وجل - دوام المغفرة واجعلوا القلوب حجةً حاضرة واجعلوا لكل ذنبِ أو غفلةِ استغفاراً وتوبة فإن الله سبحانه وتعالى يقبل ذلك ويجعل من وراء ذلك خيراً في تفريج هموم الدنيا وتكثير أسباب الرزق فيها ويجعل من وراء ذلك خيراً في دفع العذاب ورفع المصائب عن المسلمين فإنهم ما استغفروا الله إلا رفع الله عز وجل عنهم من البلاء كما ورد في الأثر : إن الدعاء والقضاء ليعتلجان فيما بين السماء والأرض ؛ فإنه لا يرد القضاء إلا الدعاء بقضاءِ قد أحكمه الله - عز وجل - وكتبه في اللوح المحفوظ .
فانظروا - رحمكم الله - إلى ما تبتغون من أمور الدنيا ، وإلى ما يعرض لكم من مصائبها فاعلموا أن أعظم الأسباب هي أسباب الطاعة وأسباب الإنابة والاستغفار لله سبحانه وتعالى .
ياكثير العفو عن من كثر الذنب لديه
جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم لديه
أنا ضيفٌ وجزاء الضيف إحسانٌ إليه
والله - عز وجل - لا يخيّب من دعاه ولا يرد من رجاه ؛ لأنه - سبحانه وتعالى - قد فتح الأبواب ، وجعل رحمته أوسع وأعظم من غضبه وأسبق من غضبه سبحانه وتعالى .
لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي **** أريد لإسرافي فإني لتالف(22/4)
آثار الذنوب على الفرد والمجتمع
2991
آثار الذنوب والمعاصي
ناصر ورّاش
بوزريعة
26/6/1422
علي مغربي
ملخص الخطبة
1- حقيقة لا بد من معرفتها. 2- فائدة الحديث عن آثار الذنوب. 3- من آثار المعاصي نسيان العلم. 4- من آثار المعاصي الوحشة بين الله وبين العبد. 5- من آثار المعاصي الحيرة والشقاء. 6- من آثار الذنوب تسلّط الأعداء. 7- شاهد التاريخ على خطورة المعاصي. 8- ما المخرج من الذل والهوان؟ 9- من آثار المعاصي ظهور الأمراض وذهاب البركة.
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، إن المعاصيَ التي يقترفها الناس آناء الليل وأطراف النهار لها آثار مدمرة على الفرد والمجتمع والحياة كلها، وذلك أنّ قوام الحياة وصلاحها إنما هو في الطاعة والاستقامة على أمر الله والتقيد بشرعه الحنيف، وكلّ انحراف عن أمره، وكل اتباع لنزغات الشيطان, وكل تفلُّت من دينه إنما هو ركض وراء السراب، وضرب في تيه الشقاء، ولا بد أن يلمس الإنسان آثارها النكرة في نفسه وحياته ثم في أخراه يوم لقاء ربه.
والمقصود من الحديث عن آثار المعاصي هو التحذير من مغبة الاسترسال فيها وإطلاق العنان للخوض في حدود الله، وهو من باب قول القائل قديماً:
عرفتُ الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشرّ من الخير يقع فيه
أيها المؤمنون الكرام، هذه بعض تلك الثمار المرة التي يجنيها العصاة الآثمون من وراء المعاصي.
أولاً: نسيان العلم وذهاب الحفظ، ويا لها من عقوبة ما أقساها على أهل العلم وطلبته، وذلك أن العلم نور يقذفه الله في القلوب العامرة بطاعته المنيبة إليه سبحانه، والمعصية ظلمة قد علاها قُتار الشهوات الهوجاء، وأنّى للنور أن يأنس بالظلام؟!
ولذلك روي أن الإمام الشافعي رحمه الله لما جلس بين يدي إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله ورأى عليه مخايل النجابة والذكاء بادية، وأعجبه وفورُ عقله وكمال حفظه قال له ناصحا: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية.
والشافعي رحمه الله هو القائل في الأبيات التي سارت بين طلبة العلم مسير الشمس:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نورٌ ونور الله لا يهدى لعاصي
وقد يتساءل إنسان فيقول: إن فلاناً من الناس قد أُعطيَ حفظا واستحضاراً على فجوره الذي عُرف به في الناس فكيف ذلك؟!
فنقول: اقرأ كتابَ الله تعالى تجد الجواب واضحاً، يقول الله عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى ءاتَيْنَاهُ ءايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [الأعراف:175، 176].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله معلقاً: "ففي الآية دليل على أنه ليس كل من آتاه الله العلم فقد رفعه به، إنما الرفعة بالعلم درجة فوق مجرد إتيانه".
كم من فاجر كان حظه من العلم قيل وقالوا، ليكون ذلك حجةً عليه عند الله، دون حقيقة العلم التي تورث الخشية والإنابة.
فيا معشر طلبة العلم، لنتقِ الله في أعز أيام العمر التي صُرفت في الحفظ والركض وراء عرائس العلم، أن تذهب بها غوائل المعاصي الجامحة، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن سوط العقاب بالمرصاد.
ثانياً: ومن أعظم آثار المعاصي وأخطرها على العبد الوحشةُ التي تحدثها المعاصي بين العبد وربه، واستثقال الطاعات، واستمراء الفواحش، واعتيادٍ لها، ويا لها من سكرة ما أشد عماها على القلب إن لم يُمدّ صاحبها بنفحة من نفحات الرحمة والهداية، فإنه واقع في حُفرة من حفر الشقاء والعذاب الواصِب لا محالة.
أيها المؤمنون، إن حياة المرء الحقيقية إنما هي حياة الطاعة، وشعور العبد أنه خلع عنه ربقة العبودية للخلق، وآوى إلى ظلال العبودية الحقة التي ترفعه عن الطين وجواذبه، ليحط رحال القلب في ساحات العبودية لله رب العالمين. ولهذا جعل الله الكافر ميتاً غير حي فقال: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء [النحل:21]، وتأملوا بالمقابل في قول بعض الصالحين المخبتين الذين وجدوا برد الطاعة والإنابة إذ يقول: "إنه لتمرّ بالقلب لحظات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير عظيم". إنّ في الدنيا جنة لا يدخل جنة الآخرة من لم يدخلها، إنها جنة الطاعة والعبودية التي يُحرم منها العصاة الفجرة.
ثالثاً: من آثار المعاصي النكرة الحيرة والشقاء وتمزّق القلب في شعاب الدنيا، واللهث وراء السراب، واتباع الشياطين المتربصة على أفواه السبل المنحرفة عن السبيل الحق.(23/1)
روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله خطا مستقيما في الأرض ثم خطَّ خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال: ((هذا سبيل الله، وهذه السبل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليها))، ثم قرأ: وَأَنَّ هَاذَا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ الآية [الأنعام:153].
وذلك أن الله تعالى هو المتفرد بالهداية وحده، مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا [الكهف:17]، وكل انحراف عن منهجه سبحانه الذي وضعه طريقاً للهداية إنما هو خبط في بيداء التيه، وجنيٌ للشقاء المر الذي هوت فيه الشعوب الكافرة التي ولّت ظهرها للحق المنزّل.
يقول العلماء: إن هناك أربعة أسئلة تطرح نفسها بإلحاح على الإنسان بمقتضى فطرته وهي: من أين جئت؟ وإلى أين المصير؟ ولماذا؟ وكيف؟ وكل خلل في الإجابة عن واحد من هذه الأسئلة الخالدة يعني الشقاء والدمار في حياة الإنسان، ولا وجود للإجابات الصحيحة إلا في الدين الحق.
وإن نظرةً واحدة على واقع الغرب الكافر وما يعيشه من ضياع فكري وتفسّخ أخلاقي، بل ونزول بالإنسان إلى دركات الحيوانية الهابطة تنبئك بالحقيقة، لأن بعض فلاسفتهم المشهورين أطلق مقولته الفاجرة: أنْ لا هدف ولا غاية من وجود الإنسان، فظهرت في أوربا جماعات تسمى بالخنافس تتسافد في الطرقات تسافد الحمر، وتعيش عيشة البهائم البكماء، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى الآية [طه:124].
رابعاً: ومنها تسليط الأعداء وذهاب القوة ونزع الهيبة من قلوب الأعداء.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر أن النبي قال: ((بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة من الصغار على من خالف أمري, من تشبه بقوم فهو منهم)).
أيها المؤمنون، إن صحائف التاريخ خير شاهد على عجيب تأثير المعاصي في الأمم، لقد كانت أمة الإسلام في سالف دهرها أمة موفورة الكرامة، عزيزة الجانب، مرهوبة القوة، عظيمة الشوكة، لكنها أضاعت أمر الله، وأقْصت شريعته من حياتها، وراجت أسواق الشرك في أصقاع كثيرة في العالم الإسلامي ـ وهذه الأمة أمة التوحيد ـ فصار أمرها إلى إدبار وعزها إلى ذل، وجثم على صدرها ليل طويل من الاستعمار الكافر، ولولا أنها الأمة الخاتمة لأصبحت تاريخاً دابراً تحكيه الأجيال. وليس الذي حل بنا ويحل ظلماً من ربنا، كلا وحاشا، فهو القائل في الحديث القدسي الصحيح: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا))، وإنما هي السنن الربانية النافذة التي لا تحابي أحداً، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، ذَالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ثوبان مرفوعاً: ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها))، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة منا يومئذٍ؟ قال: ((أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن))، قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهة الموت)).
إننا ـ معاشر المسلمين ـ اليوم نئن تحت وطأة الذلّ المسلّط علينا، وكثير من المسلمين لا يزالون غافلين عن سبب البلاء الذي بيّنه رسولنا في غير ما حديث صحيح، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليهم ذلاً لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم)) رواه أبو داود وأحمد.
ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إننا كنا قوماً أذلة فأعزنا الله بهذا الدين، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله).
من هنا ـ أيها المؤمنون ـ كانت البداية، ومن هنا يكون البدء، ومن تركِنا لديننا كانت بدايةُ رحلة الذلِّ والضياع في تاريخ أمة الإسلام، ومن الرجوع إلى ديننا وتوبتنا إلى ربنا يكون البدء إذا أردنا العودة إلى العزة القعساء والشرف المفقود.
إن كلَّ تائب منّا من معاصيه عليه أن يعلم أنه يكتب بذلك سطراً في سِفْر مجد أمة التوحيد.
خامساً: ومن شؤم المعاصي ـ معاشر الإخوة الكرام ـ ظهور الأوجاع الفتاكة وارتفاع البركة من الأقوات والأرزاق.(23/2)
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) رواه ابن ماجه وهو صحيح. [السلسلة الصحيحة (106)].
معاشر المؤمنين، هذه بعض آثار المعاصي المدمرة، وهذه بعض ثمارها النكدة، فهل من مشمِّر تائب منيب، قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].(23/3)
آثار الذنوب والمعاصي
1929
آثار الذنوب والمعاصي
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
غير محدد
ملخص الخطبة
1- المعاصي سبب الهلاك.2- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.3- حالنا اليوم.4- الحث على التوبة النصوح.5- من آثار المعاصي.
الخطبة الأولى
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن خراب الناس وهلاك الأمم إنما يكون بسبب انتشار المعاصي والسيئات والمنكرات، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في قوله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59]. أي أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم ولذلك قال الله عز وجل: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا وفي قراءة أمَّرنا مترفيها فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]. ومعنى أمرنا مترفيها أي أن المترفين من أهل الفساد هم الذين يتأمرون على الناس فيشيعون المنكرات والسيئات بين المسلمين، فإذا شاعت المنكرات وسكت الناس عن تغييرها ولم يقوموا بواجبهم في تغيير المنكرات والأمر بالمعروف عمهم الله سبحانه وتعالى بعقاب من عنده، ثم يدعون فلا يستجاب لهم، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]. قال ابن عباس : (إذا رأى الناس المظالم ولم يغيروها عمهم الله بعذاب من عنده) ولذلك جاء في الحديث عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: دخل علي رسول الله ذات يوم فزعاً وهو يقول: ((لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بين إصبعيه الإبهام والتي تليها)) فقلت ـ أي تقول أم المؤمنين زينب رضي الله عنها ـ: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) [أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما].
ومعنى فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، أي: إن باب الشر والفتنة في عهده يوم أن دخل فزعاً وهو يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح باب الفتنة والشر مثل هذه، فمنذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا، خمسة عشر قرناً من الزمان، كم توسع ردم الفتنة وباب الشر، الله أعلم ولكن الشرور في زماننا هذا كثيرة فإن الناس قد بعدوا عن الله عز وجل، وصارت السيادة لأهل المنكرات والسيئات، يعيثون في الأرض فسادا، أين المصلحون أين الذين يقومون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أين الذين يقفون في صف واحد أمام أعداء الإسلام ليردوا كيدهم في نحورهم، أين الذين يذودون عن حياض هذا الدين.
المنكرات والسيئات، قد عمت وانتشرت وبسبب شؤم هذه المعاصي التي سادت وانتشرت بين المسلمين خرب العمران والبلاد وتعطلت المصالح، وإذا بالغلاء الفاحش يضرب بأطنابه في كل مكان، والمسلمون في كل بقاع الأرض يشكون من هذه الابتلاءات والمصائب المتتابعة عليهم، ألم يعلموا أن الجزاء من جنس العمل؟ إن الله سبحانه وتعالى ما ينزل مصيبة في الأرض ولا بلاءً من السماء ينزل إلى الأرض إلا بسبب معصية، إلا بسبب فاحشة، إلا بسبب شيوع المنكرات والسيئات والمعاصي، فالبدار البدار عباد الله، العودة إلى الله، التوبة إلى الله، الاستغفار لله، إذا أردنا أن تحسن أحوالنا، ويرفع الله سبحانه وتعالى عنا البلاء والمصائب فلن يرفع إلا بتوبة صادقة بعودة صادقة إلى الله، والتمسك بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، فإذا فعل المسلمون ذلك عمهم من الله سبحانه وتعالى الرحمة، وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].(24/1)
إن كل ما نراه إنما هو بسبب معاصي المسلمين، المسلمون كثير منهم أشركوا بالله في أقوالهم وأفعالهم، المسلمون نحوا شرع الله عن سدة الحكم فتحاكموا إلى القوانين الوضعية وإلى الطاغوت وإلى الكهنة وإلى الشياطين وإلى السحرة وإلى الدساتير الوضعية التي وضعها أناس من البشر، نصبوا أنفسهم أرباباً من دون الله اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الهاً واحِداً لاَّ اله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]. كم هم الذين يحافظون عن أداء الصلوات الخمس في أوقاتها؟ إنهم قليل بل أقل من القليل، وكثير من المسلمين في غيبتهم سارون، كم هم الذين استمروا الباطل فما من زنا إلا وفعلوه، وأما الخمر فقد شربوها، وأما الربا فقد أكلوه، وأما الرشوة فقد استباحوها، وبعد ذلك كلما نادى منادٍ بعودة الناس إلى الدين، ونادى مناد بإرجاع الناس إلى الحق المبين، إذا بك تسمع من يسخر بالناس الدعاة الصالحين.
والمسلمون يصفقون لأمثال هؤلاء ولا يغيرون المنكرات بعد ذلك إذا ابتلاهم الله بالمصائب يضجون ويشكون، ولم يعلموا أن الجزاء من جنس العمل، وأن هذه الابتلاءات والمصائب ما نزلت إلا بسبب ما كسبته أيدينا، ثم بعد ذلك نعيب الزمان عجباً والله إن الزمان لا يفسد إلا بفساد أهله، ولا يصلح إلا بصلاح الناس، إن صلح الناس كان الزمان صالحاً، وإن فسد الناس كان الزمان فاسداً، فرحم الله الإمام الشافعي إذ قال:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
تأملوا حالنا: القتل أصبح منتشراً بين المسلمين على مستوى الأفراد والجماعات، أصبح المسلم اليوم يقتل على مرأى ومسمع من كل المسلمين، ولا يسمع من ينكر أو يضج أو يحرك ساكناً، فهذا المنكر العظيم والنبي يقول كما رواه البخاري في صحيحه يقول : ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)) صار دم المسلم اليوم أرخص من دم الدجاجة.
الدجاجة قد تشترى بثمن والمسلم يقتل ولا حد ولا قصاص ولا من يطالب بدمه، إن كل ما أصابنا بسبب شؤم المعصية التي نحن نرتكبها، وأحمد الله سبحانه وتعالى أن جعل الله سبحانه وتعالى لكم أعيناً تطرف وآذاناً تسمع، وقلوباً تعي فإن من رحمة الله عز وجل أنه ما يؤاخذ بالعقوبة بغتة إلا بعد إمهال، فإن الله يمهل ولا يهمل، وإذا رأى العبد أن الله قد أغدق عليه بالنعمة أو تركه على حالة وهو منغمس في المعاصي فلا يأمن مكر الله، وليعلم أن ذلك استدراج سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ [الأعراف:44-45].
ولذلك يقول أبو بكر الصديق قال: (يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها). يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]. وإني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه - أي لم يمنعوه من الظلم - أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)) [أخرجه الإمام أبو داود والترمذي والنسائي].
فهل تكون هذه عبرة لمن أراد أن يعتبر إِنَّ فِى ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
أقول ما تسمعون، ادعوا الله واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فقد أخرج الإمام ابن ماجه في سننه والبزار والبيهقي من حديث عبد الله بن عمر ما قال: وعظنا رسول الله فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [إسناده حسن].(24/2)
خمس خصال كلها لو تأملناها، موجودة فينا، ومنطبقة علينا تمام الانطباق، تعالوا نتأمل: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون)). يقول الدكتور محمد علي البار في كتاب الأمراض الجنسية: إن الطاعون اسم لمسمى الفيروسات الفاتكة التي تفتك بالبشرية، إذا شاع فيها الفاحشة والفاحشة، مسماها في أمرين: في الزنا وفي فعل قوم لوط، والعياذ بالله، هذه الفاحشة اليوم منتشرة بين المسلمين، فتحت لها دور البغايا في كثير من البلدان ومن الدول، من قننت وأعطت للباغيات والمومسات صكوكاً كترخيص السيارة تمارس هذه الدعارة التي وصفها الله بالفاحشة في قوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]. تعطى هذه التراخيص للمومسات ليزنين تحت حماية القانون، وما من فندق أو كازينو أو كابريهات إلا وتجد طابوراً من الداعرات اللواتي يمارسن هذه الفاحشة على مرأى ومسمع من المسلمين جميعاً، وبحماية القانون، ثم بعد ذلك إذا ظهر في البشرية الأمراض الفتاكة كالإيدز والهربس والزهري والسيلان ومرض الشبك الجنسي، وآخر تلك الأمراض التي الآن البشرية تعاني منها إنه قد اكتشف في الآونة الأخيرة، مرض جديد مرض الشوك الجلدي هذا المرض ما هو؟ الذين يفعلون الفاحشة سواء يأتون الفروج الحرام بالزنا أو بفعل قوم لوط يبتليهم الله سبحانه وتعالى بعظام تخرج من جلودهم كالشوك ثم بعد ذلك يموت، بعد أن يتعذب عذاباً إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]. سيئ السبيل سيئ الطريق وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذالِكَ أَتَتْكَ ايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].
((ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين والقحط والجفاف)) أما نعاني اليوم من قحط وجفاف؟ استسقينا فلم نسق، دعونا فلم يستجب لنا، لأن للدعاء شروطاً، ومن شروط الدعاء العودة والاستجابة لله، الله سبحانه وتعالى ضمن لنا الإجابة إذا دعوناه بشروط فقال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]. من ذا الذي يستجيب الله له إذا دعاه فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. هل استجبنا لله؟ هل آمنا بالله؟ حتى الإيمان سلوا أنفسكم كم من المتحاكمين بالباطل ونحن نصفق لهم ونزمجل لهم ونطبل لهم ونزمر لهم، وكم من إنسان يريد أن يقيم العدالة في الأرض ونحن نسبه ونتهمه بالخيانة فبعد ذلك الله سبحانه وتعالى يغير من أحوالنا.
تحاكموا فاستطالو في تحكمهم وإما قليل كأنما الأمر لم يكن
لو أنصفوا أنصفوا ولكن بغوا فبغى عليهم الدهر بالأحزان والمحن
وأصبحوا ولسان الحال ينشدهم هذا بذاك ولا عتب على الزمن
إنما العتب علينا أيها المسلمون:
((إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة)) أي الفقر من غير تعليق، وجور السلطان عليهم والحكاية تغني عن المقال.
((ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء)) في عهد عمر بن عبد العزيز الخليفة الخامس الذي سماه الإمام الشافعي بخامس الخلفاء الراشدين، حكم سنتين بل أٌقل من السنتين أقل من السنتين ببضعة أشهر، حكم ما يقارب السنتين فرد المظالم إلى أهلها، وأقام الحدود والقصاص في الأرض، وطبق شرع الله وكان يأخذ المال، فبارك الله في المال أموال الزكاة حتى إنه كان يحثوه حثوا فقسمه على الفقراء والمساكين، ففي السنة الثانية لم يجدوا في دولة الإسلام فقيراً.
حالنا انظروا إليه، كم من فقراء اليوم يتضورون جوعاً، لا يجدون لقمة، وكم من الأغنياء والمسؤولين يتعالجون من مرض التخمة في أوربا من كثرة الأكل، يصابون بالتخمة وفقراؤنا لا يجدون اللقمة.
أحياءنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألفاً ترزق الأموات
أيرحمنا الله بعد ذلك، والرسول يقول: ((الراحمون يرحمهم الرحمن.ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
((ولولا البهائم لم يمطروا)) لكن رحمة الله سبحانه وتعالى أن يرحم البهائم والأطفال الرضع والشيوخ الركع فبرحمة الله. لهؤلاء المستضعفين قد ينزل المطر، وإذا حبس عنهم فذالك جزاء من الله سبحانه وتعالى بسبب العقوبة التي نستحقها، وإن الله حكيم لا يصدر شيئاً إلا بحكمة، وهو العزيز الحكيم، ((إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه من قلوبكم حتى تراجعوا دينكم)).(24/3)
((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) نعم بأسنا بيننا على مستوى الأفراد والشعوب، ما من بقعة إلا وينعدم فيها الأمان اليوم، فتسمع من قبيلة فلانية 16 قتيلاً وكذلك كذا جريحاً لماذا؟ على أتفه الأسباب، ليتهم قاتلوا في سبيل الله، إنما يقاتلون في سبيل الطاغوت فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاًً [النساء:76].
إننا والله يا معشر المسلمين على شفتي هلكة من أمرنا، فلنتدارك أنفسنا قبل أن يرسل الله سبحانه وتعالى علينا صاعقة من السماء، فإنكم كما تعلمون وفي ناحية من نواحي إب حصل قبل أسابيع قليلة حصل أن أنزل الله سبحانه وتعالى عليهم صاعقة، فأهلك ستة عشر نفراً وكذا وكذا من الجرحى، حتى تشققت بعض البيوت من الصاعقة، هذا كله إنذار من الله سبحانه وتعالى بالعودة الصادقة إلى الله، العودة الصادقة إلى الله، توبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، وارجعوا إلى الله لعل الله سبحانه وتعالى يحول أحوالنا إلى أحسن حال.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.(24/4)
آثار الذنوب والمعاصي
3811
آثار الذنوب والمعاصي
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
28/5/1425
المسجد الحرام
ملخص الخطبة
1- الأمن ثلث المعيشة. 2- أهمية الأمن والأمان. 3- نقصان الأمن بنقصان الدين. 4- ضرورة المحاسبة والمراجعة. 5- النجاة في طاعة الله ورسوله . 6- دعوة للمخلِّين بالأمن.
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، اتقوا اللهَ وراقبوه، وأطيعوا أمرَه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فمن اتَّقى الله وقاه، ومِن كلِّ ما أهمَّه كَفاه.
وبَعد: معاشرَ المسلمين، إنَّ ممّا جاء في مشكاةِ النبوَّة قولَ النبيِّ : ((مَن أصبحَ منكم آمنًا في سِربه معافًى في جَسَده عنده قوتُ يومِه فكأنّما حِيزَت له الدّنيا)) رواه الترمذي وابن ماجه[1]. فجعلَ النبيُّ أصولَ حيازة الدنيا ثلاثةَ أشياء: الأمنَ في الأوطان والمعافاة في الأبدان والرزقَ والكفاف، ففَقدُ الأمن فقدٌ لثُلُث الحياة، والثلثُ كثير.
ولما كان الأمنُ ثلُثَ العَيش امتنَّ الله به على الأسلافِ مِن قُريش: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4].
أيّها المسلمون، الأمنُ والأمان والطمأنينة والاستقرار مطلبٌ ضروريّ من مطالبِ الإنسان، ففي ظلِّ الأمن يرغَد العيشُ وينتشر العِلم ويتفرَّغُ الناس لعبادةِ ربهم ومصالح دنياهم وتنبُت شجرةُ الهناء؛ لذا كانت دعوةُ إبراهيمَ الخليل عليه السلام: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ [إبراهيم:35-37]. فانظر كيف قدَّم الأمنَ على طلب الرزق؛ لأنه لا يهنَأ عيشٌ بلا أمان.
وقد امتنّ الله تعالى على عباده بالأمنِ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه، منها قوله سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26]. قال قتادةُ بن دِعامة السّدوسيّ رحمه الله في هذه الآية: "كان هذا الحيُّ من العرب أذلَّ الناس ذُلاًّ وأشقاهُ عيشًا وأجوَعَه بُطونًا وأعراه جُلودًا وأبيَنه ضلالاً، من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات منهم رُدِّي في النار، يُؤكَلون ولا يَأكلون، واللهِ لا نعلم قبيلاً من حاضِر أهل الأرض يومئذٍ كانوا أشرَّ منزلاً منهم، حتى جاءَ الله بالإسلام، فمكَّن به في البلاد، ووسَّع به في الرزق، وجعلهم به مُلوكًا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطَى الله ما رأيتُم، فاشكروا اللهَ على نعَمه، فإن ربَّكم منعمٌ يحبُّ الشكر، وأهلُ الشّكر في مزيدٍ من الله" انتهى كلامه رحمه الله[2].
أيّها المسلمون، ولا زالت هذه النِّعمةُ متواليةً من الله، وما انتُقِصت إلاّ حين انتقَصَ الناسُ من دينهم، فبدَّلوا وغيَّروا، وما ضاقت الأرزاقُ ووقعَت القلاقلُ والفِتن واستُضعِفَ المسلمون في أرجاء الأرض إلاَّ حين خَبطَ الشركُ والمعاصي في بعضِ نواحي بِلاد المسلمين، ولم تكُن جزيرةُ العرب بمنأًى عن ذلك، ففي عهدٍ قريب كانت مرتعًا للسَّلب والنّهب والقتل والخوف، حتى مَنَّ الله عليها بدعوةِ التوحيد واتّباع سنّةِ سيِّد المرسلين ، فعادت آمنةً مطئِنّةً، تُجبَى إليها الثمرات من كلِّ مكان، وتفجَّرت كنوزُ الأرض، وعَمَّ الخيرُ، حتى صارت مهوَى الأفئدةِ دينًا ودُنيا، وما ذاك والله إلا ببركةِ دعوةِ التوحيد واتِّباع السنةِ وطاعةِ الله ورسوله، فللّه الحمد كثيرًا، كما يُنعِم كثيرًا.
أيّها المؤمنون، إلاَّ أنه ليس بين الله وبينَ أحدٍ نسبٌ، فبِقدر الإيمان والتّقوى تكون النِّعَم والخيرات، نَعم الإيمانُ والتقوى بهما تُفتَح بركاتُ الأرض والسماء، بهما يتحقَّق الأمنُ والرخاء، وصدقَ الله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96].(25/1)
الأمنُ مربوطٌ بالإيمان، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]. أمّا إن بدَّل العِبادُ وغيَّروا فإنَّ سُنَن الله لا تحابي، وقد وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112].
إنّنا ولله الحمد لا زِلنا في خيرٍ من الله بديننا وفضلِ الله علينا، لكن النُّذُر الإلهية مذكِّرةٌ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. فحِفظُ النِّعم وتفادِي النِّقم لا يكون إلاّ بطاعةِ الله ورسوله، ومَن خالف جَرَت عليه سنَّةُ الله. وإنَّ ما يُصيب المسلمين اليومَ لهي نذُرٌ إلهيّة لئلاَّ ينسى الناسُ ربَّهم، ليعودَ الشارِد ويتنبَّه الغافِل ويستغفرَ المذنب.
إنّ المعاصيَ والذنوب سببٌ رئيس للخوفِ والقلَق والمصائِب والفِتن، قال الله تعالى محذِّرًا مِن مخالفةِ رسوله : فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. ولمَّا أمر الله تعالى بطاعته وطاعةِ رسوله في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ [الأنفال:20]، قال فيما بعد: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: (أمَر اللهُ المؤمنين أن لا يقِرُّوا المنكرَ بين أظهرهم، فيعمَّهم العذاب)[3]. ثمّ بعدها امتنَّ الله على المؤمنين بتذكيرهم بما كانوا عليه من خوفٍ ثم آمنهم في إشارةٍ إلى أنَّ مخالفةَ أمرِ الله ورسوله مُؤذِنة بالفتن والخوفِ وانعِدام الأمن: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ [الأنفال:26].
أيّها المسلمون، طاعةُ الله ورسولِه سبيلٌ للثّبات والنجاة من الأزَمات، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68].
إنَّ الأمّةَ اليومَ بحاجةٍ ماسّة إلى مراجعةِ نفسِها والعَودةِ إلى ربِّها وتركِ المنكراتِ والتعاوُن على البرّ والتقوى، خصوصًا في هذه الظروفِ الحرجة التي تسلَّط فيها الأعداء على الإسلام والمسلمين وديارهم.
إنَّ المفترَضَ في هذه الأزمات هو الفِرارُ إلى الله والتوبةُ النصوح والتنادِي بالرجوع إلى الله والالتجاء إليه والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر وإسكاتُ دعاةِ الرذيلة وعداة الصلاح. أمّا الغفلةُ والتمادي والنومُ عن المنادي وإقامةُ الحفلاتِ الماجنات والسَّفرات المشبوهات والإصرارُ على مخالفة أوامر الله فإنها مَجلَبةُ النقم مُزيلة النّعم، وتعظُم المصيبةُ إذا كانت الذنوب تُشهَر وتُعرَض ولا تُنكَر، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلُّ أمَّتي مُعافى إلاَّ المجاهرين))[4].
يجب علينا التمسُّكُ بالسّنة ولو تركها الناس، وأن نُغليَها ولو أرخصوها وندافعَ عنها ونصبرَ على الأذى في ذلك، فهذا سبيل النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصّالحين، وهذا هو طريق الأمنِ في الدّنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنّة سيِّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب: القناعة (4141) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (300)، والحميدي في مسنده (439)، قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2318).
[2] أخرجه الطبري في تفسيره (4/37، 9/220).
[3] أخرجه الطبري في تفسيره (13/474 ـ شاكر ـ) من طريق علي بن أبي طلحة عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6069)، صحيح مسلم: كتاب الزهد (2990).
الخطبة الثانية(25/2)
الحمدُ لله، يُحمَد بنعمته، وتُنال كرامتُه برحمتِه، وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
وبعد: أيَا عبدَ الله، حاسِب نفسَك قبلَ أن تحاسَب، ولا تنظُر إلى الهالِك كيفَ هلك، ولكن انظُر إلى الناجي كيف نجا، ولا تمتدَّ بك حبالُ الأمانِي والغرُور، فالعمُر قصير، والأجَل محدود، والناقِد بصير، وموقفُ العَرض على الله عَسير، إلاَّ على من يسَّره الله عليه، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
تأمَّل في مَطعَمك ومشربك، وانظر ماذا تَرى وتسمَع وتقول، وماذا تُسِرّ وتعلن, ولئن خَفِيت منك اليومَ خافية فهناك في أرض المحشَر يُكشَف الغطاءُ وتتكلَّم الجوارح، لقد جاءتك مِن ربِّك النذُر، فمن تذكَّر فإنما يتذكَّر لنفسه، وصدق الله: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70]. والتَّائبُ من الذنب كمن لا ذنبَ له، والله يعفو ويصفَح.
أيّها المسلمون، ووقفةٌ أخيرةٌ قبلَ الختام والتفاتَة يسيرةٌ إلى الأمنِ والأمان، فإذا كان الأمنُ من الله مِنَّة والاستقرارُ رحمةً ونعمة والرزق لهما تابِع وللنّاس فيهما منافِع، فكيف يكون جُرمُ من أخلَّ بهما وحمَلَ السلاح بينَ ظهراني المسلمين، وتربَّص بالشرّ الآمنين. لقد أنكَر النبيّ على من أخفى سُوطَ أخيهِ يريد ممازحتَه حمايةً لصاحب السَّوط أن يقلقَ أو يهتمّ أو يصيبه الغمّ، فأين العابثون بالأمنِ عن هذا الذَّوقِ النبويّ والإرشاد المحمَّديّ وهم قد حَمَلوا السلاحَ وحصدوا الأرواحَ وقد بانت معالمُ الرشادِ واتَّضح الحقُّ والصواب؟!
ألا فدعوةٌ لهم مِن منبرٍ دعَا عندَه إبراهيم الخليل عليه السلام ربَّه بالأمنِ لهذه الديار، دعوةٌ لهم أن يثيبوا لرُشدهم، وأبوابُ السماءِ لهم بالتَّوبة مفتوحة، ومِنَّة العفو في الأرض ممَّن له الأمر مَمَنوحَة، فلم يبقَ إلا عَزْمةٌ من عَزَماتِ الإيمان يقهَرون بها تردُّد نفوسِهم وتأخُّر خطواتهم، يلمُّ بها الشملَ ويغيظ بها الأعادي، عسى أن يحمَدوا العاقبةَ بعدها.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة محمَّد بن عبد الله.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله الطاهرين وصحابته الميامين وأزواجه أمَّهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشّرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين...(25/3)
آثار المعاصي
يقول الله تعالى: ((ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عمِلوا لعلّهم يرجعون))
أخوة الإسلام لو تسنىّ لواحدٍ منا أن يطرح سؤالاً على كلّ فردٍ من أفراد الأمة الإسلامية (هل أنت فرحٌ مسرور في هذه الدنيا ؟؟) سواء كان المسؤول غنياً أو فقيراً رجلاً أو امرأة حاكماً أو محكوماً شاباً أو شيّباً ، حتماً لكان الجواب بالنفي على لسان كلّ مسؤول ؛ و السؤال الذي نطرحه بدورنا لماذا هذا النفي للسرور و الفرحة لأفراد الأمة الإسلامية ؟! و لماذا هذا الضنك و التعب و البؤس الذي يعيشه كثير من المسلمين ؟! إنها المعاصي عباد الله ، و إنه البعد عن الله سبحانه و تعالى ، و كيف لا يكون ذلك و الله سبحانه و تعالى يقول ((و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)) .
عباد الله ... قد يقول قائلٌ إن عزْوَ الضنك و الشقاء في الدنيا للإعراض عن الله و للمعاصي فيه شيء من المبالغة ، و لكن حقيقة إخواني في الله لو تتبّعنا الأسباب التي أدّت إلى شقاء الأمة على مستوى الأفراد و الجماعات و الدول لوجدنا مردّها جميعاً إلى هذه المعاصي و إلى هذا البعد عن منهج الله تعالى فإن شقاء الأمة الإسلامية إنما يعود لهوانها على عدوّها و ظهور أعدائها عليها و هذا الأمر إخواني في الله بحدّ ذاته إنما هو سبب حتميّ لبعد الأمة عن الجهاد في سبيل الله و هذه أوّل معصية و أهمّ معصية ترتكبها الأمة بتركها ذروة سنام الإسلام و أعلى شيء في هذا الدين ..
و من هنا قال صلى الله عليه و سلم معلماً و منبّهاً لنا ((إذا تبايعتم بالعينة و أخذتم أذناب البقر و رضيتم بالزرع و تركتم الجهاد في سبيل الله سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) ، و أيّ ذلّ أخوة الإيمان في هذه الأمة وصلت إليه بترك الجهاد أكثر من أن يعرِض العدو للأمة حلولاً حول مقدّساتها و أوقات عبادتها و إدارة مساجدها كما يكثر الحديث في هذه الأيام حول طرح موضوع القدس للتّقسيم و لإشراف أعدائنا عليها ، و الفكرة المطروحة من بنات أفكار عدوّنا و المضحك المبكي عباد الله أننا راضون مستسلمون لهذه المصيبة و يرفضها عدوّنا الذي طرحها .
أخوة الإسلام ... إن طرح القدس للتدويل و ليس كلّ القدس و إنما جزء محدود منها و إشراف أعدائنا عليها إنما هو خديعة كبرى و خيانة عظمى ، هذه القدس التي هي أرض وقف إسلامية لا يجوز لأيّ أحد و بأي صفة التنازل عن ذرة تراب واحدة منها وقفها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه – و أشهد على ذلك جيلاً من الصحابة و وضعها أمانة في أعناق الأمة الإسلامية و اشترط لنا ألاّ يسكن فيها أحد من المجرِمين اليهود ، هذا الأمر إن نسيَه البعض أو تناساه فلا بدّ لباقي الأمة أن تبقى متيقّظة لكي لا تصحو يوماً و أولى قبلتها يهدم و ثالث مساجدها يُباد عن الوجود و عندها لن ينفع الندم ، فالمؤامرة اليهودية الصليبية حول القدس إخواني جدّ عظيمة فما تقولون بمطاردة كلّ من يتابع أمور القدس و اعتقالهم و تلفيق التهم إليهم بمسميات عدة و ما ذلك إلا لأن هذه الثلة المؤمنة تزعِج هؤلاء المجرمين .
عباد الله إن ترك الجهاد في سبيل الله يعدّ من أعظم المعاصي لأن أثره ينعكس على الأمة كلها لا على فردٍ دون غيره ، و ترك الجهاد يجعل الأعداء يتجرّأون على الأمة بأسرها كما نرى في أيامنا هذه لا يأبهون لصغيرٍ أو كبير ما دام هذا المصطلح محذوفاً من ذاكرة الأمة بفعل أعدائها و تواطئ عملائها.
أخوة الإسلام ... إن المقياس الوحيد على مرّ العصور الذي تقاس به الأمة الإسلامية عزيزة أم أنها ذليلة إنما هو القدس فمتى كانت القدس في أيدي المسلمين فاعلم أن الغلبة و العزة في ذلك الزمان للمؤمنين و متى كانت القدس أسيرة و مغتصبة في أيدي أعدائنا فهو الدليل على ذلّ الأمة لأعدائها .
عباد الله ... إن المعاصي التي يقترِفها الناس في حياتهم اليومية صغيرة كانت أم كبيرة إنما تؤثر على مجموع المسلمين في جميع شؤون حياتهم حتى على مستوى تلقّي المصائب ، يقول الله تعالى : ((و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير)) فإن الفرد الذي تتوالى عليه المصائب عليه أن ينظر إلى معاصيه و إلى كسب يديه و ليراجع نفسه ثم لينظر ، فإن آب و رجع فإن الله سبحانه يرفع عنه البلاء الذي أصابه و إلا فإن الله يمهِله ثم تأتيه المصيبة التي لا يقوم معها و هذا مصداقٌ لقول الله تعالى : ((فكلاًّ أخذنا بذنبه)) ..(26/1)
أيها المسلمون ... إن انتشار المصائب المرضيّة من المعاصي كالزنى و الربا و التبرج و السفور و شرب الخمور إنما هو مما يعجّل بهلاك الأمة دون أن ينظر الله إليها نظرة رحمة ، فعن أم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليها و سلم دخل عليها فزعاً يقول : ((لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج و مأجوج مثل هذه - و حلق بإصبعيه الإبهام و التي تليها - .. فقلت يا رسول الله أنهْلَك و فينا الصالحون ؟ قال صلى الله عليه و سلم : نعم إذا كثر الخبث)) و ما أكثر الخبث و المعاصي في أيامنا هذه .
عباد الله ... إن من المعاصي التي تنتشر في الأمة في هذه الأيام ما كان الواحدة منها سبباً لهلاك الآمة ، فلو نظرنا إلى الأمم السابقة و تتبّعنا أخبارها لوجدنا معصية واحدة من معاصينا إذا تفشّت في أمة ممن سبقوا أهلكتهم لوحدها ... فهؤلاء قوم لوطٍ أُخِذوا بمعصية واحدة .. و هؤلاء قومٌ شعيب أُخذوا بتطفيف الميزان و غيرهم .. و غيرهم .
و لكن رحمة الله تعالى بهذه الأمة و استجابة لطلب النبي صلى الله عليه و سلم أن يؤجّل لهذه الأمة حسابها إلى يوم القيامة غير أن هذا لا يعفي الناس من الالتزام بشرع الله تعالى لأنهم إذا ازدادوا في معاصيهم فإن الله يبدلهم بغيرهم كما قال الله تعالى : ((و إن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)) .. و كما قال تعالى : ((و ما أصابك من سيئة فمن نفسك)) .. فالحذر الحذر عباد الله من المعاصي فإن الله تعالى أعلن الحرب على آكلي الربا فقال : ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقيَ من الربا إن كنتم مؤمنين ، فإن لم تفعلوا فاأذَنوا بحربٍ من الله و رسوله)) فكم من آكلي الربا بيننا لا ينتهون و لا يعتبرون و هذا النبي صلى الله عليه و سلم يقول : ((ما ظهرت الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأمراض التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) فكم من الأمراض ظهرت فينا بمعاصينا.
أخوة الإيمان .. إن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقود جيشاً فيه أبو بكر الذي يعادِل إيمانه إيمان أمة ، و فيه عمر الذي لو كان نبياً بعد الحبيب صلى الله عليه و سلم لكان هو ، و فيه عثمان الذي تستحي منه الملائكة ، و فيه عليّ أول فدائي افتدى النبي صلى الله عليه و سلم بروحه و ابن عمه و زوج ابنته .. و مع ذلك كلّه و بمعصية واحدة في غزوة أحد انقلب نصر المؤمنين هزيمة لأن سنن الله تعالى لا تتبدّل ، فكيف بنا نحن فينا ما فينا من المعاصي ثم ننشد الله نصراً على أعدائنا .. فيا ليت قومي يفقهون ..
و هذا النبي صلى الله عليه و سلم يقول : ((إذا ظهر الزنى و الربا في قومٍ فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله)) و لن يشفع للصالحين صلاحهم إذا نزل بأس الله تعالى و هذا كما أخبر الله تعالى في كتابه ((و اتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة)) ..
و هكذا أخبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ((إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض ، و إن كان فيهم قوم صالحون ، يصيبهم ما أصاب الناس ثم يرجعون إلى رحمة الله و مغفرته)) ..
أمة الإسلام ... لا يفعلنّ أحدنا كما تفعل النعامة تضع رأسها في التراب و تغفَل ما حولها ، بل لا بدّ لكلّ واحدٍ منا أن يقوم بواجبه بإصلاح نفسه و من يعول بداية ثم ينطلق في مجتمعه آمراً بالمعروف و ناهياً عن المنكر و إلا حقّ عذاب الله و لعنته على من ترك ذلك كما حق على بني إسرائيل فقال تعالى : ((لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى بن مريم ذلك بما عصَوا و كانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه ، لبئس ما كانوا يفعلون)) ... فلنرجع إلى بيوتنا أخوة الإسلام و لننظر فيها من يصلّي و من لا يصلّي ، و من يخفق قلبه على المجاهدين و على آلام المؤمنين و من يخفق قلبه على المطربين و الممثلين و على الكرة و غيرها ، و لننظر لأعراضنا و بناتنا هل هنّ من الضالات المضلات الفاتنات لعباد الله بخروجهن كاسيات عاريات سافرات متبرجات أم أنهن من العفيفات المؤمنات على درب أمهات المؤمنين عليهن رضوان الله .(26/2)
أخوة الإسلام ... إن الخروج من حالة الشقاء و التعب للأفراد و الدول إنما هو بالعودة إلى شرع الله قولاً و فعلاً و بالمزاوجة بين عبادتنا و حياتنا دونما فصلٍ أو تفريق ، و بهذا تكسب الأمة الخيرية التي وصفها الله بها فقال : ((كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله)) ... فليقم كلّ واحدٍ منا بواجبه و ليزيل الحجة عن نفسه أمام الله تعالى و قد أخبر بذلك جلّ جلاله فقال : ((و إذْ قالت أمة منهم لم تعِظون قوماً الله مهلِكُهم أو معذّبهم عذاباً شديداً ، قالوا معذرة إلى ربكم و لعلهم يتّقون)) .. فالقيام بالواجب معذِرة إلى الله تعالى و لا نغْترّ بكثرة الفاجرين لأن الله تعالى جعل كثرتهم سنة في الحياة فقال تعالى ((قل لا يستوي الخبيث و الطيب و لو أعجبك كثرة الخبيث)) ، فليست الكثرة دائماً هي على الحق بل إن الله تعالى قال في كتابه ((و ما أكثر الناس و لو حرصت بمؤمنين))، و قال جلّ جلاله : ((و إن تطِعْ أكثرَ من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله)) ..
فيا أيها المسلمون ... العودة الحميدة إلى شرع الله هي خلاصنا و عندها فقط ندعو الله بقلوب مؤمنة فيستجاب لنا لأن الرحمات إنما تتنزّل بارتفاع الصالحات من الأرض و إلا فيكون مصيرنا كما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ((و الذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف و لتنهوُنّ عن المنكر أو ليوشِكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم)) .. و قال عليه الصلاة و السلام : ((إن الناس إذا رأَوْا المنكر و لا يغيّرونه ، أوشك أن يعمّهم الله بعقابٍ منه)) و أيّ عقاب أكثر من اعتلاء أحطّ خلق الله من إخوان القردة و الخنازير من اليهود على الأمة الإسلامية يحكُمون و يتحكّمون بها و بحالها و مالها ، حتى أصبح المسلمون مثالاً للهوان تضرِبه باقي الملل .
و اعلموا عباد الله أن كلّ معصية تترك في القلب نكتة سوداء و أثراً مظلِماً حتى يصبح القلب مغلّفاً بطبقة من المعاصي لا يحلّ حلالاً و لا يحرّم حراماً و كل ذلك بكسب العباد و بفعل المعاصي و هذا مصداقاً لقوله تعالى : ((كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)) لذلك وجب علينا الحذر من معاصينا أشدّ الحذر و الله المستعان على ذلك .
فاللهم ردّنا إلى دينك رداً جميلاً و ارفع عنا برحمةٍ منك ما نعيش من ذلّ و هوان إنك على كلّ شيء قدير و بالإجابة جدير ...(26/3)
آخر حوار مع خبير مقارنة الأديان اللواء أحمد عبد الوهاب
حتى بعد تحريف الكتاب المقدس نستطيع إقامة الحجة على القوم بما في أيديهم من أسفار
- بعد مرور 2000 سنة لم يتفق النصارى على كتابهم المقدس.
- الكنيسة أحرقت 'وليام تندر' لأنه قدم أول ترجمة للكتاب المقدس يفهمها الشعب الإنجليزي.
- الإسلام قام على تحرير العقل وقامت الكنيسة على قمعه.
- بينما اهتم الإسلام كثيرا باليتيم لم يذكره الإنجيل وذكرته التوراة مرة واحدة.
- وثائق الفاتيكان تؤكد أن الحوار مع المسلمين هدفه إدخال المفاهيم المسيحية إليهم بمصطلحات جديدة.
- النصارى يصلون ليأتي ملكوت السماوات وقد جاء وهو سيدنا محمد.
- كل نبوءات الكتاب المقدس باطلة بينما خلت الإشارات العلمية في القرآن من أي اضطراب.
- كاتب فرنسي يؤكد أن الإسلام به 70 محرما واليهودية بها 365 محرما .
حاورته/ د. ليلى بيومي
مفكرة الإسلام : اللواء مهندس أحمد عبد الوهاب بالإضافة إلى نبوغه كمهندس في الجيش المصري مما رشحه ليكون خبيراً لدى الأمم المتحدة إلا أنه من القلائل البارزين في مصر والعالم العربي بل والعالم الإسلامي في مجال مقارنة الأديان، وقد بدأ اهتمامه بهذا الموضوع الدقيق منذ أكثر من أربعين عاما أضاف فيها للمكتبة الإسلامية كتبا يعتبرها الباحثون في هذا التخصص من المراجع الأساسية. وأهم ما تتميز به مؤلفاته هو استيعابها الكامل لأحدث الدراسات الغربية عن الكتب المقدسة.. ولعل ما ساعد ضيفنا على ذلك هو تمكنه من اللغات الإنجليزية والفرنسية والأسبانية وكتب بهذه اللغات عدة كتب ودراسات. واللواء مهندس أحمد عبد الوهاب كان مشاركاً أساسياً في معظم اللقاءات والمؤتمرات الدولية التي تناقش العلاقة والحوار بين الأديان، وقد فقدته الأمة مؤخراً، ولكن شاء الله أن يكون لنا معه هذا الحوار النادر.
* ما هي موضوعات علم مقارنة الأديان؟ وما هي أدوات الباحث فيه؟ وكيف نضمن حياد هذا الباحث وعدم تأثره بعقيدته؟
** هذا العلم قديم جدا وفي القرآن أساسيات له ، وقد اشتغل بهذا العلم علماء كثيرون ،ولهذا العلم أدواته وهي أن تحيط علما بالموضوعين أو الموضوعات التي سوف تجري هذه المقارنة بينها ، سواء كانت أديان أو فلسفات أو أفكار دينية ،على أن يكون تلقي المعلومات من مصادرها الأصلية وليس نقلا عن آخرين لأن هناك من نقلوا أشياء وضللوا فيها تحت مسمى الاستشراق والعلم وكانوا يكذبون في نقل النصوص ويحرفونها. وهكذا فلا بد من قراءة النص الأساسي ثم نخضعه للنقاش وللتمحيص العلمي ثم نصنف هذه النصوص ونقيم بينها وبين النصوص الدينية الأخرى موازنات بناء على القواعد العلمية والمنطقية ، ولكي تكون هناك مقارنة فيجب أن تكون بين موضوعات متماثلة. يعني مثلا نقول موضوع الإله ثم نقارن بين اليهودية والمسيحية والإسلام في هذا الموضوع.. فلا يصح مثلا أن ندخل البوذية في هذه المقارنة حيث أنها ليس فيها موضوع الإله لأن البوذية عبارة عن فلسفة وليست ديناً ، وبوذا حينما سألوه عن الإله قال دعونا نحل مشاكلنا على الأرض لأن الآلام والشرور على الأرض وليس عندنا وقت لنتحدث عن السماء ، والغريب أن الأمور تطورت بعد ذلك حتى عبد الناس بوذا وصنعوا له التماثيل . وفي العصر الحديث أصبحت أدوات علم مقارنة الأديان غنية جدا حيث تحرر إلى حد كبير أغلب القادة والباحثين العلميين في الغرب في نقد ما ليدهم من تراث ديني وأخرجوا لنا كثيرا من الأمور التي كانت مكتومة. ومن آن لآخر تظهر تراجم حديثة لما يسمى بالكتاب المقدس وهو عبارة عن العهد القديم [التوراة] والعهد الجديد [الإنجيل]. واليهود يؤمنون بالعهد القديم فقط ولا يعترفون بالمسيح ولا أسفاره. والخطوط الرئيسية إلى الآن أن المسيحيين منقسمون بالنسبة إلى أسفار العهد القديم فالكاثوليك يعتبرونهم 46 سفراً والبروتستانت يجعلونهم 39 سفرا وينكرون سبعة أسعار، وهكذا فبعد مرور ما يقرب من 2000 سنة بعد المسيح لم يتفق المسيحيون إلى الآن على كتابهم المقدس.
* ... طالما أن علماء الغرب بدءوا ينتقدون تراثهم الديني ويناقشونه بمفهوم علمي.. فهل يفعلون ذلك سعيا وراء الحقيقة ؟ وهل ينصفون الإسلام حينما يتعاملون معه بمعايير علمية حيادية؟
** النقطة الأساسية الهامة هي أن العلماء في الغرب بدءوا يتحررون من سلطان الخوف الذي فرضته عليهم الكنيسة عبر القرون ، لقد فرضت الكنسية عليهم إرهابا فكريا والتاريخ شاهد على ذلك وسجل ما فعلته الكنيسة مع علماء الكونيات ومع علماء الفكر.
...(27/1)
... ويكفي أن نقرأ في مقدمة الطبعة الجديدة للكتاب المقدس بالإنجليزية والتي اشترك فيها 32 عالما وأسموها 'الترجمة القياسية المراجعة' قالوا أن أول ترجمة للكتاب المقدس يفهمها الشعب الإنجليزي قام بها 'وليام تندر' ونتيجة لذلك أحرقته الكنيسة على الخازوق وقالت أنه دمر قداسة الكتاب.. إنهم فعلوا ذلك لأنهم اعتقدوا أن الكنيسة فقط هي صاحبة الحق في فهم الكتاب المقدس وفي تفهيمه للناس، لكن أي إنسان آخر لا يمكن أن يسمح له بأعمال عقله في هذا الموضوع. ولنا أن نقارن بين موقف الإسلام من هذه القضية وموقف الكنيسة، إن الإسلام قام على تحرير الفكر أما الكنيسة فقامت على قمع الفكر. ويكفي أن القرآن سمح بمناقشة أية قضية بشرط تقديم البرهان حتى في أعقد قضية وهي قضية الإلوهية فقال {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [117] سورة المؤمنون , وقال أيضا { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [111] سورة البقرة .
وعلماء الغرب أنصفوا الإسلام بقدر ، فالذي يقرأ كتب موريس بوكاي الطبيب الفرنسي الذي يعمل في حقل مقارنة الأديان مستخدما الجوانب العلمية الحديثة في نقده ، يعرف إلى أي مدى أظهر عورات كبيرة في التوراة والإنجيل ومخالفتهما الصريحة للعلم الحديث وأثبت التواؤم والاتفاق بين القرآن والعلم.
لقد خاطب فولتير رجال الدين في فرنسا قائلاً ' أيها الأغبياء أخطأ الذين أفهموكم أن دين محمد دين شهوات ، من قال هذا؟ إنه دين يفرض على أتباعه أن يصوموا في الصيف القاسي 18 ساعة متصلة ، ويفرض على من كان عنده أكثر من عشرين امرأة أن يبقى منهم على أربعة فقط ، إنه دين يفرض على أتباعه أن يدفعوا جزءا من مالهم للزكاة.. الخ'. لقد لفت نظري في المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي عقد في أسبانيا عام 1975 وكان موضوعه تكريم النبي محمد نبي المسلمين ، فالمسيحيون قالوا نريد تكريم إخواننا المسلمين لأن الإسلام قريب منا وفيه مجموعة من القيم الرائعة ، فكيف نكرم المسلمين ولا نكرم نبي الإسلام؟
... وكانت الكلمة الافتتاحية في المؤتمر للمطران ترانكون كاردينال أسبانيا وقال فيها 'إن النبي محمد كان اهتمامه الدائم توحيد الله ثم إقامة العدالة الاجتماعية وهذه هي أساسيات دينه التي كرس نفسه لها ، وكان اهتمامه كثيرا باليتيم'. ولفت نظري تركيز هذا المطران على حكاية اليتيم ، فجئت وبحثت بحثا مستفيضا في التوراة والأناجيل عن اليتيم .. في التوراة وجدت 'أبو الأرامل واليتامي الله' ثم جملة أخرى ، وفي الأناجيل لم أعثر على كلمة يتيم على الإطلاق ، أما في الإسلام فالتنويع والتكرار والتأكيد على اليتيم يعلمه القاصي والداني والصغير والكبير.
* هل لنا أن نتعرف على الفرق بين مقارنة الأديان والحوار بين الأديان؟ وهل يستطيع الحوار بين الأديان أن يزيل التميز العقائدي لكل دين؟(27/2)
** أولا نقول إن مقارنة الأديان عمل علمي بحت ، أما الحوار بين الأديان فيغلب عليه النزعة السياسية والإعلامية ، وثانيا فإن موضوع الحوار بين الأديان قضية تلاك خصوصا في السنوات الأخيرة وتتزعمها الكنيسة الكاثوليكية ، ونحن كمسلمين نرحب تماما بالحوار ونستطيع أن نجري الحوار علنا في أكبر ميادين العالم إذا أرادوا لأننا متأكدون أننا سوف نظهر الحق . لكن الذي نعلمه من وثائق منشورة صدرت عن المجامع المسيحية خاصة مجمع الفاتيكان الثاني وغيره أن الحوار المقصود عندهم إنما هو استدراج للمسلمين بالذات لإدخال المفاهيم المسيحية في عقائدهم فوثائق مجمع الفاتيكان الثاني اجتمع في الفترة من 1962-1965 موجودة وتقول أن المطلوب هو حوار لتفهيم المسلمين ماذا تعني المسيحية؟ أي إدخال المسيحية بمفاهيم ومصطلحات جديدة لا تثير خوف المسلمين. فمثلاً يقولون عندما نتحدث عن [ابن الله] فيجب ألا نقول للمسلمين أن المقصود هو بنوة بين الأب والابن ولكن قولوا لهم إن المقصود هو تفاهم روحي ونبوة روحية ، وباختصار شديد فإن الحوار المطلوب إنما هو عملية خداع ، إننا نسمعهم يقولون لا نتحاور في العقائد ولكن نتحاور في المشترك الذي بيننا.. نعم نحن لدينا أمور مشتركة متعلقة بالأخلاق والسلوك واحترام الأنبياء ، لكن في عام 1988 وهو العام الذي خرجت فيه رواية سلمان رشدي الشيطانية كان هو العام الذي شهد عرض فيلم 'التجربة الأخيرة للمسيح' وهذه الرواية كتبها كنزاكس اليوناني عام 1955 وحرمته الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية وسافر إلى أمريكا ، وظلت الرواية راكدة حتى تحولت إلى فيلم في العام الذي ظهرت فيه رواية سلمان رشدي. إذاً هناك أيدي خفية ترتب للهجوم على محمد والمسيح.. ومعروف من تكون هذه الأيدي التي تريد تدمير الاثنين.. لكن القوم في الغرب في سكرة وعداؤهم الموروث للإسلام يعميهم عما حدث ويحدث للمسيح. إن بداية 'التجربة الأخيرة للمسيح' أساءت للمسيح إساءة بالغة فجعلته خائنا وزانيا ويشك في نفسه ولا يدري ما هي رسالته ، وتصف الرواية المسيح بأنه كان يسير فوجد بيتا عليه علامة الدعارة فدخل وإذا بمريم المجدلية تمارس الدعارة فارتكب معها الخطيئة ثم تزوجها وأنجب منها.. الخ.
* ما هي المسائل الخلافية الرئيسية بين اليهود والنصارى والمسلمين؟
** اليهود ينكرون المسيح ومحمد ، والنصارى ينكرون نبوة محمد وبالتالي ينكرون كل ما جاء به ويعتبرونه زيفاً ، فاليهود يصلون حتى يأتيهم المسيح لينقذهم. فلما جاء هم المسيح لم يؤمنوا به فالقصة إذاً متكررة. إن المسيحيين يصلون ليأتي ملكوت الله.. وملكوت الله جاء وهو محمد الذي علم الناس الإسلام.
...
ففي آخر لقاء عاصف بين المسيح والجماعة الإسرائيلية أخذ المسيح كما هو واضح في الأناجيل يوبخهم ويقول لهم 'ويل لكم أيها الكتبة الفريسيون أيها المنافقون أنتم من الخارج كقبور مبيضة ومن الداخل عظام نخرة ودعارة.. أقول لكم ملكوت الله ينزع منكم ويعطي لأمة تعمل أثماره'. هذه فقرة خطيرة ونبوءة بالإسلام. وما هو الملكوت الذي كان في بني إسرائيل؟ لم يكن فيهم ملك ولا سلطان.. إذا كان الملك كان في داود وسليمان فكان مؤقتا بفترة مقدارها عشرات السنين ثم ضربوا بعد ذلك.. وقضى الآشوريون على الأسباط العشرة منهم وضاعوا في إمبراطوريتهم وصاروا يعرفون في التاريخ اليهودي بالأسباط العشرة المفقودين ، ولم يبق منهم إلا السبطين الضعاف [يهودا وبنيامين]. ومنذ ذلك الوقت أي عام 586 قبل الميلاد صاروا يعرفون باسم اليهود بعد أن غلبت يهوذا بنيامين.
إذاً ملكوت الله الذي كان فيهم هو النبوة والرسالة التي نزعت منهم وجاء بها محمد إلى العرب.
وفي سفر التثنية وهو الكتاب الخامس والأخير من كتب سيدنا موسى الفصل 18 العبارة 18 يقول لهم 'أقيم لهم نبيا مثلك من بين إخوتهم' فهذه بشارة من الله تعالى أنه سيقيم لبني إسرائيل نبيا مثل موسى من بين إخوتهم ولم يقل من وسطهم ، رغم أن إحدى التراجم الإنجليزية الحديثة حذفت 'من بين إخوتهم' وقالت 'من وسطهم' وهذا يوضح مدى التحريف الذي أصاب الكتب السابقة ، والأخوة هنا أبناء العمومة وهناك نصوص كثيرة في الكتاب المقدس تقول ذلك، وبمقارنة عامة بين موسى وعيس ومحمد نرى من الذي سيكون مثل موسى ، هل هو عيسى أم محمد؟
...
نجد أن كلا من موسى ومحمد ولد ولادة طبيعية بخلاف عيسى ، وكل منهما مات ميتة طبيعية أما عيسى فهو في عقيدتنا رفع ، ووفق عقيدتهم صلب ، وموسى ومحمد جاء كل واحد منهما بشريعة وطبقت في عهدهما والمسيح ليس له شريعة ولكنه حرص على توراة موسى وشريعتها ووضع تعاليم أخلاقية ، وموسى ومحمد قادا أتباعهما في الحرب وحاربا الوثنيين وقتلوهم وهدموا أصنامهم ، أما عيسى فلم يفعل ذلك ولم يكن محارباً ، وموسى ومحمد كلاهما تزوج وأنجب بنين وبنات أما المسيح فبزعمهم لم يتزوج ، إذا 'مثلك' تنطبق على محمد ولا تنطبق على عيسى.
...(27/3)
وهناك نبوءة أخرى في سفر أشعياء إصحاح 42 تنطبق تمام على سيدنا محمد وتقول 'هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم لا يكل ولا ينكسر حتى يصنع الحق للأرض'.
...
وبزعمهم فإن رسالة المسيح لم تكمل العامين لكن سيدنا محمد استمر حتى اكتملت الشريعة وطبقها وحارب وانتصر وقضى على الوثنية. والنبوءة تشير إلى أنه سيكون من ولد إسماعيل 'لتبقى على البرية ومدنها الديار التي سكنها قيدار، وقيدار حسب التوراة أحد أبناء إسماعيل الاثنى عشر.
وحجة أخرى بالغة في الفصل الأول من إنجيل يوحنا 'أرسل اليهود والكهنة واللاويين ليسألوه لما ظهر يوحنا المعمدان سألوه إيلي أنت؟ قال لهم لا ، قالوا المسيح أنت؟ قال لهم لا، قالوا النبي أنت ؟ قال لا أنا صوت صارخ في البرية'.. إذا فاليهود كانوا ينتظرون ثلاثة عندما جاء يحيى بن زكريا ، الأول يأتيهم في صورة إيليا والثاني يأتيهم المسيح والثالث يأتيهم النبي. والنبي جاءت في الإنجيل معرفة وليست نكرة ،والمسيحيون والمسلمون مجمعون أن يوحنا المعمدان أو يحيى بن زكريا جاء وأن المسيح هو الآخر جاء ولم يبق إلا النبي.
* يقول البعض إن الإسلام دين ملئ بالمحرمات والقيود التي تكبل الإنسان.. فهل الإسلام مقارنة بالأديان الأخرى تنطبق عليه هذه المقولة؟
** لقد كنت في فرنسا منذ فترة ووجدت كتابا بالفرنسية عنوانه ' يا إلهي لم كل هذه المحرمات' كتبه عالم فرنسي وقارن فيه بين المحرمات في الأديان ، واستعان بجداول ورسوم توضيحية ، واثبت فيه أن اليهودية بها أكثر من 365 محرما ، والإسلام به 70 محرما فقط ، ولم يذكر الكتاب المحرمات في المسيحية لأن المسيحية ملتزمة أساسا بالشريعة اليهودية فالمسيح قال 'كل ما قالت لكم توراة موسى افعلوه ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون'. فعلماء الغرب أنفسهم هم الذين كفونا مؤنة الرد على مثل هذه النوعية من الأسئلة.. فسبعين محرما في الإسلام تعتبر أقل من 1/5 المحرمات في اليهودية.. أبعد ذلك يأتي من يتحدث عن أن الإسلام به قيود كثيرة ومحرمات؟!
* العداء قديم ومعروف بين اليهود والمسيحيين، فاليهود متهمون بقتل المسيح، لكن فجأة يصدر أحد المجامع المسيحية المقدسة مرسوما بتبرئة اليهود من دم المسيح، ما هي خلفيات هذا المرسوم؟ وهل فعلا انتهى العداء بين الاثنين؟
** هذا العداء تقليدي وتأتي جذوره من الأناجيل حيث اتهم اليهود بمعاداة المسيح وصلبه فصارت هذه لعنة تطارد اليهود عبر التاريخ ولو تتبعنا ما فعله المسيحيون باليهود من وجهة النظر الدينية وبإذن السلطات الدينية المسئولة نجد الآتي:
...
في عام 537 أصدر جستيان مرسوما بحرمان اليهود من الحقوق المدنية وحرية العبادة . وفي عام 613 يجبر ملك القوط الغربيين اليهود في أسبانيا على اعتناق المسيحية. وفي عام 629 إجبار اليهود على التعميد وطردهم من فرنسا. وفي عام 694 تم تحويل جميع اليهود في أسبانيا وفلورانس إلى عبيد. وفي عام 1096 مذابح للطوائف اليهودية في أوروبا . وفي عام 1099 طرد اليهود المقيمين في أورشليم بعد سقوطها على يد الصليبيين. وفي عام 1113 أول مذبحة لليهود في كييف [روسيا].
... وفي عام 1553 البابا يحرق التلمود في روما. وفي عام 1556 مذابح اليهود في أوكرانيا وألمانيا وبولندا والنمسا. وفي عام 1670 طرد اليهود من فيينا . وفي عام 1740 طرد اليهود من براغ. وفي عام 1827 القيصر نيقولا الأول يأمر بتحويل أطفال اليهود إجباريا إلى المسيحية.
... وفي عام 1891 طرد اليهود من موسكو. وفي عام 1936 – 1940 سن تشريعات معاداة السامية في رومانيا وإيطاليا والنمسا. وفي عام 1939 – 1945 مذابح اليهود في الحرب العالمية الثانية.
... هذا هو التاريخ الأسود للمسيحيين في أوروبا مع اليهود.. هؤلاء اليهود الذين لم يجدوا صدرا حنونا إلا في الإسلام ولم يحاربوا في صدر الإسلام إلا بعد أن خانوا ونقضوا العهد، وحتى أوروبا المسيحية لما أقامت لليهود وطنهم القومي في فلسطين إنما أرادت أن تتخلص منهم بعد الحرب العالمية الثانية ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ليكونوا مصدر قلاقل واضطرابات للعدو التقليدي وهو الإسلام والمسلمين.
... أما تبرئة اليهود من دم المسيح فقد أحدثت هزة عقائدية وعارضها نصارى مصر وقالوا إن هذا خطأ لأن معناه أننا نعلم الناس الإنجيل خطأ على مدى ألفي سنة.
* هناك الآن تحالف بين الصهيونية والأصولية الإنجيلية على أساس ضرورة قيام دولة إسرائيل قبل المجيء الثاني للمسيح ، فهل نستطيع أن نقول إن اليهود نجحوا في اختراق الكنيسة الإنجيلية وتطويعها لأفكارهم؟(27/4)
... ** نعم تم هذا بوسائل مختلفة، واستخدم اليهود في ذلك المال والجنس مع رجال الكنيسة، ولقد سمعنا مؤخرا فضيحة د. رمزي كبير الأساقفة السابق في إنجلترا الذي قالت سيدة عنه أنه كان يعاشرها وأنجب منها ولداً يبلغ الآن مرحلة الشباب ، وقد هاجمته الصحافة هناك بشدة ، فهذا يبين الخراب الداخلي ، فرجال الكنيسة حاولوا الخروج على الطبيعة التي أرادها الله فحرموا الزواج على أنفسهم وفرضوا التبتل والرهبنة وهذه أشياء مخالفة للناموس.
...
... واليهود ضحكوا على رجال الكنيسة بكل ذلك بالإضافة إلى الرؤى والتفسيرات الخاطئة ، كما ضحكوا على كثير من الساسة ودفعوهم إلى الإيمان بالتفسيرات النبوئية الخاصة باليهود فيزعمون أنه لكي يعود المسيح فلا بد أن تقوم إسرائيل ، وهذا الكلام ليس له أساس في كتبهم ولكنها خرافات ، وحتى لو صحت فإنها تحتمل وجهين بل أكثر من ذلك.
...
... ومن أمثلة هذه النبوءات ما قاله المسيح لتلاميذه 'اذهبوا وبشروا في مدن إسرائيل وحينما تذهبون قولوا اقترب ملكوت السماوات، والحق أقول لكم قبل أن تكملوا مدن إسرائيل يأتي ابن الإنسان'.. لكن التلاميذ ذهبوا وأكملوا تبشيرهم في كل مدن إسرائيل ولم يأتي ابن الإنسان والمقصود به عندهم هو المسيح نفسه ، لأن علامات المجيء الثاني كما في الإنجيل أنه سيحدث زلزال كوني ' النجوم تسقط من السماء ، وقوة السماء تتزعزع ، وتبصرون ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير'.
فهذه النبوءة باطلة ولم تحدث.. لأن التلاميذ ذهبوا وأكملوا وماتوا ولم يأت المسيح. ونبوءة أخرى قالها المسيح وهي 'أقول لكم من القيام قوم لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان قادماً في ملكوته'. من القيام أي من الناس الموجودين أمامي، وطبعا ذهب المسيح ومات كل الذين كانوا أمامه وذريتهم ولم يروا ابن الإنسان، فهذه نبوءة أخرى باطلة. ونبوءة ثالثة تقول إنه بينما كان المسيح على جبل الزيتون ومعه بطرس والتلاميذ سألوه قائلين 'يا معلم قل لنا متى يحدث هذا وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر قال لهم.. الشمس تظلم والقمر لا يعطي ضوءه وقوة السماء تتزعزع والنجوم تقسط من السماء وتبصرون ابن الإنسان آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير ، أقول لكم قبل أن يمضي هذا الجيل يكون هذا كله' وطبعا الجيل انقضى وانقضت بعده أجيال كثيرة ولم يحدث شئ من هذا كله.
أما الإشارات العلمية في القرآن لكريم فخالية من كل هذا الاضطراب، وفي هذا يقول بوريس بوكاي 'لو كان محمد قد اقتبس القرآن من الأسفار السابقة فلماذا خلا القرآن من الأخطاء العلمية التي لا تزال موجودة حتى الآن في كتبنا'؟
من موقع مفكرة الإسلام(27/5)
آخر الزمان بين المبشرات والمنفرات
الحمد لله وكفي وسلام على عباده الذين اصطفي.......وبعد:
الفتن جمع فتنة، وجِماعُ معنى الفِتْنة الابتلاء والامْتِحان والاختبار ومنه قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا }(طه: 40) وقوله: { الم ( ) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ }( العنكبوت: 1-2)، وأَصلها مأْخوذ من قولك فتَنْتُ الفضة والذهب إِذا أَذبتهما بالنار لتُميز الرديء من الجيِّدِ، والفَتْنُ: الإِحْراقُ، ومن هذا قوله عز وجل: { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ }( الذاريات: 13) أَي: يُحْرَقون بالنار، وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }( البروج: 10) أي حرَّقوهم....والفتنة العذاب ومنه قوله تعالى: { ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ }( الذاريات: 14) أي: عذابكم، وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب ( أى ما يكون بسببه العذاب ) نحو قوله: { أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ }(التوبة:49) وجُعلت الفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يُدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وقد قال فيهما: { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً }( الأنبياء: 35) وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا، كما في قوله تعالى: { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ }( البقرة: 102) {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ }(البقرة: من الآية191) {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ }(البقرة: من الآية193) وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا}(التوبة: من الآية49) أي: يقول: لا تُبلني ولا تعذبني، وهم بقولهم ذلك وقعوا في البلية والعذاب، وقال " {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ}(المائدة: من الآية49) {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}(الاسراء: من الآية73) " أي: يوقعونك في بلية وشدة في صرفهم إياك عما أوحي إليك، وقوله: {فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ }(الحديد: من الآية14) أي: أوقعتموها في بلية وعذاب، وعلى هذا قوله:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً }(لأنفال: من الآية25) " قال ابن حجر: ومعنى الفتنة في الأصل الاختبار والامتحان، ثم استعملت في كل أمر يكشفه الامتحان عن سوء وتطلق على الكفر، والغلو في التأويل البعيد، وعلى الفضيحة والبلية والعذاب والقتال والتحول من الحسن إلى القبيح والميل إلى الشيء والإعجاب به، وتكون في الخير والشر كقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}(الانبياء: من الآية35) ويسمى الصائغ الفَتَّان، وكذلك الشيطان،...وعلى هذا فالفِتْنة المِحْنة، والفِتْنة المال، والفِتْنة الأَوْلادُ، والفِتْنة الكُفْرُ، والفِتْنةُ اختلافُ الناس بالآراء، والفِتْنةُ الإِحراق بالنار.....بل والتكليف كله بلاء واختبار قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك:2)
والكلام على الفتن في مقامنا هذا يتعلق بما يكون في أخر الزمان أو ما يكون بين يدي الساعة....وهنا أنبه على عدة حقائق قبل البدء في الفتن وهى:
أولا: كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من علامات آخر الزمان ففي الحديث عن سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بِإِصْبَعَيْهِ هَكَذَا بِالْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ "بُعِثْتُ وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْن " وفي رواية في كتاب الطلاق1: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَذِهِ مِنْ هَذِهِ أَوْ كَهَاتَيْنِ وَقَرَنَ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى " قال القرطبي في كتابه " المُفهم " حاصل الحديث تقريب أمر الساعة وسرعة مجيئها، وقال القرطبي في " التذكرة ": معنى هذا الحديث تقريب أمر الساعة، قال ابن حجر: سياقه يفيد قربها وأن أشراطها متتابعة كما قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا }(محمد: من الآية18) " قال الضحاك: أول أشراطها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، والحكمة في تقدم الأشراط إيقاظ الغافلين وحثهم على التوبة والاستعداد، وقيل معنى الحديث أنه ليس بيني وبين القيامة شيء، هي التي تليني كما تلي السبابة الوسطى .(28/1)
ثانيا: أن موعد الساعة لا يعلمه بحال من الأحوال إلا الله تعالى وحده، أخرج البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: ....(في حديث طويل) ... مَتَى السَّاعَةُ قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ رَبَّهَا وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الْإِبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ ... فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
ثالثا: أن أكثر من كان يسأل عن الساعة متى هي؟ هم العوام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم الأعراب وأهل البوادي، أما الخواص فكانوا يعملون لها ولا يسألون عن موعدها، ففي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ فَقَالَ: بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ: بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ، قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ " وعند البخاري عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ...الحديث
رابعا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب السائل عن الساعة بما ينفعه لا بما تطلبه نفسه، ففي الحديث عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَائِمَةٌ قَالَ: وَيْلَكَ وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، فَقُلْنَا: وَنَحْنُ كَذَلِكَ، قَالَ: نَعَمْ، فَفَرِحْنَا يَوْمَئِذٍ فَرَحًا شَدِيدًا..." واسمع إلى هذا الحديث لتتعلم كيف كان شأنهم في السؤال عن الساعة، أخرج البخارى عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَلَّى الظُّهْرَ فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ السَّاعَةَ فَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا أُمُورًا عِظَامًا ثُمَّ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْ فَلَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ وَأَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: أَبُوكَ حُذَافَةُ ثُمَّ أَكْثَرَ أَنْ يَقُولَ: سَلُونِي فَبَرَكَ عُمَرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ فَلَمْ أَرَ كَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ " فهم كانوا يخافون الساعة واليوم تسلى كثير من الناس عن السؤال عنها . خامسا: كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ينتظرون الساعة ويتوقعون قيامها في حياتهم ولا يقولون بقى الآف من السنين، وأن هناك علامات صغرى وكبرى، لا بل كانوا يستعدون لها، ففي الحديث عن النَّضْرِ قَالَ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى عَهْدِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ فَأَتَيْتُ أَنَسًا فَقُلْتُ يَا أَبَا حَمْزَةَ هَلْ كَانَ يُصِيبُكُمْ مِثْلُ هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ الرِّيحُ لَتَشْتَدُّ فَنُبَادِرُ الْمَسْجِدَ مَخَافَةَ الْقِيَامَةِ ".(28/2)
سادسا: الصحابة الميامين سألوا عن الفتن وما بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس للتسلية والحكايات والتندر والمقالات، وإنما للإستعداد بالإيمان والعمل، ففي الحديث عن حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ? عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ: "نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ" قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ قَالَ: " قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي مِنْ شَرٍّ?تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ" قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ قَالَ: "نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا قَالَ: "هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا" قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ قَالَ: "تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ" قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ قَالَ: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ " وعن حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفِتْنَةِ ؟ قُلْتُ: أَنَا كَمَا قَالَهُ قَالَ: إِنَّكَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا لَجَرِيءٌ، قُلْتُ: فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ قَالَ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، وَلَكِنْ الْفِتْنَةُ الَّتِي تَمُوجُ كَمَا يَمُوجُ الْبَحْرُ، قَالَ: لَيْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا بَأْسٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ: أَيُكْسَرُ أَمْ يُفْتَحُ ؟ قَالَ: يُكْسَرُ قَالَ: إِذًا لَا يُغْلَقَ أَبَدًا، قُلْنَا: أَكَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ الْبَابَ قَالَ: نَعَمْ كَمَا أَنَّ دُونَ الْغَدِ اللَّيْلَةَ إِنِّي حَدَّثْتُهُ بِحَدِيثٍ لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ فَأَمَرْنَا مَسْرُوقًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ: الْبَابُ عُمَرُ " ولعلي أشير إلى إشارة بسيطة عن ما سيدور ويكون عن آخر الزمان من جهتين، من جهة ما فيه من خير وفضائل، هذا أولاً، ومن جهة ما فيه من شر ومساوئ، لكن قبل أن نبدأ ونتحدث عن فضائل آخر الزمان وما فيه من خير لأهله، ومساويه وما فيه من شر وبلاء، يجدر بنا أن نقف أولاً على أمر مهم، وهو ما المراد بآخر الزمان ؟ المراد بآخر الزمان أيها الأحبة هو: آخر زمان هذه الدنيا، الذي يكون بين يدي الساعة، ولعل أوله ( أي أمور الساعة ) بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرت، كما جاء في حديث أبو جيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت في نسم الساعة " ( حديث صححه الإمام الألباني ) أي بعثت في أول أشراط الساعة وضعف مجيئها، والمراد بنسم الساعة ( أول هبوبها، كهبوب الرياح الضعيفة ) ويؤيد هذا القول، حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين "( رواه البخاري ) وأما نهاية آخر الزمان فهي خراب الدنيا وقيام الساعة.
شرور آخر الزمان:
تظهر في آخر الزمان أيها الأحبة شرور ومساوي كثيرة جداً، وردت بها السنة النبوية، وقد جمعها العلماء في كتب أشراط الساعة، وسأحاول الوقوف على بعضها لا كلها، ومن تلك الأمور التي ستكون في آخر الزمان ما يلي:(28/3)
1. فشو الجهل وقلة العلم، وقد بدأ النقص في العلم من بعد ما أكمل الله الدين وأتم النعمة، وانتقل رسول الهدي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل، ولا يزال ينقص العلم حتى يُرفع بالكلية، كما ثبت في حديث أبي حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا صدقة، ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طائفة من الناس الشيخ والكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها " ( حديث صححه الإمام الألباني ) هذا بالنسبة للقرآن الكريم، أما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فإنها تُرد ولا تُقبل كما جاء في الحديث الذي رواه أبو رافع رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " ( رواه الإمام أحمد ) والذي ينظر في حال كثير من الناس يجد أنهم فعلاً بدأوا يجهلون أساسيات الدين وما هو معلوم بالضرورة، ولا علّ هذا الأمر يرجع إلى أسباب من أهمها:
أ . موت العلماء، فقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا " ( رواه مسلم ) . وقد شهد هذا الزمن موت كثير من العلماء الربانيين الذين كانوا منارات يُهتدى بهم في ظلمات الشهوات والشبهات، كما شهد أيضا الرؤوس الجهال الذين يتجرؤون على الفتوى بغير علم، والله المستعان .
ب . الحرب ضد تعلم الدين، وسياسة تجهل الشعوب بالإسلام تحت ستار محاربة الإرهاب، ومن مظاهر ذلك: تغيير المناهج ومحاولة تقليص مواد الدين، وقفل المعاهد والمدارس الشرعية، ومضايقة أهل السنة ودعم أهل البدعة، ونحو ذلك مما يُساهم في إبعاد الناس عن العلم الشرعي وقد أخبر بهذا الحدث من لا ينطق عن الهوى، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سيلي أمورَكم بعدي رجال يُطفئون السنة، وبعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن وقتها، فقلت: يا رسول الله، إن أدركتهم فكيف أفعل ؟ قال: تسألني يا ابن أم كيف تفعل ؟ لا طاعة لمن عصى الله " ( حديث صححه الإمام الألباني ) .
2. فشو الزنا وكثرته، حتى أصبحت تجارة البِغاء تشكل ربحا هائلاً ومورداً ضخماً من موارد المال في بعض بلدان المسلمين والله المستعان، وقد هيأ المجرمون وسائله ودواعيه حتى أصبح أسهل مما يُتصور، ولا يزال ويكثر حتى تموت الغيرة في النفوس، وتسقط آخر مرتبة من مراتب الإنكار، وهو الإنكار بالقلب، حتى يُقارف الزنا علانية في قارعة الطريق، كما ثبت في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده، لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل على المرأة فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو واريتها خلف هذا الحائط " (حديث صححه الألباني ) وفي الحديث الآخر عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: " ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة "( رواه مسلم ) وفي الحديث الثالث حديث بن عمر ورضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطرق تسافد الحمير، قلت: إن ذلك لكائن ؟ قال: نعم ليكونن " ( حديث صححه الإمام الألباني )
3. ظهور المعازف والغنى واستحلالها، وهذه العلامة وقعت في العصور السابقة، وهي في هذا العصر أشد انتشاراً وتنوعاً، وقد استهان بحرمتها كثير من الناس، بل ممن ينتسبون من أهل العلم، فكم نسمع في القنوات ممن يجيز هذا الأمر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد ازداد هذا البلاء حتى تجاوز مرحلة الاستماع والاستمتاع إلى مرحلة التقنين والتقعيد، والتخطيط والتنظيم، وجلب الخبراء وفتح المعاهد، وصياغة المناهج حتى أصبحت فنا يدرّس وعملا يمارس، فأي ظهور بعد هذا الظهور؟
4. استحلال الخمر وكثرة شربها وتداولها بين الناس، والناظر خارج هذه البلاد يجد أن الخمر أصبحت مألوفا يقدم مع الطعام، ويوزع في الفنادق، وهو نديم المسافر في رحلاته، ورفيق الضال في سهراته وخلواته، ومما يلحق بالخمر: المخدرات بجميع أنواعها التي ابتليت البشرية فأصبحت شبحا يهدد أمن الدول وحياة الأفراد، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام " ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف .." ( رواه البخاري ).(28/4)
5. الاستخفاف بالدم أو بمعنى آخر ( كثرة القتل ) وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث " بادروا بالأعمال خصالاً ستا .. الحديث وذكر منها: واستخفافاً بالدم " ( حديث صححه الألباني ) وقد استخف الناس اليوم بالدم عندما مكنوا المجرمين من قيادة الأمم، حيث أشعلوا الحروب الطاحنة في كل مكان، ولعل كثرة القتل في آخر الزمان يرجع إلى أسباب عدة منها:
أ . الأشر والبطر والتكاثر، والتناجش في الدنيا، والتحاسد والتباغض إلى درجة القتل، قال أبو هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيصيب أمتي داء الأمم، فقالوا يا رسول الله: وما داء الأمم ؟ قال: الأشر والبطر، والتكاثر والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي "( حديث صححه الألباني ) .
ب . غياب العقول وضعفها، كما ثبت في حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن بين يدي الساعة الهرج .. الحديث وفيه: حتى يقتل الجار جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمه، ويقتل بن عمه، قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ ؟ قال: إنه لينزع عقول أهل ذلك ويخلف لهم هباء من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على شيء "( حديث صححه الألباني ) .
6. ومن شرور آخر الزمان، ما جاء في حديث طارق بن شهاب رضي الله عنه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم " ( حديث صححه الألباني ) .
7. ومنها أيضاً، ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا " ( رواه مسلم ) ففي هذا الحديث العظيم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمبادرة بالأعمال الصالحة التي تكون حصنا قوياً من الفتن العظيمة المظلمة التي تكون بين يدي الساعة، ومنها الفتنة في الدين، حيث يضعف التمسك به، ويعز الثبات عليه لدرجة أن العبد يتقلب بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر في اليوم الواحد، حتى إنه يصبح مؤمنا ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً و لا حول ولا قوة إلا بالله .
8. ومن الشرور أيضاً ما ورد في حديث ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ... ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان " ( رواه الترمذي ) .
9. ومن الفتن والشرور أيضاً، ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس لكع بن لكع " واللكع هو: ردي الحسب والنسب، والذي لا يعرف له أصل ولا يحمد على خلق، وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سيأتي على الناس سنوات خداعة، يصدّق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة ؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة " ( حديث صححه الألباني ) والرويبضة هو: الرجل التافه كما فسره الحديث، والمراد من الحديث: بيان فساد آخر الزمان حيث تختل المقاييس وتنقلب الموازين، فيتصدر الأمة من ليس لذلك بأهل، ويتزعم القبيلة أفسقهم، ويسود القوم أرذلهم، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... وساد القيبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره " ومن تأمل الواقع وأمعن في النصوص رأى سفينة الأمة تمخر عباب بحر متلاطم من الفتن والبلاء، يقودها الرجل التافه بمجموعة كاملة من الفسقة والمجرمين.
10. ما أخرجه الإمام الألباني في السلسلة الصحيحة " إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب، يتشدقون بالكلام " ( حديث صحيح ) وهذا الحديث يشير إلى قضية الترف التي هي أخطر المراحل التي تمر بها الأمة الإسلامية في هذا الزمن، إذ ليس بعد الترف السقوط، ولقد بلغت الأمة اليوم حد الترف وأوج الرفاهية في كل مجال الحياة، حتى أصبح الوضع ينذر بالخطر، ومن مظاهر الترف على سبيل المثال:(28/5)
أ. زخرفة المساجد والبيوت، كما ثبت بذلك الخبر في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتا يوشونهاً وشيء المراحيل " ( حديث صححه الألباني ) ومعنى الحديث " يخططونها ويزخرفونها كما تخطط وتزخرف الثياب، فانظروا أيها الأحبة كيف بلغ الترف هذا المبلغ العجيب في الطبقات الغنية، والمتوسطة وبعض الطبقات الفقيرة التي لا تجد أحياناً قيمة الضروريات، لكنها تحاكي الآخرين تحت ضغط الواقع الاجتماعي المبني على المظاهر والكماليات.
- أيها الأحبة: إن الأمة الإسلامية لم تصل إلى ما وصلت إليه الآن من الضعف والذلة والهوان إلا نتيجة أسباب كثيرة، أشير إلى بعضها باختصار:
1. فشو الجهل وقلة العلم، وقد مضى الكلام عليه.
2. ضعف المسلمين في كثير من المجالات، وبعدهم عن مراكز التأثير وموقع القيادة، مما أمكن لأعداء الأمة من السيطرة التامة على ذلك فأصبحوا قادة العالم وصناع القرار، يضعون من يشاؤون في المكان الذي يشاؤون، فيضمنون بذلك بقاء السيادة في أيديهم فلا تنتقل إلا من لكع إلى لكع، وقد أخبر بذلك المعصوم صلى الله عليه السلام حيث قال: " ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفاً ولا شرطياً ولا جابياً، ولا خازناً "( حديث صححه الألباني ) .
3. حب الدنيا، وكراهية الموت، ومما أدى إلى خذلان المسلمين بضعهم لبعض، فتعلقت الأمة في هذا الزمن بالمال حتى عبدت الدرهم والدينار وتعاملت بالربا، وانهمكت بالحرث والزرع، وأوغلت في الترف، ونسيت الجهاد في سبيل الله، مما أدى إلى تداعي الأمم على الأمة الإسلامية ونهب خيراتها، والعبث بعقول أبنائها .
- إختصار بعض شرور آخر الزمان أو ( المنفرات في آخر الزمان )
1. فشو الجهل وقلة العلم كما جاء في الحديث " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا صدقة، ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طائفة من الناس الشيخ والكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة، لا إله إلا الله، فنحن نقولها " ( حديث صححه الإمام الألباني ) .
2. فشو الزنا وكثرته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل على المرأة فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو واريتها خلف هذا الحائط " (حديث صححه الألباني )
3. ظهور المعازف والغنى والخمر وكثرة شربها وتداولها بين الناس واستحلالهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف .." ( رواه البخاري ).
4. الاستخفاف بالدم أو بمعنى آخر ( كثرة القتل ) وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث " بادروا بالأعمال خصالاً ستاً .. الحديث وذكر منها: واستخفافاً بالدم " ( حديث صححه الألباني )
5. ومنها أيضا ما ورد في حديث ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ... ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان " ( رواه الترمذي ).
6. ومن الفتن والشرور أيضاً، ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس لكع بن لكع " ، واللكع هو: ردي الحسب والنسب، والذي لا يعرف له أصل ولا يحمد على خلق .
7. ما أخرجه الإمام الألباني في السلسلة الصحيحة " إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب، يتشدقون بالكلام " ( حديث صحيح ) هذا بالنسبة للشرور والفتن والمساوئ، أما فضائل آخر الزمان، وما فيه من خير، أو أن أردتم فقولوا مبشرات آخر الزمان. فرغم كثرة المساوئ والمنفرات التي تقع في آخر الزمان، فإن هناك فضائل ومبشرات كثيرة تفتح باب الأمل للمسلم، وتزيده في يقيه ثقته بنصر الله تعالى، وقد جاءت تلك المبشرات في كثير من النصوص النبوية، وسأقتصر على بعضها خشية الإطالة.(28/6)
أولا: ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " أن ذلك تاماً، قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله " ( حديث صححه الألباني ) وكذلك ما خرجه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر " ففي هذين الحديثين الكريمين بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأمة ستعود إلى دينها بإذن الله تعالى، وسيدخل هذا الدين الحواضر والبوادي، وسيظهر على الدين كله ولو كره المشركون، ومن ذلك تكون الأمة أهلاً لذلك وتعمل للدين وتضحي من أجله .
ثانيا: ما رواه أبو قبيل، قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وسئل ـ أي المدينتين تفتح أولاً؛ القسطنطينية أو رومية ؟ الحديث، وفيه " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً، يعني قسطنطينية "( حديث صححه الألباني ) وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى بنزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج لهم جيش من المدينة الحديث .. إلى أن قال: " فيفتحون قسطنطينية " ( رواه مسلم ) وأيضا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سمعتم بمدينة جانب منها في البر، وجانب منها في البحر ؟ قالوا: نعم، يا رسول الله، قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق " ( رواه مسلم ) وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه شجر اليهود " ( رواه مسلم ) . هذه النصوص أيها الأحبة وغيرها كثير تبشر بعودة الجهاد في سبيل الله، وكثرة الفتوحات، وتطهير الأرض من رجس اليهود وخبثهم، ولعل ما نراه اليوم من جهاد في مناطق كثيرة من الأرض بارقة أمل، وبوابة إلى جهاد أعظم يؤذن بنصر قريب إن شاء الله .
ثالثا: ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضّاً ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ماشاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت " ( حديث صححه الألباني ) ففي هذا الحديث بشارة عظيمة بوقوع خلافة راشدة على منهاج النبوة، ولكنها لن تقوم إلا بما قامت به الخلافات الراشدة الأولى .
رابعا: ما رواه المستورد القرشي رحمه الله، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو بن العاص: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة عند مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك " ( رواه مسلم ) فقد استنبط العلماء رحمهم الله تعالى من هذا الحديث أن الروم يسلمون في آخر الزمان، وذلك من المبشرات ولا شك، قال الأستاذ مصطفي أبو النصر الشلبي صاحب كتاب صحيح أشراط الساعة " وهذا يدل والله أعلم، أن الروم سيسلمون في آخر الزمان، لأن هذه الصفات قلما توجد إلا في أصحاب الإيمان الصادق، ودليلي على ما أقوله، قوله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء " يعني فارس والروم " ويؤيد هذا أيضا الحديث الذي تقدم " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار " وهو عام لا يخصص بأمة دون أمة ولا بمكان دون مكان . ولعل المراكز الدعوات والإسلامية التي تنتشر في بلاد الكفار على أيدي الدعاة والعلماء مقدمات لهذه البشارة العظيمة .(28/7)
خامسا: من المبشرات: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة " ( رواه مسلم ) ففي هذا الحديث صدق الرؤيا من المبشرات في آخر الزمان لكن بشرط الإيمان، وصدق الحديث، ومن عظيم شأنها أنها جزء من النبوة، فهي دعوة للإيمان الصادق صدق الحديث .
سادسا: مارواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب، رجلاً من أهل بيتي يواطئ أسمه أسمي " ( الطبراني في الجامع الصغير ) هذا الحديث من المبشرات بمجيء المهدي، حتى تواترت النصوص بخروجه وصفاته ومدة حكمه، وهي مستوفاة في كتب السنة، والمراد أنه من مبشرات آخر الزمان، وما رواه أبو أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً يدق الصليب، ويذبح الخنزير ويضع الجزية، ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتنزع حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتضرب الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة، تنبت نباتها بعهد آدم، حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، ويكون الفرس بدريهمات" ( صحيح الجامع الصغير ) وكذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى لعيش بعد المسيح، يؤذن للسماء في القطر، ويؤذن في الأرض للنبات، حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت، وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاح ولا حسد ولا تباغض " ( حديث صححه الألباني ) ومن المبشرات التي تكون في آخر الزمان ما تقدم في الحديثين السابقين من نزول عيسى عليه السلام وما يتبع ذلك من الخيرات والبركات المذكورة آنفا . نسأل الله تعالى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كتبه: سلمان بن يحي المالكي(28/8)
آداب الأخُوَّة في الله وحقوقها
"أحمد سعد الدين"
1: النية الصالحة:
فإن النية الصالحة لابد منها في كل قول وعمل، لقوله عليه الصلاة والسلام " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..." البخاري (1) ومسلم (1907) فينوي الإنسان إتخاذ أخ ٍ وصديق صالح، يكون عونا له على أمر دينه ودنياه، وليستعين به على طاعة الله تعالى، فبهذه النية يوفق الله تعالى الصديقين معا إلى الخير، ويحفظ عليهما أخوتهما وصداقتهما.
2: اتخاذ الأخ والصديق المؤمن الصالح: وذلك لقوله تعالى:{إنما المؤمنون إخوةٌَ } الحجرات:10، وقوله تبارك وتعالى:{فأصبحتم بنعمته إخوانا} آل عمران:103، وقوله صلى الله غليه وسلم:"لا تصاحب إلا مؤمنا......"، وأما مصاحبة غير المؤمنين، فإنها ليست من الحب في الله والبغض في الله في شيء، بل إنها تدل على خلل خطير في هذا الباب من أبواب الإيمان. وصحبة غير المؤمن وبال على صاحبها في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإن الكافر أو الفاجر لا يُؤمَن جانبه، ولا يمكن الوثوق به مهما حصل، ولا بد أن يغلبه بغضه لأهل الإسلام، وحبه لأهل دينه، وأن يغلبه طبعه الفاجر. وقد يغدر بصاحبه المسلم، كما أنه لن يعينه أبداً على طاعة الله تعالى، بل سوف يشجعه على المعصية. وأما في الآخرة فإنه ينقلب عدواً لدوداً، كما قال تعالى:{الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}الزخرف:67.
3: المحبة لله تعالى: وذلك بأن تكون محبة الأخ والصديق لله تعالى، وليس لشيء من أمور الدنيا، كالقرابة أو التجارة، أو غيرها. وقد قال صلى الله عليه سلم:" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:....وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله..." البخاري (16، 21) و مسلم (43) عن أنس.
فهذه هي المحبة الحقيقية، وهي من أوثق عرى الإيمان، ومن أعظم شعبه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أوثق عرى الإيمان: الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله "أحمد (4/286) وأبن شيبه في الإيمان (110) ".
وأما المحبة لأجل غرض دنيوي فإنها تزول بمجرد زوال ذلك الغرض. فهي محبة عارضة مضطربة، لا بقاء ِِِلها، ولا خير فيها، ولا تعود على أهلها بخير. وكثيراً ِما تنقلب عِداوة لأتفه الأسباب، وعند أول بادرة خلاف. 4: إخبار الأخ بمحبته في الله: يعني: إخبار الأخ لأخيه بأنه يحبه في الله، فإن هذا مما يستجلب المودة، ويعمل على زيادة الألفة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه " أحمد(4/130) وأبو داود(5124). بل ويسن أن يأتيه في منزله ليخبره بذلك، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه لله " أحمد (5/145)عن أبي ذر. فما أجمل هذا الأدب! وما أعظم أثره على النفس ! وما أقل من يفعله ! هذا مع أنه لا ينبغي للمسلم أن يخجل، أو يستحي من إحياء سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونشرها، وإظهارها بين الناس، بل إن ذلك من أعظم الأعمال الصالحة التي يجري له ثوابها
5: السلام على الأخ ورد السلام عليه: أي: إلقاء السلام عليه إذا لقيته، ورد السلام عليه إذا بدأ به، وذالك بتحية الإسلام: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، ولا يجوز الإعراض عن هذه التحية واستبدالها بغيرها من صيغ التحية التي فيها تشبه بالكفار، مثل:- بنجور، جود مورننج...... إلخ -:. وكذلك لا يجوز استبدا لها بتحية أخرى مثل:- صباح الخير، ونحو ذ لك -: إلا إذا بدأ بتحية الإسلام أولا، ثم أتبعها بتلك التحية الأخرى والتي يشترط ألا تكون من تحية الكفار. والأولى والأحسن الاكتفاء بتحية الإسلام فقط، فإن ذلك هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بإحسان. ومما يدل على هذا الأدب وما بعده إلى الأدب التاسع قوله صلى الله عليه وسلم:" حق المسلم على المسلم ست" قيل: ما هن يا رسول الله ؟ قال: " إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه ". مسلم (2162) عن أبي هريرة.
6: تشميت الأخ عند العطاس: يعني: تشمته إذا عطس فحمد الله تعالى، فيقال له: " يرحمك الله " كما في الحديث السابق، ويرد هو قائلا:" يهديكم الله ويصلح بالكم ".
7: عيادته عند المرض: بمعنى زيارته إذا مرض، كما في الحديث السابق. وهذا مما يجبر خاطره، ويجعله يشعر بمكانته عند أخيه، ويديم حبل المودة، ويقوي من روح المريض المعنوية، وحينئذ ينبغي للزائر التأدب بآداب عيادة المريض.
8: إجابة دعوة الصديق: أي: إجابة دعوته إذا دعاك إلى طعام، سواء في وليمة أو عقيقة، أو نحوها، كما في الحديث السابق. ما لم يكن في هذه الدعوة محرم لا يقدر على تغييره، فلا يجوز حضورها.(29/1)
9: النصح للأخ الصديق: أي: النصيحة الصادقة له بما فيه منفعته إذا استنصحك. وذلك بما فيه الخير له في دينه ودنياه، فإن هذا من حقه عليك كما في الحديث السابق في الأدب الخامس. وينبغي أن تصدقه في النصيحة. ولا تخدعه أو تغشه فيها، لأن ذلك خيانة له.
10: قبول هدية الصديق: أي: عدم رد هديته، مهما كانت بسيطة أ و صغيرة الشأن، لقوله صلى الله عليه وسلم: " أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية..." أحمد (1/404) والطبراني في الكبير (10/10444) والبيهقي في الشعب (5359) والبخاري في الأدب المفرد (رقم157) عن ابن مسعود. صحيح الجامع(158).
ورد هدية الصديق قد يكون باباً من أبواب الشيطان ينفذ منه ليقطع حبل المودة بشكل كامل بين الصديقين.
11: الإهداء للصديق: وهذا مما ينبغي الحرص عليه، الإهداء إلى الأخ الصديق من حين لآخر، وفي المناسبات المختلفة، وفي حدود الطاقة. فإن هذا مما يستجلب محبة الأخ الصديق، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تهادوا تحابوا " البخاري في الأدب المفرد (ص 87) وأبو يعلى ( 5/6122 ) عن أبي هريرة. صحيح الجامع (2004 ). وانظر: صحيح الأدب المفرد (462). وأما رد الهدية وعدم قبولها فإنه يذهب المحبة، ويقطع أواصرها.
12: مشاركته الحزن: أي: إظهار الحزن لأجله، ومواساته بالمال، وبالكلمة الطيبة، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " البخاري (481، 2446، 6026 ) ومسلم(2585) عن أبي موسى.
13: مشاركته الفرح: يعني مشاركته في أفراحه، وإظهار السرور و الفرح لأجله، فإن هذا مما يقوي عنده دواعي المحبة وأن تدعو له بالبركة إذا نزلت به نعمه، ولا تحسده عليها.
14: محبة الخير له: أي: أن تحب له ما تحب لنفسك من الخير، فإن هذا من خصال الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " البخاري (13) ومسلم (45) عن أنس، وكذالك تكره له ما تكره لنفسك من الشر والضرر، فإن الإيمان لا يكتمل إلا بذلك، وهو عنوان الصدق في المحبة، والسمو فيها.
15: دفع الغيبة عنه: بمعنى أن تذب عنه بالغَيبة، وتدفع عن عرضه إذا كان غائبا، لقوله صلى الله عليه وسلم: " من ذب عن عرض أخيه بالغَيبة، كان حقاً على الله أن يعتقه من النار " أحمد (6/461) والطبراني في الكبير (24/442:443) عن أسماء بنت يزيد، صحيح الجامع (6287).
فلا تسمح لأحد أن يذمه في غيابه، بل تمنعه من ذلك. ومن باب أولى أنك نفسك لا تغتابه، فإن هذا من حقه عليك. والأخ الكريم لا يمكن أن يغتاب أخاه أبدا.
16: الستر عليه: وذلك بأن تستره بكل صورة، سواء بستر عرضه، أو بستر عورته، أو بستر عيبه ومعصيته وزلته، وغير ذلك. لقوله صلى الله عليه وسلم: " من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة " أحمد (4/62) عن رجل من الصحابة. وأصله في الصحيحين. صحيح الجامع (6287). فإنها تشمل كل أنواع الستر، وذلك على النحو الذي ترضاه لنفسك سواء بسواء.
17: نصرة الأخ في الله: بمعنى أن تنصره ظالما أو مظلوما. أما نصرته مظلوما فبالوقوف معه حتى يسترد حقه. وأما نصرته ظالماً فبرده عن الظلم، وإعادته إلى الحق والرشد، لقوله صلى الله عليه وسلم: " انصر أخاك ظالما أو مظلوماً". قيل: كيف أنصره ظالماً ؟ قال: "تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصرته " البخاري (2443، 2444، 6952 ) عن أنس.
ولا يجوز للمسلم أن يخذل أخاه المسلم إذا احتاج لنصرته، والوقوف معه، بل يجب عليه أن يهب سريعاً للوقوف معه، والدفع عنه.
18: عدم الخطبة على خطبته: بمعنى أن لا تخطب على خطبته، حتى ينكح، أو يتراجع عن الخطبة. فإن فعل ذلك مما يوغر الصدر، ويسبب العداوة، ويذهب الأخوة. ولذلك نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر " مسلم (1413) عن عقبة بن عامر..
19: عدم البيع على بيعه: أن لا تبيع على بيعه، حتى يشتري أو يتراجع عن الشراء. وكثيرا ما تسبب الوقوع في مثل ذلك في تغير النفوس، وحلول العداوة والبغضاء محل المحبة والمودة. وقد سبق الحديث عن تحريم ذلك في الأدب السابق.
20: الصدق مع الأخ وعدم الكذب عليه: والمقصود أن تصدقه ولا تكذب عليه أبدا، لا في حديث، ولا في نصيحة، ولا في غير ذلك. فإن هذا كله من الغش والخيانة. وذلك لقوله صلى الله غليه وسلم: " المسلم أخو المسلم: لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه. التقوى ها هنا- وأشار إلى قلبه – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، " الترمذي (1927) وحسنه، عن أبي هريرة. صحيح الترمذي (1572). .
21: تصديق الأخ وعدم تكذيبه: والمقصود بذلك أن تصدقه في خبره، ولا تكذبه بغير سبب كاف، ولا يجوز للمسلم أن يكذب أخاه المسلم ما دام لم يجرب عليه الكذب، فإن تكذيبه يوغر صدره، ويسبب عداوته. والحديث السابق يدل على ما ذكر.(29/2)
22: عدم خيانة الأخ: بمعنى أن لا تخونه أبدا، لا في ماله بأخذه بغير حق، ولا في عرضه بانتهاكه، ولا تفشي له سرا. فكل هذا من الخيانة التي حرمها الله تعالى، وقد قال عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} الأنفال: 58. ومما يدل على وجوب حفظ سر المسلم وعدم إفشائه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانه " أحمد (3/380) وأبو داود (4868) والترمذي (1959) وحسنه، عن جابر. انظر صحيح الترمذي ( 1597). ومعنى ( التفت ) قيل: أي انصرف. وقيل: التفاته خشية أن يسمعه أحد دليل على أنه خصك بالسر. فكان إفشاؤه خيانة.
23: احترام الأخ في الله والمقصود: عدم تحقيره، وعدم الحط من شأنه، أوتسفيهه بأي صورة، وذلك للحديث السابق في الأدب العشرين، ولأن ذلك يوغر صدره، بل الواجب أن تظهر له كل احترام وإعزاز، وأن تستمع لرأيه، ولا تتنقصه، ولا تسخر منه، وخصوصا أمام الآخرين.
24: الدعاء للأخ في الله: بمعنى أن تدعو له بظهر الغيب عندما تدعو لنفسك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل " مسلم (2732) عن أبي الدرداء. وقال صلى الله عليه وسلم: " دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لا يرد " البزار (4/500) عن عمران بن حصين. صحيح الجامع (3379) وهذا من أعظم علامات صدق الأخوة والمودة، إذ لا مجال للمراءاة أو المداهنة والتزليف في مثل ذلك.
25: عدم هجران الأخ الصديق: بمعنى أن لا تهجره بغير مبرر مشروع، فإن ذلك لا يحل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيصد، هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " البخاري (6077، 6237 ) ومسلم (2560) عن أبي أيوب. وتزداد الحرمة كلما طال الهجر، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه " أحمد (4/220) وأبو داود (4915) والحاكم (4/163) وصححه، ووافقه الذهبي، والبخاري في الأدب المفرد (313) عن أبي خراش. صحيح أبي داود (4107).
أما إذا كان هجره لمعصية يقع فيها، أو بدعة يعتنقها، ويرجى أنه سوف يتأثر بالهجر فيقلع عنها، فذلك حسن. وإلا فلا. وكذلك يهجر إذا تخلى عن إيمانه والعياذ بالله، ولكن قبل الهجر ينبغي النصح له، ومحاولة الأخذ بيده، فلعله يرجع إلى الحق والصواب.
26: التعاون معه على الخير: بمعنى معونته على البر والتقوى، وعلى طاعة الله عز وجل، وقد قال تعالى:{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} المائدة: 2، ولا تتخلى عنه إذا وقع في معصية، بل تسدده وتوفقه وتشجعه على التوبة، وتقف إلى جانبه، كما قال عمر رضي الله عنه: إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه...
وأما التخلي عنه إذا وقع في معصية، وعدم الأخذ بيده إلى الخير، فهو مما قد يتسبب في ضياعه بشكل نهائي.
27: الاجتهاد في منفعته: وذلك بأن تنفعه بكل وجه ممكن في أمر دينه ودنياه، فإن هذا من حقه عليك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه " مسلم (2199)، ويشمل هذا كل ما يمكن من أوجه النفع الدينية والدنيوية، غير أنه إذا كان هذا النفع من باب الإعانة على أمر محرم فلا يجوز بحال.
28: المحافظة على دوام الأخوة: بمعنى استبقاء أخوته، والمحافظة عليها، واستدامتها بعدم المعاصي ما أمكن، فإن المعاصي تفرق بين الإخوة المؤمنين المتحابين، وذلك لشؤمها، كما قال صلى الله عليه وسلم: " ما تواد اثنان في الله، فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما " جزء من حديث أخرجه أحمد ( 2/68 )، عن أبن عمر، والبخاري في الأدب المفرد (401) عن أنس. وانظر صحيح الأدب المفرد للألباني (310).
وكم من صداقات قد انهارت، وتبددت، بشؤم المعاصي، إذ إن الأرواح جنود مجنده، وما دام أحد الصديقين غير تقي فلا بد أن يبغضه صاحبه التقي بمرور الوقت، وبإصراره على المعصية.
29: مراعاة مشاعره: بمعنى المحافظة على مشاعره، وعدم إذائه بقول، أو فعل، أو إشارة. حتى ولو كانت غير متعمده- بل ينبغي الأنتباه لذلك والتحرز منه. فكم من رجل قال كلمة أمام أخيه لا يقصد بها السوء، لكنها فهمت على غير وجهها ؛ فأفسدت ما بينهما، وقد قال تعالى:{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} الإسراء: 53.
30: عدم التقصير في أداء حقوق: الأخ بمعنى أن لا تقصر في أداء حقوقه عليك اعتماداً على ما بينكما من مودة، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "لا تقصر في حق أخيك اعتمادا على مودته؛" (مقدمة المجموع شرح المهذب (1/31)، بل ينبغي الاجتهاد في أداء حقوقه، وعدم التهاون فيها، حرصا على استبقاء المودة وتقويتها.(29/3)
31: إيثار الأخ في الله: بمعنى أن تؤثره على نفسك، وخصوصا إذا كان محتاجا، وقد قال تعالى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الحشر:9 ، فإن لم تستطع إيثاره على نفسك فأشركه معك في الخير كما تحبه لنفسك.
32: تعاهد الأخ: أي: تعاهده بالسؤال عنه إذا غاب عن المسجد، أو عن عمله، وأن تطمئن على أحواله، وتتفقده بالزيارة في الله، فقد يكون محتاجا إلى مساعدتك.
33: مصادقة أصدقائه: بمعنى أن تصادق أصدقائه، خصوصاً إذا كانوا من أهل الخير والتقى، وقد قال الشافعي رحمه الله: من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً، (نفس المصدر السابق والصفحة)، فإن ذلك من كمال الإخلاص له والوفاء لأخوته.
34: التجاوز عن زلاته: بمعنى التجاوز عن هفواته وأخطائه إذا كانت أمورا تافهة، ومسامحته إذا أخطأ في حقك. وقد قال الشافعي رحمه الله:" من صدق في أخوة أخيه قبل علله، وسد خلله. وغفر زلته" (نفس المصدر السابق والصفحة). ومعنى كلامه رحمه الله: (قبل علله ): أي قبله بما فيه من العيوب، مع الاجتهاد في إصلاحها. ( وسد خلله ) أي اجتهد في استكمال نقصه، وإصلاح عيبه. ( وغفر زلته ): أي قبل اعتذاره، وتجاوز عن هفواته وأخطائه.
35: المصارحة مع الأخ الصديق: بمعنى مصارحته في كل الأمور، والانبساط معه، وعدم التكلف، قال الشافعي: "ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته" (نفس المصدر السابق والصفحة). ولا يصلح التعامل معه بالمداراة، والمواربة، واستعمال المعاريض في الكلام، فإن كل هذا ليس من علامات الأخوة الصادقة.
36: خلافته بخير: بمعنى أن تخلفه في أهله وولده بخير، إذا غاب، أ وسافر، فتتعاهدهم بالسؤال، والنفقة عليهم قدر الطاقة، وغير ذلك حتى لا يستوحشوا بغيابه. وقد كان هذا دأب السلف رحمهم الله، وذلك لصدقهم في أخوتهم. 37: شهود جنازته بمعنى أن تشهد جنازته إذا مات، وتتبعه حتى يدفن، فإن هذا من حقه عليك، وقد سبق ذكر الحديث الدال على ذلك في الأدب الخامس.
38: الاستغفار له: وسواء كان ذلك الاستغفار في حال حياته، أو بعد موته، فإنه من الدلائل على صدق المحبة. سواء عند قبره بعد الفراغ من دفنه، أو في أي وقت، وتدعو له إذا ذكرته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد دفن أحد أصحابه: " استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل " أبو داود (3221 ) والحاكم (1/370 ) وصححه، ووافقه الذهبي، عن عثمان بن عفان. صحيح الجامع (945). وهذا من أوضح الأدلة على ذلك، فينبغي للمؤمن ألا يهمل هذا الأدب أبداً.
39: تعاهد أهله: وولده بمعنى أن تتعاهد أهله, وأولاده بعد موته، فتقضي لهم حوائجهم، وتسأل عنهم، وترعاهم، وتعطيهم إذا احتاجوا، فإن هذا من الوفاء له بعد موته، ومن حقه وحق أولاده وأهله عليك. وقد كان هذا دأب كثير من السلف رحمهم الله تعالى.
40: ذكره بخير: بمعنى أن لا تذكره بعد موته إلا بخير، وتترحم عليه إذا ذكر أمامك، فإن هذا من بقاء العهد والوفاء. وكذلك ألا تسمح لأحد بذكره بالعيب بعد موته.
41: صلة أهله بعد موته: بمعنى أن تصل أهل مودته بعد موته، فإن ذلك من بقاء العهد، ومن كمال الوفاء. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصل أهل ود خديجة رضي الله عنها بعد موتها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: " كان ربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة......... " البخاري ( 3816، 6004 ) ومسلم ( 2434) مختصراً من حديث عائشة.
كما وردت الروايات بذلك عنه في الصحيح. فهذا من علامات الوفاء للأخ الصديق بعد فراقه لهذه الدنيا(29/4)
آداب الأخُوَّة في الله وحقوقها
أحمد سعد الدين
1: النية الصالحة: فإن النية الصالحة لابد منها في كل قول وعمل ، لقوله عليه الصلاة والسلام " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى..." (البخاري: (1) ومسلم: (1907) فينوي الإنسان إتخاذ أخ ٍ وصديق صالح ،يكون عونا له على أمر دينه ودنياه، وليستعين به على طاعة الله تعالى، فبهذه النية يوفق الله تعالى الصديقين معا إلى الخير ، ويحفظ عليهما أخوتهما وصداقتهما.
2: اتخاذ الأخ والصديق المؤمن الصالح:
وذلك لقوله تعالى:{إنما المؤمنون إخوةٌَ } الحجرات :10، وقوله تبارك وتعالى:{فأصبحتم بنعمته إخوانا} آل عمران:103، وقوله صلى الله غليه وسلم:" لا تصاحب إلا مؤمنا......" ، وأما مصاحبة غير المؤمنين ،فإنها ليست من الحب في الله والبغض في الله في شيء ، بل إنها تدل على خلل خطير في هذا الباب من أبواب الإيمان. وصحبة غير المؤمن وبال على صاحبها في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فإن الكافر أو الفاجر لا يُؤمَن جانبه، ولا يمكن الوثوق به مهما حصل، ولا بد أن يغلبه بغضه لأهل الإسلام ، وحبه لأهل دينه، وأن يغلبه طبعه الفاجر. وقد يغدر بصاحبه المسلم ، كما أنه لن يعينه أبداً على طاعة الله تعالى ، بل سوف يشجعه على المعصية. وأما في الآخرة فإنه ينقلب عدواً لدوداً ، كما قال تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}الزخرف:67 .
3: المحبة لله تعالى:
وذلك بأن تكون محبة الأخ والصديق لله تعالى ، وليس لشيء من أمور الدنيا، كالقرابه أو التجارة ، أو غيرها . وقد قال صلى الله عليه سلم :" ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:....وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله..." البخاري: (16،21) و مسلم: (43)، عن أنس فهذه هي المحبة الحقيقية ، وهي من أوثق عرى الإيمان ، ومن أعظم شعبه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " أوثق عرى الإيمان : الموالاة في الله والمعاداة في الله ، والحب في الله ، والبغض في الله " أحمد (4/286) وأبن شيبه في الإيمان: (110) " .
وأما المحبة لأجل غرض دنيوي فإنها تزول بمجرد زوال ذلك الغرض . فهي محبة عارضة مضطربة،لا بقاء ِِِلها، ولا خير فيها ، ولا تعود على أهلها بخير. وكثيراً ِما تنقلب عِداوة لأتفه الأسباب، وعند أول بادرة خلاف.
4: إخبار الأخ بمحبته في الله:
يعني: إخبار الأخ لأخيه بأنه يحبه في الله ، فإن هذا مما يستجلب المودة ، ويعمل على زيادة الألفة ، لقوله صلى الله عليه وسلم :"إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه " أحمد: (4/130) وأبو داود: (5124) . بل ويسن أن يأتيه في منزله ليخبره بذلك ، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال :"إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه لله " أحمد (5/145) عن أبي ذر. فما أجمل هذا الأدب! وما أعظم أثره على النفس ! وما أقل من يفعله ! هذا مع أنه لا ينبغي للمسلم أن يخجل ، أو يستحي من إحياء سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ونشرها ، وإظهارها بين الناس ،بل إن ذلك من أعظم الأعمال الصالحة التي يجري له ثوابها.
5: السلام على الأخ ورد السلام عليه:
أي : إلقاء السلام عليه إذا لقيته، ورد السلام عليه إذا بدأ به ، وذالك بتحية الإسلام : "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" ، ولا يجوز الإعراض عن هذه التحية واستبدالها بغيرها من صيغ التحية التي فيها تشبه بالكفار ، مثل :- بنجور، جود مورننج...... إلخ -: . وكذلك لا يجوز استبدا لها بتحية أخرى مثل :- صباح الخير ، ونحو ذ لك -: إلا إذا بدأ بتحية الإسلام أولا ، ثم أتبعها بتلك التحية الأخرى والتي يشترط ألا تكون من تحية الكفار . والأولى والأحسن الاكتفاء بتحية الإسلام فقط ، فإن ذلك هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بإحسان . ومما يدل على هذا الأدب وما بعده إلى الأدب التاسع قوله صلى الله عليه وسلم :" حق المسلم على المسلم ست" قيل : ما هن يا رسول الله ؟ قال : " إذا لقيته فسلم عليه ، وإذا دعاك فأجبه ، وإذا استنصحك فانصح له ، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده ، وإذا مات فاتبعه " . مسلم(2162)عن أبي هريرة
6 : تشميت الأخ عند العطاس :
يعني : تشمته إذا عطس فحمد الله تعالى ، فيقال له : " يرحمك الله " كما في الحديث السابق ، ويرد هو قائلا:" يهديكم الله ويصلح بالكم " .
7 : عيادته عند المرض :
بمعنى زيارته إذا مرض ، كما في الحديث السابق . وهذا مما يجبر خاطره ، ويجعله يشعر بمكانته عند أخيه ، ويديم حبل المودة ، ويقوي من روح المريض المعنويه ، وحينئذ ينبغي للزائر التأدب بآداب عيادة المريض .
8 : إجابة دعوة الصديق :
أي : إجابة دعوته إذا دعاك إلى طعام ، سواء في وليمة أو عقيقة ، أو نحوها ، كما في الحديث السابق. ما لم يكن في هذه الدعوة محرم لايقدر على تغييره ، فلا يجوز حضورها .
9 : النصح للأخ الصديق:(30/1)
أي : النصيحة الصادقة له بما فيه منفعته إذا استنصحك . وذلك بما فيه الخير له في دينه ودنياه ، فإن هذا من حقه عليك كما في الحديث السابق في الأدب الخامس . وينبغي أن تصدقه في النصيحة . ولا تخدعه أوتغشه فيها ، لأن ذلك خيانة له .
10 : قبول هدية الصديق:
أي : عدم رد هديته ، مهما كانت بسيطة أ و صغيرة الشأن ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " أجيبوا الداعي ، ولا تردوا الهدية ..." أحمد(1/404) والطبراني في الكبير(10/10444) والبيهقي في الشعب(5359) والبخاري في الأدب المفرد (رقم157) عن ابن مسعود . صحيح الجامع(158) .ورد هدية الصديق قد يكون بابا من أبواب الشيطان ينفذ منه ليقطع حبل المودة بشكل كامل بين الصديقين .
11 : الإهداء للصديق :
وهذا مما ينبغي الحرص عليه ، الإهداء إلى الأخ الصديق من حين لآخر ، وفي المناسبات المختلفة ، وفي حدود الطاقة. فإن هذا مما يستجلب محبة الأخ الصديق ، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " تهادوا تحابوا " البخاري في الأدب المفرد (ص 87) وأبو يعلى ( 5/6122 ) عن أبي هريرة . صحيح الجامع (2004 ) . وانظر : صحيح الأدب المفرد (462) . وأما رد الهدية وعدم قبولها فإنه يذهب المحبة ، ويقطع أواصرها.
12 : مشاركته الحزن :
أي : إظهارالحزن لأجله ، ومواساته بالمال ، وبالكلمة الطيبة ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا "البخاري (481 ، 2446 ، 6026 ) ومسلم(2585) عن أبي موسى .
13 : مشاركته الفرح :
يعني مشاركته في أفراحه ، وإظهار السرور و الفرح لأجله ، فإن هذا مما يقوي عنده دواعي المحبة وأن تدعو له بالبركة إذا نزلت به نعمه ، ولا تحسده عليها .
14 : محبة الخير له :
أي : أن تحب له ما تحب لنفسك من الخير، فإن هذا من خصال الإيمان ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " البخاري (13) ومسلم (45) عن أنس ، وكذالك تكره له ما تكره لنفسك من الشر والضرر ، فإن الإيمان لا يكتمل إلا بذلك ، وهو عنوان الصدق في المحبة ، والسمو فيها .
15 : دفع الغيبة عنه :
بمعنى أن تذب عنه بالغَيبة ، وتدفع عن عرضه إذا كان غائبا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من ذب عن عرض أخيه بالغَيبة ، كان حقا على الله أن يعتقه من النار " أحمد (6/461) والطبراني في الكبير (24/442:443) عن أسماء بنت يزيد ، صحيح الجامع (6287) ، فلا تسمح لأحد أن يذمه في غيابه ، بل تمنعه من ذلك . ومن باب أولى أنك نفسك لا تغتابه ، فإن هذا من حقه عليك . والأخ الكريم لا يمكن أن يغتاب أخاه أبدا .
16 : الستر عليه :
وذلك بأن تستره بكل صورة ، سواء بستر عرضه ، أو بستر عورته ، أو بستر عيبه ومعصيته وزلته ، وغير ذلك . لقوله صلى الله عليه وسلم : " من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة " أحمد (4/62) عن رجل من الصحابة . وأصله في الصحيحين . صحيح الجامع (6287) . فإنها تشمل كل أنواع الستر ، وذلك على النحو الذي ترضاه لنفسك سواء بسواء .
17 : نصرة الأخ في الله :
بمعنى أن تنصره ظالما أو مظلوما . أما نصرته مظلوما فبالوقوف معه حتى يسترد حقه . وأما نصرته ظالما فبرده عن الظلم ، وإعادته إلى الحق والرشد ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما . قيل: كيف أنصره ظالما ؟ قال : تحجزه عن الظلم ، فإن ذلك نصرته " البخاري (2443 ، 2444 ، 6952 ) عن أنس . ولا يجوز للمسلم أن يخذل أخاه المسلم إذا احتاج لنصرته ، والوقوف معه ، بل يجب عليه أن يهب سريعا للوقوف معه ، والدفع عنه . 18 : عدم الخطبة على خطبته بمعنى أن لا تخطب على خطبته ، حتى ينكح ، أو يتراجع عن الخطبة. فإن فعل ذلك مما يوغر الصدر ، ويسبب العداوة ، ويذهب الأخوة. ولذلك نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " المؤمن أخو المؤمن ، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ، ولايخطب على خطبة أخيه حتى يذر " مسلم (1413) عن عقبة بن عامر . .
19 : عدم البيع على بيعه: أن لا تبيع على بيعه ، حتى يشتري أو يتراجع عن الشراء . وكثيرا ما تسبب الوقوع في مثل ذلك في تغير النفوس، وحلول العداوة والبغضاء محل المحبة والمودة. وقد سبق الحديث عن تحريم ذلك في الأدب السابق .
20 : الصدق مع الأخ وعدم الكذب عليه: والمقصود أن تصدقه ولا تكذب عليه أبدا ، لا في حديث ، ولا في نصيحة ، ولا في غير ذلك . فإن هذا كله من الغش والخيانة . وذلك لقوله صلى الله غليه وسلم : " المسلم أخو المسلم : لا يخونه ، ولا يكذبه ، ولا يخذله ، كل المسلم على المسلم حرام : عرضه ، وماله ، ودمه . التقوى ها هنا- وأشار إلى قلبه – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، "الترمذي (1927) وحسنه ، عن أبي هريرة . صحيح الترمذي (1572) . .
21 : تصديق الأخ وعدم تكذيبه :(30/2)
والمقصود بذلك أن تصدقه في خبره ، ولا تكذبه بغير سبب كاف ، ولا يجوز للمسلم أن يكذب أخاه المسلم ما دام لم يجرب عليه الكذب ، فإن تكذيبه يوغر صدره ، ويسبب عداوته . والحديث السابق يدل على ما ذكر .
22 : عدم خيانة الأخ :
بمعنى أن لا تخونه أبدا ، لا في ماله بأخذه بغير حق ، ولا في عرضه بانتهاكه ، ولا تفشي له سرا . فكل هذا من الخيانة التي حرمها الله تعالى ، وقد قال عز وجل : {إن الله لا يحب الخائنين } الأنفال : 58 . ومما يدل على وجوب حفظ سر المسلم وعدم إفشائه قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانه " أحمد (3/380) وأبو داود (4868) والترمذي (1959) وحسنه ، عن جابر . انظرصحيح الترمذي ( 1597) . ومعنى ( التفت ) قيل : أي انصرف . وقيل : التفاته خشية أن يسمعه أحد دليل على أنه خصك بالسر. فكان إفشاؤه خيانة.
23 : احترام الأخ في الله:
والمقصود عدم تحقيره ، وعدم الحط من شأنه ، أوتسفيهه بأي صورة ، وذلك للحديث السابق في الأدب العشرين ، ولأن ذلك يوغر صدره ، بل الواجب أن تظهر له كل احترام وإعزاز ، وأن تستمع لرأيه ، ولا تتنقصه ، ولا تسخر منه ، وخصوصا أمام الآخرين.
24 : الدعاء للأخ في الله :
بمعنى أن تدعو له بظهر الغيب عندما تدعو لنفسك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك : ولك بمثل " مسلم (2732) عن أبي الدرداء . وقال صلى الله عليه وسلم : " دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لايرد " البزار (4/500) عن عمران بن حصين . صحيح الجامع (3379) وهذا من أعظم علامات صدق الأخوة والمودة ، إذ لا مجال للمراءاة أو المداهنة والتزليف في مثل ذلك .
25 : عدم هجران الأخ الصديق:
بمعنى أن لا تهجره بغير مبرر مشروع، فإن ذلك لا يحل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيصد، هذا، ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام “ البخاري (6077 ، 6237 ) ومسلم (2560) عن أبي أيوب . وتزداد الحرمة كلما طال الهجر ، كما قال صلى الله عليه وسلم : "من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه " أحمد (4/220) وأبو داود (4915) والحاكم (4/163) وصححه ، ووافقه الذهبي ، والبخاري في الأدب المفرد (313)عن أبي خراش . صحيح أبي داود (4107) . أما إذا كان هجره لمعصية يقع فيها ، أوبدعة يعتنقها ، ويرجى أنه سوف يتأثر بالهجر فيقلع عنها ، فذلك حسن . وإلا فلا . وكذلك يهجر إذا تخلى عن إيمانه والعياذ بالله ، ولكن قبل الهجر ينبغي النصح له ، ومحاولة الأخذ بيده ، فلعله يرجع إلى الحق والصواب .
26 : التعاون معه على الخير :
بمعنى معونته على البر والتقوى ، وعلى طاعة الله عز وجل ، وقد قال تعالى :{وتعاونوا على البر والتقوى } المائدة : 2 ولا تتخلى عنه إذا وقع في معصية ، بل تسدده وتوفقه وتشجعه على التوبة ، وتقف إلى جانبه ، كما قال عمر رضي الله عنه.:. إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسددوه ووفقوه ، وادعوا الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه .:. وأما التخلي عنه إذا وقع في معصية ، وعدم الأخذ بيده إلى الخير ، فهو مما قد يتسبب في ضياعه بشكل نهائي .
27 : الاجتهاد في منفعته :
وذلك بأن تنفعه بكل وجه ممكن في أمر دينه ودنياه ، فإن هذا من حقه عليك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه " مسلم (2199) ويشمل هذا كل ما يمكن من أوجه النفع الدينية والدنيوية ، غير أنه إذا كان هذا النفع من باب الإعانة على أمر محرم فلا يجوز بحال .
28 : المحافظة على دوام الأخوة :
بمعنى استبقاء أخوته ، والمحافظة عليها ، واستدامتها بعدم المعاصي ما أمكن ، فإن المعاصي تفرق بين الإخوة المؤمنين المتحابين ، وذلك لشؤمها ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " ما تواد اثنان في الله ، فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما " جزء من حديث أخرجه أحمد ( 2/68 ) عن أبن عمر ، والبخاري في الأدب المفرد (401) عن أنس . وانظر صحيح الأدب المفرد للألباني (310) . وكم من صداقات قد انهارت، وتبددت، بشؤم المعاصي، إذ إن الأرواح جنود مجنده، وما دام أحد الصديقين غير تقي فلا بد أن يبغضه صاحبه التقي بمرور الوقت، وبإصراره على المعصية.
29 : مراعاة مشاعره:
بمعنى المحافظة على مشاعره ، وعدم إذائه بقول ، أوفعل ، أوإشارة . حتى ولو كانت غير متعمده- بل ينبغي الأنتباه لذلك والتحرز منه . فكم من رجل قال كلمة أمام أخيه لا يقصد بها السوء ، لكنها فهمت على غير وجهها ؛ فأفسدت ما بينهما ، وقد قال تعالى :{وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا } الإسراء : 53 .
30 : عدم التقصير في أداء حقوق الأخ:(30/3)