ومن هنا فإن مواجهة تلك الاستراتيجية وذلك المخطط الرهيب، لا يكون بردود الأفعال، والتصرفات غير المدروسة، أو الخطط قصيرة المدى والأثر، وإنما باتخاذ كل ما يكافئ تلك الاستراتيجية (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون(22)) . وهذا يتطلب جهوداً جماعية مضاعفة، يتضامن فيها الحاكم والمحكوم، الصغير والكبير، الذكر والأنثى، الفرد والجماعة، جهود على مستوى الأمة المؤمنة المسلمة، لا تفرقها العصبيات والحزبيات واختلاف البلدان والأقاليم (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)(23) (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)(24) ، نحن بحاجة إلى جهود في كافة المجالات، عسكرية وأمنية وإعلامية واقتصادية وسياسية واجتماعية.
كما أن إعداد الأفراد لخوض هذه المعركة يجب أن يكون شاملاً لكل الجوانب الإيمانية والتربوية والمالية والنفسية، ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم))(25) ، إننا يجب أن نربي أبناءنا منذ الصغر على معرفة عدوهم، وأن نرضعهم بغض أمريكا ومن يدور في فلكها، وأن نقرر لهم العقيدة الراسخة في كفر اليهود والنصارى والمشركين، وأنهم لم يكونوا ولن يكونوا لنا أصدقاء أبداً حتى يعود إلى الضرع اللبن، أو يؤمنوا بالله وحده، (..كفرنا بكم وبدا بينا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده..) (26) .
إن أعظم من ضرب العراق، ما نشهده من ضرب عقيدة الولاء والبراء، بل ونحرها نحراً على أيدي بعض من يدعي الإسلام، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق..) (27) .
والمعركة تتطلب تربية إيمانية شاملة جادة بعيدة عن اللهو والعبث والمجون، تربية أساسها القرآن والسنة، ومنهجها فهم سلف الأمة، وميدانها تزكية النفوس وصقلها، وتجنيبها الفتن والمحن وبنيات الطريق.
وهي كذلك معركة اقتصادية تحتاج منا إلى خطة بعيدة المدى نواجه فيها عدونا بما يكافئ تلك الوسائل التي يواجهنا بها، وأولى تلك الخطوات الاستغناء عن عدونا، ومقاطعة منتجاته ضمن برنامج عملي تدريجي تراعى فيه الأحوال والظروف مع الصدق والعزيمة، (..في الأرض مراغما كثيرا وسعة..)(28) . والمهم أن نصدق مع الله ونتخلص من الهزيمة النفسية، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)(29) (..فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم) (30) وأن نكون على ثقة بوعد ربنا، وبشرى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ولست في سبيل تفصيل كيف يكون الإعداد، وإنما أردت استنهاض الهمم والعزائم، وشحذ الطاقات، واستثمار الإمكانات وعندها سنرى العجب وما لا يخطر لنا على بال قال ابن القيم رحمه الله: "لو توكل العبد على الله حق توكله، في إزالة جبل عن مكانه، مأموراً بإزالته، لأزاله". (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)(31) .
فإذا أخذنا بالأسباب، وتوكلنا على الله حق توكله، فلن تستطيع أمريكا ولا غيرها هزيمتنا واستباحة بيضتنا، طال الزمان أو قصر (..قال أصحاب موسى إنا لمدركون* قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم* وأزلفنا ثم الآخرين* وأنجينا موسى ومن معه أجمعين* ثم أغرقنا الآخرين* إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين* وإن ربك لهو العزيز الرحيم) (32) .
وأخيراً أختم هذا البيان بكلمتين:
الأولى أوجهها إلى العلماء وطلاب العلم والدعاة رجالاً ونساءً: قوموا بما أوجب الله عليكم، وبما أخذه من العهد والميثاق بتبليغ رسالة الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونشر العلم، والصدع بالحق، لا تأخذكم في ذلك لومة لائم، واعملوا على جمع شمل الأمة حكاماً ومحكومين على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكونوا صفاً واحداً في مواجهة أعداء الأمة والملة، و تقدموا الصفوف مجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ولا تدعوا المجال للمنافقين والعلمانيين، فإن الناس إذا لم يجدوا عالماً ربانياً اتخذوا رؤساء جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، فبادروا إلى بيان الحق قبل فوات الأوان، وابتعدوا عن التسويف والتأجيل، وأذكركم بقوله تعالى:(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلاً فبئس ما يشترون)(33) وقوله:(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) (34).(/5)
وعليكم أن تتداعوا وتجتمعوا لتبصير الأمة بما يجب عليها، خاصة وأن الخطب جلل، والأمر جدّ خطير، وأن تبتعدوا عما يفرقها، ويزيد من شتاتها، وتنافرها، (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) (35) .
والثانية: أن نحسن الظن بالله، وأن نثق بوعده، وبأن العاقبة للمتقين، وأن الباطل وإن انتصر في جولة فسينهزم في جولات.
إن ما يجري على مرارته وشدته يحمل بشائر النصر، وإن المستقبل بإذن الله لهذا الدين، وإن قوى الكفر مهما عملت فلن تستطيع إطفاء نور الله (يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله أن يتم نوره ولو كره الكافرون)(36) ، إن جولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى قيام الساعة وإن الظلم مرتعه وخيم، وعلى الباغي تدور الدوائر، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء، وسيأتي يوم نردد فيه ما ردده نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو يحطم الأصنام (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (37) ، ولكنه الابتلاء والامتحان ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، والمهم أن نكون كما أمرنا الله في عقيدتنا وعبادتنا وخلقنا وسلوكنا واستعدادنا الحسي والمعنوي، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، (هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)(38) ولنتفقد أحوالنا حتى لا يحل بنا ما حذرنا منه رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) (39).
فلنعد إلى ديننا عودة صادقة مخلصة، ولنغير من أحوالنا فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وعندها أبشروا وأملوا، فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً، وعندما تكون الأمة على مستوى المسؤولية سيتحقق وعد الله بالنصرة، ويحيق بعدونا ما حاق بأمثالهم من قبل (أم يقولون نحن جميع منتصر* سيهزم الجمع ويولون الدبر* بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر* إن المجرمين في ضلال وسعر)(40) .
وقبل الوداع أذكر نفسي وإخواني بأهمية الالتجاء إلى الله، والرجوع إليه بتوبة صادقة، وفيئة خالصة، مع التضرع إليه في سجودنا وقنوتنا وأسحارنا بأن يكشف هذه الغمة، ويهلك أعداء الملة والأمة، وأن يعز الإسلام والمسلمين، ويذل الشرك والمشركين، وأن يدفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن يوحد قلوب العلماء والدعاة والمؤمنين على كلمة سواء، وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من ظلم الظالمين، وكيد الكافرين، وأن يرد كيدهم في نحورهم، ويجعل الدائرة عليهم، إنه قوي عزيز سميع مجيب، (فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد)(41) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
1- صحيح البخاري 3/1221 (3168)، ومسلم 4/2207 (2880).
2- ولا شك أن لجم دولة الرافضة وضرب قوتها، مما حال دون تحقيق أهدافها في المنطقة و تصدير ثورتها، ومنعها من نشر التشيع في العالم الإسلامي –كما تريد- وفرض الفكر الرافضي على بلاد المسلمين، وكان العراق في مقدمة أهدافها فبيتها ليلاً قبل أن تدهمه فجراً، ولكن من جهة أخرى كان في ذلك تحقيق لبعض أهداف أمريكا من نحو ضرب أي قوة ناشئة قد تسبب خطراً على مصالحها، ومن نحو إفرادها بالولاء والطاعة في المنطقة، وهو ما نحن بصدد بيانه.
3-الممتحنة:1.
4-المائدة:51.
5-الممتحنة:4.
6-المجادلة: 22.
7- صحيح مسلم 4/1994 (2577) وغيره.
8- صحيح مسلم 2/853 (1196)، وغيره.
9-الأنعام: 112.
10- النور: 15.
11- التوبة: 66.
12- فصلت: 23.
13-صحيح البخاري 6/2550 رقم (6552)، ومسلم 4/1998 رقم (2584).
14-انظر صحيح الجامع رقم (5690).
15- صحيح البخاري 2/862 رقم (2310)، ومسلم 4/1996 رقم (2580) ورواه غيرهما.
16-الحج: 46.
17-النساء: 65.
18- الأعراف: 164.
19-المائدة: 41.
20- البقرة: 120.
21- البقرة: 217.
22- الأنفال: 60.
23- آل عمران: 103.
24- الأنفال: 46.
25-انظر صحيح سنن أبي داود (2186).
26- الممتحنة: 4.
27-الممتحنة: 1.
28-النساء: 100.
29-التوبة: 119.
30 -محمد: 21.
31 - العنكبوت: 69.
32- الشعراء: 61-68.
33-آل عمران: 187.
34- البقرة: 159.
35- آل عمران: 103.
36- التوبة: 32.
37- الإسراء: 81.
38- محمد: 38.(/6)
39- حديث حسن رواه أبوداود 3/274 كتاب البيوع في النهي عن العينة (3461)، والبيهقي في السنن الكبرى 5/319 باب ما ورد في كراهية التابيع بالعينة (10484)، قال ابن كثير بعد أن ذكره: "وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون عن أبي جناب عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك وهذا شاهد للذي قبله والله أعلم"التفسير 2/344. وشاهد أحمد الذي عناه في المسند 2/84. وانظر صحيح أبي داود (2956).
40- القمر: 44-47.
41- غافر: 44.(/7)
ويل للعرب من شر قد اقترب
2/7/1423
أ.د. ناصر بن سليمان العمر- المشرف العام على موقع المسلم
*الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
(تتجه أنظار العالم صوب بغداد حابسة أنفاسها، تنتظر تلك الرصاصة التي سيطلقها بوش على رأس صدام حسين).
وبهذه البساطة المتناهية تدور أغلب التحليلات والمواقف والمقالات تجاه تلك المؤامرة الكبرى على العراق أولاً، وعلى بلاد المسلمين ثانياً وثالثاً.
ومساهمةً في توضيح الصورة التي يراد لنا أن نراها على غير حقيقتها، وقياماً بالواجب الشرعي كتبت هذه السطور، لندرك الحقيقة قبل فوات الأوان، وقبل أن نبكي مثل النساء حقاً مضاعاً لم نحافظ عليه مثل الرجال، وعلى الباغي تدور الدوائر.
أرى خلل الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قومي
يكون وراءها فتن عظام
(( ويلٌ للعرب من شر قد اقترب))(1) .
ثم أقول مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، سائلا إياه التوفيق والسداد:
أولاً: من الخطأ بل من السذاجة المتناهية أن نتصور أن المعركة بين صدّام حسين وبين بوش، أو بين النظام البعثي في العراق وبين الحكومة في أمريكا، إن هذا التحليل مع ما يحمله من غفلة وحماقة، قد يجر إلى السلبية القاتلة نحو ما سيجري هناك، بل قد يدفع البعض إلى أن يضع يده في يد أمريكا، أملاً وطمعاً في التخلص من صدّام وحزبه الذي جرّ على الأُمّة ويلاتٍ ونكبات.
إن حقيقة المعركة تتمثل في أهداف أمريكا تجاه العالم الإسلامي فهي حلقة من سلسلة الحروب الصليبية التي أعلنها بوش وبدون مُوارَبَة في العام الماضي، فقد أعلن أن معركته الأولى في أفغانستان والثانية في العراق وهلمّ جَرّا.
والذي ينكر هذه الحقيقة أو يتجاهلها فهو كمن ينكر أن أمريكا هي التي دمّرت أفغانستان، وجاءت بحكومة عميلة هزيلة، لا يستطيع رئيسها أن يخرج من بيته إلا بحراسة أمريكية خوفاً عليه من شعبه، ومن أقرب المقربين إليه.
إن الذي يجري الآن نحو العراق حلقة أخرى من حلقات المؤامرة الكبرى التي بدأتها أمريكا قبل حرب الخليج الثانية، بل قبل حرب الخليج الأولى حيث استخدمت العراق لضرب إيران وتفكيك قواها وبخاصة بعد ثورة الرافضة مباشرة وقيام دولتهم، فقد خشيت أمريكا من أن يفلت الزمام من يدها فكانت تلك الحرب الطاحنة التي استمرت أكثر من ثمان سنوات دفع ثمنها العراق ودول الخليج قبل إيران، أتت على الأخضر واليابس، وأوهنت القوى، وزادت الجراح، وأنضبت الموارد (2).
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة وثائق تثبت تورط أمريكا في تلك الحرب، ودعمها المباشر ومن خلال عملائها وحلفائها للعراق، من أجل تحقيق الهدف الأول ضمن استراتيجيتها الطويلة البعيدة المدى.
ثم جاءت حرب الخليج الثانية التي تداعت فيها الأمم على العراق بحجة إخراجه من الكويت وإقامة العدل وإعادة الحق إلى نصابه، فكانت تلك الكارثة التي لم يسلم من شرها لا الظالم ولا المظلوم وذلك بقيادة أمريكا ومن أجل تحقيق أهدافها التي لم تعد سراً.
مع أنني أعتبر أنّ غزو الكويت من أعظم الظلم والبغي والفساد في الأرض، وأن صدّام هو السبب المباشر لكل ما حدث وهذه قناعة أعلنتها في وقتها، مع ذلك فتلك الحقيقة شيء وما أنا بصدده الآن شيء آخر لا تلازم بينهما، فلا يتوقع من أمريكا أن تأتي بعد صدام إلاّ بصدام آخر ولكنه مستنسخ من بوش.
والمستجير بـ(بوش) عند كربته ** كالمستجير من الرمضاء بالنار!
حقق الغرب الصليبي من خلال حرب الخليج الثانية أهدافاً استراتيجية كبرى التقت فيها مصالح اليهود مع مصالح الصليبيين، وهاهي تلتقي مرة أخرى ضمن مخطّطٍ رهيبٍ في معركة طويلة يكون العراق في أول قائمتها كما أعلنوا.
ولئن كانت إدارة بوش تردد الحديث عن خطورة نظام صدام وخطورة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل وتتعمد إثارة البلبلة الإعلامية حول خططها الحربية العسكرية وتوقيتها، فإنه من الأهمية التساؤل عن مبرر إثارة هذه القضيّة الآن وفي هذا التوقيت بالذات؟ أليس العدو الصهيوني يمتلك ترسانة من الأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل أكثر مما يملك العراق؟
ألم تترك إدارة بوش الأب نظام بغداد دون الإجهاز عليه مع توافر الإمكانية القصوى لذلك. ومع وجود قدرات عسكرية للعراق أكثر مما هي عليه الآن؟ ألم تبتز الإدارة الأمريكية المنطقة بالإبقاء على نظام صدام رغم مخاطره التي يتحدثون عنها طوال العقد الماضي؟ فلماذا لآن؟
إن الذي يظهر من التسريبات الصحفية والأجواء العالمية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر يشير إلى أن القضية أبعد من إسقاط نظام صدام أو حتى التحكم في منتوجاته النفطية على أهمية ذلك.
إن الهدف الأكبر هو إيجاد نظام بديل أكثر طواعية وعمالة، يكون صنيعة أمريكية بحتة، سواءً بالأسلوب العسكري أو الأمني الاستخباري، وهذا بدوره سوف يدخل المنطقة بل العالم في طور جديد من النفوذ الأمريكي إذا سمح له أن يمر دون مقاومة.(/1)
فهذا التحول سيقلل من دور الدول الخليجية الأخرى في المنطقة، وسيسمح بضغوطات أكبر وأكبر عليها تتعدى المطالبة بتغيير أنظمة التعليم والعمل الخيري إلى ما هو أبعد من ذلك.
وهذا التحول سيحرك أحجاراً أخرى في المنطقة كإيران وسوريا وقد يدفع لتغيير جغرافي بين العراق والأردن من أجل إنهاء القضية الفلسطينية بالطريقة التي يريدونها هم، وخصوصاً اليمين الإنجيلي المتطرف الذي يرى أن الطريق إلى القدس يمر عبر بغداد! وبخاصة أن إنهاء القضية الفلسطينية هو أحد الأهداف الاستراتيجية الكبرى للغرب، والذي يجري الآن لون من الاستعمار الجديد والهيمنة على العالم الإسلامي، عن طريق زرع عدد من القواعد الأمريكية في بلاد المسلمين.
ثانياً: إن عداوتنا لصدام وحزبه البعثي الكافر وظلمه السافر، لا تجيز لنا بحال من الأحوال تبرير موقف أمريكا تجاه العراق فضلا عن تأييدها أو الوقوف معها:
إليك فإني لست ممن إذا اتقى ** سموم الأفاعي نام فوق العقارب!
وعداوتنا وبغضنا لأمريكا لا يلزم منه حبنا لصدام أو التعاطف معه ومع حزبه، فأمريكا صليبية نصرانية عداوتها ركن أصيل من صلب عقيدتنا (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل(3)) (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)(4) وكذلك نتقرب إلى الله ببغض صدام وحزبه والبراءة منه حتى يعودوا إلى دينهم (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءؤا مما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بينا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده..)(5) . وأي خلل في بغض هؤلاء أو عداوة أولئك خلل في عقيدة المسلم وولائه وحبه لله ولدينه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وذلك أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حرب الله هم المفلحون) (6).
إن فقه هذه العقيدة والالتزام بها جزء من موقف المسلم تجاه تلك المعركة الطويلة ومنطلق أصيل لفهم مجرياتها وأبعادها وآثارها، وما يجب على المسلم تجاهها، دون إفراط أو تفريط ودون غلو أو جفاء.
ثالثاً: يجب أن نعرف أن ضرب العراق ظلم فادح وجريمة كبرى، فشعب العراق وبخاصة أهل السنة هم الذين سيكتوون بنار تلك الحرب ، سواء بقي صدام أو ذهب، وكما دفعوا الثمن فيما مضى من حروب طاحنة فهم من سيدفع الثمن في هذه الحرب، ولن يتم الوصول إلى صدام إلا بعد أن يكون الدمار والبوار، فقد أخذ صدام للأمر أهبته وأعد له عدته، فجعل من يشك في ولائهم أول وقود الحرب وحطبها، وقد أثبتت لنا التجارب أن أمريكا في سبيل احتمال كبح إنسان واحد لا مانع لديها من إهلاك مصر كامل، وبلاد الأفغان خير شاهد، ومن هذا المنطلق وحيث إن الله حرم الظلم لما له من عواقب وخيمة كما في الحديث القدسي: ((ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا))(7) لذلك كله لا يجوز تأييد هذا الظلم، بل تجب البراءة المعلنة منه براءة بالقلب واللسان، مع الحذر كل الحذر من تأييده سواء أكان ذلك بالجنان أو الأركان، بالعبارة أو الإشارة، ولنتذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في صيد الحرم ((هل منكم أحد أمره أو أشار إليه))(8) فمجرد الإشارة مشاركة في العمل، وقول اللسان من أعظم الأفعال (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)(9) فسمى القول فعلاً، غير أن بعض الناس يظنه هيناً غير مؤاخذ عليه وليس الأمر كذلك (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم)(10) (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين)(11) كما أن عمل القلب له آثاره ولوازمه (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين)(12) (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم..) فالحذر الحذر، تفقد قلبك وألجم لسانك وارفع يدك وإياك أن تشير أو تشارك في تلك الجريمة النكراء، أو تسكت عن إنكارها وبيان أخطارها.(/2)
رابعاً: يجب الوقوف مع إخواننا في العراق، لا مع النظام، فوقوفنا معهم واجب شرعي وحق أخوي ((انصر أخاك ظالما أو مظلوما))(13) ، والوقوف معهم له صور وأشكال متعددة باليد واللسان والقلب، بالحس والمعنى، بالمال والنفس، كل حسب استطاعته وطاقته، ولنحذر من السلبية القاتلة والوقوف في صف المتفرجين، فإن من أعظم الظلم خذلان المسلم لأخيه المسلم، و ((ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته))(14) ، و((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة.. )) (15).
خامساً: مأساة الأمة مع الأنظمة العربية وحكام المسلمين مأساة طويلة، فكم خذلت تلك الأنظمة شعوبها وجرت على نفسها الويلات والنكبات، فتراها تعلن شيئا وتخفي أشياء وتقول قولا وتعمل بضده، ومن ثم فقدت أغلب الحكومات ثقة شعوبها، حتى أصبحت لدى الشعوب قناعة بأن النفي من حكوماتها إثبات، والعطاء أخذ، والنصر هزيمة.
وفي هذه القضية كيف تُصدق بعض الأنظمة التي تعلن وقوفها ضد ضرب العراق وهي تزود ناقلات أمريكا وطائراتها بالنفط! وأخرى تشجب ضرب العراق والقواعد الأمريكية في أراضيها! وثالثة تعلن عداوة لأمريكا أمام الملأ وتعقد معها الصفقات في الخفاء! ورابعة تسمح بمرور الأساطيل الأمريكية عبر موانئها وأجوائها.
ويزداد عجبي من شأن هذه الأنظمة وتعاملها مع الأحداث الكبرى، انظر إلى واقعها فيما بينها تجد أن التناحر والتطاحن والاختلاف هو الأصل، والاتفاق حالة استثنائية، حتى أثناء الأزمات والمحن ليس لديها القدرة على اتخاذ موقف موحَد مشرِف، وعدوها الحقيقي يأكلها دولة بعد أخرى، بل صرح زعماء الغرب أنه يصعب عليهم التعامل مع العرب والمسلمين، لأنهم لا يملكون رأياً واحداً مشتركاً، بل كل دولة لها وجهة نظر تختلف عن الدولة الأخرى.
وهذا يذكرني بقصة يهود بني قريظة مع كعب بن أسد عندما كانوا يساقون إلى القتل واحداً تلو الآخر، فقالوا له: إلى أين يذهب بنا؟ فقال قولته المشهورة: تباً لكم يا معشر يهود، أفي كل موطن لا تعقلون.
فهل تعقل تلك الأنظمة ماذا تريد بها أمريكا، وهي لا تزال تتباكى، تحت قدمي أمريكا مُقسِمَة اغلظ الأيمان أنها هي الصديق والحليف وأنها معها ضد الإرهاب في خندق واحد، وأمريكا تعلن جهاراً نهاراً عداوتها واستعدادها لمواجهتها، وأنها مصممة للقضاء عليها واحدة تلو الأخرى.
إن أولئك الحكام لا يتعلمون من التاريخ! ماذا جنوا من صداقتهم لأمريكا وتحالفهم معها، قدموا بلادهم وأموالهم بل أموال المسلمين قرباناً لتلك الصداقة، بل أصبحت بعض الأنظمة تدفع لأمريكا قيمة الرصاصة التي تقتلها بها، وعلى نفسها جنت براقش، وهاهي النتيجة ظاهرة للعيان، فقد أكلنا يوم أكل الثور الأول، وصدق الله العظيم (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (16).
إنني أدعو الأنظمة العربية والحكام العرب بل وحكام المسلمين جميعاً إلى أن يصطلحوا مع شعوبهم ويتحالفوا معهم بدلاً من تحالفهم مع اليهود والنصارى، وصداقتهم للشرق والغرب، فوالله إن تلك الأحلاف الظالمة لن تغني عنهم من الله شيئاً، كما أنهم لن يصطلحوا مع شعوبهم، ولن يحافظوا على وحدة صفهم، مالم يتوبوا إلى ربهم، ويستمسكوا بدينهم، ويسلموا قيادة أمرهم وحكمهم إلي مليكهم (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)(17) . كما أنصحهم بالبعد عن اتخاذ المواقف التي تبعدهم عن شعوبهم، وتثير الفتن الداخلية، مما يسهل على العدو تحقيق أهدافه ومآربه.
إنني آمل أن تجد هذه الكلمات آذاناً صاغية وقلوباً واعية قبل فوات الأوان، وحلول الهوان، ومن أنذر فقد أعذر.(وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)(18) (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (19) .
سادساً: أما الشعوب الإسلامية، والعربية خصوصاً فلها شأن آخر، حيث لا تزال في لهوها وغفلتها، ومع أن الأمر جدّ خطير، فلم تغير من واقعها شيئاً يذكر، وكأن الأمر لا يعنيها، بل هناك من ينتظر بفارغ الصبر ما ستفعله أمريكا، من أجل رفع المعاناة عن شعب العراق المظلوم ولم يدرك ذلك المسكين أن الغرب لا يعنيه من شأن ذلك الشعب شيئاً، وهل ضُرب الشعب العراقي إلا على يد الغرب وحلفائه.(/3)
إن إنقاذ شعب العراق من محنته مع حكومته الجائرة والتآمر الدولي الظالم، لا يأتي على يد بوش، وهل كانت محنته إلاّ صنيعة أبيه مِن قبله!
إن حلّ مشكلة العراق، بيد الشعب العراقي أولاً، وذلك بعودته الصادقة إلى الله والتزام شرعه وأمره، ثم بيد إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
كما أن الحكومات العربية والإسلامية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن حل تلك الأزمة، وإنقاذ هذا الشعب من ذلك الظالم الجائر.
والتزام الدول العربية بالقرارات الدولية الظالمة هو من جملة ما أوصل الحال إلى تلك المأساة، ويزداد عجبي من تقديس الحكومات العربية للأنظمة الدولية فضلاً عن تنفيذها والالتزام بها، وبخاصة عندما أرى مواقف الحكومة الصهيونية من تلك القرارات، وضربها إياها بعرض الحائط، وجعلها خلفها ظهريا.
وأوجه نصيحة خاصة لكل عراقي ألا يجعل من نفسه مطية لأمريكا، من أجل تنفيذ مآربها وأهدافها على أرضه ومن خلال أهله وعشيرته، والموت بشرف على يد صدام، أفضل من حياة ذليلة في جنة أمريكا.
لا تسقني ماء الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
فاختر لنفسك منزلاً تعلو به
أو مت كريماً تحت ظل القسطل
موت الفتى في عزة خير له
من أن يبيت أسير طرف أكحل
سابعاً: إن استراتيجية أمريكا في المنطقة بعيدة المدى، غائرة الجذور، ثابتة الأركان، وهي مصممة على تنفيذ تلك الاستراتيجية، طال الزمن أو قصر (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل أن هدى الله هو الهدى ولإن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير)(20) (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(21) ، وهي في ذلك تستخدم أسلوب الكر والفر، والإقدام الإحجام، والسر والإعلان، في ضوء ما يحقق لها أهدافها، ولن تتورع عن أي أسلوب يوصلها لغايتها، فالغاية لديها تبرر الوسيلة، وما أحجار رقعة الشطرنج عنا ببعيد، والميكافيلية دينها وديدنها، كما صرح بذلك وجلاّه ساستها ودهاقنتها ورجال مخابراتها وجيوشها.
ومن هنا فإن مواجهة تلك الاستراتيجية وذلك المخطط الرهيب، لا يكون بردود الأفعال، والتصرفات غير المدروسة، أو الخطط قصيرة المدى والأثر، وإنما باتخاذ كل ما يكافئ تلك الاستراتيجية (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون(22)) . وهذا يتطلب جهوداً جماعية مضاعفة، يتضامن فيها الحاكم والمحكوم، الصغير والكبير، الذكر والأنثى، الفرد والجماعة، جهود على مستوى الأمة المؤمنة المسلمة، لا تفرقها العصبيات والحزبيات واختلاف البلدان والأقاليم (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)(23) (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)(24) ، نحن بحاجة إلى جهود في كافة المجالات، عسكرية وأمنية وإعلامية واقتصادية وسياسية واجتماعية.
كما أن إعداد الأفراد لخوض هذه المعركة يجب أن يكون شاملاً لكل الجوانب الإيمانية والتربوية والمالية والنفسية، ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم))(25) ، إننا يجب أن نربي أبناءنا منذ الصغر على معرفة عدوهم، وأن نرضعهم بغض أمريكا ومن يدور في فلكها، وأن نقرر لهم العقيدة الراسخة في كفر اليهود والنصارى والمشركين، وأنهم لم يكونوا ولن يكونوا لنا أصدقاء أبداً حتى يعود إلى الضرع اللبن، أو يؤمنوا بالله وحده، (..كفرنا بكم وبدا بينا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده..) (26) .
إن أعظم من ضرب العراق، ما نشهده من ضرب عقيدة الولاء والبراء، بل ونحرها نحراً على أيدي بعض من يدعي الإسلام، (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق..) (27) .
والمعركة تتطلب تربية إيمانية شاملة جادة بعيدة عن اللهو والعبث والمجون، تربية أساسها القرآن والسنة، ومنهجها فهم سلف الأمة، وميدانها تزكية النفوس وصقلها، وتجنيبها الفتن والمحن وبنيات الطريق.(/4)
وهي كذلك معركة اقتصادية تحتاج منا إلى خطة بعيدة المدى نواجه فيها عدونا بما يكافئ تلك الوسائل التي يواجهنا بها، وأولى تلك الخطوات الاستغناء عن عدونا، ومقاطعة منتجاته ضمن برنامج عملي تدريجي تراعى فيه الأحوال والظروف مع الصدق والعزيمة، (..في الأرض مراغما كثيرا وسعة..)(28) . والمهم أن نصدق مع الله ونتخلص من الهزيمة النفسية، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)(29) (..فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم) (30) وأن نكون على ثقة بوعد ربنا، وبشرى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ولست في سبيل تفصيل كيف يكون الإعداد، وإنما أردت استنهاض الهمم والعزائم، وشحذ الطاقات، واستثمار الإمكانات وعندها سنرى العجب وما لا يخطر لنا على بال قال ابن القيم رحمه الله: "لو توكل العبد على الله حق توكله، في إزالة جبل عن مكانه، مأموراً بإزالته، لأزاله". (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)(31) .
فإذا أخذنا بالأسباب، وتوكلنا على الله حق توكله، فلن تستطيع أمريكا ولا غيرها هزيمتنا واستباحة بيضتنا، طال الزمان أو قصر (..قال أصحاب موسى إنا لمدركون* قال كلا إن معي ربي سيهدين * فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم* وأزلفنا ثم الآخرين* وأنجينا موسى ومن معه أجمعين* ثم أغرقنا الآخرين* إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين* وإن ربك لهو العزيز الرحيم) (32) .
وأخيراً أختم هذا البيان بكلمتين:
الأولى أوجهها إلى العلماء وطلاب العلم والدعاة رجالاً ونساءً: قوموا بما أوجب الله عليكم، وبما أخذه من العهد والميثاق بتبليغ رسالة الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونشر العلم، والصدع بالحق، لا تأخذكم في ذلك لومة لائم، واعملوا على جمع شمل الأمة حكاماً ومحكومين على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكونوا صفاً واحداً في مواجهة أعداء الأمة والملة، و تقدموا الصفوف مجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، ولا تدعوا المجال للمنافقين والعلمانيين، فإن الناس إذا لم يجدوا عالماً ربانياً اتخذوا رؤساء جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، فبادروا إلى بيان الحق قبل فوات الأوان، وابتعدوا عن التسويف والتأجيل، وأذكركم بقوله تعالى:(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلاً فبئس ما يشترون)(33) وقوله:(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) (34).
وعليكم أن تتداعوا وتجتمعوا لتبصير الأمة بما يجب عليها، خاصة وأن الخطب جلل، والأمر جدّ خطير، وأن تبتعدوا عما يفرقها، ويزيد من شتاتها، وتنافرها، (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذا كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) (35) .
والثانية: أن نحسن الظن بالله، وأن نثق بوعده، وبأن العاقبة للمتقين، وأن الباطل وإن انتصر في جولة فسينهزم في جولات.
إن ما يجري على مرارته وشدته يحمل بشائر النصر، وإن المستقبل بإذن الله لهذا الدين، وإن قوى الكفر مهما عملت فلن تستطيع إطفاء نور الله (يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله أن يتم نوره ولو كره الكافرون)(36) ، إن جولة الباطل ساعة، وجولة الحق إلى قيام الساعة وإن الظلم مرتعه وخيم، وعلى الباغي تدور الدوائر، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء، وسيأتي يوم نردد فيه ما ردده نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو يحطم الأصنام (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) (37) ، ولكنه الابتلاء والامتحان ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، والمهم أن نكون كما أمرنا الله في عقيدتنا وعبادتنا وخلقنا وسلوكنا واستعدادنا الحسي والمعنوي، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، (هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)(38) ولنتفقد أحوالنا حتى لا يحل بنا ما حذرنا منه رسولنا صلى الله عليه وسلم: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) (39).(/5)
فلنعد إلى ديننا عودة صادقة مخلصة، ولنغير من أحوالنا فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وعندها أبشروا وأملوا، فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً، وعندما تكون الأمة على مستوى المسؤولية سيتحقق وعد الله بالنصرة، ويحيق بعدونا ما حاق بأمثالهم من قبل (أم يقولون نحن جميع منتصر* سيهزم الجمع ويولون الدبر* بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر* إن المجرمين في ضلال وسعر)(40) .
وقبل الوداع أذكر نفسي وإخواني بأهمية الالتجاء إلى الله، والرجوع إليه بتوبة صادقة، وفيئة خالصة، مع التضرع إليه في سجودنا وقنوتنا وأسحارنا بأن يكشف هذه الغمة، ويهلك أعداء الملة والأمة، وأن يعز الإسلام والمسلمين، ويذل الشرك والمشركين، وأن يدفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن يوحد قلوب العلماء والدعاة والمؤمنين على كلمة سواء، وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من ظلم الظالمين، وكيد الكافرين، وأن يرد كيدهم في نحورهم، ويجعل الدائرة عليهم، إنه قوي عزيز سميع مجيب، (فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد)(41) وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
--------------------------------------------------------------------------------
* نشر في موقع الإسلام يوم بتاريخ 2/7/1423
1- صحيح البخاري 3/1221 (3168)، ومسلم 4/2207 (2880).
2- ولا شك أن لجم دولة الرافضة وضرب قوتها، مما حال دون تحقيق أهدافها في المنطقة و تصدير ثورتها، ومنعها من نشر التشيع في العالم الإسلامي –كما تريد- وفرض الفكر الرافضي على بلاد المسلمين، وكان العراق في مقدمة أهدافها فبيتها ليلاً قبل أن تدهمه فجراً، ولكن من جهة أخرى كان في ذلك تحقيق لبعض أهداف أمريكا من نحو ضرب أي قوة ناشئة قد تسبب خطراً على مصالحها، ومن نحو إفرادها بالولاء والطاعة في المنطقة، وهو ما نحن بصدد بيانه.
3-الممتحنة:1.
4-المائدة:51.
5-الممتحنة:4.
6-المجادلة: 22.
7- صحيح مسلم 4/1994 (2577) وغيره.
8- صحيح مسلم 2/853 (1196)، وغيره.
9-الأنعام: 112.
10- النور: 15.
11- التوبة: 66.
12- فصلت: 23.
13-صحيح البخاري 6/2550 رقم (6552)، ومسلم 4/1998 رقم (2584).
14-انظر صحيح الجامع رقم (5690).
15- صحيح البخاري 2/862 رقم (2310)، ومسلم 4/1996 رقم (2580) ورواه غيرهما.
16-الحج: 46.
17-النساء: 65.
18- الأعراف: 164.
19-المائدة: 41.
20- البقرة: 120.
21- البقرة: 217.
22- الأنفال: 60.
23- آل عمران: 103.
24- الأنفال: 46.
25-انظر صحيح سنن أبي داود (2186).
26- الممتحنة: 4.
27-الممتحنة: 1.
28-النساء: 100.
29-التوبة: 119.
30 -محمد: 21.
31 - العنكبوت: 69.
32- الشعراء: 61-68.
33-آل عمران: 187.
34- البقرة: 159.
35- آل عمران: 103.
36- التوبة: 32.
37- الإسراء: 81.
38- محمد: 38.
39- حديث حسن رواه أبوداود 3/274 كتاب البيوع في النهي عن العينة (3461)، والبيهقي في السنن الكبرى 5/319 باب ما ورد في كراهية التابيع بالعينة (10484)، قال ابن كثير بعد أن ذكره: "وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون عن أبي جناب عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك وهذا شاهد للذي قبله والله أعلم"التفسير 2/344. وشاهد أحمد الذي عناه في المسند 2/84. وانظر صحيح أبي داود (2956).
40- القمر: 44-47.
41- غافر: 44.(/6)
ويل لمن غلبت آحادُه أعشارَه، ولا يهلك على الله إلا هالك
"كل عبادي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟
قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" الحديث
فضائل الله على هذه الأمة كثيرة، وآلاؤه عظيمة، من ذلك أن عوضها عن قصر أعمارها بالنسبة لمن سبقها من الأمم بكثرة مواسم الخير، وبمضاعفة الأجور والحسنات، وبرفع الحرج عنها، والآصار والأغلال التي كانت على من قبلها.
من ذلك تضعيف الحسنات، وغفران الزلات، وتبديل السيئات حسنات.
فمن جاء بحسنة واحدة فله أحد ثلاثة أمور:
• ... إما عشر أمثالها.
• ... وإما سبعمائة ضعف.
• ... وإما إلى ما شاء الله.
لا فرق بين الإنفاق في سبيل الله وغيره، بل هناك أعمال يوفى أصحابها بغير حساب، كالصوم.
ومن هَمَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن هَمَّ بسيئة فعملها كتبت له سيئة، وإن تركها من أجل الله كتبت له حسنة.
ومن اقترف سيئة فله أحد ثلاثة أمور كذلك:
• ... إما أن تكتب له سيئة.
• ... وإما أن يغفرها الله له.
• ... وإما أن تستبدل له حسنة.
قال تعالى: "مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ"1.
وقال: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"2.
وقال: "مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"3.
وقال: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ"4.
وفي الخبر المرفوع: "الحسنة بعشر أمثالها أوأزيد، والسيئة واحدة وأغفر، فويل لمن غلبت آحادُه أعشارَه".
آية البقرة السابقة تبين أن التضعيف إلى سبعمائة ضعف وإلى ما شاء الله خاص بنفقة الجهاد في سبيل الله، والخبر يوضح أن الزيادة على العشرة يشمل جميع أعمال الخير، وليس هذا على الله بعزيز.
قال القرطبي رحمه الله: (ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف، واختلف العلماء في معنى قوله: "وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء"، فقالت طائفة: هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة، وقالت طائفة من العلماء: بل هي إعلام بأن الله يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف.
قلت: وهذا القول أصح).5
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (فجزاء السيئة سيئة واحدة مثلها، وجزاء الحسنة على أقل التقديرات عشرة أمثال، فمن غلبت آحادُه عشراتِه فلا خير فيه، ولا يهلك على الله إلا هالك، لأن هذه الحنيفية السمحة التي جاء بها سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، هيأ الله فيها طريق الجنة ويسرها تيسيراً عجيباً، رفع فيها الأثقال والآصار والتكاليف، من شق عليه السفر فليفطر، وليقصر الصلاة، ومن لم يقدر على الصلاة قائماً صلى قاعداً، وهكذا في أنواع التخفيف، فمع هذا فالحسنة تكتب له بعشر حسنات، والسيئة إنما تكتب عليه واحدة مثلها، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، بل قد تكون حسنة إن كان تركه لها لأجل ابتغاء مرضاة الله.
فهذه الآيات من أعظم المبشرات للمسلمين، لأن جميع حسناتهم عند الوزن الذي قال الله: "وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ"6، إذا كانت حسنتك تضاعف عشر مرات، وسيئتك إنما تجازى بسيئة واحدة مثلها، ففي هذا أعظم البشارة للمسلمين، وعليهم أن يكثروا من الحسنات، ومن الحكم العظيمة وجوامع الكلم قوله صلى الله عليه وسلم: "واتبع الحسنة السيئة تمحها"7).8
لقد كثر الله سبل دخول الجنة ويسرها حتى جعلها أقرب لأحدنا من شراك نعله لمن وفقه الله، وكذلك النار أقرب لأحدنا من شراك نعله لمن لم يلطف به ربه، وأتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني الكاذبة.
فالسعيد من جد وشمَّر، وحاسب نفسه، وراقب حاله، وأكثر من الحسنات، وحذر من السيئات، واستعان على ذلك بكثرة التوبة والإنابة لرب الأرض والسموات، وعافاه الله من التسويف.
اللهم إنا نسألك الجنة وما يقرب إليها من قول أوعمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول أوعمل، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وصلى الله وسلم على من دل أمته على كل خير، وحذرهم ونهاهم عن كل شر، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان، إلى أن تكتمل العدتان.(/1)
ويلٌ للمخذلين
الحمد لله على كل حال ، و نعوذ بالله من حال أهل النار ، و بعد :
فإن تداعيات الأحداث الأخيرة على الأمة الإسلامية ، و ما أسفرت و تسفر عنه الحملة الصليبية الشرسة على ديار الإسلام من مآسٍ و نكبات ، أمر لا يسع عاقلاً أن يقف أمامه مكتوف اليدين ، أو ملازماً لصمت ينم عن العار و الخزي و الشنار ، بينا يستطيل الأوغاد في أعراضنا و يدنسون ديارنا و يلغون في دمائنا دون نكير و لا نذير .
إنه فصل آخر من فصول الفتن التي تجعل اللبيب حيران ، و يعجز عن وصفها و بيان أبعادها ذوو الفصاحة و البلاغة و البيان .
كيف و هي أفظع ما ألم بخير أمة أخرجت للناس منذ أيام التتر و سطوتهم الشهيرة على عاصمة الخلافة و ما وراءها من ديار المسلمين قبل نحو سبعة قرون .
و إن كان لنا عزاء فعزاؤنا في أبناء الأمة شيبِهِم و شبابِهِم ، نسائِهِم و رجالِهِم الذين حبستهم الأنظمة المتسلطة على رقابهم ، و أخذت بحجزهم تردهم عن جحافل الغزاة التي ملأت البر و البحر ، و سدت الأفق بعتادها و حشودها المتداعية على أمة الإسلام تداعي الأكَلَة على قصعتها ، و منعتهم من منازلة المعتدين ، أو الذود عن المستضعفين أمام صولة العُداة الوافدين .
و لم يثن ذلك كله ثلةً من الشباب الذين باعوا أنفسهم لله ، و تعاهدوا على بذل المُهَج في سبيل الله ، فتواتروا على أرض الرافدين بعزم و بأسٍ ، يحدوهم الأمل في أن يُمَكّن لهم فيثخنوا في عدوهم ، و يصدوا صولة العادي عن المستضعفين من إخوانهم .
و مع مالا نشك فيه من سلامة منهجهم و مقصدهم ، و بلوغ القدر المطلوب من الإعداد و الاستعداد في نفوسهم ؛ فقد كانت النهاية على غير ما يرام حيث تعرض المئات من المجاهدين ( المعروفين في وسائل الإعلام باسم المتطوعين العرب ) للقتل أو الأسر ، فيما انكفأ البعض قافلين من حيث أتوا ، و لا يزال الآخرون يرابطون ( فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدّلوا تبديلاً ) .
و أمام هذا الواقع المؤلم تتعالى بين الفينة و الفينة أصوات تنبعث منها أمارات الشماتة فيمن قضى و من ينتظر من المجاهدين ، و كأن الشامتين يقولون عن أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، مقللين من شأنهم و شأن ما قاموا به ( لو أطاعونا ما ماتوا و ما قُتلوا ) .
فويل المثبطين إن كانوا يرجون الجنّة فبمَ يدخلونها بعد صدّهم عن الجهاد ، و منعهم و امتناعهم عن الإعداد و الاستعداد !
روى أحمد و الطبراني و الحاكم مصححاً ما وافقه عليه الذهبي عن بشير بن الحصاصية رضي الله عنه قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبايعه على الإسلام فاشترط علي : تشهد ألا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، و تصلي الخمس ، و تصوم رمضان ، و تؤدي الزكاة ، و تحج البيت ، و تجاهد في سبيل الله . قلت يا رسول الله : أما اثنتان فلا أطيقهما ( و ذكر الصدقة و الجهاد ) فقال صلى الله عليه و سلم : ( لا صدقة و لا جهاد ؟ فبم تدخل الجنة ؟ ) .
و لا يفتؤ الشامتون المخذلون المخذولون يعيبون على من جاهد في العراق نفرتهم قبل أن يُستنفروا ، و انطلاقتهم قبل أن يُؤذن لهم ، و كأن الإمامَ الأعظمَ أميرَ المؤمنين و خليفة المسلمين قائمٌ بين أظهرنا يحكم بشرع الله و لا يظاهر أو يتولى من عاداه ، و لولا افتئات من خرج للجهاد بدون إذنه عليه لجيَّش الجيوش و ساق الأساطيل في طلب العدو ، فأثخن فيه و أنكى ، و حرر الأرض و صان العِرض .
يعيبون على أهل الجهاد الخروج لدفع عدو يصول على الحرمات و المقدسات قبل أن يأذن لهم أو يستنفرهم من لا وجود له منذ قرنٍ من الزمان على الأقل .
ألقاه في اليم مكتوفاً و قال له *** إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماءِ
فأي جرمٍ يرتكبه هؤلاء ، و أي إثمٍ يبوؤون به بتخذيل إخوانهم عن دفع العدى و مجالدة الطغاة ؟
قال ابن حزم الأندلسي [ في المحلى : 7 / 300 ] : ( و لا إثم بعد الكفر أعظم من إثم من نهى عن جهاد الكفار ، و أمر بإسلام حريم المسلمين إليهم ) .
و هل نسي هؤلاء المخذّلون أو تناسوا أن ما يدور في بلاد المسلمين اليوم من جهاد لا يعدو أن يكون جهاد دفعٍ لا طلبَ للعدو فيه ، و بالتالي فلا معنى لاشتراط وجود الإمام و لا إذنه ، بل يجب الخروج لدفع العدو بما أمكن من عَدَدٍ و عُدَدٍ ، أُذن بذلك أم لم يؤذن .
و ليس - و الحال كهذه - الخروج إلى لقاء العدو خروجاً على ولي الأمر - في حال التسليم بوجوده - و لا خروجاً عن المقرر عند أهل العلم من السلف و الخلف ، بل هو من السير على نهجهم ، و الاتباع لهديهم .
و هاكم طائفةً من أقوالهم في هذه المسألة :
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله [ في المغني : 10 / 390 ] : ( إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين ، و وجب على الجميع ، فلم يجز التخلف عنه ) .(/1)
و أورد القرطبي [ في تفسيره : 3 / 38 ] قول ابن عطية رحمه الله : ( الذي استقر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه و سلم فرض كفاية فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين ، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين ) .
و قال الجصاص [ في أحكام القرآن : 4/312 ] : ( معلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ، و لم تكن فيهم مقاومة ، فخافوا على بلادهم و أنفسهم و ذراريهم ؛ أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين ، و هذا لا خلاف فيه بين الأمة .
و قال ابن حزم الظاهري [ في المحلى :7/292 ] : ( إن نزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثاً لهم ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [ في الفتاوى المصرية : 4 / 507 ] : ( ... فأما إن هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه فإن دفع ضررهم عن الدين و النفس و الحرمة واجب إجماعاً ) .
إلى أن قال رحمه الله [ في الفتاوى المصرية : 4 / 508 ] : ( و أما قتال الدفع ؛ و هو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة و الدين ؛ فواجب إجماعاً ، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين و الدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه ؛ فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان ، و قد نص على ذلك العلماء ؛ أصحابنا و غيرهم ) .
و قال رحمه الله [ في السياسة الشرعية ] : ( إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين كلهم ، و على غير المقصودين ، لإعانتهم ، كما قال الله تعالى ( و إن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم و بينهم ميثاق ) ، و كما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بنصر المسلم ، و سواء أكان الرجل من المرتزقة للقتال أو لم يكن ، و هذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه و ماله ، مع القلة و الكثرة ، و المشي و الركوب ... فهذا دفع عن الدين و الحرمة و الأنفس ، و هو قتال اضطرار ) .
و قال تلميذه ابن قيّم الجوزية [ في الفروسيّة ] : ( من المعلوم أن المجاهد قد يقصد دفع العدو إذا كان المجاهد مطلوباً و العدو طالباً ، و قد يقصد الظفر بالعدو ابتداءً إذا كان طالباً ، و العدو مطلوباً ، و قد يقصد كلا الأمرين ، و الأقسام ثلاثةٌ يؤمر المؤمن فيها بالجهاد ، وجهاد الدفع أصعب من جهاد الطلب ؛ فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل ، و لهذا أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه ، كما قال الله تعالى : ( أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) ، و قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( من قُتل دون ماله فهو شهيد و من قتل دون دمه فهو شهيد ) متفق عليه . إن دفع الصائل على الدين جهاد و قربة ، و دفع الصائل على المال و النفس مباحٌ و رخصة ؛ فإن قُتل فيه فهو شهيد فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب و أعم وجوبا . و لهذا يتعين على كل أحد يقوم و يجاهد فيه ؛ فالعبد بإذن سيده و بدون إذنه ، و الولد بدون إذن أبويه ، و الغريم بغير إذن غريمه ... و لا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون ، فإنهم كانوا يوم أحد و الخندق أضعاف المسلمين فكان الجهاد واجبا عليهم لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع لا جهاد اختيار ... و جهاد الدفع يقصده كل أحد ، و لا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً و عقلاً ) .
قلت : و ما قرره أهل العلم من تعين الجهاد في حال الدفع و عدم اشتراط وجود الإمام فضلاً عن إذنه فيه لا خلاف فيه بين السلف و الخلف ، بل هو محل إجماع من يعتد بإجماعة ، و إن اختلف في تنزيله على الواقع المعاصر فإن الخلاف فيه ليس بمعتبر ، إذ لا يخفى على ذي عينين أن كل ما يرفع من رايات الجهاد هنا و هناك ليس إلا لدفع العدو و استنقاذ ما يمكن استنقاذه من براثنه ، و رد كيده في نحره ما أمكن ذلك .
فالأفغان يجاهدون لدفع الصليبيين من الأمريكان و من والاهم أو أعانهم ، و كذلك الحال في العراق .
و الشيشان يجاهدون لدفع الروس و الملاحدة و من تقله عرباتهم ممن يوصفون بأنهم زعماء محليون ، و كذلك الحال في جنوب الفلبين .
و ليس الأمر في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس إلا صورة من صور جهاد الدفع لعدو شرس لا يرقب في مؤمن إلاً و لا ذمة ، و لا ترده إلا تضحيات الأمّة .
و قِس على ذلك ما كان عليه الحال في البوسنة و كوسوفا سابقاً ، و ما عليه الحال لاحقاً في كشمير و نيبال ، و كل أرض للمجاهدين فيها وجود أو لواء ، و لهم عليها نفوس تبذل و أشلاء و دماء .
فلا و الله لا يعاب على من خرج اليوم بدون إذن الولاة الحاكمين لبلاد المسلمين ، و لا لوم على من لم ينتظر إعلان التعبئة أو النفير في جيوش السلاطين ، لأن هذا و ذاك بعيد المنال ، بل هو المُحال .(/2)
لذلك يُستغاض عن إذن الإمام بتأمير أحد أفراد الطوائف المجاهده ذات المنعة و الشوكة – و لو بحسبها - في الثغر الذي ترابط فيه فينصب على رفاقه ، و يلزمهم الصدور عن أمره و السمع و الطاعة له في المنشط و المكره حتى يفتح الله عليهم ، أو يمن عليهم بما يصبون إليه .
و إن لم يكن ثَمَّ من يصلح للإمارة قاتلوا بدون أمير ، و ليس لهم أن يدعوا الثغر و لو اضطر الواحد منهم أن يقاتل منفرداً .
قال ابن حزم [ في المحلى : 10/99 ] : ( يُغزى أهل الكفر مع كل فاسق من الأمراء ، و غير فاسقٍ ، و مع المتغلب و المحارب ، كما يغزى مع الإمام ، و يغزوهم المرؤ وحده إن قدر أيضاً ) .
و قال الماوردي [ كما في الإقناع ، ص : 175 ] : ( فرض الجهاد على الكفاية يتولاه الإمام ما لم يتعيّن ) . و كأنّه يريد أن اشتراط وجود الإمام و إذنه إنما يكون في جهاد الطلب ، أما إذا كان الجهاد جهاد دفعٍ فلا اشتراط لشيءٍ من ذلك .
و قال الشيخ العلامة عبدالرحمن بن حسن [ كما في الدرر السنية : 7 / 98 ] : ( و لا ريب أن فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة ، و المخاطب به المؤمنون ، فإذا كان هناك طائفة مجتمعة لها منعة وجب عليها أن تجاهد في سبيل الله بما تقدر عليه لا يسقط عنها فرضه بحال ، و لا عن جميع الطوائف ) .
و هذا الكلام من الشيخ رحمه الله جلي في إقراره الجهاد الذي تقوم به فئات من المسلمين دون عمومهم ، بل في القول بتعين ذلك عليها ، و عدم سقوط فرضيته عنها و لا عن غيرها بحال ، بل يذهب أبعد من ذلك حيث يعمم هذا الحكم على ( جميع الطوائف ) و كأنه لا يرى بأساً في تعدد الجماعات المجاهدة في سبيل الله . فتنبه ! و احذر أن تعيب أو تنتقص مجاهداً يجود بما تضن بمثله ، و حذار أن تقر من ينتقصه أو تقعد عن نصره و الذب عن عرضه .
و يزيد ما قرره الشيخ بياناً قوله رحمه الله في عدم اشتراط وجود الإمام في الخروج للجهاد ، حيث قال [ كما في الدرر السنية 7 / 97 ] : ( بأي كتاب أم بأي حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع ؟ هذا من الفرية في الدين ، و العدول عن سبيل المؤمنين ، و الأدلة على بطلان هذا القول أشهر من أن تذكر ؛ من ذلك عموم الأمر بالجهاد و الترغيب فيه و الوعيد في تركه ) .
و قال أيضاً : ( كل من قام بالجهاد في سبيل الله فقد أطاع الله و أدى ما فرضه الله و لا يكون الإمام إلا بالجهاد لا أنه لا يكون جهاد إلا بالإمام ) .
و اعلم أنه لا يستحق من العيب و العار ما يستحقه من سمى حاكم رقعته إماماً ، و اشترط لنفرة المجاهدين لدفع العدو عن ديارهم و حرماتهم إذنه و أمره لزاماً .
و رب قائل يقول : لو أن المجاهدين وقفوا خلف العلماء ، و لم يخرجوا إلى ما خرجوا إليه إلا إذا بفتاوى الراسخين ، و إمرة العلماء العاملين ، لما آلت الأمور إلى ما آلت إليه ، و لما رأى العالم الإسلامي أبناءه يتواثبون على الموت فيُعمَل فيهم القتل و التنكيل بين يديه .
و كان الحري بنا أن نقول : لو أن علماء الأمة و أعلامها وقفوا وقفة رجل واحد يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يأخذون على يد من أوصد باب الجهاد ، و يحشدون طاقات الأمة و يوحدون صف أبنائها في وجه أعداء الداخل و الخارج ، لا يداهنون و لا يمالئون ، و لا تأخذهم في الحق لومة لائم ؛ لانعكست الصورة تماماً ، و لما تمكن العدو من إعمال القتل و التنكيل فيمن وقف في وجهه من أبناء الأمة .
و لكن أين هم العلماء الربانيون الذين يعاب على أهل الجهاد عدم الرد إليهم ؟
أليسوا في الثغور أو السجون ؟
ألا إلى الله المشتكى من كثرة النكير و قلة النصير .
قلت : و مع قلة العلماء المتبصرين بواقع الأمة ، و المدركين لما يحاك لها و ما يراد بها ، لم يعدم المجاهدون من أهل العلم من يحدوهم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه ، فينير أمامهم السبيل ، و يوجههم بالحجة و البرهان و الدليل ، في زمن عزّ فيه الحق و أهله .
قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله [ في إعلام الموقعين : 3 / 398 ] : ( اعلم أن الإجماع و الحجة و السواد الأعظم هو العالم صاحب الحق ، و إن كان وحده ، و إن خالفه أهل الأرض ... فإذا ظفرت برجل واحد من أولي العلم ، طالب للدليل ، محكم له ، متبع للحق حيث كان وأين كان ، ومع من كان ، زالت الوحشة وحصلت الألفة و لو خالفك .. ) .
و قال الشيخ العلامة عبدالرحمن بن حسن رحمه الله [ كما في الدرر السنية : 7/98 ] : ( كل من قام بإزاء العدو و عاداه و اجتهد في دفعه فقد جاهد و لا بد ، و كل طائفة تصادم عدو الله فلا بد أن يكون لها أئمة ترجع إلى أقوالهم و تدبيرهم ، و أحق الناس بالإمامة من أقام الدين ؛ الأمثل فالأمثل ، فإن تابعه الناس أدوا الواجب ، و حصل التعاون على البر و التقوى و قوي أمر الجهاد ، و إن لم يتابعوه أثموا إثماً كبيراً بخذلانهم الإسلام ، و أما القائم به فكلما قل أعوانه و أنصاره صار أعظم لأجره كما دل على ذلك الكتاب و السنة و الإجماع ) .(/3)
و كأني بمن يتهم المجاهدين بتجاهل العلماء و الرد عليهم بدلاً من الرد إليهم يتجاوز إلى من ارتضاهم أو انتقاهم أوسماهم علماء ، علماءَ سلف الأمة و أئمة الهدى فيها ، من لدن نبيها إلى أن دبّ الضعف و تكلّم الرويبضة فيها ، و يشيح بوجهه عمّا قرره الأئمة السابقون ، يوم أن كانوا بالحق يفتون و عنه لا يعدلون ، لا تسيرهم أهواء السلاطين ، و لا تثبط هممهم أراجيف المخلَّفين القاعدين ، و لا يغير مواقفهم صلف العدى و لا ضعف المسلمين .
و بحسب ما يراه المثبطون المخذلون لا عالم إلا من وافقهم ، فإن استفتيت من لا يروق له علمه أو رأيه أو موقفه فلست ممن يرد إلى العلماء و إن كان من ترد إليه و تستفتيه أعلم أهل الأرض ، و هذا من عظيم البلاء المصاحب لتصدر الرويبضة و تعالم الدهماء .
و ليت فيهم من خُلُق الأعرَاب ما عدِموا من خلق المسلمين ، حيث من دأب العرب حتى في جاهليتهم على التناصر و التآزر ، و في التاريخ و السير نماذج من نصرة غير المسلمين للمسلمين كالذي كان من أبي طالب عم النبي صلى الله عليه و سلم ، و غيره .
و من شاء فليتأمل ما قاله سعيد بن عامر رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن ذُكر لعمر أن سعيد يغنط الغنطة – أي يتعرض لشدّة الكرب و الجهد و كأنّه يُصرَع : فقال في بيان سبب ما يعرِض له : شَهِدْتُ مصرع خُبيب بن عَدي الأنصاري بمكّة و قد بَضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعِ فقالوا : أتحبّ أن محمداً مكانك ؟ فقال : و الله ما أُحبّ أَني في أهلي و ولدي ، و أنّ محمداً شِيك بشوكة . ثم نادى: يا محمد .
يقول سعيد : فما ذكرت ذلك اليوم و تَرْكي نُصرَته في تلك الحال و أنا مشرك لا أومن بالله العظيم إلاّ ظننت أنّ الله عزّ و جلّ لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً فتصيبني تلك الغنطة . فقال عمر : الحمد لله الذي لم يُضلّ فِراستي ) [صفة الصفوة لابن الجوزي :1/666] .
هكذا يكون صاحب القلب الحي ، لا تفارقه الندامة ما امتدت به الحياة على موقف خذل فيه مسلماً .
ألا فليفق المخذلون !
و ليعلموا أن في تخذيلهم نصرةٌ لباطل مستشرٍ و خطر مستطير من أبجديات آثاره محاربة الله و رسوله و السعي لإطفاء نور الله في الأرض بتتبع المجاهدين و ملاحقة أولياء الله الصالحين بالحرب و الأذى .
فهل يريد عاقل أن يكون مطية لتحقيق أهداف من يحادون الله و رسوله ؟
عجبتُ لمبتاعِ الضلالةِ بالهدى *** ولَلْمُشتري دنياه بالدِّين أَعجبُ
وأَعجب من هذين من باعَ دينه *** بدنيا سواه فهو من ذين أعجبُ
و أختم بالتذكير بما رواه الإمام أخمد و غيره بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله و أبي طلحة بن سهل الأنصاريين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه ، و ينتهك فيه من حرمته ، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته ، و ما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه ، و ينتهك فيه من حرمته ، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته ) .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .
سبحانك اللهم و بحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك و أتوب إليك .
و كتب
د.أحمد بن عبد الكريم نجيب
Dr . AHMED-A-NAJEEB(/4)
{ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
قال تعالى: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [ آل عمران ]
ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآيات: «ثم قال تعالى، مسلياً للمؤمنين { وَلاَ تَهِنُوا } أي لا تضعفوا، بسبب ما جرى [في أُحد] { وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون. { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ } أي إن كنتم قد أصابتكم جراح، وقُتل منكم طائفة، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك، من قتل وجراح. { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة، لما لنا في ذلك من الحكمة. ولهذا قال تعالى: { وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } قال ابن عباس: في مثل هذا، لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء. { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } يعني يقتلون في سبيله، ويبذلون مهجهم في مرضاته { وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } أي يكفر عنهم من ذنوبهم، إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم درجاتهم، بحسب ما أصيبوا به. وقوله: { وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } أي فإنهم إذا ظفروا، بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم، وهلاكهم، ومحقهم، وفنائهم».
وجاء في الظلال لسيد قطب، في تفسير هذه الآيات: { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لا تهنوا – من الوهْن والضعف – ولا تحزنوا – لما أصابكم، ولما فاتكم – وأنتم الأعلون.. عقيدتكم أعلى، فأنتم تسجدون لله وحده، وهم يسجدون لشيء من خلقه، أو لبعض من خلقه! ومنهجكم أعلى، فأنتم تسيرون على منهج من صنع الله، وهم يسيرون على منهج من صنع خلق الله! ودوركم أعلى، فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها، الهداة لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن المنهج، ضالون عن الطريق. ومكانكم في الأرض أعلى، فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون... فإن كنتم مؤمنين حقاً، فلا تهنوا ولا تحزنوا، فإنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا، على أن تكون لكم العقبى، بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص.
{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } وذكر القرح الذي أصابهم، وأصاب المكذبين قرح مثله، قد يكون إشارة إلى غزوة بدر، وقد مس القرح فيها المشركين وسلم المسلمون. وقد يكون إشارة إلى غزوة أحد، وقد انتصر فيها المسلمون في أول الأمر... ثم كانت الدولة للمشركين، حينما خرج الرماة على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفوا فيما بينهم؛ فأصاب المسلمين ما أصابهم، في نهاية المعركة، جزاءً وفاقاً لهذا الاختلاف، وذلك الخروج، وتحقيقاً لسنة من سنن الله التي لا تتخلف، إذ كان اختلاف الرماة وخروجهم ناشئيْن عن الطمع في الغنيمة. والله قد كتب النصر في معارك الجهاد لمن يجاهد في سبيله، لا ينظرون إلى شيء من عرض هذه الدنيا الزهيد. وتحقيقاً كذلك لسنة أخرى من سنن الله في الأرض، وهي مداولة الأيام بين الناس –وفقاً لما يبدو من عمل الناس ونيتهم- فتكون لهؤلاء يوماً، ولأولئك يوماً، ومن ثم يتبين المؤمنون، ويتبين المنافقون. كما تتكشف الأخطاء، وينجلي الغبش...
إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح. ... عندئذٍ يتميز الصف ويتكشف عن: مؤمنين ومنافقين... ويزول عن الصف ذلك الدخَل، وتلك الخلخلة، التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده، وهم مختلطون مبهمون.(/1)
والله سبحانه يعلم المؤمنين والمنافقين، والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور، ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعاً في حياة الناس، وتحوّل الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحول النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء. فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم، ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم... والرخاء في هذا كالشدة، وكم من نفوس تصبر للشدة وتتماسك، ولكنها تتراخى بالرخاء وتنحل، والنفس المؤمنة هي التي تصبر للضراء، ولا تستخفها السراء، وتتجه إلى الله في الحالين، وتؤمن أن ما أصابها من الخير والشر، فبإذن الله.
وقد كان الله يربي هذه الجماعة... لتتعلم أسباب النصر والهزيمة، ولتزيد طاعة لله، وتوكلاً عليه، والتصاقاً بركنه، ولتعرف طبيعة هذا المنهج وتكاليفه معرفة اليقين.
{ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } : وهو تعبير عجيب، عن معنى عميق، إن الشهداء لمختارون، يختارهم الله من بين المجاهدين... فما هي رزية إذاً، ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد إنما هو اختيار وانتقاء وتكريم واختصاص...
ومقتضى هذه الشهادة أن يجاهد إذاً، لتصبح الألوهية لله وحده في الأرض، كما بلغها محمد صلى الله عليه وسلم، فيصبح المنهج الذي أراده الله للناس، والذي بلغه عنه محمد صلى الله عليه وسلم، هو المنهج السائد والغالب والمطاع، وهو النظام الذي يصرّف حياة الناس كلها بلا استثناء.
فإذا اقتضى هذا الأمر، أن يموت في سبيله، فهو إذاً شهيد، أي شاهدٌ طلب الله إليه أداء هذه الشهادة، فأداها، واتخذه الله شهيداً... ورزقه هذا المقام...
{ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } : والظلم كثيراً ما يذكر في القرآن ويراد به الشرك، بوصفه أظلم الظلم وأقبحه... وقد أشار السياق من قبل إلى سنة الله في المكذبين، فالآن يقرر أن الله لا يحب الظالمين... والتعبير بأن الله لا يحب الظالمين، يثير في نفس المؤمن بغض الظلم وبغض الظالمين...
{ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } : والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز. التمحيص عملية تتم في داخل النفس... إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيداً لإخراج الدخَل، والدغل، والأوشاب، وتركها نقية، واضحة، مستقرة على الحق، بلا غبش، ولا ضباب.
وكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها، ودروبها ومنحنياتها، وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير.
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله سبحانه، بمداولة الأيام بين الناس، بين الشدة والرخاء، يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه، قبل هذا المحك المرير...
{ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } : تحقيقاً لسنته في دفع الباطل بالحق، متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب بالتمحيص(/2)
وَا إِسْلامَاه .. مَنْ لأعْرَاضِ الْمُسْلِمَاتِ !!
رئيسي :فضائل :السبت 16 ربيع الآخر 1425هـ - 5 يونيو 2004 م
يا شباب أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. يا رجال التوحيد.. يا أهل لا إله إلا الله .. أدركوا أخواتكم المسلمات في العراق فقد اعتدى على أعراضهن النصارى الأنجاس !!
حدثني من حضر عمليات تفتيش المسلمات بأن جنود الصليب يمررون أيديهم على أجساد المسلمات من مفرق الرأس إلى أُخمص القدم، لا يتركون مكان إلا ويتحسسونه، يتقصّدون المحجبات، وإذا كانت امرأة شابة فإنهم يتغامزون بينهم ويضحكون، وهم يهتكون عرض المسلمة !!
أين الغيرة !! أين الرجال !! تخيل أمك، أو أختك يُفعل بها هذا !! أليست العراقية المسلمة أخت لك في الله؟!
كيفَ القرارُ و كيفَ يهدأُ مسلمٌ ..... و المسلِماتُ مع العدوٍ المعُتدي
الضّارِبات خُدُودَهُنَّ بِرَنَّةٍ ..... الدَّاعِياتُ نبِيَّهُنَّ مُحمّدِ
القائلاتُ إذا خَشِينَ فَضِيحَةً ..... جَهْدَ المَقالَةِ ليتَنا لم نُولَدِ
مَا تَستَطِيعُ و ما لَها مِن حيلَةٍ ..... إلاّ التَستُّرُ مِن أخِيها باليَدِ
يا لأعراض المسلمات !!
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ[ رواه أبوداود وأحمد-صحيح الجامع .
هذا نداء من الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ[38]}]سورة التوبة[ .
أتظنون أن الله تارككم وقد تقاعسكم عن الذب عن حرمات المسلمين .. {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[39]} ]سورة التوبة[ . وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْجِهَادَ إِلا عَمَّهُمُ اللهُ بِالْعَذَابِ] السلسلة الصحيحة 2663.
أتنتظرون قارعة من السماء تخسف بكم !!
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ] رواه أبوداود وابن ماجة والدارمي .
أم رضيتم أن تتشبهوا بأهل النفاق !!
[مَنْ مَاتَ، وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ] رواه مسلم .
ألدنانير والدراهم والضياع تتركون الجهاد !!
[إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بالدِّينَار والدِّرْهَم، وَتَبَايَعُوا بالعِينَةِ، واتَّبَعُوا أذْنَابَ البَقَرِ، وَترَكُوا الجِهَادَ في سَبِيلِ الله، أنْزَلَ الله بِهِمْ بَلاَءً، فلم يَرْفَعْهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينهُم] رواه أبو داود وأحمد .
أتخافون الهلكة !! فإن الهلكة والله ما أنتم فيه !!(/1)
عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ التُّجِيبِيِّ قَالَ كُنَّا بِمَدِينَةِ الرُّومِ فَأَخْرَجُوا إِلَيْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنْ الرُّومِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُهُمْ أَوْ أَكْثَرُ وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ فَصَاحَ النَّاسُ وَقَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ هَذَا التَّأْوِيلَ وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الأيَةَ فِينَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَزَّ الإسْلامَ وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ فَلَوْ أَقَمْنَا فِي أَمْوَالِنَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا قُلْنَا:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ...[195]}[سورة البقرة] فَكَانَتْ التَّهْلُكَةُ الإقَامَةَ عَلَى الأمْوَالِ وَإِصْلَاحِهَا وَتَرْكَنَا الْغَزْوَ فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ شَاخِصًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِأَرْضِ الرُّومِ. رواه أبو داود والترمذي .
أين {… الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[177]}[سورة البقرة] .
أين المتقون غضب الواحد الجبّار !!
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ[15] وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ[16]}[سورة الأنفال] .
وعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ] قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ قَالَ: [ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ] رواه البخاري ومسلم .
أين الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[218]}[سورة البقرة] .
أين الموقنون المؤمنون المُقدِمون !!
{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[104]}[سورة النساء].
أين المفلحون !!
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[35]}[سورة المائدة] .
أين الذين يحبهم الله ويحبونه !!
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[54]}[سورة المائدة].
أين من يعلّم الكفّار دروساً في مناهج الأبرار !!
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ...[4]}[سورة محمد].
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[14]}[سورة التوبة]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[123]}[سورة التوبة].(/2)
{... فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [12]}[سورة الأنفال]. {...وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ...[191] }[سورة البقرة]. {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ...[5]}[سورة التوبة] .
أين المؤمنون الصادقون !!
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ[15]}[سورة الحجرات].
أين أصحاب الدرجات !!
{لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً[95] دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً[96]}[سورة النساء].
أين أهل السمع والطاعة !!
{انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[41]}[سورة التوبة].
أين أهل الفضل من هذه الأمة !!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ: [إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ] قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ: [الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ: [حَجٌّ مَبْرُورٌ] رواه البخاري ومسلم.
أين المتعطّرين بعبير النقع !!
عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ]رواه البخاري.
وَقَالَ: [مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النَّارِ]رواه أحمد، وصححه ابن حبان.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ رَاحَ رَوْحَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ لَهُ بِمِثْلِ مَا أَصَابَهُ مِنْ الْغُبَارِ مِسْكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ] رواه ابن ماجة وسنده حسن .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا خَالَطَ قَلْبَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ رَهَجٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ]رواه أحمد- صحيح الترغيب.
أين الزاهدون في الدنيا !!
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا] رواه البخاري ومسلم .
أين من سمت هممهم على أبواب الدنيا ليفتحوا بدنياهم أبواب السماء !!
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبِي وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ] فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ يَا أَبَا مُوسَى آنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا قَالَ نَعَمْ قَالَ فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ السَّلَامَ ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ فَأَلْقَاهُ ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ السُّيُوفَ مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ] رواه ابن أبي شيبة وإسناده جيد- السلسلة الصحيحة.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُنَجِّي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ الْهَمِّ وَالْغَمِّ] رواه أحمد- السلسلة الصحيحة.
أين المؤمنون بالله المصدّقون رُسله !!
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ في سَبِيلِهِ لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ إِيمَانٌ بِي، وتَصْدِيقٌ بِرُسُلي أَن أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ منْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ أُدْخِلَهُ الجنَّةَ، وَلوْلاَ أَنْ أشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَودِدْتُ أَنِّى أُقْتَلُ في سَبِيلِ الله، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَل] رواه البخاري ومسلم .
أين أصحاب الهمم والعزائم !!(/3)
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [أَنَا زَعيمٌ _ والزَّعيمُ الحَميلُ _ لِمَنْ آمَنَ بي، وأَسْلَمَ وهَاجَرَ بَبيْتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ، وبِبَيْتٍ في وَسَطِ الجَنَّةِ، وَأَنَا زَعِيمٌ لِمَنْ آمَنَ بِي وَأَسْلَمَ، وَجَاهَدَ في سَبِيلِ اللهِ بِبَيْتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ، وَبِبَيْتٍ في وَسَطِ الجَنَّةِ، وَبِبَيْتٍ في أَعَلَى غُرَفِ الجَنَّةِ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، لَم يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَباً، ولا مِنَ الشَّرِّ مَهْرَباً يَمُوتُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ يَمُوتَ] رواه النسائي وصححه ابن حبان والألباني.
أين المستثمرون لحظات الحياة الفانية !!
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْقَتْلَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ صَادِقًا ثُمَّ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ لَوْنُهَا كَالزَّعْفَرَانِ وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ وَمَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَعَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ]رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد- واللفظ للنسائي- وهو في صحيح الجامع .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا فَقَالَ لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [لا تَفْعَلْ فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ] رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وأحمد .
أين السابقون إلى الخيرات !!
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: [ لَا تَسْتَطِيعُونَهُ] فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: [لا تَسْتَطِيعُونَهُ] وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: [ مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى]رواه البخاري ومسلم- واللفظ له-.
أين المرابطون !!
قالَ صلى الله عليه وسلم لِرجلٍ حَرَسَ المسلمين ليلةً في سفرهم مِنْ أوَّلِها إلى الصباح عَلَى ظَهْرِ فرسه لم يَنِزلْ إلا لصلاةٍ أو قَضَاءِ حَاجَةٍ: [قَدْ أَوْجَبْتَ فَلا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَعْمَلَ بَعْدَهَا] رواه أبو داود وإسناده صحيح.
وقالَ صلى الله عليه وسلم: [ كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلا الَّذِي مَاتَ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنْمَى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ] رواه أبو داود والترمذي وأحمد ز
أين إخوان ذو النورين !!
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا] رواه البخاري ومسلم.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ فَتًى مِنْ أَسْلَمَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ الْغَزْوَ وَلَيْسَ مَعِي مَا أَتَجَهَّزُ قَالَ: [ ائْتِ فُلانًا فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ تَجَهَّزَ فَمَرِضَ] فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ وَيَقُولُ أَعْطِنِي الَّذِي تَجَهَّزْتَ بِهِ قَالَ يَا فُلانَةُ أَعْطِيهِ الَّذِي تَجَهَّزْتُ بِهِ وَلا تَحْبِسِي عَنْهُ شَيْئًا فَوَاللَّهِ لاتَحْبِسِي مِنْهُ شَيْئًا فَيُبَارَكَ لَكِ فِيهِ. رَوَاهُ مُسلِمٌ .
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُ مِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ] رَوَاهُ مُسلِمٌ .
أين من يشتري دار الشهداء !!(/4)
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا قَالَا أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ] رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
أين المصدقون كلام سيّد المرسلين !!
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ]رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ والنسائي وابن ماجة والدارمي وأحمد.
أين السائحون !!
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى]رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ بإسناد جيد .
أين رهبان الإسلام !!
روى أحمد أنّ رجلاً قال له صلى الله عليه وسلم: أوصِني فَقَالَ: [ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ وَعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللَّهِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ رَوْحُكَ فِي السَّمَاءِ وَذِكْرُكَ فِي الْأَرْضِ] حسن بمجموع طرقه: السلسلة الصحيحة 555.
أين الآمنون في القبور !!
عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلا الشَّهِيدَ قَالَ: [كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً] رواه النسائي وإسناده صحيح : أحكام الجنائز 50.
أين المتعلّقين بالعرش !!
[إِنَّ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ في جَوْفِ طَيْرٍ خُضْر، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثمَّ تأْوي إلى تِلْكَ القَنَادِيلِ، فاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطَّلاَعَةً، فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئَاً ؟ فَقَالُوا: أَيَّ شيء نَشْتَهي، وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا، فَفَعلَ بِهِمْ ذلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْركُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا، قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَردَّ أَرْواحَنَا في أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ في سَبِيلكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا] رواه مسلم .
أين أصحاب الخصال الحميدة !!
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ] رواه الترمذي وابن ماجة و أحمد .
أين خُطّاب الحور !!
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [لا تَجِفُّ الأرْضُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ حَتَّى يَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ كَأَنَّهُمَا ظِئْرَانِ أَظَلَّتَا أَوْ أَضَلَّتَا فَصِيلَيْهِمَا بِبَرَاحٍ مِنْ الأرْضِ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا] رواه ابن ماجة وأحمد .
أيها الكريم :
اعلم بأنه: [لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِهِ [أمة محمد صلى الله عليه وسلم] يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ] رواه البخاري وفي لفظ: [حتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الْمَسِيحَ الدَّجَالَ]. فكن من هذه الطائفة أو تخلّف عنها، فالأمر بيدك، وسوف يسألك الله عما اخترته لنفسك، ولن يقبل منك الاتقاء بعالم أو حاكم، فقد قال لك سبحانه: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ ...[84]}[سورة النساء] . فإن كنت تستطيع الجهاد فاختر لنفسك ما يسرّك أن تلقى الله به، ودع عنك تخذيل المنافقين ووسوسة الشياطين، وتوكل على الله 'وكفى بالله وكيلاً' ..
اللهم أقم في الأمة علم الجهاد، ولا تُمتنا إلا وأنت راضٍ عنى .. والله أعلم ..
من:' وا إسلاماه .. من لأعراض المسلمات !!' للشيخ/ حسين بن محمود حفظه الله
...(/5)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ...
طريق القرآن ...
هم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، يهديهم الله تعالى إلى طُرقُ الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
قال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا عباس الهمداني أبو أحمد ـ من أهل عكا ـ في قول الله تعالى: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ? … [العنكبوت:69]، قال: " الذين يعملون بما يعلمون يهديهم لما لا يعلمون".
قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه، وقال: " ليس ينبغي لمن أُلهِم شيئاً من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر فإذا سمعه في الأثر عمل به، وحمد الله حين وافق ما في نفسه ".
قال صاحب الظلال: " الذين جاهدوا في الله ليصلوا إليه، ويتصلوا به.
الذين احتملوا في الطريق إليه ما احتملوا، فلم ينكصوا ولم ييأسوا.
الذين صبروا على فتنة النفس، وعلى فتنة الناس.
الذين حملوا أعباءهم، وساروا في ذلك الطريق الطويل الشاق الغريب ………
أولئك لن يتركهم الله وحدهم، ولن يضيع إيمانهم ولن ينسى جهادهم.
إنه سينظر إليهم من عليائه فيرضاهم، وسينظر إلى جهادهم إليه فيهديهم.
وسينظر إلى محاولتهم الوصول فيأخذ بأيديهم، وسينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم خير الجزاء " أ. هـ .
من دفع إليهم خُطوةً نال منهم حظوةً، ومن ترك فيهم شهوةً وجد منهم صفوةً، الذين زينوا ظواهرهم بالمجاهدات حسُنت سرائرهم بالمشاهدات، الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف أوصلوا إلى سرائرهم اللطائف.
? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ? ... [العنكبوت:69]
تفسير الألوسي - (ج 15 / ص 320)
{ والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } قال ابن عطاء : أي الذين جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى محل الرضا ، والمجاهدة كما قال : الافتقار إلى الله تعالى بالانقطاع عن كل ما سواه ، وقال بعضهم : أي الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف لنوصلن أسرارهم إلى اللطائف ، وقيل : أي الذين جاهدوا نفوسهم لأجلنا وطلبا لنا لنهدينهم سبل المعرفة بنا والوصول إلينا ، ومن عرف الله تعالى عرف كل شيء ومن وصل إليه هان عنده كل شيء ، كان عبد الله بن المبارك يقول : من اعتاصت عليه مسألة فليسأل أهل الثغور عنها لقوله تعالى : { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } ( العنكبوت؛ 96 ) وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى والحفظ التام من كل شر بحرمة حبيبه سيد البشر صلى الله عليه وسلم .
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 3 / ص 5117)
رقم الفتوى 25068 وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا
تاريخ الفتوى : 04 محرم 1424
السؤال
كما تعرفون أن الصيف حار للغاية في بلاد الشام ولكن للأسف النساء الفاجرات في كل مكان منتشرات في الجامعات.... كيف أمتنع عن ذلك وأنا مقبل على دخولي في الجامعة إن شاء الله؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن المسلم في هذه الحياة مبتلى، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {1} الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2}
وقال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {35}
وما دام المسلم في هذه الحياة فلا بد أن يلاقي فيها حظه من هذا الابتلاء والاختبار..
وكل إنسان مزود من الله بقدرة على مقاومة الشر وقبول الخير.
فعليك -أخي الكريم- أن تغض بصرك، وتحفظ جوارحك عما حرم الله تعالى امتثالاً لأمره تعالى، حيث أمر بذلك المؤمنين والمؤمنات، فقال جل وعلا: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {30} وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا..
وإذا كانت هذه الجامعة التي ذكرت فيها من الفساد ما أشرت إليه، فعليك أن تبحث عن جامعة أخرى غير مختلطة أو أقل فساداً على الأقل.
وقد كان المسلمون الأوائل يعيشون في الجاهلية وما فيها من مفاسد ولكنهم كانوا يجاهدون أنفسهم ويقاومون شهواتهم حتى انتصروا عليها في النهاية، فإذا سلكنا سبيلهم وجاهدنا أنفسنا بصدق وإخلاص فلا بد أن ننتصر على الشهوات، وننتصر في النهاية على الجاهلية الحديثة.
قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ {69}
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
فتاوى الشبكة الإسلامية - (ج 4 / ص 2576)(/1)
رقم الفتوى 32310 المجاهدة في الله طريق للهداية
تاريخ الفتوى : 18 ربيع الأول 1424
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله السؤال هو: كنت أصلي قيام الليل وصلاة الفجر جماعة وأثابر عليهما وعلى قراءة القرآن فتركت كل ذلك واتبعت أموراً كثيرة وحاولت أن أرجع فلم أقدر فماذا أفعل ساعدوني من فضلكم فالهوى يغلبني ؟
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يردنا وإياك إليه رداً جميلاً. أخي الكريم اعلم أن قولك حاولت أن أرجع فلم أقدر.... إنما هو من وساوس الشيطان، والمشكلة تريد قليلاً من العزيمة والمجاهدة، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]. وإذا دعتك نفسك لفعل حرام أو ترك واجب فتذكر الموت والقبر والقيامة ولقاء الله والجنة والنار، تخيل ذلك وكأنك تراه رأي العين، إذا فعلت ذلك بصدق فلن تطيع هواك إن شاء الله، وراجع لزاماً الفتاوى ذات الأرقام التالية: 12928 ، 10800 ، 1208 . وفي الختام نسأل الله أن يقينا وإياك شرور أنفسنا والشيطان. والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه(/2)
{ وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا }
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا - إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } [الأحزاب/70-72].
ذكر ابن كثير في تفسيره: (يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا { قَوْلًا سَدِيدًا } أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف. ووعدهم أنهم إن فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم أي يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية، وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها، ثم قال تعالى: { وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } وذلك بأن يجار من نار الجحيم، ويصير إلى النعيم المقيم). ثم نقل قول ابن عباس موقوفاً: من سره أن يكون أكرم الناس فليتقِ اللَّه. وقول عكرمة: القول السديد: لا إله إلا اللَّه، وقول غيره: السديد: الصدق، وقول مجاهد هو السداد، وقول غيره هو الصواب، والكل حق. ونقل عن ابن عباس في قوله تعالى: { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } يعني بالأمانة الطاعة التي عرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقْنَها، فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت، فأخذها آدم فتحملها، وذلك قوله تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } .
وذكر ما نقله ابن جرير بسند عن الحكم بن عمير وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء، فأرسلوا به، فمنهم رسول، ومنهم نبي، ومنهم نبي رسول، ونزل القرآن وهو كلام اللَّه، وأنزلت العجمية والعربية فعلموا أمر القرآن، وعملوا أمر السنن بألسنتهم، ولم يدع اللَّه تعالى شيئاً من أمره مما يأتون وما يجتنبون، وهي الحجج عليهم إلا بينه لهم، فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون الحسن والقبيح، ثم الأمانة أول شيء يرفع، ويبقى اثرها في جذور قلوب الناس، ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم، وتبقى الكتب، فعالم يعمل، وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها حتى وصل إلي، وإلى أمتي، ولا يهلك على اللَّه إلا هالك، ولا يغفل إلا تارك، فالحذر أيها الناس، وإياكم والوسواس الخناس، فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملاً». وقال: (هذا حديث غريب جداً وله شواهد من وجوه أخرى...).
وذكر سيد قطب في الظلال: «إن السماوات والأرض والجبال - التي اختارها القرآن ليحدث عنها - هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها، فيبدو شيئاً صغيراً ضئيلاً. هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محالة، وتهتدي إلى ناموسه الذي يحكمها بخلقتها وتكوينها ونظامها، وتطيع ناموس الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة. وتجري وفق هذا الناموس دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءاً من ثانية، وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها، غير شاعرة ولا مختارة.
هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبداً، وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها اللَّه لها، وتجذب توابعها بلا إرادة منها فتؤدي دورها الكوني أداء كاملاً...
وهذه الارض تدور دورتها، وتخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتتفجر ينابيعها، وفق سنة اللَّه بلا إرادة منها...
وهذا القمر، وهذه النجوم والكواكب، وهذه الرياح والسحب، وهذا الهواء، وهذا الماء، وهذه الجبال، وهذه الوهاد... كلها.. كلها.. تمضي لشأنها، بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة... لقد أشفقت من أمانة التبعة، أمانة الإرادة، أمانة المعرفة الذاتية، أمانة المحاولة الخاصة.
{ وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ } .
الإنسان الذي يعرف اللَّه بإدراكه وشعوره، ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره، ويعمل وفق هذا الناموس بمحاولته وجهده، ويطيع اللَّه بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزغاته، ومجاهدة ميوله وشهواته، وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد، مدرك، يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق!
إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر، الذي تناوشته الشهوات، والنزعات، والميول، والأطماع.(/1)
وإنها لمخاطرة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة. ومن ثم { كَانَ ظَلُومًا } لنفسه { جَهُولًا } لطاقته، هذا بالقياس إلى ضخامة ما زج به بنفسه لحمله. فأما حين ينهض بالتبعة، حين يصل إلى المعرفة الواصلة إلى بارئه، والاهتداء المباشر لناموسه، والطاعة الكاملة لإرادة ربه، والمعرفة والاهتداء والطاعة التي تصل في طبيعتها، وفي آثارها، إلى مثل ما وصلت إليه من سهولة ويسر وكمال في السماوات والأرض والجبال... الخلائق التي تعرف مباشرة، وتهتدي مباشرة، وتطيع مباشرة، ولا تحول بينها وبين بارئها، وناموسه، وإرادته الحوائل. ولا تقعد بها المثبطات عن الانقياد والطاعة والأداء.. حين يصل الإنسان إلى هذه الدرجة، وهو واع، مدرك، مريد، فإنه يصل حقاً إلى مقام كريم، ومكان بين خلق اللَّه فريد.
إنها الإرادة، والإدراك، والمحاولة، وحمل التبعة.. هي هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق اللَّه، وهي هي مناط التكريم الذي أعلنه اللَّه في الملأ الأعلى، وهو يُسجد الملائكة لآدم، وأعلنه في قرآنه الباقي، وهو يقول: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [الإسراء/70]. فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند اللَّه، ولينهض بالأمانة التي اختارها، والتي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها..(/2)
[1]{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} وقال الغرب ...
قال الغرب: المرأة مثل الرجل سواء بسواء.وقال الغرب: أعطينا للمرأة حقوقًا ومجالات لم تنلها في حقبة من أحقاب تاريخها المديد.وقال الغرب: لقد أهان الإسلام المرأة بالقرار في البيت وحجبها عن العالم الخارجي.عزيزتي المرأة المسلمة:المرأة طاقة عظيمة وقوة كبيرة في الخير أو في الشر، إن استغلت في الخير أصحبت محضنًا يربى الأجيال ويخرج الأبطال.وإن أهملت إلى تيارات الفساد أصبحت معول هدم للأمة وباب فتنة كبرى.عزيزتي المرأة .. لقد عقد الإمام البخاري بابًا في صحيحه في غزو النساء.. ومن هذا المنطلق أردت أن أغزو بقلمي وبفكري وأرصد الأفكار الفاسدة والهدامة التي تحيط بمجتمعنا من كل حدب وصوب .. وأذب عن بيضة الإسلام .. واستجابة لدعوة قرأتها على أحد مواقع الإنترنت والتي كان نصها:'نريد بعض أخواتنا اللاتي آتاهن الله قلمًا أن يرصدن الأفكار العلمانية، ويكتبن مفندات لتلك الأفكار ومحذرات من تلك الأخطار'.نعم … خرجت للعمل ولكن أي عمل؟نعم خرجت المرأة الغربية للعمل وتركت بيتها ونالت حقوقًا كثيرة .. ولكنها حقوق الجسد العاري والشهوة الهابطة..نعم خرجت وعملت ولكن أين عملت؟لقد عملت في مؤسسات الدعارة وأجهزتها الإعلامية.عملت فيما يسمى بالفن والدعاية وإعلانات التلفاز ومكاتب الاستقبال وبيوت الأزياء، حتى المجلات والصحف ليس بفكرها ولكن بجسدها على أغلفة المجلات .. وضعوها منظرًا جسديًا في كل هذه المجالات دون اعتبار لإنسانيتها وكرامتها عائبين عليها تربية الأجيال وإخراج الرجال.نعم عملت ولكن أي عمل؟عملت مضيفة في رحلات الطيران أيضًا بجسدها وجمالها.عملت في مجالات السكرتارية توزع الابتسامات على الداخلين والداخلات.فأي عمل وأي حقوق يزعمون؟تجارة … بمن؟وتكفي نظرة واحدة لتجارة الرقيق النسائي شرق آسيا وغرب أوروبا حيث تحولت المرأة إلى دمية تتناولها الأيدي الشهوانية المتدنية بأرخص وأبشع صورة .. ورغم كل قرارات حقوق الإنسان ومؤتمرات الدفاع عن المرأة لا زالت المرأة في الغرب ضحية للإنسان الذي لا يعرف لنهمته وشهوته حدودًا، ولا يحسب للآخرة حسابًا، وإحصائيات الاعتداء على النساء وحالات الاغتصاب واستعمال العنف معهن في تلك البلاد شاهد على أن المرأة هي المظلوم والخاسر الأكبر في هذا العالم المادي بشقيه الشرقي والغربي.الطفولة البريئة قالت كلمتها .. لماذا تعملين يا أمي؟من الغريب أن النساء في الغرب يستعلمن حبوب منع الحمل لمدة طويلة قد تصل إلى 15 عامًا متتالية حتى لا تنجب وتتفرغ للعمل والحرية المزعومة.والتي تتهور منهن وتقدم على هذه الخطوة ـ الإنجاب ـ فإنها سرعان ما تمضي إلى عملها تاركة ذلك المسكين للمربين أو الخادمة.وهناك تقارير غربية كثيرة تؤكد أن المرأة العاملة لديهن تعاني العديد من المشكلات وكذلك من حولها من زوج وأولاد بل والمجتمع بأسره.فقد صدر مؤخرًا تقرير نشرته مجلة 'The women' الأمريكية بعنوان 'لماذا تعملين يا أمي' كان التقرير محاولة للإجابة عن السؤال الذي يهتف به الطفل كل صباح وهو يرمق أمه من النافذة حتى تغيب عن ناظريه، وهي تمضي إلى عملها تاركة إياه للمربين أو الخادمة، جاء في التقرير أن معظم الأطفال يعانون عقدة ذنب ليس لهم فيها يد، مفادها شعورهم بأن أمهاتهم يتركونهم عقابًا لهم على شيء اقترفوه .. لا يدرون ما هو؟ناهيك بما تؤدي إليه هذه العقد المركبة ـ من شروخ نفسية يصعب التئامها مستقبلاً فيزداد الخرق على الواقع حين تثار قضية 'الحصول على جيل من الأسوياء'.اعترافات .. من أفواههن:ورد في تقرير نشرته صحيفة الاقتصادية نقلاً عن 'ذي تايمز' البريطانية بتاريخ 11/3/1999 أن معظم النساء الموظفات يفضلن العودة إلى المنزل.وتقول نسبة 24% من النساء أنهن فقدن الرغبة الحقيقية في العمل، ولم تعد لديهن أحلام وطموحات في ذلك المجال.وتشعر سبع نساء من كل عشر أنهم لا يحصلن على أجر مكافئ للرجل.وقالت نسبة غالبة أنهن يعملن بطاقة أكبر من الرجال للحصول على نفس المزايا.وانظري هذه الإحصائية للإجابة على السؤال التالي:هل الأمريكيات سعيدات بحريتهن وخروجهن بالعمل مساواة بالرجال؟كشفت إحصائية لاتجاهات الأمريكيات أن 80% من الأمريكيات يعتقدن أن من أبرز النتائج التي نتجت عن التغير الذي حدث في دورهن في المجتمع وحصولهن على الحرية:انحدار القيم الأخلاقية لدى الشباب، وأن الحرية التي حصلت عليها المرأة هي المسؤولة عن الانحلال والعنف الذي ينتشر في الوقت الحاضر.ـ وبالنسبة للنساء العاملات قالت 80% أنهن يجدن صعوبة بالغة في التوفيق بين مسؤولياتهن تجاه العمل ومسؤولياتهن تجاه المنزل والزوج والأولاد.وقالت 74% أن التوتر الذي يعانين منه في العمل ينعكس على حياتهن داخل المنزل، ولذلك فإنهن يواجهن مشاكل الأولاد والزوج بعصبية، وأية مشاكل مهما كانت صغيرة تكون مرشحة للتضخم.وسئلن: لو عادت عجلة التاريخ إلى الوراء هل كانت(/1)
المرأة تطالب بالتحرر وحقها في العمل والمساواة بالرجل.87% من النساء قلن:لو عادت عجلة التاريخ إلى الوراء لاعتبرنا المطالبة بالمساواة بين الجنسين مؤامرة اجتماعية ضد الولايات المتحدة ولقاومنا اللواتي يدفعن شعاراتها.وهذه هي حسابات الغرب:* لقد كان الغرب على خطأ كبير وكذلك من شاكلتهم حين أسقطوا من حساباتهم طبيعة المرأة وطبيعة الرجل.فقد أوجد سبحانه العاطفة والرحمة والحنان أصلاً في المرأة، فناسب ذلك تكوينها العضلي والجسدي، كما ناسب وظائفها التي من أجلها خلقت.فلولا غلبة هذا الجانب في تكوين المرأة ما تحملت أنثى آلام الحمل والوضع والرضاعة وتربية الأولاد وهي راضية مطمئنة، وما انجذب الرجال إلى النساء بأي حال من الأحوال.ـ وجعل سبحانه التعقل والتروي والتحمل أصلاً في الرجل فناسب ذلك تكوينه العضلي، كما ناسب وظائفه التي من أجلها خلق.ـ فالطبيعة هنا تختلف عن الطبيعة هناك، وهذه حكمة العلي القدير القائل: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى} [آل عمران:36] فكيف تتساوى الحقوق والأعمال؟* وليس التعقل والتروي بأفضل من الرحمة والحنان، ولا يعني ترجح أحدهما في طرف فقدانه في الطرق الآخر، ولكنه التوازن والتنوع الذي به يتم التلاحم بين الذكر والأنثى، ولكنها الإدارة الإلهية التي ميزت بينهما ليكمل أحدهما الآخر، فالقضية قضية تكامل وتوازن لا قضية ندية وعناد.إنهم لا يفهمون هذه المعادلة .. فلو شاء ربك لخلق المرأة مثل الرجل أو العكس ولجعل الكل سواء! فهل تكون عندئذ حياة؟فالله تعالى اختار لنا ما يصلحنا وتصلح به حياتنا {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. فأجمل ما في الرجل قوته وخشونته، وأجمل ما في المرأة عطفها وليونتها.فكان للقوة عملها: تكافح الشمس والصخر والجبال، وكان للعطف عمله يغذي به نسل الحياة وصغار الرجال. إن ذلك هو طرفا المعادلة، وإن ذلكما هو ما أراده الله للرجال والنساء.ومن هذا المنطلق نقول: إن عمل المرأة في بيتها لا يقل شأنًا عن عمل الرجل خارج بيته بل أحدهما يكمل الآخر.وهنا عزيزتي المرأة المسلمة نقف ونتساءل:ما معنى القرار في البيت كما جاء في البيت: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]؟وكيف يتفق هذا المعنى مع عمل المرأة خارج البيت؟من أهان المرأة ومن أكرمها؟وكيف تكون صورة المرأة العاملة في الإسلام؟ومتى تخرج المرأة للعمل خارج بيتها؟كل هذه الأسئلة سأتناولها بالطرح في مقالة لاحقة فتابعي معي.
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [2]
شكوى سكرتيرة!!:
تقول إحدى الموظفات العاملات:
'منذ مدة بدأ المدير محاولاته المتكررة للإيقاع بي, واستغل نفوذه كمدير وحاجتي للعمل للضغط علي حتى أستسلم له ... ورغم أنه متزوج فقد أصر على ممارساته ولم يراعِ وضعي الصحي الذي ازداد سوءًا واستوجب عرضي على طبيب نفسي .. لقد اضطررتُ مرغمة للانقطاع عن العمل وتقديم شكوى ضد المدير، ولكنه ظل في مأمن، وأتى بسكرتيرة أخرى بدلاً مني .. لقد حطمني، وقضى على مستقبلي 'بحسب قولها'.
ـ هذه قصة من واقع العالم العربي من متضررة في مجال العمل، وهي في حاجة إلى العمل، ولكننا نجد الكثيرات غيرها تخرج لمجرد الخروج محاكاة للرجل، وإثباتًا للذات، وبرهنة على المساواة, فكأن الأمر في أصله عناد ومكابرة.
فخسرت المرأة بيتها وأولادها إن كانت متزوجة، وكسبت أموالاً أضاعتها في ألبسة الطويل والقصير، وفي وضع الأحمر والأبيض، فزاحمت الناس في مواصلاتهم، وضايقت الرجال في مكاتبهم، فقل العمل بسبب النظرات العابرة وغير العابرة، وضاع الدين بسبب الاختلاط وعقد اللقاءات الغرامية، وارتفعت البطالة بين الشباب بعد أن خوت البيوت من النساء، وصار كل شيء صناعيًا حتى حليب الأطفال، وانتقلت البيوت إلى دور الحضانة لتكون أمًا مكان أم، وتربية مكان تربية، فاختلطت الموازين وتبدلت المقاييس ولكنها المحاكاة لأساليب الغرب.
فتعالي معي عزيزتي المرأة لنعرف من أهان المرأة ومن أكرمها.
من أهانها ومن أكرمها؟
عزيزتي المرأة المسلمة:
أحب أن أؤكد على وضع المرأة الغربية العاملة تحديدًا وألقي الضوء على هذا الجانب لكشف الحقائق الزائفة, وما يظهره الإعلام الغربي من نيل المرأة لديهم على الحرية والمساواة والحياة التي تريد، وما ينبغي أن تكون عليه المرأة، وكأنه هو النموذج والمثال الفريد الذي علينا جميعًا أن نحذو حذوه ونهتدي بخطاه ـ وهذا كله ليس صحيحًا ـ والحقيقة أقول: إن المرأة الغربية خرجت من البيت تاركة كل القيم الإنسانية فضلاً عن القيم الدينية.
خرجت وانتقلت من كل رباط يقيدها ـ من رباط الدين والأخلاق ومن رباط العائلة والأسرة ـ وصار عليها لزامًا أن تترك بيتها وأسرتها إذا بلغت الثامنة عشرة من عمرها, خرجت و انطلقت وتحررت من كل رباط .. فماذا كانت النتيجة؟(/2)
تمضي الفتاة حيث شاءت مع من شاءت يستعملها الرجل في شهواته ويستخدمها كأداة إغراء في الأفلام ومسابقات ملكات الجمال، وفي الإعلانات، وفي المجلات، وفي الأزياء وفي بيوت الدعارة وغير ذلك ... يستهلك زهرة شبابها ونضرتها، حتى إذا بدأ العجز يدب إليها وذهبت نضرتها وجمالها، رمى بها المجتمع لتعيش بقية حياتها في ملجأ إن لم يكن لها مدخرات من المال، أو تنزوي في بيت لها وحيدة لا أنيس لها سوى كلبٍ اقتنته لتسلو به وتعوض به ما فقدت من حنان.
فاليوم عرفت أنها كانت مغرورة ومخدوعة حين انفض عنها الجميع.
وكم عانت في حياتها وكابدت المشاق والخوف في مجتمع لا يعرف حق المرأة ولا يحفظ لها كرامتها، حتى أولادها تنكروا لها، فلا تراهم ولا يرونها، والبار منهم من يرسل إليها بطاقة معايدةفي كل عام فيما يسمونه بعيد الأم [لما ضيعوا دين الله أضاعهم الله] {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}.
ـ كما تعاني المرأة في الغرب من الحرمان والخوف:
فحوادث الاغتصاب شائعة حتى من المحارم.
ـ ولا يقبل صاحب العمل فتاة للعمل إلا بشرط المعاشرة [مشكلة التحرش الجنسي]
ـ حدث ولا حرج عن بلاغات الاعتداء الجسدي والضرب المبرح من قبل الرجال الذين يعيشون معهن سواء كانوا أزواجًا أم أصدقاء.
ـ تتعرض للسلب والنهب والقتل فلا تجد من يحميها.
ـ ناهيك عن الرجال الذين يعيشون على حساب النساء.
كل ذلك بسب مخالطة الرجال وترك القرار في البيوت.
هذا غيض من فيض وجانب من معاناة المرأة الغربية العاملة.
ـ فالمرأة في الغرب نعم تحررت ظاهرًا لكنها في الحقيقة تقيدت، خرجت من قيد العفة والأخلاق ودخلت في فضاء الرذيلة والهوان.
فليس كل قيد مذمومًا:
فالإنسان لا بد له من قيد يحكمه، يكفيه شر نفسه وشر هواه وشر من حوله، وهذا القيد هو قيد الدين والأخلاق، وبهذا القيد ينعم الإنسان بحياة الأمن والسعادة، وإذا حل هذا القيد فسدت معيشة بني آدم، والله تعالى أدرى بما يصلح المرأة، فإنه سبحانه لما شرع لها القرار في البيت وأوجب عليها القيام بشؤون أولادها وأهلها ... وأمرها بالحجاب ونهاها عن التبرج لم يكن حرمانًا من حق هو لها، بل كان ذلك هو الذي يصلحها، ولا يصلحها غيره.
فالإسلام قد كرم المرأة وصانها من كل ما قرأنا سابقًا، فجعل لها القرار في البيت أصلاً فيه تقوم بأجل الأعمال من تربية الأجيال، وقد أوجب الشرع على الرجل النفقة على أهله والإحسان إليها طفلة كانت أو أمًا أو زوجة، فإذا كبرت فحقها أعظم يجب عليه برها ويحرم عقوقها، وقد حرم الشرع إيذاء المرأة بالضرب المبرح أو الضرب في الوجه وغير ذلك من صور الإيذاء.
وهنا نقف ونتساءل ما معنى القرار في البيت؟
هل معنى ذلك أن أسجن في بيتي ولا أخر ج منه إلا إلى القبر؟
هل معنى ذلك أن لا أخرج إلى مقاعد الدراسة والتعلم؟
هل معنى ذلك أن لا ألتحق بعمل وأشارك في أعباء الحياة؟
هل معنى ذلك أن أكون مثل قطعة الأثاث في المنزل لا قيمة لي ولا اهتمام؟
تعالي معي عزيزتي المرأة لنتعرف على معنى القرار في البيت كما جاء في كتب التفسير:
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}:
أي الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه كما قال صلى الله عليه وسلم:
'لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهن تفلات' وفي رواية 'وبيوتهن خير لهن'. [تفسير ابن كثير ـ ج3].
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}:
ومن وقر يقر أي ثقل واستقر، وليس معنى هذا الأمر ملازمة البيوت فلا يبرحنها إطلاقًا، إنما هي إيماءه لطيفة إلى أن يكون البيت هو الأصل في حياتهن.
وهو المقر وما عداه استثناء طارئ لا يثقلن ولا يستقررن إنما هي الحاجة تقضى وبقدرها.
والبيت هو مثابة المرأة التي تجد فيها نفسها على حقيقتها كما أرادها الله تعالى.
غير مشوهة ولا منحرفة ولا ملوثة، ولا مكدودة في غير وظيفتها التي هيأها الله لها بالفطرة ولكي يهيئ الإسلام للبيت جوه ويهيئ للفراخ الناشئة فيه رعايتها أوجب على الرجل النفقة وجعلها فريضة كي يتاح للأم من الجهد ومن الوقت ومن هدوء البال ما تشرف به على هذه الفراخ الزغب.
فالأم المكدودة بالعمل للكسب والمراهقة بمقتضيات العمل المقيد بمواعيده، المستغرقة للطاقة فيه .. لا يمكن أن تهب للبيت جوه وعطره، ولا يمكن أن تمنح الطفولة النابتة فيه حقها ورعايتها، وبيوت الموظفات والعاملات ما تزيد على جو الفنادق والحانات، وما يشيع فيها ذلك الأريج الذي يشيع في البيت.
فحقيقة البيت لا توجد إلا أن تخلفها امرأة، وأريج البيت لا يفوح إلا أن تطلق زوجة، وحنان البيت لا يشع إلا أن تتولاه أم.
والمرأة أو الزوجة أو الأم التي تقضي وقتها وجهدها وطاقتها الروحية في العمل لن تطلق في جو البيت إلا الإرهاق والكلال والملال.
'وإن خروج المرأة لتعمل كارثة على البيت قد يبيحها الضرورة، أما أن يتطوع بها الناس وهم قادرون على اجتنابها فتلك هي اللعنة التي تصيب الأرواح والضمائر والعقول'.(/3)
'فأما خروج المرأة لغير العمل، خروجها للاختلاط ومزاولة الملاهي والتسكع في النوادي والمجتمعات فذلك هو الارتكاس في الحمأة الذي يرد البشر إلى مراتع الحيوان'
'ولقد كان النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرجن للصلاة غير ممنوعات شرعًا من هذا ولكنه كان زمانًا فيه عفة وفيه تقوى، وكانت المرأة تخرج للصلاة متلفعة لا يعرفها أحد ولا يبرز من مفاتنها شيء'. [في ظلال القرآن ـ سيد قطب ـ ج5].
ـ إذن من هذا التفسير نفهم أن قرار المرأة في بيتها هو الأصل وخروجها من البيت يكون لضرورة, إن من ينادون 'بتجريد المرأة' يتجهون إلى إدانة تعاليم الإسلام، وإلصاق التهم بالدين الحنيف في قضية حقوق المرأة وتخلف أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلمية، والعكس صحيح, فقد كانت وما زالت وستظل تعاليم الدين السمحة أمثل خطة وأعظم برنامج تعاملي مع المرأة يخرجها من دائرة الندية للرجل التي أوهنت أركانها حياة المرأة في الغرب، إلى دائرة التعامل بفكرة ومنهج الزوجية الفطري الذي يقوم على أساس تكامل الأدوار المنوطة بكل من الرجل والمرأة في المهمات الحياتية.
ـ ونحن المسلمين لدينا تشريعات من لدن حكيم خبير تحفظ على المرأة دينها وأخلاقها وتسد أبواب الفتن والاختلاط والوسائل المفضية إليها فتنتفع المرأة بعملها وينتفع بها دون أن تفتن أو تُفتن، دون أن تقصر في حق بيتها وأهلها، وذلك عندما شرع الله للمرأة الحجاب وأمرها بالضوابط الشرعية عند خروجها من بيتها، ومن هذه الضوابط غض البصر، وعدم الاختلاط بالرجال، وتحريم الخلوة بالأغراب، والحجاب الشرعي للمرأة، وعدم التعطر خارج البيت، كل ذلك ليس بسبب عدم احترام ديننا الحنيف للمرأة، بل لسد أبواب الشر عنها وحفاظًا عليها من كل سوء.
ـ ولا يخفى علينا أننا نجد في حياتنا نماذج للنساء مشرقة عاملة داخل البيت وخارجه، فالمرأة في عالمنا العربي ضربت أروع الأمثلة في هذا المجال فهي تعمل في المنزل وخارج المنزل, وقلبها مع زوجها كقلب رجل واحد, يربطهما رباط وثيق من الحب وأهداف مشتركة، وهي تربية النشء.
ـ ومع ذلك عزيزتي المرأة أنت متهمة بأنه ليس لك دور وتحبسك جدران المنزل عن الالتحاق بالركب مثل حال المرأة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
• فكيف كانت حياة المرأة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟
• هل كانت حبيسة البيت؟
• هل شاركت في الحياة؟ وكيف؟
هذا ما سنعرفه في المقال التالي بعنوان لهن أدوار مع القرار.
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} 3
ولهن أدوار .. مع القرار
كيف كانت حياة المرأة في القرون الثلاثة الأولى التي هي خير القرون؟
سؤال احتاج مني إلى كثير من الوقت والبحث لأصل إلى الإجابة الشافية، ومن الجميل أنني وجدت نفسي أجرى مع هذه وأذهب مع هذه إلى هنا وغلى هناك لما وجدت في الأحاديث من حركة وأدب وعمل في حياة المرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إننا أمام نماذج من المرأة غريبة ... عاملة داخل بيتها وخارج بيتها، مهاجرة، طبيبة في الحروب والغزوات، وقد يصل الأمر بها إلى القتال إن احتاجت الضرورة لذلك.
وفي هذه صفعة ساخنة على وجه من ادعى أن الإسلام حكم على المرأة بالسجن داخل البيت فلا تخرج منه إلا إلى القبر.
عزيزتي المرأة المسلمة: تعالي معي إلى رحلة في كتاب سير أعلام النبلاء للإمام شمس الدين الذهبي، وقد اخترت من هذه النماذج المشرقة الفعالة.
فأبدأ بالحبيبة إلى قلبي السيدة خديجة رضي الله عنها:
فقد كانت تخرج من بيتها بعد أن تجهز الطعام لزوجها صلى الله عليه وسلم وتذهب به إلى غار حراء حيث يتعبد الرسول، وتسير كل هذه المسافة لتطعم زوجها وتطمئن عليه وتصعد إلى الغار وقد أشرفت على الستين سنة، وقد بشرها جبريل ببيت من قصب لا نصب فيه ولا وصب، ولو كان في خروجها شيء لما بشرها الله تعالى بهذا الجزاء الوفير،ولم يكن وقتها أمر بالقرار للمرأة، ولكن هذه المرأة بفطرتها السليمة شاركت زوجها الرسول أعباءه وهمومه ووفرت له الجو المناسب ليقوم بمهام رسالته، رحمها الله وأدعو الله أن يجمعنا بها في جنته ومستقر رحمته.
وهذه أسماء بنت أبي بكر المشهورة بذات النطاقين:
عن هشام بن عروة عن أسماء قالت: صنعت سفرة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي حين أراد أن يهاجر، فلم أجد لسفرته ولا لسقائه ما أربطهما، فقلت لأبي:
ما أجد إلا نطاقي، قال: شقيه باثنين فاربطي بهما، قال: فلذلك سميت ذات النطاقين.
وقد شهت اليرموك مع زوجها الزبير.
وإليك عزيزتي المرأة هذه القصة التي تدل على عمل المرأة بالمنزل وخارج المنزل:
روى عروة عنها قالت: تزوجني الزبير وما له شيء غير فرسه.
فكنت أسوسه وأعلفه، وأدق لناضحه النوى [الناضح: البعير يستقى عليها، والنوى: عجم التمر كانوا يدقونه ويعلفونه دوابهم].
وأستقي، وأعجن، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي على ثلثي فرسخ.(/4)
فجئت يومًا والنوى على رأسي, فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر فدعاني، فقال: إخ، إخ ليحملني خلفه، فاستحيت وذكرت الزبير وغيرته.
قالت: فمضى [أي رسول الله صلى الله عليه وسلم].
فلما أتيت، أخبرت الزبير فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه [أي حملك للنوي على رأسك اشد على من ركوبك مع الرسول صلى الله عليه وسلم]
قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني'. [إسناده صحيح وأخرجه أحمد والبخاري ومسلم].
وأود أن أقف مع هذا الحديث وقفات:
الوقفة الأولى: أن أسماء كانت تعمل داخل البيت تسوس الفرس وتعلفه وتسقي وتعجن.
وخارج البيت تنقل النوى من أرض الزبير إلى البيت على رأسها، وكانت المسافة بعيدة بينها.
الوقفة الثانية: كان زوجها الزبير شديد الغيرة، فلو كان في خروجها شيء ما أخرجها من البيت.
الوقفة الثالثة: تعامل الرسول الكريم مع الموقف فأراد أن يحملها خلفه تخفيفًا عنها.
الوقفة الرابعة: حياؤها وفهمها طبيعة زوجها أنه غيور، وهو مع غيرته لم ينكر عليها إذا ركبت خلف الرسول صلى الله عليه وسلم.
ما رأيك أيتها المرأة في شخصية أسماء العاملة والقيام بدورها داخل وخارج المنزل مع حفاظها على حيائها وحفظ غيبة زوجها؟ وسأترك لك الإجابة.
وهذه أم سليم بنت ملحان 'الغميصاء':
أم خادم النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك.
قال محمد بن سيرين: كانت أم سليم مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعها خنجر.
وفي صحيح مسلم بشرح النووي [ج10 ـ 12] باب بعنوان غزوة النساء مع الرجال عن أنس: أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجرًا فكان معها، فرآها أبو طلحة 'زوجها' فقال: يا رسول الله: هذه أم سليم معها خنجر فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الخنجر؟
قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرتُ به بطنه 'أي شققته' وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك.
وعن أنس بن مالك في نفس الباب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوه من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى.
وفيه خروج النساء في الغزو والانتفاع بهن في السقي والمداواة ونحوهما، وهذه المداواة لمحارمهن وأزواجهن وما كان منها لغيرهم لا يكون فيه مس بشرة إلا في موضع الحاجة.
ـ وأم سليم عزيزتي المرأة هي صاحبة القصة المعروفة التي مات ولدها ثم أخفت خبره عن زوجها أبي طلحة، ثم أخبرته آخر الليل بخبره بلطف وذكاء.
ـ روى ثابت عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: دخلت الجنة فسمعت خشفة بين يدي، فإذا أنا بالغميصاء بنت ملحان.
عن ربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة.
وفي شرح الإمام يقول: ويؤخذ حكم مداواة الرجل المرأة منه بالقياس، وإنما لم يجزم بالحكم لاحتمال أن يكون ذلك قبل الحجاب أو كانت المرأة تصنع ذلك بمن يكون زوجًا لها أو محرمًا، أما حكم المسألة فتجوز مداواة الأجانب عند الضرورة، وتقدر فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك.
وهذه أم عمارة الأنصارية:
فقد أبلت بلاءً حسنًا في القتال يوم أحد حتى أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم, وفي حروب الردة شهدت المعارك بنفسها، حتى إذا قتل مسيلمة الكذاب عادت وبها عشر جراحات.
هذه هي المرأة المسلمة تقوم بدورها في الأعمال اللائقة بطبيعتها ووظيفتها وإن دعت الحاجة والضرورة أن تحمل السلاح وتقاتل فلا تتأخر عن أداء دورها وواجبها.
ـ فمتى كانت المرأة مغيبة عن مسيرة العمل وتفعيل دورها الاجتماعي في المنزل أو خارج المنزل؟
وقد ذكرنا هذه الأمثلة في العصر الذي يقال عنه من قبل العلمانيين عصر التأخر والتخلف، عصر المرأة المظلومة المقهورة.
ـ ولا ننسى في هذا المقام أن أذكر هجرة النساء مع الرجال في سبيل إقامة المجتمع الجديد المبني على الدين القويم وفيهن من هذا عزباء غير متزوجة مثل أسماء بنت عميس وفيهن متزوجات أيضًا.
ـ ومن المهاجرات الأوائل من أمهات المؤمنين أم سلمة وزينب بنت جحش، ومن غيرهن أم حبيب، وأم أيمن [مولاة الرسول وحاضنته].
ـ وزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أسلمت وهاجرت قبل إسلام زوجها بست سنين.
ـ ورقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أسلمت مع أمها السيدة خديجة ـ ثم تزوجها عثمان وهاجرت معه إلى الحبشة.
ـ وأم حرام بنت ملحان [أخت أم سليم] التي غزت مع زوجها عبادة بن الصامت في البحر وكانت من الأولين الذين ركبوا البحر.
فمتى كانت المرأة مغيبة عن مسيرة العمل بالمنزل أو خارج المنزل؟
فالإسلام قد قدم لنا مشروعًا حضاريًا للتعامل مع المرأة 'فالنساء شقائق الرجال' كما قال رسولنا الكريم، والرجل والمرأة في الأجر والجزاء سواء.
ـ ويأتي هنا سؤال ملح وهو متى تخرج المرأة من بيتها؟
للمرأة أن تخرج من بيتها ولا يتنافى ذلك مع القرار في الأحوال الآتية:(/5)
1ـ لها أن تخرج لقضاء حاجة لها أو لزوجها وأولادها في الحقل والسوق كما كانت تفعل أسماء بنت أبي بكر [ذات النطاقين].
2ـ للتعلم وطلب العلم كما جاء في الحديث: 'طلب العلم فريضة على كل مسلم' [رواه ابن ماجه].
فيجمع علماء المسلمين على أن المسلمة ـ أيضًا ـ داخلة في معنى الحديث، وكما جاء في الحديث عندما طلبت النساء من الرسول أن يجعل لهن يومًا يتعلمن فيه، وقد كان نساء الصحابة يذهبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألنه فيما يعرض لهن من شؤون، ولم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين.
3ـ للصلاة في المسجد كما جاء في الحديث: 'لا تمنعوا إماء الله مساجد الله'[رواه مسلم].
4ـ لها أن تخرج للعمل فيما يلائمها من الأعمال التي تناسب طبيعتها واختصاصها وقدراتها، ولا يسحق أنوثتها [في مجال الطب والتدريس مثلاً].
فعملها مشروع في حدود وبشروط، خصوصًا عندما تكون هي أو أسرتها في حاجة إلى العمل الخارجي أو يكون المجتمع نفسه في حاجة إلى عملها خاصة، وليست الحاجة محصورة في الناحية المادية فحسب، فقد تكون حاجة نفسيه، كحاجة المتعلمة المتخصصة التي لم تتزوج، والمتزوجة التي لم تنجب، والشعور بالفراغ الطويل والملل القاتل، وليس الأمر كما يدعيه أنصار عمل المرأة دون قيود أو ضوابط.
[من كتاب ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده د/ يوسف القرضاوي](/6)
كتاب
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
للشيخ
عبدالعزيز بن ناصر الجليل
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فإن من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن بعث فيها أفضل رسله خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه أفضل كتبه وأكملها وأقومها وأشملها لخيري الدنيا والآخرة.
ولقد امتن الله عز وجل بهذه النعمة العظيمة على هذه الأمة في أكثر من آية؛ كما في قوله سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164).
ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين؛ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
ووصف كتابه الكريم بأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنَّ فيه تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة؛ قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)(1) (الإسراء:9).
وقال سبحانه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: من الآية89).
وصدق الله العظيم، ومن أصدق من الله حديثاً؛ فإن المتأمل في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم يجد هذه المعاني العظيمة واضحة وضوح الشمس، حيث لا يخفى على من له أدنى بصيرة ما تضمنه كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى والرحمة والشمول لكل مصالح العباد، مع مراعاة لكل جوانب النفس البشرية ومخاطبتها بمنهج متوازن وميزان قسط وعدل لا يطغى فيه جانب على جانب، ولا يرجح فيه طرف على آخر.
ولا غرابة في ذلك فهو صادر عن الله عز وجل، وما صدر عن الله تعالى فهو الكامل الشامل المتوازن؛ لأنه صدر عن الكامل في صفاته وأفعاله، الذي لا حدود لكماله، العالم بمصالح خلقه، والحكيم الذي يضع الشيء في موضعه الذي يجب أن يوضع فيه، الرحيم الذي يرحم عباده بما يأمرهم به من خير وينهاهم عنه من شر؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وإن من أبرز سمات هذا المنهج الرباني الهادي للتي هي أقوم أنه متسم بالشمول والتوازن والوسطية والعدل؛ ولذلك امتن الله عز وجل على هذه الأمة التي أنزل إليها كتابه الكريم ومنهجه القويم بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143).
ويتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن هذه السمة البارزة في هذا الدين فيقول: «وهو - مِنْ ثَمَّ - شامل متوازن منظور فيه إلى كل جوانب الكينونة البشرية أولاً، ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقها أخيرًا، ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشري، وإلى توازن هذه الأطوار جميعًا. بما أن صانعه هو صانع هذا الإنسان .. الذي خَلق، والذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؛ فليس أمامه - سبحانه - مجهول بعيد عن آفاق النظر من حياة هذا الجنس، ومن كل الملابسات التي تحيط بهذه الحياة، ومن ثَمَّ فقد وضع له التصور الصحيح الشامل لكل جوانب كينونته، ولكل أطوار حياته، المتوازن مع كل جوانب كينونته ومع كل أطوار حياته، الواقعي المتناسق مع كينونته ومع كل ظروف حياته.(/1)
وهو - مِنْ ثَمَّ - الميزان الوحيد الذي يرجع إليه الإنسان في كل مكان وفي كل زمان؛ بتصوراته وقيمه، ومناهجه ونظمه، وأوضاعه وأحواله، وأخلاقه وأعماله ليعلم أين هو من الحق، وأين هو من الله. وليس هنالك ميزان آخر يرجع إليه، وليس هنالك مقررات سابقة ولا مقررات لاحقة يرجع إليها في هذا الشأن، إنما هو يتلقى قيمه وموازينه من هذا التصور، ويكيِّف بها عقله وقلبه، ويطبع بها شعوره وسلوكه، ويرجع في كل أمر يعرض له إلى ذلك الميزان: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59)»(2) ا.هـ.
وقال الإمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9): «ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدًا برب العالمين جل وعلا يهدي للتي هي أقوم؛ أي الطريقة التي هي أسدُّ وأعدل وأصوب ... وقال الزجاج والكلبي والفراء: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله.
وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها؛ فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم، لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا والآخرة»(3).
وقد جعلت عنوان هذه الرسالة الآية الكريمة من سورة البقرة؛ وهي قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وذلك لأنطلق منها في بيان عظمة هذا الدين وشموله، وبركته وخيره على البشرية، موضحًا في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى بعضًا من جوانب عدله، ووسطيته وتوازنه في عقائده وأحكامه، وما فيه من الميزان الحق، واليسر والخير والتوافق مع العقل السليم والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
ونظرًا لبعدنا عن تدبر كتاب ربنا عز وجل وانشغالنا عن ذلك بمناهج بشرية جاهلة ظالمة؛ بعضها يضخم جانب العقل، والبعض الآخر يضخم جانب الروح، وبعضها يقدس أقوال الرجال وآراءهم، وغير ذلك من مصادر التلقي المنحرفة؛ كل ذلك نشأ عنه مناهج ومواقف معوجة غير متوازنة؛ بعضها ينزع إلى الغلو والإفراط، وبعضها ينزع إلى الجفاء والتفريط. والخير كله والعدل والشمول والتوزان موجود في كتاب ربنا عز وجل الذي: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) وصدق الله العظيم في وصف المناهج البشرية بقوله سبحانه: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: من الآية82).
ولقد ظهرت في واقعنا المعاصر مواقف وأفكار مضطربة وغريبة على منهج الكتاب والسنة، ومخالفة لمنهج السلف الصالح أصحاب القرون المفضلة. ولو أن هذه المواقف صدرت عن طوائف الضلال والبدع لكان الأمر غير مستغرب لأن كل إناء بما فيه ينضح، ولكن المستغرب صدورها من بعض المنتسبين والداعين إلى طريقة السلف الصالح؛ مما أدى إلى تشويه الحق أو لبسه بالباطل، كما أدى إلى مزيد من الفرقة والاختلاف بين أصحاب المنهج الحق الواحد.
وفي ضوء كل ما سبق تأتي هذه الرسالة الجديدة من سلسلة الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم لبيان عظمة هذا الدين، وشموله وكماله، وتوازنه وعدله، وأثر ذلك في توازن وضبط الأفكار والحركات والمواقف ودفعها إلى فعل الخير المثمر في الدنيا والآخرة.
وقد دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع الهام أمور كثيرة أشير فيما يلي إلى أهمها:
الأمر الأول:
ما ظهر في حياة كثير من الناس من المخالفة لحد الاعتدال في هذا الدين - سواء إلى الغلو أو إلى التقصير - ويتضح هذا في كثير من جوانب الدين سواء ما كان منه في جانب الاعتقاد؛ كمفهوم الإيمان، والقدر، والأسماء والصفات، والتوكل والخوف والرجاء، أو ما كان منه في جانب العبادة والنسك ما بين غال ومقصر، أو في جانب الأخلاق والسلوك ما بين مُفرِّط ومُفْرِط.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وكلا طرفي الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها، والأخلاق الفاضلة كلها وسط بين طرفي إفراط وتفريط، وكذلك الدين المستقيم وسط بين انحرافين، وكذلك السنة وسط بين بدعتين»(4).
الأمر الثاني :(/2)
ما ظهر في هذه الأزمنة المتأخرة من فهم منحرف لمعنى (الوسطية)(5) والأمة الوسط؛ حيث أصبحنا نقرأ ونسمع من بعض المنتسبين للعلم والدعوة تفسيرًا غريبًا لمفهوم الوسطية في هذا الدين يخالف المفهوم الشرعي الصحيح لها. وقد أثمر هذا المفهوم المنحرف للوسطية عندهم إلى تمييع الدين وأحكامه وعدم أخذه بقوة وجد، وهذا بدوره أدى إلى بعض التنازلات في ثوابت هذا الدين وأخلاقه وقيمه؛ زاعمين أن هذا من الوسطية والمرونة والتيسير، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد وكثرت فيه الضغوط، فلا بد من التوسط في أخذ هذا الدين حتى لا ينفر الناس منه.
وهذا المفهوم المنحرف لمعنى الوسطية له ما يفسره، لكن ليس له ما يبرره، وقد انطلق بعض من يدعو إلى هذه الأفكار من الفهم الخاطئ للتشديد والتيسير؛ حيث يرى بعضهم أن الالتزام بهذا الدين وأخذه بقوة كما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيعه كثير من الناس في هذا الزمان، وأن دعوة الناس إلى ذلك هو من التشديد والغلو المنافي للوسطية، ولذلك أصبحنا نسمع من بعض العوام بل من بعض الدعاة من َيصِمْ بعض أبنائه أو إخوانه الملتزمين بالسنة الصحيحة في عبادتهم وسلوكهم بأنه متشدد أو متطرف. وهذا كله إنما نشأ من الفهم المنحرف للوسطية والتشديد والتيسير؛ فلا بد إذن من تحرير مفهوم الوسطية كما جاء عن السلف الصالح رضي الله عنهم.
الأمر الثالث:
وهو فرع عن الذي قبله، ألا وهو:
ظهور ما يسمى بأنصاف الحلول أو الحلول الوسطية من قبل بعض المشتغلين بالدعوة. ويقصدون بالحلول الوسطية أن لا يبقى الدعاة في مواقفهم المتصلبة القوية من الطواغيت والبراءة منهم ومن شركهم؛ لأن مثل هذه المواقف لم تجر إلا الضرر على الدعوة والقضاء على أهلها، فكان لا بد من التنازل عن بعض هذه المواقف المتصلبة ومد الجسور مع أعداء الدعوة والاتفاق معهم على حلول وسط ينتفع منها الطرفان ويتنازل كل منهما للآخر ويسمون ذلك وسطية، ولا يخفى ما في هذه الممارسات من انحراف لمفهوم الوسطية عن معناها الشرعي الذي هو العدل والقسط المرضي لله تعالى، فهل التنازل عن جوانب من العقيدة أو الأحكام هو من صفات الأمة الوسط التي اختصها الله تعالى بسبب وسطيتها بالشهادة على الناس؟! وهل هذا التنازل هو ما يرضي الله تعالى؟!.
الأمر الرابع:
في مقابل المفهوم المتميع للوسطية ظهرت بعض التفسيرات الغالية للوسطية؛ وذلك بتبرير بعض المواقف المتشددة الغالية بأنها من صفات الأمة الوسط المأمورة بأخذ الدين بقوة؛ مما نتج عنه مواقف ومعالجات خاطئة لظاهرة الاختلاف الحاصل بين الدعاة وطلبة العلم. وما نشأ ذلك إلا بسبب فقدان التوازن والوسطية في بعض الأخلاق والمعاملات؛ ومن ذلك التطرف في معالجة الأخطاء: ما بين غالٍ في الحب والتقدير لبعض الأشخاص فلا يرى أخطاءهم إلا بمنظار الحسن والتبرير، وغالٍ في الكره والخصومة فلا يرى إلا الأخطاء، وما كان من صواب فيسيء الظن بصاحبه.
وإن مثل هذه المواقف - فوق أنها فاقدة للتوازن والوسطية والعدل - يدخل فيها الهوى وحظ النفس، والوسط والعدل بين هذين الطرفين. ولا أبالغ إذا قلت إن الفُرقة الحاصلة اليوم بين أهل السنة إنما يعود السبب الأكبر فيها إلى فقدان الوسطية والعدل والتوزان في علاج الخلاف.
ولعل في هذه الدراسة مساهمة أقدمها لنفسي ولجميع المنتسبين لأهل السنة والجماعة؛ حتى نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر نحب الألفة والاجتماع، ونكره الفرقة والاختلاف، ولنكون من الأمة الوسط العادلة الشاهدة على الناس، وبخاصة في هذه الأزمنة التي تكالب فيها الأعداء على المسلمين من كل صوب، ورموهم عن قوس واحدة، فتعينت المحافظة على وحدة الصف الداخلي في مواجهة العدو الخارجي المخالف لنا في أصل الملة وليس في مسألة أو مسائل فرعية؛ لأن الفقه في الدين ومقاصد الشريعة، والتحلي بالعدل والإنصاف يفرضان على المسلمين تآلفهم وتحمل خلافاتهم الجزئية أمام الطامة الكبرى التي يريدها الكفار بالإسلام والمسلمين.
والمقصود أن غياب الوسطية واضطراب الميزان يقود إلى الإجحاف ومجانبة الرفق في تقويم الرجال والكتب والمواقف، وعدم إعذار من له عذر، وهذا بدوره يقود إلى التفرق والتعصب والغلو والعدوان. وعند فقد الميزان والوسطية والعدل تصبح الكبائر التي يعملها الشخص أو من معه في طائفته من اللمم والصغائر، وتنقلب الصغائر والاجتهادات الخاطئة إلى كبائر حينما تقع من الآخرين.
وهذه الظواهر لا يشك أحد في وجودها اليوم بين بعض العاملين في حقل الدعوة؛ وسببها غياب الميزان الحق والوسطية والعدل التي هي من أبرز سمات هذا الدين، ومن أخص خصائص هذه الأمة الوسط التي اختارها الله عز وجل لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولتكون شاهدة على الناس.
الأمر الخامس :(/3)
ظهور بعض المتحمسين للدعوة والغيرة على الدين ممن لم يكن لهم علم كافٍ بمقاصد الشريعة، وبمبدأ الموازنات في الشريعة الإسلامية؛ حيث ركَّزت طائفة منهم النظر في المفاسد المترتبة على الأخذ ببعض القضايا المستجدة دون مراعاة لما فيها من المصالح، وطائفة أخرى ركزت على ما فيها من المصالح بغض النظر عن ما يترتب عليها من المفاسد وكلا الطرفين مذموم. والحق هو الموازنة؛ فما كانت محصلته الخير والصلاح في الدين أو الدنيا أُخذ به ولو كانت فيه مفاسد قليلة ترجح بها كثرة المصالح كمًا أو كيفًا. وما كان محصلته الفساد والشر فإنه يترك ولو ظهرت فيه بعض المصالح التي ترجح بها كثرة المفاسد كمًا أو كيفاً.
والمقصود أن ظاهرة الأحادية في النظرة والتعصب لها توجد اليوم من بعض الغيورين، وهي بدورها توقع أصحابها في مصادمة دائمة مع إخوانهم الدعاة، بل قد توقعهم في مصادمة مع بعضهم البعض أو مع أنفسهم.
والوسطية والعدل والتوازن في الأخذ بمبدأ الموازنات هو أصل عظيم في تشريع الأحكام والحكم على النوازل، ورحم الله من قال: «ليس الفقيه من يعلم الخير من الشر، ولكن الفقيه من يعلم خير الخيرين وشر الشرين».
الأمر السادس:
إن الإلمام بخاصية العدل والتوازن والوسطية في أحكام الله عز وجل الكونية منها والشرعية لمن أكبر العون على معرفة سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتغير، والتي تتسم بصفة الاطِّراد والثبات والشمول والتوازن. وهذا بدوره يقود إلى معرفة السنن الربانية في تغير المجتمعات سواء من سوء إلى حُسن أو عكس ذلك. وما أحوج الأمة اليوم إلى إدراك هذه السنن الربانية؛ وبخاصة دعاتها وعلماؤها ومجاهدوها الذين يقع عليهم عبء المسؤولية وثقل الأمانة في إنقاذ الأمة - بإذن الله تعالى - مما هي فيه من ذلة وشقاء وفساد.
وفي إدراك هذه السنن المطَّردة المتوازنة هداية إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير كما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وفي المقابل فإنه عندما يكون الجهل أو الغفلة عن هذه السنن الربانية فإن ذلك مؤذن بالانحراف عن المنهج الصحيح للدعوة والتغيير والإصلاح.
الأمر السابع:
إن الحديث عن سمة الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين وأحكامه وأخلاقه ليبعث في النفس الغبطة والفرح والسرور، والفخر بدين الإسلام، وهذا بدوره يورث في النفس تعظيم الله عز وجل وحمده وشكره، وتعظيم دينه وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم الذي هدانا الله به إلى صراطه المستقيم؛ وبخاصة عندما ننظر إلى المناهج البشرية المضطربة التي فقدت هذه الخاصية فذهبت بها الأهواء تارة ذات اليمين، وتارة ذات الشمال. كما أن ذلك يبث في النفس الطمأنينة والثبات على هذا الدين، ويدفع المسلم إلى الدعوة لهذا الدين وإيصاله إلى الناس لينعموا به في الدنيا وتسعد حياتهم به وبما فيه من العدل والتوازن والشمول والكمال، ولتكمل سعادتهم في الدار الآخرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن خاصية التوازن في دين الإسلام: «... وقد صانته هذه الخاصية الفريدة من الاندفاعات هنا وهناك، والغلو هنا وهناك، والتصادم هنا وهناك؛ هذه الآفة التي لم يسلم منها أي تصور آخر. سواء التصورات الفلسفية، أو التصورات الدينية التي شوهتها التصورات البشرية بما أضافته إليها أو نقصته منها، أو أوَّلته تأويلاً خاطئًا وأضافت هذا التأويل الخاطئ إلى صلب العقيدة»(6).
وأكتفي بهذه البواعث التي دفعت إلى كتابة هذه الرسالة لتدل على غيرها من البواعث التي لم تذكر، والتي لا تبعد عما سبق، وإنما هي تفريعات لها.
وسيكون البحث في هذه الرسالة من خلال الأبواب والفصول التالية إن شاء الله تعالى:
الباب الأول : تفسير آية سورة البقرة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) وما في معناها من الآيات والأحاديث.
الباب الثاني : مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وأمره.
وتحته فصلان:
الفصل الأول : من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره.
الفصل الثاني : من مظاهر العدل والتوزان في أمر الله عز وجل وشرعه.
وتحته مباحث :
المبحث الأول: من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الاعتقاد.
المبحث الثاني: من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى.
المبحث الثالث: من مظاهر العدل والوسطية والتوزان في العبادات.
المبحث الرابع: من مظاهر العدل والوسطية والتوزان في الأخلاق والمعاملات.
الخاتمة .
____________
(1) انظر ما كتبه الإمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - من كلام طويل ونفيس عند هذه الآية في تفسيره المبارك «أضواء البيان»: (3/372-417).
(2) «خصائص التصور الإسلامي»: (ص 49، 50).
(3) «أضواء البيان»: (3/372)، باختصار.
(4) «روضة المحبين» (ص 220).
(5) سيأتي إن شاء الله تعالى بيان المعنى الصحيح لمفهوم (الوسطية) في مبحث قادم.(/4)
(6) «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»: (ص 136).
الباب الأول
تفسير قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)
المقصود من استعراض أقوال السلف من تفسير هذه الآية هنا هو الوقوف على المعنى الحق لمفهوم (الوسطية) والأمة الوسط؛ وذلك حتى ننطلق من هذا المعنى الصحيح في ذكر الأمثلة والمظاهر المتنوعة لهذه السمة المميزة للإسلام وأهله.
وقد ورد تفسير (الأمة الوسط) في السّنة النّبويَّة، كما ذكر لها المفسرون عدّة معانٍ، وتفصيل ذلك كما يلي:
1- روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فتشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا فذلك قوله - جلَّ ذكره -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143). والوسط: العدل)(1).
2- وروى الطبري بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) قال: «عدولاً»(2).
وقد ساق الطبري عددًا من الرِّوايات في هذا المعنى. ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوبًا إلى بعض الصَّحابة والتَّابعين؛ كأبي سعيد ومجاهد وغيرهما، حيث فسَّروها ب «عدولاً».
وكذلك نقل تفسير ابن عباس لها: «جعلكم أمة عدولاً».
وقال ابن زيد: هم وسط بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الأمم(3).
وقال الإمام الطبري: «وأمّا الوسط فإنه في كلام العرب: الخيار، يُقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرّفع في حسبه.
وهو وسط في قومه وواسط؛ قال زهير بن أبي سُلمى في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظَمِ
قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطَّرفين، مثل وسط الدّار.
وأرى أن الله - تعالى ذكره - إنّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النَّصارى الذين غلوا بالتَّرهُّب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربِّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها.
وأمَّا التأويل فإنَّه جاء بأن الوسط العدل - كما سبق - وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من الناس عدولهم»(4).
3- قال ابن كثير(5): وقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). الوسط هنا: الخيار والأجود، كما يُقال في قريش: أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا.
ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصّلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصّحاح وغيرها.
وروى الإمام أحمد(6) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة فيُقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيُقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد فيُقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، قال: فذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). قال الوسط: العدل، فتُدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم» وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة(7).
4- قال صاحب المنار: «(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وهو تصريح بما فهم من قوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (البقرة: من الآية213). أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمّة وسطًا.
قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار؛ وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تقصير وتفريط، وكلُّ من الإفراط والتَّفريط ميْلٌ عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما»(8).
5- وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143): «أي: عدلاً وخيارا، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدّين؛ وسطًا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كلُّ على الوجه اللائق بذلك.
ووسطًا في الشّريعة؛ لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطّهارة والمطاعم؛ لا كاليهود الذين لا تصحّ لهم صلاة إلاّ في بِيَعِهِمْ وكنائسهم، ولا يطهّرهم الماء من النجاسات، وقد حرّمت عليهم طيِّبات عقوبة لهم.(/5)
ولا كالنصارى الذي لا يُنجسّون شيئًا ولا يحرّمون شيئًا، بل أباحوا ما دبَّ ودرج.
بل طهارتهم - أي هذه الأمة - أكمل طهارة وأتمّها، وأباح لهم الطيّبات من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وحرَّم عليهم الخبائث من ذلك.
فلهذه الأمّة من الدّين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها.
ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا: (أُمَّةً وَسَطاً) كاملين معتدلين، ليكونوا: (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ). بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على النَّاس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم»(9).
6- وقال سيد قطب - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها؛ فيقرر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها؛ ويزين ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة .. وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها لتعرفها، ولتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادًا لائقًا.
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي..
«أمة وسطًا» في التصور والاعتقاد لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.
«أمة وسطًا» في التفكير والشعور؛ لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة. ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول؛ ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب؛ وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، وفي تثبت ويقين.
«أمة وسطًا» .. في التنظيم والتنسيق .. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان .. ولكن مزاج من هذا وذاك.
«أمة وسطًا» .. في الارتباطات والعلاقات .. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه كذلك فردًا أثرًا جشعًا لا هم له إلا ذاته .. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادمًا للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.
«أمة وسطًا» .. في المكان .. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعًا، وتشهد على الناس جميعًا؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء...»(10).
7- ويستدل الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً… الآية) (البقرة: من الآية143) على وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم فيقول: «ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمة خيارًا عدولاً؛ هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم، وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوه بهم، ورفع ذكرهم، وأثنى عليهم؛ لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر ملائكته أن تصلي عليهم، وتدعو لهم وتستغفر لهم.
والشاهد المقبول عند الله الذي يشهد بعلم وصدق؛ فيخبر بالحق مستندًا إلى علمه به، كما قال تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: من الآية86).(/6)
فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقًا من غير علمه به، وقد يعلمه ولا يخبر به، فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم ...»(11).
وبعد استعراض ما سبق من أقوال المفسرين يتبين لنا فهمٌ واضحٌ محددٌ لمعنى الوسطية المذكورة في صفة هذه الأمة وكونها أمة وسطًا.
وهذا الفهم يتحدد في معنيين هما:
الأول: الخيرية والأفضلية.
الثاني: التوازن والعدل والقيام بالحق، والبينية بين الإفراط والتفريط.
وكلا المعنيين داخل في الآخر؛ فإن الخيرية والأفضلية لم تتصف بها هذه الأمة إلا لكونها قائمة بالعدل والقسط والحق، ولكونها وسطًا بين الغالي والجافي. وكل من قام بالعدل والحق فهو الأولى بصفة الخيرية والفضل.
والوسطية والعدل والبينية تقتضي أن يكون هناك طرفان مذمومان يكتنفان الوسط والعدل.
أحدهما: ينزع إلى الغلو والإفراط.
والآخر: ينزع إلى التفريط والإضاعة والجفاء.
وفي هذا المعني يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «... وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان»(12).
ويحسن بنا في هذا المقام أن نتعرض لمفهوم الغلو والإفراط، ومفهوم الجفاء والتفريط بعد أن اتضح لنا معنى الوسط والعدل والتوازن.
أولاً : الغلو والإفراط :
قال الجوهري: «وغلا في الأمر يغلو غلوًّا أي: جاوز فيه الحد»(13).
وقال في اللسان: «وغلا في الدين والأمر يغلو غلوًّا: جاوز حده، وقال في التنزيل (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء: من الآية171).... وقال بعضهم: غلوت في الأمر غلوًّا وغلانية وغلانيًا إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه ... ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النبت: ارتفع وعظم»(14).
وقد جاء في القرآن الكريم النهي عن الغلو في الدين في أكثر من موضع؛ ومن ذلك:
قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (النساء: من الآية171).
قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «... والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد، ومنه: غلا السعر. وقال الزجاج: الغلو: مجاوزة القدر في الظلم ... وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة»(15).
وقوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77).
قال الإمام الطبري - رحمه الله تعالى -: «لا تُفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل. فتقولوا فيه: هو الله أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبدالله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه»(16).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والنصارى أكثر غلوًا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن»(17).
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في آية المائدة: «أي: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تُطْروا من أُمِرْتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله»(18).
كما جاء النهي عن الزيادة والتكلف في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (صّ:86).
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: «أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرًا تعطونيه من عَرَض الحياة الدنيا (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي: وما أزيد على ما أرسلني الله به ولا أبتغي زيادة عليه، بل ما أُمِرْتُ به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه، وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة»(19).
وأما في السنة فقد وردت أحاديث كثيرة تنهى عن الغلو والتشديد في الدين، وذكر بعضها هنا يساعد في فهم معنى الغلو وحدوده.
الحديث الأول: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، غداة جمع: (هلمّ القط لي الحصى)، فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلمَّا وضعهنَّ في يده قال: (نعم بأمثال هؤلاء وإيّاكم والغلوّ في الديّن فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين)(20).
الحديث الثاني: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطّعون). قالها ثلاثًا(21).
قال النَّوويُ: «هلك المتنطّعون: أي المتعمِّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم»(22).(/7)
الحديث الثالث: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول: "لا تشدِّدوا على أنفسكم فيُشدِّد الله عليكم؛ فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيار (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27)"(23).
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في تعليقه على هذا الحديث: «فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين؛ وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه؛ إما بالقَدَر وإما بالشرع؛ فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل فيلزمه الوفاء به.
وبالقدر: كفعل أهل الوسواس؛ فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم»(24).
الحديث الرابع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)(25).
قال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: «والتسديد: العمل بالسداد؛ وهو القصد والتوسط في العبادة؛ فلا يقصر فيما أمر به ولا يتحمل ما لا يطيقه»(26).
الحديث الخامس: عن عبدالرحمن بن شبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اقرؤا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه)(27).
الحديث السادس: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه وقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؛ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(28).
وعند البخاري: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(29).
ومن خلال الأحاديث السابقة يتبين لنا معنى الغلو وحده وأنه مجاوزة الحد وتعدي ما أمر الله به، أو فعل ما لم يشرعه الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
«ومن الألفاظ المرادفة لمعنى الغلو: الإفراط. وهو يشترك مع الغلو في كونه مجاوزة للحد، وان كان كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الثاني في بعض ما يستعمل فيه؛ فالذي يشدد على نفسه بتحريم بعض الطيبات أو بحرمان نفسه منها يكون وصف الغلو ألصق به، والذي يعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعدى بها حدود مثل تلك العقوبة يكون وصف الإفراط ألصق به من الغلو»(30).
والمقصود أن كلاًّ من الغلو والإفراط خروج عن الوسطية.
ثانيًا : التفريط والجفاء :
بعد ما تعرفنا على معنى الغلو والإفراط، وأنه مجانب للوسطية، نقف في هذه الفقرة لنتعرف على الطرف الآخر المقابل له، ألا وهو التفريط والإضاعة والذي هو الآخر مجانب للوسطية والعدل والميزان المستقيم. فما معنى التفريط؟
قال في اللسان: «التفريط: هو التضييع. وقال الزجاج: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28) أي: كان أمره التفريط وهو تقديم العجز، وفرط في الأمر يفرط فرطًا. أي: قصَّر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط»(31). ا.هـ.
وقال الجوهري: «فرَّط في الأمر فرطًا: أي قصر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط»(32).
وقد وردت مادة (فرط) في القرآن في عدَّة مواضع:
قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) (الأنعام: من الآية31).
قال الطبري: يقول: يا ندامتنا على ما ضيَّعنا فيها.
قال السّديّ: أما (يَا حَسْرَتَنَا). فندامتنا على ما فرَّطنا فيها، فضيَّعنا من عمل الجنة(33).
وقال القرطبي: وفرَّطنا معناه ضيَّعنا، وأصله التقدّم؛ يقال: فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه: (أنا فرطكم على الحوض)(34) ... ومنه في الدعاء للصبي: اللهم اجعله فَرَطًا لأبويه؛ فقولهم: (فَرَّطْنَا). أي: قدَّمنا العجز. وقيل: «فرّطنا» أي: جعلنا غيرنا الفارط السَّابق لنا إلى طاعة الله وتخلّفنا(35).
وقال تعالى في سورة الأنعام - أيضًا -: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38).
قال الطبريّ: معناه: ما ضيَّعنا إثبات شيء منه.(/8)
وقال ابن عبَّاس: ما تركنا شيئًا إلاّ قد كتبناه في أمّ الكتاب.
وقال ابن زيد: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ). قال: لم نغفل، ما من شيء إلاّ وهو في الكتاب(36).
وقال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (الأنعام: من الآية61).
قال الطبريّ: قد بيَّنَّا أنَّ معنى التَّفريط: التَّضييع فيما مضى قبل، وكذلك تأوّله المتأوِّلون في هذا الموضع.
قال ابن عبَّاس: «لا يُفرّطون». لا يضيِّعون.
وكذلك قال السّديّ: «لا يفرّطون». لا يضيِّعون(37).
وفي سورة يوسف: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) (يوسف: من الآية80).
قال الطبريّ: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أولم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف(38).
قال القاسميّ: (فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ). قصَّرتم في شأنه(39).
وبالتعرف على معنى التفريط نكون قد أحطنا علمًا بالطرفين المذمومين المخالفين للوسطية والعدل، وهما: طرف الغلو والإفراط، وطرف التفريط والتقصير، وأن الميزان العدل وسط بينهما في كل الأمور.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - مبينًا منهج السلف القائم على العدل والوسط: «والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرًا - وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسُّنة - فإن الشيطان يَشُمُّ قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراضًا عن كمال الانقياد للسُّنة أخرجه عن الاعتصام به؛ وإن رأى فيه حرصًا على السُّنة، وشدة طلب لها لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها؛ فأمره بالاجتهاد والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلاً له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أكمل؛ فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها؛ فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج عن هذا الحد، فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر.
وهذا حال الخوارج الذين يَحْقِر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السُّنة إلى البدعة؛ لكن هذا إلى بدعة التفريط، والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان. إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط. ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصان»(40).
ويقول - رحمه الله تعالى - في موطن آخر: «وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان فإما إلى غلو ومجاوزة وإما إلى تفريط وتقصير، وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم، وهذان المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذَّر السلف منهما أشد التحذير وخوَّفوا من ابتلي بأحدهما بالهلاك. وقد يجتمعان في الشخص الواحد كما هو حال أكثر الخلق؛ يكون مقصرًا مفرطًا في بعض دينه، غاليًا متجاوزًا في بعضه، والمهدي من هداه الله»(41) ا.هـ.
تنبيه :
ما دام أن الوسطية سمة بارزة في هذا الدين، وأنه قائم على العدل والوسط والتوزان بين طرفي الغلو والتقصير، فإنه ينبغي الحذر ونحن في صدد الحديث عن الغلو والجفاء من أن نقع في الغلو في فهمنا للغلو والإفراط، أو في فهمنا للتفريط والتقصير. ذلك أن بعض الناس قد يفسر التمسك بالدين عقيدة وعبادة وشريعة وأخذ ذلك كله بقوة والالتزام بالسنة، قد يفسر ذلك بالغلو والتشديد وهذا غلط وغلو في الغلو؛ ففرق بين الملتزم بدينه المتمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الثابت على عقيدته في ضوء الكتاب والسنة وبين من يشدد على نفسه بأمور لم تشرع في هذا الدين، أو يتجاوز حدود الله عز وجل في الآخرين قاصدًا بذلك التدين والتعبد لله تعالى.
فالأول ممدوح ومحبوب لله عز وجل، وأهله هم المتقون القابضون على دينهم قبض الجمر أيام الصبر والفتن، وهم أهل الله عز وجل وخاصته، وهم الطائفة المنصورة مهما قال عنهم المخالفون أو المخذلون ورموهم به من صفات الغلو والتنطع والتطرف؛ فإنهم كما جاء وصفهم في حديث الطائفة المنصورة: «لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»(42).
أما الفئة التي غلت في دين الله تعالى وتعبدت لله تعالى بما لم يأذن به سبحانه أو بما يسخط الله تعالى فهي الفئة التي يصدق عليها وصف الغلو والتطرف والتنطع.(/9)
وفي مقابل من يغلو في فهم الغلو فإن هناك من يغلو في فهم التفريط والتقصير؛ وذلك بأن ينظر إلى بعض اجتهادات الراسخين في العلم وما يفتون به في بعض النوازل والمستجدات مما هو قائم على الموازنة عند تزاحم المفاسد والمصالح، مما ينتج عنه ترك لبعض الأوامر أو لبعض السنن أو فعل لبعض المنهيات؛ فينظر الغالي في فهم التقصير والتفريط إلى هذه الاجتهادات على أنها إضاعة وتفريط وتقصير في أمر هذا الدين، دون أن ينظر إلى ما يقابل ذلك من مصالح عظيمة فيها حفظ مقاصد الدين والشريعة.
وعلى كل حال فإن مسألة الموازنات في المصالح والمفاسد شأنها عظيم ولا يصلح أن يشتغل بها إلا الراسخون في العلم، المجتهدون الربانيون الذين حباهم الله رسوخًا في العلم والتقوى، وحماهم من الهوى وأغراض الدنيا؛ فهؤلاء هم الذين تتبع الأمة فتاواهم ومواقفهم لأنهم وإن بدا للوهلة الأولى أن في فتاواهم تقصيرًا، فإنهم قد انطلقوا في تقريرها من ضوابط شرعية دقيقة، ومن تجرد وإخلاص. فمثل هذه الفتاوى لا يقال عنها إنها تفريط وتقصير، وإنما هي من العدل والحق إن شاء الله تعالى. نعم لو أن من يتصدى لذلك كان من غير المعروفين بالرسوخ في العلم أو من المعروفين بالهوى وحظوظ الدنيا؛ فإن فتاواهم في الغالب تنطلق من هوى أو دون ضوابط شرعية، وحينئذ يصدق على أمثال هؤلاء وصفهم بالتفريط والإضاعة.
ذكر بعض الآيات التي ورد فيها القيام بالقسط والأمر به:
الآية الأولى: قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18).
الآية الثانية: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135).
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «فأمر سبحانه بالقيام بالقسط - وهو العدل - في هذه الآية، وهذا أمر بالقيام به في حق كل أحد عدوًا كان أو وليًّا، وأحق ما قام له العبد بقصدٍ: الأقوال والآراء والمذاهب؛ إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره.
فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد لأمر الله، مُنافٍ لما بعث به رسوله.
والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته وأمنائه بين أتباعه، ولا يستحق اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده. وأولئك هم الوارثون حقًا، لا من يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه معيارًا على الحق وميزانًا له، يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته، فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل أحد؟ وهو في هذا الباب أعظم فرضًا، وأكبر وجوبًا»(43).
الآية الثالثة: قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121).
«فالاستقامة: الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف ... وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهيًا عن القصور والتقصير، إنما كان نهيًا عن الطغيان والمجاوزة ... والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير»(44).
الآية الرابعة: قوله تعالى: (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (الشعراء:182، 183).
وهذه الآية وإن كانت في قوم شعيب الذين كانوا ينقصون المكيال لكنها تشمل كل وزن بالقسطاس والعدل في أي أمر حسي أو معنوي.
وفي هذا المعنى أيضًا قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين:1-3)، وهي وإن كانت في المكيال والميزان لكنها تحذر من التطفيف في كل شيء وتنهى عن أن يكون للرجل معياران: إن كان لنفسه ومن يحب وفَّى، وإن كان لغيره أو خصمه نقصه وبخسه حقه، وإنما الواجب أن يكون للمرء معيار واحد؛ وهو الميزان العدل مع من يحب ومن يبغض.
الآية الخامسة: قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: من الآية25).(/10)
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - عند قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ): «وهو النقل الصدق، (وَالْمِيزَانَ) وهوالعدل؛ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة، كما قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) (هود: من الآية17)، وقال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم: من الآية30)، وقال تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (الرحمن:7). ولهذا قال في هذه الآية (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: من الآية25) أي بالحق والعدل وهو: اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به؛ فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) (الأنعام: من الآية115) أي صدقًا في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي؛ ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات والمنازل العاليات والسرر المصفوفات: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (الأعراف: من الآية43)»(45).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على النفس»(46).
والآيات في ذكر العدل والقسط والأمر به ومدح أهله وذم أهل الجور والعدوان وأهل الإضاعة والتفريط كثيرةٌ جدًا، وليس المقصود استقصاؤها في هذا المقام، وإنما المراد الإشارة إلى أن العدل والحق هو أصل هذا الدين وسمته الرئيسة، وهو الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل حتى يقوم أعظم العدل وهو عبادة الله عز وجل وتوحيده بلا ند ولا شريك، ثم العدل مع الخلق وإعطاؤهم حقوقهم وعدم بخسهم أشياءهم، ثم العدل مع النفس دون غلو ولا إفراط، ودون تقصير ولا تفريط. فما أعظمه من دين، وما أجله من تشريع جاء لإسعاد الناس وإخراجهم من ظلمات الشرك والبغي والعدوان إلى نور التوحيد والعدل والقسطاس المستقيم؛ فنحمده سبحانه على الهداية لهذا الدين القويم العظيم ونسأله عز وجل أن يثبتنا عليه وأن يميتنا عليه، وأن يجعلنا من الداعين إلى سبيله المستقيم، وأن يكتب على أيدينا إخراج من يشاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادته وحده سبحانه، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
_____________
(1) البخاري (4487)، وقال الحافظ في الفتح: (8/22) قوله: (الوسط: العدل) هو مرفوع من نفس الخبر وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم.
(2) تفسير الطبري: (2/7)، والحديث رواه الترمذي: (5/190)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2361).
(3) تفسير الطبري: (2/7).
(4) تفسير الطبري: (2/6).
(5) عمدة التفسير عن ابن كثير: (1/263) تحقيق: أحمد شاكر.
(6) المسند: (3/32).
(7) سبق تخريجه عند البخاري، والترمذي (ص 17) من هذا الكتاب، وهو عند ابن ماجة برقم (4284).
(8) تفسير المنار: (2/4).
(9) تفسير السعدي: (1/157).
(10) في ظلال القرآن: (1/131).
(11) بدائع التفسير: (1/369).
(12) مدارج السالكين: (2/342)، ط. دار طيبة.
(13) مختار الصحاح: (6/2448).
(14) لسان العرب: مادة (غلا).
(15) انظر زاد المسير: (2/260).
(16) تفسير الطبري: (6/316).
(17) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/289).
(18) تفسير ابن كثير: (2/82).
(19) تفسير ابن كثير عند الآية (86) من سورة: ص.
(20) النسائي: (5/268) برقم (3057)، وابن ماجة: (3029)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1283).
(21) مسلم: (2670).
(22) شرح مسلم للنووي: (16/220).
(23) أبو داود: (4904)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود: (1049).
(24) عن كتاب إغاثة اللهفان: (1/132).
(25) البخاري: (39).
(26) المحجة في سير الدلجة: (ص 51).
(27) أحمد: (3/428)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (1168).
(28) مسلم: (1401).
(29) البخاري: (5063).
(30) انظر الوسطية في ضوء الكتاب والسنة، للدكتور ناصر العمر.
(31) لسان العرب: مادة (فرط).
(32) مختار الصحاح: (3/1148).
(33) انظر تفسيرالطبري: (7/178).
(34) أخرجه البخاري في الرقاق: (6575)، ومسلم في الفضائل: (2297).
(35) انظر تفسير القرطبي: (6/413).
(36) انظر تفسير الطبري: (7/188).
(37) انظر تفسير الطبري: (7/218).
(38) المصدر نفسه: (13/35).
(39) انظر تفسير القاسمي: (9/3579).
(40) مدارج السالكين: (2/342)، ط. دار طيبة.
(41) الروح لابن القيم: (545)، دار إحياء العلوم.
(42) أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم (4252)، وبنحوه عند مسلم في الإمارة (1924)، وغيرهما.
(43) بدائع التفسير: (2/81، 82).(/11)
(44) في ظلال القرآن: (4/1931) باختصار.
(45) تفسير ابن كثير: عند الآية (25) من سورة الحديد.
(46) مجموع الفتاوى: (10/99).
الباب الثاني
من مظاهر العدل والتوزان في خلق الله تعالى وأمره
قال الله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54). فالخلق خلقه والأمر أمره، وهو الحكيم الخبير الذي أحسن كل شيء خلقه، والذي قام خلقه وأمره على الحق والعدل والميزان المستقيم.
قال تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (الملك: من الآية3)، وقال تعالى: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (الأحقاف:3)، وقال عن كتابه الكريم المتضمن لأمره وشرعه: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:41،42)، وقال أيضاً عن شمول كتابه الكريم: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: من الآية89)، وقال سبحانه عن إتقانه لمخلوقاته: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: من الآية88).
ومناسبة إيراد الآيات السابقة لموضوع البحث هو ما تضمنته هذه الآيات من ذكر شمول علم الله عز وجل وبديع صنعه وحكمته البالغة في خلقه وأمره وشرعه، وما فيها من الدقة والتناسق والتوازن والعدل وقيام ذلك كله بالحق وللحق.
يتحدث الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54) فيقول: «فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره، ... ولهذا يقرن سبحانه بينهما عند ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق والأمر ...»(1).
وقال في موطن آخر: «فانظر حكمة الله عزّ وجلّ في خلقه وأمره فيما خلقه وفيما شرّعه تجد مصدر ذلك كله الحكمة البالغة التي لا يختلّ نظامها ولا ينخرم أبدًا ولا يختلّ أصلاً، ومن الناس مَن يكون حظّه من مشاهدة حكمة الأمر أعظم من مشاهدة حكمة الخلق، وهؤلاء خواصّ العباد الذين عقلوا عن الله أمره ودينه، وعرفوا حكمته فيما أحكمه، وشهدت فطنهم وعقولهم أن مصدر ذلك حكمة بالغة وإحسان ومصلحة أريدت بالعباد في معاشهم ومعادهم، وهم في ذلك درجات لا يحصيها إلاّ الله.
ومنهم من يكون حظّه من مشاهدة حكمة الخلق أوفر من حظّه من حكمة الأمر؛ وهم أكثر الأطباء الذين صرفوا أفكارهم إلى استخراج منافع النبات والحيوان وقِواها وما تصلح له مفردة ومركّبة؛ وليس لهم نصيب في حكمة الأمر إلاّ كما للفقهاء من حكمة الخلق بل أقلّ من ذلك.
ومنهم مَن فتح عليه بمشاهدة الخلق والأمر بحسب استعداده وقوّته فرأى الحكمة الباهرة التي بهرت العقول في هذا وهذا؛ فإذا نظر إلى خلقه وما فيه من الحكم ازداد إيمانًا ومعرفًة وتصديقًا بما جاءت به الرّسل، وإذا نظر إلى أمره وما تضمنه من الحكم الباهرة ازداد إيمانًا ويقينًا وتسليمًا، لا كمَن حجب بالصنعة عن الصانع، وبالكواكب عن مكوكبها، فعمي بصره وغلظ عن الله حجابه؛ ولو أعطى علمه حقه لكان من أقوى الناس إيمانًا لأنه اطّلع من حكمة الله وباهر آياته وعجائب صنعته الدالّة عليه وعلى علمه وقدرته وحكمته على ما خَفِيَ عن غيره. ولكن من حكمة الله أيضًا أن سلب كثيرًا من عقول هؤلاء خاصيّتها، وحجبها عن معرفته وأوقفها عند ظاهر من العلم بالحياة الدّنيا - وهم عن الآخرة هم غافلون - لدناءتها وخسّتها وحقارتها، وعدم أهليّتها لمعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأسرار دينه وشرعه والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وهذا باب لا يطّلع الخلق منه على ما له نسبة إلى الخافي عنهم منه أبدًا؛ بل علم الأوّلين والآخرين منه كنقرة العصفور من البحر، ومع هذا فليس ذلك بموجب للإعراض عنه واليأس منه بل يستدلّ العاقل بما ظهر له منه على ما وراءه»(2).
ويتحدث سيد قطب - رحمه الله - عن منهج الله القائم على العلم المطلق والحكمة البالغة في الخلق والشرع فيقول: «إن شريعة الله تمثل منهجًا شاملاً متكاملاً للحياة البشرية؛ يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية؛ في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها ..(/12)
وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة الإنسانية .. ومن ثم لا يفرط في شيء من أمور هذه الحياة، ولا يقع فيه ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني، ولا أي تصادم مدمر بين هذا النشاط والنواميس الكونية؛ إنما يقع التوازن والاعتدال والتوافق والتناسق .. الأمر الذي لا يتوافر أبدًا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرًا من الأمر، وإلا الجانب المكشوف في فترة زمنية معينة، ولا يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل الإنساني، ولا يخلو من التصادم المدمر بين بعض ألوان النشاط وبعض، و [من] الهزات العنيفة الناشئة عن هذا التصادم.
وهو منهج قائم على العدل المطلق .. أولاً: لأن الله يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق وكيف يتحقق .. وثانيًا: لأنه - سبحانه - رب الجميع؛ فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع، وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من الهوى والميل والضعف - كما أنه مبرأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط - الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان ذي الشهوات والميول، والضعف والهوى - فوق ما به من الجهل والقصور - سواء كان المشرع فردًا، أو طبقة، أو أمة، أو جيلاً من أجيال البشر .. فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها؛ فوق أن لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد ..
وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله؛ لأن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله، صانع الكون وصانع الإنسان؛ فإذا شرع للإنسان شرع له كعنصر كوني، له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه؛ بشرط السير على هداه، وبشرط معرفة هذه العناصر والقوانين التي تحكمها .. ومن هنا يقع التناسق بين حركة الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه، وتأخذ الشريعة التي تنظم حياته طابعًا كونيًا، ويتعامل بها لا مع نفسه فحسب، ولا مع بني جنسه فحسب! ولكن كذلك مع الأحياء والأشياء في هذا الكون العريض الذي يعيش فيه ولا يملك أن ينفذ منه، ولا بدَّ له من التعامل معه وفق منهاج سليم قويم»(3).
وبعد هذه المقدمة المجملة عن سمة الشمول والتوزان والحق والعدل في خلق الله عز وجل وشرعه ندخل في تفصيل مظاهر هذا الشمول والتوازن والعدل والوسطية من خلال هذين الفصلين:
الفصل الأول : من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره.
الفصل الثاني : من مظاهر العدل والتوازن في أمر الله عز وجل وشرعه.
وتحته مباحث:
المبحث الأول: من مظاهر العدل والتوازن في أبواب الاعتقاد.
المبحث الثاني: من مظاهر العدل والتوازن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى.
المبحث الثالث: من مظاهر العدل والتوازن في العبادات.
المبحث الرابع: من مظاهر العدل والتوازن في المعاملات والأخلاق.
_____________
(1) بدائع التفسير: (2/218).
(2) مفتاح دار السعادة: (1/244، 245).
(3) في ظلال القرآن: (2/890).
الفصل الأول
من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره
قال الله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: من الآية2).
قال القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد لا عن شهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة وبعد القيامة؛ فهو الخالق المقدر فإياه فاعبدوه»(1).
وقال الشنقيطي - رحمه الله تعالى - في أضواء البيان عند هذه الآية: «قد جاء أيضًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى:2،3)، وقوله تعالى: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد: من الآية8)، وقوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) إلى غير ذلك من الآيات.
وقال ابن عطية: تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والإتقان»(2).
وقال سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «أي قدَّر حجمه وشكله، وقدَّر وظيفته وعمله، وقدَّر زمانه ومكانه، وقدَّر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير. وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه لمما يدعو إلى الدهشة حقًا، وينفي فكرة المصادفة نفيًا باتًا، ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير، وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: من الآية2). يقول كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان (الإنسان لا يقوم وحده).(/13)
(... ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان - مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره - من السيطرة على العالم، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر. وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك، ماثلاً في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات.
والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان. منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا، وزاحم أهل المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة.ولم يجد الأهالي وسيلة تصده عن الانتشار؛ وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق!
وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الانتشار، وليس لها عدو يعوقها في استراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار. ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد.
وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائماً مجدية»(3).
ويقول في موطن آخر في الظلال: «إن التوازن ملحوظ في ملكوت السموات والأرض جميعًا ... إنه ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في بناء المجرة! وملحوظ في التوازن بين الأحياء وبين الأشياء سواء، ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائمًا لحظة، فمن الذي يمسك بعجلة التوازن الكبرى في السموات والأرض جميعًا»(4).
ثم يذكر رحمه الله تعالى - بعض صور هذه الموازنات والتقديرات الدقيقة الحكيمة فيقول: «ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى شيء من هذا التوازن في علاقات بعض الأحياء ببعض. إذ كنا قد أشرنا بشيء من التفصيل في سور أخرى إلى التناسق في بناء الكون، وفي ظروف الأرض ...
إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد، لأنها قليلة البيض، قليلة التفريخ، فضلاً على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة. وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار، ولو كانت مع عمرها الطويل كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها. أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان، وللقيام بأدوارها الأخرى، ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض!
بغاث الطير أكثرها فراخا وأم الصقر مُقِلاّتٌ نَزور
وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث.
الذبابة تبيض ملايين البويضات. ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين. ولو كانت تعيش بضعة أعوام، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه؛ ولغدت حياة كثير من الأجناس - وأولها الإنسان - مستحيلة على وجه هذه الأرض. ولكن عجلة التوازن التي لا تختل في يد القدرة التي تدبر هذا الكون، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه!
والميكروبات - وهي أكثر الأحياء عددًا، وأسرعها تكاثرًا، وأشدها فتكًا - هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمرًا. تموت بملايين الملايين من البرد، ومن الحر، ومن الضوء، ومن أحماض المعدات، ومن أمصال الدم، ومن عوامل أخرى كثيرة. ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان. ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء!
وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء. وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع. فكثرة العدد سلاح، وقوة البطش سلاح، وبينهما ألوان وأنواع.
الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها، والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل، ومن ثم يندر فيها السام!
والخنفساء - وهي قليلة الحيلة - مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة، تصبها على كل من يلمسها، وقاية من الأعداء!
والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز، والأسود مزودة بقوة البأس والافتراس!
وهكذا كل حي من الأحياء الصغار والكبار على السواء.
وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام .. الإنسان والحيوان والطير وأدنأ أنواع الأحياء سواء ..
البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي تلصق بالرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة، تمزق جدار الرحم حولها وتحوله إلى بركة من الدم المناسب لامتصاصها ونموها! والحبل السري الذي يربط الجنين بأمه ليتغذى منها حتى يتم وضعه، روعي في تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله، دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء إليه بما قد يؤذيه.(/14)
والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائلاً أبيض مائلاً إلى الاصفرار. ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض. وفي اليوم التالي للميلاد يبدأ اللبن في التكوين. ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوماً بعد يوم، حتى يصل إلى حوالي ليتر ونصف في اليوم بعد سنة، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات. ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل؛ بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير مكوّناته، وتتركز مواده، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى، بل يوماً بعد يوم بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو)(5)»(6).(/15)
واختم الكلام في هذا الباب عن مظاهر الحكم الباهرة والتوازن والعدل والإتقان في خلق الرحمن ببعض ما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه النفيس مفتاح دار السعادة؛ حيث أطال النفس في تعداد هذه الصور وعجائب صنع الله تعالى وحكمته فيها. ومن ذلك قوله - رحمه الله تعالى -: «أعِد الآن النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية، مَن الذي دبّرك بألطف التدبير وأنت جنين في بطن أُمك في موضع لا يد تنالك ولا بصر يدركك ولا حيلة لك في التماس الغذاء ولا في دفع الضر؟ فمن الذي أجرى إليك من دم الأُم ما يغذوك كما يغذو الماء النبات، وقلب ذلك الدم لبنًا ولم يزل يغذّيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسّب والطلب، حتى إذا كمل خلقك، واستحكم وقوي أديمك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الضياء، وصَلُبت عظامك على مباشرة الأيدي والتقلّب على الغبراء هاج الطّلق بأُمك، فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء، فركضك الرّحم ركضة من مكانك كأنه لم يضمّك قطّ ولم يشتمل عليك؟!. فيا بُعد ما بين ذلك القبول والاشتمال حين وُضِعت نطفة، وبين هذا الدّفع والطّرد والإخراج، وكان مبتهجًا يحملك فصار يستغيث ويعجّ إلى ربك من ثقلك. فمَن الذي فتح لك بابه حتى ولجت، ثم ضمّه عليك حتى حفظت وكملت، ثم فتح لك ذلك الباب ووسّعه حتى خرجت منه كلمح البصر لم يخنقك ضيقه ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه؟!. فلو تأمّلت حالك في دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهب بك العجب كل مذهب. فمَن الذي أوحى إليه أن يتضايق عليك وأنت نطفة حتى لا تفسد هناك؟ وأوحى إليه أن يتسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليماً إلى أن خرجت فريدًا وحيدًا ضعيفًا لا قشرة ولا لباس ولا متاع ولا مال، أحوج خلق الله وأضعفهم وأفقرهم، فصرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذّى به في بطن أُمك إلى خزانتين معلّقتين على صدرها تحمل غذاءك على صدرها كما حملتك في بطنها، ثم ساقه إلى تينك الخزانتين ألطف سَوق على مجارٍ وطرق قد تهيّأت له؛ فلا يزال واقفًا في طرقه ومجاريه حتى تستوفي ما في الخزانة فيجري وينساق إليك؛ فهو بئر لا تنقطع مادتها، ولا تنسدّ طرقها يسوقها إليك في طريق لا يهتدي إليها الطوّاف ولا يسلكها الرجال؟! فمَن رقّقه لك وصفّاه، وأطاب طعمه، وحسّن لونه، وأحكم طبخه أعدل إحكام، لا بالحارّ المؤذي ولا بالبارد الرديء، ولا المرّ ولا المالح ولا الكريه الرائحة؟! بل قلبه إلى ضرب آخر من التغذية والمنفعة خلاف ما كان في البطن فوافاك في أشدّ أوقات الحاجة إليه، على حين ظمأ شديد وجوع مُفرِط جمع لك فيه بين الشراب والغذاء، فحين تولد قد تلمّظت وحرّكت شفتيك للرضاع؛ فتجد الثدي المعلّق كالإداوة قد تدلّى إليك وأقبل بدره عليك، ثم جعل في رأسه تلك الحلمة التي هي بمقدار صغر فمك؛ فلا يضيق عنها، ولا تتعب بالتقامها، ثم نقب لك في رأسها نقبًا لطيفًا بحسب احتمالك، ولم يوسّعه فتختنق باللبن ولم يضيّقه فتمصه بكلفة، بل جعله بقدر اقتضته حكمته ومصلحتك، فمَن عطف عليك قلب الأم ووضع فيه الحنان العجيب والرحمة الباهرة حتى تكون في أهنأ ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها؛ فإذا أحسّت منك بأدنى صوت أو بكاء قامت إليك، وآثرتك على نفسها على عدد الأنفس، منقادة إليك بغير قائد ولا سائق إلاّ قائد الرحمة وسائق الحنان، تودّ لو أن كل ما يؤلمك بجسمها وأنه لم يطرقك منه شيء، وأن حياتها تُزاد في حياتك؟! فمَن الذي وضع ذلك في قلبها حتى إذا قوي بدنك، واتّسعت أمعاؤك، وخشنت عظامك، واحتجت إلى غذاء أصلب من غذائك ليشتدّ به عظمك ويقوى عليه لحمك وضع في فيك آلة القطع والطّحن؛ فنصب لك أسنانًا تقطع بها الطعام وطواحين تطحنه بها؟! فمَن الذي حبسها عنك أيام رضاعك رحمة بأُمّك ولطفًا بها، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمة بك وإحسانًا إليك ولطفًا بك؟!. فلو أنك خرجت من البطن ذا سنّ وناب وناجذ وضرس، كيف كان حال أُمك بك؟ ولو أنك منعتها وقت الحاجة إليها كيف كان حالك بهذه الأطعمة التي لا تسيغها إلاّ بعد تقطيعها وطحنها؟ وكلما ازددت قوًة وحاجًة إلى الأسنان في أكل المطاعم المختلفة زِيدَ لك في تلك الآلات حتى تنتهي إلى النواجذ؛ فتطيق نهش اللحم، وقطع الخبز، وكسر الصلب، ثم إذا ازددت قوًة زِيدَ لك فيها حتى تنتهي إلى الطواحن التي هي آخر الأضراس؛ فمَن الذي ساعدك بهذه الآلات، وأنجدك بها، ومكّنك بها من ضروب الغذاء؟ ثم إنه اقتضت حكمته أن أخرجك من بطن أُمك لا تعلم شيئًا، بل غبيًّا لا عقل ولا فهم ولا علم، وذلك من رحمته بك، فإنك على ضعفك لا تحتمل العقل والفهم والمعرفة، بل كنت تتمزّق وتتصدّع، بل جعل ذلك ينتقل فيك بالتدريج شيئًا فشيئًا؛ فلا يصادفك ذلك وهلةً واحدًة، بل يصادفك يسيرًا يسيرًا حتى يتكامل فيك. واعتبر ذلك بأن الطفل إذا سُبِيَ صغيرًا من بلده ومن بين أبويه ولا عقل له فإنه لا يؤلمه ذلك، وكلما كان أقرب إلى العقل كان أشقّ عليه وأصعب، حتى إذا كان عاقلاً فلا تراه إلاّ(/16)
كالواله الحيران. ثم لو ولدت عاقلاً فهيمًا كحالك في كبرك تنغّصت عليك حياتك أعظم تنغيص، وتنكّدت أعظم تنكيد؛ لأنك ترى نفسك محمولاً رضيعًا معصّبًا بالخِرَق، مربّطًا بالقمط، مسجونًا في المهد عاجزًا ضعيفًا عمّا يحاوله الكبير؛ فكيف كان يكون عيشك مع تعلّقك التامّ في هذه الحالة؟ ثم لم يكن يوجد لك من الحلاوة واللطافة والوقع في القلب والرحمة بك ما يوجد للمولود الطفل، بل تكون أنكد خلق الله وأثقلهم وأعنتهم وأكثرهم فضولاً، وكان دخولك هذا العالم وأنت غبي لا تعقل شيئًا، ولا تعلم ما فيه أهله محض الحكمة والرحمة بك والتدبير، فتلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد فيك العقل والمعرفة شيئًا فشيئًا حتى تألف الأشياء وتتمرّن عليها، وتخرج من التأمّل لها والحيرة فيها وتستقبلها بحُسْن التصرّف فيها والتدبير لها والإتقان لها. وفي ذلك وجوه أُخَر من الحكمة غير ما ذكرناه. فمَن هذا الذي هو قيّم عليك بالمرصاد يرصدك حتى يوافيك بكل شيء من المنافع والآراب والآلات في وقت حاجتك، لا يقدّمها عن وقتها، ولا يؤخرها عنه؟»(7).
وقال أيضاً رحمه الله: «ثم تأمّل حكمة الله عزّ وجلّ في الحفظ والنسيان الذي خصّ به نوع الإنسان، وما له فيهما من الحِكَم، وما للعبد فيهما من المصالح؛ فإنه لولا القوة الحافِظة التي خصّ بها لدخل عليه الخلل في أموره كلها، ولم يعرف ما له وما عليه، ولا ما أخذ ولا ما أعطى ولا ما سمع ورأى، ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا ذكر مَن أحسن إليه ولا مَن أساء إليه ولا مَن عامله ولا مَن نفعه فيقرب منه، ولا مَن ضرّه فينأى عنه، ثم كان لا يهتدي إلى الطريق الذي سلكه أول مرة ولو سلكه مرارًا، ولا يعرف علمًا ولو درسه عمره، ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئًا على ما مضى، بل كان خليقًا أن ينسلخ من الإنسانية أصلاً؛ فتأمّل عظيم المنفعة عليك في هذه الخِلال وموقع الواحدة منها فضلاً عن جميعهنّ. ومن أعجب النِّعَم عليه نعمة النسيان؛ فإنه لولا النسيان لَمَا سَلاَ شيئًا، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزّى عن مصيبة، ولا مات له حزن، ولا بطل له حقل، ولا تمتّع بشيء من متاع الدنيا مع تذكّر الآفات، ولا رجا غفلة عدو ولا نقمة من حاسد؛ فتأمّل نعمة الله في الحفظ والنسيان مع اختلافهما وتضادّهما، وجعله في كل واحد منهما ضربًا من المصلحة»(8).
وقال أيضاً في موضع آخر: «ثم تأمّل بعد ذلك أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول، وما فيها من المصالح والحكم؛ إذ لو كان الزمان كله فصلاً واحدًا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه، فلو كان صيفًا كله لفاتت مصالح الشتاء، ولو كان شتاءً لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعًا كله أو خريفاً كله؛ ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف وبطون الأرض والجبال، فتتولّد مواد الثمار وغيرها وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء؛ فيحصل السّحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الأرض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها، وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف ما حلّلته حرارة الصيف من الأبدان. وفي الربيع تتحرّك الطبائع وتظهر المواد المتولّدة في الشتاء فيظهر النبات، ويتنوّر الشجر بالزهر، ويتحرك الحيوان للتناسل. وفي الصيف يحتدّ الهواء ويسخن جدًّا، فتنضج الثمار وتنحلّ فضلات الأبدان والأخلاط التي انعقدت في الشتاء، وتغور البرودة وتهرب إلى الأجواف ولهذا تبرد العيون والآبار، ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الأطعمة الغليظة لأنها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون، فلما جاء الصيف خرجت الحرارة إلى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه. فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السَّموم، وجعله الله بحكمته برزخًا بين سموم الصيف وبرد الشتاء لئلا ينتقل الحيوان وهلة واحدة من الحرّ الشديد إلى البرد الشديد، فيجد أذاه ويعظم ضرره، فإذا انتقل إليه بتدرج وترتب لم يصعب عليه؛ فإنه عند كل جزء يستعدّ لقبول ما هو أشدّ منه حتى تأتي جمرة البرد بعد استعداد وقبول؛ حكمة بالغة وآية باهرة. وكذلك الربيع برزخ بين الشتاء والصيف يتنقل فيه الحيوان من برد هذا إلى حرّ هذا بتدرج وترتيب فتبارك الله ربّ العالمين وأحسن الخالقين»(9).(/17)
وقال: «ومن آياته الباهرة هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يدرك بحسّ اللمس، عند هبوبه يدرك جسمه، ولا يرى شخصه؛ فهو يجري بين السماء والأرض والطير محلقة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حرّكه بحركة الرحمة فجعله رخاءً ورحمةً وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحًا للسّحاب يلقحه بحمل الماء كما يلقح الذّكر الأُنثى بالحمل. وتسمى رياح الرحمة المبشّرات والنشر والذاريات والمرسلات والرخاء واللواقح. ورياح العذاب العاصف والقاصف - وهما في البحر - والعقيم والصرصر وهما في البرّ.
وإن شاء حرّكه بحركة العذاب فجعله عقيمًا، وأودعه عذابًا أليمًا، وجعله نقمًة على من يشاء من عباده فيجعله صرصرًا ونحسًا وعاتيًا ومفسِدًا لما يمرّ عليه.
وهي مختلفة في مهابها؛ فمنها صِبًا ودبور وجنوب وشمال، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف؛ فريح ليّنة رطبة تغذّي النبات وأبدان الحيوان، وأخرى تجفّفه، وأخرى تهلكه وتعطبه، وأخرى تشدّه وتصلبه، وأخرى تُوهنه وتُضعفه. ولهذا يخبر سبحانه عن رياح الرحمة بصيغة الجمع لاختلاف منافعها وما يحدث منها؛ فريح تُثير السّحاب وريح تلقحه وريح تحمله على متونها وريح تغذّي النبات»(10).
«فإذا تأمّلت السّحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جوً صافٍ لا كدورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء، وهو مع لينه ورخاوته حامِل للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى أن يأذن له ربّه وخالقه في إرسال ما معه من الماء؛ فيرسله ويُنزله منه مقطّعًا بالقطرات كل قطرة بقدر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته، فيرشّ السّحاب الماء على الأرض رشًّا، ويرسله قطرات مفصّلة لا تختلط قطرة منها بأخرى، ولا يتقدّم متأخّرها، ولا يتأخّر متقدّمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتُمزَج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة»(11).
«ثم تأمّل الحكمة في خلق النار على ما هي عليه من الكمون والظهور؛ فإنها لو كانت ظاهرة أبدًا كالماء والهواء كانت تحرق العالم وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة، ولو كانت كامنة لا تظهر أبدًا لفاتت المصالح المترتبة على وجودها؛ فاقتضت حكمة العزيز العليم أن جعلها مخزونة في الأجسام يُخرِجها ويُبقيها الرجل عند حاجته إليها، فيُمسكها ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه، فلا يزال حابسها ما احتاج إلى بقائها فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خبت بإذن ربّها وفاطِرها فسقطت المؤنة والمضرّة ببقائها. فسبحان مَن سخّرها وأنشأها على تقدير محكم عجيب اجتمع فيه الاستمتاع والانتفاع والسلامة من الضرر؛ قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (الواقعة:71)، إلى قوله: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الواقعة:74) فسبحان ربنا العظيم لقد تعرّف إلينا بآياته وشفانا ببيّناته وأغنانا بها عن دلالات العالمين فأخبر سبحانه أنه جعلها تذكرة بنار الآخرة، فنستجير منها، ونهرب إليه منها، ومتاعًا للمقوين وهم المسافرون النازلون بالقواء، والقواء هي الأرض الخالية وهم أحوج إلى الانتفاع بالنار للإضاءة والطبخ والخبز والتدفئة والأنس وغير ذلك»(12).(/18)
«ثم تأمّل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدّر بأن يكون طائرًا في الجو خفّف جسمه، وأدمج خلقته، واقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين، ومن الأصابع الخمس على أربع، ومن مخرج البول والزبل على حد واحد يجمعهما جميعًا، ثم خُلق ذا جؤجؤ محدود ليسهل عليه اختراق الهواء كيف توجّه فيه كما يجعل صدر السفينة بهذه الهيئة ليشقّ الماء بسرعة وتنفذ فيه، وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران، وكسى جسمه كله الريش ليتداخله الهواء فيحمله. ولمّا قدّر أن يكون طعامه اللحم والحبّ يبلعه بلعًا بلا مضغ نقّص من خلقه الأسنان وخلق له منقارًا صلبًا يتناول به طعامه فلا يتفسّخ من لقط الحبّ ولا يتعقّف من نهش اللحم. ولمّا عَدِمَ الأسنان، وكان يزدرد الحبّ صحيحًا واللحم عريضًا أُعين بفضل حرارة في الجوف تطحن الحبّ وتطبخ اللحم فاستغنى عن المضغ، والذي يدلّك على قوّة الحرارة التي أُعين بها أنك ترى عجم الزبيب وأمثاله يخرج من بطن الإنسان صحيحًا وينطبخ في جوف الطائر حتى لا يُرَى له أثر. ثم اقتضت الحكمة أن جُعل يبيض بيضًا ولا يلد ولادة، لئلا يثقل عن الطيران؛ فإنه لو كان مما يحمل ويمكث حمله في جوفه حتى يستحكم ويثقل لأثقله وعاقه عن النهوض والطيران. وتأمّل الحكمة في كون الطائر المُرسَل السائح في الجوّ يُلهَم صبر نفسه أسبوعًا أو أُسبوعين باختياره قاعدًا على بيضه حاضنًا له، ويحتمل مشقّة الحبس؛ ثم إذا خرج فراخه تحمّل مشقّة الكَسْب وجَمْع الحبّ في حوصلته، وبزق فراخه وليس بذي رَوِيّة ولا فكرة في عاقبة أمره ولا يؤمل في فراخه ما يؤمل الإنسان في ولده من العَوْن والرفد وبقاء الذّكر. فهذا من فعله يشهد بأنه معطوف على فراخه لعلّة لا يعلمها هو ولا يفكر فيها من دوام النسل وبقائه»(13).
«ثم تأمّل الحكمة في شجرة اليقطين والبّطيخ كيف لمّا اقتضت الحكمة أن يكون حملها ثمارًا كبارًا جعل نباته منبسطًا على الأرض، إذ لو انتصب قائمًا كما ينتصب الزرع لضعفت قوته عن حمل هذه الثمار الثقيلة ولنقصت قبل إدراكها وانتهائها إلى غاياتها، فاقتضت حكمة مُبدعها وخالقها أن بسطه ومدّه على الأرض ليلقي عليها ثماره، فتحملها عنه الأرض فترى العرق الضعيف الدقيق من ذلك منبسطًا على الأرض وثماره مبثوثة حواليه كأنها حيوان قد اكتنفها جراؤها فهي تُرضعهم. ولمّا كان شجر اللوبياء والباذنجان والباقلاء وغيرها مما يقوى على حمل ثمرته أنبته الله منتصبًا قائمًا على ساقه، إذ لا يلقى من حمل ثماره مؤونة ولا يضعف عنه»(14).
سؤال وجوابه :
قد يسأل سائل بعد ما تعرفنا على بعض آيات الله عز وجل في الآفاق وفي الأنفس، وما فيها من العجائب والحكم الباهرة: ما علاقة ذلك بموضوع هذه الرسالة الموسومة بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)؟
والجواب: أن في ذلك تنبيهًا إلى عظمة الخالق عز وجل وكماله وشمول علمه وحكمته لكل شيء، وأن هذه الآيات الباهرة في خلقه وتقديره هي مقتضى علمه عز وجل وعزته وقدرته ورحمته وعدله وحكمته. وأن مَنْ هذه صفاته - سبحانه وتعالى - هو الذي أنزل الكتاب الحكيم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وضمَّنه من الأوامر والنواهي والشرائع الكاملة الكفيلة بكل خير ورحمة للعباد، وأن من التزم بها وقام بحقها في نفسه ومع الناس فهو من الأمة الوسط التي اختارها الله عز وجل لتكون شاهدة على الناس ومبلغة دين الله إليهم.
والمقصود أن الأمة الوسط ما استحقت هذا الوصف - الذي هو العدل والقيام بالحق والميزان المستقيم - إلا لكونها امتثلت لما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، ومن مقتضياتها ما نراه في النفس والآفاق والأوامر والنواهي من الحِكَم العظيمة والمصالح العامة.
ففي ذكر حكمته سبحانه في خلقه وتقديره، وما يشتمل عليه من الإتقان والتوازن والعدل زيادة إيمان ويقين وبينة على أن الأمة المتبعة لما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة الوسط الخيار التي تقوم بالعدل وبالحق؛ فكما أن خلق الله عز وجل وتقديره هو الحق والوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فكذلك الملتزم بأوامر الخالق عز وجل وشرعه هو من الأمة الوسط؛ وذلك للزومه شرع الله عز وجل الوسط العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وصدق الله العظيم: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54)؛ فالكل صادر منه سبحانه، فالخلق خلقه والأمر أمره والشرع شرعه، وما صدر عن الله عز وجل فهو الحق والعدل والخير وفيه الحكمة والمصلحة.(/19)
أما ما سوى الله عز وجل من المخلوقين الضعاف الجهلة الظلمة، محدودي الزمان والمكان والعقل، فلا يصدر منهم إلا ما يناسب صفاتهم من الجهل والظلم والهوى، فيا عجبًا ممن يؤثر شرع المخلوق الضعيف وقوانينه ونظمه الجائرة على شرع الله عز وجل المبرأ من النقص والجهل والظلم، ومن أجل ذلك نرى أن الدول والمجتمعات التي التزمت بغير ما أنزل الله تعالى وحكمت أهواءها قد جاءت أقوالها وأفعالها ونظمها ومواقفها مجانبة للوسطية والعدل والحق، وحل مكان ذلك الظلم والطغيان والإفراط أو التفريط، مما أفرز للناس حياة تعيسة كلها ظلم وشقاء وقلق واضطراب.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، ونسأله سبحانه أن يثبتنا على دين الحق وأنا يعيننا على أداء واجب دعوة الناس إلى هذا الدين حتى يهنأوا في ظلاله في الدنيا ويفوزوا بالنعيم المقيم في الدار الآخرة.
_____________
(1) تفسير القرطبي: (13/3).
(2) أضواء البيان: (6/267).
(3) في ظلال القرآن: (5/2548-2549) بتصرف واختصار.
(4) في ظلال القرآن: (3/1406).
(5) عن كتاب الله والعلم الحديث، عبدالرزاق نوفل: (ص 46-48).
(6) في ظلال القرآن: (6/3437، 3438).
(7) مفتاح دار السعادة: (265-267).
(8) المصدر نفسه: (1/288).
(9) المصدر نفسه: (1/215).
(10) المصدر نفسه: (1/207).
(11) المصدر نفسه: (1/208).
(12) المصدر نفسه: (1/223).
(13) المصدر نفسه: (1/254).
(14) المصدر نفسه: (1/238).
الفصل الثاني
من مظاهر العدل والتوازن في أمر الله عز وجل وشرعه
في الفصل السابق كان الحديث عن مظاهر العدل والحق والتوازن في خلق الله عز وجل وآياته الباهرة في الآفاق والأنفس.
وفي هذا الفصل وما تحته من المباحث سيكون الكلام - إن شاء الله تعالى - عن بعض مظاهر العدل والحق والوسطية في أمر الله عز وجل وشرعه.
وأول ما أمر الله عز وجل به: توحيده سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. والتوسط واضح فيه بكونه وسطًا بين الغلو والتفريط، كما يتضح التوسط والعدل في ما شرعه سبحانه من الأحكام في العبادات والمعاملات.
وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى -: «الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال كتكاليف الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والزكاة، وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل؛ كقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) (البقرة: من الآية219)، (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (البقرة: من الآية219) وأشباه ذلك.(/20)
فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع رادًّا إلى الوسط الأعدل؛ لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه؛ فِعْلَ الطبيب الرفيقِ: يحمل المريضَ على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه؛ حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقًا في التدبير وسطًا لائقًا به في جميع أحواله، أوَلا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم، ولحصول منافعهم، ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم، وتكمل بها تصرفاتهم؛ كقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ) (البقرة: من الآية22)، وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) (إبراهيم: من الآية32) إلى قوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: من الآية34)، وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) (النحل:10) إلى آخر ما عدّ لهم من النعم، ثم وُعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا، وبالعذاب إن تمادَوا على ما هم عليه من الكفر. فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران، وشكوا في صدق ما قيل لهم، أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته. فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة أُخبروا بحقيقتها، وأنها في الحقيقة كلا شيء؛ لأنها زائلة فانية، وضربت لهم الأمثال في ذلك؛ كقوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) (يونس: من الآية24)، وقوله: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (محمد: من الآية36)... بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها، أو نظرًا إلى هذا المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ مما أخافُ عليكم مَا يُفْتَح لكم من زهرات الدنيا»(1). ولمّا لم يظهر ذلك ولا مظنته قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: من الآية32)، وقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً) (المؤمنون: من الآية51)... ولمّا ذم الدنيا ومتاعها همَّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتّلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من رغب عن سنتي فليس مني»(2)، ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن: من الآية15).
والمال والولد هي الدنيا: وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يُزهِّدهم ولا أمرهم بتركها، إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك. وما سواه فلا ... فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر. فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر - يُؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.
وطرف التخفيف - وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص - يُؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد. فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه.
وعلى هذا : إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى؛ وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما وما قابلها، والتوسط يعرف بالشرع، وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار والنفقات)(3).
______________
(1) رواه مسلم: (1052).
(2) سبق تخريجه: (ص 29).
(3) الموافقات: (2/100-114) باختصار، ط. دار الفكر.
المبحث الأول
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن
في أبواب الاعتقاد وأصول الدين(/21)
لقد اعترى جانب العقيدة في هذا الدين ما اعترى غيره من الانحراف عن المنهج الوسط العدل الذي أراده الله عز وجل في أبواب العقيدة، وتراوح هذا الانحراف بين الغلو والإفراط وبين التفريط والتقصير. وسلَّم الله عز وجل من شاء من عباده المؤمنين من الانحراف إلى أحد هذين الطرفين، ورزقهم الاستقامة والعدل وطريق الأمة الوسط. وهم أهل السنة والجماعة والاتباع للكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم.
ومن مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الاعتقاد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن أهل السنة والجماعة وأنهم وسط في دين الله عز وجل بين الغالي والجافي؛ قال رحمه الله تعالى:
«[ 1 ] وهذه الفرقة الناجية «أهل السنة» وهم وسط في النحل؛ كما أن ملة الإسلام وسط في الملل؛ فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين؛ لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.
ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود؛ فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.
بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابًا، كما قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:79، 80).
[ 2 ] ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في «المسيح»؛ فلم يقولوا هو الله ولا ابن الله ولا ثالث ثلاثة، كما تقوله النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا هذا عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه.
[ 3 ] وكذلك المؤمنون «وسط في شرائع دين الله»؛ فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء ويثبت، كما قالته اليهود كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (البقرة: من الآية142)، وبقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ) (البقرة: من الآية91).
ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية31).
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله ما عبدوهم؟ قال: «ما عبدوهم؛ ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم»(1).
[ 4 ] والمؤمنون قالوا: «لله الخلق والأمر» فكما لا يخلق غيرُه لا يأمر غيرُه.
وقالوا: سمعنا وأطعنا؛ فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة: من الآية1). وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيمًا.
[ 5 ] وكذلك في صفات الله تعالى؛ فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة؛ فقالوا: هو فقير ونحن أغنياء، وقالوا: يد الله مغلولة، وقالوا: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت، إلى غير ذلك.
والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به؛ فقالوا: إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب.
والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى، ليس له سمي ولا ند، ولم يكن له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء؛ فإنه رب العالمين وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم:93- 95).(/22)
[ 6 ] ومن ذلك أمر الحلال والحرام؛ فإن اليهود كما قال الله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (النساء: من الآية160)؛ فلا يأكلون ذوات الظفر؛ مثل الإبل والبط. ولا شحم الثرب والكليتين؛ ولا الجدي في لبن أمه. إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما؛ حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعًا. والواجب عليهم مئتان وثمانية وأربعون أمرًا، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت.
وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم.
ولهذا قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29).
وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:156، 157).
وهذا باب يطول وصفه.
[ 7 ] وهكذا أهل السنة والجماعة في الفِرَق؛ فهم في «باب أسماء الله وآياته وصفاته» وسط بين «أهل التعطيل» الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه؛ حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين «أهل التمثيل» الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف وتمثيل.
[ 8 ] وهم في «باب خلقه وأمره» وسط بين المكذبين بقدرة الله؛ الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء؛ وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل؛ فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية148).
فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير؛ فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات.
ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله؛ فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله(2).
[ 9 ] وهم في «باب الأسماء والاحكام والوعد والوعيد» وسط بين الوعيدية؛ الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته.
[ 10 ] وهم أيضاً في «أصحاب رسول الله» صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وسط بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه، فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيًا أو إلهًا، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان رضي الله عنهما، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما. ويستحبون سب علي وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته(3).(/23)
[ 11 ] وكذلك في سائر «أبواب السنة» هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان»(4) ا.هـ.
ويضاف إلى ما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - من الأمثلة على الوسطية والتوازن في أبواب الاعتقاد ما يلي:
[ 12 ] التوازن بين الخوف والرجاء:
وهذا كثير في القرآن الكريم والسنة الصحيحة؛ فقلما تأتي آيات الوعيد والتخويف وذكر عظمة الله عز وجل وبطشه إلا ويسبقها أو يلحقها ذكر آيات الوعد والرجاء، وذكر رحمة الله تعالى وبره ولطفه.
ومن نزع إلى آيات الخوف والوعيد ونسي آيات الوعد والرجاء فإنه مجانب للعدل والوسطية وفيه شبه من الخوارج الوعيدية. ومن نزع إلى آيات الرجاء والوعد ونسي آيات الوعيد والتخويف، فإنه أيضاً يعد مجانبًا للعدل والوسط وفيه شبه من المرجئة.
والمذهب الوسط الحق هو مذهب أهل السنة والاتباع الذين يجمعون بين الأدلة كلها ويقبلون على الله عز وجل بجناحي الخوف والرجاء: خوف يسوقهم ورجاء يحدوهم. ويفصل القول في التوازن بين موجبات الخوف والرهبة وموجبات الأنس والرجاء الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - فيقول: «والتوازن في علاقة العبد بربه بين موحيات الخوف والرهبة والاستهوال، وموحيات الأمن والطمأنينة والأنس؛ فصفات الله الفاعلة في الكون، وفي حياة الناس والأحياء، تجمع بين هذا الإيحاء وذاك في توازن تام.
ويقرأ المسلم في كتاب الله الكريم من صفات ربه ما يخلع القلوب ويزلزل الفرائص، ويهز الكيان، من مثل قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: من الآية24).
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19).
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (قّ:16).
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )(البقرة: من الآية235).
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(البقرة: من الآية196).
(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (القلم:44،45).
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (البروج:12).
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (آل عمران: من الآية4).
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102).
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (المزمل:11-14).
وصور العذاب في مشاهد القيامة رعيبة رعيبة ... ويقرأ المسلم كذلك من صفات ربه ما يملأ قلبه طمأنينة وراحة، وروحه أنسًا وقربًا، ونفسه رجاء وأملا: من مثل قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: من الآية186).
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) (النمل: من الآية62).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96).
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) (البروج:14).
(وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة: من الآية207).
(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) (الكهف:2، 3).
وصور النعيم في مشاهد القيامة رخية رخية!
ومن هذا وذاك يقع التوازن في الضمير بين الخوف والطمع، والرهبة والأنس، والفزع والطمأنينة، ويسير الإنسان في حياته، يقطع الطريق إلى الله، ثابت الخطو، مفتوح العين، حي القلب، موصول الأمل، حذرًا من المزالق، صاعدًا أبدًا إلى الأفق الوضيء. لا يستهتر ولا يستهين، ولا يغفل ولا ينسى. وهو في الوقت ذاته شاعر برعاية الله وعونه، ورحمة الله وفضله؛ وأن الله لا يريد به السوء، ولا يود له العنت، ولا يوقعه في الخطيئة ليتشفى بالانتقام منه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.(/24)
وحين نوازن بين هذا التصور وتصور الإغريق لكبير آلهتهم، القاسي الحسود الشهوان العربيد، المضطغن الحقود. أو تصور الإسرائيليين المنحرف لإلههم الغيور المتعصب، البطاش المتهور. أو تصور أرسطو لإلهه المترفع الذي لا يُعني نفسه بأمر الخلق على الإطلاق؛ ولا يفكر إلا في ذاته، لأنها أشرف الذوات، ولا يليق بالإله أن يفكر إلا في أشرف ذات! أو تصور الماديين لإلههم «الطبيعة» الصماء العمياء الخرساء! عندئذ تبدو قيمة هذا الجانب المتوازن في التصور الإسلامي، وأثره الواقعي في حياة البشر، وأثره كذلك في منهج حياتهم وأخلاقهم ونظامهم العملي»(5).
ولذلك فالمسلم السوي العدل هو الذي لا ييأس ولا يقنِّط الناس من رحمة الله تعالى، كما أنه لا يأمن ولا يؤمِّن الناس من مكر الله تعالى؛ قال الله عز وجل: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: من الآية87)، وقال في موضع آخر: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:99).
وبهذا التوازن المنضبط يسير العبد إلى ربه عز وجل محبًا له، خائفًا منه ومن عقابه، طامعًا وراجيًا في ثواب ربه سبحانه، محسنًا الظن به عز وجل. ولذا نجد أن من هذا شأنه يسعى بالعمل والكدح في فعل ما يحبه الله عز وجل، وترك ما يسخطه حبًا لله تعالى، وخوفًا من عقابه، ورجاء ثوابه. أما إذا تغلب جانب على آخر فإن النتيجة ترك العمل أو ضعفه، وإساءة الظن بالله تعالى.
وهنا مسألة وقع فيها شطط وانحراف عن العدل والوسط، ولها مساس بالخوف والرجاء؛ ألا وهي ما وقع فيه طائفة من الصوفية الذين يزعمون محبتهم لله عز وجل حتى قال قائلهم: (ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك ولكن حبًا لك).
وفي مقابل هؤلاء أناس ضعفت محبتهم لله تعالى، وتعبدوا لله تعالى بالخوف والرجاء فقط، ولولا ذلك لم يعبدوا ربهم، وهؤلاء أيضاً جانبوا العدل والوسط. وهَدَى الله عز وجل أهل السنة والاتباع إلى المنهج الحق العدل فجعلوا أصل عبادتهم محبة الله عز وجل، وجعلوا الخوف سائقهم، والرجاء حاديهم؛ فتعبدوا لله تعالى بمحبته وخوفه ورجائه.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فما حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته. فمتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فسادًا لا يرجى صلاحه أبدًا، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه»(6).
وقال قبل ذلك: «ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالرجاء والخوف والمحبة فهو مؤمن»(7).
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة: «القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه. فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر. ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف. هذه طريقة أبي سليمان وغيره؛ قال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإن غلب عليه الرجاء فسد.
وقال غيره: أكمل الأحوال: اعتدال الخوف والرجاء، وغلبة الحب. فالمحبة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه»(8).
ويقول أيضًا: «وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء؛ فكل محب راجٍ خائف بالضرورة، فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه. وكذلك خوفه؛ فإنه يخاف سقوطه من عينه، وطرد محبوبه له وإبعاده، واحتجابه عنه؛ فخوفه أشد خوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة؛ فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه، فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من: ألطاف محبوبه، وبره وإقباله عليه، ونظره إليه بعين الرضى، وتأهيله في محبته، وغير ذلك مما لا حياة للمحب، ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه. فرجاؤه أعظم رجاء، وأجَلُّه وأتمُّه.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة. فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء؛ وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، لكن خوف المحب لا يصحبه وحشة؛ بخلاف خوف المسيء، ورجاء المحب لا يصحبه علة؛ بخلاف رجاء الأجير. وأين رجاء المحب من رجاء الأجير؟ وبينهما كما بين حاليهما»(9).
ويُقَسِّم الناس في مواقفهم من عبادة الله عز وجل مبينًا الموقف العدل والمواقف المنحرفة فيقول: «فالناس في هذا المقام أربعة أقسام:
أحدهم: من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه؛ فهؤلاء أعداؤه حقًا، وهم أهل العذاب الدائم. وعدم إرادتهم لثوابه إما لعدم تصديقهم به، أو إما لإيثار العاجل عليه، ولو كان فيه سخطه.(/25)
والقسم الثاني: من يريده ويريد ثوابه؛ وهؤلاء خواص خلقه. قال الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب:29). فهذا خطابه لخير نساء العالمين، أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الإسراء:19)، فأخبر أن السعي المشكور: سعي من أراد الآخرة. وأصرح منها: قوله لخواص أوليائه - وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم - في يوم أحد: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (آل عمران: من الآية152) فقسمهم إلى هذين القسمين اللذين لا ثالث لهما.
وقد غلط من قال: فأين من يريد الله؟ فإن إرادة الآخرة عبارة عن إرادة الله تعالى وثوابه؛ فإرادة الثواب لا تنافي إرادة الله.
والقسم الثالث: من يريد من الله، ولا يريد الله؛ فهذا ناقص غاية النقص. وهو حال الجاهل بربه، الذي سمع أن ثَمَّ جنة ونارًا؛ فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق، لا يخطر بباله سواه ألبتة. بل هذا حال أكثر المتكلمين، المنكرين رؤية الله تعالى، والتلذذ بالنظر إلى وجه في الآخرة، وسماع كلامه وحبه، والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله. وهم عبيد الأجرة المحضة. فهؤلاء لا يريدون الله تعالى وتقدس ...
القسم الرابع: - وهو محال - أن يريد الله ولا يريد منه؛ فهذا هو الذي يزعم هؤلاء أنه مطلوبهم(10)، وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة، وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام. وهو أن يكون الله مراده، ولا يريد منه شيئًا ...»(11).
ويقول في موطن آخر وهو يشرح قول الهروي في منزلة الأدب: (وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: منع الخوف أن يتعدى إلى اليأس، وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن ... إلخ): «يريد أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله؛ فإن هذا الخوف مذموم.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: (حد الخوف: ما حجزك من معاصي الله؛ فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه).
وهذا الخوف الموقع في الإياس: إساءة أدب على رحمة الله التي سبقت غضبه وجهلٌ بها.
وأما (حبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن): فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى الحد الذي يأمن معه العقوبة؛ فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وهذا إغراق في الطرف الآخر.
بل حد الرجاء: ما طَيَّبَ لك العبادة، وحملك على السير؛ فهو بمنزلة الرياح التي تسير السفينة، فإذا انقطعت وقفت السفينة، وإذا زادت ألقتها إلى المهالك، وإذا كانت بقدر أوصلتها إلى البغية»(12).
[ 13 ] الوسط والتوازن بين التوكل على الله عز وجل وفعل الأسباب:
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وهذا موضع انقسم فيه الناس طرفين ووسطًا. فأحد الطرفين عطَّل الأسباب محافظة على التوكل.
والثاني: عطَّل التوكل محافظة على السبب، والوسط: علم أن حقيقة التوكل لا تتم إلا بالقيام بالسبب، فتوكل على الله في نفس السبب. وأما من عطَّل السبب وزعم أنه متوكل فهو مغرور مخدوع متمنٍ؛ كمن عطَّل النكاح والتسري وتوكل في حصول الولد، وعطل الحرث والبذر وتوكل في حصول الزرع، وعطل الأكل والشرب وتوكل في حصول الشبع والري؛ فالتوكل نظير الرجاء، والعجز نظير التمني.
فحقيقة التوكل أن يتخذ العبد ربه وكيلاً له قد فوض إليه، كما يفوض الموكل إلى وكيله العالم بكفايته ونهضته، ونصحه وأمانته، وخبرته وحسن اختياره. والرب سبحانه قد أمر عبده بالاحتيال وتوكل له أن يستخرج له من حيلته ما يصلحه؛ فأمره أن يحرث ويبذر ويسعى ويطلب رزقه في ضمان ذلك كما قدَّره سبحانه ودبره واقتضته حكمته، وأمره أن لا يعلق قلبه بغيره، بل يجعل رجاءه له وخوفه منه وثقته به وتوكله عليه، وأخبره أنه سبحانه الملي بالوكالة الوفي بالكفالة.
فالعاجز من رمى هذا كله وراء ظهره، وقعد كسلان طالبًا للراحة مؤثرًا للدعة؛ يقول: الرزق يطلب صاحبه كما يطلبه أجله، وسيأتيني ما قدر لي على ضعفي، ولن أنال ما لم يقدر لي مع قوتي، ولو أني هربت من رزقي كما أهرب من الموت للحقني.
فيقال له: نعم هذا كله حق، وقد علمت أن الرزق مقدر فما يدريك كيف قدر لك؟ بسعيك أم بسعي غيرك؟ وإذا كان بسعيك فبأي سبب ومن أي وجه؟ وإذا خفي عليك هذا كله فمن أين علمت أنه يقدر لك إتيانه عفوًا بلا سعي ولا كد؟ فكم من شيء سعيت فيه فقدر لغيرك، وكم من شيء سعى فيه غيرك فقدر لك رزقًا! فإذا رأيت هذا عيانًا فكيف علمت أن رزقك كله بسعي غيرك؟(/26)
وأيضًا فهذا الذي أورَدَتْه عليك النفس يجب عليك طرده في جميع الأسباب مع مسبباتها حتى في أسباب دخول الجنة والنجاة من النار، فهل تعطلها اعتمادًا على التوكل أم تقوم بها مع التوكل؟ بل لن تخلو الأرض من متوكل صبر نفسه لله وملأ قلبه من الثقة به ورجائه وحسن الظن به، فضاق قلبه مع ذلك عن مباشرة بعض الأسباب فسكن قلبه إلى الله واطمأن إليه ووثق به، وكان هذا من أقوى أسباب حصول رزقه، فلم يعطل السبب، وإنما رغب عن سبب إلى سبب أقوى منه فكان توكله أوثق الأسباب عنده؛ فكان اشتغال قلبه بالله وسكونه إليه وتضرعه إليه أحب إليه من اشتغاله بسبب يمنعه من ذلك، أو من كماله؛ فلم يتسع قلبه للأمرين فأعرض عن أحدهما إلى الآخر.
ولا ريب أن هذا أكمل حالاً ممن امتلأ قلبه بالسبب، واشتغل به عن ربه. وأكمل منهما من جمع الأمرين؛ وهي حال الرسل والصحابة؛ فقد كان زكريا نجارًا، وقد أمر الله نوحاً أن يصنع السفينة، ولم يكن في الصحابة من يعطل السبب اعتماداً على التوكل، بل كانوا أقوم الناس بالأمرين؛ ألا ترى أنهم بذلوا جهدهم في محاربة أعداء الدين بأيديهم وألسنتهم، وقاموا في ذلك بحقيقة التوكل، وعمروا أموالهم وأصلحوها وأعدوا لأهليهم كفايتهم من القوت اقتداء بسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه وآله»(13).
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:5):
«فالأمر له من قبل ومن بعد، وهو ينصر من يشاء؛ لا مقيد لمشيئته سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أراد الله عز وجل أن تكون هناك سنن لا تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة.
والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال؛ فهي ترد الأمر كله إلى الله؛ ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعلاً أو لا تتحقق فليس داخلاً في التكليف؛ لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل يصلي قائلاً: «توكلت على الله»، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل»(14). فالتوكل في العقيدة مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله»(15).
ومما له علاقة بمسألة الأسباب فعلاً أو تركًا: ذلك الخلاف القديم والجديد في النظر إلى الأسباب والمبالغة في أثرها والتعلق بها، أو إلغائها وإنكارها؛ فكان الناس فيها طرفين مذمومين منحرفين، وهدى الله عز وجل من شاء من عباده إلى الموقف الوسط العدل فيها.
ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «والناس في الأسباب والقوى والطبائع ثلاثة أقسام:
منهم: من بالغ في نفيها وإنكارها، فأضحك العقلاء على عقله. وزعم أنه بذلك ينصر الشرع، فجنى على العقل والشرع، وسلط خصمه عليه.
ومنهم: من ربط العالم العلوي والسفلي بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار، ومدبر لها يصرفها كيف أراد؛ فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة تعارضه، ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها، ويتصرف فيها كما يشاء ويختار.
وهذان طرفان جائران عن الصواب.
ومنهم: من أثبتها خلقًا وأمرًا، وقدرًا وشرعًا. وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به من: كونها تحت تدبيره ومشيئته، وهي طوع المشيئة والإرادة، ومحل جريان حكمها عليها. فيقوِّي سبحانه بعضها ببعض، ويبطل - إن شاء - بعضها ببعض، ويسلب بعضها قوته وسببيته، ويُعريها منها، ويمنعه من موجبها مع بقائها عليه؛ ليعلم خلقه أنه الفعَّال لما يريد، وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته، وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت، مع كونه سببًا.
وهذا باب عظيم نافع في التوحيد، وإثبات الحِكَم يوجب للعبد - إذا تبصر فيه - الصعود من الأسباب إلى مسببها، والتعلق به دونها، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه، وأنه إذا شاء جعل نافعها ضارًا وضارها نافعًا ودواءها داءً وداءها دواءً. فالالتفات إليها بالكلية شرك مناف للتوحيد، وإنكار أن تكون أسبابًا بالكلية قدح في الشرع والحكمة. والإعراض عنها - مع العلم بكونها أسبابًا - نقصان في العقل. وتنزيلها منازلها، ومدافعة بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، وشهود الجمع مع تفرقها، والقيام بها هو محض العبودية والمعرفة، وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة. والله أعلم»(16).
[ 14 ] التوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية:(/27)
وهذه الصورة من التوازن لها علاقة بالصورة السابقة، ولكن آثرت إفرادها في صورة مستقلة لأهميتها؛ وذلك أن الناس فيها طرفان ووسط.
الطرف الأول: من قصر نظره على ثبات السنن الكونية، واعتمد على ذلك اعتمادًا كليًا دون أن ينظر إلى طلاقة المشيئة الإلهية، وغفل عن أن الله سبحانه الذي ثبَّت هذه السنن وجعلها مطردة حاسمة قادر متى شاء وكيف شاء أن يخرق هذه السنن؛ لأنه الفعال لما يريد، والقادر على كل شيء. وهذا الطرف الذي أفرط في النظر إلى ثبات السنن الكونية مثله مثل من أفرط في فعل الأسباب وتعلق بها كما في الصورة السابقة.
الطرف الثاني: من نظر إلى طلاقة المشيئة الإلهية ولم يعتبر بثبات السنن الكونية وترتب النتائج على الأسباب، فأفرط في نظرته لطلاقة المشيئة الإلهية مما جعله يفرِّط في الأخذ بالأسباب والانتفاع من السنن الكونية، بل اعتمد على الخوارق دون بذل الجهد والعمل. وهذا مثله في الصورة السابقة مثل من ترك الأخذ بالأسباب زاعمًا أنه متوكل على الله تعالى.
والوسط: من نظر إلى ثبات السنة الكونية وعمل في ضوئها وبذل الأسباب الممكنة دون أن يتعلق بها أو بكونها لا تنخرق أبدًا. بل يؤمن بأن الله عز وجل يخرقها متى شاء لمن بذل الأسباب والجهد واستنفد ما في وسعه من العمل والجهد والجهاد؛ كما هي حال النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام؛ حيث بذلوا الجهد والعمل في سبيل الله عز وجل، واستحقوا أن ينصرهم الله عز وجل بجند من عنده، ويخرق لهم من السنن الثابتة ما يظن الناس أنها لا تنخرق وهذا هو ما في القرآن الكريم؛ حيث ذكر الله عز وجل أن له سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول وفي ضوئها يعمل الناس وتنضبط حركاتهم وأعمالهم، ويكيفون حياتهم وفقها كما قال تعالى: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: من الآية43).
وفي مواطن أخرى من القرآن يذكر الله سبحانه أنه فعال لما يريد، وأنه متى شاء سبحانه خرق هذه السنن لمن شاء من عباده كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (النحل:40)، وقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران:40)، وقوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران: من الآية47)، وقوله تعالى: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء:68-70). وغيرها من الآيات التي تقرر نفوذ مشيئة الله عز وجل وعدم تقيدها بقيد ما مما يخطر على قلب بشر مما يحسبه الناس قانونًا لازمًا لا فكاك منه.
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - : «وبين ثبات السنن وطلاقة المشيئة الإلهية يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة؛ يعمل فيها وهو يعلم طبيعة الأرض، وطبيعة الطريق، وغاية السعي، وجزاء الحركة. ويتعرف إلى نواميس الكون، وسنن الحياة، وطاقات الأرض، وينتفع بها وبتجاربه الثابتة فيها بمنهج علمي ثابت. وفي الوقت ذاته يعيش موصول الروح بالله، معلق القلب بمشيئته؛ لا يستكثر عليها شيئاً، ولا يستبعد عليها شيئًا، ولا ييئس أمام ضغط الواقع أبدًا. يعيش طليق التصور، غير محصور في قوالب حديدية، يضع فيها نفسه، ويتصور أن مشيئة الله - سبحانه - محصورة فيها! وهكذا لا يتبلد حسه، ولا يضمُر رجاؤه، ولا يعيش في إلف مكرور!
والمسلم يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها. ويعمل وفق السُّنَّة، لأنه مأمور بمراعاتها، لا لأنه يعتقد أن الأسباب والوسائل هي المنشئة للمسببات والنتائج؛ فهو يرد الأمر كله إلى خالق الأسباب، ويتعلق به وحده من وراء الأسباب، بعد أداء واجبه في الحركة والسعي والعمل واتخاذ الأسباب طاعة لأمر الله.
وهكذا ينتفع المسلم بثبات السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العملية، في التعامل مع الكون وأسراره وطاقاته ومدخراته؛ فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية والطرائق العملية. وهو في الوقت ذاته موصول القلب بالله، حي القلب بهذا الاتصال، موصول الضمير بالمشاعر الأدبية الأخلاقية، التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، وتسمو بالحياة الإنسانية إلى أقصى الكمال المقدر لها في الأرض، وفي حدود طاقة الإنسان»(17).
[ 15 ] التوازن والوسطية في تكفير المعين :
إن مسألة تكفير المعين مسألة خطيرة وذلك من جهتين:
الأولى: من جهة تكفير المعين الذي لا يستحق التكفير بمجرد شبهات لا ترتقي إلى القطع بتكفيره.
الثانية: عدم تكفير المعين المقطوع بكفره والحكم بإسلامه.(/28)
وبناء على ذلك فإن الناس في تكفير المعين طرفان مذمومان ووسط محمود.
الطرف الأول: من غلا وأفرط في تكفير المعين بمجرد تلبسه بأمر مكفر دون أن ينظر إلى توفر الشروط في تكفيره وانتفاء الموانع. بل إن مجرد التلبس بقول، أو عمل مكفرين، فإنه عند هذا الفريق من الناس كافر بعينه مهما وجد من الموانع من ذلك؛ كالإكراه أو التأول، أو الخطأ أو غير ذلك من العوارض الشرعية..
الطرف الثاني: من فرَّط وتساهل في عدم تكفير المعين حتى أدى به الأمر إلى القول بأنه لا يجوز تكفير المعين مهما أتى بناقض من نواقض الإسلام ما لم يعتقد الكفر ويقصده قصدًا، مهما توفرت الشروط، وانتفت الموانع. وهذا جفاء وتضييع وتفريط ويؤول إلى أنه لا مرتد في الإسلام، وبالتالي لا حاجة إلى وجود أحكام المرتد في الفقه الإسلامي.
الموقف الوسط العدل: من فرَّق بين الكفر ومرتكب الكفر، وفصَّل في ذلك وقال: إن من تلبس بمكفر أو ناقض من نواقض الإسلام فإن المتعين في حقه أن ينظر إلى حال هذا المعيَّن فإذا لم تتوفر الشروط في تكفيره أو وجد مانع من تكفيره؛ كالإكراه والخطأ وغيرهما؛ فإنه لا يجوز تكفيره والحالة هذه. أما إذا رؤي أن شروط تكفيره متوفرة ولا يوجد مانع شرعي من تكفيره فإنه يحكم بتكفيره بعينه وتطبق عليه أحكام المرتد. وهذا التفصيل هو شأن الراسخين في العلم، الذين هم وسط بين الغالي والجافي، نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم. وبهذا الموقف العدل يسلم المسلم من تكفير من لم يستحق التكفير، كما يسلم من جعل الكافر أو المرتد في عداد المسلمين.
[ 16 ] التوازن والوسط بين الدنيا والآخرة :
قال الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77).
يقول السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «... أي قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من الأموال فابتغ بها ما عند الله، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات وتحصيل اللذات. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعًا، بل أنفق لآخرتك، واستمتع بدنياك استمتاعًا لا يثلم دينك ولا يضر آخرتك»(18).
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «وقوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة، (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزَوْرك عليك حقًا، فآت كل ذي حق حقه»(19).
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) .. وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم. المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة. بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفًا، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس، وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها؛ فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يُشغلون بالمتاع عن تكاليفها. والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة»(20).
والناس في نظرهم للدنيا والآخرة طرفان ووسط:
الطرف الأول: من جعل همه للدنيا وقصر نظره عليها، وكأنه مخلد فيها. وهو وإن كان يؤمن بالآخرة إلا أنه فصلها عن الدنيا ونظر إلى أنه لا يمكن الجمع بين الدنيا والآخرة؛ فإما أن ينصرف إلى الدنيا وإما إلى الآخرة، واستدل أصحاب هذا الطرف بالنصوص التي فيها الحث على العمل والكسب ونسوا الأدلة الأخرى.
الطرف الثاني: يشارك الطرف الأول في فهمه للدنيا والآخرة؛ وذلك باستحالة الجمع بين الدنيا والآخرة، ويفترق عنه في أنه انصرف إلى الآخرة وانقطع عن الدنيا وأهلها، وترك الدنيا لأهل الفساد يعيثون فيها ويفسدون، واستدل أصحاب هذا الطرف بالآيات التي تحث على الزهد في الدنيا.(/29)
الطرف العدل والوسط: وهم أهل الحق الذين عملوا بالآية التي سبق شرحها في سورة القصص، وعملوا بكل الآيات والأحاديث الواردة في العمل والإصلاح في الدنيا، وكذلك التي وردت في التحذير من الدنيا والاستعداد للآخرة؛ فجمعوا بين النصوص، وتوجهوا إلى الدنيا بعمارتها وإصلاحها، ومدافعة المفسدين فيها، وعدُّوها مزرعة الآخرة فجعلوها في أيديهم لا في قلوبهم، ونظروا إليها على أنها ممر ومحطة للتزود منها للآخرة، وأنها فانية لا تساوي شيئًا في مقابل النعيم الأبدي في الدار الآخرة.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والناس أقسام:
أصحاب «دنيا محضة»: وهم المعرضون عن الآخرة.
وأصحاب «دين فاسد»: وهم الكفار والمبتدعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات والزهادات.
و «القسم الثالث»: وهم أهل الدين الصحيح؛ أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب والسنة والجماعة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق»(21).
ويقول الشيخ سفر الحوالي - حفظه الله تعالى -:
«وأهل السنة والجماعة وسط حتى في حياتهم العملية:
فمن أهل السنة والجماعة من كان يلي القضاء، ومن كان بلي بعض المناصب، ومن كان ذا مال وسعة وفضل. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الكاملة؛ فقد كان فيهم أهل الثراء والغنى، كما كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا أهل الفاقة والفقر، وأهل الصبر والزهد، وكان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل العبادة والذكر، كما كان فيهم أهل الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومَنْ بعدَهم حصل عندهم الاضطراب في ذلك؛ فبعضهم مال إلى الدنيا، وركن إليها، ولم يتحرز من قبول أي ولاية، ولم يتحرز من قبول أي منصب، ولا في التوسع في الدنيا والأخذ منها، وقالوا: هذه خيرات وطيبات أحلها الله؛ فتوسعوا في ذلك توسعًا أخرجهم عما كان عليه السلف من التقلل من الدنيا والرغبة في الآخرة، وصدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى.
ومنهم طائفة مالت إلى العكس: فأخذوا بالزهد وتركوا متاع الحياة الدنيا، حتى أنهم حرَّموا الطيبات، أو على الأقل نظروا إلى من يأخذ شيئًا من الطيبات بأنه خارج عن الصواب وعن إصابة الحق.
فهذا الأمر وإن كان أمرا واقعيًا - أي في التطبيق العملي - إلا أنه يوصلنا ويدلنا على توسط أهل السنة والجماعة فيه.
خاصية عظمى يتميز بها أهل السنة والجماعة: وهي أنهم يدخلون في الإسلام كله ويجمعون الدين كله»(22).
ويجلي هذه الحقيقة سيد قطب - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير كثير من الناس وضميرهم وواقعهم؛ بحيث أصبح الفرد العادي - وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة - لا يرى أن هنالك سبيلاً للالتقاء بين الطرفين. ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه، وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه، ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع؛ لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا.
حقيقة: إن أوضاع الحياة الجاهلية البعيدة عن الله، وعن منهجه للحياة اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الآخرة، وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف الذي يحض عليه الدين. كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة، والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع؛ لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق، ولا مرضية لله سبحانه. ولكن تراها ضربة لازب! ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس؟ ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؟
كلا إنها ليست ضربة لازب! فالعداء بين الدنيا والآخرة، والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل، بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلاً، إنما هي عارض ناشئ من انحراف طارئ!(/30)
إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا، وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة، كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا، وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض، كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي. هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية؛ ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس؛ فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة. والخلافة عمل وإنتاج، ووفرة ونماء، وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم كما يقول الله في كتابه الكريم ...
والمنهج الإسلامي - بهذا - يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق؛ فلا يفوِّت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يفوِّت عليه آخرته لينال دنياه؛ فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي ... إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وبين العبادة الروحية والإبداع المادي، وبين النجاح في الحياة الدنيا، والنجاح في الحياة الأخرى؛ إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية! إنما هو ضريبة بائسة فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله، وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها معادية لمنهج الله في الأساس والاتجاه.
وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا، فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى.
إنهم يؤدونها قلقًا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر، من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه، إذا هم آثروا اطراح الدين كله، على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة، والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي! ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم، يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب، ولا تطيق الفراغ والخواء. وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية، أو فلسفية، أو فنية على الإطلاق، لأنها جوعة النزعة إلى إله.
وهم يؤدونها كذلك قلقًا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله، وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعه وتقوم تصوراته، وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله، وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني، والسلوك الديني، مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود.
وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء، سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية، أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نظام الحياة العملية، وتتصور - أو يصور لها أعداء البشرية - أن الدين لله، وأن الحياة للناس! وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق، والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل!
وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة، بل ينسق.
ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة، في فترة موقوتة؛ إذ نرى أممًا لا تؤمن ولا تتقي، ولا تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء.
إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت، وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني. والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى:
- تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم؛ مما يجعل المجتمع حافلاً بالشقاء، وحافلاً بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة. وهو بلاء على رغم الرخاء!..
- وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعًا من عدالة التوزيع، واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام!
- وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره - إن عاجلاً أو آجلاً - إلى تدمير الحياة المادية ذاتها. فالعمل والإنتاج والتوزيع: كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق. والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان!(/31)
- وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم - وبخاصة أشدها رخاء ماديًا - مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال، ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج، وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء! وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحاً كافياً يلفت الأنظار!
- وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة في هذا العالم المضطرب؛ الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة. وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية. ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء»(23) ا.هـ.
[ 17 ] العدل والتوازن في الولاء والبراء :
الولاء والبراء صلب عقيدة التوحيد؛ فكلمة التوحيد نصفها براءة من الشرك وأهله؛ وذلك من قول: (لا إله). والنصف الآخر ولاء لله عز وجل وعبودية له سبحانه؛ وذلك من قول: (إلا الله)؛ فالعبد لا يصح توحيده إلا بعبادة الله عز وجل وموالاته، ومحبة ما يحبه ومن يحبه سبحانه، والبراءة من كل ما يعُبد من دون الله تعالى، وبغض ما يبغضه ومن يبغضه عز وجل. ولقد حصل في عقيدة الولاء والبراء - كما في غيرها من أبواب الاعتقاد - غلو وجفاء، فكان الناس في فهم الحب والولاء طرفان ووسط:
الطرف الأول: من غلا وأفرط في فهمه للمحبة والولاء؛ حيث غلا في الحكم على من وقع في موالاة الكفار، ولم يفرق بين الموالاة المكفرة وغير المكفرة، بل عدَّ أي نوع من أنواع الموالاة للكفار ردة وكفر. كما أن هذا الطرف لم يفرق بين المداراة والمداهنة؛ فعدَّ أي صورة من صور المداراة والتقية مداهنة وموالاة، كما غلا في بغضه للمخالف فتبرأ منه كما يتبرأ من الكفار.
الطرف الثاني: من فرَّط في فهمه وتطبيقه لهذه الشعيرة العظيمة، ووقع في موالاة الكفار ومداهنتهم بحجة المداراة والتقية، ولم يفرق بين المحرم منها والمخرج من الملة، بل هي عنده إما جائزة أو محرمة لا تخرج من الملة.
الموقف الوسط: وهو موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ وهو وجوب محبة الله عز وجل، ومحبة ما يحبه من الإيمان والأعمال الصالحة، ومحبة من يحبه سبحانه من أنبيائه وأتباعهم من المؤمنين، وبغض ما يبغضه الله عز وجل من الشرك والكفر والفسوق والعصيان، والبراءة ممن يبغضه الله عز وجل من أهل الشرك والكفر والعصيان، ولكنهم يفرقون بين الكافر والعاصي في الموالاة؛ فهم يتولون المؤمنين الأتقياء ويحبونهم من كل وجه ولا يتبرأون منهم من أي وجه، ويتبرأون من كل كافر ومشرك ومنافق من كل وجه، ولا يوالونهم من أي وجه، وأما المؤمن العاصي المصر على فسقه فهم لا يتبرأون منه بإطلاق، ولا يتولونه باطلاق، بل يتولونه الولاء العام للمؤمنين بما معه من الإيمان، ويتبرأون منه من وجه بما يصر عليه من الفسوق والعصيان.
كما أنهم لا ينظرون إلى موالاة الكفار بحكم واحد، بل يرون أن موالاة الكفار تنقسم إلى: ولاء مكفر مخرج من الملة؛ وهو تولي الكفار ومحبتهم لدينهم، أو مظاهرتهم ونصرتهم على المسلمين، وولاء دون الكفر وهو ما لم يكن توليًا ومحبة ونصرة للكفار؛ فهم لم يعدوا جميع صور موالاة الكفار كفرًا أكبرًا كالطرف الأول، ولم يعدوها جميعها من الأمور المحرمة غير المكفرة كالطرف الثاني؛ فهم وسط بين الطرفين كما أنهم يفرقون بين المداراة والتقية المشروعة وبين المداهنة والتقية المحرمة؛ فلا يلغون المدارة والتقية مطلقًا، ولا يفتحونها على مصراعيها حتى توقعهم في المداهنة والموالاة المحرمة للكفار.
كما أنهم وسط في بغضهم ومحبتهم؛ فلا يغلون في حبهم للأشخاص حتى يقدسونهم أو يخلعون عليهم ثوب العصمة، ولا يغلون في بغضهم للأشخاص حتى يقعوا في ظلمهم وبخسهم حقهم أو اتهامهم بما لا يقولونه أو يعتقدونه أو يعملونه، ولا يتجاهلون حسناتهم وجهادهم وبلاءهم.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما»(24).
وأعرض فيما يلي بعض الأمثلة لفقد التوازن في الحب أو البغض:
ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - في السير أن محمد بن يحيى النيسابوري أخذه الحزن على أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - ودفعه حبه لأن يقول: ينبغي لكل أهل دار بغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم.
علق الذهبي على هذا بقوله: (تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع)(25).
ومن ذلك أن إمام الحرمين أبا المعالي - شيخ الشافعية بنيسابور - حين مات غلقت الأسواق، وكسر أربعمائة من تلاميذه محابرهم وأقلامهم وجلسوا عامًا لا يغطون رؤوسهم، يطوفون في البلد نائحين عليه مبالغين في الصياح والجزع. قال الذهبي: (هذا كان من زي الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعين)(26).(/32)
ومن ذلك قول من قال في الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: (عندنا بخراسان يظنون أن أحمد لا يشبه البشر؛ يظنون أنه من الملائكة) وقول الآخر: (نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة). علق الذهبي على هذا الغلو منصفًا المحب والمحبوب بقوله: (هذا غلو لا ينبغي، لكن الباعث له حب ولي الله في الله)(27).
ومن صور غلو المخالفين في البغض:
التهوين من شأن مخالفهم والحط من قدره إلى درجة لا تعقل ولا تليق؛ ومن ذلك أن فقيهًا من فقهاء العراق - وهو من أهل الرأي - لما رجع من الحج أراد أن يبشر أهل الكوفة بتقدمهم في علوم الشريعة على من خالفهم فقال: (أبشروا يا أهل الكوفة؛ فإني قدمت على أهل الحجاز، فرأيت عطاء وطاووسًا ومجاهدًا، فصبيانكم بل صبيان صبيانكم أفقه منهم). يقول المغيرة - راوي هذه الواقعة -: (فرأينا أن ذاك بغي منه)(28).
وقد يدفع البغض أصحاب الغلو إلى الافتراء والبهتان؛ ومن ذلك أنه نسب البعض إلى ابن كُلاّب - رأس المتكلمين في البصرة - الذي كان يرد على المعتزلة والجهمية أنه إنما ابتدع ما ابتدعه - من القضايا الكلامية - ليدس دين النصارى في ملتنا، وأنه أرضى أخته بذلك. يقول الذهبي في إنصاف الرجل: (وهذا باطل، والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة)(29).
ومن الافتراء على أهل العلم ما دُسَّ على ابن بطوطة في كتابه من أنه سمع ابن تيمية يقول على منبر مسجد دمشق الأموي: (إن الله ينزل كل ليلة ..) قال: كنزولي هذا، ونزل على المنبر. افتروا ذلك على ابن تيمية لتأييد دعواهم فيما ينسبونه إلىه من التشبيه والتجسيم، مع أن ابن تيمية كان في سجن قلعة دمشق أثناء مرور ابن بطوطة بدمشق(30).
وفي واقعنا المعاصر صور وأمثلة مؤذية من الغلو وفقدان العدل في الحب أو البغض، وهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى ذكر وتفصيل، وإن كان سيأتي لها ذكر في مبحث العدل والتوازن مع المخالف إن شاء الله تعالى.
[ 18 ] العدل والتوازن في الموقف من العقل :
أهل السُّنة وسط في نظرتهم للعقل بين الذين غلو في العقل وعظموه وأدخلوه في غير مجاله، وظنوا أنه يمكن أن يقدم على النقل، وردوا الأحاديث الصحيحة بزعم مخالفتها للمعقول، وبين الطرف المقابل لهؤلاء؛ وهم الذين وقعوا في الطرف المناقض حتى للعقل الفطري البدهي؛ فابتعدوا عن تعليل الأحكام الشرعية وإظهار الحكمة فيها، أو قبلوا بالخرافات والأساطير المصادمة لبدهية العقول. وكلا الطرفين ابتعد عن منهج أهل السُّنة، وهدى الله السلف وأتباعهم لما اختُلف فيه من الحق بإذنه؛ حيث أعطوا العقل مكانته اللائقة به، ولم يعارضوا به النصوص، وإنما وجَّهوه لتدبرها، والاستنباط منها، والتسليم بما لم تحط به العقول منها. والقرآن مليء بالاستدلالات العقلية، والبراهين النظرية؛ كالأقيسة والأمثال، ومليء بالنصوص التي تذم المعطلين لعقولهم كما في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، وكما في قوله تعالى - وفي أكثر من آية -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم: من الآية24)، وقوله: (أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يّس: من الآية68)(31).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «ولما أعرض كثير من أرباب الكلام والحروف، وأرباب العمل والصوت، عن القرآن والإيمان: تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة؛ يجعلون العقل وحده أصل علمهم، ويفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له.
والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن.
وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية، والمقامات الرفيعة، لا تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يُكذِّب به صريح العقل.
ويمدحون السكر والجنون والوله، وأمورًا من المعارف والأحوال التي لا تكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريح بطلانها ممن لم يعلم صدقه، وكلا الطرفين مذموم.
بل العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل؛ لكنه ليس مستقلا بذلك؛ لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار.
وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة، ووجد، وذوق، كما قد يحصل للبهيمة.
فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة.(/33)
والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها، وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقًا، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم»(32).
مسألة: تتعلق بدور العقل في معرفة حسن الأشياء وقبحها:
وهذه أيضًا من المسائل التي ضل فيها طرفان عن الحق، وهدى الله عز وجل أتباع السلف إلى الحق فيها. فكان الناس فيها طرفان مذمومان ووسط عدل محمود.
الطرف الأول: من غلا وأفرط في دور العقل واستقلاليته في معرفة قبح الأشياء وحسنها، حتى آل بهم الأمر إلى أن الثواب أو العقاب عليها ثابت بالعقل وليس متوقف على الشرع وإبلاغ الرسل.
الطرف الثاني: من فرَّط ونفى أن يكون للعقل دور في التحسين والتقبيح وإنما ذلك متوقف على الشرع.
الوسط العدل: يثبتون دور العقل في معرفة الحسن والقبيح؛ أما العقاب والثواب عليها فمتوقف على الشرع وإبلاغ الرسل.
وقد أفاض الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في ذكر الأدلة التي يرد بها على الفريقين المذمومين: الغلاة والجفاة، وبخاصة على النفاة منهم؛ فقال - رحمه الله تعالى -: «فاعلم أن هذا مقام عظيم زلت فيه أقدام طائفتين من الناس: طائفة من أهل الكلام والنظر، وطائفة من أهل السلوك والإرادة.
فنفى لأجله كثير من النظار التحسين والتقبيح العقليين، وجعلوا الأفعال كلها سواء في نفس الأمر، وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح، ولا يميز القبيح بصفة اقتضت قبحه، بحيث يكون منشأ القبح، وكذلك الحسن، فليس للفعل عندهم منشأ حسن ولا قبح، ولا مصلحة ولا مفسدة، ولا فرق بين السجود للشيطان والسجود للرحمن في نفس الأمر، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين السفاح والنكاح، إلا أن الشارع حرَّم هذا وأوجب هذا؛ فمعنى حسنه كونه مأمورًا به، لا أنه منشأ مصلحة، ومعنى قبحه كونه منهيًّا عنه، لا أنه منشأ مفسدة، ولا فيه صفة اقتضت قبحه، ومعنى حسنه أن الشارع أمر به لا أنه منشأ مصلحة، ولا فيه صفة اقتضت حسنه.
وقد بينا بطلان هذا المذهب من ستين وجهًا في كتابنا المسمى «تحفة النازلين بجوار رب العالمين»(33) وأشبعنا الكلام في هذه المسألة هناك. وذكرنا جميع ما احتج به أرباب هذا المذهب وبينا بطلانه.
فإن هذا المذهب - بعد تصوره، وتصور لوازمه - يجزم العقل ببطلانه. وقد دل القرآن على فساده في غير موضع، والفطرة أيضاً وصريح العقل.
فإن الله سبحانه فَطَر عباده على استحسان الصدق والعدل، والعفة والإحسان، ومقابلة النعم بالشكر. وفَطَرَهم على استقباح أضدادها. ونسبة هذا إلى فطرهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم، وكنسبة رائحة المسك ورائحة النَّتْن إلى مشامِّهم، وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى أسماعهم. وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة فيفرقون بين طيبه وخبيثه، ونافعه وضاره.
وقد زعم بعض نفاة التحسين والتقبيح أن هذا متفق عليه، وهو راجع إلى الملائمة والمنافرة، بحسب اقتضاء الطباع، وقبولها للشيء، وانتفاعها به، ونفرتها من ضده.
قالوا: وهذا ليس الكلام فيه، وإنما الكلام في كون الفعل مُتَعَلّقًا للذم والمدح عاجلاً، والثواب والعقاب آجلا. فهذا الذي نفيناه، وقلنا: إنه لا يعلم إلا بالشرع. وقال خصومنا: إنه معلوم بالعقل، والعقل مقتضٍ له.
فيقال: هذا فرار من الزحف؛ إذ ههنا أمران متغايران لا تلازم بينهما:
أحدهما: هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه، بحيث ينشأ الحسن والقبح منه؛ فيكون منشأ لهما أم لا؟
والثاني: أن الثواب المرتب على حسن الفعل، والعقاب المرتب على قبحه، ثابت - بل واقع - بالعقل، أم لا يقع إلا بالشرع؟
ولما ذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى تلازم الأصلين استطلتم عليهم، وتمكنتم من إبداء تناقضهم وفضائحهم، ولما نفيتم أنتم الأصلين جميعًا استطالوا عليكم، وأبدوا من فضائحهم وخلافكم لصريح العقل والفطرة ما أبدوه؛ وهم غلطوا في تلازم الأصلين، وأنتم غلطتم في نفي الأصلين.
والحق الذي لا يجد التناقض إليه السبيل: أنه لا تلازم بينهما، وأن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة. والفرق بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيات. ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي. وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحًا موجبًا للعقاب مع قبحه في نفسه؛ بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل. فالسجود للشيطان والأوثان، والكذب والزنا، والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها؛ والعقاب عليها مشروط بالشرع.(/34)
فالنفاة يقولون: ليست في ذاتها قبيحة، وقبحها والعقاب عليها إنما ينشأ بالشرع. والمعتزلة تقول: قبحها والعقاب عليها ثابتان بالعقل. وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل، والعقاب متوقف على ورود الشرع؛ وهو الذي ذكره سعد بن علي الزنجاني من الشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصًّا. لكن المعتزلة منهم يصرحون بأن العقاب ثابت بالعقل.
وقد دل القرآن أنه لا تلازم بين الأمرين، وأنه لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن وقبيح. ونحن نبين دلالته على الأمرين:
أما الأول: ففي قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: من الآية15)، وفي قوله: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: من الآية165)، وفي قوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) (الملك: من الآيتين 8، 9)؛ فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل، بل للنذُر. وبذلك دخلوا النار ...
وأما الأصل الثاني: وهو دلالته على أن الفعل في نفسه حسن وقبيح فكثير جداً كقوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:28- 33)؛ فأخبر سبحانه أن فعلهم فاحشةٌ قبل نهيه عنه. وأمر باجتنابه بأخذ الزينة. و «الفاحشة» ههنا هي طوافهم بالبيت عُراة - الرجال والنساء- غير قريش. ثم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) أي لا يأمر بما هو مناف للحكمة.
ثم قال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)، ولو كان كونها فواحش إنما هو لتعلق التحريم بها، وليست فواحش قبل ذلك، لكان حاصل الكلام: قل إنما حرم ربي ما حَرَّم. وكذلك تحريم الإثم والبغي؛ فكون ذلك فاحشة وإثمًا وبغيًا بمنزلة كون الشرك شركًا؛ فهو شرك في نفسه قبل النهي وبعده.
فمن قال: إن الفاحشة والقبائح والآثام إنما صارت كذلك بعد النهي، فهو بمنزلة من يقول: الشرك إنما صار شركًا بعد النهي، وليس شركًا قبل ذلك.
ومعلوم أن هذا وهذا مكابرة صريحة للعقل والفطرة؛ فالظلم ظلم في نفسه قبل النهي وبعده، والقبيح قبيح في نفسه قبل النهي وبعده، والفاحشة كذلك، وكذلك الشرك؛ لا أن هذه الحقائق صارت بالشرع كذلك.
نعم الشارع كساها بنهيه عنها قبحًا؛ فكان قبحها من ذاتها، وازدادت قبحًا عند العقل بنهي الرب تعالى عنها، وذَمّه لها، وإخباره ببغضها وبغض فاعلها. كما أن العدل والصدق والتوحيد، ومقابلةَ نِعمَ المنعم بالثناء والشكر: حسن في نفسه، وازداد حسنًا إلى حسنه بأمر الرب به، وثنائه على فاعله. وإخباره بمحبته ذلك ومحبة فاعله»(34).
[ 19 ] العدل والتوازن في الإخلاص لله تعالى :
الإخلاص شرط في صحة الأعمال وقبولها عند الله عز وجل. والإخلاص عمل قلبي تبدو آثاره على الأعمال الظاهرة، وهو كغيره من الأعمال يكتنفه طرفان مذمومان والوسط العدل بينهما. إذن فالإخلاص فيه طرفان ووسط.
الطرف الأول: طرف الإفراط والتقصير: وأهله هم الذين تتعرض بعض أعمالهم إلى ما يقدح في الإخلاص وابتغاء وجه الله تعالى؛ كأن يريدوا ببعض أعمالهم الدنيا من مال أو منصب أو شهرة وثناء، أو غير ذلك ما يقدح في الإخلاص.(/35)
الطرف الثاني: طرف الغلو والإفراط: وهم الذين يراعون الإخلاص، ويحرصون على أن تكون أعمالهم ابتغاء وجه الله تعالى، ويحاسبون، ويدققون على أنفسهم في ذلك إلى أن يتجاوزوا العدل الوسط فيه بحيث يصل بهم الحال إلى التشكيك في نواياهم ونوايا الناس، أو يتركون بعض الأعمال الصالحة ظنًا منهم بعدم الإخلاص فيها، أو صعوبة تحقيقه، حتى يؤول الأمر بهم إلى السلبية والقعود عن أعمال البر والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهذا من تزيين الشيطان ومداخله الخطيرة؛ حيث يتحول الإخلاص إلى عمل سلبي يعوق عن فعل الخير.
الوسط والعدل: وهم الذين يجاهدون أنفسهم في تحقيق الإخلاص في جميع أقوالهم وأعمالهم، ويندفعون إلى كل عمل يرضي الله عز وجل، ولا يلتفتون إلى وساوس الشيطان في ترك ما يحبه الله عز وجل خشية عدم الإخلاص لله تعالى، أو صعوبة تحقيقه. وهم متوازنون في ذلك حيث يرون أن الإخلاص عملٌ قلبيٌ إيجابي يدفع المرء إلى فعل كل ما يستطيعه مما يحبه الله عز وجل ابتغاء مرضات الله تعالى، لا أنه عمل سلبي يحول بين المرء وفعل الطاعات ومجاهدة الفساد والمفسدين.
[ 20 ] العدل والتوازن في تحقيق شروط الاجتماع والائتلاف :
إن المتأمل في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد نصوصًا كثيرة بعضها يأمر بالاجتماع والائتلاف على الحق، وبعضها ينهى عن التفرق والتنازع، ويحذر من عواقب التفرق في الدنيا والآخرة. وأكتفي هنا بذكر الآيات الواردة في سورة آل عمران والتي جمعت بين الأمر بالاجتماع والاعتصام بحبله وبين النهي عن التفرق والاختلاف:
قال الله عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً...) (آل عمران: من الآية103) إلى قوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105).
وأمر الاجتماع والائتلاف كغيره من الأمور السابقة يكتنفه طرفان مذمومان والوسط العدل المتوازن بينهما.
الطرف الأول: طرف التقصير والتفريط في تحقيق شروط الاجتماع والائتلاف. وهم الذين يحرصون على اجتماع المسلمين - وبخاصة أهل العلم والدعوة - دون أن يراعوا اختلاف العقائد والنحل. وهذا الطرف من الناس لا يمتنع عنده أن يجتمع أهل القبلة من المسلمين ويتحدوا فيما بينهم دونما مراعاة لتوجهات وعقائد المجتمعين؛ فيمكن أن يجتمع أهل السنة والجماعة مع أهل البدع والأهواء، كالصوفية المبتدعة أو الخوارج أو المرجئة أو المعتزلة، بل إن بعض الحريصين على جمع الكلمة لا مانع عنده من الاجتماع والتقارب مع أهل البدع الكفرية كالشيعة الرافضة والعلمانيين المنافقين. ولنا أن نتصور هذا الاجتماع المشكل من خليط من العقائد: كل عقيدة تضاد الأخرى، وكل حزب بما لديهم فرحون، وكل فرقة لها مصادر تلقِّيها واستدلالها. فماذا عسى أن يثمر مثل هذا الاجتماع إلا المر والحنظل؛ لأنه لن ينتج عنه إلا تنازلات أو مزايدات تخرم أصول أهل السنة والجماعة وثوابتهم.
نعم؛ قد تمر بأهل السنة والاتباع ظروفٌ طارئة يضطرون فيها إلى أن يتحالفوا أو يجتمعوا مع بعض أهل القبلة المبتدعة - لا مع الكفرة الملاحدة - في دفع خطر داهم من قبل الكفار على بلاد المسلمين، أو في دفع منكر وفساد يتفق على دفعه الجميع. وهذا الاجتماع طارئ ومؤقت وفي مهمة معينة، لا أنه دائم وثابت أو أن فيه تنازلاً لأهل البدع أو سكوتًا عن بدعهم.
الطرف الثاني: الغالي والمفْرِط في تحقيق ضوابط الاجتماع؛ وذلك بأن يحَجِّر واسعًا، ويتشدد في وضع الشروط والضوابط التي تؤول بأهله إلى أن يرسموا لأنفسهم كيانًا معينًا مغلقًا يرون أنه هو الحق، وهو الممثل لكيان أهل السنة والاتباع؛ فمن دخله كان منهم ومن أخل بشيء من ضوابط الدخول فهو خارج عن دائرة أهل السنة وما كان عليه سلف الأمة. ولا يخفى ما في هذه النظرة من الغلو والإعجاب بالنفس؛ لأن أصحاب هذا الطرف سيجدون أنفسهم في دائرة ضيقة تمثل أهل السنة عندهم، وغيرهم خارج هذه الدائرة مستحقون للتبديع والتحذير منهم. وحجة هذا الطرف أن من تلبس بأي بدعة دقت أو جلت، وسواء كانت في العقائد أو الأعمال، وسواء كان المتلبس بها جاهلاً أو مقلدًا؛ كل أولئك مبتدعة ولا يجوز الاجتماع معهم. وقد يكون هذا المتلبس ببدعة دقيقة يعتقد ويتبع ما كان عليه سلف الأمة في جميع أموره غير أنه تلبس ببدعة أو بدعتين؛ فهذا عندهم من المفارقين، وقد تكون المخالفة في مسألة اجتهادية أو تدور بين راجح ومرجوح وليست في مسألة أصولية، ومع ذلك نجد أن هذا الطرف من الناس يفارق عليها، وينابذ صاحبها. وهذا من الغلو والإفراط المؤديين إلى مزيد من الفرقة والتخاصم والتدابر.(/36)
الموقف المتوازن وهو الوسط العدل: وهم الذين يحرصون على الاجتماع والائتلاف بين أهل السنة، دون أن يكون ذلك على حساب العقيدة وثوابتها؛ فهم ليسوا كالطرف الأول المفرِّط في ضوابط الاجتماع الشرعية بل يخالفوهم في ذلك؛ فلا يرون الاجتماع مع أهل البدع المعروفين بأصولهم البدعية وبالدعوة إليها، ولو كانوا من أهل القبلة - كالخوارج والمعتزلة والمرجئة وغيرهم - فضلاً عن أن يكونوا من الخارجين عن الملة كفرق الباطنية من رافضة وغيرهم. ومع ذلك فهم لا يذهبون إلى رأي الطرف الغالي المفرِط في تحقيق شروط الاجتماع، بل إنهم يرون الاجتماع مع كل منتسب لأهل السنة والجماعة غير متبنٍ لأصل من أصول أهل البدع، ولو تلبس ببدعة من البدع جهلاً منه أو تقليدًا. فهذا عند الطرف العدل يعد من أهل السنة والجماعة جملة، وإن خالفهم في مسألة جزئية من مسائل الاعتقاد؛ فمثل هذا يقال إنه من أهل السنة بالجملة مخالف لهم في بدعته التي هو عليها؛ وعندها لا يُفَارق عليها ما دام أنه لم ينطلق في مخالفته تلك من أصول أهل البدع، مع الاجتهاد في نصحه وإزالة الشبهة عنه.
كما أنهم من باب أولى لا يجعلون المسائل الاجتهادية التي يخالفون فيها غيرهم سببًا في الافتراق، بل يرون الاجتماع مع المنتسبين لأهل السنة والاتباع ولو اختلفوا معهم في فرع أو أكثر من فروع الأحكام. فما زال العلماء من القديم وفي عصرنا يختلفون في أحكامهم واجتهاداتهم، ومع ذلك فقد كانوا إخوانًا متآلفين لم يتفرقوا بسبب اختلافاتهم.
ومن الفقه بمقاصد الشريعة المحافظة على الكليات ولو تخلفت بعض الجزئيات؛ أما أن يعكس الأمر فيحافظ على جزئي، ولو أدى إلى ذهاب الكلي، فهذا غلط وقلة فقه بمقاصد الشريعة. وبناء على ذلك فإن الاجتماع أصل كلي فلا يُفرَّط فيه ولا يضيع بمحافظتنا على جزئي فرعي. أما إذا أدى الاجتماع إلى ذهاب الكليات والتنازل عن الثوابت فهذا اجتماع باطل وهو كالزبد يذهب جفاءً؛ لأنه مبني على شفا جرف هار.
______________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: (14/210)، ورواه مختصرًا الترمذي في تفسير سورة براءة، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالسلام بن حرب.
(2) وقد توسع الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة المهمة بكلام نفيس حيث قال: (والتوازن بين مجال المشيئة الإلهية الطليقة، ومجال المشيئة الإنسانية المحدودة، وهي القضية المشهورة في تاريخ الجدل في العالم كله، وفي المعتقدات كلها، وفي الفلسفات والوثنيات كذلك باسم قضية «القضاء والقدر» أو «الجبر والاختيار». والإسلام يثبت للمشيئة الإلهية الطلاقة ويثبت لها الفاعلية التي لا فاعلية سواها ولا معها وفي الوقت ذاته يثبت للمشيئة الإنسانية الإيجابية ويجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها. وهو دور ضخم، يعطي الإنسان مركزًا ممتازًا في نظام الكون كله، ويمنحه مجالاً هائلاً للعمل والفاعلية والتأثير، ولكن في توازن تام مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة الإلهية، وتفردها بالفاعلية الحقيقية، من وراء الأسباب الظاهرة؛ وذلك باعتبار أن النشاط الإنساني هو أحد هذه الأسباب الظاهرة وباعتبار أن وجود الإنسان ابتداء، وإرادته وعمله، وحركته ونشاطه، داخل في نطاق المشيئة الطليقة، المحيطة بهذا الوجود وما فيه ومن فيه.
ويقرأ الإنسان في القرآن الكريم: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51)، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (النساء: من الآية78)...
ويقرأ كذلك في الجانب الآخر: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11)، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال: من الآية53)، (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14، 15)، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7- 10)، (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) (النساء: من الآية111).(/37)
ثم يقرأ بعد هذا وذلك: (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر:54-56)، (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان: 29، 30)، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) (آل عمران: 165، 166).
يقرأ الإنسان أمثال هذه المجموعات المنوعة الثلاثة؛ فيدرك منها سعة مفهوم «القدر» في التصور الإسلامي، مع بيان المجال الذي تعمل فيه المشيئة الإنسانية في حدود هذا القدر المحيط.
لقد ضربت الفلسفات والعقائد المحرفة في التيه - في هذه القضية - ولم تعد إلا بالحيرة والتخليط بما في ذلك من خاضوا في هذه القضية من متكلمي المسلمين أنفسهم .. ذلك أنهم قلدوا منهج الفلسفة الإغريقية أكثر مما تأثروا بالمنهج الإسلامي في علاج هذه القضية.
في التصور الإسلامي ليست هناك «مشكلة» في الحقيقة، حين يواجَه الأمر بمفهوم هذا التصور وإيحائه:
إن قدر الله في الناس هو الذي ينشئ ويخلق كل ما ينشأ وما يُخلق من الأحداث والأشياء والأحياء .. وهو الذي يصرّف حياة الناس ويكيّفها. شأنهم في هذا شأن هذا الوجود كله كل شيء فيه مخلوق بقدر، وكل حركة تتم فيه بقدر. ولكن قدر الله في الناس يتحقق من خلال إرادة الناس وعملهم في ذات أنفسهم، وما يحدثونه فيها من تغييرات. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11)، وكون مرد الأمر كله إلى المشيئة الإلهية المطلقة، لا يبطل هذا ولا يعطله. فالأمران يجيئان مجتمعين أحياناً في النص القرآني الواحد، كما رأينا في المجموعة الثالثة من هذه النماذج، ونحن إنما نفترض التعارض والتناقض حين ننظر إلى القضية بتصور معين نصوغه من عند أنفسنا عن حقيقة العلاقة بين المشيئة الكبرى وحركة الإنسان في نطاقها. إلا أن المنهج الصحيح: هو ألا نستمد تصوراتنا في هذا الأمر من مقررات عقلية سابقة. بل أن نستمد من النصوص مقرراتنا العقلية في مثل هذه الموضوعات، وفيما تقصه علينا النصوص من شأن التقديرات الإلهية في المجال الذي لا دليل لنا فيه غير ما يطلعنا الله عليه منه؛ فهو قال: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (المزمل: من الآية19)، وهو قال: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان: من الآية30)، وهو قال: (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14، 15)، وهو قال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: من الآية125)، وهو قال في الوقت نفسه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت:46).
فلا بد إذن - وفق تصور المسلم لإلهه وعدله في جزائه، وشمول مشيئته وقدره - من أن تكون حقيقة النسب بين مدلولات هذه النصوص في حساب الله من شأنها أن تسمح للإنسان بقدرٍ من الإيجابية في الاتجاه والعمل، يقوم عليه التكليف والجزاء دون أن يتعارض هذا القْدر مع مجال المشيئة الإلهية المطلقة، المحيطة بالناس والأشياء والأحداث .. كيف؟
كيفيات فعل الله كلها، وكيفيات اتصال مشيئته بما يراد خلقه وإنشاؤه كلها .. ليس في مقدور العقل البشري إدراكها. والتصور الإسلامي يشير بتركها للعلم المطلق، والتدبير المطلق - مع الطمأنينة إلى تقدير الله وعدله ورحمته وفضله - فالتفكير البشري المحدود بحدود الزمان والمكان، وبالتأثرات الوقتية والذاتية، ليس هو الذي يدرك مثل هذه النِّسَب وهذه الكيفيات، وليس هو الذي يحكم في العلاقات والارتباطات بين المشيئة الإلهية والنشاط الإنساني. إنما هذا كله متروك للإرادة المدبرة المحيطة والعلم المطلق الكامل. متروك لله الذي يعلم حقيقة الإنسان، وتركيب كينونته، وطاقات فطرته وعمله الحقيقي، ومدى ما فيه من الاختيار، في نطاق المشيئة المحيطة، ومدى ما يترتب على هذا القدر من الاختيار من جزاء.(/38)
وبهذا وحده يقع التوازن في التصور، والتوازن في الشعور، والاطمئنان إلى الحركة وفق منهج الله، والتطلع معها إلى حسن المصير ... إن الله قادر طبعًا على تبديل فطرة الإنسان - عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه - أو خلقه بفطرة أخرى. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة، وأن يخلق الكون على هذا النحو الذي نراه. وليس لأحد من خلقه أن يسأله لماذا شاء هذا؟ لأن أحدًا من خلقه ليس إلهًا! وليس لديه العلم والإدراك - ولا إمكان العلم والإدراك - للنظام الكلي للكون، ولمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وللحكمة الكامنة في خلقه كل كائن بطبيعته التي خلق عليها.
والله وحده هو الذي يعلم؛ لأنه وحده هو الذي خلق الكون ومن فيه وما فيه، وهو وحده الذي يرى ما هو خير فينشئه ويبقيه،وهو وحده الذي يقدر أحسن وضع للخلق فينشئه فيه: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: من الآية14).
[عن كتاب خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: ص 143-150] مختصرًا.
(3) فهم وسط بين هؤلاء وأولئك؛ فيحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ويوالونهم ويترضون عنهم، ولا يغلون فيهم ولا يخرجونهم عن منزلتهم التي هم عليها.
(4) مجموع الفتاوى: (3/370-375).
(5) خصائص التصور الإسلامي: (ص 160-162) باختصار.
(6) مجموع الفتاوى: (10/21).
(7) مجموع الفتاوى: (10/21).
(8) مدارج السالكين: (2/145) ط دار طيبة.
(9) مدارج السالكين: (2/227، 228) ط دار طيبة.
(10) وهم الذين يدَّعون أنهم يعبدون الله حبًا له لا رجاءً لثوابه ولا خوفًا من عقابه!!
(11) مدارج السالكين: (2/297-299) ط دار طيبة.
(12) مدارج السالكين: (3/214) ط دار طيبة.
(13) الروح: (ص 541، 542).
(14) رواه الترمذي: (2649)، وصححه الألباني برقم (2044) في صحيح سنن الترمذي.
(15) في ظلال القرآن: (5/2758).
(16) مدارج السالكين: (1/440، 441) ط دار طيبة.
(17) خصائص التصور الإسلامي: (ص 141، 142).
(18) تفسير السعدي: (4/40).
(19) تفسير ابن كثير عند الآية: (77) من سورة القصص.
(20) في ظلال القرآن: (5/2711).
(21) مجموع الفتاوى: (10/622، 623).
(22) عن رسالة للشيخ غير مطبوعة بعنوان: (وسطية أهل السنة والجماعة).
(23) في ظلال القرآن: (2/931 - 934) باختصار.
(24) رواه الترمذي في البر والصلة باب الاقتصاد في الحب والبغض، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (178).
(25) نزهة الفضلاء: (ص 814).
(26) نزهة الفضلاء: (ص 1311).
(27) نزهة الفضلاء: (815، 816).
(28) نزهة الفضلاء: (ص 486).
(29) سير أعلام النبلاء: (11/174).
(30) انظر (فقه الائتلاف) للأستاذ محمود الخزندار -رحمه الله تعالى-: (ص 330).
(31) انظر كتاب (فاستقم كما أمرت): (ص 170، 171) للمؤلف.
(32) مجموع الفتاوى: (3/338، 339).
(33) لعله يعني الكتاب المطبوع اليوم باسم: (مفتاح دار السعادة)؛ حيث ذكر فيه ابن القيم أكثر من ستين وجهًا على بطلان هذا المذهب.
(34) مدارج السالكين: (1/420-427) باختصار، ط. دار طيبة.
المبحث الثاني
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول هذا الدين؛ ومنه الجهاد في سبيل الله تعالى الذي هو: ذروة سنامه، والطريق إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله عز وجل. وخيرية هذه الأمة وعزتها متوقفان على القيام بشعيرة الأمر والنهي والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال الله عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110).
ومن أجل القيام بها على الوجه المشروع المرضي لله تعالى جاءت الآيات والأحاديث التي ترسم معالمها وضوابطها وتحذر عن الانحراف بها يمينًا وشمالاً، وتهدي إلى الوسطية والعدل الذي هو سمة بارزة للأمة الوسط التي هي خير أمة أخرجت للناس.
وقد افترق الناس في القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى طرفين ووسط.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين قاموا بهذه الشعيرة وباشروا الأمر والنهي دون مراعاة للضوابط الشرعية للأمر والنهي، ودون النظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، ودون مراعاة لأحوال الزمان أو المكان أو الأشخاص، بل قد يصل بهم الإفراط إلى الخروج على الأمة بالسيف، كما حصل ذلك من الخوارج، والمعتزلة ومن تأثر بهما.(/39)
ويتحدث الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن شمول الشريعة وكمالها وخيريتها ويضرب لذلك أمثلة فيقول: «فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعَاش والمعاد، وهي عَدْل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلُّها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجوْرِ، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العَبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عَدْل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي مَنْ استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، وبها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة.
وكلُّ خير في الوجود فإنما هو مستفَاد منها، وحاصل بها. وكل نقص في الوجود، فسببه من إضاعتها. ولولا رسومٌ قد بقيت لخَرِبت الدنيا، وطُوِى العالم، وهي العصمة للناس، وقِوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا. فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خَرابَ الدنيا، وطَىَّ العالم رفع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة:
المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يُحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسُوغ إنكارُه، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله ... ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه منكر أكبر منه ... فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه؛ فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة: موضع اجتهاد، والرابعة محرَّمةُ. فإذا رأيت أهلَ الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كَرْمي النُّشَّاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك، وإذا رأيت الفُسَّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكاء وتَصْديِة، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخِفْت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدَع والضلال والسحرة، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع»(1).
الطرف الثاني: أهل التفريط والتقصير: وهم الذين قعدوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآثروا الراحة على الدعوة والجهاد، وبرروا ذلك باجتناب الفتن التي تترتب على الأمر والنهي كما حصل ذلك من المرجئة وأهل الفجور.
الموقف الوسط المتوازن: وهو الذي عليه أهل الاستقامة؛ أهل السنة والجماعة الذين قاموا بشعيرة الأمر والنهي مراعين في ذلك الضوابط الشرعية والنظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، وحَذِروا وحذَّروا من الخروج على جماعة المسلمين بالسيف، ومع ذلك فهم يصدعون بالحق من دون سيف ولا عصا؛ ولو أصابهم في ذلك من الأذى ما أصابهم؛ قال الله عز وجل: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) (لقمان: من الآية17).
وعن هذين الطرفين المذمومين - طرف الإفراط وطرف التفريط - يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال أئمة الجور، وأمر بالصبر على جورهم، ونهى عن القتال في الفتنة، فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلمًا، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنًّا أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك»(2).
أما عن الوسط بين هذين الطرفين فيقول رحمه الله تعالى: «ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة، والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان، كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة.(/40)
وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك؛ فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة؛ فإما أن يؤمر بهما جميعًا أو ينهى عنهما جميعًا، وليس كذلك، بل يؤمر وينهى ويصبر عن الفتنة، كما قال تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) (لقمان: من الآية17).
وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»(3)، فأمرهم بالطاعة ونهاهم عن منازعة الأمر أهله، وأمرهم بالقيام بالحق. ولأجل ما يُظَنُّ مِنْ تعارض هذين تَعْرِض الحيرة في ذلك لطوائف الناس. والحائر الذي لا يدري - لعدم ظهور الحق، وتمييز المفعول من المتروك - ما يفعل إما لخفاء الحق عليه أو لخفاء ما يناسب هواه عليه»(4) ا.هـ.
أما الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن كان يدخل في الكلام السابق عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أنه من المهم أن يفرد بكلام خاص عن الوسط والطرفان المذمومان اللذان بكتنفانه وبخاصة في واقعنا المعاصر الذي اختلفت فيه الرؤى حول الجهاد في سبيل الله عز وجل: ما بين قاعد عاجز لا يفكر في الاستعداد وإعداد العدة للجهاد، وما بين متسرع ومطالب بجهاد الكفر وأهله دونما الحصول على الحد الأدنى من القدرة والبيان الذي تستبان فيه سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. وبين هذين الطرفين يقع الموقف العدل المتوازن.
ويتحدث سيد قطب - رحمه الله - عن هذين الطرفين المذمومين فيقول: «وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته، إلى جانب سماحته وتغاضيه؛ هذه في موضعها، وتلك في موضعها. وطبيعة الموقف وحقيقة الواقعة هي التي تحدد هذه وتلك ..
ورؤية هاتين الصفحتين - على هذا النحو - كفيلة بأن تنشئ التوازن في شعور المسلم؛ كما تنشئ التوازن في النظام الإسلامي - السمة الأساسية الأصيلة - فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفًا وحماسة وشدة واندفاعًا فليس هذا هو الإسلام! وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام - كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! - فيجعلون الأمر كله سماحة وسلمًا وإغضاء وعفوًا؛ ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين - وليس دفعًا عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة، وليس تأمينًا لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة، وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله؛ من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء .. فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام»(5).
ولمزيد من التفصيل يمكن القول بأن الناس في موقفهم من الجهاد في سبيل الله تعالى طرفان ووسط:
الطرف الأول: هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي بالأمر الواقع ولم يسع للإعداد والاستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الأرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها.
ويستند أصحاب هذا الرأي إلى هديه صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة؛ حيث أُمِرَ بكف اليد والصبر. وهذا الاستدلال صحيح في حد ذاته فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة والإعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل.
أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وتُستمرأ الذلة، وتفتر الهمم ولا يحصل الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويعد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما أنه من أعظم العدة والزاد لما يُنتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل. ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين وقفوا مع المراحل الأولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار أينما ثُقِفُوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها الأمر بجهاد الدفع ورد الأعداء فحسب.(/41)
وفي ذلك يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى -: «إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معينًا. وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة، وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين .. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية»(6) ا.هـ.
الطرف الثاني: وأصحاب هذا الطرف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء في كف اليد أو المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم .. إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل المجرمين؛ ليكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيى من حيى عن بينة؛ ودون أن يكون هناك الإعداد المعنوي الروحي للمجاهدين علمًا وعملاً وعبادة وأخلاقًا ودعوة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمَّن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون»(7) ا.هـ.
وقد جاء موقف هذا الطرف الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل موقف الطرف السابق الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأولى - وهي كف اليد - ولم يُعِدّ للمراحل الجهادية التي تلت كف اليد والصبر على أذى الكفار.
الموقف الوسط المتوازن: وهو الموقف العدل الذي أحسب أنه الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ حيث رأى أن واقع المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث الاستضعاف وتسلط الكفار. ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الأول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالاستسلام للواقع، ولم يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبلَّغ التوحيد الخالص للناس وأوضح سبيل المجرمين وحذر منها، وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد ومقتضياته، وأعدهم علمًا وعملاً للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ فصبروا وصابروا، وهجروا الخلان والأوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم الأنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار التوحيد ورسالة الإسلام في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى.
كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل الإعداد الشامل لذلك والبيان التام لسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.
تنبيه:
ليس المقصود بالطرف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع اليوم عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها؛ فهذا جهاد دفع لا يشترط فيه ما يشترط لجهاد الطلب؛ وإنما المقصود هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر وأهلها وراية أهل الإيمان في تلك البلدان للناس؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهًا لوجه أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم الأمر.
____________
(1) إعلام الموقعين: (3/5-7) باختصار.
(2) الآداب الشرعية: (1/177).
(3) البخاري في الفتن، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» ح (7056)، ورواه مسلم في الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ح (1709) .
(4) الاستقامة: (1/41، 42).
(5) في ظلال القرآن: (2/734).
(6) في ظلال القرآن: (3/1581).
(7) الصارم المسلول: (2/414).
المبحث الثالث
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في العبادات(/42)
والمقصود بالعبادات هنا: تلك العبادات التي بين العبد وربه - سبحانه - كما هو الحاصل في شعائر التعبد؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر وقراءة القرآن وغيرها، مما لا يدخل في معاملات الخلق. وهذا من باب التقسيم الفني فقط، وإلا فكل أعمال العبد وحركاته ومعاملاته ينبغي أن تكون كلها عبادة لله تعالى، وأن يكون فيها العبد مستسلمًا لربه خاضعًا لشرعه؛ قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162، 163).
وأول ما نبدأ به في وسطية هذا الدين في العبادات تلك الوسطية العامة البارزة والتوازن المنضبط في تشريع العبادات وأحكامها ويسرها، ولكي تبرز هذه السمة بصورة واضحة فلا بد من التعرض للمناهج الأخرى السائدة فيما يتعلق بالعبادة تفريطًا أو إفراطًا؛ وذلك كما يلي:
«المنهج الأول: ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم؛ فلو تأملنا في التوارة - بعد تحريفها - لوجدنا تقديس المادة غلب على بنودها، فلا تقرأ في أسفار التوارة ذكراً للآخرة، حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلق بالدنيا فقط، فلا يعمل الشخص إلا لتحقيق كسب عاجل، أو خوفاً من عقوبة عاجلة، بل بلغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) (النساء: من الآية153)، وقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة: من الآية55).
ووفقًا لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤلاء في تقديس المحسوسات، واتخذوها طريقًا للرقي، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحول الإنسان في نظر هؤلاء إلى آلة تتحرك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو. وقد وصفهم القرآن الكريم، وبين مدى تعلقهم بالحياة الدنيا وحرصهم عليها فقال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة: من الآية96). أيَّ حياة؛ حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها؛ وذلك لأنهم يخشون الموت: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (البقرة: من الآية95)؛ لأنهم ربطوا غايتهم بالدنيا، فعلمهم للدنيا وعبادتهم لمآرب دنيوية! فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء فهم بهذا أغرقوا في الشهوات، وعبَّدوا أنفسهم للماديات، فهم كمشركي قريش الذين قالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية: من الآية24)، وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالاته، ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه في كل صلاة، ونسأله أن يجنبنا إياه: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: من الآية7).
أما المنهج الثاني: وهو المنهج القائم على الروحانيات؛ وذلك بإعلائها وتمجيدها، والإغراق في مفهوم العبادة والرهبنة، ويمثل هذا المنهج النصارى، وهو منهج الإفراط والغلو وابتداع النصارى رهبانية قاسية على النفس: تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وتمنع كل أنواع الزينة وطيبات الرزق، وترى ذلك رجسًا من عمل الشيطان، وبالغوا في العبادة، وأخرجوها عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوهة، مؤذية للأجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بلا حجة ولا برهان؛ (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27)....
وهذا المنهج يمثل الإفراط والغلو، وهو الوجه الثاني من وجوه الانحراف عن الصراط المستقيم، ولذلك أُمِرْنا بأن نسأل الله أن يجنبنا إياه: (وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7)»(1).
إذن فشريعة الإسلام وسط وعدل في العبادات بين المنهج القائم على التفريط والجفاء، وبين المنهج القائم على الغلو والإفراط والرهبانية.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين؛ قال الحسن: هو المبتدع في دينه والفاجر في دنياه، وكانوا يقولون: احذروا صاحب دنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه، وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور.
فالقسم الأول: أهل الفجور؛ وهم المترفون المنعمون أوقعهم في الفجور ما هم فيه.
والقسم الثاني: المترهبون؛ أوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم. هؤلاء استمتعوا بخلاقهم، وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم؛ وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهي عنها، أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم الله والدار الآخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثيرًا منهم.(/43)
والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات - وإن كانوا يقولون: إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون أن لا يفعلوه؛ إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء - يقول أحدهم: لله عليّ أن لا آكل طعامًا بالنهار أبدًا، ويعاهد أحدهم أن لا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر. فهذا يلتزم أن لا يشرب الماء، وهذا يلتزم أن لا يأكل الخبز، وهذا يلتزم أن لا يشرب الفُقَّاع(2)، وهذا يلتزم أن لا يتكلم قط، وهذا يَجُبُّ نفسه، وهذا يلتزم أن لا ينكح ولا يذبح. وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة.
ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله)(3) لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه الله ورسوله؛ فلا يحرم الحلال ولا يسرف في تناوله؛ بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد في ذلك، ويقتصد في العبادة؛ فلا يحمل نفسه ما لا تطيق»(4).
ولمزيد من البيان لهذه الوسطية والعدل والتوازن في العبادات أذكر بعض النماذج والمظاهر الدالة على ذلك؛ وذلك فيما يلي:
النموذج الأول :
عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فإني أُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(5).
يقول صاحب كتاب الوسطية في القرآن: «فهذا موقف من مواقف الغلو يجلي لنا سبب هذه النزعة: وهو الرغبة الصادقة في التزود من الخير التي دفعتهم للسؤال عن أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته، فلما علموا، رأوا أن ذلك قليل فقالوا ما قالوا.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا الاتجاه فبادر بعلاجه، وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه؛ فبين أنها ليست بالتضلع من أعمال والتفريط في أخرى، ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله، وهذا هو عين الوسطية والحكمة والاستقامة والاعتدال والعدل»(6).
ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هذا الحديث وأمثاله فيقول: «والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة؛ كلاهما يخرج على سواء فطرته ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له، وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل. وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير.
من أجل هذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام. أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها وقال: (فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك؛ وأقام له عليها نظامًا بشريًا لا تُدَمَّرْ فيه طاقة واحدة من طاقات البشر. إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف؛ ولا اعتداء من إحداها على الأخرى. فكل اعتداء يقابله تعطيل. وكل طغيان يقابله تدمير»(7).
النموذج الثاني :
عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مُرْهُ فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)(8). فهذا يدل على سماحة ويسر الشريعة.
النموذج الثالث :
«آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع طعامًا فقال: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. قال: فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان)(9).
النموذج الرابع :(/44)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة فقال: (من هذه؟) فقلت: امرأة لا تنام تُصلي. قال: (عليكم من العمل ما تطيقون؛ فوالله لا يمل الله حتى تملوا)، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه»(10). وهذا توجيه نبوي كريم نحو الاعتدال والتوسط.
النموذج الخامس :
عن أنس رضي الله عنه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل مدود بين ساريتين. فقال: (ما هذا؟) قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد)(11).
«فهذا الحديث يدل على أن النساء لم يكن أقل حرصًا من الرجال على التزود من الخير، والتنافس في أعمال البر، وقد تجلى ذلك في هذه النزعة الجامحة نحو العبادة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا الجموح الضار، فعمد إلى الزجر عنه، وأمر بالوسط النافع»(12).
ولنستمع الآن إلى تعليق الإمام النووي النافع حول هذين الحديثين حيث يقول: «فيه دليل على الحث على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمق، وليس الحديث مختصاً بالصلاة بل هو عام في جميع أعمال البر ... وفي هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته؛ لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط والقلب منشرحًا، فتتم العبادة...)(13).
ويلاحظ في النماذج السابقة التحذير من الغلو والإفراط، وأنه قد ينتهي بصاحبه إلى الانقطاع والتوقف، أو الزيادة على ما لم يشرعه الله عز وجل، وبالتالي يصبح مردوداً على صاحبه.
وفي مقابل الغلو نهى الله عز وجل عن التفريط والإضاعة للصلاة، فقال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59).
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره لهذه الآية: «لما ذكر الله تعالى حزب السعداء، وهم الأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدّين فرائض الله، التاركين لزواجره، ذكر أنه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ). أي قرون أخر. (أَضَاعُوا الصَّلاةَ). وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها؛ فهؤلاء سيَلْقَوْن غيًّا أي: خسارة يوم القيامة»(14).
النموذج السادس :
في قوله تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110).
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «قال الإمام أحمد(15): حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم، متوارٍ بمكة: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا). قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن وسبّوا من أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ)؛ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن، حتى يأخذوه عنك. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً). أخرجاه في الصحيحين(16) من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به.
وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نزلت في الدعاء»(17).
وقال القرطبي: «روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها في قوله عز وجل: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قالت: أنزل هذا في الدعاء»(18).
والشاهد أن هذه الآية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما؛ وهما الجهر الشديد أو المخافتة والإسرار؛ (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً).
النموذج السابع :
في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف:205).
قال القرطبي: « (وَدُونَ الْجَهْرِ): أي دون الرفع في القول؛ أي أسمع نفسك؛ كما قال: (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) أي بين الجهر والمخافتة»(19).
النموذج الثامن :
في قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف:55).(/45)
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت؛ إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم؛ وذلك أن الله تعالى يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا رضي فعله فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً) (مريم:3) وقال ابن جريج: يُكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روى عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): في الدعاء ولا في غيره. وقال أبو مجلز: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): لا يسأل منازل الأنبياء. وقال أحمد: حدثنا عبدالرحمن ابن مهدي، حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق، سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سعدًا سمع ابنًا له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها ونحوًا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال: لقد سألت الله خيرًا كثيرًا وتعوذت به من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء» وفي لفظ: «يعتدون في الطهور والدعاء» وقرأ هذه الآية: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) الآية، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل(20) ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن ابن لسعد عن سعد فذكره والله أعلم، وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نعامة أن عبدالله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها؛ فقال: يا بني، سل الله الجنة وعُذْ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور)(20)»(21).
النموذج التاسع :
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»(22)، والناس مع الرخص الشرعية طرفان ووسط.
الطرف الأول: من يتمادى في أخذ الرخصة، ويسترسل معها حتى يخرج بها عن المقصود الشرعي.
الطرف الثاني: من يتشدد في الورع حتى يترك الرخص الشرعية ويشدد على نفسه.
الوسط: وهو الذي يعظم أمر الله عز وجل ونهيه؛ فلا يعارضهما بترخص جاف ولا يعرضهما لتشديد غال ويزهد في رخص الله عز وجل.
ويفصل هذا الأمر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - فيقول: «فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارَضا بترخُّص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال؛ فإن المقصود هوالصراط المستقيم الموصل إلى الله - عز وجل - بسالكه.
وما أمَرَ الله - عز وجل - بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراطٌ وغُلُوٌّ، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فيشامه: فإن وجد فيه فتورًا وتوانيًا وترخيصًا؛ أخذه من هذه الخطة، فثبَّطه، وأقعده، وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرخاء، وغير ذلك، حتى ربما ترك العبدُ المأمورَ جملة.
وإن وجد عنده حذرًا وجدًّا، وتشميرًا ونهضة، وأيس أن يأخذه من هذا الباب؛ أمره بالاجتهاد الزائد، وسوَّل له أن هذا لا يكفيك، وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تَفْتُرَ إذا فَتَروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعًا، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدِّي، فيحمله على الغلوِّ والمجاوزة وتعدِّي الصراط المستقيم؛ كما يحمل الأول على التقصير دونه وأن لا يقربه.
ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم: هذا بأن لا يقربَه ولا يدنو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه.
وقد فُتِن بهذا أكثرُ الخلق، ولا يُنَجِّي من ذلك إلا علمٌ راسخٌ، وإيمان وقوة على محاربته، ولزوم الوسط والله المستعان»(23).
وقال أيضًا: «ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط.
مثال ذلك: أنَّ السنَّةَ وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر، فالترخُّص الجافي أن يبرِدَ إلى فوات الوقت، أو مقاربة خروجه، فيكون مترخصًا جافيًا.
وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور، ويفعل العبادة بتكرُّه وضجر، فمن حكمة الشارع أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر، فيصلي العبد بقلب حاضر، ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى.
ومن هذا نهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي بحضرة الطعام، أو عند مدافعة البول والغائط؛ لتعلق قلبه من ذلك بما يشوِّش عليه مقصود الصلاة، ولا يحصل المراد منها.(/46)
فمن فقه الرجل في عبادته: أن يُقْبلَ على شغله فيعمله، ثم يفرغ قلبه للصلاة، فيقوم فيها وقد فرَّغ قلبه لله تعالى، ونصب وجهه له، وأقبل بكلِّيته عليه؛ فركعتان من هذه الصلاة يُغْفَرُ للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه.
والمقصود أن لا يترخص ترخصًا جافيًا.
ومن ذلك: أنه رخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر، وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير، وتعذر النزول أو تعسره عليه، فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة، أو أقام اليوم؛ فجمعه بين الصلاتين لا موجب له؛ لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة، فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع، سواء وُجِدَ عذر أم لم يوجد، بل الجمع رخصة، والقصر سُنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية، سواء كان له عذر أو لم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة، فهذا لون، وهذا لون.
ومن هذا: أن الشبع في الأكل رخصة غير محرمة، فلا ينبغي أن يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التُّخمة والامتلاء، فيتطلب ما يصرف به الطعام، فيكون همه بطنه قبل الأكل وبعده. بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع، ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثُلُثٌ لطعامِهِ، وثُلُثٌ لشَرابِهِ، وثُلُثٌ لنفَسِهِ)(24).
ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.
وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي؛ فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغاليًا فيه حتى يفوت الوقت، أو يردِّد تكبيرة الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة، أو يكاد تفوته الركعة، أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئاً من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه.
ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العبَّاد الذين نقص حظهم من العلم، حتى امتنع أن يأكل شيئًا من بلاد الإسلام، وكان يتقوَّت بما يحمل إليه من بلاد النصارى، ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك، فأوقعه الجهل المفرط، والغُلُوُّ الزائد في إساءة الظن بالمسلمين، وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان»(25).
النموذج العاشر :
الوسطية في الطهارة والصلاة:
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والأدب: الوقوف في الوسط بين طرفين؛ فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها، ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودًا له؛ فكلاهما عدوان، والله لا يحب المعتدين. والعدوان: هو سوء الأدب.
وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.
فإضاعة الأدب بالجفاء؛ كمن لم يكمل أعضاء الوضوء، ولم يوف الصلاة آدابها التي سَنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها. وهي قريب من مائة أدب: ما بين واجب ومستحب.
وإضاعته بالغلو: كالوسوسة في عقد النية، ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرًا، وتطويل ما السنةُ تخفيفه وحذفه كالتشهد الأول والسلام الذي حَذْفُه سنة، وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على ما يظنه سُرّاق الصلاة والنقارون لها ويشتهونه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه، وقد صانه الله من ذلك. وكان يأمرهم بالتخفيف ويؤمهم بالصافّات، ويأمرهم بالتخفيف، وتقام صلاة الظهر، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ويأتي أهله ويتوضأ، ويدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى. فهذا هو التخفيف الذي أمر به، لا نقر الصلاة وسرقها؛ فإن ذلك اختصار، بل اقتصار على ما يقع عليه الاسم، ويسمى به مصلياً...»(26).
وقال في موطن آخر وهو يفرق بين الاحتياط في العبادة والوسوسة فيها: «والفرق بين الاحتياط والوسوسة أن الاحتياط الاستقصاء والمبالغة في اتباع السُنَّة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير غلو ومجاوزة ولا تقصير ولا تفريط؛ فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله. وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به السُنَّة ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أحد من الصحابة؛ زاعمًا أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه؛ كمن يحتاط بزعمه ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق الثلاث فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله، ويصرح بالتلفظ بنية الصلاة مرارًا، أو مرة واحدة، ويغسل ثيابه مما لا يتيقن نجاسته احتياطًا، ويرغب عن الصلاة في نعله احتياطًا، إلى أضعاف أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينًا وزعموا أنه احتياط.
وقد كان الاحتياط باتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان عليه أولى بهم؛ فإنه الاحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق الاحتياط، وعدل عن سواء الصراط. والاحتياط كل الاحتياط الخروج عن خلاف السُنَّة ولو خالفت أكثر أهل الأرض بل كلهم»(27).
النموذج الحادي عشر :(/47)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جَمْعٍ: (هلم القط لي). فلقطتُ له حصياتٍ من حصى الخَذْف، فلما وضعهن في يده قال: (نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)(28).
وقد قال أهل العلم في حجم الحصى الذي يرمى به أنه بين الحمص والبندق، فما زاد على البندق فهذا إفراط، وما نقص عن الحمص فهو تفريط، والعدل بين الإفراط والتفريط.
وأختم الكلام عن الوسطية في العبادات بكلام نفيس للإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو الاقتصاد في العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا)(29). وقال: «إن هذا الدين متين، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغو»(30). وكلاهما في الصحيح.
وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: (اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة) فمتى كانت العبادة توجب له ضررًا يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها كانت محرمة؛ مثل أن يصوم صومًا يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العقل، أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب، وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس، ويسألهم.
وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة. وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة:87) فإنها نزلت في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة: هذا يسرد الصوم، وهذا يقوم الليل كله، وهذا يجتنب أكل اللحم، وهذا يجتنب النساء، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات من أكل اللحم، والنساء، وعن الاعتداء وهو الزيادة على الدين المشروع في الصيام، والقيام، والقراءة، والذكر، ونحو ذلك، والزيادة في التحريم على ما حرم والزيادة في المباح على ما أبيح. ثم إنه أمرهم بعد هذا بكفارة ما عقدوه من اليمين على هذا التحريم، والعدوان»(31).
______________
(1) انظر: الوسطية في القرآن الكريم، علي الصلابي: (ص 491، 492) باختصار يسير.
(2) الفُقَّاع: هو شراب يُتخذ من الشعير سمي به لما يعلوه من الزبد.
(3) لم أجد لهذا الحديث بهذا التركيب وإنما ورد في حديثين مستقلين: الأول: (المجاهد من جاهد نفسه) وهذا رواه الترمذي (1687)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1322)، والثاني: (الكيس من دان نفسه ... الحديث) وهذا رواه الترمذي في القيامة، باب رقم (26) وقال: حديث حسن.
(4) مجموع الفتاوى: (41/459-461).
(5) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح: (5063).
(6) الوسطية في القرآن: (ص 494).
(7) في ظلال القرآن: (4/2139).
(8) صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، ح (6704).
(9) البخاري، كتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، ح (6139).
(10) البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد في العبادة، ح (1151)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (785)، واللفظ له.
(11) البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد ...، ح (1150)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (784).
(12) الوسطية في القرآن: (ص 497).
(13) شرح النووي على صحيح مسلم: (6/71).
(14) تفسير ابن كثير: (3/137).
(15) المسند: (1/251)، وصححه أحمد شاكر: (1853).
(16) صحيح البخاري: (4722)، ومسلم: (446).
(17) انظر تفسير ابن كثير: (3/68، 69).
(18) تفسير القرطبي: (10/344)، وانظر صحيح مسلم: (447).
(19) تفسير القرطبي: (7/355).
(20) مسند أحمد: (1/172)، ورواه أبو داود في الطهارة، باب الإسراف في الماء (96)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (87).
(21) تفسير ابن كثير: (2/221، 222).
(22) مسند أحمد: (2/108)، وصححه الألباني في إرواء الغليل: (564).
(23) الوابل الصيب: (ص 32) ت: سليم الهلالي.
(24) رواه الترمذي: (2380)، وابن ماجة: (3349)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة: (2704).
(25) الوابل الصيب، ت: الهلالي: (ص 29-31).
(26) مدارج السالكين: (1/211، 212) ط. دار طيبة.
(27) الروح: (ص 542، 543).
(28) النسائي: (3057)، وابن ماجة: (3025)، وصححه الألباني في الصحيحة: (1283)، وأحمد في المسند: (1/215) واللفظ له، وصححه أحمد شاكر (1851).
(29) لم أحده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه الإمام أحمد في مسنده: (5/350)، وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (4086).
(30) لم أجده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه النسائي، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، وصححه الألباني في صحيح النسائي رقم: (4661).(/48)
(31) «مجموع الفتاوى»: (25/272).
المبحث الرابع
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الأخلاق والمعاملات
لقد فطر الله عز وجل الإنسان على الخير، وركز في فطرته أصول الأخلاق الفاضلة؛ وركب فيها الميل إلى الحسن، والنفرة من القبيح، إلا من انتكست فطرته تحت وطأة البيئة وسوء التربية، وإغواء النفس والشيطان. ومع ذلك جاء الإسلام بالتأكيد على الأخلاق الفاضلة، والحث عليها، والتنفير من الأخلاق السيئة بصورة تتسم بالوسطية والعدل والتوازن.
والدين كله خلق: عقائده وعباداته وأحكامه ومعاملاته؛ كما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن)(1).
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «الدين كله خلق؛ فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين»(2).
ولكن الحديث في هذا الفصل سيكون متوجهًا إلى المعنى الخاص للأخلاق؛ كالمعاملات، والسلوك الحميد؛ مما لا يدخل في العقائد والعبادات.
وقد جاءت أخلاق الإسلام متصفة بصفة العدل والتوازن؛ فكل خلق حميد فهو وسط بين خلقين ذميمين: أحدهما ينزع إلى الغلو والإفراط، والآخر ينزع إلى التفريط والتضييع.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذين هما توسط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء الذي هو سط بين الذل والقحة، وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ... وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين، وهو سط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان ... فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين لا بد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة، وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخَوَر ومهانة، بحيث يُطمِع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه، ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء؛ وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس.
وكذلك إذا انحرفت عن خلق «الصبر المحمود» انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع ... وإذا انحرفت عن خلق «الحلم» انحرفت: إما إلى الطيش والنزق والحدة والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة. ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز، وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف.
كما قيل:
كل حلم أتى بغير اقتدار حجة لاجئ إليها اللئام
وإذا انحرفت عن خلق «الأناة والرفق» انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة. والرفق والأناة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق «العزة» التي وهبها الله للمؤمنين، انحرفت: إما إلى كبر، وإما إلى ذل. والعزة المحمودة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق «الشجاعة» انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم.
وإذا انحرفت عن خلق «المنافسة في المراتب العالية والغبطة» انحرفت: إما إلى حسد، وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضى بالدون.
وإذا انحرفت عن «القناعة» انحرفت: إما إلى حرص وكَلَب، وإما إلى خِسَّة ومهانة وإضاعة.
وإذا انحرفت عن خلق «الرحمة» انحرفت: إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، كمن لا يقدم على ذبح شاة، ولا إقامة حد، وتأديب ولد؛ ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك. وقد ذبح أرحمُ الخلق صلى الله عليه وسلم بيده في موضع واحد ثلاثًا وستين بدنة، وقطع الأيدي من الرجال والنساء، وضرب الأعناق، وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم. وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم.
وكذلك طلاقة الوجه، والبشر المحمود؛ فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد، وطي البِشْر عن البَشَر، وبين الاسترسال بذلك مع كل أحد بحيث يُذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة، والنفرة في قلوب الخلق.
وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبينا صلى الله عليه وسلم: (من رآه بديهًة هابه. ومن خالطه عِشْرة أحبه)(3). والله أعلم»(4).
وبعد هذا الإجمال في بيان الوسطية والتوزان في بعض أخلاق هذا الدين؛ فإنه يحسن بنا التفصيل في إظهار هذه السمة في بعض الأخلاق، ومنها تلك التي ظهرت في عصرنا الحاضر وهي مجانبة للتوسط والاعتدال، خاصة وأنها سرت في المجتمع حتى وصلت إلى بعض الدعاة وطلبة العلم.
_____________
(1) صحيح مسلم: (746).
(2) مدارج السالكين: (3/73) ط. دار طيبة.
(3) رواه الترمذي في المناقب باب ما جاء في صفة النبي، وقال حسن غريب، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي: (748).
(4) مدارج السالكين: (3/74-79) باختصار. ط دار طيبة.
أولاً : العدل والتوازن في الكلام والبيان :
إن نعمة النطق واللسان والبيان نعمة عظيمة لا يقدرها حق قدرها إلا من فقدها أو عاش بين الناس أبكمًا.(/49)
قال تعالى ممتناً على عباده بنعمة البيان: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن:1-4).
والقلم والكتابة من البيان الذي أنعم الله به على الإنسان.
يتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن نعمة البيان فيقول: «إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين، ويتفاهم، ويتجاوب مع الآخرين فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة، وضخامة هذه الخارقة، فيردنا القرآن إليها، ويوقظنا لتدبرها في مواضع شتى.
فما الإنسان؟ ما أصله؟ كيف يبدأ؟ وكيف يُعلم البيان؟
إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم؛ خلية ساذجة صغيرة، ضئيلة، مهينة، ترى بالمجهر ولا تكاد تبين، وهي لا تُبين ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تُكوِّن الجنين. الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة: عظمية، وغضروفية، وعضلية، وعصبية، وجلدية. ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة: السمع، البصر، الذوق، الشم، اللمس ثم .. ثم الخارقة الكبرى والسر الأعظم: الإدراك والبيان، والشعور والإلهام. كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة، التي لا تكاد تَبين، والتي لا تُبين!
كيف؟ ومن أين؟ من الرحمن، وبصنع الرحمن.
فلننظر كيف يكون البيان؟. (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) (النحل: من الآية78).
إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب: اللسان، والشفتان، والفك، والأسنان، والحنجرة، والقصبة الهوائية، والشعب، والرئتان. إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية، وهي حلقة في سلسة البيان. وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب. ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه، ولا ندري شيئًا عن ماهيته وحقيقته. بل لا نكاد ندري شيئًا عن عمله وطريقته!
كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد؟
إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة، مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن.
إنها تبدأ شعورًا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين. هذا الشعور ينتقل - لا ندري كيف - من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية .. المخ .. ويقال: إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب. واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه. وهنا تطرد الرئة قدرًا من الهواء المختزن فيها، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية، إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتية صنعها الإنسان، ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتًا تشكله حسبما يريد العقل. عاليًا أو خافتًا، سريعًا أو بطيئًا، خشنًا أو ناعمًا، ضخمًا أو رفيعًا، إلى آخر أشكال الصوت وصفاته. ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان؛ يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة. وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين، يتم فيه الضغط المعين، ليصوّت الحرف بجرس معين.
وذلك كله لفظ واحد. ووراءه العبارة، والموضوع، والفكرة، والمشاعر السابقة واللاحقة. وكل منها عالم عجيب غريب، ينشأ في هذا الكيان العجيب الغريب، بصنعة الرحمن، وفضل الرحمن»(1).
وبعد هذا الاستعراض البديع من سيد قطب - رحمه الله تعالى - لنعمة النطق والبيان، وكيف يقوم الإنسان بهما، يتعين علينا التعرف على تفاوت الناس في نعمة الكلام والبيان حيث ينقسمون إلى طرفين ووسط.
الطرف الأول: الإفراط في الكلام والبيان: وصاحبه هو المهذار الذي يطلق لسانه أو قلمه في ما لا فائدة فيه؛ وما لا يعنيه؛ وهذا في الغالب يعرض نفسه لكثير من آفات الكتابة، واللسان؛ كالرياء والغيبة والنميمة والكذب وقول الباطل والسب والشتم وغيرها من آفات اللسان والقلم.
الطرف الثاني: التفريط في الكلام والبيان النافع: وصاحب هذا الطرف هو الذي يغلب عليه الصمت، وقلة الكلام حتى يوقعه ذلك في السكوت عن قول الحق أو السكوت على باطل، أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، وقد يصل به التقصير في أداء نعمة الكلام إلى أن يفوت على نفسه كثيرًا من العبادات اللسانية؛ كالذكر والدعاء وقراءة القرآن.
وعن هذين الطرفين يتحدث الإمام ابن القيم وهو يصور وصية الشيطان لذريته في القيام على ثغر اللسان فيقول: «قوموا على ثغر اللسان؛ فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه: من ذكر الله تعالى واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم:
أحدهما: التكلم بالباطل؛ فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم، ومن أكبر جندكم وأعوانكم.(/50)
والثاني: السكوت عن الحق؛ فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم؛ أما سمعتم قول الناصح: المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس؟.
فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.
واعلموا يا بَنِيَّ أن ثغر اللسان هو الذي أُهلِكُ منه بني آدم، وأكُبَُّّهم منه على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر»(2).
الموقف الوسط العدل: وهو الموقف الذي يقوم فيه أهله بأداء شكر نعمة اللسان والبيان؛ فيتكلمون ويكتبون في الأمر حين يكون طاعة لله عز وجل، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، ويُسخِّرون هذه النعمة في اللهج بذكر الله تعالى، وشكره وعبادته، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل. ويسكتون حين يكون السكوت محبوبًا لله عز وجل؛ وذلك حينما يكون الكلام معصيًة لله عز وجل؛ كالظلم والرياء والغيبة والنميمة، وقول الباطل وغير ذلك من آفات اللسان..
ويصف الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذه المواقف الثلاثة فيقول: «وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت؛ وقد يكون كل منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه. والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاص لله. وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته؛ فهم بين هذين النوعين. وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كفُّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة؛ فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً أن تضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به»(3).
وهكذا كان السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - في طريقتهم في الكلام أو السكوت وسطًا بين الإفراط والتفريط.
فعن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان فقال: أوصني. قال: لا تَكلَّمْ. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يتلكم. قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكتْ. قال: زدني. قال: لا تغضب. قال: إنه ليغشاني ما لا أملكه. قال: فإن غضبت فأمسك عليك لسانك ويدك. قال زدني. قال: لا تلابس الناس. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يلابسهم. قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث وأد الأمانة(4).
وعن يعلى بن عبيد قال: دخلنا على محمد بن سوقة فقال: أحدثكم بحديث لعله ينفعكم، فإنه قد نفعني. ثم قال: قال لنا عطاء بن رباح: يا بني أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدّون فضوله ما عدا كتاب الله عز وجل أن تقرأه، وتأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها. أتنكرون أن عليكم حافظين كرامًا كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد؛ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؟ أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملَّ صدرَ نهاره، فإن أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه(5).
وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبدالله البخاري يقولُ: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنِّي اغتبتُ أحدً.
قال الذهبي: صَدَقَ رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرحِ والتعديل علم وَرَعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يُضَعِّفُه؛ فإنه أكثر ما يقولُ: منكر الحديث، سكتُوا عنه، فيه نظر، ونحو هذا. وقلَّ أن يقول: فلانٌ كذّاب، أو كان يضَعُ الحديث. حتى إنه قال: إذا قلتُ فلان في حديثه نظر، فهو متَّهم واهٍ. وهذا معنى قوله: لا يحاسبُني الله أني اغتْبت أحدًا. وهذا هو والله غاية الورع(6).
_____________
(1) في ظلال القرآن: (6/3446، 3447).
(2) الجواب الكافي: (ص 137، 138) ت: حسين عبدالحميد.
(3) الجواب الكافي: (ص 220)، ت: حسين عبد الحميد.
(4) صفة الصفوة: (1/549).
(5) صفة الصفوة: (2/213).
(6) سير أعلام النبلاء: (12/439).
ثانيًا : العدل والوسط في المزاح والانبساط :
والناس في هذا الخلق طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط في المزاح والانبساط: وهم الذين يسترسلون في ذلك، ويكثرون منه، حتى يوقعهم في المحذور من المزاح والانبساط؛ كالكذب، والسخرية، والفرح المذموم الذي قد يؤدي إلى البطر والغفلة عن الآخرة، كما يؤدي إلى قلة الوقار والحياء والسقوط من أعين الناس.
الطرف الثاني: أهل التفريط الذين لا يرون الانبساط مع الناس، ولا المزاح المباح، وإنما الذي يغلب على حياتهم الحزن، والانقباض عن الناس، والعبوس في وجوههم.(/51)
الموقف العدل الوسط: وهذا الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؛ حيث التوازن والوسطية في هذا الخلق، فلم يكونوا يفرطون في ضحكهم ومزاحهم، ولم يكونوا منقبضين عن الناس، عابسين في وجوههم، مغلبين الحزن، والغم على حياتهم.
ويحسن في هذا المقام إيراد بعض الأدلة والأمثلة على حسن هذا الموقف واعتداله:
عن أبي هريرة قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا. قال: (إني لا أقول إلا حقًا)(1).
وقال محمد بن النعمان بن عبدالسلام: لم أر أعبد من يحيى بن حماد، وأظنه لم يضحك. قال الذهبي تعليقًا على ذلك: «الضحك اليسيرُ والتبسُّمُ أفضلُ، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين:
أحدهما: يكونُ فاضلاً لمن تركَهُ أدبًا وخوفًا من الله، وحُزنًا على نفسه المسكينة.
والثاني: مذمومٌ لمن فعله حمقًا وكِبْرًا وتصنُّعًا، كما أنَّ مَنْ أكثر الضحكَ استُخِفَ به، ولا ريب أن الضحك في الشاب أخفُّ منه وأعذرُ منه في الشيوخ.
وأما التبسُّمُ وطلاقةُ الوجه فأرفعُ من ذلك كله؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (تبسُّمكَ في وجه أخيك صَدَقة)(2)، وقال جرير رضي الله عنه: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسَّم(3).
فهذا هو خلقُ الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكَاءً بالليل، بَسّامًا بالنهار. وقال عليه الصلاة والسلام: (لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه)(4).
بقي هنا شيءٌ: ينبغي لمن كان ضحوكًا بسّامًا أن يُقصر من ذلك، ويلوم نفسه حتى لا تمجَّهُ الأنفس، وينبغي لمن كان عبوسًا منقبضًا أن يتبسم، ويُحسن خلقه، ويمقت نفسه على رداءة خُلُقه، وكلُّ انحراف عن الاعتدال فَمَذمومٌ، ولا بدَّ للنفس من مجاهدة وتأديب»(5).
ويتأكد هذا المنهج في حق العلماء والدعاة؛ فالناس يميلون إلى الطلق البسام البشوش. روي أن سفيان الثوري كان مَزَّاحًا. وحال الرجل في التبسط بين خواص الجلساء غير حاله مع العامة، ولكل مقام مقال. فقد روى آخر عن سفيان أنه ما لقيه إلا باكيًا، وكما قال الذهبي: كان رأسًا في الزهد والتأله والخوف. وهكذا يكون التوازن والقصد(6).
_______________
(1) الترمذي، في البر والصلة، باب ما جاء في المزاح، وقال: حسن صحيح.
(2) البخاري: (891).
(3) البخاري: (3035)، ومسلم: (2475).
(4) البزار: (1977)، والحاكم في المستدرك: (1/124)، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله عن عبدالله المقبري: واه.
(5) سير أعلام النبلاء: (01/140، 141).
(6) انظر (فقه الائتلاف): (ص 331)، للأستاذ محمود خازندار رحمه الله تعالى.
ثالثًا : العدل والتوازن في الإنفاق:
قال الله عز وجل: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29).
وقال عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم بل عدلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها لا هذا، ولا هذا».
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في وصف أهل التوسط والاعتدال: «وقد مدح تعالى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير موضع من كتابه؛ فقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)، وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29)، وقال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء:26). فَمَنْعُ ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في جانب الإمساك، والتبذير انحراف في جانب البذل، ورضاء الله فيما بينهما. ولهذا كانت هذه الأمة أوسط الأمم، وقبلتها أوسط القبل بين القبلتين المنحرفتين. والوسط دائمًا محمي الأطرف»(1).
ويقول في موطن آخر: «وأما الفرق بين الاقتصاد والشح: أن الاقتصاد خُلُق محمود يتولد من خلقين: عدل وحكمة؛ فبالعدل يعتدل في المنع والبذل، وبالحكمة يضع كل واحد منهما موضعه الذي يليق به، فيتولد من بينهما الاقتصاد؛ وهو وسط بين طرفين مذمومين كما قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)، وقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف: من الآية31).(/52)
وأما الشح فهو خُلُق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعًا، والهلع شدة الحرص على الشيء والشره به فتولد عنه المنع لبذله والجزع لفقده كما قال تعالى: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (المعارج:19-21)»(2).
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند آية الفرقان: «وهذه هي سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ويتجه إليها في التربية والتشريع؛ يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال.
والمسلم - مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة - ليس حرًا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان. إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير. فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الجماعة من حوله؛ فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. والإسراف والتقتير يحدثان اختلالاً في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات، ومثله إطلاقها بغير حساب. ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق.
والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)»(3).
من كل ما سبق نخلص إلى أن القرآن الكريم قد بيّن لنا المنهج العدل الوسط في إنفاق المال وأنه وسط بين طرفين:
الأول: طرف القابضين أيديهم، البخلاء بأموالهم المقترين على أنفسهم وعلى أهليهم فضلاً عن من سواهم.
الثاني: طرف المسرفين المترفين، المفْرِطُين في إنفاق المال الذين بسطوا أيديهم كل البسط.
وبين هذين الطرفين تقف قلة من الناس سلكوا السبيل القويم والتزموا العدل والتوازن؛ وهؤلاء هم عباد الرحمن حقًا.
_____________
(1) الصلاة، لابن القيم: (ص 193، 194).
(2) الروح: (ص 503).
(3) في ظلال القرآن: (5/2578، 2579).
رابعًا : العدل والوسطية والتوازن في حقوق الخلق:
شرع الله عز وجل لعباده حقوقًا بعضهم على بعض؛ فللوالدين حقوق وللأولاد حقوق، وللأزواج حقوق، وللأقارب حقوق، وللجيران حقوق، وللضيف حقوق، ولليتامى والمساكين حقوق، وللأصحاب حقوق، وغير هؤلاء من الخلق.
والعدل في ذلك والتوازن: أن لا يطغى حق على حق، ولا تطغى حقوق هؤلاء على حق النفس، ولا يطغى حق النفس وحقوق الخلق على حق الله تعالى. والموفق من رزقه الله عز وجل الموازنة بين الحقوق كلها.
والناس في الموازنة بين هذه الحقوق وبين حق الله تعالى، أو حق النفس طرفان ووسط:
الطرف الأول: طرف من أفرط في حقوق الخلق، وقام بها حتى شغله ذلك عن حق الله عز وجل، وطاعته والدعوة إليه، والجهاد في سبيله، أو شغله ذلك عن نفسه، ومحاسبتها في تفريطها في جنب الله تعالى.
الطرف الثاني: طرف من فَرَّط في حقوق العباد، حتى قصر في ما يجب عليه نحوهم من حقوق دينية؛ كدعوة أو تعليم أو حقوق صلة وبر، متعللاً بحق الله تعالى أو حق النفس.
الوسط والعدل: وهو من لم يطغ عنده حق على حق، بل وازن بين الحقوق كلها وأعطى كل ذي حق حقه متمثلاً في ذلك التوجيه النبوي الكريم والذي يتمثل في الرواية التالية:
عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتبذِّلة، فقال لها: «ما شأُنك؟» قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال له: كل، فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقومُ، فقال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نَمْ، فلما كان من آخر الليل، قال سلمانُ: قُمِ الآن، فصليَّا، فقال له سلمانُ: إنَّ لرِّبك عليك حقّا، وإنّ لنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعط كل ذي حق حقَّهُ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: (صدَقَ سلمانُ)(1).
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - وهو يتحدث عن الأدب وأنه التوسط في الأمور: «ومثال ذلك - أي التوسط - في حقوق الخلق: أن لا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها، بحيث يشتغل بها عن حقوق الله، أو عن تكميلها، أو عن مصلحة دينه وقلبه، وأن لا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية؛ فإن الطرفين من العدوان الضار. وعلى هذا الحد، فحقيقة الأدب: هي العدل. والله أعلم»(2).
_____________
(1) رواه البخاري، في الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف: (6139).
(2) مدارج السالكين: (3/213) ط. دار طيبة.
خامسًا : العدل والتوازن في التواضع :
التواضع خلق رفيع يحبه الله عز وجل ويحب المتصفين به.(/53)
قال الله عز وجل في وصف عباد الرحمن: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63).
ونهى سبحانه عن ضده، ومقت أهله - وهم أهل التكبر والمرح والبطر - قال سبحانه في وصية لقمان لابنه: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18).
والتواضع المحمود كغيره من الأخلاق وسط بين طرفين مذمومين:
طرف الإفراط: وهو أن يُفْرط في التواضع حتى يوقعه ذلك في المهانة والخسة وابتذال النفس وإذلالها وهوانها. وأما وصف الله عز وجل عباد الرحمن أنهم يمشون على الأرض هونًا؛ فالهَون هنا كما قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «(والهَون) بالفتح في اللغة: الرفق واللين، (والهُون) بالضم: الهوان. فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان، والمضموم: صفة أهل الكفران والنيران»(1).
طرف التفريط: وهو التقصير في التحلي بهذا الخلق، والوقوع في ضده وهو الكبر والتكبر إما على الخلق وإما على الحق بترك الانقياد له.
الوسط والعدل: وهو التواضع الذي وصفه الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى- بقوله: «وهوالتواضع الذي يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوته جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفة النفس وتفاصيلها وعيوب عملها، وآفاتها؛ فيتولد من بين ذلك كله خلق التواضع؛ وهو إنكسار القلب لله وخفض جناح الذلة والرحمة بعباده؛ فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقًا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه»(2).
ومما وصف به الله عز وجل أهل هذا الخلق العدل قوله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: من الآية54).
وما أحسن ما قاله الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن معنى «الأذلة» في الآية؛ قال رحمه الله تعالى: «لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عدَّاه بأداة «على» تضمينًا لمعاني هذه الأفعال؛ فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول»(3).
_____________
(1) مدارج السالكين: (3/108) ط. دار طيبة.
(2) انظر الروح لابن القيم: (ص 495).
(3) مدارج السالكين: (3/108) ط. دار طيبة.
سادسًا : التوسط والعدل والتوازن في التأني والتؤدة :
التؤدة والأناة خلقان محمودان محبوبان لله عز وجل كما قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس: (إن فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)(2). ولكن يكتنف هذين الخلقين المحمودين خلقان مذمومان: أحدهما ينزع إلى الإفراط والآخر إلى التفريط:
فطرف الإفراط: هو الذي يغلب على صاحبه الغلو في التأني حتى تضيع عليه فرص من الخير ينالها، أو فرص من الشر يدفعها، ثم لم يبادر إلى ذلك إغراقًا منه في التأني والتؤدة.
وطرف التفريط: هو الذي يفرِّط في الأخذ بالتؤدة والتأني ويقع بسبب ذلك في العجلة والطيش وطلب الشيء قبل أوانه.
والوسط العدل : وهو من يأخذ بهذا الخلق الكريم بحيث لا يدفعه ذلك إلى الكسل، وتفويت الفرص والمبادرة إليها في وقتها، كما لا يفرِّط فيه فيقع في العجلة والطيش.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والفرق بين المبادرة والعجلة: أن المبادرة انتهاز الفرص في وقتها ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها، فهو لا يطلب الأمور في إدبارها ولا قبل وقتها، بل إذا حضر وقتها بادر إليها، ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته، فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضجها وإدراكها.
والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته؛ فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها، فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين أحدهما: التفريط والإضاعة، والثاني: الاستعجال قبل الوقت. ولهذا كانت العجلة من الشيطان؛ فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشرور وتمنعه من الخير، وهي قرين الندامة؛ فقلَّ من استعجل إلا ندم، كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة»(3).(/54)
ويقول في موطن آخر: «فالعجلة والطيش من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة البداءات استقبل أمره بعلم وحزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة وطيش، وعاقبته الندامة، وعاقبة الأول حمد أمره، ولكن للأول آفة متى قرنت بالحزم والعزم نجا منها، وهي: الفوت؛ فإنه لا يخاف من التثبيت إلاّ الفوت فإذا اقترن به العزم والحزم تمّ أمره. ولهذا جاء في الدعاء الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد)(4)، وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أُتي العبد إلاّ من تضييعهما أو تضييع أحدهما؛ فما أتي أحد إلاّ من باب العجلة والطيش واستفزاز البداءات له، أو من باب التهاون والنمات وتضييع الفرصة بعد مواتاتها فإذا حصل الثبات أولاً والعزيمة ثانياً أفلح كل الفلاح، والله وليّ التوفيق»(5).
_____________
(1) رواه مسلم في الإيمان: (18).
(2) أبو داود: (4810)، وصححه الألباني في السلسلة: (1794).
(3) انظر كتاب الروح لابن القيم: (546، 547).
(4) رواه أحمد: (4/125)، ورواه النسائي: (1304)، وضعفه الألباني في ضعيف النسائي: (70).
(5) مفتاح دار السعادة: (1/146).
سابعًا : الوسطية والعدل والتوازن في الشجاعة :
الشجاعة خلق رفيع، وصاحبه محبوب إلى الله تعالى إذا كانت شجاعته لله تعالى وفي ما يحبه الله؛ ولكنها قد تزيد عن حد الاعتدال والتوسط فتكون تهورًا وجرأة، وقد تضعف وتقل في القلب فيتولد من ذلك الجبن والهلع.
إذن فالشجاعة خلق محمود متوسط بين طرفين مذمومين:
الطرف الأول: الإفراط والغلو في الشجاعة والإقدام، دون النظر في عاقبة ذلك، ويسمى هذا تهورًا، حيث تقدم النفس في غير موضع الإقدام معرضة عما يترتب على إقدامها من المفاسد والشرور وغير مبالية بذلك.
الطرف الثاني: التفريط وضعف القلب وعدم ثباته عند المخاوف؛ وهذا يتولد عنه الجبن والخوف. «والجبن عادة يتولد من سوء الظن وعدم الصبر؛ فلا يظن الجبان بالظفر، ولا يساعده الصبر، فإذا ساء الظن ووسوست النفس بالسوء ضعف القلب وضعف ثباته»(1).
الموقف الوسط المتوازن: وهو الوسط العدل بين الطرفين السابقين؛ فصاحبه ثابت الجنان؛ «لأن الشجاعة من القلب، وهي تتولد من الصبر وحسن الظن ... والشجاعة حرارة القلب وغضبه وقيامه وانتصابه وثباته؛ فإذا رأته الأعضاء كذلك أعانته فإنها خدم له وجنوده، كما أنه إذا ولى ولت سائر جنوده»(2).
ومع ثبات القلب وشجاعة صاحبه إلا أنه لا يتهور ولا يتجرأ على الإلقاء بنفسه في المخاطر دون أن ينظر في عواقبها، ولا يقدم في غير موضع الإقدام.
_____________
(1) كتاب الروح لابن القيم: (ص 501، 502).
(2) انظر كتاب الروح لابن القيم: (ص 501، 502).
ثامنًا : التوازن والعدل والتوسط في الحذر وأخذ الحيطة :
إن أخذ الحيطة والحذر من الأعداء وممن يظن به الشر هو أمر مطلوب، وهو من باب الأخذ بالأسباب والوقاية من الشرور قبل وقوعها؛ قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71)، ولكن هذا الاحتراز قد يختل التوازن فيه، فيميل إما إلى الإفراط ومجاوزة الحد وإما إلى التفريط والإضاعة. والناس فيه طرفان مذمومان ووسط عدل.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط وهم الذين تجاوزوا العدل والتوسط حتى أوقعهم ذلك في سوء الظن بعموم الناس والحذر المفرط الذي أدى بهم إلى الخوف الشديد، وترك بعض مجالات الخير أو السكوت على بعض المنكرات بحجة الحذر والخوف على الدعوة والدعاة.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين لم يأخذوا بأسباب الحيطة والاحتراز ممن يظن به الشر، وإنما غلب عليهم البله وقلة الوعي حتى أحسنوا الظن بكل الناس وأُتوا من حيث لم يحتسبوا.
الموقف العدل والمتوازن والمتوسط: وهو المتوسط بين الطرفين السابقين، الذي يرى الأخذ بأسباب الوقاية والحذر ممن غلب على الظن شره وفساده، لكنه لم يُفْرِط في ذلك بالوسوسة وإساءة الظن بكل شيء، بل الفرق عنده واضح بين الاحتراز وسوء الظن الفاسد.(/55)
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والفرق بين الاحتراز وسوء الظن: أن المحترز بمنزلة رجل قد خرج بماله ومركوبه مسافرًا فهو يحترز بجهده من كل قاطع للطريق، وكل مكان يتوقع منه الشر، وكذلك يكون مع التأهب والاستعداد وأخذ الأسباب التي بها ينجو من المكروه؛ فالمحترز كالمتسلح المتدرع الذي قد تأهب للقاء عدوه وأعدَّ له عُدَّتَه، فهمُّه في تهيئة أسباب النجاة ومحاربة عدوه قد أشغلته عن سوء الظن به، وكلما ساء به الظن أخذ في أنواع العدة والتأهب. وأما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه؛ فهم معه أبدًا في الهمز واللمز والطعن والعيب والبغض؛ يبغضهم ويبغضونه، ويلعنهم ويلعنونه، ويحذرهم ويحذرون منه؛ فالأول يخالطهم ويحترز منهم، والثاني يتجنبهم ويلحقه أذاهم، الأول داخل فيهم بالنصيحة والإحسان مع الاحتراز، والثاني خارج منهم مع الغش والدغل والبغض»(1).
ومن الآيات التي يظهر فيها التوازن بين الحذر والطمأنينة: قوله تعالى في صلاة الخوف: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء:102).
ويجلي هذا التوازن في الآية صاحب الظلال - رحمه الله تعالى - فيقول: «... الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو، وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا التحذير والتخويف، التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قومًا كتب الله عليهم الهوان: (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً).. وهذا التقابل بين التحذير والتطمين، وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!»(2).
_____________
(1) الروح: (ص 504).
(2) في ظلال القرآن: (2/748).
تاسعًا : التوازن والعدل والوسطية في العفو والصفح :
العفو والصفح خلقان محمودان ورد الحث عليهما في الكتاب والسنة؛ قال الله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: من الآية40)، وقال عز وجل: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: من الآية134)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله رجلاً بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)(1).
والناس في هذا الخلق الكريم طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط فيه والغلو: وهم الذين يضعون العفو في غير موضعه؛ إما أن يعفوا عمن لم يستحق العفو؛ كالظالم والمستهتر المتكبر المتغطرس الذي لا يزيده العفو إلا ظلمًا وتمردًا وغرورًا؛ فمثل هذا لا يصلح في حقه العفو، وإما أن يكون العفو عن ذلة ومهانة وعدم قدرة على رد الاعتداء؛ فهذا عفوه ليس محمودًا، وإنما هو عجز ومهانة، وتضييع للحقوق.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في هذا الخلق الرفيع وأصبح ليس لهم هم إلا الانتقام من كل من أخطأ في حقهم، ولو كانت الهفوة منه زلة عابرة، أو خطأً غير مقصود؛ فلا يدفنون لمسلم زلة ولا يصفحون عمَّن ارتكب في حقهم مزلة.
الوسط العدل المتوازن: وهم الذين وضعوا العفو في موضعه الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه؛ فلم يتجاوزوا فيه الحد فيعفوا عن من لا يصلح في حقه العفو، ولم يكونوا ممن عفوهم ناشئ عن ذلة ومهانة وعجز لا عن حلم وعفو واقتدار، ولم يفرِّطوا في هذا الخلق حتى أضاعوه بسبب شهوة الانتقام والانتصار للنفس، بل هم على حظ كبير من هذا الخلق الذي يعفون به عن من ظلمهم أو أخطأ في حقهم ممن لم يكن الظلم مهنته ولا التكبر والغرور صفته، وإنما هو زلة عابرة أو خطأ غير مكرر أو مقصود.(/56)
ويبين الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - الفرق بين العفو الناشئ عن الجود والكرم مع قدرته على الانتقام، وبين العفو الناشئ عن الذل والعجز عن الانتقام فيقول: «والفرق بين العفو والذل: أن العفو إسقاط حقك جودًا وكرمًا وإحسانًا مع قدرتك على الانتقام؛ فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق، بخلاف الذل؛ فإن صاحبه يترك الانتقام عجزًا وخوفًا ومهانة نفس؛ فهذا مذموم غير محمود، ولعل المنتقم بالحق أحسن حالاً منه؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى:39).
فمدحهم بقوتهم على الانتصار لنفوسهم، وتقاضيهم منها ذلك حتى إذا قدروا على من بغى عليهم وتمكنوا من استيفاء ما لهم عليه ندبهم إلى الخلق الشريف من العفو والصفح فقال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40). فذكر المقامات الثلاثة: العدل وأباحه، والفضلَ وندب إليه، والظلمَ وحرمه....
قال بعض السلف في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا، فمدحهم على عفو بعد قدرة، لا على عفو ذل وعجز ومهانة، وهذا هو الكمال الذي مدح سبحانه به نفسه في قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) (النساء: من الآية149)»(2).
_____________
(1) الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في التواضع، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (1652).
(2) الروح: (ص 513، 514) باختصار.
عاشرًا : العدل والتوسط والتوازن في المنافسة والغبطة :
الغبطة والتنافس في الخير خلقان كريمان أمر بهما الشارع الحكيم، وعمل بهما سلفنا الصالح؛ حيث تنافسوا في مرضاة الله وجنته وتسابقوا إليها؛ قال الله عز وجل: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: من الآية26)، وقال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الحديد: من الآية21)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)(1).
ومع جلالة هذا الخلق، فإنه كغيره من الأعمال والأخلاق مكتنف بخلقين مذمومين والناس فيه طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين تجاوزوا الحد في التنافس، فمالوا من العدل الممدوح إلى الغلو والإفراط فيه حتى أوقعهم ذلك في الحسد والحقد للجهة المنافسة، أو السابقة. والحسد خلة ذميمة ساقطة ممقوت صاحبها عند الله عز وجل وعند عباده.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين ضعفت هممهم عن التنافس في الخير ورضوا بالدون، ولم يثر عزائمهم تشمير الصالحين وتسابقهم إلى الخيرات وإلى دار المتقين، فلم ينافسوهم ولم يحرك ذلك في نفوسهم شيئًا.
الموقف الوسط والعدل المتوازن: وهو الذي كان عليه سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - من الهمة العالية، حيث تنافسوا في الصالحات وسارعوا في الخيرات، وتسابقوا إلى الجنات، وتمنى أحدهم أن يكون على مستوى ما عليه أخوه أو يزيد عليه دون حسد ولا حقد، ولا تمنٍ من أحدهم زوال نعمة الله عز وجل الدينية أو الدنيونة عن أخيه المنافس.
«كما كان ذلك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منافسته لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ومحاولة اللحوق به أو سبقه، فلمَّا علم أن أبا بكر رضي الله عنه قد استولى على الإمامة قال: والله لا أسابقك إلى شيء أبدًا. وقال: والله ما سبقته إلى خير إلا وجدته قد سبقني إليه.
والمتنافسان كعبدين بين يدي سيدهما يتباريان ويتنافسان في مرضاته ويتسابقان إلى محابه، فسيدهما يعجبه ذلك منهما ويحثهما عليه، وكل منهما يحب الآخر ويحرضه على مرضاة سيده»(2).
ويفرق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بين الحسد والمنافسة فيقول: «والفرق بين المنافسة والحسد: أن المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك، فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه؛ فهي من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر؛ قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: من الآية26).
وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلبًا ورغبة، فينافس فيه كل من النفسين الأخرى، وربما فرحت إذا شاركتها فيه كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضًا عليه مع تنافسهم فيه؛ وهي نوع من المسابقة، وقد قال تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة: من الآية148)، وقال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الحديد: من الآية21).(/57)
والحسد خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير؛ فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، وتتمنى أنْ لَوْ فَاتَهُ كسبُها حتى يساويها في العدم؛ كما قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: من الآية109).
فالحسود عدو النعمة متمنٍ زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو، والمنافس مسابق النعمة متمنٍ تمامها عليه وعلى من ينافسه؛ فهو ينافس غيره أن يعلو عليه، ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل، والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان، وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسة؛ فمن جعل نصب عينيه شخصًا من أهل الفضل والسبق فنافسه انتفع به كثيرًا؛ فإنه يتشبه به ويطلب اللحاق به والتقدم عليه وهذا لا نذمه»(3).
______________
(1) البخاري: (5025)، ومسلم: (815).
(2) كتاب الروح: (ص 533) بتصرف يسير.
(3) كتاب الروح: (ص 533، 534).
حادي عشر : العدل والوسطية والتوازن في العزلة :
جاء في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي فعل السلف الصالح ما يدل تارة على فضل العزلة وعدم الخلطة بالناس أو تقليلها، وورد تارة أخرى ما يدل على النهي عنها، والحث على الجماعة والاختلاط بالناس. ويحسب الناظر في هذه الأدلة والمواقف أنها متعارضة؛ وحاشا أن يوجد في هذا الدين ما ينقض بعضه بعضًا لأنه من عند الله العليم الحكيم، المبرأ من الجهل والنقص والهوى. ولكن بالجمع بين هذه الأدلة والمواقف يظهر لنا وسطية هذا الدين وعدله وتوازنه في مسألة العزلة؛ حيث لم يأمر بها بإطلاق، ولم ينه عنها بإطلاق؛ وإنما فصَّل في ذلك بحيث يكون الموقف العدل فيها كغيرها من المواقف والسلوكيات: وسط بين طرفين مذمومين.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين رأوا اعتزال الناس اعتزالاً كليًا، واعتزال ما هم عليه من المنكرات والفساد، والبعد عن مناسباتهم وعن الاختلاط بهم حرصًا منهم على صيانة دينهم وأخلاقهم، وتحقيقًا للبراءة من المنكر وأهله، وامتثالاً للنصوص الواردة في فضل العزلة؛ ومنها ما أثنى به الله عز وجل على أهل الكهف بقوله تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16). ولكن هذا أدى بهم إلى ترك الجمع والجماعات وقطع الأرحام، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفتح المجال للمبطلين والمفسدين يجولون ويصولون ويفسدون على الناس دينهم وأخلاقهم وأعراضهم بلا مجاهدة ولا مواجهة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)(1).
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في العزلة وأفرطوا في الخلطة، سواء كانت في الخير أو الشر، ولم يكن لهم خلوات بربهم وبأنفسهم؛ وهؤلاء في العادة يتأثرون بمن حولهم، ويضعف دينهم ويداهنون الناس فيما هم عليه من منكرات ومخالفات. وعن مثل هؤلاء وصنيعهم جاء النهي والتنفير، وجاء الحث على العزلة والتحذير من هذه الأحوال من الخلطة. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «العزلة راحة من أخلاط السوء»(2)، وكما قال الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى -: «من خالط الناس لم يسلم ولم ينج من احدى اثنتين: إما أن يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل، وإما أن يسكت إذا رأى منكًرا أو سمعه من جلسائه، فلا يغير فيأثم ويشركهم فيه»(3).
الوسط العدل المتوازن: وهو الذي لم يجنح إلى الإفراط في العزلة ولا التفريط، وإنما نظر إلى هذه المسألة نظرة متوازنة يلتمس فيها مرضاة الله عز وجل وما هو المحبوب منها لله تعالى.
وأكتفي بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في وصفه لهذا المنهج المتوازن؛ حيث يقول رحمه الله تعالى: «فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها - إما نزاعًا كليًا، وإما حاليًا - فحقيقة الأمر: أن «الخلطة» تارة تكون واجبة أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأمورًا بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة.
وجماع ذلك: أن «المخالطة» إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات؛ كالصلوات الخمس، والجمعة، والعيدين، وصلاة الكسوف، والاستسقاء، ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله.
وكذلك الاختلاط بهم في الحج، وفي غزو الكفار والخوارج المارقين، وإن كان أئمة ذلك فجارًا، وإن كان في تلك الجماعات فجار، وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانًا؛ إما لانتفاعه به، وإما لنفعه له، ونحو ذلك.(/58)
ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره، ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره؛ فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته؛ كما قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته؛ يكف فيها بصره ولسانه. وإما في غير بيته.
فاختيار المخالطة مطلقًا خطأ، واختيار الانفراد مطلقًا خطأ، وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا، وما هو الأصلح له في كل حال؛ فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم»(4) ا.هـ.
وبنحو ذلك قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: «فإذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقاً بالتفضيل نفيًا وإثباتًا خطأ، بل ينبغي أن ينظر إلى الشخص وحاله، وإلى الخليط وحاله، وإلى الباعث على مخالطته، وإلى الفائت بسبب مخالطته من الفوائد، ويقاس الفائت بالحاصل. فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الأفضل»(5).
ولذلك رأينا الإمام الخطابي - رحمه الله تعالى - بعد أن ساق جملة من النقولات التي تمدح العزلة وتحسنها استدرك وأفرد في كتابه العزلة بابًا سماه: «باب في لزوم القصد في حالتي العزلة والخلطة» قال فيه: «قد انتهى منا الكلام في أمر العزلة إلى حيث شرطنا أن نبلغه، وأوردنا فيها من الأخبار ما خفنا أن نكون قد حسَّنا معه الجفاء من حيث أردنا الاحتراز منه، وليس إلى هذا أجرينا، ولا إياه أردنا؛ فإن الإغراق في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها، والحسنة بين السيئتين. وقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإغراق في عبادة الخالق - عز وعلا - والحمل على النفس منها ما يؤودها ويكلها؛ فما ظنك بما دونها من باب التخلق والتكلف؟»(6). ا.هـ.
تنبيه:
إن القول بأن العزلة التامة للناس فيها مجانبة للوسطية والعدل لا يعني أنها لا تُمدح في بعض الأحوال أو الأمكنة أو الأزمنة، بل قد تكون في بعض الأحوال هي الموقف الحق الوسط العدل.
وأُمَثِّل لذلك بالأحوال التالية:
الحالة الأولى: عند فشو المعاصي وانتشارها انتشارًا واسعًا يتعذر علي بعض الناس حينها القدرة على الإنكار ولا يوجد المعاون، ولا يوجد المكان الصالح الذي يهاجر إليه، فإنه يشرع والحالة هذه لبعض الأفراد دون بعض العزلة؛ وذلك حين لا يستطيع الفرد الصبر على رؤيتها، فيتعجل بإنكارها بصورة شديدة غير منضبطة، أو أن المنكرات تعكر صفو حياته، ويعيش برؤيتها في هم وحزن، أو أنه يخاف على نفسه من الوقوع في المعاصي والفواحش خوفًا ظاهرًا قويًا. وهذه عزلة مقيدة بأحوال الأفراد وليست عزلة مطلقة لكل إنسان.
الحالة الثانية: أيام الفتن واختلاف المسلمين وتفرق كلمتهم واقتتالهم:
وفي هذه الأحوال يشرع اعتزال الناس حتى تنجلي الفتنة. ومن أراد لنفسه السلامة في الدنيا والآخرة فليعتزل الناس أيام الفتن بقلبه ولسانه ويده ولا يُلوِّث نفسه بشيء من كدرها وغبارها؛ وهذا ما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إليه عند هيجان الفتن.
قال عثمان الشحام: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو في أرضه، فدخلنا عليه، فقلت: هل سمعت أباك يحدِّث في الفتن حديثًا؟ فقال: نعم، سمعت أبا بكرة يحدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة: القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت، أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه)، قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: (يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟...)(7).
وهذا ما كان عليه سلف الأمة أيام الفتن:
فعن ابن سيرين قال: لما قيل لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ألا تقاتل؟ إنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك، قال: «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد»(8).
وعن يزيد بن أبي عبيد - رضي الله عنه - قال: «لما قتل عثمان خرج سلمة بن الأكوع إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة، وولدت له أولادًا، فلم يزل بها، حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة، فمات بها» أخرجه البخاري، وأخرج هو ومسلم «أن سلمة دخل على الحجاج، فقال: يا ابن الأكوع، أرتددت على عاقبيك؟ تعرَّبت؟ قال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو»(9).(/59)
الحالة الثالثة: عند فساد الزمان وفساد الناس ومروج عهودهم وأماناتهم؛ وذلك حين يتعذر الإصلاح في الناس لاختلافهم وتناحرهم ورقة أديانهم؛ أي حين يطبق الانحراف التام العام والغربة الشاملة؛ فحينئذ يشرع للمسلم أن يعتزل الناس ويعتني بنفسه، كما يعتني بأمر الخاصة من أصحابه وخلصائه، ويهتم بصلاح شؤونهم، ويذر أمر العامة. وهذه الحالة إما أن تكون في مكان دون مكان؛ كما هو الحال في بعض الأماكن اليوم، وإما أن يشمل الانحراف العام كل الأرض وتستحكم الغربة والجاهلية فيها كلها؛ وهذا لا يكون إلا قرب قيام الساعة، والله تعالى أعلم.
وهذا المعنى هو الذي جاء في الحديث الذي رواه عبدالله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كيف بكم وبزمان - أو يوشك أن يأتي زمان - يغربل الناس فيه غربلة؛ تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه. فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم)(10).
ويعلق صاحب كتاب: (العزلة والخلطة) - حفظه الله تعالى - على هذا الحديث فيقول: «ومحصل هذه الصفات كلها: أن لا فائدة من الأمر والنهي والإصلاح في مجال العامة وهم الدهماء والجمهور، وإن ترأَّسوا وسادوا، بل ربما ترتب على الأمر والنهي ضرر بأن يتضاعف المنكر ويزداد، أو يُؤذَى الآمر في نفسه، أو أهله، أو ماله.
ولعل هذا هو الضابط العام لتلك الحال: ألا يكون ثَمَّ فائدة ترجى من الدعوة والأمر والنهي بين هؤلاء المسمين بـ «العامة»، وفي مقابل التحقق من عدم النفع، هناك توقع لحصول الضرر الديني والدنيوي للآمر ولغيره. ولا شك أن الأصول العامة تقتضي ترك الأمر والنهي - حينئذ - دفعًا للمفسدة المتوقعة التي لا توجد مصلحة تكافئها في فضل الأمر والنهي؛ فيكون الحديث مطردًا مع القاعدة العامة في المصلحة والمفسدة»(11).
______________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد: (388)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: (300).
(2) العزلة والانفراد لابن أبي الدنيا: (ص 60).
(3) المصدر السابق نفسه: (ص 67).
(4) مجموع الفتاوى: (01/425).
(5) مختصر منهاج القاصدين: (ص 117).
(6) العزلة للخطابي: (ص 97).
(7) مسلم في الفتن، باب نزول الفتن: (2887).
(8) مجمع الزوائد: (7/584).
(9) البخاري في الفتن، باب التعرب في الفتنة، ومسلم: (1862).
(10) أبو داود في الملاحم: (4342)، وابن ماجة في الفتن: (3957)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (3648).
(11) العزلة والخلطة للشيخ سلمان العودة - حفظه الله تعالى -: (ص 70).
ثاني عشر : الوسطية والعدل والتوازن في الغيرة :
الغيرة بمعناها العام هي الغيرة على دين الله عز وجل ومحارم الله أن تنتهك. ولكننا هنا نريد الغيرة بمفهومها الخاص؛ ألا وهي الغيرة على المحارم والأعراض.
فهي خصلة كريمة من خصال المؤمنين، ومن سمات الرجولة والقوامة، والعزة والأصالة. ولا تفقد إلا عند أهل الخسة واللؤم والذلة والمهانة والدياثة. ولما تعجب الصحابة من غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني»(1).
والغيرة المحمودة كغيرها من الأخلاق وسط بين طرفين مذمومين:
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو: وهم الذين أفرطوا في غيرتهم على محارمهم وأعراضهم حتى أوقعهم ذلك في الوساوس والشكوك والخواطر الرديئة فأتعبوا أنفسهم، وأتعبوا محارمهم. ومنشأ هذا الغلو: الإفراط في الظن السيء، والتجسس والتحسس؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا...) (الحجرات: من الآية12).
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في أمانتهم وقوامتهم وغيرتهم وحميتهم على أعراضهم ومحارمهم، وضيعوا أماناتهم ورعيتهم التي استرعاهم الله إياها، ولم يبالوا بما يفعله نساؤهم ومولاياتهم مما يخدش الحياء، ويعرضهن لسهام المفسدين، ويجرأ أهل الشهوات والقلوب المريضة عليهن. وقد ظهرت في زماننا اليوم صور من ضعف الغيرة على النساء، وتسلط النساء وغلبتهن على أوليائهن، حتى أصبحت المرأة في بعض البيوت لها القوامة على البيت بما فيه من رجال ونساء، وصارت المرأة من زوجة أو بنت أو أخت تذهب إلى السوق وحدها، وتخلو بأصحاب المحلات، وتركب مع السائق وحدها، وتجلس مع الرجال الأجانب من أقاربها أو أقارب الزوج دون حشمة تذكر. كل ذلك يتم أمام ناظري الزوج أو الأب أو الأخ دون أن يحرك ذلك عندهم ساكنًا، أو أن تتحرك الغيرة في قلوبهم. نسأل الله عز وجل العافية في الدنيا والآخرة.(/60)
الوسط العدل: وهم الذين حفظوا أماناتهم ورعيتهم التي استرعاهم الله إياها من أزواج وأخوات وبنات وموليات، فغاروا عليهن وصانوهن من كل ما يخدش أعراضهن وحياءهن، وبذلوا ما في وسعهم من التربية الصالحة لهن، وأبعدوا عنهن كل ما يفسد عليهن دينهن وأخلاقهن. مع إشعارهن بالثقة وإحسان الظن بهن، وقطع الطريق على الشيطان وكيده ووسوسته التي توقع من استرسل معها في الشك والوساوس الرديئة. فهذا دأب الشيطان مع الإنسان؛ إن لم يفلح معه في التفريط وقلة الغيرة أتاه من الغلو والإفراط في الغيرة والشك والوساوس الرديئة.
___________
(1) البخاري في الحدود: (6846)، ومسلم في اللعان: (1499).
ثالث عشر : التوازن والعدل والوسطية في سلامة القلب :
لقد مدح الله عز وجل نبيه ورسوله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله: (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الصافات:84)، وبين أنه لن ينجو من عذاب الله تعالى يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88، 89).
والقلب السليم هو الذي سلَّمه الله تعالى، من كل شبهة تعارض خبر الله تعالى ومن كل شهوة تعارض أمره سبحانه. ومن ذلك ما اشتهر عند الناس أن صاحب القلب السليم هو الذي علم الشر واجتنبه وسلم الناس من شره، ولكن هذا العمل القلبي النظيف يكتنفه طرفان مذمومان:
الطرف الأول : الإفراط أو الغلو في سلامة القلب حتى ينقلب إلى بله وغفلة وانخداع لأهل الخداع، وقلة معرفة بالشر وأهله.
الطرف الثاني: التفريط والجفاء في التحلي بهذا الخلق الرفيع حتى يصبح القلب مأوىً للشبهات والشهوات والخداع والأحقاد وإرادة الشر والمكروه بالغير.
الوسط والعدل: وهو الذي من الله عليه بقلب سليم مطمئن يحرق ما يرد عليه من الشبهات والشهوات، ولا يحمل حقدًا ولا مكروهًا ولا غدرًا ولا خيانة لمسلم. في الوقت الذي هو فيه يقظ لخداع الخادعين، عارف بالشر وأهله، حذر منهم ومن كيدهم.
ويفرق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بين سلامة القلب والبله والتغفل فيقول: «والفرق بين سلامة القلب والبَلُه والتغفل: أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعلم به.
وهذا بخلاف البله والغفلة؛ فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا لا يحمد إذ هو نقص، وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسلامتهم منه. والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشر سليمًا من إرادته.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لست بخب ولا يخدعني الخب)، وكان عمر أعقل من أن يُخدع وأورع من أن يخدع، وقال تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)؛ فهذا هو السليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة من مرض الشبهة التي توجب اتباع الظن، ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السليم الذي سلم من هذا وهذا»(1).
_____________
(1) كتاب الروح: (ص 517).
رابع عشر : التوازن والعدل والوسطية في الحياء :
الحياء خير كله، وحقيقته: خُلُقٌ يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق(1). ولما مر الرسول صلى الله عليه وسلم برجل وهو يعظ أخاه في الحياء قال: (دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)(2)، وقال: (الحياء لا يأتي إلا بخير)(3)، (وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)(4). ومع حسن هذا الخلق، إلا أنه كغيره من الأخلاق الحميدة يكتنفه طرفان مذمومان وهو وسط بينهما.
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو الذين وصل بهم الإغراق في الحياء إلى العجز والمهانة والجهل، والتفويت على النفس مصالحها الدنيوية والأخروية، ومن آثار ذلك الرضى بالدون والبقاء في مؤخرة الركب، والتبعية للغير، وتضييع الحقوق.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين قل حياؤهم وتجرأوا على فعل ما يعاب وفعل ما يقبح؛ دون حياء من الله عز وجل، ولا من الناس، ولم يبالوا فيما يقولونه أو يفعلونه مروءة ولا آدابًا، ولا صغيرًا ولا كبيرًا.
الوسط العدل: وهم الذين قاموا بهذا الخلق الرفيع كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، فاستحيوا من الله تعالى بحفظ حقوقه وحدوده، واستحيوا من الناس؛ فلم يفعلوا أو يقولوا ما يعابون به من قول أو عمل يخل بالآداب أو المروءات. كما أنهم مع ذلك لم يمنعهم الحياء من السعي في مصالحهم الدينية والدنيوية والصدع بالحق، والسؤال عما أشكل عليهم في دينهم ودنياهم.(/61)
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد ... وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة؛ بحيث يطمع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه؛ ويزعم أن الحامل على ذلك الحياء. وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس»(5).
____________
(1) انظر مدارج السالكين: (2/601) ط. دار طيبة.
(2) البخاري: (24)، ومسلم: (36).
(3) البخاري: (6117)، ومسلم: (37).
(4) البخاري: (6119)، ومسلم: (2320).
(5) مدارج السالكين: (3/76، 77) ط. دار طيبة.
خامس عشر : الوسطية والعدل والتوازن في الأخذ بالقواعد الشرعية:
استنبط الفقهاء من الكتاب والسنة قواعد شرعية يحاكمون إليها ما يجد في حياة الناس من أقضية وأحداث ونوازل، ليصلوا بذلك إلى الحكم الشرعي المنطلق من هذه القواعد ومقاصد الشريعة. ومع ذلك فقد تجرأ على هذه القواعد وخاض فيها من ليس من أهل العلم والاجتهاد المؤهلين للفتيا وبيان الأحكام الشرعية؛ فزادوا فيها ونقصوا، وأفرَّطوا، في تطبيقاتها وفرَّطوا، وحرَّموا وحلَّلوا، وحصل من جراء ذلك غلو وتضييق على الناس، أو تفريط وإضاعة ونشر للشر والفساد. ووفق الله عز وجل الربانيين من أهل العلم إلى التوسط في تناول هذه القواعد فطبقوها بعدل وتوازن وضبطوها بضوابط شرعية(1) تحميهم من التطرف نحو الغلو والإفراط أو التطرف نحو التفريط والإضاعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور في أغلب الناس؛ مثل تقابلهم في بعض الأفعال يتخذها بعضهم دينًا واجبًا أو مستحبًا أو مأمورًا به في الجملة، وبعضهم يعتقدها حرامًا مكروهًا أو محرمًا أو منهيًا عنه في الجملة»(2).
وأذكر على سبيل المثال قاعدة شرعية عظيمة قام عليها ربع الأحكام في هذا الدين؛ ألا وهي: (قاعدة سد الذائع)؛ يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن هذه القاعدة: «وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه. والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة. فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين»(3).
وقد ذكر - رحمه الله تعالى - تسعة وتسعين وجهًا للدلالة على القاعدة؛ وهذه الوجوه هي في حقيقتها أحكام شرعية ثابتة بالكتاب أو السنة، ويظهر فيها أن السبب في تشريعها هو سد الذرائع، فليرجع إليها(4).
وقد انقسم المتناولون لهذه القاعدة الشرعية إلى طرفين ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو: وهم الذين أفرطوا في تطبيقات هذه القاعدة، وتوسعوا فيها، حتى ضيقوا على الناس بتحريم بعض المباحات نظراً إلى أنها قد تؤدي إلى محرم، ولو على وجه الندرة والظن الضعيف؛ كمن يحرم بيع العنب على الناس لأن من بينهم من قد يصنع منه خمرًا أو يحرم بيع السلاح على الناس في غير أيام الفتن خشية أن يستخدم في العدوان على الناس.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرَّطوا في اعتبار المآلات، وأهملوا استخدام هذه القاعدة الشرعية ولم ينظروا إلى ما يؤول إليه المباح وقصروا النظر على الفعل نفسه؛ فإن كان مباحًا فهو مباح وإن غلب على الظن أنه يقود إلى محرم. فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة، وعُطلت هذه القاعدة الشرعية القائمة على أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام وأنَّ الوسائل لها حكم المقاصد؛ فنجد هؤلاء مثلاً لا يمانعون أن يباع العنب على رجل يغلب على الظن من حاله وسيرته أنه يصنعه خمرًا، ولا يمانعون من بيع السلاح أيام الفتن، ولو غلب على الظن أن يستخدم في قتال المسلمين؛ لأنهم إنما نظروا إلى أصل عقد بيع العنب والسلاح وهو الإباحة، ولم ينظروا إلى مآلات الفعل ومقاصد الفاعلين.
ومن الأمثلة المعاصرة: تجويز من جوز قيادة المرأة للسيارة قائلاً: إن الأصل مباح؛ مثلها مثل قيادتها للبعير والحمار، وغض الطرف بقصد أو غير قصد عما يترتب على قيادتها للسيارة من أمور عظيمة لا يتسع المقام إلى ذكرها. وأحيل القارئ الكريم إلى ما أفتى به الإمامان الراحلان الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين - رحمهما الله تعالى - عندما سُئلا عن قيادة المرأة للسيارة فأفتيا بالتحريم وبنيا فتواهما على هذه القاعدة الشرعية التي نحن بصددها وذكرا المفاسد الكثيرة التي يؤول إليها هذا الأمر. وبناءً على مبدأ سد الذريعة حرما قيادة المرأة للسيارة.(/62)
أهل الموقف الوسط العدل المتوازن: وهم الذين تناولوا هذه القاعدة بتوازن ووسطية؛ فلم يلغوها من الاعتبار كما فعل المفرِّطون، ولم يغلوا فيها حتى ضيقوا من الدين ما هو موسعًا كما فعل المفْرِطون. بل أوقعوها في مكانها اللائق بها. فمتى ما غلب على الظن أن الفعل المباح يؤول إلى مفاسد محرمة حرموه بناء على هذه القاعدة والتي ذكر لها الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - تسعة وتسعين مثالاً من الكتاب والسنة. ومتى ما غلب على الظن أن فعل ذلك لا يؤول إلى أمور محرمة لم يحرموه بناء على أن شروط تطبيق هذه القاعدة لم تتوفر. وأسوق فيما يلي فتوى للصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن تدل على العناية بهذه القاعدة والفقه العظيم في تطبيقها.
نقل القرطبي - رحمه الله - في تفسيره قال: «روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: ألمن قتل مؤمنًا متعمدًا توبة؟ قال: لا، إلا النار، قال: فلما ذهب. قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة، قال: إني لأحسبه رجلاً مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا. قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك(5).
______________
(1) انظر تفصيل بعض هذه القواعد وضوابطها في كتاب (فاستقم كما أمرت) للمؤلف: (ص 252-292).
(2) مجموع الفتاوى: (3/359).
(3) اعلام الموقعين: (3/159).
(4) انظر هذه الوجوه في إعلام الموقعين: (3/137-159).
(5) تفسير القرطبي: (5/333).
سادس عشر: التوازن والعدل والتوسط في عداء الكفار والتعامل معهم:
قال الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8، 9)، وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)، ومع وضوح هذا المنهج الرباني في العلاقة مع الكفار حسب أحوالهم إلا أن الخلل والتطرف قد تطرق لهذا النمط من العلاقات عند كثير من الناس، وأصبح الناس فيها طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الغو والإفراط في عداء الكفار؛ حيث أدى بهم ذلك إلى مجانبة العدل والقسط معهم وبخاصة المسالم منهم. وفي الآيات السابقة أمر بالعدل والقسط مع الكفار، والبر بهم وبخاصة إذا كانوا أقارب وأرحام ما داموا ليسوا حربيين.
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير آية الممتحنة: «وقوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)، أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين؛ كالنساء والضعفة منهم، (أَنْ تَبَرُّوهُمْ)، أي تحسنوا إليهم (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)، أي: تعدلوا (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء - هي بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قَدَمَت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفاصلها؟ قال: (نعم، صِلْي أمك)؛ أخرجاه(1).
وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا عبدالله بن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت، حدثنا عامر بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه قال: قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء ابنة أبي بكر بهدايا: صِنَاب وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها(2)»(3).
وقد تصل الحال عند هؤلاء المفْرِطين إلى أن يعدوا التعامل مع الكافر المسالم بتجارة، أو بيع أو شراء، أو علم دنيوي ضروري، أو نحو ذلك من المعاملات إنما هو ضرب من ضروب الموالاة المحرمة للكافر، وأن عداوته وبغضه والبراءة منه تقتضي قطع أي صلة أو تعامل معه.
وقد سبقت الإشارة إلى هذا الموقف الخاطئ في مبحث الوسطية في الولاء والبراء(4).(/63)
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وأهل هذا الموقف هم المتساهلون في عدائهم للكفار، والبراءة منهم، حتى تجاوزوا العدل والقسط والبر مع المسالم منهم إلى المداهنة والمحبة لهم، والخوف منهم، وتعظيمهم وتقديمهم على المسلمين، والانبهار والاغترار بما هم عليه من دنيا وقوة وصناعات متقدمة، وائتمانهم على أموال المسلمين وأعراضهم وعقولهم وأسرارهم؛ بل وصلت الحال ببعضهم إلى التدسس بعقيدته والحياء من إظهارها ودعوة الناس إليها.
أهل الموقف الوسط العدل المتوازن: وهم أهل السنة والاتباع الذين اقتفوا أثر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والتابعين له بإحسان، الذين تبرؤا من الكفر وأهله، وأعلنوا بكل فخر واعتزاز عقيدة الإسلام، ودعوا الناس إليها وجاهدوا في سبيلها. فمن أسلم من الكفار فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وهو أخ من إخوانهم المسلمين له حقوق وعليه واجبات. ومن لم يدخل في الإسلام وصالح المسلمين أو عاهدهم أو دفع الجزية مقابل أن يعيش آمنًا داخل الدولة الإسلامية فإن الواجب نحوه العدل والقسط وإن كان قريباً فله البر والإحسان. ولا يجوز ظلمه لكونه كافرًا، وجاز التعامل معه ببيع أو شراء أو إجارة أو غيرها من المعاملات في ضوء الشريعة الإسلامية، بشرط أن لا يكون في ذلك تقوية لاقتصاد الكفار المحاربين.
وهذا العدل وضمان الأمن للكافر المسالم هو ما أمر الله عز وجل به وطبقه المسلمون في تاريخهم الطويل في فتوحاتهم وتعاملاتهم مع الذين بقوا على دينهم من أهل تلك البلاد المفتوحة؛ قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8). ومن تطبيقات هذا المنهج الرباني العادل في حياة الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم ما يلي:
لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة رضي الله عنه على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، أرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: «والله لقد جئتكم من أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض»(5).
لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد. فلما هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المفلسين فلعبوا وأدوا الخراج.
فهؤلاء اليهود والنصارى الذين قال الله عنهم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: من الآية120) يقولون للمسلمين الذين عدلوا فيهم: (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ...) وهل فوق هذا النصر من نصر(6).
ويُذكر أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى واليه على البصرة عدي بن أرطأة يوصيه، ونقتطف من رسالته بعض المقاطع؛ يقول: «ثم انظر مَن قِبَلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجْر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه .. وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك في كبرك، قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه»(7).
ويذكر في مواقف ابن تيمية السامية في الإنصاف حتى مع غير المسلمين أنه حين سعى بإطلاق سراح أسرى المسلمين من التتار، وعلم أنهم لن يطلقوا معهم أسرى أهل الذمة، أصر على إطلاق الجميع معًا وقال: «بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفكهم، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة»(8).
_____________
(1) البخاري: (2620)، ومسلم: (1003).
(2) المسند: (4/4)، والحاكم: (2/485) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) تفسير ابن كثير عند الآية (9) من سورة الممتحنة.
(4) انظر: (ص 105) من هذا الكتاب.
(5) تفسير ابن كثير: (2/412) وروى بعضه الإمام أحمد: (3/367)، وأبو داود: (3410)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح: (2910).
(6) انظر كتاب الجهاد في سبيل الله، عبدالله القادري: (2/143).
(7) أحكام أهل الذمة لابن القيم: (1/38)، ت: صبحي الصالح.(/64)
(8) حياة شيخ الإسلام، للشيخ محمد بهجت البيطار: (ص 15).
سابع عشر : التوازن والعدل والوسطية في التخطيط والتنظيم :
إن كل مشروع من مشاريع الدنيا والدين يحتاج ليتم تنفيذه إلى دراسة وتخطيط وتحديد للأهداف والوسائل، ثم يتبع ذلك توزيع للمهمات والأولويات والأدوار، وتنظيم الأعمال التي من شأنها تحويل الخطط والدراسات النظرية إلى واقع وعمل. وهذا كله يدخل في الأخذ بالأسباب وبذل الوسع في ذلك؛ لأن من سنة الله سبحانه أن رتب المسببات على أسبابها، والنتائج على مقدماتها، والأهداف على وسائلها؛ وكل ذلك خاضع لمسبب الأسباب سبحانه ومشيئته النافذة، ومع أهمية التخطيط والتنظيم لأي فكرة أو مشروع إسلامي دعوي فإن الناس منقسمون فيها إلى طرفين ووسط.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين غلوا، وأغرقوا في التنظير والتخطيط حتى تمر الأيام والشهور بل والسنوات وهم ما زالوا في تخطيطهم ودراساتهم يقدمون رِجْلاً ويؤخرون أخرى؛ لا تراهم إلا مترددين خائفين من الإقدام على العمل مفْرِطين في أخذ الحيطة والحذر، مفوتين عليهم الفرص الكثيرة تمر عليهم دون أن يستثمروها، مبررين عملهم هذا بالتثبت والتأني والحكمة. (ارجع إلى مبحث التوازن والعدل في الحلم والأناة)(1).
ثم إذا قدر لهؤلاء أن ينتقلوا من التخطيط إلى التنفيذ والعمل فإنهم يغلون في تنظيم هذا العمل ويفرطون في وضع الترتيبات الإدارية والتنظيمية الدقيقة التي تعرقل العمل، ولا تمنح للفرد أن يستخدم عقله وطاقته، وإنما يبقى رهين أطر تنظيمية ومركزية تقيد الأعمال وتجعلها تراوح في مكانها إن لم تتراجع. كما أن الإفراط والغلو في التنظيم والترتيب قد يوقع أهله - وبخاصة أصحاب المشاريع الدعوية الجماعية - في حزبيات مقيتة وولاءات ملوثة؛ بحيث يصبح عند أهل التنظيم الواحد تحزب وتعصب لبعضهم يوالي بعضهم بعضًا، ويناصر بعضهم بعضًا؛ ويعادون أو ينابذون من سواهم من الطوائف الإسلامية؛ لا على أساس الإسلام، وإنما على أساس الحزب أو التنظيم؛ وهذا غلو وتطرف.
الطرف الثاني: أهل الإفراط والإضاعة: وهم الذين أهملوا الأخذ بالأسباب فأهملوا التخطيط والدراسة المتأتية التي تسبق العمل والتنفيذ، فقامت مشاريعهم على الفوضى والتخبط، فكانت النتيجة المترتبة على ذلك ضياع الأوقات والأموال والأعمال؛ إن لم يكن أكثر من ذلك من المفاسد العظيمة والشرور الجسيمة. وهذا الطرف يقابل الطرف السابق أو هو ردة فعل له.
وكما أنهم أهملوا وفرطوا في الدراسة والتخطيط فكذلك أهملوا الأخذ بوسائل التنظيم والترتيب. فجاءت أمورهم نتاج أعمال فوضوية، وتصرفات فردية تفتقد الشورى والروح الجماعية. بل واتهموا أي عمل منظم مدروس بأنه عمل حزبي بدعي.
الوسط العدل المتوازن: وهم الذين اقتفوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين الذين أخذو بالأسباب والسنن الإلهية، فقامت أمور الدعوة والجهاد والمال عندهم على الدراسة والتخطيط، وحولوا ذلك إلى عمل مثمر مرتب يحكمه التنظيم وتوزيع الأدوار وتفعيل الطاقات، دون عرقلة للعمل ولا فوضى وفردية. إذن فأهل هذا الموقف لم تشغلهم الدراسة والتخطيط عن العمل والتنظيم، وتفعيل الطاقات والأدوار، ولم تنطلق أعمالهم وتنظيمهم دون دراسة وتخطيط، ولم يجعلوا أطرهم التنظيمية حجر عثرة لأعمال دعوية وخيرية، أو تعطيلاً للطاقات، أو حزبية مقيتة تلوث عقيدة الحب في الله والبغض في الله.
_____________
(1) ص (169-171).
ثامن عشر : التوازن في تقويم الأعمال الدعوية والجهادية :
التقويم: كلمة تحتمل معنيين كلاهما مقصود: التقويم بمعنى النقد وبيان قيمة الشيء، والتقويم بمعنى التعديل والتوجيه. وهما أمران متلازمان يكمل أحدهما الآخر(1)، والذين يقوِّمون الحركات الدعوية والجهادية في الأمة اليوم طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو في المدح والثناء: وهم الذين يعرضون هذه الدعوة أو تلك على أنها الدعوة المثالية وأنها امتداد لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. وتضطرهم هذه النظرة الغالية إلى تبرير للمواقف والأخطاء تبريرًا متكلفًا، حتى لكأنهم يعتقدون العصمة في القائمين عليها، كما يدفعهم ذلك إلى النظر في اجتهادات هذه الدعوة أو تلك على أنها الأمل الوحيد لنهضة الإسلام والمسلمين. وهذا بدوره يجعلهم ينظرون لغيرهم من الدعوات نظر الدونية وضعف الفهم والوعي والتربية والتخطيط.
الطرف الثاني: أهل الغلو والإفراط في النقد والتقويم: وهم الذين ينظرون إلى الدعوات الإصلاحية والحركات الجهادية نظرة تشاؤم وتحامل؛ فلا يرون إلا العيوب، فإن علموا شرًا أذاعوه وضخموه وإن علموا خيرًا كتموه أو أولوه أو أساءوا الظن بفاعليه.
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحاً ... ... عنيِّ وما سمعوا من صالح دفنوا
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم(2)
وأهل هذا الطرف يقابلون الطرف الأول.(/65)
أهل الموقف الوسط العدل: وهم الذين تناولوا تقويم هذه الدعوات ودراستها دراسة عادلة متوازنة بعيدة عن الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم، وبعيدة عن الإفراط في الحب أو الكره، وذكروا ما لهذه الدعوات من خير كثير وبلاء عظيم وأثر كبير في الأمة، مع الإقرار بالأخطاء والعثرات والاستفادة منها في تجنبها ومناصحة أهلها.
_____________
(1) مقالات في المنهج: (ص 90).
(2) المصدر السابق: (ص 90) وما بعدها.
تاسع عشر: الوسطية والعدل والتوزان في نقد المخالف ومعالجة الأخطاء:
هذا المبحث في هذه الرسالة من أهم مباحثها وأطولها؛ وذلك لمساسه بالواقع، وما نعاني فيه من فرقة ومنابذة أفرزهما المنهج الخاطئ في النقد ومعالجة الأخطاء والجور مع المخالف؛ في وقت نحن في أمس الحاجة إلى الائتلاف والوحدة والاجتماع، لا إلى الفرقة والاختلاف، كما أننا في حاجة إلى أن يرحم بعضنا بعضًا، وأن يشفق بعضنا على بعض، وأن نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويناصح بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه. وإن كان الأمر مما يسعه الاجتهاد عذر بعضنا بعضًا فيه.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين. والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل لحفظ الفرع»(1).
ونظرًا لأهمية هذا الأمر ومسيس الحاجة إلى طرحه ومداولته بين الدعاة فسوف أطيل النفس فيه - إن شاء الله تعالى - محاولاً تغطيته من جوانبه المختلفة بإذن الله تعالى، فأرجو من القارئ الكريم أن يتحمل هذه الإطالة التي سأسعى إلى أن لا تكون مملة.
ومن أهم البواعث على التطويل في هذا الموضوع ما يلي:
1- «قلة الفقه بأنواع الخلاف، وما يسوغ منه وما لا يسوغ، وما ينكر منه، وما يسكت عليه، أو ينصح فيه، وعدم التمييز بين الخلاف في الأصول أو الفروع، واعتبار أصنافه كلها بمنزلة خلاف الأصول؛ كل ذلك أدى إلى كثير من الظلم والإجحاف والفرقة والاختلاف، فكان لا بد من عودة إلى ذلك الفقه الذي ينصف المخالفين ليعودوا مؤتلفين.
2- العصبية التي أهدرت الأوقات وأضاعت الجهود انحيازًا إلى مذهب أو إمام أو رأي فأورثت الفرقة والتباغض، وكان لا بد من تخفيف حدة العصبيات بالإنصاف، ولاءً للحق وتطييبًا لقلوب المخالفين.
3- عموم الإجحاف في تقويم الرجال والجماعات والكتب بسبب تعظيم الهفوات، وغياب الميزان العدل، وعدم اعتبار غلبة المحاسن، ولعدم التعامل بالاحترام اللائق مع المخالف، وبسبب التجريح الظالم لأهواء نفسية أو لمبالغة في تصوير المساوئ، بسبب كل ذلك عمَّت صور الظلم والتنافر فكان لا بد من ضوابط للتقويم تحقق الإنصاف وتشيع روح الألفة.
4- افتقاد كثير من المختلفين للموازنة بين المصالح والمفاسد في التعامل مع المخالفين، وعدم الخبرة بالأساليب الحكيمة في الدعوة، وفي الأمر والنهي؛ أدى إلى تظالم وتقاطع. فرأينا أن العودة إلى منهج أهل السنة تنصف المخالفين وتزيل القطيعة.
5- رجوع كثير من أسباب تظالم المختلفين إلى عدم إعذار المخالف بجهله، أو اجتهاده، وتأوله، أو قيام الشبهة لديه، وعدم قيام الحجة عليه مما أدى إلى تأثيم المخالف، والحكم بضلاله - وقد يكون ممن يعذره الله - فكان لا بد من إنصاف المخالفين بإعذار صاحب العذر منهم، مع مناصحته فيما أخطأ فيه، فهذا أعدل وأدعى إلى التآلف»(2).
والموضوع من الأهمية بحيث لا يستكثر الكلام فيه. أسأل الله عز وجل أن يعينني على هذا الأمر، وأن يجعل فيه بابًا إلى الإصلاح، واجتماع القلوب، وتوفير الجهود على نشر هذا الدين والتصدي لكيد الأعداء والمفسدين وتسلطهم.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «وهذا التفريق الذي حصل من الأمة: علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ... فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب»(3).
وقبل الدخول في تفصيل الموقف العدل المتوازن في نقد الأخطاء والموقف من المخالف يحسن التقدمة لذلك بمقدمتين هامتين:
المقدمة الأولى: في أنواع الخلاف المحمود منه والمذموم وأسبابه.
المقدمة الثانية: ضوابط شرعية في الرد على المخالف.
_____________
(1) مجموع الفتاوى: (22/245).
(2) انظر «فقه الائتلاف»: (ص 12، 13) ملخصاً وبتصرف يسير.
(3) مجموع الفتاوى: (3/421).
المقدمة الأولى: في أنواع الخلاف وأسبابه:(/66)
الخلاف من طبيعة البشر؛ وذلك لاختلاف العقول والمدركات، ودخول الهوى على النفوس، وهو قديم وحديث، لكنه قد يفتر أحيانًا وقد يتفجر أحيانًا. ويتميز كل زمان بمسائل معينة يدور حولها الخلاف، ومع كل ذلك فإن الحق واحد ويبقى محفوظًا لا يضره اختلاف المختلفين. وغالبًا ما يثور الخلاف في الأمة وينشغل به الناس حينما تنشغل عن الاهتمامات العالية والجهاد في سبيل الله تعالى، وتميل إلى الاسترخاء والدعة والترف، فيظهر حينئذ الترف الفكري والجدل والهوى.
وليس كل اختلاف في أمر من الأمور مذموم، بل إن هناك كثير من المسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، ولم تؤد بهم إلى الافتراق والتنابذ، بل بقيت المودة بينهم، وبقي الصف موحدًا والقلوب مؤتلفة.
أما من فارقه السلف من المخالفين من أهل البدع فإن ذلك لم يكن إلا حينما خالفوا الأصول، وخالفوا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهذا تفرق محمود.
أما الاختلاف الحاصل بين أهل السنة والجماعة فلا يعد مذمومًا إلا إذا انتهى بالمختلفين إلى الخصومة والتفرق؛ وذلك لوجود الجهل، أو دخول الهوى والبغي بين المختلفين. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - كلامًا بديعًا عن الاختلاف وأنواعه، ومتى يكون مذمومًا، ومتى يكون محمودًا، أرى من المناسب تدوينه في هذا المقام ليمهد لما بعده.
قال - رحمه الله تعالى -: «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح(1). وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)(2)... ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين فقط، وإما في الدين والدنيا، ثم قد يؤول إلى الدماء، وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط.
وهذا الاختلاف الذي دلت عليه الأحاديث هو مما نهي عنه في قوله سبحانه: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) (آل عمران: من الآية105)، وهو موافق لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: (سألت ربي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)(3)... فهذا يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته لينجو منه من شاء الله له السلامة، كما روى النَّزَّال بين سبرة، عن عبدالله بن مسعود قال: «سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: (كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) رواه مسلم(4).
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسنًا فيما قرأه، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا ... فأفاد ذلك بشيئين:
أحدهما: تحريم الاختلاف في مثل هذا.
والثاني: الاعتبار بمن كان قبلنا، والحذر من مشابهتهم.
واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب؛ وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبًا فيما يثبته، أو في بعضه، مخطئًا في نفي ما عليه الآخر، كما أن القارئين كل منهما كان مصيباً في القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئًا في نفي حرف غيره؛ فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات؛ لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه. ولهذا نهيت هذه الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض؛ لأن مضمون الضرب: الإيمان بإحدى الآيتين، والكفر بالأخرى - إذا اعتقد أن بينهما تضادًا - إذ الضدان لا يجتمعان ... والاختلاف(*) على ما ذكره الله في القرآن قسمان:(/67)
أحدهما: يذم الطائفتين جميعًا، كما في قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (هود: من الآيتين 118، 119). فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف، وكذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (البقرة:176)، وكذلك قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (آل عمران: من الآية19)، وقوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: من الآية105).
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف أن الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة قال (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)(5) وفي الرواية الأخرى: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)(6).
فبيَّنَ أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنّة والجماعة.
وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة: فساد النية؛ لما في النفوس من البغي والحسد، وإرادة العلو في الأرض، ونحو ذلك؛ فيحب لذلك ذم قول غيرها، أو فعله، أو غلبته ليتميز عليه، أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة، ونحو ذلك؛ لما في قيام قوله من حصول الشرف له والرئاسة، وما أكثر هذا من بني آدم، وهذا ظلم.
ويكون سببه تارة: جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم، أو في الدليل، وإن كان عالمًا بما مع نفسه من الحق حكمًا ودليلاً.
والجهل والظلم هما كل شر؛ كما قال سبحانه: (وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب: من الآية72).
أما أنواعه: فهو في الأصل قسمان:
اختلاف تنوع، واختلاف تضاد.
واختلاف التنوع على وجوه:
منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقًا مشروعًا؛ كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم عن الاختلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (كلاكما محسن)(7).
ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة، إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال: إن بعض أنواعه أفضل.
ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها، ونحو ذلك؛ وهذا عين المحرم. ومن لم يبلغ هذا المبلغ فتجد كثيرًا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر، أو النهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الآخر؛ لكن العبارتين مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك. ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.
ومنه: ما يكون المعنيان غيرين، لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح، وهذا قول صحيح، وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جداً.
ومنه: ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين. ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية وبلا علم ...
وهذا القسم - الذي سميناه: اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك - إذا لم يحصل بغي - كما في قوله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) (الحشر: من الآية5)، وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم - يوم بني قريظة - لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرَّها إلى أن وصل إلى بني قريظة ...
وأما اختلاف التضاد فهو: القولان المتضادان إما في الأصول، وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون «المصيب واحد» وإلا فمن قال: «كل مجتهد مصيب» فعنده هو من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد. فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان، لكن نجد كثيرًا من قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقًا ما، فيرد الحق في الأصل هذا كله، حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض، كما كان الأول مبطلاً في الأصل، كما رأيته لكثير من أهل السنّة في مسائل القدر والصفات والصحابة، وغيرهم.
وأما أهل البدعة: فالأمر فيهم ظاهر، وكما رأيته لكثير من الفقهاء، أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك رأيت الاختلاف كثيرًا بين بعض المتفقهة، وبعض المتصوفة، وبين فرق المتصوفة، ونظائره كثيرة.(/68)
ومن جعل الله له هداية ونورًا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنّة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ابتداء، لكن نور على نور ...
وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله: فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى، كما في قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) إلى قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) (البقرة: من الآية253).
فقوله: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) حمد لإحدى الطائفتين - وهم المؤمنون - وذم الأخرى، وكذلك قوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) (الحج: من الآية19) إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...) (الحج: من الآية23). مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: «أنها أنزلت في المقتتلين يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة، والذين بارزوهم من قريش وهم: عتبة وشيبة والوليد(8).
وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول، وكذلك آل إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق، ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك.
وكذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (البقرة: من الآية213)؛ لأن البغي: مجاوزة الحد.
وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة»(9).
ومن هذا النقل النفيس عن شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في أنواع الاختلاف وأسبابه نخلص إلى النتائج التالية:
الأولى : أن الخلاف مع الكفار والمبتدعة خلاف محمود؛ لأن الله عز وجل يأمر بمفارقة الكفار والمبتدعة ويحب المخالف لهم من أهل السنة والاتباع.
الثانية: أن الخلاف في مسائل الاجتهاد بين أهل السنة إذا لم يؤد إلى الفرقة وفساد المودة فهو خلاف محمود، أما إذا انتهى بالمختلفين إلى الفرقة والخصام، فإن كلا الطائفتين مذمومتان؛ إذ الغالب في مثل هذه الحال دخول الهوى والعصبية إلى النفوس. فمتى أدى الاختلاف في الاجتهاد بين أهل السنة إلى الفرقة، فليعلم أن الهوى أو البغي قد دخل في النفوس.
وفي ذلك يقول الشاطبي - رحمه الله تعالى -: «... فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً) (الأنعام: من الآية159) .. فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها .. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى .. وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين»(10).
الثالثة: أن أهم أسباب الخلاف بين المختلفين: إما الجهل بما عند المخالف من الحق والدليل أو الجهل بالأدلة الشرعية بعامة.
وإما البغي والهوى والحسد: إذ قد يتضح الحق للمخالف ولكنه يستنكف عن الانقياد له بغيًا وكبرًا عياذًا بالله عز وجل.
والكلام هنا موجه لأهل السنة والخلاف الحاصل بينهم، وكيف يمكن تفادي الفرقة الناشئة عنه، وما هو الميزان العدل الذي يوزن به هذا الخلاف. أما الخلاف مع أهل البدع والكفر فهو متعين وله مقام آخر.
_____________
(1) انظر سنن أبي داود: (4596)، والترمذي (2640)، وابن ماجة: (3991).
(2) مسند أحمد: (4/102).
(3) مسلم: (2890).
(4) الحديث لا يوجد في مسلم وإنما في البخاري: (2410).
(*) يقصد شيخ الإسلام بالاختلاف هنا ذلك الذي يؤدي إلى التفرق والخصومات.
(5) سبق تخريجه: (ص 207).
(6) انظر ما ذكره الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى - عن حديث الافتراق في السلسلة الصحيحة (204).
(7) البخاري: (2410).
(8) البخاري: (2743).
(9) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/135 - 156) ملخصًا، ت: د. ناصر العقل.
(10) الموافقات: (4/221-222).
المقدمة الثانية: ضوابط شرعية في الرد على المخالف:
قبل الشروع في الرد على المخالف - سواء كان مشافهة أو كتابة - فلا بد من مراعاة الضوابط الشرعية حتى يؤتي الرد ثمرته المطلوبة ولا يؤدي إلى مفاسد شرعية تربو على مفاسد ترك الرد.
ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:(/69)
أولاً : اتصاف الرَّاد بالعلم الشرعي الصحيح الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وبخاصة في المسألة المراد الرد عليها ومناقشتها، وأن يكون الكلام بعلم ودليل، ومأخذ صحيح في الاستدلال؛ ومن ذلك التوثق والتثبت من كلام المردود عليه من كتبه أو كلامه لا من الظنون وكلام الناس. ومن ذلك تحديد موضع النزاع وتحريره.
ثانيًا : اتصاف الراد بالإخلاص والتجرد لله تعالى في رده وبعده عن الهوى والعصبية والتشفي، وهذا يلزم عليه أشياء كثيرة من أهمها:
العدل مع المخالف وإنصافه، وتجنب ظلمه وإهدار حقه وما عنده من المحاسن. وهذا يقتضي الحذر من الهوى والتعصب الأعمى.
وقد ذكر الشوكاني - رحمه الله تعالى - بعض الأسباب التي تؤدي إلى عدم العدل والإنصاف فقال: «واعلم أن أسباب الخروج عن دائرة الإنصاف والوقوع في موبقات التعصب كثيرة جدًا منها:
[ أ ] نشأة طالب العلم في بيئة تمذهب أهلها بمذهب معين، أو تلقوا عن عالم مخصوص، فيتعصب ولا ينصف.
[ب] حب الشرف والمال، ومداراة أهل الوجاهة والسلطان، والتماس ما عندهم، فيقول ما يناسبهم ولا ينصف.
[جـ] الخوض في الجدال والمراء مع أهل العلم، والتعرض للمناظرات، وطلب الظهور والغلبة، فيقوى تعصبه لما أيده ولا ينصف.
[ د ] الميل لمذهب الأقرباء، والبحث عن الحجج المؤيدة له، للمباهاة بعلم أقربائه، فيتعصب حتى لخطئهم ولا ينصف.
[ هـ ] الحرج من الناس في الرجوع عن فتوى قالها، أو قول أيده واشتهر عنه، ثم تبين بطلانه، فيتعصب دفعًا للحرج ولا ينصف.
[ و ] الزلة في المناظرة مع من هو أصغر سنًّا، أو أقلّ علمًا وشهرة، تجعله يتعصب للخطأ ولا ينصف.
[ ز ] التعلق بقواعد معينة يصحح ما وافقها، ويخطئ ما خالفها، وهي نفسها غير مسلمة على الإطلاق؛ فيتعصب بالبناء عليها ولا ينصف.
[ ح ] اعتماد أدلة الأحكام من كتب المذاهب؛ لأنه سيجد ما يؤيد المذهب باستبعاد دليل المخالف، فيتعصب ولا ينصف.
[ ط ] الاعتماد في الجرح والتعديل على كتب المتعصبين؛ إذ يعدلون الموافق، ويجرحون المخالف، فمن بنى على كتبهم يتعصب ولا ينصف.
[ي] التنافس بين المتقاربَيْن في الفضيلة أو المنزلة، قد يدفع أحدهما لتخطئة صواب الآخر تعصبًا ومجانبة للإنصاف.
[ك] الاعتماد على الآراء والأقوال - من علم الرأي - المخلوطة بعلوم الاجتهاد كأصول الفقه مما يترتب عليه تعصب للرأي وخروج عن الإنصاف»(1).
والإخلاص يقتضي الحذر من الكيل بمكيالين: مكيال للنفس يَستوفي فيه، ومكيال للمخالف يُخسره فيه يبخسه حقه.
«عند تقويم مواقف الرجال كم نستنكر سلوكًا لرجل نخالفه، ثم تمر السنون، ويدور الزمان دورته، ويصدر نفس السلوك في موقف مشابه من رجل نحبه ونتفق معه، فنعلل له ونبرر ونحسن الظن، بل ونكبر حكمته التي قد لا تدركها عقولنا!!! لماذا نقبل الشيء نفسه من امرئ ونعده عيباً في غيره؟!!!
قد تجد بعض الناس يبالغون في حب امرئ ومديحه، وقد لا يتركون شرفًا في الدنيا إلا وينسبونه إليه، وتمر أقدار، وبالخلطة والمعايشة الطويلة في السفر والحضر، والتعامل بالدرهم والدينار، وبالدخن والوساوس .. يغدو المادح قادحًا، والمزكي جارحًا، والممدوح مذمومًا .. صور كثيرة من هذه الأصناف نشهدها في بعض الوعاظ والخطباء والموجهين والناصحين الذين يرون في ما يقومون به واجبًا شرعيًا لا يسكت عنه، فإذا ألقيت النصيحة والموعظة إليه، وطرقت سمعه وانهالت التعليمات عليه صار ذلك من سوء الأدب أو سوء الظن به، أو الظلم والتجريح المنهي عنه شرعًا؛ نرى ذلك في الشرح لعيوب الناس ونواياهم، ويسمي تشريحه هذا تقويمًا وتعديلاً، فإذا وضع هو على المشرحة والتقويم سماها غيبة ونميمة، وعدم ستر العيوب بالنصيحة سرًا ...»(2) وغيرها من صور الكيل بمكيالين.
والإخلاص يقتضي حرص الرَّاد على سلامة قلبه نحو المخالف، وأن يحذر من التشفي في الرد والخصومة؛ لأن الإخلاص يقتضي حب الخير للناس والرحمة والشفقة بهم. وهذا شأن أهل السنة والاتباع المخلصين؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق»(3)، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر»(4).
وهذا ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما يذكر عن نفسه أنه يحب الخير للمسلمين في كل مكان ولو لم يكن يعرفهم أو ينتفع بالخير الذي أصابهم.
فعن ابن بريدة الأسلمي قال: «شتم رجل ابن عباس فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وإن في ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح، ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة»(5).
ثالثاً: الحذر من ردود الأفعال التي قد تذهب بالرَّاد إلى طرف آخر مقابل للمردود عليه متجاوزًا حد التوسط والتوزان والاعتدال.(/70)
رابعًا: قبول ما يظهر على لسان المخالف من الحق والفرح به وبإصابته للحق ورد الباطل من كلامه وتفنيده.
قال رجل لابن مسعود رضي الله عنه: أوصني بكلمات جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: «... ومن أتاك بحق فأقبل منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبًا حبيبًا»(6).
ويقول الشيخ بكر أبو زيد في وصاياه للدعاة: «التزم الإنصاف الأدبي بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل، وإذا أذنب فلا تفرح بذنبه، ولا تتخذ الوقائع العارضة منهية لحال الشخص، وباتخاذها رصيدًا ينفق منه الجرَّاح في الثَّلب، والطعن، وأن تدعو له بالهداية. أما التزيد عليه، وأما البحث عن هفواته، وتصيدها، فذنوب مضافة أخرى. والرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع ودين متين»(7).
خامسًا: لا يؤخذ المخالف بلازم قوله؛ لأن لازم المذهب ليس بمذهب. أي أن ما يلزم على كلام المخالف من لوازم باطلة لا يجوز أن تنسب إليه بمجرد أنها من لوازم قوله؛ فإن هذا من الظلم، كمن يلزم من أحل النبيذ بلازم قوله وهو استحلال ما حرم الله عز وجل، أو من لم ير الجمع بين الصلاتين في السفر بأنه يرد السنة ويهجرها. ولا يلزم أحد بلازم قوله حتى يتبناه صراحة ويعبر عنه بنفسه، أو أن يسأل فيجيب فيكون منطوق لسانه حجة عليه. وإنما يستخدم ذكر لوازم الأقوال لإبطالها، وبيان غلط وتناقض المردود عليه لكي يتراجع عن كلامه.
يقول ابن حزم - رحمه الله تعالى -: «وأما من كفَّر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم، وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفرًا، بل قد أحسن إذ قد فر من الكفر .. فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله، ونص معتقده، ولا ينفع أحد أن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به متجه، لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط»(8).
سادسًا: الحرص في نقد المخالف على وصف مقالته ونقدها والرد عليها، دون التعرض لشخصه أو نيته ومقصده، إلا إذا ظهرت قرائن قوية تدل على فساد النية وخبث الطوية.
سابعًا : الاعتناء الشديد بالدقة في التعبير والإفهام - سواء كان مشافهة أو كتابة - والبعد في الردود عن الألفاظ الغريبة الغامضة، أو الحمالة حتى لا يفهم كلام الراد على غير ما أراد.
______________
(1) انظر أدب الطلب ومنتهى الأرب: (ص 31) [عن كتاب فقه الائتلاف لخازندار: (ص 57)].
(2) انظر فقه الائتلاف: (ص 101، 102) بتصرف يسير باختصار.
(3) مجموع الفتاوى: (16/96).
(4) مسند أحمد: (3/2881)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1224).
(5) مجمع الزوائد: (9/284)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(6) الإحكام في أصول الأحكام: (4/586).
(7) تصنيف الناس بين الظن واليقين: (ص 77، 78).
(8) الفصل لابن حزم: (3/294).
ذكر الميزان العدل والوسط في نقد الأخطاء والموقف من المخالف:
بعد هاتين المقدمتين عن أنواع الخلاف: محموده ومذمومه وأسبابه، وضوابط النقد وأصوله، ندخل في صلب الموضوع الذي نحن بصدده؛ وهو ذكر الميزان العدل الوسط في نقد الأخطاء، والموقف من المخالفين، مع ذكر طرفي الانحراف عن هذا الميزان العدل. فأقول وبالله التوفيق ..
الناس في موقفهم من الأخطاء ونقدهم لأصحابها طرفان ووسط:
الطرف الأول : أهل الغلو والإفراط:
وهم الذين أفرطوا في نقد الأخطاء وأصحابها حتى جعلوا من الفروع أصولاً ومن بعض الجزئيات كليات. وجعلوا همَّهم تصيد الأخطاء والفرح بها وتضخيمها، ولم يرحموا من وقع فيها من طلاب العلم بل جاروا عليهم في ذلك حتى أساءوا الظن بهم، وبنواياهم، ومقاصدهم، وبخسوهم حقهم، وأهدروا حسناتهم وما لهم من بلاء وجهاد ودعوة وعلم وعمل وتعليم. ولا يخفى ما في هذا الموقف من عدوان، ومجانبة للعدل والإنصاف. وفي أمثال هؤلاء يقول الشعبي - رحمه الله تعالى-: «والله لو أصبتُ تسعًا وتسعين مرة، وأخطأت مرة لأعدُّوا علي تلك الواحدة»(1).
ولو أن هؤلاء المنتقدين حاسبوا أنفسهم، وسألوها حينما يخطئون هل يودون أن يعاملهم إخوانهم بهذا المنهج الجائر كما يعاملون غيرهم لكان في ذلك سببًا لمراجعة أنفسهم، واكتشافهم لهذا المنهج الخاطئ في نقد الرجال ومعالجة الأخطاء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة.(/71)
وقد قال الله تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الزمر:33-35). فقد وصفهم الله بأنهم متقون. و(الْمُتَّقُونَ) هم أولياء الله. ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوء الذي عملوا. وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان»(2).
ويعلق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - على قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8) فيقول: «فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم لأعدائه أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب وتخطئ على أن لا يعدل فيهم، بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى، ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به منه علمًا وعملاً، ودعوة إلى الله على بصيرة، وصبرًا من قومهم على الأذى في الله، وإقامة الحجة لله ومعذرة لمن خالفهم بالجهل»(3).
وأسوق بهذه المناسبة تلك المحاورة النافعة التي بيَّن فيها المسور بن مخرمة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بعض عيوبه، وماذا رد عليه معاوية في ذلك لتكون منهجًا في معالجة أخطائنا.
عن عقيل، ومعمر، عن الزهري، حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. قال: لا والله، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب عليَّ. قال مسور: فلم أترك شيئًا أعيبه عليه إلا بينت له. فقال: لا أبرأ من الذنب. فهل تعدُّ لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعدُّ الذنوب، وتترك الإحسان؟ قال: ما تُذكر إلا الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوبٌ في خاصتك تخشى أن تُهلكك إن لم تغفر؟ قال: نعم. قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أُخيَّر بين أمرين: بين الله وبين غيره، إلا اخترتُ الله على ما سواه، وإني لعلى دين يقبل فيه العملُ، ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، قال: فخصمني. قال عروةُ: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلَّى عليه(4).
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة:
وهؤلاء وإن كانوا قد فرَّطوا في الأخذ بالحق ورد الباطل، والتقليد الأعمى، إلا إنهم وقعوا في المقابل في الغلو في الرجال والتعصب لأخطائهم ولسان حالهم يقول بالعصمة لمن قلدوهم.
ولذا ترى الواحد منهم يزعجه ويكدر خاطره إذا قيل إن شيخه وأستاذه مخطئ في بعض ما ذهب إليه من قول أو عمل، ويدفعه تعصبه لشيخه وغلوه في محبته له وتأدبه معه إلى تصحيح كل ما يقول أو يفعل مبررًا ذلك بمبررات سامجة متكلفة.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في وصف أهل الطرفين السابقين بعد أن ذكر فضل أئمة الإسلام: «... وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا بمبلغ علمهم - والحق في خلافها - لا يوجب اطراح أقوالهم جملة، وتنقصهم والوقيعة فيهم؛ فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما، فلا نؤثِّم ولا نَعْصِم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في علي رضي الله عنه ولا مسلكهم في الشيخين رضي الله عنهما»(5).
وينتقد - رحمه الله تعالى - هذين الطرفين بصورة أوضح في معرض ردِّه على بعض الشطحات التي وقع فيها الهروي - رحمه الله تعالى - في منازل السائرين، وانقسام الناس في تعاملهم مع هذه الشطحات فيقول: «شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه ... [إلى أن قال]: هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمال الصدق وصحة المعاملة وقوة الإخلاص وتجريد التوحيد، ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:(/72)
إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم؛ فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار. وأساءوا الظن بهم مطلقًا؛ وهذا عدوان وإسراف؛ فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات، والحكم، وتعطلت معالمها.
والطائفة الثانية: حُجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم، ونقصانها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكهم. وهؤلاء أيضاً معتدون مفرطون.
والطائفة الثالثة: - وهم أهل العدل والإنصاف - الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته؛ فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل، وردُّوا ما يرد»(6).
ويقول الشيخ سلمان العودة - حفظه الله تعالى - في هذا المقام: «... ففي مجال الجرح والتعديل المعاصر تعود الكثيرون إما أن يثقوا بالرجل ثقة مطلقة لا مثنوية فيها، ويقلدوه في الجليل والحقير وإما أن يسقطوه من الحساب، فلا يقبلوا منه صرفًا ولا عدلاً. ومن عجب أنهم أحيانًا ينتقلون من النقيض إلى النقيض، فذاك الذي كان بالأمس ملء أسماعنا وأبصارنا، أصبحنا اليوم لا نملك إزاءه سمعًا ولا بصرًا! وهذه من ثمرات الاندفاع العاطفي غير البصير؛ فإن العاطفة إذا طغت سريعة التقلب لا تعرف الاستقرار والثبات.
سمعت أحدهم يقول على لسان طائفة: فلان أخطأ في مسألة كذا فلا نسمع منه شيئًا! حسنًا .. إذاً فأنتم لا تسمعون إلا من المعصومين؟! ومن أين لكم بهم؟! لا سبيل أمامكم إلا أحد سبيلين:
أولهما: ألا تستمعوا من أحد؛ لأنه ما من أحد إلا ويخطئ، قلّ خطؤه أم كثر، ومعنى ذلك أن تعتمدوا على أنفسكم فلا تنتفعوا بشيخ، ولا تجلسوا إلى فقيه، ولا تسمعوا إلى داع ولا تقتبسوا من مفكر، ثم من قال إنكم لا تخطئون؟ ولِمَ لَمْ تفترضوا أن المسألة التي تنقمونها على فلان أو فلان أنه هو المصيب وأنتم المخطئون؟
أما السبيل الثاني: فهو أن تسلكوا مسلك الفرق الضالة التي اخترعت لها «معصومين» وإن كانوا في الحقيقة «معدومين»، وجعلت قولهم تشريعًا، والرَّاد عليهم رادًا على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله، ولا يستغربن هذا الكلام أحد، أو يظن أنه يستحيل أن يحدث من بعض المسلمين؛ فإن من الناس من يقول هذا بلسان الحال إن لم يقله بلسان المقال»(7).
ويقول - حفظه الله تعالى - في موطن آخر مبينًا ظهور طرفي الإفراط والتفريط في المواقف من الكتب، والمؤلفات، وما فيها من أخطاء المؤلفين فيقول: «هل يتربى قراؤنا - وخاصة من الشباب - على «الموضوعية» والاعتدال في أحكامهم على الكتب؛ بحيث يستطيع القارئ أن يأخذ من الكتاب جوانبه الإيجابية التي أصاب فيها، ويدع ما سوى ذلك، أم أن الشباب - أعني كثيرًا منهم - لا يبيعون ويشترون إلا «بالجملة»! فإما أن يكون الكتاب كله موثقًا ومعتمدًا، وإما أن يكون خطأً وباطلاً. ونحن أناس لا توسط بيننا!
وصلة الكتاب بالمؤلف عريقة وعميقة .. ولذا فإن البعض يتعامل مع الكتب من خلال مؤلفيها فحسب؛ فمؤلفات زيد كلها حسنة ومفيدة، ومؤلفات عبيد كلها على الضد من ذلك. نعم .. هنالك مؤلفون غالب ما يكتبونه صالح، وهناك آخرون لا يحسنون إلا الهدم، فلا يأتي من يحتج مثلاً بمؤلفات أهل الضلالة .. لا. الكلام في مجال الدراسات الإسلامية وما يتعلق بها. وغيرها له حديث آخر، ومن الناحية الواقعية فإن أي كتاب - غير كتاب الله تعالى - لا يسلم من الخطأ والنقص مهما بالغ مؤلفه في تحريره والعناية به»(8).
الموقف العدل الوسط المتوازن:
وأهله هم الذين ذكرهم ابن القيم - رحمه الله تعالى - في ما سبق وسماهم بالطائفة الثالثة حيث قال عنهم: «وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح؛ بل قبلوا ما يُقبل، وردوا ما يرد»(9) ا.هـ.
أي أنهم لم يقعوا فيما وقع فيه أهل الغلو والإفراط المضخمين للأخطاء، المهدرين لحق من وقع منه الخطأ، والمهدرين لحسناتهم، المتهمين لنياتهم، بل حفظوا لهم حقوقهم، ولم ينسوا لهم بلاءهم وجهادهم وحسناتهم، ووضعوا أخطاءهم في حجمها الذي تستحقه، ووازنوا بين حسناتهم وسيئاتهم. وفي المقابل لم يذهبوا إلى تقديس الأشخاص، وادعاء العصمة لهم - سواء بلسان المقال أو الحال - بل نظروا للمخطئين بأنهم غير معصومين، ولم يدفعهم حبهم وأدبهم مع شيوخهم إلى تقليدهم في كل ما يقولونه، أو أن يسحبوا ذيل الحسن على كل ما يفعلونه.
______________
(1) نزهة الفضلاء: (1/504).
(2) مجموع الفتاوى: (11/66، 67).
(3) بدائع التفسير: (2/105).
(4) سير أعلام النبلاء: (3/150)، ومعنى: (صلى عليه) أي: دعا له.
(5) إعلام الموقعين: (3/358).
(6) مدارج السالكين: (2/220-224) باختصار. ط. دار طيبة.(/73)
(7) مقالات في المنهج: (ص 81، 82).
(8) المصدر نفسه: (ص 86، 87).
(9) مدارج السالكين: (2/224) ط. دار طيبة.
وبعد وضوح الموقف العدل وما يكتنفه من الطرفين المذمومين أسوق فيما يلي نماذج رفيعة لأقوال السلف، ومواقفهم العادلة من أخطاء المخالفين وردودهم على بعضهم؛ تمثل المنهج العدل المتوازن الذي يجب على كل مسلم وبخاصة طلاب العلم والدعاة أن يأخذوا به ويتعاملوا مع بعضهم في ضوئه وهداه(*):
النموذج الأول: عن عبدالرحمن بن شُمَاسَة قال: دخلتُ على عائشة، فقالت: ممن أنت؟ قلتُ: من أهل مصر. قالت: كيف وجَدْتُم ابن حُديج في غزاتكم هذه؟ قلتُ: خَيْرَ أمير؛ ما يقفُ لرجل منَّا فرسٌ ولا بعيرٌ إلاَّ أبدلَ مكانَه بعيرًا، ولا غلامٌ إلاَّ أبدلَ مكانَهُ غُلامًا، قالت: إنه لا يمنعني قتلُه أخي أنْ أحدِّثكم ما سمعتُ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إني سمعته يقول: «اللهُمَّ من ولي من أمر أُمتي شيئًا فَرفَقَ بهم فارفُقْ به، ومن شَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه»(1).
النموذج الثاني: قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة(2).
النموذج الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: «يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره العداوة وقطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن ألقه وقُلْ له: بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تسمي له المبلّغ؛ فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر. لا تزيدن على ذلك شيئًا، وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهًا لعذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجهًا لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار؛ إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه والعفو أقرب للتَّقوى وأبلغ في الكرم؛ لقول الله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: من الآية40) فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فأفكر فيما سبق له لديك من الإحسان فعدها ثم ابدر له إحسانًا بهذه السيئة، ولا تبْخَسنّ باقي إحسانه السالف بهذه السيئة؛ فإن ذلك الظلم بعينه. يا يونس إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل»(3).
النموذج الرابع: قال الذهبي في ترجمته لصاحب الأندلس الناصر لدين الله: «وقد كنتُ ذكرتُ ترجمَتَه مع جدِّهم، فأعدتُها بزوائدَ وفوائد، وإذا كان الرأس عاليَ الهمَّة في الجهاد، احتُملت له هَنَات، وحسابُه على الله، أما إذا أمات الجهاد، وظلَمَ العباد، وللخزائن أباد، فإنَّ ربَّك لبالمرصاد»(4).
النموذج الخامس: وقال في ترجمته لمحمد بن نصر المروزي: «ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له، قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما. والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة(5).
النموذج السادس: كان إسحاق بن راهويه - رحمه الله تعالى - يشيد بعلم الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام ويقول: «الحق يحبه الله عز وجل: أبو عبيد القاسم بن سلام أفقه مني وأعلم مني»(6). وكان أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - يقول في إسحاق: «لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا»(7).
النموذج السابع: قال الذهبي في ترجمة قتادة - رحمه الله تعالى -: «وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع؛ فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر نسأل الله العفو ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه ولعل الله يعذُرُ أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل. ثم إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كَثُرَ صوابُه، وعُلمَ تحرِّيه للحق، واتَّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه وورعُه واتباعه، يُغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه. نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك»(8).
النموذج الثامن: يقول ابن رجب - رحمه الله تعالى -: «أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم، فكان ماذا؟ لقد انغمر ذاك في محاسنهم ،وكثرة وصوابهم، وحسن مقاصدهم، ونصرهم للدين. والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محمودًا ولا مشكورًا، لا سيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ ولا ينفع فيها كشف خطئهم وبيانه»(9).(/74)
وقال أيضًا: «.. فرحم الله من أساء الظن بنفسه علماً وعملاً وحالاً، وأحسن الظن بمن سلف، وعرف من نفسه نقصًا ومن السلف كمالاً، ولم يهجم على أئمة الدين ... وإن أنت أبيت النصيحة ... وصار شغلك الرد على أئمة المسلمين والتفتيش عن عيوب أئمة الدين فإنك لا تزداد لنفسك إلا عُجبًا، ولا لطلب العلو في الأرض إلا حبًا، وعن الحق إلا بعدًا، ومن الباطل إلا قربًا»(10).
النموذج التاسع: يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين»(11).
ويُطَبِّق هذا عمليًا في موقفه من شطحات الهروي - رحمه الله تعالى - في منازل السائرين عندما شرحها ابن القيم في مدارج السالكين ورد عليها، فتراه بعد ذلك يعقب فيقول: «ولولا أن الحق لله ورسوله، وأن كل ما عدا الله ورسوله فمأخوذ من قوله ومتروك، وهو عرضة الوهم والخطأ، لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم، ولا نجري معهم في مضمارهم، ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان، ومنازل السائرين، كالنجوم الدراري. ومن كان عنده علم فليرشدنا، ومن رأى في كلامنا زيغًا، أو نقصًا وخللاً فليهد إلينا الصواب، نشكر له سعيه، ونقابله بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم، والله أعلم وهو الموفق»(12).
ويقول - رحمه الله تعالى - بعد رده على الهروي في منزلة التوبة بعض شطحاته: «ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام(*) إهدار محاسنه، وإساءة الظن به؛ فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل. وكل أحد فمأخوذ من قوله ومترك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه. والكامل من عُدَّ خطؤه؛ ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب؛ الذي زَلَّت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا - إلا أقلهم - على أودية الهلكات»(13).
وفي ردِّه - رحمه الله تعالى - على زلة كبيرة للهروي في منزلة (التلبيس) يعقب على ذلك فيقول: «شيخ الإسلام(*) حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (عمله خير من علمه). وصدق رحمه الله؛ فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله. وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وقد أخطأ في هذا الباب لفظًا ومعنى»(14).
النموذج العاشر: رسالة الليث بن سعد إلى الإمام مالك - رحمهما الله تعالى - ومما جاء فيها: «سلامٌ عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلاَّ هو.
أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة.
قد بلغني كتابُك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمَّه بالعون على شكره، والزيادة من إحسانه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثتُ بها إليك، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك وقد أتتنا، فجزاك الله عما قدمت منها خيرًا، فإنها كتب انتهت إلينا عنك، فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها.
وذكرت أنه قد أنشَطك ما كتبتُ إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيت فينا جميلاً، إلاَّ أني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وإني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأَن الناس تبعٌ لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن.
وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدًا يُنسب إليه العلم أكره لشَواذِّ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مَضَوْا، ولا آخذ لفُتْياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له.
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ونزول القرآن بها عليه بين [ظهراني](15) أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعًا لهم فيه، فكما ذكرت.(/75)
وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100). فإن كثيراً من أولئك السابقين الأوَّلين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاءَ مرضاة الله، فجنَّدوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرْانَيْهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئًا علموه ... وكان من خلاف ربيعة لبعض ما مضى ما قد عرفت، وحضرت وسمعت قولك فيه، وقول ذوي الرأى من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فَرقد، وغير كثير ممن هو أسَنُّ منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه.
وذاكرتُك أنت وعبدالعزيز بن عبدالله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت؛ تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حَسَنةٌ في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله، وغفر له، وجزاه بأحسن ما عمله ... [إلى أن قال في ختام رسالته]. وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهِبَ مثلك مع استئناسي بمكانك، وإن نَأَتْ الدارُ، فهذه منزلتك عندي، ورأيى فيك فاسْتيقِنْه، ولا تترك الكتابَ إليَّ بخبرك وحالك وحال ولدِك وأهلك، وحاجةٍ إن كانت لك، أو لأحدٍ يُوصَلُ بك، فإنِّي أسرُّ بذلك.
كتبت إليك، ونحن صالحون، معافون، والحمد لله.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولينا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك، ورحمة الله»(16).
النموذج الحادي عشر: رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى صدِّيق حسن خان - رحمهما الله تعالى - وما فيها من العدل والإنصاف والأدب الجم بين أهل العلم - وإن اختلفوا - وهي رسالة طويلة اقتطف منها ما يلي:
«من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم والشريف المقدم المسمى محمد الملقب صديق زاده الله من التحقيق وأجاره في مآله من عذاب الحريق.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فالموجب للكتاب إبلاغ السلام والتحفي والإكرام؛ شيد الله بك قواعد الإسلام، ونشر بك السنن والأحكام. اعلم وفقك الله أنه كان يبلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة يقال له صديق فنفرح بذلك ونسر؛ لغرابة الزمان وقلة الإخوان وكثرة أهل البدع والأغلال، ثم وصل إلينا كتاب الحِطَّة وتحرير الأحاديث في تلك الفصول، فازددنا فرحًا وحمدنا لربنا العظيم لكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وكان لي ابن يتشبث بالعلم ويحب الطلب، فجعل يتوق إلى اللحوق بكم والتخرج عليكم والالتقاط من جواهركم؛ لذهاب العلم في أقطارنا وعموم الجهل وغلبة الأهواء. فبينما نحن كذلك إذ وصل إلينا التفسير بكماله فرأينا أمرًا عجيبًا ما كنا نظن أن الزمان يسمح بمثله وما قرب منه؛ لما من التفاسير التي تصل إلينا من التحريف والخروج عن طريقة الاستقامة، وحمل كلام الله على غير مراد الله، وركوب التفاسير في حمله على المذاهب الباطلة، وجعلت السنة كذلك، فلما نظرنا في ذلك التفسير تبين لنا حسن قصد منشيه، وسلامة عقيدته، وتبعده من تعمد مذهب غير ما عليه السلف الكرام. فعلمنا أن ذلك من قبيل قوله سبحانه: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: من الآية65).(/76)
فالحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا كما يحب ربنا ويرضى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء الله ذو الفضل العظيم؛ فزاد اشتياق التائق وتضاعفت رغبته، ولكن العوائق كثيرة والمثبطات مضاعفة، والله على كل شيء قدير فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس. فمن العوائق تباعد الديار وطول المسافات؛ فإن مقرنا في فلج اليمامة، ومنها خطر الطريق وكثرة القطاع وتسلط الحرامية في نهب الأموال واستباحة الدماء وإخافة السبيل، ومنها ما في الطريق من أهل البدع والضلال بل وأهل الشرك من رافضي وجهمي إلى معتزلي ونحوهم؛ وكلهم أعداء قاتلهم الله. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. ومع ذلك فنحن نرجو أن يبعث الله لهذا الدين من ينصره، وأن يجعلنا من أهله، وأن يسهل الطريق ويرفع الموانع، ونسأله أن يمن بذلك فهو القادر عليه. ولما رأينا ما منَّ الله به عليكم من التحقيق وسعة الاطلاع، وعرفنا تمكنكم من الآلات، وكانت نونية ابن القيم المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية بين أيدينا، ولنا بها عناية ولكن أفهامنا قاصرة وبضاعتنا مزجاة من أبواب العلم جملة، وفيها مواضع محتاجة إلى البيان، ولم يبلغنا أن أحدًا تصدى لشرحها؛ غلب على الظن أنك تقدر على ذلك. فافعل ذلك يكن من مكاسب الأجور وهي واصلة إليك إن شاء الله، فاجعل قِرَاها شرحها وبيان معناها، وأصلح في النية ذلك تكن حربًا لجميع أهل البدع؛ فإنها لم تبق طائفة منهم إلا ردت عليها فهذان مقصدان مِنْ بَعْثِها إليك: أحدهما: شرحها، والثاني: الاستعانة بها على الرد على أهل البدع؛ لأن مثلك يحتاج إلى ذلك؛ لكونك في زمان الغربة وبلاد الغربة، فإن كنت حريصًا على ذلك فعليك بكتاب العقل والنقل، والتسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية وكتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة والجيوش الإسلامية لابن القيم، ونحوهن من كتبهما فإن فيها الهدى والشفاء. ولنا مقصد رابع مهم وهو أن هذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين وألف 1297هجرية، فنظرت فيه وفي هذا الشهر وفي شوال، فتجهز الناس للحج ولم أتمكن إلا من بعضه ومع ذلك وقفت فيه على مواضع تحتاج إلى تحقيق، وظننت أن لذلك سببين أحدهما: أنه لم يحصل منكم إمعان نظر في هذا الكتاب بعد إتمامه، والغالب على من صنف الكتب كثرة ترداده وإبقائه في يده سنين يبديه ويعيده، ويمحو ويثبت؛ ويبدل العبارات؛ حتى يغلب على ظنه الصحة غالبًا، ولعل الأصحاب عاجلوك بتلقيه قبل ذلك. والثاني: أن ظاهر الصنيع أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمة، وأخذت من عباراتهم بعضًا بلفظه وبعضًا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك ولم تمعن النظر فيها - ولهم عبارات مزخرفة فيها الداء العضال - وما دخل عليك من ذلك فنقول: إن شاء الله بحسن القصد واعتماد الحق وتحري الصدق والعدل. وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره. وإذا نظر السني المنصف في كثير من التفاسير وشرح الحديث وجد قلّته وما هو أكثر منه وقد سلكتم في هذا التفسير في مواضع منه مسلك أهل التأويل مع أنه قد وصل إلينا لكم رسالة في ذم التأويل مختصرة، وهي كافية ومطلعة على أن ما وقع في التفسير صدر من غير تأمل وأنه من ذلك القليل. وكذلك في التفسير من مخالفة أهل التأويل ما يدل على ذلك. وأنا اجترأت عليك - وإن كان مثلي لا ينبغي له ذلك - لأنه غلب على ظني إصغاؤك إلى التنبيه، ولأن من أخلاق أئمة الدين قبول التنبيه والمذاكرة، وعدم التكبر وإن كان القائل غير أهل، ولأنه بلغني عن بعض من اجتمع بك أنك تحب الاجتماع بأهل العلم وتحرص على ذلك وتقبل العلم ولو ممن هو دونك بكثير؛ فرجوت أن ذلك عنوان توفيق جعلك الله كذلك وخيرًا من ذلك...
فنسأل الله أن يلحقنا بآثار الموحدين، وأن يحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة بمنِّه وكرمه. وقد اجترأت عليك بمثل هذا الكلام نصحًا لله ورسوله، رجاء من الله أن ينفع بك في هذا الزمان الذي ذهب فيه العلم النافع ولم يبق إلا رسومه، وأنا انتظر منك الجواب ورد ما صدر مني من الخطاب. ثم إني لما رأيت الترجمة وقد سمي فيها بعض مصنفاتك، وكنت في بلاد قليلة فيها الكتب، وقد ابتليت بالدخول في أمور الناس لأجل ضرورتهم كما قيل: خلا لك الجو فبيضي واصفري. وألتمس من جنابك تفضل علينا ببلوغ السؤول من أقضية الرسول، والروضة الندية شرح الدرر البهية، ونيل المرام شرح آيات الأحكام.
فنحن في ضرورة عظيمة إلى هذه كلها، فاجعل من صالح أعمالك معونة إخوانك ومحبيك بها، وابعث بها إلينا مأجورًا إن شاء الله تعالى؛ وليكن ذلك على يد الأخ أحمد بن عيسى الساكن في مكة المكرمة المشرفة، واكتب لنا تعريفًا بأحوالكم. ولعل أحدًا منكم من يتلقى هذا العلم ويعتني به ويحفظه عنك، واحرص على ذلك طمعًا أن يجمع لك شرف الدنيا والآخرة، ونسأل الله أن يهب لك ذلك.(/77)
ثم اعلم أني قد بلغت السبعين، وأنا في معترك الأعمار لا آمن هجوم المنية، ولي أولاد ثمانية منهم ثلاثة يطلبون العلم كبيرهم سعد المذكور أولاً، ويليه عبدالعزيز، وتحته عبداللطيف. ونرجو أنهم أهل الكتب وممن يعتز بها ويحفظها. وبقيتهم صغار منهم من هو في المكتب ومن دعائنا: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان: من الآية74)، (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:128)، لا تنسنا من صالح دعائك كما هو لك مبذول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم»(17). ا.هـ (ملخصًا).
______________
(*) وفي هديه صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة للمواقف المتوازنة والمعالجات العادلة للأخطاء والمنهج الوسط في النقد ما يكفي ويغني. ويكفينا في ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم في طريقة معالجته لخطأ حاطب ابن أبي بلتعة [انظر تفصيل هذه المعالجة في رسالة وإذا قلتم فاعدلوا للمؤلف: ص 34-37].
(1) نزهة الفضلاء: (1/327) والحديث رواه مسلم: (1828).
(2) سير أعلام النبلاء: (10/16).
(3) صفة الصفوة: (2/252، 253).
(4) سير أعلام النبلاء: (15/564).
(5) نزهة الفضلاء: (2/1127).
(6) نزهة الفضلاء: (2/775).
(7) المصدر نفسه: (2/840).
(8) سير إعلام النبلاء: (5/271).
(9) فقه الائتلاف: (ص 136).
(10) المصدر نفسه: (ص 206).
(11) إعلام الموقعين: (3/359).
(12) مدارج السالكين: (2/394) ط. دار طيبة.
(*) يقصد بشيخ الإسلام هنا: الهروي.
(13) مدارج السالكين: (1/366) ط. دار طيبة.
(14) مدارج السالكين: (4/352) ط. دار طيبة.
(15) كتبت في الأصل، ظهرى، والظاهر والله أعلم أن مراده هو ما أثبته.
(16) إعلام الموقعين: (3/110).
(17) رسالة لصديق حسن خان: تنبيه له على أخطاء وقعت له في تفسيره من الشيخ العلامة: حمد بن عتيق. (ملخصًا).
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأسأل الله سبحانه أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وفي ختام هذه الرسالة أقف وقفتين استدرك في أولاهما بعض ما فاتني فيها من مسائل تتعلق بالموضوع، وأقف في الأخرى لألخص أهم ما جاء في الكتاب من مسائل وموضوعات.
أولاً : وقفة الاستدراك :
كان من بين أبواب هذه الرسالة مبحث عن الأسباب المؤدية إلى لزوم الوسطية والعدل والتوازن. ولكن لما جمعت عناصر هذا الباب وجدته مشابهًا إلى حد كبير للباب الأخير من رسالة (فاستقم كما أمرت)(1) والذي يبحث عن الأسباب المؤدية إلى لزوم الاستقامة، ولما كانت الاستقامة تحمل معنى الوسطية والعدل والتوازن فإني اكتفي بما ذكر هنالك من تفصيل لهذه الأسباب، وأحيل إليها القارئ الكريم وأورد هنا ملخصًا سريعًا لبعضها:
1- العلم بالشرع والبصيرة في الدين:
فكلما وجد العلم بأصول هذا الدين ومقاصده ووزنت الحركات بميزان الشرع كانت الأقوال والأفعال والمعتقدات مسددة قويمة عادلة متوازنة. وعلى العكس من ذلك؛ فإن مجاوزة العدل والوسطية والتوازن في الأقوال والأعمال والمعتقد من أسبابها الجهل بهذا الدين وقواعده ومقاصده وأحكامه وعدم الوزن بميزان الشرع القويم.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «... لا يتصور حصول الاستقامة في القول والعمل والحال إلا بعد الثقة بصحة ما معه من العلم، وأنه مقتبس من مشكاة النبوة، ومن لم يكن كذلك فلا ثقة له ولا استقامة»(2).
كما أن في العلم حرق للشبهات التي عادة ما تكون سببًا رئيسًا في مجاوزة العدل والوسط: إما إلى إفراط، أو إلى تفريط؛ كما هو شأن أهل البدع والأهواء المتقابلة، والتي تراوح بين الغلو والإفراط وبين الجفاء والتفريط.
2- مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة :
إنَّ في مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة والتجربة من الدعاة الصادقين المعروف عنهم العدل والتوازن نفع عظيم؛ لأن الصاحب يؤثر على صاحبه فينطبع بأخلاقه ومنهجه. ومما يلحق بذلك مصاحبة السلف الصالح في كتبهم وقراءة سيرهم وما كانت عليه من العدل والتوازن والتوسط بين الإفراط والتفريط. فهذا مما يُؤثِّر في صياغة التفكير والسلوك.
3- مجانبة من يعرف عنهم التسرع في الأمور :(/78)
إنَّ في مجانبة من يعرف عنهم التسرع في الأمور والميل إما إلى الإفراط أو إلى التفريط، - سواء من بعض طلبة العلم المتعجلين أو بعض المنتسبين للدعوة الذين زادهم من العلم قليل وحظهم من التجربة والحكمة ضئيل - في مجانبتهم حماية من الوقوع في مجاوزة العدل. وهذا أيضًا يسري على الكتب والمؤلفات التي يغلب على أصحابها قلة العدل والتوازن، وعدم التأني في المواقف والأحداث؛ حيث ينبغي الإعراض عن مثل هذه الكتب والحذر منها. وأول ما يدخل في هذا كتب أهل البدع والشبهات والأهواء والشهوات الذين هم بين غالٍ مفْرِط أو مضيع مفرِّط.
4- العمل الصالح بأداء الفرائض وكثرة النوافل :
فقد جاء في الحديث الصحيح: «وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ... الحديث»(3).
فمن هذا الحديث يتبين فضل الأعمال الصالحة وآثارها في حفظ الله عز وجل لعبده المؤمن الذي هذا شأنه؛ وذلك بحفظ جوارحه فلا يتحرك إلا في مرضات الله تعالى، ولا يبصر إلا بالله، ولا يسمع إلا بالله؛ ومن هذا شأنه فهو الموفق للحق والعدل والسداد.
ومن أفضل الأعمال الصالحة: الصلاة، والصيام، والذكر، والدعوة إلى الله عز وجل، والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69).
5- الرفق والأناة وعدم التعجل :
إن العجلة والتسرع وترك التؤدة لهي من أخطر الأبواب التي تدخل منها الشبهات والشهوات، وتجعل العبد يميل إما إلى الإفراط أو التفريط - سواء في المعتقد أو القول أو العمل - والعكس من ذلك في الأناة والرفق؛ فإنهما غالبًا ما يكونان بابًا إلى التعقل والحكمة والسداد في القول والعمل.
6- التواصي بالحق والتناصح بين المسلمين :
وهذا من أعظم ما يسد به باب التطرف والغلو والإفراط والتفريط؛ فكلما كثر التناصح بين المسلمين، والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل كان في ذلك الاهتداء إلى الحق ومدافعة الباطل بشبهاته وشهواته. وعلى العكس من ذلك؛ فعندما يضعف التناصح والتواصي بالحق، ويقل الأمر والنهي فإن الأفكار المنحرفة تنتشر بين الناس من غير إنكار، فتتشربها القلوب وتستحسنها العقول، وأصحابها يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
7- الصبر وتقوى الله عز وجل :
قال الله عز وجل: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: من الآية90).
وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
وقال عز وجل: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران: من الآية186).
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فالصبر والتقوى دواء كل داء من أدواء الدين ولا يستغنى أحدهما عن صاحبه»(4).
ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «فالتقوى تتناول فعل المأمور وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور»(5).
إذن فلزوم الاستقامة والعدل والتوازن في الأمور لا بد له من تقوى الله عز وجل، والخوف من عقابه، ورجاء ثوابه، والصبر على ذلك؛ لأن العلم بالشرع لا يكفي وحده في لزوم الوسطية والعدل وإصابة الحق إن لم يكن معه التقوى والصبر؛ فكم ممن يتجاوز العدل والحق إما لضعف دينه وتقواه، وإما لضعف صبره وتحمله.
8- دعاء الله عز وجل وسؤاله الهداية إلى الحق ولزومه :
يعد الدعاء من أعظم الوسائل والأسباب في لزوم الحق والعدل؛ لأن الله عز وجل هو الهادي والموفق إلى الحق والعدل، فلا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى. قال الله عز وجل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم:27).
فمن سأل الله عز وجل الهداية للحق بصدق وإخلاص وأخذ بالأسباب المعينة على ذلك أعطاه الله سؤاله ولم يخيب رجاءه. ومن أنفع الأدعية وأجمعها ذلك الدعاء الذي كان يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم حين يستفتح صلاته في الليل (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)(6).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)(7).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والسداد)(8).
وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم»(9).
ثانيًا : الوقوف مع أهم ما جاء في الكتاب من مواضيع :(/79)
تدور أبواب الكتاب ومباحثه على إبراز هذه السمة العظيمة لهذا الدين وأهله؛ ألا وهي سمة العدل والوسطية والمأخوذة من قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143).
ومن أهم المباحث التي جاءت في الكتاب ما يلي:
[ 1 ] أهمية دراسة هذا الموضوع المتمثلة في تحرير معنى الوسطية، وأنها العدل والحق والتوازن بين طرفي الإفراط والتفريط، وأنها ليست كما يفهمها بعض الناس في كونها الالتقاء مع الباطل في منتصف الطريق، أو الرضى بالحلول الوسط. كما أنها لا تعني التشدد والتضييق.
كما برزت أهمية الموضوع أيضًا في ما نعانيه اليوم من مجانبة للعدل والتوازن في كثير من أصول الدين وأحكامه وأخلاقه، والنزوع فيها إما إلى الغلو والإفراط وإما إلى الجفاء والتفريط والإضاعة.
كما تأتي أهمية هذا الموضوع في كون العلم به وبجوانبه المختلفة بابًا إلى إعادة النظر في المواقف المتشددة أو المتساهلة، وبخاصة في جانب المعاملات والسلوك والأخلاق. وهذا الفهم يقود بإذن الله تعالى إلى الاجتماع والائتلاف، كما يقود إلى تفهم رأي المخالف والمعالجة العادلة لأخطائه، وإشاعة الود والتراحم بين المؤمنين وإن اختلفوا.
[ 2 ] تفسير قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...) الآية، وذلك بذكر أقوال بعض المفسرين وبعض الأحاديث المعينة على فهم الآية الكريمة.
[ 3 ] ذكر الأحاديث الواردة في لزوم الوسط والعدل، والمحذرة من الغلو والإفراط أو من التفريط والإضاعة، مع شرح موجز لبعضها.
[ 4 ] تم تقسيم مظاهر الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين إلى قسمين كبيرين:
القسم الأول : مظاهرها في الخلق والتقدير:
وفي هذا القسم تم الحديث عن عظمة هذا الكون ودقة نظامه وتوازنه، والتي تدل على عظمة خالقه عز وجل وحكمته وعدله ورحمته، وذكرت أمثلة متفرقة لهذا التوازن والنظام الدقيق في خلق الله عز وجل؛ سواء ما كان منها في الآفاق كخلق السموات والأرض وما بينهما من الأفلاك، وما على الأرض من الآيات الباهرات، أو ما كان منها في الأنفس وما فيها من عجيب صنع الله تعالى ودقة نظامها، وما فيها من التوازنات التي تبهر العقول وتحير الألباب، وتدل على وحدانية رب الأرباب.
القسم الثاني : مظاهرها في الأمر والشرع :
وفي هذا القسم تم الحديث عن شريعة الله عز وجل المنزلة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما فيها من الوسطية والعدل والتوازن الواقعة بين الإفراط والتفريط. وذكرت تحت هذا القسم أربعة مباحث مهمة:
الأول : مظاهرها في العقيدة وأصول الدين.
الثاني : مظاهرها في شعائر التعبد.
الثالث: مظاهرها في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : مظاهرها في المعاملات والأخلاق.
وذكرت في باب العقيدة وأصول الدين مجموعة من الأمثلة التي يذكرها علماء السلف وأنها وسط بين طرفين مذمومين هما أهل الغلو والإفراط، وأهل الجفاء والتفريط؛ وذلك كقولهم إن أهل السنة والاتباع وسط في الأسماء والصفات بين المعطلة النفاة وبين المجسمة المشبهة، وهم وسط في باب القدر وأفعال العباد بين القدرية والجبرية، وهم وسط في الوعد والوعيد بين الخوارج الغلاة المكفرين لأهل الكبائر ومن نحا نحوهم كالمعتزلة وبين الجفاة المفرِّطين كالمرجئة ومن شابههم، وغيرها من أبواب العقيدة.
وذكرت أيضًا في شعائر التعبد مجموعة من الأمثلة على التوسط في كثير من العبادات، والتحذير من الوقوع في طرف الإفراط والغلو الذي لم يشرعه الله عز وجل أو في طرف التفريط والتقصير. وذكرت أمثلة ذلك في الصلاة والصيام ومناسك الحج، وحرمان النفس من بعض الطيبات، وحرمانها من الأخذ بالرخص الشرعية وغيرها.
كما ذكرت في باب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسطية هذا الدين فيها، وما يكتنف الوسط العدل من طرفين مذمومين هما الإفراط والتفريط.
وأما قسم المعاملات والأخلاق فقد أطلت النفس فيه، وذكرت أمثلة كثيرة من الأخلاق، وكيف يكون التوسط والعدل فيها؟ وما هما الطرفان المذمومان اللذان يكتنفان كل خلق محمود؟ وسبب الإطالة في هذا القسم ما نعانيه في واقعنا المعاصر من أزمة في الأخلاق؛ وبخاصة ممن ينتسب منا إلى أهل السنة والجماعة، مما كان له أكبر الأثر في التفرق والخصومات.
وقد ركزت من بين الأمثلة التي ذكرتها على التوسط والعدل والتوزان في النقد ومعالجة الأخطاء، وذكرت الوسط المحمود وما يكتنفه من الطرفين المذمومين، وتوجت ذلك بذكر طائفة من النماذج المضيئة للمواقف العادلة المتوازنة لسلفنا الصالح في نقدهم لبعضهم البعض، ومعالجة أخطاء بعضهم بعضًا علها تكون نبراسًا لنا وأسوة حسنة نقتدي بها في زمن كثرت فيه الأهواء، وتكالبت فيه الأعداء من خارج الأمة وداخلها.(/80)
وفي ختام هذه الخاتمة أتوجه إلى الله عز وجل بسؤاله الإخلاص والصواب فيما أقوله وأكتبه وأعمله، كما أسأله سبحانه الهداية للحق والعدل والانقياد لهما والعمل بهما.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
عصر يوم السبت
الموافق 32/3/4241هـ
______________
(1) وهي الرسالة الخامسة عشرة من سلسلة الوقفات التربوية.
(2) مدارج السالكين: (3/125) ط. دار طيبة.
(3) البخاري: (6502).
(4) عدة الصابرين: (ص 54).
(5) مجموع الفتاوى: (2/286).
(6) رواه مسلم: (770).
(7) الترمذي في القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أُصبُعي الرحمن، وقال حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2792).
(8) صحيح مسلم: (2725).
(9) صحيح مسلم: (2725).(/81)
{وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}..[1]
صديق ... أهذا هو الطريق؟؟
قالت إحداهن: تعرفت عليه ، بدأ يبادلني كلمات الحب والغزل كل يوم، وتطورت العلاقة بيننا وأخذت أحلم به زوجًا للمستقبل، واتفقنا يومًا على اللقاء فقابلته، وفي اليوم التالي دعاني على العشاء فذهبت، وركبت معه السيارة، وبدأ يتجه بي إلى مكان بعيد وأنا خائفة ومترددة ولكن ماذا أقول، وأنا التي سلمتُ له نفسي منذ أول لحظة حادثته فيها.
وفجأة توقف الشاب في مكان فركب معه شاب آخر وفهمت سوء نيتهما، وبدأتُ أقاوم ولكن دون جدوى حتى أغمى علي، وأخذاني وتركاني بعد أن ....... وتركوني مرمية في إحدى المزارع البعيدة.
فهل تتوقعين فتاتي هذه النهاية لقصة الحب المزعوم؟
وأخرى تقول: أحببت شابًا وأنا في سن السادسة عشر عامًا، ولقد فضلتُ صديقتي على أمي بهذا السر .. ومازلتُ إلى الآن أحبه وأخفي سري ولا أعرف ما السبب؟
وثالثة تقول: عزلتني أمي عن الجميع فعدتُ إلى حبي القديم. رغم سني الصغير ـ أربعة عشر عامًا ـ إلا أنني أحببتُ شابًا .. لم يمر وقت طويل حتى كشفتْ والدتي الأمر فعزلتني عن الجميع، وحرمتني من كل شيء ومن صديقاتي وأهلي ونقلتني من المدرسة .. وتحت هذه الضغوط عدتُ لحبي القديم، أتحدث معه فهو الوحيد الذي يسمعني ويواسيني ويراعي مشاعري فماذا أفضل؟
وهذه تقول: أنا في الخامسة عشرة من عمري تعرفتُ على شاب يكبرني بخمس سنوات أقابله باستمرار دون علم أهلي، وهو يطلب مني أشياء تتنافى مع الآداب العامة، وأرفض بالبداية ثم أرضخ لرغبته حيث إنه يهددني بالانفصال عني، وقد تعودت على وجوده في حياتي وأخاف أن أنزلق معه لأكثر من هذا، لقد قررتُ إخبار أهلي بأمري ولكنني أخاف من ردة فعل والدي ووالدتي .. فماذا أفعل؟
عزيزتي الفتاة المسلمة:
لا يطارد الإسلام المحبين، ولا يطارد بواعث الحب والغرام، ولا يجفف منابع الود والاشتياق ولكنه كعادته ـ في كل شأن من شؤون التشريع ـ يهذب الشيء المباح حتى لا ينفلت الزمام ويقع المرء في الحرام الهلاك.
ـ لقد ارتبط في أذهان الكثير من الفتيات أن يمارسن الحب خارج البيوت، وأن ينسجوا خيوط العشق وطرائق الغرام بعيدًا عن الزواج الحلال من باب أن الممنوع مرغوب.
فهل نقبل بما يسمى بـ 'حرية الحب' في مجتمعنا الإسلامي؟
لقد ترددت على ألسنة المراهقات عبارات الحب التي شوهت أفكارهن ومنها قولهن: الحب من أول نظرة، الزواج بدون حب فاشل، الحب يصنع المعجزات، الحب عذاب، الزواج مقبرة الحب، ومن الحب ما قتل.
وأعلم أن مشاعر الميل الجنسي لآخر في هذا السن طبيعية ولكن هل هذا مسوغ ومبرر للاندفاع وراء هذه المشاعر؟ وهل هذا مبرر لإقامة مثل هذه العلاقات بين الفتاة والشاب.
إن فترة المراهقة مرحلة من مراحل العمر، ولا يعني ذلك أبدًا تبرير الانحراف، والتغاضي عن إهمال التكاليف الشرعية، وإنما يعني أن فترة المراهقة هي مرحلة لها خصائصها التي تميزها جسميًا وجنسيًا وانفعاليًا وعقليًا شأنها شأن أي مرحلة من مراحل العمر، وما علينا إلا أن نتعامل مع خصائص مرحلة المراهقة على أسس شرعية ونفسية وعلمية والنمو الجنسي في مرحلة المراهقة قد لا يؤدي بالضرورة إلى أزمات، ولكن النظم الاجتماعية الحديثة هي المسئولة عن أزمة المراهقة.
إن ما يسمى بـ 'الحب' الذي تعيشه الفتيات اليوم فيه من الشطط والمعابة ما يجعله لهوًا ولعبًا فلا ترى له هدفًا، ولا نتلمس له ضوابط ومعايير، بل تراه خفيًا مستترًا أو بارزًا متبحجًا يلتقي مع السراب في كثير من الحالات ويترك هذا الحب جراحًا تدوم إلى الأبد ونادرًا ما ينتهي بالزواج، هذا إن كان حبًا عفيفًا وعلاقة شريفة، فما بالك بالحب غير العفيف والعلاقات غير الشريفة.
ومن الأعراض التي تظهر على الفتاة مع تعرضها لهذا النوع من العلاقات:
[1] انخفاض المستوى الدراسي إن كانت من الدارسات.
[2] السرحان الدائم والسباحة في عالم الخيال [أحلام اليقظة].
[3] تبتدع الفتاة الأكاذيب الدائمة على أهلها للخروج ولقاء الحبيب.
[4] الخوف المستمر من معرفة الأهل والقلق والتوتر.
[5] وأيضًا تأنيب الضمير إذا خلت بنفسها.
عزيزتي الفتاة:
من خلال قراءتنا للكثير من القصص فإنني وضعتُ يدي على كثير من الآثار المترتبة على مثل هذا النوع من العلاقات منها:
1ـ خوف الفتاة المستمر من ترك الحبيب لها أو الانحدار معه إلى الهاوية، فهي علاقة مزيفة وعالم خيالي لا ينتهي إلا بالأخطاء والندم.
2ـ وقد تقع الفتاة ضحية الابتزاز والتهديد والفضيحة وإخبار الأهل إن قررتْ ترك الشاب الحبيب المزعوم.
3ـ قد تتعرض لصدمة نفسية ومحنة كبيرة واضطرابات عصبية ونفسية، ألم نرَ من أصيبوا بالجنون بعد ابتعاد الحبيب عنهم.
4ـ انكسار قلب الفتاة إذا لم تستمر هذه العلاقة وتنتهي بالزواج.(/1)
5ـ وإذا تم الزواج فقد يحدث الطلاق بعد الزواج بسبب كثرة الشكوك بين الزوجين {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة:109].
6ـ المشاكل الدائمة بين الفتاة وبين الأسرة.
7ـ وقد يترتب على هذه العلاقة انحراف وعلاقة غير شرعية قد يكون ثمرتها الحمل [الكارثة الكبرى].
8ـ فقد الفتاة لسمعتها وفقدها لثقة الآخرين.
9ـ فقد الفتاة لمستقبلها، وقد تفقد حياتها ثمنًا لمثل هذه العلاقات.
آنستي ... هنا أقف وأسألكِ إلى أين هذه العلاقة؟ ولماذا لا ترى النور؟ وسأترك الإجابة لكِ
ولماذا لا يتقدم هذا الشاب للزواج ويدخل البيت من الباب لا من الشباك؟
الحب إخلاص وصفاء ونقاء، الحب عهد ورسالة، والحب سر الحياة، وهو فطرة فطر الله الناس عليها وهو ضرورة من ضروريات الحياة.
وأنا أقول قول الشاعر:
إنما الحب صفاء النـ ـفس من حقد وبغض
إن أفئدة تهوى وتأبى هتك عرض
وجنون خدرات تلمح الحسن فتغض
إنني أكره حبًا يجعل الفسق شعارًا
يجعل اللذة قصدًا ويرى العفة عارًا
أعلن الحرب على أصحابه ليلاً ونهارًا
إنَّ ما تطلقه الفتيات على هذه العلاقة 'بالحب' إنما هو وهم وخيال، فليس هناك حب قبل الزواج، والحب الحقيقي هو الذي ينمو ويكبر في مؤسسة الزواج الشرعي،أما ما عدا ذلك فليس حبًا بل هم وغم بالليل والنهار.
لماذا تشرع الفتاة بهذه المشاعر؟ وما دوافع العلاقات العاطفية لدى الفتاة؟
هناك أسباب ودوافع لهذه العلاقة العاطفية منها:
1ـ الفراغ وتسلية الوقت: فليس لديها ما يشغلها من هوايات وأهداف كافية لشغل وقت الفراغ، ولوقت الفراغ ضرر رئيس وهو المنشأ الأساس لأحلام اليقظة، ونتيجة للاندماج في أحلام اليقظة كثيرًا ما يتحول الواقع إلى خيال والخيال إلى واقع، ويختلط هذا بذاك وتكون النتيجة أن تعيش الفتاة قصة حب وهمية.
2ـ البحث عن الحب الحقيقي.
3ـ الزواج.
4ـ الشهوة غير المنضبطة: فقد تكون لدى الفتاة طاقة جسمية غير مستغلة فتفكر في مثل هذه العلاقات.
5ـ الفراغ العاطفي: فلدى الفتاة قدرة على العطاء العاطفي للآخرين كما أنه لديها الرغبة في سماع بعض الكلمات الرقيقة، وحرمان الفتاة من الحنان والعطف قد يدفعها إلى مثل هذه العلاقات التي قد تدفع عمرها ثمنًا لها.
6ـ ضعف الوازع الديني والخوف من الله لدى الفتاة.
7ـ ضعف علاقة الأم بابنتها وإهمالها وعدم الاستماع لمشاكلها قد يدفع الفتاة للبحث عن بديل.
8ـ رفقة السوء والتأثر بتجارب الفتيات الأخريات.
عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
9ـ ومن الأسباب الرئيسية لهذه العلاقة الانفتاح الإعلامي:
فكلمات ومشاهد الحب والغرام والعشق تغزونا من كل جهة فتفتحت الأبصار وتفتقت الأذهان إن الإعلام بكل صوره لا يصور الحب بمعناه الصافي النبيل، فالإعلام الغربي يصور الحب على أنه قبلات وعلاقات جنسية مشبوهة وغير مشروعة بين الرجل والمرأة، ويحاكيه الإعلام العربي ناقلاً لنا لهذه القيم المنفلتة، وتسمية الزنى حبًا والفن الهابط حبًا، كما تصور الكثير من المشاهد الفنية، فإن ذلك يعد خروجًا عن الفطرة ونزولاً نحو الهاوية ونحو الانحراف الأخلاقي.
يقول الدكتور/ حمزة زوبع: 'ما تروجه المشاهد العربية والغربية تحت شعار الحب في حقيقتها استغلال سيئ ومنحط لأسمى قيم إنسانية وهي الحب، وما يشيعه الإعلام من نظريات التحرر والانفتاح والاختلاط بين الجنسين دون قيود، هو انسلاخ من قيم وهوية المجتمع' [مجلة الفرحة].
دراسة وتحليل
إلى المربي والمربية الفاضلة أقول:
هل صحيح أن الحب والغرام إنما يغلب على فترة المراهقة؟
وأن الحب والهيام والتعلق بالجنس الآخر هو ظاهرة المراهقة وقل من لا يمر بها فمقل ومستكثر؟
لماذا يتمكن انفعال الحب والتعلق عند المراهق فيستولي على فكره ومخيلته؟
ولماذا أحلام اليقظة والجنوح إلى الخيال؟
ولماذا تسرح الفتاة كثيرًا؟
يجيبنا علم النفس عن هذه الأسئلة فتقول د/عبد العزيز النغيمشي أستاذ علم النفس بجامعة الإمام محمد بن سعود: إن المراهق في مرحلة المراهقة يحس بحاجة إلى الجنس الآخر أشد ما يكون الإحساس بخلاف أي حاجة أخرى ويكون مشغول التفكير، مضطرب المشاعر كثير التخيل حول هذا الموضوع.
ويمكن أن نحدد طبيعة المراهق حول هذا الموضوع في النقاط التالية:
1ـ عدم الاستقرار.
2ـ إلحاح الغريزة.
3ـ ضعف الشعور بالنوع.
4ـ الفراغ النفسي وعدم الاكتمال.
وتؤكد الدراسات النفسية والتربوية أن التحولات الجنسية التي يعشها المراهق تؤثر على الاستمرار والنظام الحياتي، ويدخل المراهقون في دوامة التفكير والتخيل الجامح أحيانًا، وفي حال من القلق والمشاعر النفسية المضطربة حول جسده وعواطفه ومستقبله، وحول كيفية إشباع غريزته واتخاذ شريك حياته.(/2)
ويظهر الاضطراب ليس على نفسية المراهق فقط، بل يتعدى ذلك إلى الجوانب العملية في اتخاذ الهوايات وبرامج قضاء وقت الفراغ وطبيعة الرفقة المختارة، وأنواع التعامل مع الناس حيث تظهر العجلة واللامبالاة والتطرف في السلوك واستعراض القوة.
وهنا أقف عزيزتي الفتاة وأسأل:
أين أنتِ من الآية الكريمة {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}؟ وما معنى أخدان؟
ما موقف الشرع من العلاقات العاطفية بين الفتيات والشباب؟ وهل من حل ومخرج من هذا المأزق؟
هذا ما سنعرض له في الجزء الثاني من هذا المقال فتابعي معي حفظك الله تعالى من كل سوء وشر
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
{وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ}..[2]
قالت لي: هل من حل؟ قلتُ :لعل!!
كلمات تتردد على ألسنة الكثير من الفتيات: 'لا أحد في البيت يحبني أو يفهمني أو يشعرني بالتقدير والاحترام ... أبحث عمن يبادلني الحب فلا أجده … الجميع مشغول عني والكل يعاملني بقسوة ويحادثني بحدة ... أمي تعاملني كطفلة وأبي يشك في تصرفاتي .. وأخي يهزأ بي .. لقد سئمت هذه الحياة إنهم لا يحبونني'.
عزيزتي الفتاة المسلمة:
إن كنت فعلاً تقعين تحت ضغوط في بيتك وتفتقدين الحب والعطف والحوار الهادئ مع الأهل فهل هذا مسوغ ومبرر للبحث عن هذا المفقود خارج المنزل؟
يجيبنا الله تبارك وتعالى عن هذا بقوله في سورة النساء:{وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَان} [النساء:25] قال ابن عباس: ومتخذات أخدان يعني أخلاء، وقال الحسن البصري: يعني الصديق [تفسير القرآن العظيم لابن كثير]. فأين أنت آنستي من هذه الآية الصريحة في موضوع اتخاذ الأصحاب والأصدقاء من الرجال؟
إن وجود الصداقة بين الفتاة والشاب لا يخلو من الوقوع في براثن: النظرة الحرام، واللمسة الحرام، والخطوة الحرام، والخلوة الحرام، والكلمة الحرام. وزني ذلك كله بميزان قول الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
وأيضًا ميزان الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]. وأيضًا زني حالك بميزان: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُن} [النور:31]. وزني علاقتك العاطفية بميزان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:'ما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما' فانظري أين تضعين قدمك وأين تذهبين؟ وتأكدي أنه بعد انتهاء هذه العلاقة تذهب اللذات وتبقي الحسرات:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الذل والعارُ
تبقى عواقب سوءٍ في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النارٌ
أعلم آنستي أن الحب من أهم مظاهر الحياة الانفعالية للفتاة في هذه الفترة من العمر، ويتوقف تحقيق الصحة النفسية للفتاة على إشباع الحاجة إلى الحب، وعند البلوغ يتحول الحب والألفة إلى الجنس الآخر وتسبق الفتاة الفتى في هذا الميل نظرًا لبلوغها قبله.
وأعلم أن الفتاة تتحول من حالة انفعالية إلى حالة أخرى بسرعة، فهي تتأرجح بين التهور والجبن والمثالية والواقعية والتدين وعدم التدين. يعني باختصار نجد أن شخصية الفتاة تكون مضطربة قلقة غير مستقرة.
وأعلم كذلك أن للفتاة في هذه المرحلة مطالب اجتماعية ونفسية متعددة أهمها تكوين علاقات إيجابية مع الجنس الآخر، ولكن لو ترك الإنسان بلا قيود ولا ضوابط لكان حالنا كحال الحيوانات التي ليس لها ضوابط ولا قيود في علاقاتها.
ولقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم} [الإسراء:70] والضابط والقيد الذي يحمينا حتى من أنفسنا هو ضابط الدين والخوف من الله، فإذا قال لنا الله تعالى: {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} فهو أمر من الله بعدم اتخاذ الفتاة والمرأة عمومًا لصديق أو صاحب، والذي أمرنا بذلك هو أعلم منا بحالنا ولا يشرع لنا إلا ما يصلحنا وتصلح به حياتنا {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فتعالي معي لنعرف ماذا يريد الله بمثل هذه الحدود والضوابط؟
قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً[27]يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:27ـ28]. تكشف هذه الآية القصيرة عن حقيقة ما يريده الله للناس بمنهجه. فماذا يريد الله بالناس حين يبين لهم منهجه ويشرع لهم شرعه؟ وماذا يريد الذين يتبعون الشهوات؟
أما ما يريده الله بالناس فهو:
1ـ يريد أن يتوب على الناس.
2ـ يريد أن يهديهم.
3ـ يريد أن يجنبهم المزالق.
4ـ يريد أن يعينهم على التسامي في المرتقى الصاعد إلى القمة.
5ـ يريد تطهير المجتمع ورسم الصورة النظيفة التي يحب الله أن يلتقي عليها الرجال والنساء، وتحريم ما عداها.
ـ وأما ما يريده الذين يتبعون الشهوات فهم:(/3)
1ـ يريدون أن يميلوا ميلاً عظيمًا عن المنهج الراشد والمرتقى الصاعد والطريق المستقيم.
2ـ يريدون أن يطلقوا الغرائز من كل عقال ديني أو أخلاقي أو اجتماعي.
3ـ يريدون أن ينطلق السعار الجنسي المحموم بلا حاجز ولا كابح، فلا يقر معه قلب ولا يسكن معه عصب، ولا يطمئن معه بيت، ولا يسلم معه عرض، ولا تقوم معه أسرة.
كل هذا الفساد وهذا الشر باسم الحرية، وهي لست سوى اسم آخر للشهوة والنزوة. {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28]. واعلمي آنستي أنه لو كان هناك مصلحة من هذه العلاقات العاطفية بين الجنسين لما حرمها الله، ولكن الله يراعي اليسر فيما يُشرع لعباده، وإرادة التخفيف واضحة وتتمثل في: الاعتراف بدوافع الفطرة وتنظيم الاستجابة لها وتصريف طاقتها في المجال الطيب المثمر المأمون [مؤسسة الزواج].
' وكثيرون يحسبون أن التقيد بمنهج الله ـ وبخاصة في علاقات الجنسين ـ شاق مجهد والانطلاق مع الذين يتبعون الشهوات ميسر مريح وهذا وهم كبير.
فإطلاق الشهوات من كل قيد، وتحري اللذة ـ وحدها ـ في كل تصرف، وقصر الغاية من التقاء الجنسين في عالم الإنسان على ما يُطلب من مثل هذا الالتقاء في عالم البهائم، والتجرد في علاقات الجنسين من كل قيد أخلاقي، ومن كل التزام ديني، إن هذه كلها تبدو يسرًا وراحة وانطلاقًا، ولكنها في الحقيقة مشقة وجهد وثقلة، وعقابيلها في حياة المجتمع ـ بل في حياة كل فرد ـ عقابيل مؤذية مدمرة ماحقة.
والنظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي تحررت من قيود الدين والأخلاق والحياء في هذه العلاقة، يكفي لإلقاء الرعب في القلوب لو كانت هناك قلوب ' [في ظلال القرآن ـ سيد قطب].
وهنا نصل إلى عنوان المقال: هل من حل؟
فأقول: لعل.
فقد وضعت يدي على حلول شافية بإذن الله تعالى وهي في اتجاهين:
الأول: خاص بالفتاة.
الثاني: خاص بالأسرة وخصوصًا الأم الفاضلة.
وسأبدأ بما يخص الأسرة والأم الفاضلة:
1ـ لا يكفي أيتها الأم الفاضلة أن تكوني أمًا للفتاة ولكن كوني لها صديقة محبة، فالتغيرات التي تطرأ على الفتاة في هذه المرحلة من تغير في جسدها وتطور في تفكيرها وتحول في عواطفها وانفعالاتها تقتضي تحولاً في طريقة المخاطبة والمعاملة مع الفتاة، وهذا التحول يقتضي التعرف على حاجات الفتاة والاعتراف بهذه الحاجات لاتخاذ الأسلوب المناسب والصحيح في حل مشكلاتها.
'من أفضل السبل الناجعة للمربي أن يكون صديقًا لمن يربيه، يعايشه ويلاحظه دون إفراط ولا تفريط ولا قسوة ترهبه، ولا تدليل يميعه، وأن يجعل الصلة التي تربطه بالمنزل أقوى من الصلة التي تربطه بالمجتمع، وأن تكون صلة المودة بين الفتاة وأمها كافية للمكاشفة، والمصارحة لإشعارها بالمشاركة والمعاونة وعلى أساس من تبادل التجربة، وتحمل المسئولية، واستخدام العقل والحكمة' [تربية المراهق في رحاب الإسلام].
2ـ تربية الابنة من الصغر في ظل العقيدة والإيمان بالله، وإغلاق منافذ الشر عليها سبيل أكيد لحماية النفس من الوقوع في الخطأ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
3ـ تعويد الفتاة منذ الصغر على الصلاة والصوم والحجاب وآداب التعامل مع الجنس الآخر.
4ـ النضج المبكر يقتضي الإشباع المبكر ويكون ذلك بالزواج المبكر، لتحقيق الإشباع النفسي والجسمي للفتاة بطرق سوية ومشروعة. عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء' [أخرجه البخاري ومسلم].
5ـ الرقابة الواعية: فعلى الأم أن تكون ذات عيون مفتوحة وآذان صاغية وعقل متنور دقيق الاستدلال، لتراقب تصرفات ابنتها، ولكي تكون قادرة على توجيهها وإنقاذها في الوقت المناسب.
6ـ تقوية علاقات الحديث والتفاهم والحوار الهادف الهادئ مع المرونة، وتقوية العلاقة العاطفية بين الأم وابنتها، فالإحساس بالمودة والحب هو كل ما تحتاجه الفتاة من أمها.
يجب أن تعامل الفتاة على أساس أنها أصبحت آنسة راشدة ولم تعد صغيرة وتنال من المنزل والوسط الاجتماعي العناية والاحترام كما تناله الكبيرات كما يقول علماء النفس.
[2] الاتجاه الآخر وهو خاص بالفتاة فأقول لها:
1ـ افتحي مجال الحوار مع أمك فهي بالنسبة لك طوق النجاة وقولي لها: أمي هل تقبلين صداقتي؟ فهناك عدة نواحٍ مشتركة بين الأم وابنتها، وخبرات الأم تمثل أكبر موسوعة علمية في تجارب الحياة.
2ـ الاستعفاف امتثالاً لأمر الله تعالى:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].(/4)
والعفيفة يستحقها العفيف، وتذكري قصة هذا الشاب الذي فضل السجن على الاستجابة لدعوة المرأة للفاحشة فقال:{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}[يوسف:33] وهذا الشاب هو يوسف.
3ـ هناك أمران أساسيان وهما: أـ الخوف من الله، ب ـ ونهي النفس عن الهوى، فقد قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى[40]فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40ـ41].
هذان الأمران يساعدان على البعد عن كل ما حرم الله.
4ـ اشغلي وقت فراغك بكل مفيد وجديد واشبعي هواياتك فقد قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
5ـ اتركي أصحاب السوء واملئي حياتك بصديقات جديدات صالحات فالجليس الصالح لا يأتي من وراءه إلا كل الخير كحامل المسك.
6ـ عيشي الواقع لا الخيال، فكثير من القصص التي تناقش على الشاشة أو بين الفتيات لا أساس لها، بل هي غالبًا من نسج الخيال فلا تدمري واقعك بسبب خيال الآخرين، وفكري في المستقبل بشيء من الواقعية والعقلانية.
7ـ كوني شجاعة واتخذي القرار لا تترددي وكوني من الذين قالوا:{رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] واستبدلي الانحراف بالاستقامة والأرصفة بالمساجد والملاهي بحلق القرآن والأغاني بالذكر والتسبيح. يقول تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَق} [الحديد:16] قولي بلى يا رب الآن الآن، وادعي الله أن يهديك ويعينك على الاستقامة فمن وحده يرجى العون، قال الشاعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
واستمعي إلى البشارة من الغفور الرحيم وهو يقول لكِ: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70]. وتذكري الموت وأنك ستسألين عن شبابك فيما أبليتيه؟ فكل عمل تكرهين الموت من أجله اتركيه ثم لا يضركِ متى متِ. أسأل الله لكِ العون والاستقامة والقبو
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}..[4]
ولك أدوار .. مع القرار
عزيزتي الأخت الفاضلة:
أتعرفين تلك اللعبة القديمة التي نلعبها دوما:
عندما نريد أن ندفع شخصا ما إلى فعل شيئ معين ونحن نعرف أنه عنيد ومتمسك بعكس ما نريد منه فعله ماذا تفعلين وبالأخص لو كان الشخص طفلة ؟
نعم نعرف: في الغالب نظل نخاطبها ' أنت لا يمكنك أن تفعلي هذا , مثلك لا يستطيع , أنت عندك مشكلة , دعي هذه الأمور لغيرك من النساء ' مثل هذا الخطاب سيدفع المخاطب إلى إثبات العكس وبذل الجهد في سبيل ذلك بل سيدفعه إلى تغيير موقفه الأول لا لشيئ إلا للدفاع عن نفسه تجاه التهم المتلاحقة بغض النظر عن صحة موقفه الأول من عدمه وهذا بالضبط ما يقوم به أولئك: ' أنت لم تحققي ذاتك , ماذا قدمت لمجتمعك , إلى أي المناصب وصلت ....' وهكذا .... تدور العجلة ولا تتوقف فخ تقع فيه الكثيرات فهلا أخذت حذرك !!
فإلى المرأة العاملة حقا نتوجه بالحديث:
أنا هنا أخاطب المرأة العاملة في بيتها، وأقول لمن يطلقون 'المرأة العاملة' على من تعمل خارج المنزل: إن المرأة عاملة حتى وهي في المنزل بل عملها الحقيقي داخل منزلها.
فلا تقل من لا تعمل خارج البيت أنا عاطلة عن العمل وماذا أفعل؟
أنت لست عاطلة يا سيدتي بل عاملة، وإليك خطة مقترحة لك أن تتوسعي فيها كما تشائين:
أولاً: أن تعرفي دورك الحقيقي والأساس الذي خلقك الله له:
وهو السكن والحضن الدافئ واليد الحانية في منزلك على زوجك وأولادك وأهلك ومحارمك وهذا دور عظيم ومهم بعكس ما يظهر أعداء الإسلام.
فالبيت الذي ليس فيه من يقوم بهذا الدور ماذا يخرج لنا؟
هل يخرج لنا أزواجًا مفكرين وعاملين ومنتجين وعلماء؟
هل يخرج لنا أطفالاً أسوياء متميزين؟
بالطبع البيت الذي ليس فيه السكن هو محضن للعاطلين والمجرمين والمرضى النفسيين وغير ذلك من النماذج التي لا تبني المجتمع بل تكون معول هدم وخراب للأمة.
عزيزتي المرأة المسلمة:
الإسلام يعتبر البيت مملكة المرأة العظيمة, هي ربته ومديرته وقطب رحاه، فهي زوجة الرجل وشريكة حياته ومؤنس وحدته وأم أولاده، ويعد عمل المرأة في تدبير البيت ورعاية شؤون الزوج وحسن تربية الأولاد عبادة وجهادًا كما جاء في الحديث الشريف.
وكل مذهب أو نظام يحاول إجلاء المرأة عن مملكتها، ويخطفها من زوجها وينتزعها من فلذات أكبادها باسم الحرية أو العمل أو الفن أو غير ذلك هو في الحقيقة عدو للمرأة، يريد أن يسلبها كل شيء، فالمرأة لها أدوار كثيرة داخل البيت وهي لا تفطن لذلك.
ثانيًا: تربية النشء:(/5)
وهذا دور ليس بالسهل، ولا ننكر أنه دور تهيأت له المرأة بفطرتها، واختارها الله تعالى خالقها الذي خصها بنصيب أوفر من نصيب الرجل في جانب الحنان والعاطفة ورقة الإحساس وسرعة الانفعال ليعدها بذلك لرسالة الأمومة الحانية التي تشرف على أعظم صناعة في الأمة وهي صناعة أجيال الغد.
فلا تتركي هذا الدور للخادمة أو وسائل الإعلام هروبًا من المسؤولية، ولكن عليك أن تقرئي في مجال التربية للتعامل مع البنت ومع الولد وفي مراحل أعمارهم المختلفة، لتقومي بهذا الدور بمنطلق فكري ونظري وعقدي.
ثالثًا: تعلمي كل ما هو مفيد وحديث:
فمثلاً من الأمور الحتمية أن تتعلمي لغة الكمبيوتر والدخول على الانترنت، ليس من باب التسلية وقتل وقت الفراغ، ولكن من باب التعلم والاطلاع على أحوال المسلمين، وهناك من المواقع الإسلامية ما نفخر به، ويمكنك أن تقرئي ساحات الحوار والمنتدى الإسلامي وتتابعي أخبار العالم على المواقع الإخبارية .. وبذلك تكونين امرأة عصرية إيجابية متفهمة لواقع الأمة 'المسلم للمسلم كالجسد الواحد'.
رابعًا: حفظ القرآن الكريم وتجويده:
اجعليه هدفًا تسعين للوصول إليه، وهذا يحتاج ربما إلى سنوات من العمر فابدئي في وقت فراغك، ولا يكن ضعف الإرادة عقبة في سبيل تحقيق هذا الهدف.
خامسًا: استثمري مواهبك وقدراتك:
فالعقلاء يتفقون على أن قيمة المرء ما يحسنه، وهذا يصدق في الأمور الحياتية كلها، ولقد خلق الله الإنسان وأودع فيه طاقة وأودعه من الملكات والقدرات الشيء الكثير، ولكن كثيرًا من الناس يموت ولم يستغل جُلَّ هذه الطاقات والمواهب أو قام باستغلالها ولكن في غير طاعة، فأبدعي سيدتي فيما تحسنين وأخرجي كل طاقاتك ومهاراتك كأن تكون في:
ـ الخياطة والتطريز.
ـ كتابة مقالة أو أبيات من الشعر.
ـ الأعمال المنزلية والمطبخ.
فقد كانت النساء الأوائل عاملات وهن في بيوتهن، فقد كانت زينب بنت جحش ماهرة في الصناعات اليدوية، تدبغ وتخرز وماهرة في الخياطة لماذا؟ لتتصدق من مالها وبعرقها وكانت عائشة رضي الله عنها ماهرة في طلب العلم والفتوى وأم عطية وصفية كانتا طباخات ماهرات.
سادسًا: الدعوة إلى الله:
عن طريق نشر الخير بين أفراد الأسرة أو المجتمع أو المشاركة في عمل الأسواق الخيرية، أو جمع مادة لمحاضرة أو تحضير درس لغيرك من المسلمات، أو لنساء الأسرة، هذا يزيد من علمك ويجعلك مرجعًا يرجع إليه الصغار، وتكونين بذلك الأم القدوة والمثال.
سابعًا: اجعلي بيتك قبلة:
إن آتاك الله علمًا فلا تبخلي به على غيرك وتصدقي بنشره مقتدية بهدي رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم: 'خيركم من تعلم القرآن وعلمه'.
وسأضرب لك مثالاً من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وهي السيدة عائشة رضي الله عنها التي كانت تفد إليها الوفود من النساء والرجال للتعلم منها والتفقه في أمور دينهم.
وأما من نماذج النساء الفريدات في عصرنا الحالي امرأة سمعت وقرأت عنها ورأيت صورتها في إحدى القنوات الفضائية، إنها امرأة مصرية وبالتحديد من الإسكندرية تعلم الرجال والنساء يوميًا من الساعة الثامنة صباحًا وحتى الثامنة مساءً يتخللها بعض اللحظات للراحة ويسافر من أجلها الرجال والنساء يقصدون بيتها ليتعلموا على يديها القرآن الكريم حفظًا وتلاوة وتجويدًا، والذي يميزها أنها تعطي [إجازة] بالسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم للقراءات السبع، عمرها بلغ السبعين, نموذج للمرأة العاملة والتي تخدم مجتمعها وتعلم الناس كما أنها نموذج للزوجة الصالحة والوفية لزوجها.
ـ ويمكنك أيضًا إن كنت حاصلة على شهادة جامعية من مساعدة غيرك من النساء التي لم تنل فرصتها من التعليم، حتى تتمكن من قراءة كتاب الله وكتابة الرسائل وغير ذلك من ضروريات الحياة.
ولكن سيدتي قد تكون هناك عوائق منها:
1ـ الذنوب والمعاصي:فمن اشتغلت بأعراض النساء صدها ذلك عن الذكر والأولاد، ومن اشتغلت بالغناء صدها ذلك عن التلذذ بكتاب الله والاستئناس به.
2ـ عدم الاهتمام بالعلم الشرعي: فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
3ـ ضعف الثقة بالنفس:'لا أستطيع', كلمة ترددها الكثيرات من النساء عندما تدعوها إلى المعالي، إلى بذل الخير، إلى أن يكون لها أثر في بيتها ومجتمعها، ولا تقولها إلا لتهرب من المسئولية ولضعف ثقتها بنفسها.
4ـ عدم الاهتمام بتطوير النفس.
5ـ الحياء: قد يمنع الكثيرات عن تقديم النفع للآخرين.
6ـ الانشغال الزائد بالدنيا ومتاعها:'تعس عبد الخميلة أو الخميصة' فالمرأة التي همها أن يكون فستانها أجمل الفساتين، وأن تجمع أكبر عدد من الحلي وأدوات المكياج لا يرجى من وراءها أداء الدور المطلوب.
عزيزتي المرأة:
واتقاء هذه المعوقات والسلبية يكون عن طريق:
1ـ الاتصال بالله تعالى فهو القوة الدافعة لكل خير.(/6)
2ـ الاتصال بالوسط الإيماني: فكلما كانت المرأة في وسط نسائي صالح كان ذلك عونًا لها على زيادة الاندفاع إلى عمل الخير والصبر على المعوقات، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].
3ـ الشعور بالمسئولية: فأنت مسئولة سيدتي عن نفسك, عن عمرك, عن شبابك, عن علمك, عن مالك، عن بيتك: 'كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته' وما أصبنا بالسلبية إلا عندما قل الشعور بالمسئولية.
4ـ البعد عن سفاسف الأمور: فكلما توسعت المرأة في المباحات ومتع الحياة ضعفت عن أداء الواجبات واهتمت بالسفاسف من الأمور، والقيل والقال، وبالتالي قصرت في أداء الواجبات بل وضيعت المسؤوليات التي أنيطت بها.
والله تعالى الموفق وهو المستعان وعليه التكلان وإلى لقاء عما قريب بإذن المولي تعالي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[مستفاد من ناصح ـ مستشارك للسعادة الأسرية](/7)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ
الحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه، أما بعد،،،
فإن من أعظم الفتن التي يفتن الشيطان بها العباد، فتنة التزيين ولبس الحق بالباطل، واتباع الهوى في ذلك، ولقد وقع في هذا الشَرَك الخطير كثير من الناس- وبخاصة في زماننا هذا- حيث تموج الفتن موج البحر، وحيث كثر الخداع والنفاق، والدجل والرياء.
نعم إننا في زمان اشتدت فيه غربة الإسلام، وضُلل كثير من الناس، وتمكن الشيطان من كثير منهم تمكناً يظنون معه أنهم بمنأى عن عدوهم اللدود وعلى صلة بربهم ، وما ذلك إلا بسبب التباس الحق بالباطل، والجهل بالعلم، ولتعاون شياطين الجن والإنس: { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا...[112] } [سورة الأنعام] . فتعاونوا في وضع هذا التلبيس في قوالب من الأقوال مزخرفة، وألفاظ من القول خادعة، وتسمية للأشياء بغير أسمائها؛ فَضَلّ بسبب ذلك كثير من الناس، والعاقل منهم من وقف حائراً لا يدري أين وجهة الحق فيما يسمع ويرى من التناقضات، وتبرير المواقف الخاطئة، المخالفة للشريعة، بسبب استيلاء الهوى على النفوس، واستيلاء الشهوات على القلوب.
ولما كان من غير المستطاع المجاهرة برد الشريعة ورفضها؛ كان لابد لهم من لي أعناق النصوص من آيات وأحاديث؛ ليستدل بها أولئك المبطلون على المواقف المنحرفة وليست فيها دلالة عليها، ولو أن الذي يقع في الانحراف يعترف بذنبه وخطئه وضعفه في مخالفة الشريعة؛ لكان الأمر أهون، وكذلك لو أنه استدل بدليل في غير محله، ولما نُبّهَ إلى هذا الخطأ في الاستدلال رجع واعترف؛ لكان هذا أيضاً أهون، ولكن المصيبة أن يصر المسلم الذي حَرّفَ الأدلة ولواها ليجد لعمله مَخْرَجَاً وشرعية، فيكابر بعد بيان الحق له، ويغالط نفسه والمسلمين بصنيعه هذا.
أهمية الموضوع:
إن لدراسة التباس الحق بالباطل أهمية كبرى لما ينتج عن ذلك التلبيس من تزييف وفتنة، يكون لها الأثر السيء والضرر البالغ في تضليل الأمة، وتحريف الحقائق، وتزوير الأحداث، ويمكن توضيح أهمية الموضوع في الأمور التالية:
1- القيام بالعبودية لله لا يتم إلا بالإخلاص له، وأن تكون العبادة على بصيرة، والبصيرة بالدين لا تتحقق مادام أن الباطل ملتبساً بالحق، مما يلزم تنقية الحق من الباطل قال تعالى: { ... قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...[256] } [سورة البقرة] .
2- كثرة التلبيس والتضليل في عصرنا بوسائل إعلامية ماكرة، تلبس على الناس دينهم، وتخلط الحق بالباطل، بل وصل الأمر لدرجة قلب الحقائق، وإظهار الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وذلك لطمس الحق وتشويه حملته والداعين إليه، فكان لابد من إزالة هذا اللبس لإحقاق الحق، وإبطال الباطل بقدر المستطاع { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ[8] } [سورة الأنفال] .
3- السكوت المزعج لكثير من العلماء وطلبة العلم في ديار الإسلام أمام كثير من المستجدات والنوازل التي تبحث فيها الأمة عن الموقف الشرعي إزاء تلك النوازل، مما حدا بذوي القلوب المريضة في غيبة العلماء أن يلبسوا على الأمة أمرها، وتكلمت الرويبضة في أمر العامة، والأدهى والأمر أن من أهل العلم من يساهم في هذا التلبيس، فتراه يسمي الأمور بغير أسمائها، وينزل النوازل في غير مناطاتها، بل قد يثني على المبطلين، ويغض من قدر المصلحين، فإلى الله المشتكى.
4- أهمية تعرية الباطل وأهله، فمادام أن الحق مختلط بالباطل، وسبيل المجرمين لم يتميز عن سبيل المؤمنين، فإن الدين سيبقى مشوهاً عند الناس، وسيبقى التلبيس فيه قائماً { ... لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ...[42] } [سورة الأنفال] .
5- ضرورة بيان تلبيس الطواغيت ودعاة العلمنة في كثير من بلدان الإسلام، وما يضفونه على مخططاتهم الظالمة من تبريرات لظلمهم وادعاءاتهم التي قال الله في مثلها: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ[11]أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ[12] } [سورة البقرة] .
6- ظهور بعض المغالطات من كثير من الناس واستخدامها في تبرير المواقف الخاطئة، والمخالفات الشرعية، سواء أكانت فردية أو جماعية، فينبثق عنها مواقف وممارسات خاطئة تلبس على الناس أمرهم، ومنشأ هذه المغالطات في الغالب شهوة مزجت بشبهة، فتولد عنها مغالطة.
أسباب الانحراف عن الحق: إن الانحراف عن الحق والوقوع في الخطأ لا تعدوا أسبابه الفتن التالية:
1- فتنة الشبهات.
2- فتنة الشهوات.
3- فتنة الجمع بين الشبهة والشهوة.
ولبس الحق بالباطل، وكل انحراف، أو ضلال، أو خطأ، سواء أكان صغيراً أو كبيراً لا يخرج في دوافعه عن الأسباب الثلاثة السابقة.(/1)
فإذا وقع العبد في مخالفة شرعية، فإما أن يكون السبب في هذه المخالفة هو الجهل بها وعدم العلم بحرمتها، أو اشتبه الأمر عليه فحسبها مكروهة فقط، فهذا الخطأ سبب الشبهة الناتجة من قلة العلم وضعف البصيرة.
وأما إذا كان لدى من وقع في المخالفة علم وبصيرة في دين الله بأنها محرمة ومخالفة للشرع ومع ذلك وقع فيها عمداً، فإن الدافع لهذه المخالفة إنما هو الشهوة، وضعف النفس، ومثل هذا يقر ويعترف بمخالفته ومجانبته للصواب كما يعترف بذنبه وتقصيره.
أما إذا وقع في المخالفة عن شهوة وضعف، ثم لم يعترف بذنبه وتقصيره، وإنما راح يبحث عن شبهة شرعية، أو تفسير خاطئ، أو تأويل متعسف للأدلة؛ ليبرر بها خطأه، ويبرر بها ضعفه وشهوته مع علمه بخطأ تصرفه هذا في قرارة نفسه، فهذا هو الهوى، وهذه هي المغالطة، وهذا هو لبس الحق بالباطل، وهو أشنع أنواع الانحراف؛ لأنه مكر وتحايل على شرع الله، وخداع للناس.
إن أشد وأشر هذه الفتن من جمع بين الشبهة والشهوة وتحايل على شرع الله بأن غطى مخالفته وانحرافه بشبهة شرعية، وهو يعلم أنه متحايل ومخادع، ومثل هؤلاء الملبسين عقوبتهم عند الله أشد من الذين يقعون في المخالفات الشرعية، ولكنهم يعترفون بتقصيرهم وذنوبهم، ولا يكابرون، ولا يبررون ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ارتكاب الحيل، فقال: [ لَا تَرْتَكِبُوا مَا اِرْتَكَبَ الْيَهُود فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِم اللَّه بِأَدْنَى الْحِيَل]رواه ابن بطة، وجود ابن كثير إسناد هذا الحديث وحسنه ابن القيم .
وهذه هي حقيقة لبس الحق بالباطل، وحقيقة المغالطة؛ إذ أن الدافع الحقيقي للانحراف هو الهوى والشهوة وحب الدنيا، ولكن عوضاً عن أن يعترف بضعفه هذا وشهوته، ويعترف بذنوبه في مخالفته للشريعة فإنه يستدل لشهوته هذه بشبهة شرعية يعلم هو في قرارة نفسه أنها لا تصلح للاستدلال، لكن لابد من غطاء يغطى به هذا الضعف والهوى، وإذا ذهبنا لنتعرف على وسائل التلبيس والطرق التي ينطلق منها الملبس في أغلوطاته نجدها لا تخرج في الغالب عن الأمور التالية:
1- التأويل الفاسد واتباع المتشابه.
2- كتمان الحق وإخفاؤه.
3- تحريف الأدلة عن مواضعها، وعدم إنزالها في مناطاتها، وتفصيل ذلك فيما يلي:
1- التأويل واتباع المتشابه:
التأويل الفاسد الذي لم يدل عليه دليل يصرفه عن المعنى الظاهر الذي هو أشبه بتحريف الكلم، والغالب أن الذي يدفع إليه هو الجهل والهوى، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:' فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو التأويل الذي لم يرده الله رسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلفت الأمم على أنبيائها إلا بالتأويل، وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟'[ إعلام الموقعين 4/353].
وعند قول الله عز وجل في اليهود: { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[78] } [سورة آل عمران] . يقول سيد قطب رحمه الله عن هذه الآية:' وآفة رجال الدين حين يفسدون أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين، وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم، ويلوونها لياً، ليصلوا منها إلى مقررات معينة، يزعمون أنها مدلول هذه النصوص، وأنها تمثل ما أراده الله منها، بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها، معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يُلجئون إليها النصوص إلجاء'.
2- كتمان الحق وإخفاؤه:(/2)
وهو تحريف الأدلة عن مواضعها، وتغطية الحق بالباطل، وقد ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص المحذرة من كتمان الحق، وإخفائه والمتوعده لفاعليه بالوعيد الشديد من ذلك: قوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[174] } [سورة البقرة] . يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيرها:' هذه الآية جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرمه الله، ويشرعون لهم ما لم يشرعه من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع مالم يأذن به الله، و إظهار خلافه سواء أكان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود، أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك، كما قال تعالى: { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا...[91] } [سورة الأنعام] . وفي حكمهم كل من يبدي بعض العلم، ويكتم بعضه لمنفعة لا لإظهار الحق وتأييده'.
وبقيت كلمة أخيرة في موضوع كتمان الحق، ألا وهي: أن بعض الطيبين قد يقول: ألا يجوز كتمان العلم بل قد يجب أحياناً عند خوف الفتنة من الجهر به سواء أكان على النفس أو على الناس؟
والجواب أن في ذلك تفصيل كما يلي:
بادئ ذي بدء فإن حديثنا ليس عن كتمان العلم وإنما هو عن كتمان الحق الذي يجب أن يقال، وفي نظري والله أعلم أن بينهما اختلاف، وذلك أن العلم أنواع: فمنه ما هو واجب القول به وتعليمه الناس كفروض العين ونحوها، ومنه ما هو مستحب، ومنه ما يجوز قوله لأناس دون أناس حسب عقولهم وأفهاهم، أما قول الحق الواجب فأرى أنه من العلم الواجب إيصاله للناس، ولا يجوز كتمه؛ لأن في كتمه مفسدة تنافي مقاصد الشرع أو بعضها، وفي إخفائه فتنة للناس وليس العكس.
3- تحريف الأدلة عن مواضعها:
وهذه الطريقة من طرق التلبيس هي ثمرة من ثمرات الطريقتين السابقتين، إذ لابد لمحرف الأدلة من كتمان الحق، ولابد لمتبع المتشابه من تأويل كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من التأويل الفاسد الذي يؤدي إلى صرف الأدلة عما أراد الله بها وأراده رسوله، ومن ثم وضعها في غير موضعها، وهذا هو نوع من أنواع التحريف للأدلة عن مواضعها، إذ لايلزم من التحريف أن يكون لفظياً كما فعلت اليهود في التوراة، بل إن تحريف المعنى المراد إلى غير المراد هو تحريف للنصوص عن مواضعها أيضاً.
وهذا ما أشار إليه الشاطبي- وهو يستعرض مآخذ أهل البدع في الاستدلال-: 'ومنها: تحريف الأدلة عن مواضعها: بأن يرد الدليل على مناط، فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله، ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام وبأنه يذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً، إلا مع اشتباه يعرض له، أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه، فيكون بذلك السبب مبتدعاً...الخ' .
صور من لبس الحق بالباطل:
1- الاحتجاج على شرعية الأنظمة المبدلة لشرع الله، والمستحلة لما حرم الله بآثار عن السلف أنه: كفر دون كفر: وهذا، والله تحريف للأدلة عن مواضعها، وإنزال الحكم في غير محله، وافتراء وتجن على سلفنا الصالح، فما كانوا عن عصرنا يتحدثون، ولا أنظمته المبدلة لشرع الله يقصدون، فالله المستعان، ومن أحسن ما رأيت من الردود على هذا التلبيس ما كتبه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، ومما قاله:' وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره مما يلعب به المضللون في عصرنا من المنتسبين للعلم، ومن غيرهم من الجرآء على الدين، يجعلونها عذراً، أو إباحة للقوانين الوثنية الوضعية التي ضربت على بلاد المسلمين'.
فاللهم إنا نبرأ من هذا اللبس ونبرئ صحابة رسول الله، والتابعين لهم بإحسان من هذا التلبيس، وهذه المغالطات، وإنه لا أحد ينزل قول ابن عباس رضي الله عنه أو غيره من السلف على المبدلين لشرع الله في زماننا هذا إلا رجل سيطر عليه الجهل بالواقع فلا يعلم ما يدور من حوله، أو رجل منافق ملبس، يعلم واقعه وعدم مشابهته للواقع الذي كان يتحدث عنه ابن عباس، ولكنه يغالط، ويخلط الحق بالباطل اتباعاً للهوى، وطمعاً في دنيا يصيبها؛ فإنه لم يحدث قط في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً، وجعله شريعة يتحاكم إليها الناس.(/3)
2- الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، والرضى بالذل والمهانة: فمن يحتج بالقضاء والقدر ليبرر به انحرافه وكسله وضعفه، إنما هو مغالط وملبس، واحتجاجه ليس في محله، وإنما أورده لتبرير شهوته وضعفه، بدليل أنه في أمور الدنيا وكسبها لا نجده يقعد محتجاً بالقدر، وأن الله كتب عليه الفقر أو الجوع أو عدم الزواج، بل إنا نجده يسعى ويفعل الأسباب الممكنة لدفع كل ذلك، فلماذا لا يوجد هذا الدفع أيضاً في أمور الدين، فيسعى للآخرة سعيها، ويأخذ بأسباب الهداية، وأسباب النجاة من النار، وهي ميسرة لمن أرادها؟!، لماذا هو جبري في أمور الدين والآخرة، وقدري في أمور الدنيا؟!
3- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله خوف الابتلاء وتعريض النفس للفتن: و يحاول جاهداً في تغطية ضعفه هذا بمبررات شرعية، منها: الخوف من الفتن واعتزال كل ما يعرض النفس للابتلاء، ودرء المفاسد، معتمداً على قاعدة:' درء المفاسد مقدم على جلب المصالح'، والأمر في حقيقته ليس كذلك، وإنما هو الخوف والجبن، وإيثار السلامة، وعدم تحمل أي أذى، أو مكروه في سبيل الله.
إن صاحب هذا القول قد نسي أو تناسى سنة الله في الصراع بين الحق والباطل، وسنته سبحانه في الابتلاء والتمحيص؛ قال تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ[10]وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ[11]}[سورة العنكبوت] .
نعم إن من بيننا من يريد المغنم من الدعوة ولا يريد المغرم، بدليل عدم الإعداد والاستعداد لأي أذى يعترضه في الطريق ـ ولو كان قليلاً ـ، وإنما مادام الأمن والسلامة والراحة، فهو نشيط ومتحرك، فإذا ظهرت المحن وبدايات الابتلاء والتمحيص؛ آثر السلامة والراحة، وعلل ذلك بالابتعاد عن الفتن ودرء المفاسد.
4- المداهنة، وضعف الولاء والبراء؛ بحجة المداراة والتسامح، ومصلحة الأمة: إن الخلط بين المداراة والمداهنة، والتميع في الولاء والبراء بحجة التسامح، كل ذلك ينتج عنه آثار خطيرة على الدين وأهله، وذلك بما يفرزه هذا الخلط واللبس من المغالطة والتضليل على الأمة في أن ما يقع من الملبسين من مداهنة وموالاة لأعداء هذا الدين إنما هو مداراة. وإيضاحاً لهذا الأمر: أنقل كلاماً لأهل العلم يزيل اللبس في مسألة المداراة والمداهنة، ومسألة الولاء والتسامح.
قال البخاري رحمه الله في: [ بَاب الْمُدَارَاةِ مَعَ النَّاسِ وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ] وعَنْ عَائِشَةَ قالت: اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ: [ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ أَوْ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ] فَلَمَّا دَخَلَ أَلَانَ لَهُ الْكَلَامَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِي الْقَوْلِ فَقَالَ: [أَيْ عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ] رواه البخاري ومسلم.
ويعلق ابن حجر رحمه الله على حديث عائشة بقوله:' قال ابن بطال: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، لا سيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك'.
ومن هذا يتبين ما هي المداراة وما هي المداهنة، وأنهما ضدان لا يجتمعان، إذ إن المداراة صفة مدح وهي لأهل الإيمان، بينما المداهنة صفة ذم وهي لأهل النفاق، فهل بقي بعد هذا البيان مجال للالتباس في هذا الأمر؟!.
ثم إن مكمن الخطر في هذا الخلط ليس في مداهنة الفساق، وأهل المعاصي من المسلمين فحسب، وإنما الأخطر من ذلك هو: مداهنة الكفار بمشاربهم المختلفة تحت غطاء المداراة ومصلحة الأمة، حتى اهتز جانب الولاء والبراء ـ الذي هو الركن الركين في عقيدة التوحيد ـ وبدأ حاجز البغض للكفر وأهله يضعف، بل اهتز عند بعضهم، والسبب في ذلك: الجهل بحقيقة المداراة والمداهنة، أو المغالطة فيهما عن علم وهوى.(/4)
5- الانفتاح على الدنيا والركون إليها، بحجة التعفف عن الناس وإنفاق المال في وجوه الخير: وفي هذه الصورة مدخل خفي للشيطان الذي لا يألو جهداً في إغواء بني آدم خطوة خطوة، ولهذا: فهو يبدأ مع الإنسان ـ ليجره إلى الدنيا وغرورها ـ من باب التعفف عن الناس، ومساعدة المحتاج، وإغاثة الملهوف..إلخ، ثم بعد ذلك، وبعد إشغاله بالمال، وطرق جمعه، ومشاكله وشبهاته؛ نبحث عن صاحبنا الذي كنا نراه في لقاءات الخير والدعوة إلى الله؛ فلا نراه إلا قليلاً، وهكذا، حتى ينفتح على الدنيا، ويركن إليها، ويضع له الشيطان في كل وادٍ من أوديتها شغلاً وهماً يتشعب فيهما الفكر، ويتشتت فيهما الذهن، ويتحول المال المكتسب إلى استثمارات جديدة، وتوسع في المباحات وإسراف في المآكل والمراكب والمساكن، وقد كان الهدف في البداية هو التعفف، والإسهام في وجوه الخير والبر.
والغريب في الأمر أن هذا المغالط عندما يذكّر بالآيات التي تحذّر من الدنيا، وسرعة زوالها، وخطر الركون إليها، فإنه بدلاً من أن يشعر بالخطر ويسعى لتدارك الأمر؛ فإنا نجده يصر على المغالطة واللبس، ويقول: إن التعفف عن الناس مطلوب، ولابد للداعية أن يكون له مصدر يستغني به عن الناس وينفع به دعوته، ويساهم في الخير، وهو يعلم أن ليس هذا قصده، وإنما أراد تغطية حبه للدنيا والركون إليها بهذا الغطاء الشرعي الذي لم يراع الضوابط الشرعية فيه.
وقد يقول قائل: إذًا، ما العمل في مثل هذه الحالة، وبخاصة لمن أراد صادقاً أن يتعفف عن الناس وأن ينفع دعوته بالمال؟
والجواب لا أملكه، لأنها معادلة صعبة يختلف حلها من شخص لآخر، ويكفي في حلها أن يعلم الله سبحانه من أنفسنا أننا نريد التعفف والبذل بصدق في سبيل الله ، فعندئذ يحمينا برحمته من الدنيا وزخرفها، ويخرجها من قلوبنا لتبقى في أيدينا، وكل إنسان على نفسه بصيرة.
6- الاحتجاج بيسر الشريعة وضغط الواقع: إن القول بيسر الشريعة وسماحتها حق لا شك فيه، ولكن الاحتجاج بهذا التيسير للتفلت من أحكام الشريعة والتحايل عليها، واتباع الهوى في الأخذ بالرخص والشذوذات الفقهية، كل هذا باطل وتلبيس وتضليل، يتبنى ذلك أهل الأهواء الذين يتبعون الشهوات، يريدون بذلك تحلل المجتمع المسلم من أحكام الشريعة باسم التيسير وترك التشديد، وصدق الله العظيم:{ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا[27]}[سورة النساء] .
إن الذين يتشدقون بالتيسير، ويغالطون به بغير علم، ولا هدى من الله ، لو كان الأمر بأهوائهم لعطلوا كثيراً من أحكام الشريعة التي قد يُظَن فيها المشقة والضيق مع أن مآلها اليسر والسعادة في الدارين، فالله الرحيم بعباده، هو الذي يعلم ما يصلح شئونهم، وييسر أمورهم، ويعلم ما يشق عليهم وما لا يشق، إنه حكيم عليم.
7- التشهير بالدعاة والمصلحين واغتيابهم بحجة النصيحة والتحذير من الأخطاء:
فلا مدخل لملبّس ومغالط في إظهار حقده وتشفيه وحميته لنفسه في قالب النصح والديانة، وكل إنسان أدرى بنفسه وقصده، ولكن يبقى هناك بعض القرائن التي تكشف هذا اللبس والخداع في نفس المدعي للنصح والديانة، منها:
1- التشهير والتعيير بالمنصوح، خاصة إذا كان من المصلحين وأهل العلم.
2- الظلم، وعدم الإنصاف مع المنصوح، وبخسه حقه، وإخفاء خيره وحسناته.
3- عدم التثبت، والأخذ بالشائعات، وتصيد الأخطاء والفرح بها.
4- تغليب سوء الظن، وتفسير المقاصد بدون دليل وبرهان.
5- أن يكون قد عرف عنه الكذب وقلة الورع.
6- المداهنة للظالمين والركون إليهم.(/5)
8- التلبيس على الناس برفع لافتات إسلامية تخفي وراءها الكيد للدين وأهله: إن من أخطر ما يهدد الأمة في عقيدتها وأخلاقها أن تعيش في جو من اللبس والتضليل والخداع، فلا ترى الحق بصورته المضيئة، ولا الباطل بصورته القاتمة المظلمة، بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، ومن أعظم الالتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من الكفار الصرحاء، أو المنافقين الدخلاء برفع لافتات، ظاهرها الإسلام، ومحبة الدين والدعوة إليه، وباطنها الكيد والمكر والخداع، ويحصل من جراء ذلك: أن يُخدع كثير من المسلمين بهذه اللافتات فينشغلون بها، ويثنون على أهلها بدلاً من فضحها وكشف عوارها وتعرية باطلها، وعن خطورة التباس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين، يقول ابن القيم: فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما؛ كما قال عمر بن الخطاب:' إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية' وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين، ولم تستبن له؛ أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها، وكفر من خالفها، واستحل منه ما حرمه الله ورسوله'.
الأسباب الواقية من لبس الحق
1- علم وبصيرة بدين الله وشرعه، وعلم وبصيرة بما يضاد دين الله وشرعه: فإذا تحقق هذا الأمر؛ فإن الاستبانة لسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين قد تحققت، وبهذا: فلا مجال للشبهة أبداً؛ لانتفاء الجهل الذي منه تنتج الشبهات المؤدية إلى اللبس والتلبيس، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:' فتنة الشبهات تُدفع باليقين، وفتنة الشهوات تُدفعُ بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدّين مَنوطةً بهذين الأمرين، فقال:{ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ[24]}[سورة السجدة] . فدلّ على أنه بالصبر واليقين تُنالُ الإمامة في الدين، وجمع بينهما أيضاً في قوله:{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3]}[سورة العصر] ، فتواصوا بالحق الذي يَدْفَعُ الشبهات، وبالصبر الذي يَكُفّ عن الشهوات'.
2- الصبر وتقوى الله عز وجل: فبالصبر وتقوى الله؛ تدفع الشهوة وينتصر الإنسان على هواه؛ لأنه قد يحصل للإنسان البصيرة والعلم بدين الله ، ويتبين له الحق من الباطل، ولكن إذا لم يكن لديه الصبر عن شهوات النفس، والتقوى التي تحجزه عن مخالفة الصواب؛ فإنه يضعف، ويقع في المخالفة مع علمه بذلك، أما إذا اجتمع العلم والبصيرة مع التقوى والديانة فإنه إذا بان الحق ولاح؛ لم يكن أمام من هذه صفته إلا الإذعان والتسليم والانقياد، وذلك لانتفاء الشبهة والشهوة في حقه، إنه لا يمنع من الوقوع في الباطل بعد العلم والبصيرة، ولا يمنع من تلبيسه على الناس إلا الإيمان باليوم الآخر إيماناً جازماً ويقيناً صادقاً، وإن لم يتذكر العبد هذا اليوم ويحسب له حسابه: فلن يفيده في ذلك العلم والبصيرة؛ فكم من عالم بالحق تنكب عنه وخالفه .
3- محاسبة النفس ومجاهدتها وتحصينها بالذكر والدعاء والعمل الصالح: كما جاء في الحديث القدسي الذي منه: [...وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا...] رواه البخاري . فمن كان يسمع ويبصر، ويمشي ويبطش بنور الله وهداه: فإنه لن يخطئ أبداً؛ قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]}[سورة العنكبوت] . وبالضد من ذلك: فإن كثرة الذنوب من أسباب الضلال والزيغ؛ قال تعالى:{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[5]}[سورة الصف] .
4- مصاحبة أهل العلم والورع: ومشاورتهم، لأنه بالعلم الذي عندهم تحترق الشبهات، وبالتقوى والورع لديهم تحترق الشهوات، وبذلك يُسد على الشيطان البابان الرئيسان اللذان يدخل منهما ليلبس على النفس ويزين لها التلبيس .(/6)
ولعل مما يدخل في هذا السبب: الإكثار من قراءة أخبار أهل العلم والتقوى والجهاد من أنبياء الله الكرام، وصحبهم الأجلاء، والتابعين لهم بإحسان؛ ففيهم الأسوة والقدوة والخير كله.
5- الحذر من الدنيا، وعدم الركون إليها: إن من أعظم أسباب الانحراف عن الحق، والوقوع في الانحراف والمخالفات؛ هذه الدنيا الغرارة؛ فكلما انفتحت على العبد؛ كثرت شبهاتها، وانساق مع شهواتها المختلفة، وعندما يرد ذكر الدنيا فإنه يقصد بها كل ما أشغل عن الآخرة من متعها المختلفة التي أجملها الله في قوله سبحانه:{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[24]}[سورة التوبة] .
والانغماس في الدنيا وترفها وملذاتها ينتج عنه: غفلة عن الآخرة، وتشتت للذهن والقلب، وإعمال الفكر في الاستزادة منها، والخوف على فواتها، وهذا يؤدي إلى قسوة القلب ورقة الدين، ومن هنا: تبدأ النفس في الاستجابة لتزيين الشيطان، وتثور الشبهات والشهوات في القلب، والذي ينشأ منهما: الكذب، والتدليس، والتلبيس، والطمع، والجشع.. وبخاصة في مثل عصرنا الذي نعيش فيه، والذي كثرت فيه المعاملات المحرمة والشبهات، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم، ولذا: كان الأولى لمن أراد لنفسه السلامة من الدنيا وشبهاتها وشهواتها: أن يتخفف منها قدر الاستطاعة، وأن يرضى منها بالقليل؛ لأن هناك تناسب طردي ـ وخاصة في زماننا هذا ـ بين كثرة الدنيا وكثرة الوقوع في الشبهات والشهوات المؤديات إلى التدليس والتلبيس.
6- النصح للأمة والحذر من عاقبة التلبيس والتدليس عليها: فيبين الحق لأمته، ويعري الباطل ويكشفه لها، ولا يجعله ملتبساً عليها فتضل؛ لأن الذي يرى أمته تُضلل ويُلَبّس عليها دينها فتعيش في عماية من أمرها، ثم يتركها ـ وهو يعلم الحق من الباطل ـ إن مَن هذا شأنه: يعتبر خائناً لله ورسوله وللمؤمنين، وإن الله سائله يوم القيامة عن علمه: فيم عمل به؟ وهذا فيمن رأى التضليل والتلبيس فلم يُحذّر منه، ولم يكشفه للناس، فكيف بمن باشر التلبيس والتضليل بنفسه؟! إن هذا ـ بلا شك ـ أكثر خيانة من سابقه، وإن وزر وضلال من ضلله بتلبيسه هذا سيحمله فوق ظهره يوم القيامة.
والحاصل: أن شعور المسلم بإثم وعاقبة التلبيس، أو السكوت عليه؛ من أقوى الأسباب المانعة من الوقوع فيه ـ إن كان في القلب حياة، وخوف من الله، والدار الآخرة ـ، لأن من كان في قلبه المحبة الحقيقية لهذا الدين وأهله؛ لا يمكن أن يرى التضليل والتلبيس من المفسدين المنافقين ثم يرضى لنفسه السكوت والوقوف موقف المتفرج، بل لن يقر له قرار ويهدأ له بال حتى يساهم قدر استطاعته في إبانة سبيل المؤمنين، وإسقاط اللافتات الزائفة عن سبيل المجرمين، وتعرية باطلهم وخداعهم، وعندها: تعرف الأمة من توالي ومن تعادي، وعندها: تتميز الصفوف ويتميز المؤمن من المنافق، وكل هذا يحتاج إلى تضحيات باهظة، لكنها رخيصة في سبيل الله، لأن نصر الله الموعود لا يتم بدونها.
والله أعلم، وصلّ الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من:' ولا تلبسوا الحق بالباطل' للشيخ/ عبد العزيز بن ناصر الجليل(/7)
وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ ...
الشيخ/محمد حمودة ...
...
الحمد لله معز الإسلام بنصره ومذل الشرك بقهره ومزيد النعم بشكره ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولا بعدله فجعل العاقبة للمتقين بفضله. والصلاة والسلام على من كان يظلله الغمام وتسلم عليه الأحجار والأشجار، أما بعد :
ففي زمن الفتن التي لحقت بالأمة الإسلامية و حاولت أن تبعدها عن منهج ربها، وأن تطويها تحت جناح الذل والهيمنة الفكرية والاقتصادية والحربية، وركز أعداء الأمة على محاربة الدعاة وبأشد الطرق، فأخدوهم بالليونة تارة و بالقوة تارة أخرى وهذا ما تصوره الآيات، التي نحاول أن نقف على فهم لها من خلال كتاب الله. ثم لنطلع من خلالها على وسائل الثبات على الحق، لتعصمنا من الركون إلى الأعداء و بالتالي تعصمنا من سخط الله: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِين ? [ النساء : 144 ] .
فنسأل الله لك أخي الحبيب أن تخرج من هذا البحث بأجمل الثمرات فيه .
البحث حول تفسير لقوله تعالى : ? وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتّخَذُوكَ خَلِيلاً ?73 ? وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ?74 ? إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ? [الإسراء:74-75]، ? وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونكَ ?، ? وَإِذاً لاتَخَذُوكَ خَلِيلا ?، ? وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ ?، ? إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ?
بداية يجب التنبيه على أكثر من نقطة:
أن أسباب النزول لهذه الآية قد كثرت وقد اخترنا أقواها سنداً ومتناً:
قال السيوطي: " أخرج ابن مروديه وابن أبي حاتم من طريق إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد تعالى فاستلم آلهتنا وندخل معك في دينك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرقّ لهم، فأنزل الله :
? وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَخَذُوكَ خَلِيلاً ?73 ? وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ?74 ? إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ?[الإسراء:73-75] قلت وهذا أصح ما ورد في سبب نزولها وهو إسناد جيد وله شاهد " (1).
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم كاد أن يستدرك لمطاوعة قومه بسبب حرصه على إسلامهم فأرادوا مداهنته وهو لا يعلم أنهم يمكرون به .
قال ابن الجوزي : " قال ابن عباس: ....... وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوماً، ولكنه تخويف لأمته، لئلا يركن أحد من المؤمنين إلى أحد من المشركين في شيء من أحكام الله وشرائعه "(2).
"قال القاضي: معنى قوله تعالى: ? وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ ? أنك كنت على صدد الركون إليهم لقوة خداعهم وشدة احتيالهم، لكن أدركتك عصمتنا فمنعتك من أن تتقرب من الركون فضلاً عن أن تركن إليهم، وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام مساهم بإجابتهم مع قوة الداعي إليها، ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه ".
1- ? وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ?
لغة: " يفتنوك " لغة: " فتنه يَفْتِنُه": أوقعه في الفتنه".(3)
وقال ابن المنظور: " والفتنة: الضلال والإثم "(4).
اصطلاحاً:
ذكر القرطبي لها معنيين:
1- " ( يزيلونك ) يقال: فتنت الرجل عن رأيه إذا أزلته عما كان عليه، قاله الهروي"(5).
2- وقيل يصرفونك ، والمعنى واحد "(6).
فحاول المشركون أن يصرفوا أو يزيلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم القرآن وأوامره، وأرادوا أن يجعلوه مخالفاً لحكم القرآن(5)، وينتج عن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم سيفترى كذباً.
قال الماوردي: " يحتمل وجهين :
أحدهما : لتدعي علينا غير وحينا.
الثاني : لتعتدي في أوامرنا "(7).
لأنه إذا حكم بغير ما أنزل الله اضطر لأن يختلق حكماً لأصحابه ينسبه إلى الله تعالى ليجعل لما فعله وجهاً شرعياً، أولأنه سيخالف حكم الله في كتابه.
وهذا ما فُعل في هذا العصر، فقد سُوِم على كرامتنا وإسلامنا فقبلنا ففتنا عما جاء به قرآننا، فاضُطُّر أن يُبرر للجماهير أن ما فُعل يستند على رؤية شرعية.
لقد الله أراد بهذا الحدث أن يعلم أمة الحبيب صلى الله عليه وسلم عدم المساومة على الحق لأن أساليب العدو متنوعة تارة بالترغيب وتارة بالترهيب وتارة بالمساومة.
لذلك بوب د/ محمد أمحزون في كتابه باباً بعنوان " الثبات على المبدأ ورفض المساومة عليه ".(/1)
وعدّ من أساليب المشركين:
" استدراج صاحب الدعوة إلى أنصاف الحلول للتنازل عن بعض دعوته "(8) وذكر تحته القصة.
فعلى الأمة ألا ترضى بأنصاف الحلول ولا تساوم على الحق، فقد ساومنا على أرض فلسطين فضاعت لأننا حين ساومنا تخلى عنا الله ـ كما سنذكر فيما بعد ـ . فعلينا أن نستمسك بما أوحي إلينا لأننا على صراطٍ مستقيم.
وينتبه سيد قطب إلى معنى آخر فيقول : " هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً محاولة إغرائهم لينحرفوا ـ ولو قليلاً ـ عن استقامة الدعوة وصلابتها ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة.
ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هيناً، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية إنما يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها، ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق.
وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم بها أول مرة، لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء، والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر والذي يسكت عن طرف منها مهما ضئول، لا يمكن أن يكون مؤمناً بدعوته حق الإيمان فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر وليس فيها فاضل ومفضول وليس فيها ضروري ونافلة، وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنها.
وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه، كالمركب يفقد خواصه كلها حين يفقد أحد أجزائه، كالمركب يفقد خواصه كلها إذا فقد أحد عناصره !.
وأصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، وعرف المتسلطون أن استمرار المساومة وارتفاع السعر ينتهيان إلى تسليم الصفقة كلها.
والتسليم في جانب ولو ضئيل من جوانب الدعوة تكسب أصحاب السلطان إلى صفها، هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة، والله وحده هو الذي يعتمد عليه المؤمنون في دعوتهم، ومتى دبت الهزيمة في أعماق السريرة فلن تنقلب الهزيمة نصراً "[1]
وهذا نص نفيس على القارئ أن يقرأه أكثر من مرة .
فعلينا أن نساوم على حقوقنا، ولا يساوم الدعاة في دعوتهم.
ولينتبه أن هذا يخالف الأولويات في مسيرة الدعاة خاصة في زمن الاستضعاف.
2- ? وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ?
خليلاً لها معنيان:
1- الموالاة والمصافة والمصادقة من الخُلة.
2- أي: فقير لحاجته إليهم من الخَلة [انظر تفسير القرطبي:10/305 والماوردى:3/260].
والجمع بين المعنيين أولى، إذ لو مشى في طريق المساومة لصار صديقاً إليهم ورضوا عنه ? وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم ? [البقرة:120]، ولأن المسلم إذا تخلى عن الله استهوته الشياطين من الإنس والجن فضعف واحتاج إليهم ليأخذ منهم سلاحه وقوته وأمنه.
وأرى أن الواقع خير دليل، وما سفن القمح منا ببعيد بعد أن كنا أرضاً زراعية خصبة ولكن أوقعنا في فخ الفتنة فاتخذونا خليلاً.
فهم بداية يخلعونا من ديننا حتى نحتاج إليهم وبالفعل نجح مخططهم لأننا قبلنا المساومة على حق من حقوقنا ولو كان شبراً.
وهاك دليل آخر أنهم ساوموا عالماً على دينه فبذل لهم من دينه ما يحبون، فصار خليلاً لهم يحتاج منهم قوته وأمنه.
ونسي سعيد الحلبي الذي مدّ رجله في المسجد فدخل عليه السلطان فما رد رجله فأراد أن يعطيه مالاً فقال: " إن الذي يمد رجله لا يمد يده، ولو مد يده لقطع السلطان رأسه ".
وعلى المسلم أن يعادي أعداء الله ولا يواليهم وليعلم أن خسارته في مولاتهم ولأن الفقر مرهون بذلك الأمر.
3- ? وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ ?
قال القرطبي : " أي: على الحق وعصمناك من موافقتهم " [الجامع لأحكام القرآن:10/305].
فثبت أصلاً بالعصمة، ولكن ثبت الله نبيه وأمته من بعده بأشياء ومقومات نريد أن نقف على بعضها من خلال كتاب الله :
1- قيام الليل:
فعندما نام صلى الله عليه وسلم مهموماً من قومه أنزل الله: ? يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ? [لباب التقول في أسباب النزول:317 ، المزمل:1-2] فجعل تفريج كربه في قيام الليل. و كان سلفنا الصالح إذا همهم أمر بالنهار رددوا " إن الليل قريب "، لأنك بالليل تخلو بالله تدعوه وتتوسل إليه في و قت نزوله سبحانه و تعالى إلى السماء الدنيا، و تستمد منه عونك و قوتك.
2- قصص من قبله:(/2)
يقول د. محمد أمحزون: " الاستفادة من تجارب السابقين ، فهي خبرات عملية، وهي بين موقفين: موقف إيجابي يحسن التأسي به، وموقف سلبي ومنزلقات على الطريق ينبغى الحرص والإبتعاد عنها، فالموقف الإيجابي يشد عزائم المؤمنين، ويثبت روح الثبات فيهم كقصة أصحاب الإخدود التي عبرت عن صبر وثبات المؤمنين السابقين " [منهج النبي في الدعوة:73-74].
لذلك قال لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر قصص الأنبياء مع قومهم في سورة هود قال في آخرها: ? وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ?[هود:120].
قال الماوردى : "أي: نقوي به قلبك وتسكن إليه نفسك لأنهم بلوا فصبروا وجاهدوا فظفروا " [النكت والعيون:2/512].
3- وعي المسلمين لموقفهم في التاريخ:
ينبثق وعي المسلمين بذاتهم وموقفهم من خلال قوله تعالى: ? كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ? [آل عمران:110]
وقوله تعالى: ? فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ?43 ? وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ? [الزخرف:42-44] فهو ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ولقومه.
ومن قوله تعالى: ? تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ?[الفرقان:1] فإذا وعى المسلم موقفه كما هو وعاه ربعي بن عامر استطاع أن يثبت على الحق ويتحمل في سبيله ما يتحمل حتى يتم توصيله إلى الناس وإفهامهم إياه. و لكن حاول الغرب أن يلقوا في صدورنا أن الإسلام قد اتنهى دوره في الأرض و جاء دور الحضارة الغربية، فألقوا هذا في قلوب المسلمين فوقفوا عن دعوتهم وأخذوا في تلقي الحضارة الغربية مع اعتقادهم أنها منقذة لهم من الضلال والهزيمة، و لكن لا... مازال للمسلمين الدور في قيادة البشرية للخير، يقول المفكر الإسلامي سيد قطب - رحمه الله - : " فمن طبيعة المنهج الذي يرسمه هذا الدين ومن حاجة البشرية إلى هذا المنهج نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع في أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دوراً في هذه الأرض هو مدعو لأدائه ـ أراد أعداؤه أم لم يريدوا ـ وأن دوره هذا المرتقب لا تملك عقيدة أخرى كما لا يملك منهج آخر أن يؤديه، وأن البشرية بجملتها لا تملك كذلك أن تستغني طويلاً عنه ... ولا حاجة بنا إلى المضي في توكيد هذه الحقيقة على هذا النحو، ونكتفي في هذا الموضوع بعرض عبرة من الواقع التاريخي للإسلام، لعلها أنسب العبر في هذا المقام. بينما سراقة بن مالك يطارد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه وهما مهاجران خفية عن أعين قريش وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هم أن يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه طمعاً في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد وصاحبه أو يخبر عنهما ... ، وبينما هو يهم بالرجوع وقد عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكفيهما من وراءه
في هذه اللحظة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا سراقة كيف بك وسوارى كسرى ... ) .
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عارفاً بالحق الذي معه معرفته بالباطل الذي عليه الجماهير التي في الأرض كلها يوم ذاك. وكان واثقاً من أن الحق لابد أن ينتصر على هذا الباطل في صورته هذه ثم لا يكون ما يكون " [المستقبل لهذا الدين : سيد قطب] .
يقول الشيخ الغزالي : " ليست الأمة الإسلامية جماعة من الناس همها أن تعيش بأي أسلوب، أو تخط طريقها في الحياة إلى أي وجهة وما دامت تجد القلوب واللذة فقد أراحت واستراحت.
كلا .... كلا، فالمسلمون أصحاب عقيدة تحدد صلتهم بالله، وتوضح نظرتهم إلى الحياة وتنظم شئونهم في الداخل على أنحاء خاصة، وتسوق صلتهم بالخارج إلى غايات معينة. وفرق بين امرئ يقول لك: همي في الدنيا أن أحيا فحسب، وآخر يقول لك : إذا لم أحرس الشرف، وأصن الحقوق، وأرض لله وأغضب من أجله فلا سعت لي قدم ولا طرفت لي عين ...... . والمهاجرون إلى المدينة لم يتحولوا عن بلدهم ابتغاء ثراء أو استعلاء، والأنصار الذين استقبلوهم وناصبوا قومهم العداء، وأهدفوا أعناقهم للقاصى والداني، لم يفعلوا ذلك، ليعيشوا كيفما اتفق إنهم جميعاً يريدون أن يستضيئوا بالوحي وأن يحصلوا على رضوان الله وأن يحققوا الحكمة العليا التي من أجلها خلق الناس وقامت الحياة .......... وهل الإنسان جحد ربه واتبع هواه إلا حيوان ذميم أو شيطان رجيم " [فقه السيرة: محمد الغزالى: صـ188].(/3)
ويقول محمد قطب: " إن هذه الأمة .. لم تخرج لذات نفسها فحسب وإنما خرجت لتكون رائدة لكل البشرية وشاهدة عليه: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ? [البقرة:143] فهي حين تكون ذات وجود فعلى تحقيق الخير لنفسها وللبشرية معها. وحين ينحصر وجودها في الساحة فإنها تؤذي نفسها وتؤذي البشرية معها. وكلا الوجهين تحقق في تاريخ الأمة :
الجهة الأولى: أن الهوان الذي تعيش فيه الأمة اليوم يُنسي أبناءها قدر هذه الأمة، ووظيفتها التي أخرجها الله من أجلها إذ يجد المسلم نفسه وأمته في ذيل القافلة، لاهثين ليلحقوا بالركب فيستصغر قيمة نفسه، فلا يكاد يصدق أصلاً أنه أدى دوراً تاريخياً وكان قائداً لها ورائداً لمسيرتها.
الجهة الثانية: أن هذا الهوان ذاته ينسي المسلم المعاصر الهدف الذي يجب أن يعيش من أجله، فليس الهدف أن يلهث ليلحق بركب الجاهلية، وإنما هدفه أن يسترد مكان الريادة للبشرية مرة أخرى، ويرد البشرية الضالة إلى صوابها فإنه ينبغي ألا يغيب عن قلب المسلم المعاصر إحساسه برسالته الربانية ليكون هذا حافزاً له على العمل الجد ليخرج من تخلفه. " [ كيف نكتب التاريخ الإسلامي: محمد قطب: صـ161]
4- التذكير الدائم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته بأنهم على الحق:
قال تعالى: ? فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ?[الزخرف:43] . وقال أيضاً: ? فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ? [يونس:94].
وقال تعالى: ? وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ?36 ? وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ ? [الرعد:36-37]
وقال تعالى: ? وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ?[فاطر:31].
وقال تعالى: ? وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ? [الأنعام:126]
وقال أيضاً: ? قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ?[الأنعام:160].
5- الصبر:
" لم يكن تغيير الواقع الجاهلي وتحويله إلى واقع مسلم بالأمر الهين والسهل، بل قد احتاج إلى الجهد الكبير والإرادة الصلبة والعزيمة القوية.
وهذا الجهد لا يمكن المضي في بذله إلا إذا تدربت إدارة صاحبه على قوة التحمل وتوطنت نفسه على الصبر، لأنه العدة اللازمة في بلوغ الأهداف الكبيرة.
على أن الصبر ليس موعظة تستمع أو درساً يحفظ، وإنها مواقف تختبر بها صلابة الإرادة وقوة تحملها في الميادين المختلفة بالممارسة. " [منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة:77-78].
ويقول سيد قطب: " ذلك أن الله سبحانه يعلم ضخامة الجهد الذي تقتضيه الاستقامة على الطريق بين شتى النوازع والدوافع، والذي يقتضيه القيام على دعوة الله في الأرض بين شتى الصراعات والعقبات .. لا بد من الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي والصبر على جهاد المُشَاقِّين لله والصبر على الكيد بشتى صفوفه والصبر على بطء النصر والصبر على بُعد المشقة والصبر على انتفاش الباطل والصبر على قلة الناصر والصبر على طول الطريق الشائك والصبر على إلتواء النفوس وضلال القلوب وثقلة العناد ومضاضة الإعراض. " [في ظلال القرآن:1/141].
الصبر هو الواحة الخضراء لمن فقد الظل في القفراء وهو الجعفر الكبير لمن اشتد عليه الصدى في الصحراء حتى أوشك على الهلاك، ولتكن مع سورة الأنعام نستمع إلى هذا الزاد: ? وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ? [الأنعام:34].
وبعد أن ذكر الله قصة نوح عليه السلام في سورة هود وأنه ظل يدعو قومة قرابة العشرة قرون أتحفه الله بالنصر فقال لحبيبه: ? فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ? [هود:49].(/4)
وعندما أمره باتباع وحيه أمره بالصبر على ذلك حتى يحكم الله: ? وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ? [يونس:109] وبين سبحانه أن نصره لبني إسرائيل على فرعون كان بسبب صبرهم: ? وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ ? [الأعراف:137].
وعد الله الصابرين في زمرة المتقين والصادقين: ? وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ? [البقرة:177] وبعد المعارك الطويلة التي دارت رحاها في في آل عمران أمرنا في نهاية السورة ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?.
ولاحظ معي أن لفظ وصابروا يدل على المفاعلة على الأخذ والجذب، أي: أنه صبر إيجابي لا صبر سلبي.
وفي زمن الاستضعاف وتمكُن أعداء الله منا أُمرنا بالصبر على آذاهم وعدم قتالهم حتى يمكنا الله ونطهر ديننا: ? لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ? [آل عمران:186].
يقول ابن تيمية : " فأما قبل براءة وقبل بدر فقد كان ـ أي: الرسول صلى الله عليه وسلم ـ مأموراً بالصبر على آذاهم والعفو عنهم، وأما بعد بدر وقبل براءة فقد كان يقاتل من يؤذيه ويمسك لسانه عمن سالمه، كما فعل بابن الأشرف وغيره ممن كان يؤذيه. فبدر كانت أساس عز الدين وفتح مكة كان كمال عز الدين، فكانوا قبل بدر يسمعون الأذى الظاهر ويؤمرون بالصبر عليه وبعد بدر يؤذون في السر من جهة المنافقين وغيرهم ويؤمرون بالصبر عليه، وفي تبوك أمروا بالإغلاظ على الكفار والمنافقين فلم يتمكن بعدها كافر ولا منافق من آذاهم في مجلس خاص ولا عام، با مات بغيظه لعلمه بأنه يُقتل إذا تكلم.
فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى اللذين أمرهم بها في أول الأمر وكان ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية، وصارت تلك الآيات ـ أي: آيات الصبر على أذى الكفارـ في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينصره بما يقدر عليه من القلب ونحوه.
فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين، وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر .." [تقريب الصارم المسلوم على شاتم الرسول لابن تيميه: صلاح الصاوى:117-118].
6-الذكر:
وربما ينفد زاد الصبر فيكون التسبيح هو الذي دائماً يملؤه.
لذلك قال تعال رابطاً بين الصبر والتسبيح: ? فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ? [طه:130].
وقال: ? فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ?39 ? وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ? [ق:39-40].
فالذكر هو الزاد الدائم والرابط بين الإنسان والقوى العظمى في الكون، لذلك نرى أن المؤمنين قبل أن يخوضوا أي معركة يستقبلونها بالذكر، قال تعالى: ? وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ?250 ? فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ ? [البقرة:250-251].
وقال أيضاً: ? وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ?146 ? وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? [آل عمران:146-147].
وقال تعالى مبيناً زاد الثبات في المعركة : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ? [الأنفال:45].
وما انتصر الحبيب صلى الله عليه وسلم في بدر حتى وقع رداؤه من على منكبيه.(/5)
وإليك تلك القصة التي يرويها الشيخ حافظ سلامة في حروب الاستنزاف: " كما لا أنسى فضيلة الدكتور محمد نايل عندما كان بكتيبة من مدفعية هوزر تقع بضواحي السويس ويرى الجند عند اشتباكهم مع جنود العدو وهم يصيحون [هه هه هه] فيقول لهم لماذا لا تغيرون [هه هه هه] إلى [الله أكبر] عند حملكم دانات المدفعية، أو عند انطلاقها ؟!. بل وفي جميع تحركاتكم ؟! فإن عناية الله ستكون معكم ! ولم تمض ساعات بعد خروج د . محمد نايل ومع توصيته لهؤلاء الجنود. ولأول مرة تشهد المعركة عند تبادل طلقات المدفعية بيننا وبين مدفعية العدو ويبدأ أبناؤنا تنفيذ وصية دز محمد نايل بشعار " الله أكبر " فإذا بهم ولأول مرة يخرسون مدفعية العدو ويصيبونها في مقتل وتنتصر المدفعية المصرية لأول مرة " [ملحمة السويس في حرب العاشر من رمضان : حافظ سلامة:80]
فبالله أكبر نستجلب معية الله الخاصة التي تكون بالعناية والحفظ والنصر.
5- ? إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ?
ولقد ذكر الله عقاب الركون إليهم ومساومتهم على حقوقنا ودعوتنا وهو:
1- ضعف الحياة وضعف الممات:
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : " لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات"
والضعف هو النصيب " [النكت والعيون:3 \ 260].
2- ثم لا تجد لك علينا نصيراً :
التخلي عن النصرة بداية ثم لن ينصره أحد من عذاب الله فلا نصير له ولا معين فليذهب إلى من ساومهم ربما ينصرونه.
لذلك قال عمر بن الخطاب: " كنا أذل العرب فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله ."
وأخيرا هذا هو جهد المقل في هذا الموضوع فإن وفقت فما توفيقي إلا بالله، وإن أخفقت فبما كسبت يدي . والسلام عليكم ممن يحب لكم الخير والسلام .
(1) لباب التقول في أسباب النزول: السيوطي183
(2) زاد المسير : ابن الجوزي: 5/51
(3) القاموس المحيط الفيروزآبادى : 1221.
(4) لسان العرب : ابن منظور : 13/318.
(5) الجامع لحكام القرآن : القرطبي : 10/305.
(6) السابق: 10/305.
(7) السابق: 10/305.
(8) النكت والعيون : الماوردي : 3/260.
(9) منهج النبي في الدعوة : د/ محمد أمحزون 1030
(10) في ظلال القرآن: سيد قطب 4/2246(/6)
وُلد الهدى، فالكائناتُ ضياءُ
أحمد شوقي
وُلد الهدى، فالكائناتُ ضياءُ وفمُ الزّمان تبسُّمٌ وثناءُ
الرُّوحُ والملأُ الملائكُ حَولَهُ للدِّين والدنيا به بُشراءُ
والعرشُ يزهو ، والحظيرةُ تزدَهي والمنتهى ، والسِّدرَةُ العصماءُ
وحديقةُ الفرقان ضاحكةُ الربى بالترجمانِ ، شذيَّةٌ ، غنَّاءُ
والوحيُ يقطرُ سلسلاً من سلسلٍ واللوحُ والقلمُ البديعُ رُواءُ
نُظِمَتْ أسامي الرُّسلِ فهي صحيفة في اللوح ، واسمُ محمدٍ طغراءُ
اسم الجلالة في بديع حروفه ألفٌ هنالك ، واسم طه الباءُ
يا خير من جاءَ الوجودَ ، تحية من مُرسلينَ الى الهدى بك جاؤوا
بيت النبيين الذي لا يلتقي إلا الحنائف فيه والحنفاءُ
خيرُ الأبوةِ حازهم لكَ آدمٌ دونَ الأنامِ ، واحرزتْ حوَّاءُ
هم أدركوا عزَّ النبوَّةِ وانتهت فيها إليكَ العزَّةُ القعساءُ
خُلقتْ لبيتك ، وهو مخلوقٌ لها إن العظائِمَ كفؤها العظماءُ
بك بشَّر اللهُ السماء فزُيِّنت وتضوَّعت مسكاً بك الغبراءُ
وبدا مًحيَّاك الذي قسماتُه حق ، وغرَّتُه هُدىً وحياءُ
وعليه من نورِ النبوَّةِ رونقٌ ومن الخليل وهديِه سيماءُ
أثنى المسيحُ عليه خلف سمائه وتهلَّلت واهتزت العذراءُ
يومٌ يتيهُ على الزمان صباحُه ومساؤه بمحمدٍ وضَّاءُ
الحقُّ عالي الركن فيه ، مظفَّر في الملكِ ، لا يعلو عليه لواءُ
ذُعرت عروشُ الظالمين ، فزلزلت وعلتْ على تيجانهم أصداءُ
والنارُ خاوية الجوانب حولّهُمْ خَمَدَت ذوائبُها ، وغاض الماءُ
والآيُ تترى ، والخوارق جمةٌ جبريلُ رواح بها غداءُ
نِعمَ اليتيمُ بدت مخايلُ فضله واليُتمُ رزقٌ بعضُه وذكاءُ
في المهد يُستسقى الحيّا برجائه وبقصده تُستدفعُ البأساءُ
بسوى الأمانة في الصبا والصدقِ لم يعرفه أهلُ الصدقِ والأمناءُ
يا مَنْ له الأخلاقُ ما تهوى العلا منها وما يتعشَّقُ الكبراءُ
لو لم تُقم ديناً ؛ لقامت وحدَها ديناً تُضيءُ بنوره الآناءُ
زانتك في الخلقِ العظيم شمائلٌ يُغرى بهنَّ ويولعُ الكرماءُ
أما الجمالُ ؛ فأنت شمسُ سمائه وملاحةُ الصديقِ منك أياءُ
والحسن من كرم الوجوه، وخيره ما أوتي القوادُ والزعماءُ
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواءُ
وإذا عفوت فقادراً ، ومقدّراً لا يستهين بعفوك الجُهلاءُ
وإذا رحمت فأنت أمٌّ ، أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرُّحماءُ
وإذا غضبت فإنما هي غضبةٌ في الحق، لا ضغنٌ ولا بغضاءُ
وإذا رضيت فذاك في مرضاته ورضى الكثير تحلمٌ ورياءُ
وإذا خطبت فللمنابر هزةٌ تعرو النَّديَّ ، وللقلوب بكاءُ
وإذا قضيت فلا ارتياب ، كأنما جاء الخصوم من السماء قضاءُ
وإذا حميتَ الماء لم يورد ، ولو أن القياصر والملوك ظماءُ
وإذا أجرت فأنت بيت الله ، لم يدخل عليه المستجير عداءُ
وإذا ملكت النفس قُمْتَ ببرِّها ولو أن ما ملكت يداك الشاءُ
وإذا بنيت فخير زوجٍ عشرةً وإذا ابتنيت فدونك الآباءُ
وإذا صحبت رأى الوفاء مجسما في بردك الأصحابُ والخلطاءُ
وأذا أخذت العهد ، أو أعطيته فجميع عهدك ذمةٌ ووفاءُ
وإذا مشيت الى العدا فغضنفرٌ وإذا جريت فإنكَ النكباءُ
وتمدُّ حلمكَ للسفيهِ مُدارياً حتى يضيق بعرضك السفهاءُ
في كل نفسٍِ من سطاك مهابةٌ ولكل نفسٍ في نداك رجاءُ
والرأي لم ينضَ المهَّندُ دونه كالسيف لم تضرب به الآراءُ
يأيها الأمِّي ، حسبكَ رتبةً في العلم أن دانت بك العلماءُ
الذكرُ آية ربكَ الكبرى التي فيها لباغي المعجزات غناءُ
صدرُ البيانِ له إذا التقت اللُّغى وتقدّم البلغاءُ والفصحاءُ
لما تمشى في الحجاز حكيمهُ فضَّت عُكاظُ به، وقام حِراءُ
أزرى بمنطق أهله وبيانهم وحيٌ يقصرُ دونه البلغاءُ
حسدوا ، فقالوا : شاعرٌ ، أو ساحرٌ ومن الحسود يكون الاستهزاءُ
قد نال بالهادي الكريم وبالهدى ما لم تنل من سؤدد سيناء
أمسى كأنك من جلالك أمةٌ وكأنه من أنسه بيداءُ
يوحي إليك الفوز في ظلماته متتابعاً ، تجلى به الظلماءُ
دينٌ يشيد آيةً في آية لبنائه السوراتُ والأضواءُ
الحق فيه هو الأساس ، وكيف لا والله جلَّ جلاله البناءُ؟
أما حديثُكَ في العقول فمشرعٌ والعلم والحكمُ الغوالي الماءُ
هو صبغةُ الفرقان ، نفحة قدسه والسين من سوراته والراءُ
جرتِ الفصاحةُ من ينابيع النُّهى من دوحه ، وتفجى الإنشاء
في بحره للسابحين به على أدب الحياة وعلمها إرساءُ
أنت الدهورُ على سُلافته ، ولم تَفْنَ السلافُ ، ولا سلا الندماءُ
بك يا ابن عبد الله قامتْ سَمْحَةٌ بالحقِّ من مللِ الهدى غراءُ
بنيتْ على التوحيد ، وهي حقيقةٌ نادى بها سقراطُ والقدماءُ
وجد الزعافَ من السموم لأجلها كالشهد ، ثم تتابعَ الشهداءُ
ومشى على وجه الزمان بنورها كهانُ وادي النيل والعرفاءُ
إيزيسُ ذاتُ الملك حين توحَّدَتْ أخذت قوام أمورها الأشياءُ
لما دعوتَ الناسَ لبىَ عاقلٌ وأصمَّ منك الجاهلين نداءُ
أبوا الخروج إليك من أوهامهم والناسُ في أوهامهم سجناءُ
ومن العقول جداولٌ وجلامدٌ ومن النفوس حرائرٌ وإماءُ(/1)
داءُ الجماعة من ارسطاليس لم يوصف له حتى أتيتَ دواءُ
فرسمتَ بعدَك للعبادِ حكومةً لا سوقةٌ فيها ولا أمراءُ
الله فوق الخلق فيها وحده والناسُ تحت لوائها أكفاءُ
والدِّينُ يسرٌ ، والخلافةُ بيعةٌ والأمرُ شورى، والحقوقُ قضاءُ
الاشتراكيون أنتَ إمامهم لولا دعاوى القوم والغلواءُ
داويت متئداً ، وداووا طفرةً وأخفُّ من بعض الدواءِ الداءُ
الحربُ في حقٍّ لديك شريعةٌ ومن السُّمومِ الناقعاتِ دواءُ
والبِرُّ عندك ذمةٌ، وفريضةٌ لا منَّةٌ ممنونةٌ وجباءُ
جاءت فوحدت الزكاةٌ سبيله حتى التقى الكرماءُ والبخلاءُ
أنصفتَ أهلَ الفقر من أهل الغنى فالكلُّ في حقِّ الحياة سواءُ
فلو أنَّ إنساناً تخير ملةً ما اختار إلا دينكَ الفقراءُ
يأيها المسرى به شرفاً الى ما لا تنالُ الشمسُ والجوزاءُ
يتساءلون - وأنتَ أطهرُ هيكل بالروح أو بالهيكل الإسراءُ ؟
بهما سموتُ مطهرين، كلاهما نورٌ ، وريحانيَّة ، وبهاءُ
فضلٌ عليك لذي الجلال ومنةٌ والله يفعل ما يرى ويشاءُ
تغشى الغيوب من العوالم ، كلما طويتْ سماءُ قلدتْكَ سماءُ
في كل منطقةٍ حواشي نورها نونٌ ، وأنت النقطةُ الزهراءُ
أنت الجمالُ بها ، وأنت المجتلي والكفُّ ، والمرآةُ ، والحسناءُ
الله هيأ من حظيرة قدسه نزلاً لذاتك لم يجزه علاءُ
العرشُ تحتكَ سُدَّةً وقوائماً ومناكبُ الروح الأمين وطاءُ
والرسلُ دون العرش لم يؤذن لهم حاشا لغيرك موعدٌ ولقاءُ
الخيلُ تأبى غير أحمد حامياً وبها إذا ذكر اسمه خيلاءُ
شيخُ الفوارس يعلمون مكانه إن هيجت آسادها الهيجاءُ
وإذا تصدى للظبي فمهندٌ أو للرّماح فصعدةٌ سمراءُ
وإذا رمى عن قوسه فيمينه قدرٌ ، وما ترمي اليمينُ قضاءُ
من كل داعي الحق همَّةُ سيفه فلسيفه في الراسيات مضاءُ
ساقي الجريح ومطعمُ الأسرى ، ومن أمنت سنابكَ خيلهِ الأشلاءُ
إن الشجاعة في الرجال غلاظة ما لم تزنها رأفةٌ وسخاءُ
والحرب من شرف الشعوب، فإن بغوا فالمجد مما يدعون براءُ
والحربُ يبعثها القويُّ تجبُّراً وينوءُ تحت بلائها الضعفاءُ
كم من غزاةٍ للرسول كريمةٍ فيها رضىً للحقِّ أو إعلاءُ
كانت لجند الله فيها شدةٌ في إثرها للعالمين رخاءُ
ضربوا الضلالة ضربةً ذهبت بها فعلى الجهالة والضلال عفاءُ
دعموا على الحرب السلام ، وطالما حقنت دماءً في الزمان دماءُ
الحقُّ عرضُ الله ، كلُّ أبيةٍ بين النفوس حمىً له ووقاءُ
هل كان حول محمدٍ من قومه إلا صبيٌّ واحد ونساءُ؟
فدعا ، فلبى في القبائل عصبةٌ مستضعفون، قلائلٌ أنضاءُ
ردوا ببأس العزم عنه من الأذى ما لا تردُّ الصخرةُ الصماءُ
والحقُّ والإيمان إن صبَّا على برد ففيه كتيبةٌ خرساءُ
نسفوا بناء الشرك، فهو خرائبٌ واستأصلوا الأصنام ، فهي هباءُ
يمشون تغضي الأرضُ منهم هيبةً وبهم حيالَ نعيمها إغضاءُ
حتى إذا فتحت لهم أطرافها لم يطغهم ترفٌ ولا نعماءُ
يا من له عزُّ الشفاعة وحدهُ وهو المنزهُ ، ما له شفعاءُ
عرش القيامة أنت تحت لوائه والحوضُ أنتَ حيالهُ السَّقاءُ
تروي وتسقي الصالحين ثوابهم والصالحات ذخائرٌ وجزاءُ
ألمثل هذا ذقت في الدنيا الطوى وانشقَّ من خلقٍ عليك رداءُ؟
لي في مديحك يا رسولُ عرائسٌ تيمنَ فيك ، وشاقهنَّ جلاءُ
هنَّ الحسانُ ، فإن قبلت تكرماً فمهورهنَّ شفاعةٌ حسناءُ
أنت الذي نظمَ البريَّةَ دينُهُ ماذا يقول وينظم الشعراءُ؟
المصلحون أصابعٌ جمعت يداً هي أنت، بل أنت اليدُ البيضاءُ
ما جئتُ بابكَ مادحاً ، بل داعياً ومن المديح تضرُّعٌ ودعاءُ
أدعوك عن قومي الضعاف لأزمةٍ في مثلها يلقى عليك رجاءُ
أدرى رسول الله أن نفوسهم ثقةٌ ، ولا جمع القلوب صفاءُ
رقدوا، وغرهم نعيمٌ باطلٌ ونعيمُ قومٍ في القُيود بلاءُ
ظلمُوا شريعتك التي نلنا بها ما لم ينل في رومة الفقهاءُ
مشتِ الحضارة في سناها ، واهتدى في الدِّين والدُّنيا بها السعداءُ
صلى عليك الله ما صحب الدُّجى حادٍ ، وحنَّت بالفلا وجناءُ
واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدنٍ آلك السُّمحاءُ
خيرُ الوسائل ، منْ يقع منهُم على سبب إليك فحسبي الزهراءُ(/2)
يؤذيني ابن آدم يسب الدهر
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار). الحديث أخرجه البخاري و مسلم.
معاني المفردات:
السب: الشتم أو التقبيح والذم.
الدهر: الوقت والزمان.
يؤذيني: أي ينسب إليَّ ما لا يليق بي.
وأنا الدَّهر: أنا ملك الدهر ومصرفه ومقلبه.
ألفاظ للحديث:
جاء الحديث بألفاظ مختلفة منها رواية مسلم: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يقول: يا خيبة الدهر، فلا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره فإذا شئت قبضتهما).
ومنها رواية للإمام أحمد: (لا تسبوا الدهر فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر الأيام والليالي لي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك) وصححه الألباني.
معنى الحديث:
أقسم الله تعالى بالعصر والزمان لعظمته وأهميته، فهو ظرف العمل ووعاؤه، وهو سبب الربح والخسارة في الدنيا والآخرة، وهو الحياة، فما الحياة إلا هذه الدقائق والثواني التي نعيشها لحظة بلحظة، ولهذا امتن الله به على عباده فقال: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا}(الفرقان 62) فمن فاته عمل الليل قضاه بالنهار، ومن فاته عمل النهار قضاه بالليل.
وكان أهل الجاهلية إذا أصابتهم مصيبة، أو حُرِموا غرضاً معيناً أخذوا يسبون الدهر ويلعنون الزمان، فيقول أحدهم: " قبح الله الدهر الذي شتت شملنا "، و" لعن الله الزمان الذي جرى فيه كذا وكذا "، وما أشبه ذلك من عبارات التقبيح والشتم، فجاء هذا الحديث لرد ما يقوله أهل الجاهلية ومن شابههم وسلك مسلكهم، فبيَّن أن ابن آدم حين يسب الدّهر والزمان، فإنما يسب في الحقيقة الذي فعل هذه الأمور وقدَّرها، حتى وإن أضاف الفعل إلى الدهر، فإن الدَّهر لا فعل له، وإنما الفاعل هو ربُّ الدهر المعطي المانع، الخافض الرافع، المعز المذل، وأما الدهر فليس له من الأمر شيء، فمسبتهم للدهر هي مسبة لله عز وجل، ولهذا كانت مؤذية للرب جل جلاله
ومَثَلُ من يفعل ذلك كرجل قضى عليه قاض بحق أو أفتاه مفت بحق، فجعل يقول: " لعن الله من قضى بهذا أو أفتى بهذا "، ويكون ذلك من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وفتياه فيقع السبُّ عليه في الحقيقة، وان كان السابُّ لجهله أضاف الأمر إلى المبلِّغ، مع أن المبلِّغ هنا ناقل للحكم، فكيف بالدهر والزمان الذي هو مجرد وعاء، وطرف محايد لا له ولا عليه، والله تعالى هو الذي يقلبه ويصرفه كيف يشاء.
إذاً فالإنسان بسبِّه للدهر يرتكب جملة من المفاسد، منها أنه سبَّ من ليس أهلاً للسب، فإن الدهر خلق مسخَّر من خلق الله، منقاد لأمره متذلل لتسخيره، فسابُّه أولى بالذم والسب منه.
ومنها أن سبه قد يتضمن الإشراك بالله جل وعلا، إذا اعتقد أن الدّهر يضر وينفع، وأنه ظالم حين ضر من لا يستحق الضر، ورفع من لا يستحق الرفعة، وحرم من ليس أهلاً للحرمان، وكثيراً ما جرى هذا المعنى في كلام الشعراء القدماء والمعاصرين، كقول بعضهم:
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا *** وأنت والد سوء تأكل الولدا
وقول المتنبي:
قبحا لوجهك يا زمان كأنه *** وجه له من كل قبح برقع
وقال آخر:
إن تبتلى بلئام الناس يرفعهم *** عليك دهر لأهل الفضل قد خانا
فسابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما: إما مسبة الله، أو الشرك به، فإن اعتقد أن الدَّهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك، فهو يسب الله تعالى.
ثم إن في النهي عن سب الدهر دعوة إلى اشتغال الإنسان بما يفيد ويجدي، والاهتمام بالأمور العملية، فما الذي سيستفيده الإنسان ويجنيه إذا ظل يلعن الدهر ويسبه صباح مساء، هل سيغير ذلك من حاله؟ هل سيرفع الألم والمعاناة التي يجدها؟ هل سيحصل ما كان يطمح إليه؟، إن ذلك لن يغير من الواقع شيئاً، ولا بد أن يبدأ التغيير من النفس وأن نشتغل بالعمل المثمر بدل أن نلقي التبعة واللوم على الدهر والزمان الذي لا يملك من أمره شيئاً.
نعيب زماننا والعيب فينا *** وما لزماننا عيب سوانا
وقد نهجوا الزمان بغير جرم *** ولو نطق الزمان بنا هجانا
هل الدهر من أسماء الله؟
والدَّهر ليس من أسماء الله، وذلك لأن أسماءه سبحانه كلها حسنى، أي بالغة في الحسن أكمله، فلابد أن تشتمل على وصف ومعنى هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة، ولهذا لا يوجد في أسماء الله تعالى اسمٌ جامدٌ لا يدل على معنى، والدَّهرُ اسم جامد لا يحمل معنى سوى أنه اسم للوقت والزمن.
ثم إن سياق الحديث أيضاً يأبى أن يكون الدَّهر من أسماء الله لأنه قال: (وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار)، والليل والنهار هما الدهر، فكيف يمكن أن يكون المقلَّب بفتح اللام هو المقلِّب بكسر اللام؟! ولذلك يمتنع أن يكون الدَّهر اسماً لله جل وعلا.
الأذى والضرر(/1)
وقد ذكر الحديث أن في سب الدهر أذية لله جل وعلا، ولا يلزم من الأذية الضرر، فقد يتأذى الإنسان بسماع القبيح أو مشاهدته أو الرائحة الكريهة مثلاً، ولكنه لا يتضرر بذلك، ولله المثل الأعلى، ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن فقال تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا}(الأحزاب 57)، ونفى عن نفسه أن يضره شيء فقال تعالى: {إنهم لن يضروا الله شيئا}(آل عمران 176)، وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني) رواه مسلم.
11/07/2004
http://www.islamweb.net المصدر(/2)
يا " لَفَلُّوجَةِ " العراق !
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يا لَهذا الضِّياءِ واللأْلاءِ ... ... مِنْ مَيَادينِها وهذا السَّناءِ
الدِّماءُ التي تُفَجِّرُها الأرْ ... ... ضُ حياةٌ ! فيا لِتلْكَ الدماءِ
تَمْلأُ الأُفْقَ ! كُلَّ أُفقٍ ضياءً ... ... فإذا الأرضُ شُعْلةٌ مِنْ ضياءِ
يا " لَفَلُّوجَةِ " العراق أعيدي ... ... كُلَّ يومٍ روائعاً من فِداءِ
فَجِّري الأرضَ تَحْتَ أقْدامِهِمْ وَقْـ ... ... ـدَةَ نَارٍ تُزِيحُ مِنْ ظَلْمَاءِ
الملايينُ أقْبلتْ واشْرَأبَّتْ ... ... كي تَرى وثْبَة العُلا و الإباءِ
وقلوبُ المُسْتَضْعَفينَ تَراها ... ... خَفَقَتْ جَذْلَةَ الهوى و الرَّجاءِ
أنْ ترى ذِلَّةَ الطُّغَاةِ وهَوْن الـ ... ... ـمُجْرمينَ البُغاة والأشقياءِ
وهَوانَ المُسْتكْبرين وقدْ ذُلُّـ ... ... ـوا وذَاقُوا مَرَارة من بَلاءِ
والَّليالي تواثَبتْ كي ترى آ ... ... يةَ عَزْمٍ وهِمَّةٍ قَعْساءِ
فَثِبي يا هِضَابُ ! يا قِمَمَ الْمَجْـ ... ... ـدِ وأرْضَ الرشيدِ و الخُلفاءِ
واعْصِفي بالطُّغاة ! دوِّي دويَّاً ... ... زَلْزِلي الأرضَ ! زَلْزِلي من فضاءِ
زَمْجِري وامْلَئي الحياةَ دَويَّاً ... ... صاعقاً من دمٍ و من أشْلاءِ
زَمْجِري واهْدُري ! أعيدي نداءً ... ... وامْلئي كُلَّ ساحةٍ بالنِّداءِ
* * * * * * ... ... * * * * * *
يا " لَفَلُّوجة " العراق أَطِليِّ ... ... أيْقِظي النَّائمين من أَدْعِياءِ
لا تُرَاعي إذا رأيْتِ غُثَاءً ... ... مِنْ حُشودٍ وغَفْوَةً مِنْ غُثاءِ
مَزَّقتها الأهْواء في شُعَبِ الأر ... ... ضِ وفي تِيْهها وجَهْدِ بَلاءِ
يا لآذانها ! وقد سُدَّتِ الآ ... ... ذان ! لا حيلة إلى إصْغاءِ
يا لأبْصارها ! وقد سُكِّرتْ أبْـ ... ... ـصَارها ! غُشِّيَتْ ! وأيُّ غِشَاءِ
وصُدورٍ كَأنَّما فرَّ مِنْها ... ... مَا حَوتْهُ مِنَ القلوب الهواءِ
ونُفوسٍ تَتيهُ في غَفْوة الأحـ ... ... ـلام ! في سَكْرةٍ وطُولِ عَنَاءِ
خَدَرٌ صُبَّ في العُروقِ وألْقى الْـ ... ... ـنَّاسَ في مَهْمَهٍٍ بَعيد الرَّجاءِ
فقَطيعٌ نَهْبَ المَجازِر بَاقٍ ... ... وعَبيدٌ تُسَاقُ نَهْبَ الفَناءِ
كُلُّ صََوتٍ يدور يَهْمِسُ في رَعْـ ... ... ـشة خَوفٍ ورَجْفةٍ خَرْسَاءِ
أمَّة الحَقِّ ! مَا دَهاَكِ فَأصْبَحَـ ... ... ـتِ شَظايا تَناثَرتْ في الفضاءِ
كَيْف أصْبحتِ حفْنَة من رمادٍ ... ... في أعاصير جَوْلةٍ و لِقاءِ
* * * * * * ... ... * * * * * *
زُمَرُ المجرمين ضَمُّوا صُفوفاً ... ... يا لِذُلّ الصُّفوف والحُلفاءِ
زَحَفُوا كالجبال ، كالموج ، كالطُّو ... ... فَانِ ، في زَهْوةٍ وفي خُيَلاءِ
بَين أيديهمُ عبيدُ دُولارٍ ... ... وهوانُ العبيد و العُملاءِ
كيفَ باعُوا أعزَّ ما يملك الـ ... ... ـناسُ : ضميراً ، بقيّةً مِنْ حَياءِ
شَرفٌ لا يُبَاع لو علم القو ... ... مُ ،ودينٌ ، وعزَّةُ الأوْفياءِ
ذَهَبُ الأرضِ كُلُّهُ لا يُسَاوي ... ... خَفْقَةً مِنْ هُدىً و صِدْقِ وفاءِ
هَلَكُوا كُلُّهم بِمُنْتن رِجْسٍ ... ... وعَذابٍ أَخْزى و طُولِ شَقاءِ
* * * * * * ... ... * * * * * *
أَقْبَلَ المُجْرِمون ، ويْحِي ، وداءُ الـ ... ... ـكِبْرِ فِيهمْ وسَكْرةُ الْكِبْرِياءِ
وعَدُوا أنَّهُمْ سيَأْتُون بِالْخَيْـ ... ... ـرِ وبِالأمْنِ أو بِطُول الرَّخَاءِ
مَلؤوا الأرضَ مِنْ وُعُودٍ كِذابٍ ... ... وخِداعٍ وفِتْنَةٍ مِنْ مِراءِ
حَسِبوا أنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ وَرْداً ... ... لِوُعُودٍ و زُخْرفٍ وافْتَراءِ
وإذا وَعْدهُمْ مَجازِرُ تَجْرِي ... ... ودَمَارٌ وهَجْمةٌ مِنْ فَناءِ
* * * * * * ... ... * * * * * *
يا " لَفلُّوجَةِ العراق أطِلِّي ... ... يا لبغدادَ يا لأرض العَطاءِ
الضحايا على رُبُوعكِ أكوا ... ... مٌ ودفْقُ الدماءِ والأشلاءِ
مِنْ نِساءٍ تَمزَّقتْ ورجالٍ ... ... قُطِّعتْ أو طفولةٍ في العَراءِ
جُنَّتْ الأرض من دويِّ صورايـ ... ... ـخٍ وقصْفٍ مُرَوّع الأنْباءِ
كُلَّ يومٍ عَمائِرٌ تَتهاوى ... ... وانقضاضُ الصَّاروخ عَبر السماءِ
تتهاوى كأنَّما هي تَحْنو ... ... لِتَضُمَّ الأفْلاذَ مِنْ أبْنَاءِ
يا حُنَّو الصخور ! أحْنى وأبْقَى ... ... مِنْ قُلوبِ البُغَاةِ والجُبَناءِ
لقّني المجرمين في الأرض درساً ... ... في ميادين عِزّة وعَلاءِ
واصْبري ! عِزّةُ الميادين صَبْرٌ ... ... ورجَاءٌ بالله حَقُّ الرَّجاءِ
واحْملي في يديْكِ مِشْعلَ حقٍّ ... ... وأَنيري به سَبيلَ النَّجَاءِ
وانْثُري العِطْرَ من يديك غنيّاً ... ... في الميادين من دم الشُّهداءِ
واغْرسي عِندها الأزاهرَ تَنْمُو ... ... في ظلالٍ غَنيّةِ الأنْداءِ
يُنزلُ الله نَصْره ! وعْدهُ الْحَـ ... ... ـقّ إذا ما زَكَتْ دَفْقَةٌ مِنْ دِماءِ
* * * * * * ... ... * * * * * *
... ... الرياض
23/2/1425هـ
13/4/2004م(/1)
يا أبت
المحتويات
مقدمة
هكذا شأن التربية
هدف الحياة يا أبت
الإهمال يا أبت
مفهوم الصداقة يا أبت
السيارة يا أبت
وسائل اللهو
بين الدراسة وصلاة الفجر
حين اكتشفت الشرارة
التعليم
يصلح إذا كبر
أزمة الثقة
مشاعري غالية يا أبت
أعطني جزءاً من وقتك يا أبت
المصارحة يا أبت
الواقعية يا أبت
الخوف والجبن
كيف يعالج الخطأ
القسوة والغلظة يا أبت
الرحمة والحنان يا أبت
المكافأة
الفجوة الحضارية يا أبت
فارق العمر يا أبت
الزواج يا أبت
الناس معادن يا أبت
القدوة يا أبت
مجالس الآباء حين يحضرها الابن
مرحلة الالتزام
هل كان لك دور يا أبت؟
لماذا تكون عائقاً يا أبت ؟
أتدري يا أبت كم حفظت من القرآن ؟
أتعرف أصحابي ؟
هل أنا متشدد فعلاً ؟
أختي يا أبت
وأخيرا
مقدمة
هذه أفكار تربوية صاغها المحاضر على شكل رسالة أرسلها ابن إلى أبيه، يحدثه عن بعض الأخطاء التربوية، وهاهنا تنبيهات:
1- إن هذا الحديث لايعني أن نضع الآباء في قفص الاتهام، وقاعة المحاكمة، أو أن نواجه الأب بقائمة طويلة من التهم والأخطاء التربوية، إن القضية ابتداءً وانتهاءً هي محاولة للوصول إلى وضع أفضل، ومستوى أعلى من التربية.
2- لن نتحدث في هذه الدقائق عن نظرية تربوية شاملة، ولا عن أسس تربية الابن، إنما هو محاولة لإلقاء الضوء على بعض التصرفات التربوية الخاطئة التي تصدر من بعض الآباء.
3- الكثير من الآباء يدرك مسؤوليته عن التربية، وخطورة إهمال ابنه ومصطلح ( تربية الأبناء) مصطلح واضح له دلالات محددة لديه. لكن هذا شيء وسلوك الطريق السليم شيء آخر.
4- إن هذا الحديث لايعني أن الأب وحده هو المسؤول الأول والأخير، وأن نقف موقف المحامي والمدافع عن الابن؛ إنما الأب بدون شك يتحمل جزءاً من المسؤولية، ولايعني من الذي يتحمل الجزء الأكبر بقدر مايعني ضرورة الوقوف على الخطأ وتصحيحه.
5- وحديثنا هنا لايعني أن هذا شأن الجميع، وأسلوب الكافة، بل هناك من يحسن التربية، ويجيد التوجيه وهو مثال للأب المربي الواعي.
6-ولايعني أيضاً سرد هذه الأخطاء التربوية أن كل أب يحوي هذه الأخطاء جميعاً، فالأول له نصيب من هذا الخطأ دون ذاك، والثاني كذلك، والرابع.. والخامس. بل لعل هذه الأخطاء لايمكن أن تجتمع في أب واحد.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أدام الله علينا وعليكم نعمة الإسلام، والصحة والعافية، أحييك يا أبت بتحية أهل الإسلام، تحية المحبة والمودة، تحية من لهج قلبه بالتوقير والحب لك، ولسانه بالثناء عليك، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا أبت أذكرك مع إشراقة كل شمس وغروبها، أذكرك مع إقبال الليل وإدبار النهار، حين أسافر وحين أقيم، حين أحل وحين أرتحل؛ فمحياك لايفارق ناظري، وذكراك لاتزول عن خاطري.
يا أبت كم هي عظيمة آلاؤك عليَّ، وكم هو جميل إحسانك لي، ولن أستطيع إحصاء أفضالك، أو عد محاسنك، فأنت الذي تفتحت عيني على رؤياه، وتحملت المشاق من أجلي .
يا أبت لقد قرأت في كتاب الله عز وجل حواراً بين إبراهيم وأبيه وفي كل كلمة يقولها لأبيه يصدرها بقوله يا أبت. فأحببت أن يكون هذا عنوان رسالتي إليك يا أبت.
ومعاذ الله، معاذ الله يا أبت أن أضع نفسي موضع إبراهيم، وأضعك موضع أبيه، أو أن أتحول إلى موجه لك ومعلم.
يا أبت لقد عِشْتُ مرحلة من العمر مضت بما فيها، مرحلة غفوة وصبوة، ثم من الله علي بالهداية، وجلست أفكر ملياً وطويلاً فيما مضى، وما أعانيه؛ فقررت بعد طول تفكير ، وجزمت بعد طول تردد أن أسطر لك هذه الرسالة لأتحدث معك بكل صراحة، وأخاطبك بكل وضوح فأصارحك ببعض ما أرى أنه كان لاينبغي تجاهي من أساليب تربوية، وأنا أجزم أنك بإذن الله ستتجاوز هذه الأخطاء تجاهي أولاً، وتجاه إخوتي ثانياً.
إن المصارحة ضرورة، يا أبت، والتهرب من الواقع لن يجني ثماره غيرنا.
يا أبت : لايدر في بالك أبداً أن ماأذكره عنوان نقص قدرك لدي، أو دليل ضعف محبتك، أو مبادئ عقوق حاشا لله. إني وحين أسطر هذه السطور لازلت أدعو لك في صلاتي، وما تركت موطناً أرجو فيه إجابة الدعاء إلا وتوجهت لك بالدعاء الخالص. ولازال لساني يفيض لك بعبارات الثناء والاعتراف بالجميل ، أسأل الله أن يعينني على برك وأداء حقك.
وقد تطول فصول هذه الرسالة لكن ذلك خير من أن تطول فصول المعاناة، ويكثر سرد الأخطاء وهو خير بكل حال من أن يكثر الندم والتحسر على الإهمال، وهذا أوان الشروع في المقصود.
هكذا شأن التربية :
[ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لايعصون الله ماأمرهم ويفعلون مايؤمرون].
" كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؛ الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته "متفق عليه.(/1)
قال ابن مسعود رضي الله عنه : " حافظوا على أبنائكم في الصلاة وعودوهم الخير فإن الخير عادة ".
قال ابن القيم : " قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً فللابن على أبيه حق؛ فكما قال الله تعالى [ووصينا الإنسان بوالديه حسناً] وقال تعالى [قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة] قال علي بن أبي طالب : علموهم وأدبوهم. وقال تعالى [واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اعدلوا بين أولادكم " فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم قال تعالى [ولاتقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيرا] فمن أهمل تعليم ولده ماينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة؛ وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً، كما عاتب بعضهم على العقوق، فقال يا أبت إنك عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً ".
وقال الغزالي :"الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل مانقش، ومائلٌ إلى كل مايمال به إليه؛ فإن عُوِّد الخير وعُلِّمَه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر وأهمل إهمال البهائم، شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه، والوالي له. وإلى هذا أشر أبو العلاء في قوله :-
وينشأ ناشيء الفتيان فينا *** على ماكان عوده أبوه
ومادان الفتى بحجى ولكن *** يعلمه التدين أقربوه
وهاهو ابن باديس يا أبت يقول : " إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها، ومشرباً أرده، وقاتني، وأعاشني، وبراني كالسهم، وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً ".
هدف الحياة يا أبت :
كثيراً ما تحدثني يا أبت حديثاً مستفيضاً عن المستقبل، حديثاً ألمس منه الحرص، وحرارة العاطفة: " يابني اجتهد في دراستك لتتفوق بإذن الله فتحصل على الشهادة العالية، والوظيفة المناسبة، لقد كنت تحدثني عن بناء المنزل، والزواج، والأولاد، والوظيفة" حتى اختزلت أهداف الحياة لتصبح هذا الهدف الوحيد، والمراد الأهم والأساس، لكني يا أبت لم أسمع منك يوماً من الأيام الحديث عن دوري في الحياة يابني اجتهد لتكون أهلاً لأن تخدم أمتك، وتساهم في نصرة دينك. يابني لقد ابتعد الناس عن شرع الله وأعرضوا عن معينه الصافي، فالأمل فيك أن تعد نفسك، وتبني ذاتك لتكون أهلاً للمشاركة في إنقاذ الأمة من رقادها ". ألا ترى يا أبت أن هدف الحياة أعلى وأسمى من مجرد حطام الدنيا الفاني، ويؤسفني يا أبت أن أقول لك نشأت وترعرعت والدنيا همي، فلأجلها أدرس، وأتعلم، وأعمل.
لقد حفظت يا أبت مما حفظته في عمدة الأحكام حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ".
الإهمال يا أبت:
ألا تشعر يا أبت أن واجب التربية يفرض على المربي المتابعة لابنه ومعرفة مدخله ومخرجه؛ فما نصيبك أنت يا أبت من ذلك. إنك لاتعرف أحداً من أصدقائي اللهم إلا عن طريق الصدفة. أما أين أذهب؟ وكيف نقضي أوقاتنا؟ وماذا نمارس؟ فهذا مالاتعلم عنه شيئاً.
إن هذا السلوك التربوي والذي يكون دافعه الإهمال، أو الثقة المفرطة أحياناً. إن هذا السلوك يريح الابن، ويفتح له الباب على مصراعيه لكن نهايته يا أبت لن تكون محمودة العاقبة، ولامطمئنة النهاية.
إنني حين أدعوك يا أبت للمتابعة، والملاحظة فلست أدعوك أن تكون كوالد زميلي في الفصل والذي يحدثني عن نفسه يا أبت أن والده يفرض عليه رقابة صارمة، فلا يسمح له بالخروج من المنزل، ويشك في تصرفاته، ولابد أن يراه في المسجد وإلا فهذا يعني أنه لم يؤد الصلاة، ويقوم بتفتيش غرفته الخاصة، وأحياناً يتصنت على مكالماته الهاتفية. وتصور يا أبت أنه قام بقياس المسافة بين منزله والمدرسة ليعرف هل سار بسيارته إلى شيء آخر. إن هذا الأسلوب يا أبت يخرج ابناً محطماً لايثق بنفسه، ولايتعامل مع الآخرين، وحين تتاح له الفرصة فسينطلق دون قيد أو وازع. فحين ينتقل إلى الجامعة ويجاوز القرية فسينفتح على عالم لن يجيد التعامل معه، بل افترض أن والده قد مات فماذا ستكون حاله بعد ذلك؟
فالتوسط هو سنة الله في الحياة يا أبت؛ فالإهمال أمر مرفوض، والرقابة الصارمة والقسوة هي الأخرى مرفوضة كذلك.
مفهوم الصداقة يا أبت :(/2)
جليس السوء يا أبت كنافخ الكير كما شبهه صلى الله عليه وسلم وليس من وصف أبلغ من هذا الوصف. لقد كنت يا أبت تنهاني فعلاً عن جليس السوء لكني اكتشفت فيما بعد أن مفهوم السوء يحتاج إلى تحرير وتحديد. لقد سألتني عن صديقي محمد فقلت لك إنه ابن فلان، فقلت : نعم الرجل والده فقد كان صاحباً لي وخيِّراً، وكأني يا أبت سوف أصاحب والده، ومحمد يا أبت من أسوأ الشباب الذين صحبتهم، وأبناء خالي كانوا لايقلون عنه سوءاً، وقد كان لهم عظيم الأثر علي في مقتبل حياتي، ومع ذلك كانت قرابتهم هي المؤهل الوحيد لديك لتزكيتهم.
إن القرابة يا أبت، ومعرفة والد الصديق ليست معياراً في صلاحه.
السيارة يا أبت:
يا أبت لاأنسى ذاك اليوم الذي سلمتني فيه مفتاح السيارة، ومعه بعض الوصايا العاجلة، لقد فرحت بها، وقدرت لك الموقف في حينه، وكنت أقدم لك مايرضيك للحصول على هذا المطلب، وبعد أن تقدم بي العمر اكتشفت يا أبت، أنه كان الأولى أن يتأخر هذا القرار.
معذرة يا أبت إن قلت لك إنك اشتريت السيارة استجابة لضغط أمي وإلحاحها، وثانياً لأكفيك أمور المنزل وحاجات الأهل، إن من حقك يا أبت أن تبحث عما يرضي ابنك، ومن حقك تجاه ابنك وواجبه نحوك أن يكفيك مؤنة المنزل وأعباءه؛ لكن ذلك ينبغي أن لايكون على حساب التربية يا أبت.
نعم أقولها يا أبت وبكل أسف لقد كنت قبل أن يهديني الله أذهب بسيارتي إلى حيث مالايرضي الله، دون أن تعلم أبت أين أذهب، أو حتى والدتي، ومع اعترافي يا أبت بأني أتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية إلا أني أعتقد أن من أعطاني السيارة في ذاك الوقت يتحمل جزءاً لايقل عما أتحمله أنا.
وسائل اللهو:
يا أبت : من الذي أحضر جهاز التلفاز في البيت، وبعده جهاز الفيديو، وبعده صحن الاستقبال، من الذي سمح لي باقتناء المجلات الهابطة، والأغاني الساقطة، أليس أبي؟ ويطالبني بعد ذلك بالاتزان، بالجد في الدراسة والتفرغ لها، وقد تاه قلبي في أودية وشعاب أخرى لاتخفى عليك يا أبت.
ألا ترى أن الأولى كان يا أبت هو ذكر مساويء هذه الأجهزة، والتحذير منها، والنهي عنها بدلاً من تأمينها، أو السماح باقتنائها.
بين الدراسة وصلاة الفجر:
لقد حفظت يا أبت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر "، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لايتخلف عنها إلا منافق "، وأبي يوقظني لصلاة الفجر أحياناً، لكنه لايزيد على أن يوقظني بكلمة واحدة ثم ينصرف، وكم من مرة تخلفت عن الصلاة فلم أسمع منه كلمة عتاب، أما الإجازة فأنت تعلم متى كنت أصليها.
أما حين تخلفت يا أبت عن الدراسة فتعلم ماذا صنعت معي يا أبت، أترضى يا أبت أن يقول الناس عنك إن الصلاة أقل شأناً وأهون قدراً لديك من الدراسة وأمور الدنيا ؟ اسمح لي يا أبت إن قلت إن صنيعك يشعر الناس بذلك.
وكم كنت أتمنى أن تصنع كما يصنع والد جارنا محمد فهو يحدثني عن والده أنه يوقظه للصلاة بكل هدوء، ثم يصحبه إلى المسجد، وهذا شأنه من الصغر حتى اعتاد على ذلك. وذات يوم تأخر عن الصلاة فدعاه والده وقال له يابني لاتخفى عليك قيمة الصلاة وفضلها، وخاصة صلاة الفجر. واليوم لم تستيقظ للصلاة، فأرجو أن تفكر ملياً ما السبب في ذلك ؟ فإن اكتشفت أنه السهر حرصت على النوم مبكراً، وهكذا.
يالها من تربية عالية يا أبت.
حين اكتشفت الشرارة:
لازال في خاطري وهاجسي يا أبت موقفك حين اكتشفت أول مظهر من مظاهر الانحراف عند أخي - وقد كان ذلك بالطبع عن طريق الصدفة وبعد وقت طويل - أتذكر يا أبت كيف كان موقفك ؟ كلمات لاذعة كالعادة، وتأنيب قاس، وماهي إلا أيام وكأن شيئاً لم يكن، حتى استمرأ أخي ماهو عليه، وألف الفساد.
ما رأيك يا أبت لو كان البديل أن جلست معه جلسة خاصة، وفتحت له قلبك، وسألته المصارحة. ما السبب ؟ ومتى ؟ ولماذا ؟ أتعرف عواقب هذا الطريق ؟ وما ذا أستطيع أن أعينك به ؟ وهذا كله مع قدر من الحزم والجدية، ألا ترى أن هذا البديل قد يكون أنجع، وأن هذا الحل قد يكون أولى.
التعليم:
أعتقد يا أبت أن التربية أبعد مدىً من مجرد الأمر بالصلاة، والنهي عن المنكرات، والتي حتى لانسمعها إلا بلغة أعلنت المقاطعة التامة مع الرفق والحكمة. أليس من حقي يا أبت عليك أن تأخذ بيدي في وصية بالغة، أو موعظة، أو تذكير، أو تعليم مسألة من المسائل.
لقد قرأت يا أبت في كتاب الله عن لقمان الذي آتاه الله الحكمة وصيته الجامعة الفذة لابنه؛ وكم كنت أتمنى أن أتلقى منك مثل هذا التوجيه والتعليم.
يا أبت أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر : " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت.... "(/3)
قال مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : كان سعد يعلمنا خمساً يذكرهن عن النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر " رواه البخاري.
قال إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص : كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا ويقول يابَني إنها شرف آبائكم فلا تضيعوا ذكرها.
يا أبت : قال ابن سحنون في كتابه آداب المعلمين عن القاضي الورع عيسى بن مسكين أنه كان يقرئ بناته وحفيداته. قال عياض: فإذا كان بعد العصر دعا ابنتيه، وبنات أخيه ليعلمهن القرآن والعلم، وكذلك كان يفعل قبله أسد بن الفرات بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة.
لقد كان السلف يا أبت يعنون بتعليم أبنائهم وتوجيههم ومن ثم حفظ لنا التاريخ الوصايا الكثيرة التي تلقوها من آبائهم. روى الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع أن إبراهيم بن الحبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي : ائت الفقهاء والعلماء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث.
وحين سافرت يأبت مع أستاذي في رحلة مدرسية عشت فيها جواً أستذكر طيفه وخياله كل يوم، فكنت أسمع التوجيه، والموعظة، والتأديب، والفائدة من أستاذي بلغة التعليم، والتربية. مما كنت لا أسمعه من أبي وللأسف. ومما حفظته في المدرسة يا أبت :_
عود بنيك على الآداب في الصغر ***كيما تقر بهم عيناك في الكبر
فإنما مثل الآداب تجمعها*** في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
يصلح إذا كبر:
كنت أقدم الشاي يوماً للضيوف وأسمع بالطبع مايدور بينكم من نقاش كان يهمني بدرجة كبيرة لأنه حديث عنا معشر الأبناء. وصدمت بتعليقك : ( يكبر حين يصلح... هكذا الشباب... وقد كنا نحن في الصغر كذلك حتى هدانا الله... ) وقلت في نفسي نعم تقول كنا كذلك لأنك للأسف يا أبت لم تعلم ماذا نصنع، ولاتدري ماذا نمارس، ولو علمت بذلك كان لك منطق آخر ولغة أخرى، وقد تساءلت بمرارة يا أبت عن هذا المنطق يكبر حين يصلح، فمن يضمن ذلك، ولم لايكون البديل يزداد إيغالاً في السوء والانحراف؟ ثم هل تضمن له أن يكبر يا أبت ؟. أتذكر قبل شهرين حين توفي اثنين من زملائي تغمدهم الله برحمته، وبعدهم بأسبوعين توفي اثنان كذلك، ولم تتصور أن ابنك لن يكون كهؤلاء فيتخطفه الأجل قبل الموعد الموهوم الذي تنتظر أن يتوب فيه.
أزمة الثقة:
أجد يا أبت فرقاً شاسعاً بين ما ألقاه منك من تعامل حين أكون مع الناس، وبين مافي الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام:" أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ؟" فقال الغلام : لا والله يارسول الله لاأوثر بنصيبي منك أحداً، فتله – أي وضعه – رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الشيخان يا أبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه : " من الشجر شجرة لايسقط ورقها ومثلها مثل المسلم فحدثوني ماهي؟" فذهب الناس في شجر البوادي وكان ابن عمر أصغر القوم فاستحيا أن يقول إنها النخلة، وحين أخبر أباه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له : لو كنت قلتها كان أحب إلي من كذا وكذا.
يا أبت لقد تجرأ ابن عمر رضي الله عنه أن يحدث أباه بعد ذلك بما دار في نفسه، وشجعه أبوه رضي الله عنه على أن يكون قالها، وفي الوقت نفسه لم يعاتبه ويوبخه على عدم قوله لها.
كنت أقرأ في التاريخ يا أبت عن سيرة أسامة بن زيد رضي الله عنه، وعبدالله بن عمر، والأرقم بن الأرقم، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من شباب الصحابة الذين كانت لهم أدوار محمودة في تاريخ أمتهم، وفكرت يوماً من الأيام أن أتطلع لأكون مثلهم، وأقتدي بهم. لكني وجدت أن أبي قد رباني على أني لست مؤهلاً إلا لإيصال الأهل للسوق، وإحضار الخبز للمنزل؛ حتى الفاكهة لست مؤهلاً لشرائها من السوق، فضلاً عن الذبيحة، ومع ذلك لست مؤهلاً لاستقبال الضيوف، أو الجلوس معهم إلا حين أقوم بتقديم القهوة والشاي فقط.
ألا ترى يا أبت أن هذا قد أدى إلا طمس الثقة بنفسي حتى أصبحت أشعر أني لست مؤهلاً لأي دور في الحياة.
مشاعري غالية يا أبت:
أتذكر يا أبت حين كان الضيوف لديك فأحضرت الشاي، وتعثرت في الطريق، أتذكر كلمات التأنيب أمام عمومتي وأقاربي؟ إن كنت نسيتها فإن الصافع ينسى مالاينساه المصفوع، وهل تتصور أني نسيت يا أبت حين قدمت إليك وقد أخفقت في امتحان الدور الأول في حين نجح إخوتي وفي مجلس قريب من المجلس نفسه فلقيت من الانتقاد والسخرية منك ما لقيت؟ وهل تريدني أن أنسى ذاك التأنيب القاسي الذي وجهته لي أمام زملائي وأصحابي؟(/4)
بل أحياناً يا أبت تحملني ما لم أتحمل؛ ففي ذات مساء أمرتني أن أحضر الطيب للضيوف فذهبت إلى أمي فوجدته لم ينته بعد وعدت إليك، ألم يكن لديك بديل عن التأنيب لي ولأمي ؟ أو ليس الأولى أن تقدر في نفسك أنه لما ينته بعد؟ وهب أنه تأخر لدقائق وما ذا في الأمر؟ أعتذر لك يا أبت عن الاستطراد في هذه الأمثلة لأقول لك بعد ذلك ألا تتصور أني إنسان أحمل مشاعر وأحتاج كغيري للاحترام والاعتراف بشخصيتي ؟
لقد حفظت يا أبت في عمدة الأحكام أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتذر لأحد أصحابه حين أهدى له صيداً وهو محرم، فلما رأى مافي وجهه دعاه، واعتذر له وقال:" لم نرده عليك إلا أنا حرم".
أعطني جزءاً من وقتك يا أبت :
كم هما شخصيتان متخلفتان يا أبت، شخصية أبي حين يكون مع أصحابه وزملائه يتحدث وإياهم بكل انبساطة وسعة بال، وقد علته ابتسامة مشرقة، والشخصية الثانية لأبي نفسه حين يجلس معنا فلا نراه إلا على وجبة الطعام، والسكوت قد خيم على الجميع لايقطعه إلا الأوامر التي ترد منه تارة وتارة. أما أن يصحبنا في نزهة، أو يباسطنا الحديث، أو يسأل عن أحوالنا فهذا ما لايمكن. إني حين أراك يا أبت مع أقرانك يؤسفني أن أقول إني أحدق النظر فيك، وأعيده مرة وأخرى. أهذا هو أبي فعلاً. لقد كنت أشعر أني يتيم حين حفظت في المدرسة :-
ليس اليتيم من انتهى أبواه من *** هم الحياة وخلفاه ذليلاً
إن اليتيم الذي تلقى له*** أماً تخلت أو أبا مشغولاً
يا أبت أقترح عليك أن تمسك ورقة وقلماً وتسجل فيه كم ساعة تقضيها في العمل الرسمي من وقتك ؟ ثم كم ساعة للراحة ؟ وكم ساعة للزملاء ؟ وكم ساعة لمشاغلك الخاصة ؟ وأخيراً كم ساعة لتربية أبنائك ؟ أخشى أن تجد إجابة مزعجة يا أبتك أخبرك عنها سلفاً لأني أعرفك جيداً. ستجد أن وقت التربية - إن استطعت أن تحسبه - لايمثل إلا نسبة تافهة من وقتك لاتسحتق الذكر. هل فكرت ياأبي أن تقرأ كتاباً أو تسمع شريطاً عن التربية وأسسها. أهكذا قدر أبنائك عندك ؟ وقيمتهم لديك ؟
يا أبت لقد دعاني ذلك أن أمنح زملائي الثقة المفرطة، وأن أستأمنهم على مشكلاتي، وأستشيرهم في أموري، وأستأمرهم في قراراتي، مع أنني أدرك أن أبي أكثر خبرة، وأصدق لهجة، وأعمق نصحاً من زملائي، لكني لاأجد الوقت المناسب له لأفاتحه الحديث، ولو وجدت الوقت لكانت أمامي العقبة الآتية:
المصارحة يا أبت :
لقد حدثتني نفسي مرة يا أبت أن أصارحك ببعض مشكلاتي ومعاناتي حين كنت وإياك على مائدة الطعام وقد سيطر عليها الصمت المطبق كالعادة، ولكني لم أستطع لأني أعرف أن الجواب سيأتيني قبل أن أكمل حديثي، لأني أعرف أني لن أعطى الفرصة للحديث، ناهيك عن أن تناقش مشكلتي بهدوء وتجرد وبموضوعية بعيدة عن التشنج والغضب.
يا أبت ألا توافقني أن الابن يحتاج إلى أن يفتح الأب له صدره، حتى يفضي له بما يريد، ويشكو له مما يعاني؟ وأن لغة النقد والتشنج تقضي على كل حماسة منه للمصارحة يدفعه لها حرارة المشكلة؟
الواقعية يا أبت:
كم مرة يا أبت دعوتني وأنا خارج من المنزل لتكلفني بإيصال أهلي، أو إحضار طلب معين لك، فأخبرك أني على موعد مع أصحابي، فأطلب فرصة للاعتذار منهم على الأقل، أو أطلب تأخير طلبك لوقت آخر وهو قابل للتأخير. فلا ألقى منك إلا الزجر والتأنيب.
يا أبت : لاشك أن من حقك أن لاأتردد في تلبية أمرك، وأن لاأقدم عليك أحداً؛ لكن ألا توافقني يا أبت أنك لو كنت تعاملني بمرونة أكثر فتخبرني بطلبك قبل وقت كاف، وتسألني عن الوقت المناسب لي، وتؤخر لي أحياناً ما يحتمل التأخير، ويبقى قدر بعد ذلك لايتسع له هذا المجال يمكن أن أضحي فيه، أما أن يكون هذا هو القاعدة فقديماً قيل إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، ألا ترى يا أبت أن هذا الأسلوب يشعرني بالاحترام والتقدير، ويشعرني بالثقة في النفس، ويدعوني لأداء ماتطلبه بنفس راضية مطمئنة؟
الخوف والجبن:
إننا يا أبت أمة رسالة، أمة جهاد في سبيل الله، والجهاد ماض إلى يوم القيامة، ومن لم يغز أو يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق، أليس من حقي عليك يا أبت أن تربي لدي الشجاعة، وعدم الخوف مما سوى الله سبحانه وتعالى؟
أترى أن أساليب التخويف في الصغر من الهر.... من اللص.... من العفاريت.... من عامل النظافة...- ولايتغير حين يتقدم بي السن إلا الأسلوب فقط - أترى أن هذه الأساليب تخرج شاباً مؤهلا ً لحمل الرسالة، والجهاد في سبيل الله والتضحية لأجله سبحانه؟ وهل تظن يا أبت أنت أو أمي أن مثل ذلك سيخرج أمثال خالد بن الوليد، أو صلاح الدين، أو نور الدين الشهيد؟
لقد كانت الشجاعة مضرباً للمثل في الثناء والمدح عند العرب، يربون أبناءهم عليها، ويغرسونها فيهم، ويعير أحدهم بالجبن. أفينكل عنها من اختارهم الله ليكونوا حملة الدين والرسالة؟
كيف يعالج الخطأ:(/5)
الخطأ يا أبت لايخلو منه بشر فهو صفة ملازمة للإنسان، فكيف بالشاب الصغير؟ ومن واجب الأب أن يصحح خطأ ابنه، وأن يوقفه على أخطائه، والجميع يوافقه بل ينتظر منه ذلك.
ولكن ألا تشعر يا أبت أن أسلوبك في معالجة الخطأ يحتاج إلى بعض المراجعة فهل يسوغ أن لاتترك صغيرة أو كبيرة إلا واجهتني بها؟ ثم لماذا تعالج الأخطاء بالقسوة دائماً؟ كثيرة هي المرات يا أبت التي أتلقى فيها ضرباً مبرحاً، أو لوماً عنيفاً، أو صداً وإعراضاً، والسبب خطأ تافه لايستحق مجرد الوقوف عنده، بل يا أبت إن بعض المواقف لاأكتشف خطئي فيها، أو لاأقتنع أن مافعلته خطأ فضلاً عن أن يصل إلى حد العقوبة.
ما رأيك يا أبت لو تم علاج الخطأ من خلال المناقشة الهادئة، والإشارة، والتلميح، والتغاضي عن بعض الأخطاء أحياناً، ألا تتصور يا أبت أن هذا أولى؟
وأود أن تطرح على نفسك هذا التساؤل : هل المقصود من الإجراء الانتقام لأني أخطأت ؟ أم المقصود التخلص من الخطأ وتجاوز آثاره ؟. وعلى ضوء الإجابة يتحدد الأسلوب الأمثل في معالجته. ويؤسفني يا أبت إن قلت لك إني مع يقيني أن مقصودك علاج الخطأ. إلا أن أسلوبك يشعرني أن المقصود هو الأول.
القسوة والغلظة يا أبت :
وتصور يا أبت أن بعض الآباء يسجن ابنه في دورة المياه أعزك الله، والآخر قد جهز غرفة في المنزل لسجن ابنه حين يقع في الخطأ، والثالث قد أعد سلسلة من الحديد يربط فيها ابنه حين يقع في الخطأ.
أما الضرب المبرح والقاسي فهو لايخفى عليك سنة يمارسها الكثير من الآباء.
إنك توافقني يا أبت أن هذا السلوك ينتج ابناً عدوانياً، متبلد الإحساس، ينظر إلى والده نظرة الكراهية والاشمئزاز، ويتمنى فراقه بأي وسيلة ولو كانت الوفاة يا أبت.
والبديل لذلك يا أبت ليس هو التدليل وترك الحبل على الغارب كما لايخفى عليك يا أبت.
الرحمة والحنان يا أبت:
لست أدري أين يذهب هؤلاء عن قول معلم البشرية ومربي الأمة " إنما يرحم الله من عباده الرحماء "وقوله: "من لايرحم لايرحم "وقوله: " الراحمون يرحمهم الرحمن "وقوله: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً بهم فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ".
وقوله في الثناء على النساء :" خير نساء ركبن الابل صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده ".
حفظت يا أبت في عمدة الأحكام أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامه بنت ابنته زينب.
وجاء الحسن يتعثر في ثوبه وهو صلى الله عليه وسلم يخطب فينزل من المنبر ويحمله ويقول:"إن ابني هذا سيد وسوف يصلح الله به بين طائفتين من المسلمين" كم هو عظيم ذاك القلب الرحيم الذي يرعى حق الذرية ويحسن إليهم حتى وهو يحمل عبء الرسالة والدعوة، وحتى وهو يصلي بالناس، أو يخطب فيهم. أقول لك يا أبت إني مع الاعتذار الشديد كنت أحتاج إلى هذه المعاني فهلا استدركتها في حق إخوتي الصغار.
المكافأة:
قرأت يا أبت في مستدرك الحاكم أن ابن عباس رضي الله عنه وضع للنبي صلى الله عليه وسلم وَضوءاً فقال له : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ".
أورد الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث عن النضر بن الحارث قال : سمعت إبراهيم بن أدهم يقول : قال لي أبي : يابني اطلب الحديث فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم فطلبت الحديث على هذا.
ليس بالضرورة أن يكون الثواب مالاً، بل الثناء الحسن، بل السؤال وحده كاف ليمنح التشجيع والحث، كم مرة يا أبت استخدمت هذا الأسلوب مع ابنك ؟ كم مرة سمع منك الثناء والتقدير ؟ فضلاً عن المكافأة ؟ وهل يمكن أن نضع ثوابك وعقابك في كفتين ؟.
الفجوة الحضارية يا أبت :
لقد عشت يا أبت في جيل وعصر له ظروف وملابسات، وتبدلت الأحوال، وتقلبت الأمور بعدك يا أبت، فها نحن نعيش في عصر جديد، تختلف موازينه، ومتغيراته، وقيمه. عشت يا أبت في بيئة محافظة في قريتنا العامرة لاتعرف إلا الخير والفضيلة، ولاترى ما وراء أسوار القرية، لكن نجلك يا أبت قد عاش في عصر آخر، عصر عمت فيه الفتن، وازدادت فيه المغريات، وأصبحت يا أبت أستيقظ وأصبح وأمسي عليها. لقد كان غاية ماتعترض له يا أبت من فتنة امرأة ترتدي عباءتها وتسير تحت الحائط قد أثر في جنبها من التصاقها به، أما أنا يا أبت، فحين أخرج من المنزل تقابلني يفوح العطر منها وقد أبدت مفاتنها، وأخرج بعد ذلك للمدرسة فأجلس مع زملائي فأسمع منهم من الأحاديث مايثير الغافل، ويوقظ الساهي، وأعود إلى المنزل فأراها أمامي على الشاشة فاتنة سافرة، تتكسر وتتغنج، وحين أذهب إلى المحل التجاري أرى المجلات وقد زينت أغلفتها بهذه الصور، أما جهاز الفديو يا أبت فلايخفى عليك مافيه، ويجهز علي مابقي جهاز الاستقبال الذي أصبح يعرض أمام ناظري قنوات العالم بأسره. هذا ما أواجهه يا أبت وهذا ما أعاني منه.
فهل لازالت بعد ذلك يا أبت تعاملني بعقلية العصر الذي عشته وألفته.
فارق العمر يا أبت :-(/6)
وبعيداً عما قلته يا أبت في الصفحة السابقة أنت بلغت أشدك، وأنا لازلت شاباً مراهقاً، أنت متزوج من اثنتين، وأنا لازلت أعزباً، فتجلس معي أمام شاشة التلفاز، فيثيرني مالايثيرك، ويحرك مشاعري مالايحرك لديك ساكناً، فهلا فكرت يا أبت وأنت ترى ما أنا عليه، بل وحتى تقييم أعمالي، وأخطائي، هل فكرت في سني ومبلغي من العمر؟
الزواج يا أبت :
ومع ماسردته لك يا أبت من معاناتي مع الشهوات والفتن، فلست بحاجة إلى أن أذكرك بوصية النبي صلى الله عليه وسلم : " يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ". أتخشى ألا أقوم بأعباء الزواج وقد قال الله الذي بيده الأرزاق [وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم].
تعتذر يا أبت بعدم القدرة، لكنك بعد ذلك تزوجت الزوجة الثانية، وهذا أمرٌ من حقك ولا أتدخل فيه. لكني أتصور يا أبت أن حاجتي أكثر إلحاحاً من حاجتك للزوجة الثانية. وأظن أيضاً أنك قادرٌ على تزويجي بأقل من نصف مادفعته أنت للزوجة الثانية.
وبعد ذلك اشتريت لي السيارة بمبلغ كان يكفي أقل منه، فيوفر جزء من ذلك لما أنا أحوج إليه ألا وهو الزواج.
الناس معادن يا أبت:
لقد من الله يا أبت على أخي محمد بذكاء، وفطنة، وشخصية جادة تتعلق بمعالي الأمور، وصبر وجلد ليس لغيره من إخوته وأنا كذلك مثلهم. لكن ياأبي مابالك دائماً تريدنا أن نكون مثل محمد حتى في الذكاء، والحفظ، والفطنة، مما لانملكه، ودائماً تذكرنا به، وتعيرنا أنا لم نكن مثله مما أوغر صدورنا تجاهه، وجعله يتكبر علينا.
لقد اكتشفت يا أبت حين تقدم بي العمر أن الناس مواهب وطاقات، وأن الله قسم العقول كما قسم الأرزاق، فهلا أخذت هذا في حسبانك يا أبت وأنت تعامل أبناءك؟
القدوة يا أبت:
كم مرة يا أبت أوصيتني أن أقول لمن يطلبك في الهاتف إن والدي غير موجود، وحين أوصلتني للمدرسة قبل أن تشتري لي السيارة أمرتني أن أعتذر بأعذار غير صادقة. في حين سمعت الإمام بعد صلاة العصر مراراً يقرأ قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار ". وقوله صلى الله عليه وسلم : " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف... ". وسمعت من أستاذي، ومن خطيب الجمعة النهي عن الكذب والتغليظ على من فعله، ألا ترى يا أبت أني تعلمت الكذب وبكل أسف في المنزل، وممن ؟ ممن كان الأولى به أن يكون القدوة الحسنة، من أكبر رجل في المنزل، وقل مثل ذلك في السماع الحرام، والنظر الحرام، والتهاون بالصلاة.
أليست التربية يا أبت بالقدوة من أول وأهم جوانب التربية ؟.
مجالس الآباء حين يحضرها الابن:
حين تجلس يا أبت مع أصحابك، وأقدم لكم الشاي دون أن أقول كلمة - كالعادة - أسمع ما يجري بينكم مما أرى أنه كان ينبغي الترفع عنه ولو أمامي على الأقل يا أبت.
لا أفهم يا أبت كيف تفيضون في أمور النساء، وغالب حديثكم لا يجاوز ما بين السرة والركبة. وأمامكم شاب مراهق، لديه من الشهوة مالا يفتقر إلى ما يثيره، فيسمع مثل هذا الحديث. هلا سألت يا أبت نفسك عن أثر مثل هذا الحديث على أمثالي.
أليس مدعاة لأن تثور الشهوة لدي وأنت تعلم أني لا أجد المصرف الشرعي.
أليس مدعاة إلى قدوة سيئة، واستمراء لمثل هذا الحديث في مجالسي مع أصحابي، وهناك حيث لا يضبطها ضابط، أو يمنعها وازع، فقد تتطور إلى مالايخفى عليك.
مرحلة الالتزام :
لقد عشت يا أبت مرحلة من الغفلة والصبوة كما قلت لك في بداية رسالتي ثم من الله علي بالهداية وانتقلت إلى مرحلة جديدة، أستأذنك يا أبت أن أحدثك قليلاً عنها :
هل كان لك دور يا أبت؟
كم كنت أتمنى أن يكون صاحب الفضل في التزامي واستقامتي بعد الله هو أحب الناس وأقربهم إلي هو أنت يا أبت.
ولكن كم يؤسفني أن هذا الرجل لم يكن له أي دور؛ بل وحين هداني الله كنت أنتظر التشجيع، أن أرى تغيراً؛ ولكن وللأسف لم أجد شيئاً يذكر.
لماذا تكون عائقاً يا أبت ؟
وحيث لم أجد ذلك يا أبت هل وقفت موقف الحياد، أم أن الأمر تغير بالاتجاه المعاكس. كم أعاني يا أبت حين أريد أن أسافر للعمرة، أو أشارك مع طلاب الحلقة.
ولست أدري يا أبت ما أقول هاهنا؟ كم مرة ودعت أصحابي ودموعي تذرف لأني لم أصحبهم لالشيء إلا أن أبي لم يوافق؟ كم من ورقة أحضرتها من المدرسة تطلب الموافقة على المشاركة في برامج الجمعية المدرسية، وكان إمضائك دائماً في زاوية لا أوافق؟
أتدري يا أبت كم حفظت من القرآن ؟(/7)
لقد التحقت بعد أن هداني الله يا أبت في حلقة لتحفيظ القرآن الكريم، ومضيت في حفظ كتاب الله بجدية وعزيمة، وها أنا الآن قد أتممت حفظ القرآن، وابتدأت بحفظ عمدة الأحكام، ومع ذلك يؤسفني يا أبت أن أقرب الناس إلي لم يعلم عن ذلك شيئاً، إنه لم يوجه إلي سؤالاً في يوم من الأيام.
ماذا حفظت ؟ أي درس حضرت ؟ ماذا علمت ؟.
أي أثر يتركه يا أبت ذاك الأب الذي يسأل ابنه ماذا حفظ؟ وماذا تعلم؟ وما أخبار الحلقة، وأخبار الدرس الأسبوعي في المسجد؟ ويصحب ذلك بالتشجيع، والحث، والثناء والدعاء:" اللهم فقهه في الدين، وزده علماً وعملاً ".
أتعرف أصحابي ؟
كم مرة تقابلهم يا أبت لدى الباب، فلا يحظون منك بالسلام فضلاً عن الترحيب، والتقدير، أو الجلوس معهم، والتعرف عليهم، ومعرفة أحوالهم. ألا ترى يا أبت أن ذلك يشعرني بالتقدير، بالاهتمام، بالثقة، بالرجولة؟
هل أنا متشدد فعلاً ؟
كم سمعت منك هذا الوصف يا أبت؟ ولست أدري هل انتقلت إليك العدوى من وسائل الإعلام الغربية؟ فما أن أفوه بكلمة وما أن تراني على عمل حتى تنهاني عن التشدد، وحتى صيام النفل مدرج في القائمة لدى أبي ضمن التشدد، فضلاً عن قيام الليل، وحتى إنكار المنكر، وآلات اللهو هو الآخر يعتبر تشدداً.
لا أنكر يا أبت أني قد أقع في الخطأ، وقد أبالغ أحياناً لكن أهكذا تؤخذ الأمور ؟ فضلاً عن أن يكون الحق وفق ما رأيت.
أختي يا أبت :
وأخيراً والوقت يلاحقنا يا أبت أستأذنك في أن أحدثك عن معاناة أختي، والتي شأنها شأني لم تجد وقتاً للحديث، أو مجالاً للمصارحة، يا أبت تعلم مايخطط الأعداء للمرأة المسلمة، ومايعملون لجرها إلى الرذيلة والفساد، وأختي واحدة من هؤلاء.
فهل تستطيع أن تشكي لك مشكلة؟ أو تصارحك بهم يا أبت؟ بل هل تستطيع أن تجلس معك دقائق؟
يا أبت ألا ترى أن خلافك مع والدتي ينبغي أن يؤجل ليكون خاصًّا؟ هل ترى مما يخدم المصلحة-وبالذات مع أختي- أن تؤنب والدتي أمام الجميع، وعلى أمور تافه ربما زيادة أو نقص كمية الملح أو السكر في الطعام؟
يا أبت : أليس من حق أختي أن تعجل موضوع زواجها، بل أن تبحث لها أنت عن الزوج الصالح، ولنا سلف يا أبت في عمر حين عرض ابنته على الصديق.
يا أبت : أليس من حق أختي أن تأخذ رأيها في الزواج ؟ وأن لا تكون ضحية معرفتك وصداقتك لوالد زوجها، والذي معيار تزكيته لديك معرفتك لوالده وأخواله؟
أليست أجهزة اللهو مما يدمر أختي يا أبت؟ أتدري يا أبت أن أختي تعلمت مصطلحات الحب، العشق، الغرام، العلاقة العاطفية.. ومن أين؟ مما أمنه لها والدي ليسليها ويقضي وقت فراغها الذي وفرته لها الخادمة النصرانية.
وأخيرا :
وأخيراً يا أبت فهذا حصاد الخاطر المكدود، وهذه نتيجة العزيمة التي دفعتني إلى هذا الحديث الصريح، الذي أرجو ألا يكون فيه افتئات عليك، أو سوء أدب معك، أو إخلال بحقك في البر والإحسان.(/8)
يا أصحابَ الهُمومِ توكَّلوا على الحيِّ القيوم
د. محمد عمر دولة*
قالَ التهامي رحمه الله يُصوِّر حالَ الدنيا المُتقلِّبة بأهلِها:
وصدقَ رحمه الله؛ فما مِن عبدٍ إلا تمرُّ عليه في حياتِه مَصاعِبُ وتنالُ منه فِتَنٌ ومَصائبُ، لا يُستثنَى من ذلك أحدٌ مِن العالمين مهما كان حاله، وعظمتْ أموالُه، وعزَّ سلطانُه، وكثرتْ عِيالُه.
وقد قرَّرَ القرآنُ هذه الحقيقةَ فقال الله جلَّ جلالُه: (ولَنَبْلُونَّكم بشيءٍ مِن الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وبَشِّر الصابرين الذين إذا أصابَتْهم مُصيبةٌ قالوا إنَّا للهِ وإنا إليه راجعون)[1] وقال تبارك وتعالى: (الم أحسب الناسُ أن يُترَكوا أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتَنون ولقد فتنَّا الذين مِن قبلِهم فَلَيعلَمَنَّ اللهُ الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين).[2]
وصلَّى اللهُ على نبيِّ الله يعقوب؛ فإنه ما لاذ بأحدٍ حينما أصابَتْهُ النوائبُ وتوالت عليه المصائبُ إلا الله عز وجل! فقد ذكر المفسِّرون هذا المعنى عند الكلام عن حال يعقوب عليه السلام حينما غاب عنه ولداه بعد فقدانِ يوسف عليه السلام (وتولَّى عنهم وقال يا أسفا على يوسف وابيضّتْ عيناه من الحزن فهو كظيم)[3] قال ابن كثير رحمه الله: "أي أعرَضَ عن بَنِيه؛ وقال مُتذكِّراً حُزنَ يوسف القديم الأوّل: (يا أسفا على يوسف)؛ جَدَّدَ له حُزنُ الابْنَيْنِ الحُزنَ الدّفين"![4] وقال السعديّ رحمه الله: "أي ظهر منه ما كَمَنَ مِن الهمِّ القديمِ والشوقِ المُقيم"![5]
فقد أناب يعقوب عليه السلام إلى مولاه، ولم يَشْكُ حالَه إلى سِواه، بَلْ تَوكَّلَ على الله؛ وهذا يُبيِّنُ المعانيَ التربوية للتوكُّلِ والإنابةِ والرَّجاءِ وصدقِ الالتجاء؛ كما قال صاحبُ الظلال في تفسير قولِ يعقوب عليه السلام: (إنما أشكو بثّي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون)[6]: "في هذه الكلمات يتجلّى الشعور بالألُوهيّة في هذا القلبِ الموصول؛ كما تتجلّى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر ولألائها الباهر... وهذه قيمةُ الإيمانِ باللهِ ومعرفتِه سبحانه هذا اللونَ من المعرفة: معرفة التجلّي والشهود، ومُلابسة قُدرتِه وقَدَرِه، ومُلامسة رحمتِه ورِعايتِه، وإدراك شأن الألوهيّة مع العبيد الصالحين؛ إنّ هذه الكلمات(وأعلم من الله ما لا تعلمون) تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها وتعرض مذاقاً يعرفه من ذاق مثله؛ فيدرك ماذا تعني هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب"![7]
ولكننا في صراعِنا اليومي مع الحياةِ قد نغفلُ عن هذه المعاني؛ فنتعلَّق مِن حيث لا ندري بالعبادِ ونَجري لاهِثين وراءَ الأسباب؛ وننسى مُسبِّبَ الأسبابِ وربَّ العباد الذي عنده خزائنُ السماوات والأرض، يده سحَّاء الليل والنهار، الذي تفيض رحمته على عباده ولا تغيض.
ولكنْ سرعان ما تُسَدُّ الأبوابُ التي نَلِجُها مُتوكِّلين على مُجرَّدِ الأسباب، وندخلُها مُعلِّقين رَجاءَنا بالعبادِ؛ فيخيب الرجاءُ إلا في الله وتنقطعُ السُّبُلُ إلا إلى الله؛ (أمَّنْ يُجيب المضطرَّ إذا دعاه). فيعود إلينا اليقينُ الجازمُ ـ وليس الخبرُ كالمعاينة ـ بأنه لا ناصرَ إلا الله (وما النصرُ إلا من عند الله العزيز الحكيم)، فهو القادرُ على قضاء الحوائج وتيسير الأسباب، (ذلكم اللهُ ربُّكم له المُلكُ والذين يدعون من دونِه ما يملكون من قِطمير).[8]
فالمُعِينُ والراحمُ على الحقيقةِ هو الله؛ فهو أرحمُ بالعبد من أمِّه وأبيه، كما قال صلى الله عليه وسلم حين أخذتْ تلك المرأةُ من السبيِ صبيّاً فألزقتْه ببطنِها فأرضعتْه: (لَلَّهُ أرحمُ بعبادِه مِن هذه بولدِها)![9] وهو العزيز الحكيم السميع العليم، كما قال الله عزَّ وجلَّ في معرضِ الأمرِ بالتوكُّلِ عليه وحدَه: (وتوكَّلْ على العزيزِ الرحيمِ الذي يراك حين تقومُ وتقلُّبَه في الساجِدين إنه هو السميعُ العليم).[10] فـ"التوكل هو اعتمادُ القلبِ على الله تعالى في جلبِ المنافع ودفعِ المضارِّ مع ثقتِه به، وحسنِ ظنِّه بحصولِ مطلوبِه؛ فإنه عزيزٌ رحيم، بعزَّتِه يقدر على إيصالِ الخيرِ ودفعِ الشر عن عبدِه، وبرحمتِه به يفعل ذلك".[11]
فالمتوكلُ على اللهِ وحدَه يستحضرُ على الدوامِ أنَّه لا يفتح أبوابَ الرحمةِ إلا الله، فهو وحده تبارك وتعالى الذي يَضرُّ وينفعُ، ولا ينالُ العبدُ نعمةً ورزقاً إلا من عند الله، كما قال عز وجل: (ما يفتح الله للناسِ من رحمةٍ فلا ممسكَ لها وما يُمسِكْ فلا مُرسِلَ له مِن بعدِه وهو العزيز الحكيم يا أيها الناسُ اذكروا نعمةَ الله عليكم هل مِن خالقٍ غير الله يرزقكم مِن السماءِ والأرضِ لا إله إلا هو فأنَّى تُؤفَكون).[12](/1)
وحينما تُعَمِّرُ هذه المعاني قلوبَنا؛ فلا تتعلقُ بما عند الناسِ، ولا تطمعُ فيما بين أيديهم، بل تتوجَّه إلى الله ربِّ العباد وخالقِ الأسباب وفاطرِ السماوات والأرضِ الذي يقول للشيء: كنْ؛ فيكون, حينئذٍ يبدو المَخرجُ ويأتي الفَرَجُ ويصيرُ العسرُ يُسراً من حيث لا يحتسب العبدُ وتتنزَّلُ عليه الرحمةُ فيستقبل نسيمَها العليل، ويتفيَّأ ظلَّها الظليل؛ فيحمد اللهَ وحدَه ويشعر بحلاوة العبودية ولذة الطاعة وأُنسِ القُربِ من الله بعد أن تحرَّرَ القلبُ من قيودِ الأسباب.
ذلك أنَّ التوجهَ الصحيحَ لله ربِّ العالمين يتحققُ عند اشتدادِ الهمِّ والغمِّ؛ لاسيما في أيامِ المصائبِ وساعات الكربِ والضيقِ، حينما يُفقَد الرفيق ولا ينفعُ الصديق؛ فالعبدُ إذا أصابَه الضُّرُّ وانسدَّتْ أمامَه السُّبلُ؛ أظهرَ الذُّلَّ والفقرَ، وأقبلَ على الله بقلبٍ مُنكسِرٍ يدعوه رَغَباً ورَهَباً، ويُقبل عليه مُحتاجاً مضطرّاً، ثخينَ الدمعِ حزينَ القلبِ، خاشعاً متضرِّعاً، ويقوم بين يديْ ربِّه رافعاً حاجتَه متبرِّئاً من حَوْلِه وقُوَّتِِه؛ فإذا رأى اللهُ صِدقَ التجائه وحقيقةَ إنابتِه وحرارةَ دعائه؛ فرَّجَ كربَه وعجَّلَ نجاتَه، كما قال تعالى: (وإذا مسَّ الإنسانَ ضرٌّ دعا ربَّه مُنيباً إليه ثم إذا خَوَّلَه نعمةً منه نسيَ ما كان يدعو إليه من قبلُ)،[14] (قل من يُنجِّيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخُفيةً لئن أنجانا لنكوننَّ من الشاكرين قُل اللهُ ينجِّيكم منها ومن كلِّ كربٍ ثم أنتم تشركون).[15] (قل أرأيتكم إنْ أتاكم عذابُ الله أو أتتْكم الساعة أغيرَ اللهِ تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تُشركون).[16]
ورحم الله البخاري فقد أخرج في كتاب (الأذان) باب (إذا بكى الإمام في الصلاة) قولَ عبد الله بن شداد: (سمعتُ نشيجَ عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ (إنما أشكو بثِّي وحزني إلى الله).[17]
ولله در صاحب الظلال حيث قال: "مِن رحمةِ الله أن تحس برحمة الله؛ فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك ولكنَّ شعورك بوجودِها هو الرحمة، ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة، وثقتك بها وتوقعها في كل أمرٍ هو الرحمة... ورحمة الله لا تعز على طالبٍ في أي مكانٍ ولا في أيِّ حالٍ؛ وجدَها إبراهيمُ عليه السلام في النار، ووجدها يوسف عليه السلام في الجُبِّ كما وجدها في السجن، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلماتٍ ثلاث، ووجدها موسى عليه السلام في اليمِّ وهو طفلٌ مُجرَّدٌ من كل قوةٍ ومن كلِّ حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدوٌّ له متربِّصٌ به ويبحث عنه، ووجدها أصحابُ الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدُّور؛ فقال بعضُهم لبعضٍ: (فأووا إلى الكهف ينشرْ لكم ربُّكم من رحمته)، ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبُه في الغار والقومُ يتبعونهما ويقصون الآثار، ووجدها كلُّ من آوى إليها يأساً من كلِّ من سواها؛ مُنقطعاً مِن كلِّ شُبهةٍ في قوةٍ، وعن كلِّ مَظِنَّةٍ في رحمةٍ، قاصداً بابَ اللهِ وحدَه دون الأبواب"![18]
فثِقُوا بربِّكم يا أهلَ الهُمومِ والغُموم، والْجَأوا إلى الله؛ فلا يُرْجَى أحدٌ سِواه؛ (أمَّنْ يُجيب المضطرَّ إذا دعاه)! فهو ربُّ العالَمين الذي بيده خزائنُ السموات والأرض، وهو أرحمُ الراحِمين وأكرمُ الأكرمين الذي يَقضِي الدَّينَ عن المَدِينِين ويُفرِّجُ كربَ المَكروبين ويُنفِّسُ همَّ المهمُومِين. وهو اللطيفُ بعبادِه، العليمُ بحوائجِهم، الخبيرُ بمصالحِهم، وهو أرحمُ بهم من آبائهم وأمهاتِهم؛ (ومَن يتوكَّلْ على اللهِ فهو حسبُه إنَّ اللهَ بالغُ أمرِهِ قد جعلَ اللهُ لكلِّ شيءٍ قدراً).[19] "وإذا كان الأمرُ في كفالةِ الغنيِّ القويِّ العزيز الرحيم؛ فهو أقربُ إلى العبدِ من كلِّ شيءٍ".[20] فهو المُستَعانُ وعليه التكلان.
____________________
[1] البقرة 155-156.
[2] العنكبوت 1-3.
[3] يوسف 84.
[4] تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/633.
[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان ص 404.
[6] يوسف 86.
[7] في ظلال القرآن لسيّد قطب رحمه الله 13/2016.
[8] فاطر 13.
[9] رواه البخاري ومسلم.
[10] الشعراء 217-220.
[11] تيسير الكريم الرحمن ص 599.
[12] فاطر 2-3.
[13] قال ابن فارس: "الهاء والياء والضاد: كلمةٌ واحدةٌ تدل على كسرِ شيءٍ، وما أشبهه، يقال: هاضَ عظمه: كسره بعد الجبر.." معجم مقاييس اللغة لابن فارس 6/24.
[14] الزمر 8.
[15] الأنعام 63-64.
[16] الأنعام 40-41.
[17] فتح الباري بشرح صحيح البخاري. لابن حجر 2/441.
[18] في ظلال القرآن 22/2923.
[19] الطلاق 3.
[20] تيسير الكريم الرحمن ص 871.(/2)
يا أمتي لا تحزني إن الله معنا!
د. عوض بن محمد القرني 30/1/1424
02/04/2003
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فإن الأحداث الجارية أصابت كثيراً من الناس باليأس والقنوط والهلع والجزع، فأحببت أن أسهم قدر الإمكان في مواجهة هذا الطوفان، وقد كان مما علمناه من كتاب الله أن من سنن الله تعالى في خلقه بقاء الصراع بين الحق والباطل والخير والشر، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وليعلي بالتمحيص درجات أهل الإيمان ، وليرفع بالابتلاء درجات بعضهم فوق بعض ولتتم مقتضيات حكمته تعالى في إيقاظ الهمم بالنوازل ،وتحريك العزائم بالمحن وإحياء الحمية الإيمانية بالمحن.
ومن ذلك ما نراه اليوم من حشود وأعمال وتحركات من أمريكا ابتداءً بما سمي (الحرب على الإرهاب) وانتهاءً بما نراه من حرب على العراق وفي المقابل ما نراه من تخاذل ووهن من الشعوب والجيوش والحكومات،وكل ذلك ينبئ بأحداث، ضخام وتحولات كبيرة ، تنطوي على أمور قد تكرهها النفوس وأحداث تضيق بها القلوب؛ سيكون مآلها الأخير –بإذن الله – النصر والعز للمسلمين، والتمكين لعباد الله الصالحين ،و تطاير الزبد ،وذهاب الغثاء ، وانقشاع أسباب الذلة والهوان.
وقد ضرب الله لنا أمثالا بالأمم والأنبياء قبلنا ، ومن أكثر القصص في القرآن قصص بني إسرائيل ، وذلك لوجود بعض أوجه الشبه بينهم وبين هذه الأمة ، وقد عاشوا سنين عديدة تحت الذل والهوان، والتسلط الفرعوني بعد أن نسوا ما ذكروا به، وتعلقوا بالدنيا وأَنِسُوا بها وركنوا إلى الشهوات وحب الحياة، ثم اشتد عليهم العسف والأذى قبيل ميلاد موسى عليه السلام ،ولما بلغ أشده وأُكرم بالنبوة زاد عليهم الأذى والظلم ، حتى قالوا (أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:129)
و مكثوا على هذا الحال من الاضطهاد سنين عديدة وفيهم أهل الإيمان بالله: موسى وهارون ومن استجاب لهما، ونبي الله يعدهم بالنصر والاستخلاف في الأرض وهلاك العدو،وبعد هذه السنين الطوال أمروا بالخروج وركوب البحر ، فخرجوا من الذلة والهوان (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) (الأعراف: 137).
وفي هذا دليل على أن نصر الله تعالى آت، وزمانه مقبل، ولكنه لا يحسب بحساب أعمارنا القصيرة، ولا يقاس وفق قياسات زمنية قريبة (خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ( الأنبياء:37).
وعلى ضوء ما ذكر؛ وفي ظل الأحداث الراهنة من الحرب الأمريكية الظالمة ضد العراق، وما قد يؤدي إليه من ضربات مضادة تطال الدول المجاورة وخاصة التي أعلنت وقوفها العلني مع الوجود العسكري لأمريكا ، مثل الكويت والبحرين وقطر ودولة اليهود،وإن كان هذا الاحتمال ضعيفاً ، وقد يستتبع ذلك تداعيات عسكرية في فلسطين والأردن،وربما غيرها، هذا فيما يتعلق بالجانب العسكري.
أما ما يتعلق بالتحرك الفكري والاجتماعي فسوف تواصل أمريكا سعيها في الضغط لتغيير المناهج ،وتقليص النفوذ الديني والعلوم الشرعية ،والمؤسسات الخيرية ، والتغيير الاجتماعي من خلال المرأة أولا، والسعي لتغيير الاتجاه العام للمجتمعات من خلال تغيير سياسات التعليم والإعلام وبعض نظم الحكم،ومن خلال التمكين للمنافقين من العلمانيين وأضرابهم والشهوانيين وأشياعهم، والذين بدأوا بالتحرك والظهور والمطالبة.
ولذا فإن الواجب في هذه الأحوال الاستمساك بالعروة الوثقى، والاسترشاد بالهدى المبين من كتاب الله، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والوثوق بوعد الله واليقين بنصر الله وأن الله سبحانه لن يسلط على هذه الأمة من يستبيح بيضتها،وأنها أمة مرحومة، كما أخبر الصادق المصدوق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ولذا ينبغي أن تكون هذه الأحداث مهما كانت مؤلمة موئل تفاؤل ورجاء؛ لا مصدر يأس وخوف. وأسباب ذلك كثيرة ومنها:-(/1)
1 – صدق وعدالة ما نحن عليه من دين، وأحقية وخيرية ما نطالب به من قضايا، فالثبات على الموقف العادل، والمبدأ الصادق نصر بذاته. و المسلم يقاتل عن دينه وعرضه من هاجم بلاده ظلماً وعدواناً، والعالم كله يشهد أن أمريكا سارعت إلى العدوان على المسلمين، وأعلنت ما كانت تداريه تحت ستائر السياسة وهذا يبشر بانتقام الله من الظالم ولو بعد حين (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (الكهف:59) ، (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (النمل:52) ، (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) (النمل:85) ، (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ) (الزمر:51) ، (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (الشورى:42) .
2 – البغي والاستكبار والغرور والاستعلاء التي اتصفت بها أمريكا: مستكبرة بقوتها وكثرتها وعددها وعتادها، متناسيةً قدرة الله عليها،وذلك مقدمات الخذلان لها بل الدمار مثلما أخبر الله تعالى عن من قبلهم فقال سبحانه: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ) (فصلت:15)
3 – ما في هذه الأحداث من كشف للمرتابين المنافقين ومرضى القلوب وعبدة الهوى والدنيا والوظيفة والجاه عند الخلق: و في هذا الكشف خير عظيم، كما حدث يوم أحد ويوم الأحزاب. قال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:179) و يبقى بعد ذلك معالجة السماعين لهم والمتأثرين بهم .
4 – ما نراه من حصول الوعي والعبرة للمسلمين ؛أفرادا، وشعوبا، ودولا؛ بما في هذه الأزمات من دروس وعبر، ورفض المشاركة مستقبلا مع العدو أو التحفظ في المشاركة هذه المرة، وهذه خطوة جيدة في الطريق الصحيح، ودليل على أن إنكار الظلم ورد المنكر يثمر ولو بعد حين، وأن الشعوب بيدها الشيء الكثير مهما كان ضعفها وألا نيأس من الحكومات مهما بدر منها.
5 - وضوح السبيل والمفاصلة العقدية: وذلك من خلال استمساك جملة كبيرة من العامة بمبدأ الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين وإدراكهم لبعض مآرب الكفار وبعض مخططات العدو الماكر، وهو ما كان مشوشاً في أزمات سابقة (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال:42)
6 - انكشاف أمريكا، وظهور زيف شعاراتها عن العدالة الحرية والإنسانية والحضارة وحق الشعوب في تقرير المصير... الخ حتى في تعاملها مع مواطنيها من المسلمين -فكان الأمر كما قال الله تعالى: ( قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)(آل عمران: من الآية118)- وإمكانية مخاطبة الحكومات وإشعارها - بحسب الوسائل المتاحة – بأن ما تريده أمريكا استبدال الواقع بجميع أبعاده، بما في ذلك البعد السياسي بواقع آخر يكون أكثر انسجاماً مع المشاريع الصهيونية في المنطقة، وأكثر أماناً لمستقبل إسرائيل.
7 – ما يتوقع من تخفيف ضغط العولمة – ولو إلى حين – وهذه فرصة للتأني والنظر البصير، والاستعداد لمواجهتها بخطط متعقلة وبرامج محكمة. وقد يؤدي ذلك إلى تركيز الاهتمام على التعامل بين البلدان الإسلامية فتكون خطوة ثم تعقبها خطوات بإذن الله.
8 – التقليل من أسباب الفساد الفكري والسلوكي، ومن أهمها: السياحة في الدول الغربية، فالمعاملة غير الإنسانية للمسافرين والمقيمين المسلمين والتي مورست فعلا ،وإن أصابت بعض الصالحين فسينفع الله بها كثيراً من الطالحين الذين ينفقون سنوياً عشرات البلايين في أماكن اللهو وأوكار الفساد ومباءات الفجور هناك، ثم يعودون لبلادهم بكل شر وبلاء.(/2)
9 – إحياء جملة طيبة من المعالم الشرعية المنسية مثل: قضية الجهاد والولاء والبراء، وفقه السياسة الشرعية كأحكام "دار الكفر" و "دار الإسلام" والراية ، والملاحم مع أهل الكتاب والإقامة في بلاد الكفر، والهدنة والعهد، وأحكام عصمة النفس والمال، وكذلك الأحكام المتعلقة بالتحالف أو الاستعانة بالمسلمين على المشركين،و التعددية وتداول السلطة والرقابة على الولاة، وما أشبه ذلك مما سيكون مادة خصبة للاجتهاد والتفقّه ووزن الأمور بميزان الشرع الحكيم.
10 – ظهور فتاوى شرعية مؤصلة – جماعية وفردية – في جملة من بلاد المسلمين، في القضايا الراهنة واهتمام بعض الغربيين بهذه الفتاوى، واطلاع كثير من المسلمين عليها، مما يقوّي مرجعية أهل العلم والإيمان في أمور الأمة فيسهم في إحياء أصالة الأمة ووحدتها.
11 – الإقبال الكبير على الإسلام في أمريكا وأوروبا، وقد وردت الأخبار والأدلة على ذلك حتى أصبح في حكم المتواتر، ويتوقع أن يتزايد هذا الأمر بعد الحرب ،وهذا في ذاته نصر عظيم وآية بينة على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وغيظ لليهود والنصارى وللمنافقين من أبناء المسلمين .
12 – تقوية الربط بين الأحداث وبين القضية الكبرى للمسلمين (قضية فلسطين)، واقتناع كثير من الناس داخل أمريكا - فضلاً عن خارجها - بضرورة التعامل العادل معها، مما يعضد الانتفاضة المباركة ويسند جهاد المسلمين لليهود، ويزيد قضية فلسطين رسوخا ويزيل كثيرا من الغبش العلماني والشهواني عن مساراتها.
13 – يمكن للعاملين للإسلام -خلال هذه الأحداث وبعدها- القيام بترسيخ مبادئ الدعوة إلى الإصلاح الشامل لحال الأمة ليطابق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويسترشد بهدي الخلفاء الراشدين وعصور العزة والتمكين، وذلك بواسطة برامج ودراسات تُنشر للأمة ويخاطب بها الحكام والعلماء والقادة والعامة وستفتح الأحداث بابا واسعا لتطوير وسائل الدعوة لمواكبة المواجهة العالمية الشاملة بين الكفر والإيمان،فبالإضافة إلى الشريط أو النشرة أو الكتيب مثلاً يضاف القنوات الفضائية المتعددة اللغات والصحافة المتطورة، ومراكز الدراسات المتخصصة... والمؤسسات التعليمية والخيرية المُحْكمة التخطيط.
14- يجب على العاملين للإسلام -حكوماتٍ وجماعات وأفراد- أن يدركوا قيمة هذه الفرصة العظيمة (من خلال ما ذكر سابقا وغيره)وأن يجعلوا هذه الأحداث منطلقاً للمرحلة الإصلاحية التالية على مستوى الشعوب(دعوة، وجهادا، وتربية، وتزكية): وهي مرحلة الجهاد الكبير بالقرآن كما قال تعالى {وجاهدهم به جهاداً كبيراً}
15 – قد تنجلي الأحداث وتكون الاحتمالات التي بعدها كثيرة ومختلفة :فقد يحاول الغزاة فرض أساليب جديدة للحياة في المنطقة تحت مسمى الديمقراطية والمشاركة السياسية، أو السعي لتمزيق المنطقة وتفتيتها، أو إبقاء شكل الدول وتبديل مضمونها إلى الأسواء، أو الإلزام بقيام مؤسسات المجتمع المدني كالأحزاب والنقابات والإعلام الحر، وهذا يقتضي الإعداد لهذه المرحلة بكافة احتمالاتها والتي ستكون – في الغالب – مختلفة عما هو موجود الآن، وتكاتف الجهود، والحفاظ على وحدة الأمة .
16 – هذه فرصة كبيرة لتحريك الأمة كلها لمواجهة أعدائها المتكالبين عليها من كل مكان، وترك الاستهانة بأي قوة في هذه الأمة لفرد أو جماعة وبأي جهد من أي مسلم، ونبذ فكرة حصر الاهتمام بالدين على فئة معينة يسمون بـ "الملتزمين" فالأمة كلها مطالبة بنصرة الدين والدفاع عن المقدسات والأرض والعرض والمصالح العامة. وكل مسلم لا يخلو من خير. والإيمان شُعَب منها الظاهر ومنها الباطن، ورب ذي مظهر إيماني وقلبه خاوٍِ أو غافل، ورب ذي مظهر لا يدل على ما في قلبه من خير وما في عقله من حكمة ورشد. وهذا لا يعني إهمال تربية الأمة على استكمال شُعَب الدين ظاهراً وباطناً، بل المراد إجادة تحريك الأمة وتجييش طاقاتها لنصرة الدين وتحريك الإيمان في قلوب المسلمين هو من أسباب النصر والقوة، ومن دواعي تزكية الصالح، وتوبة العاصي ويقظة الغافل. وهذا جيش النبي صلى الله عليه وسلم خير الجيوش لم يكن كله من السابقين الأولين بل كان فيه الأعراب الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وفيه مَن خَلَط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وفيه المُرجَون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وفيه من قاتل حمية عن أحساب قومه، فضلاً عن المنافقين المعلومين وغير المعلومين، وإنما العبرة بالمنهج والراية والنفوذ التي لم تكن إلا بيد النبي صلى الله عليه وسلم ثم بيد أهل السابقة والثقة والاستقامة من بعده.
ولو لم نبدأ إلا بتحريك الإيمان والغيرة في قلوب مرتادي المساجد ، وكذلك الجيران والأقرباء والعشيرة وزملاء المهنة وإن تلبسوا بشيء من المعاصي الظاهرة،لكان لذلك أعظم الآثار،وأينع الثمار بإذن الله.(/3)
والمراد أن يُعلَم أن حالة المواجهة الشاملة بين الأمة وأعدائها تقتضي اعتبار مصلحة الدين والمصالح العامة قبل كل شيء، فالمجاهد الفاسق – بأي نوع من أنواع الجهاد والنصرة – خير من الصالح القاعد في هذه الحالة.
17– تتيح هذه الأحداث الفرصة الجيدة لتوعية الأمة بمفهوم نصرة الدين وتولي المؤمنين، التي هي فرض عين على كل مسلم، وأن ذلك يشمل ما لا يدخل تحت الحصر من الوسائل، ولا يقتصر على القتال وحده، فالجهاد بالمال نصرة، وكذلك الإعلام وبالرأي والمشورة وبنشر العلم، وبالعمل الخيري، وبنشر حقائق الإيمان ولاسيما عقيدة الولاء والبراء، وبالقنوت والدعاء، وبالسعي الجاد لجعل المجتمعات الأقرب إلى التمسك والمحافظة قلاعاً ونماذج يمكن أن يفيء إليها بقية الناس، وبجعل منارات العلم والشرع مرجعيات للاستشارة والفتوى،وتفويت الفرصة على العلمانيين والشهوانيين.
18– الفرصة الآن متاحة بشكل جيد لتحويل وحدة الرأي والتعاطف إلى توحّد عملي ومنهجي لكل العاملين للإسلام في كل مكان، يقوم على الثوابت والقطعيات في الاعتقاد والعمل، ويدرس الفروع والاجتهادات بأسلوب الحوار البناء. فاجتماع كلمة الأمة أصل عظيم لا يجوز التفريط فيه بسبب تنوع الاجتهاد واختلاف الوسائل. وما يجمع المسلمين أكثر وأقوى مما يفرقهم. والشرط الوحيد لهذا هو أن يكون المصدر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرته، وما كان عليه الأئمة المتبعون في عصور عز الإسلام فمن أعظم أسباب ما أصابنا من بلاء التفرق والاختلاف.
19 – أصبحت إمكانية مطالبة الحكومات بفتح باب الحوار مع الشعوب، وتفهم هموم الشباب ومشكلاته، واستيعاب حماسته فيما يخدم الإسلام حقيقة أكثر من ذي قبل لشعور الجميع بالخطر مع التأكيد على أن هؤلاء الشباب في الأصل طاقة ذات حدين إن لم تستصلح وتهذب أصبحت وبالاً وبلاءً، وهم إذا رأوا الصدق من أحد وثقوا فيه وقبلوا توجيهه، وإذا ارتابوا في أحد أعرضوا عنه وحذّروا منه، فلابد في التعامل معهم من حكمة وأناة وصبر. ولابد من الكف عن الأعمال والإعلام والمواقف المسيئة للدين ولهم، وترك ما يستفزهم من المنكرات، وأن تلغي من تعاملها الحل الأمني الذي ثبت أنه لا يؤدي إلا إلى ردّات فعل أعنف والدخول في نفق مظلم لا نهاية له.
20– الوقت الآن مناسب لتذكير الناس عامة وخاصة: أن أمة تعيش حالة الحرب الشاملة يجب أن تكون أبعد الناس عن اللهو والترف. وأن تصرف جهودها وطاقتها للتقرب إلى الله ورجاء ما عنده، وأن تحرص على التأسي بالأنبياء الكرام والسلف الصالح في الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله، فهي في رباط دائم وثغور متوالية، ولا قوة لها إلا بالله، ويجب أن يصحب أعمالها كلها إخلاص لله تعالى وصدق في التوجه إليه وتوكل عليه ويقين في نصره، وعلى أهل العلم والدعوة أن يكونوا قدوة للناس في هذا كله وأن يضعوه في أولويات برامجهم الدعوية، فإن الله سبحانه وتعالى لم يعلق وعده بالنصر والنجاة والإعلاء والعزة لمن اتصف بالإسلام بل خص به أهل الإيمان كما في قوله تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد}. وقوله: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين}. وقوله: {ونجينا الذي آمنوا وكانوا يتقون}. وقوله: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}. وقوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}.
ومن هنا يمكننا - بإذن الله - إذا لم نمنع وقوع الأحداث أن نقوم بتقليل مفاسدها وسلبياتها وأن نوظفها قدر الإمكان لمصلحتنا، وهذا هو حال المؤمن -صاحب القلب الحي والعقل المستبصر- غير يائسٍ ولا متشائم قال تعالى: ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا أغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) آل عمران 146-148.(/4)
يا أمة الإسلام ما أرداك عاجزة ..
(( هدية الشعر ))
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
وَرَجّعي اللَّحْنَ مِنْ أَحْلَى مَزَامِرِه ... ... عَرَائِسَ الشِّعْرِ ..! صُوغِي مِنْ جَوَاهِرِهِ
مضَمَّخاً بِنَدِيٍّ مِنْ مَجَامِرِهِ ... ... وَفوِّحِي بالشَّذَىَ في زَهْوِ مَوْكِبِهِ
بالرَّوض ... ! حَنَّتْ إِلَى دُنيا أَزاهِرهِ ... ... وَفَتِّقي الوَرْدَ أَشْكَالاً مُنَمَّقَةً
عَلَى رُؤَى الغَيْبِ في أَزْكَى مَشَاعِرِهِ ... ... هُنَا القَصِيْدُ الذِي ذوّبْتُهُ زَمَناً
بالأَمس سِرّاً على أَجْفَانِ شاعِرِهِ ... ... وَقُمْتُ ألتَمِسُ الآمَالَ .... أَيْنَ غَفَتْ
تُضيءُ بَيْنَ الدُّجَى أَعْلى مَنَائِرِهِ ... ... حتَّى جَلَوْتُ هُنَا الأَحْلامَ زَاهيَةً
مَعَالِمُ الحُسْنِ فَاضَتْ مِنْ بَوَاكِرِهِ ... ... كَأَنَّها انتفَضَتْ بِكْراً تَرفُّ بِهَا
غَنيَّةَ الشَّوْقِ هاجَتْ مِنْ بَوَادِرِهِ ... ... تَلُمّ فِي ظِلِّها مِنْ كُلِّ شَارِدةٍ
* * * ... ... * * *
تَرْوِي وتَسْكُبُ رَيًّا مِنْ مَزَاهِرِه ... ... هُنَا الأُخوَّةُ صَفْوٌ مِنْ مَنَابِعِهِ
أَحْيَتْ هَوىً وَصَل الماضي بِحاضِره ... ... هُدَى اليَقين ... ُرَى الإِيْمَانِ خَافِقَةٌ
نُورٌ يَشِعُّ وخَفْقٌ مِنْ بَشائِرِهِ ... ... كَأنَّ كُلَّ فُؤَادٍ في تَبَتُّلِهِ
إلاَّ وَقَدْ حَمَلَتْ أَنْدَى مآثِرهِ ... ... أَمُدُّ رَاحةَ لُقْيَانا ..... فَمَا رَجَعَتْ
" هَدِيَّةَ الشَّعْرِ" هَزَّتْ مِنْ مَنابِرِهِ ... ... فَقِفْ عَلَى المنْبَرِ الدَّاوي وغَنِّ لهُ
* * * ... ... * * *
وَقَدْ حَبَاكِ الهُدى أَمضَى بَوَاتِرهِ ... ... يَا أُمَّةَ الحَقِّ .. ! مَا أَرْدَاك عاجِزَةً
مَوْجَ الظَّلامِ ... وَيُزْوِي منْ دَيَاجِرِهِ ... ... حَبَاكِ آياتِهِ نُوراً يُزيحُ بِهَا
تَشُقُّ دَرْباً يُغَذِّي خَطْوَ سائِرِهِ ... ... وَسنَّةً مِنْ رَسُولِ الله مَاضيِةً
عَزْماً يَشدُّ حِبَالاً مِنْ أَوَاصِرِهِ ... ... تَمَسَّكي بِهمَا إنْ شِئتْ مَكرُمَةً
كَنْزٌ مِنَ الخيْرِ أَوْهَى كَفَّ ناثِرِهِ ... ... وَفي مَغَانِيْكِ فَيْضٌ مِنْ مَعَادِنِهَا
إلَيْهِ عَيْنٌ عَلَى أَغْنَى مَنَاظِرِهِ ... ... حَبَاكِ مَا تَشْتَهيْ نَفْسٌ وَمَا طَمَحَتْ
وَفوْقَ أَكْتافِهَا بُشْرى نَواضِرهِ ... ... مِنْ كُلِّ مَالٍ بِبَطْنِ الأَرْض مُدَّخَرٍ
يَرْوي البَوَادِيَ دَفَقَاً مِنْ مَوَاطِرِه ... ... وَكُلِّ خَيرٍ عَلَى الأَجْوَاءِ منعقِدٍ
وَصَاغَ مِنْ دُرِّهَا أَغْلَى جَوَاهِرِه ... ... وَمِنْ رِمَالٍ جَلا التَّاريخُ سَاحَتَها
دَفَّاقَةَ النُّورِ هَدْياً مِنْ مَصَادِرِهِ ... ... تَوَسَّطَتْ مِنْ رُبُوعِ الأرْضِ مَنْزِلةً
* * * ... ... * * *
أَيْنَ الملايينُ ...؟ غابَتْ عن نَواظِرِهِ ... ... المَالُ والنَّفَرُ المَمْدُود .... وَاعَجبَاً
يَسُوْقُها الذّلٌّ فِي بَلْوَى حَفَائِرِهِ ... ... هُنَاكَ ... في الدَّرْب .. قِطْعَاناً مُشَرَّدَةً
عَلَى شِفَارِ عَدُوٍّ أَوْ خَنَاجِرِهِ ... ... تَمُدُّ أَعْنَاقَهَا... حَمْقَاءَ ... ثاغِيَةً
غَصَّتْ عَلَى العرْضِ مِنْ أَغْلَى حَرَائِرِهِ ... ... يُدْمي عَلَى رَعْشَةِ الإذلال مُهْجَتَها
مِنْ مَاجِنِ اللَّهْو... أَو من جَهْلِ سَادِرِهِ ... ... غَفَوْتِ يا أُمَّتي ظِلاًّ عَلَى سُرُرٍ
لِكُلِّ غازٍ عَلَى حُمَّى جَرَائِرِهِ ... ... تَرَكْتِ دَارَكِ أَبوَاباً مُفَتَّحَةً
وَيَدْفَعُ الدَّمَ نَهْراً في مَجَازِرِهِ ... ... يَجْتَثُّ مِنْ كُلِّ رَوْضٍ طِيْبَ غَرْسَتِهِ
* * * ... ... * * *
عَلَى نُيُوبِ عَدُوٍّ أَوْ أَظَافِرِهِ ... ... أَشْكُو(( لكابولَ )) ... أَمْ أُصْغِي لأَنَّتِها
سَاحُ القِتَالِ وَلاَ هَاجَتْ بِثائِرِهِ ... ... بأَيّ دَارٍ مِنَ الإِسْلامِ ما اضطَرَبَتْ
حَبَسْتُ دَمْعِي كِبْراً في محاجِرِهِ ... ... أَبْكي (فلسْطِينَ)..أَمْ أَبكي دِمَشْقَ.. وكَمْ
عَلَى الجِراحِ عَصِيٌّ مِنْ عَوَاثِرِهِ ... ... إبَاءَةُ العَزْمِ تُخْفيهِ ... وَيَنْثُرُهُ
ثُمَّ اخْتَفَتْ هَمَساتٍ في حَنَاجِرِهِ ... ... بُحَّتْ حَنَاجِرُنا في زَهْوِ نَشْوَتِنَا
فَلا أَرَى وَثبَاتٍ مِنْ ضَوَامِرِهِ ... ... أَمُرُّ بَيْنَ مَيَادِينٍ مُضَمَّخَةٍ
فَأطْبَقَتْ في بَوَادٍ مِنْ دَيَاجِرِهِ ... ... كَأَنَّما المَوْتُ أَجْلى كُلَّ ناحِيَةٍ
وَخَفْقَةُ المجْدِ في نَجْوَى مَقَابِرِهِ ... ... وأصَبَحَ الشَعْرُ ألحَاناً لِمَأَتَمِهِ
جَمَعْتُهُ هَاهُنَا لَحْناً لِنَاشِرهِ ... ... لَكْنُو ... ! حَنَانَيْكِ مِنْ شَوْقٍ أُكابِدُهُ
مَلاَحِمَ الشِّعْر وَحيْاً مِنْ مَفَاخِرِهِ ... ... هُنَا نَشُقُّ الدّجَىِ نوراً نَصُوغُ بِهِ
عَادَتْ على السَّاح فَيْضاً مِنْ خَوَاطِرِهِ ... ... وَنَستَعِيدُ دَوِيَّاً مِنْ مُجَلْجِلَةٍ(/1)
عَلَى هُدَى الله آياً مِنْ بَصائِرهِ ... ... تَمْضِي الخُطا ..تَخْضُدُ الأَشْواك..صاعدةً
حُرُوفُه في نَوَادٍ مِنْ حَوَاضِرهِ ... ... لا يَنَهضُ الأدَبُ الشَّادِي إذا وَقَفَتْ
لِرَنَّةِ النَّصْلِ أَوْ وَقْعٍ لِحَافِرِهِ ... ... لكنَّما أَدَبُ الإِسْلام مَعْرَكَةً
* * * ... ... * * *
15/6/1401هـ
19/4/1981م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من ديوان جراح على الدرب .(/2)
يا أنصار النبيّ .. (صفاً واحداً)
الشيخ/ عبدالله بن مرزوق القرشي 15/3/1427
13/04/2006
قرأت شيئاً مما كُتب عن مؤتمر البحرين لنصرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-, ومع أني لا أتفق مع بعض الأطروحات التي تناولت المؤتمر, غير أني لا أودّ أن ذلك لم يحصل!
إنني أقدّر أن المؤتمر وما تلاه من مناقشات هو عبارة عن درس جديد يُكتب هذه الآونة في ثقافتنا العملية. ومثل هذه الدروس لا يُكتب لها البقاء والاستمرار والتأثير حتى تأخذ حقها من المداولة والنظر والتفاعل المشترك بين الآراء المختلفة. حتى إذا كُتب هذا الدرس كان مكتوباً بمدادٍ من الحياة لا تذروه الرياح، ولا تمحوه الليالي والأيام, ناصعاً يتوهج للأجيال الحاضرة والقادمة. والشرط المهم في مداولاتنا هذه التركيز على الرأيِ, والبحثِ عن الحقيقة التي ربما تكتمل بأجزاء من هذا الرأي وذاك. وهنا لا مكان للتعصب لأشخاصنا؛ إذ إنا لا نعلق على حدث سابق بقدر ما نريد أن نشارك في صياغة درس للمستقبل. إن هذا التفاعل الكبير مع نصرة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هو حدث استثنائي وفرصة كبيرة لأن نستخلص ولو درساً واحداً لمسيرتنا الطويلة نحن -أمة الإسلام -.
أما بعد: فهذا تعليقي على ما جرى في المؤتمر وما تلاه، أرتبه في النقاط التالية:
أولاً: بعد أن أساءت الصحيفة لنفسها، وأساءت لمشاعرنا في التعرض لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- هبّت الأمة الإسلامية هبّةً فِطْرِيّةً صادقة, غيرةً ونصرةً لمن هداها من الظلمات إلى النور. ولا أُنْكِر أن ثمة مخلصين هم منْ بادروا بتعريف الأمة واستنهاضها, غير أن استجابة الأمة كانت أسرع وأكبر من أن نتذكر من هؤلاء الأشخاص, جزاهم الله عن نبيهم وأمتهم خير الجزاء.
إننا - أمة الإسلام - أردناها نصرة لنبينا -صلى الله عليه وسلم- وحسب. ولا أستثني من ذلك أحداً. وهذا مبدأ ينبغي أن نلتزمه في حواراتنا حول هذا الموضوع. فلا يجوز التشكيك في النيات بأي حال من الأحوال, حتى لو أن بيننا أحداً أرادها لغير الله، فلا يجوز أن نعامله على هذا الأساس، إلا أن يكون بأيدينا دليل (وليس قرينة) على نيته السيئة. علينا بالظاهر، والله يتولى السرائر. ذلك منهج نبينا الذي ننصره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، عامل الناس على ظواهرهم حتى المنافقين أجرى عليهم حكم الإسلام لماّ أظهروا إسلامهم وأبطنوا كفرهم. إن الاتهامات والتخوين والتشكيك نفق مظلم طويل, من دخله أجهد نفسه دون أن يهتدي إلى نهاية صحيحة. وما زال هذا النفق هو مهرب المبطلين كلما أشرقت عليهم شمس الحقيقة، كما قال كبيرهم فرعون حين ظهر الحق على يدي نبي الله موسى (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ). ومع وضوح هذا المبدأ (عدم التشكيك في النيات، وأخذ الناس على ظاهرهم) إلا أن المرء يلمس من نفسه، ومن بعض إخوانه بعض التفريط فيه إبّانَ الممارسات العملية. ولذلك كان التذكير بهذا المبدأ في فاتحة الحديث.
ثانياً: الخلاف في بعض وجوهه تنوّعٌ وثراء, ومشاركة ممتعة. ولا مانع هنا أن يوجد الصواب عند أحد الأتباع كما حدث هذا مع الحباب بن المنذر في غزوة بدر, وربما يجري الحق طيّباً سائغاً على لسان امرأةٍ متوارية خلف خبائها كما حصل لأمنا أم سلمة -رضي الله عنها- في صلح الحديبية في حل أزمة تباطؤ الصحابة عن التحلّل من عمرتهم. وربما لمع السداد في ذهن شابٍ حادّ الذهن. ولذلك كان عمر يستشير الشباب يبتغي حدة أذهانهم, كما قاله الزهري. فلا غرابة إذن أن تتنوّع الآراء- دون حجر على أحد - في معالجة أزمة الرسوم المسيئة, وما هي الطريقة الأحسن في التعامل مع هذا الحدث.(/1)
ثالثاً: ولكن في أي شيء يكون الخلاف؟ وإلى متى يستمر الخلاف؟ وإذا احتجنا إلى حسم الخلاف فمن له الحق في ذلك؟ وهذه أسئلة كبيرة لا يمكن الإجابة عنها جميعاً. ولكن نأخذ من ذلك ما يهمنا في هذا الموقف (موقف الرسوم والنصرة). ولا ريب أن هذا الموقف هو مما يحتمل تنوّع الآراء واختلافها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه موقف عملي ينبغي أن نتفق فيه على رأي موحّد حتى نخرج بموقفٍ قويّ واحد (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ). ونَرجع إلى معينه الصافي سيرته العملية صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي". لنرى كيف كان يتعامل مع مثل هذه المواقف. وحريّ بنا أن نرجع دائماً لسيرته صلى الله عليه وسلم، لاسيما ونحن نناقش نصرته. فليكن أول ما ننصره به اتباع طريقته وهديه في مواقفه العملية. وأشير باختصار إلى غزوة أحد حين سمح النبي -صلى الله عليه وسلم- بتنوّع الآراء في كيفية مواجهة جيش المشركين, وكان رأيه أن يقاتل في المدينة، ورأي الشباب أن يخرجوا إلى أحد. فلما جاء وقت العمل حسم الخلاف لأحد الرأيين (وكان في ذلك الموقف هو رأي القتال خارج المدينة). فلمّا ذهب إلى أحد ترك عبد الله بن أبيّ بن سلول الجيش بحجة أن رأيه كان خيراً من رأي الشباب وانهزم بثلث الجيش .. فهنا طريقتان: طريقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الاجتماع ولو على رأي مفضول, وطريقة عبد الله بن أبيّ بن سلول التفرّق بحجة الحرص على الرأي الفاضل. فلينظر امرؤ ما يختار لنفسه!. إن الاجتماع على رأي مفضول خير من التفرّق على رأي فاضل. (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ). إذن لا مانع من التنوّع وتقليب الآراء والخلاف حتى يبدأ الموقف العمليّ, فإذا جاءت المواقف العملية فيجب أن نتنازل عن بقية الآراء، ونجتمع على رأي واحد، ونخرج للأمم الأخرى صفاً واحداً. ويبقى السؤال هنا: من يحدّّد هذا الرأي دون بقية الآراء الباقية؟ من يحق له الاختيار؟
ونعود لمسألتنا في مؤتمر البحرين لنقول: إن أكبر تجمع للعلماء – حسب اطلاعي – هو مؤتمر البحرين. حضر فيه جماعة من العلماء الأجلاء, ووفود من المراكز الإسلامية في الدنمرك, ونظّمته مؤسسات وهيئات إسلامية معروفة بجهودها الإسلامية، وجهودها في حملة النصرة لخاتم الأنبياء والمرسلين. فأرى من المناسب أن نتنازل عن آرائنا الأخرى لرأي هؤلاء العلماء الأجلاء, لاسيما أننا الآن في موقف عمليّ لا يحتمل المنازعة والتفرق. واستطراداً فإني أذكّر إخواني بأن ثمة نموذجين داخل واقعنا الإسلامي فيما يتعلق بالاختلاف والتفرق. فهناك نموذج ركّز على النظام وأهمل الدليل, فخرج بمواقف منظمة ومرتبة, لكنه أهمل النظر للدليل حتى أصبح سلطان النص يتراجع كثيراً أمام سلطان المراجع الدينية. وصورته الغالية تصل إلى ما وصف الله (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) (31) سورة التوبة. وهناك نموذج آخر ركّز على سلطة الدليل واحترام النص, وأهمل التنظيم والخروج بمواقف مرتبة، حتى غدا حال هذا النموذج فوضى عارمة، لا يعرف لذي قدرٍ قدره. وواجبنا حيال هذا الواقع أن نضع نموذجاً ثالثاً يحفظ لنا (صفنا الواحد)، دون أن يحوّلنا إلى (اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله).
رابعاً: وماذا عن قرار المؤتمر وبيان الشيخين الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ سلمان العودة؟ وأقول: ابتداءَ فإني من الناحية العملية أرى موافقة المؤتمر وعدم التفرّق والتنازع سواء كان هناك اقتناع بالطريقة التي أقرها المؤتمر أم لا؛ فاجتماعنا على رأي مفضول خير من تفرّقنا على رأي فاضل. وإن كان ثمة تسامح فلا تثريب في المخالفة، على ألاّ يكون إنكار لا يتناسب مع طبيعة المواقف العملية.(/2)
هذا من حيث المبدأ . أمّا رأيي الخاص – ومن أنا حتى يكون لي رأيٌ خاص في مقابل هؤلاء الأجلاء ؟! ولكن مجرد مشاركة نظرية – فربما كان الصواب مع أحد الأتباع أو أحد الشباب ! . فأرى أن رأي المؤتمر كان رأياً موفقا وسديداً . ذلك أن المقاطعة وسيلة وليست هدفاً . فأهدافنا في هذه الحملة - إن صح التعبير – كفُّ السفهاء عن النيل من مقدساتنا . وتبليغُ الناس رسالات الله وهداياته كما نراها نحن لا كما يراها خصومنا . ومن أجل تحقيق هذه الأهداف سنجد وسائل كثيرة من أهمها المقاطعة . ومن المهم أن نتعامل مع هذه الوسيلة بذكاء ووعي حتى نحصد منها أكبر مكاسب ممكنة. بالمقاطعة تستطيع أن تلفت انتباه الشعوب إليك لتقول لهم ما تشاء . بالمقاطعة تستطيع أن تعاقب الخصم المعاند . بالمقاطعة تستطيع أن تحقق مكاسب للإسلام في بلدان الغرب . إن المقاطعة ليست عاطفة بسيطة فحسب بل هي صناعة ومهارة , وفنٌ وذكاء . ولذلك فلا بد لهذه المقاطعة من إدارة تصرّف هذه الوسيلة وتقلّبها بما يحقق لنا مكاسب أكبر , تماماً كالدراهم تجعلها في يد تاجر ماهر يقلبها في أنواع التجارة في السوق ليردّها إليك أضعافاً مضاعفة . وهؤلاء العلماء والمؤسسات المنظمة هي أفضل الخيارات الممكنة لإدارة الموقف . إن أمانة المؤتمر حين رفعت المقاطعة عن شركة " آرلا " لجهودها التي اعتبَرَتْها كافية لاستثنائها من القائمة = قد جعلت الشركات تتنافس لمحاولة رفع المقاطعة عنها. والأمانة ستشترط على كل شركة ما تراه مناسباً لكسب الجولة بيننا وبين خصومنا . ومعنى هذا أن أمانة المؤتمر فكّت الحصار عن الجالية المسلمة في الدنمارك . وتحولت هذه التكتلات الاقتصادية العملاقة إلى طوق يحاصر الحكومة اليمينية , ومثل هذا القرار الحكيم الواعي غيّر قواعد اللعبة داخل الدنمارك . فأصبح إخواننا المسلمون مع الجماهير من الشعب والشركات الضخمة , أصبحوا ضد أقليّة تصر على الإساءة لنا . بعد أن كان إخواننا أقليّة محاصرة. وبهذا يظهر أن المؤتمر ليس ضد المقاطعة , بل هو مع المقاطعة ومع استثمار المقاطعة بصورة أكبر . وفي الجملة فإني أرى ما حصل تقدماً ظاهراً في تعاطي المسلمين مع قضاياهم .. عواطف " الجماهير " الصادقة , تلتقي بإدارة " الحكماء " الواعية! .
وعوداً إلى بداية الحديث فإن الدرس المستخلص هو ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرره على أصحابه مع كل صلاة , حتى إن الإنسان مع كثرة قراءة النص وتأمله لكأنه يسمع صوته صلى الله عليه وسلم وهو يقول : (( سووا صفوفكم )) .(/3)
يا أيها الذين آمنوا
دكتور : عثمان قدري مكانسي
مإن سمعنا المؤذن يقيم الصلاة حتى كبر الإمام وتبعه المصلون و قرأ الإمام الفاتحة بصوته الشجي ثم هدأ قليلاً ليبدأ بعدها قراءة آيات مباركات ... يا أيها الذين آمنوا ... وتوقف قليلاً .. قلت في نفسي : لم توقف ؟ هل نسي ما يود قراءته؟ ... فليبدأ بأية آية غيرها ، فلم يزل في البداية . لكنه كررها مرة أخرى وكأنه ينادينا بصوت يخرج من أعماق قلبه " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً ؟ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، ولن تجد لهم نصيراً ........ " كان قلبي يرتج كبناء أصيب بزلزال هزه هزاً شديداً فبأ يترنح ، يكاد يسقط .... فالإمام إذاً كان بوقوفه هذا مع تكرار " يا أيها الذين آمنوا " يريد أن يوصل لنا النداء ، وأن نتفاعل مع كل كلمة بعده ، ولم يكن يريد لنا صلاة ميتة يسرح فيها الواقف هنا وهناك في هذه الدنيا الواسعة ، لا يدري كيف تنتهي الصلاة ولم يعِ منها شيئاً . ثم يظن أحدنا أنه أدى الصلاة وأرضى الله تعالى !! .. كان يريدنا أن نتلقى الرسالة و نفهم ما يتلوه على مسامعنا، وأن نكون فعلاً واقفين بخشوع أمام ملك الملوك ومالك الملك ، وأن نتدبر آياته بقلب حيّ ولبّ ذكي . فما بعد النداء أمر خطير جهله الناس على كثرة ما يتلى عليهم .
" يا أيها الذين آمنوا " : لبيك وسعديك – يارب – والأمر كله بين يديك . نحن – معشر المؤمنين – عبادك .... لك الأمر، وعلينا الطاعة والامتثال إن كنا مؤمنين . وسنكون بإذنك ومشيئتك مؤمنين دائما ً، تحبنا وترضى عنا ..... وتداعى إلى ذاكرتي بهذا النداء العلويّ الرائع الذي يرفعنا إلى مرتبة العبودية لله تعالى مدى حبه تعالى للمؤمنين ، إذ تكرر هذا النداء سبعاً وثمانين مرة يوضح الطريق المستقيم إلى مرضاته سبحانه ، ويبين السبيل الأقوم للحياة الطيبة في الدنيا والواعدة في الأخرى .
" لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين " والوليّ – إخوتي الأحبة – الصديق الوفي ، والأخ الصدوق ، والناصح الأمين . وهل يعقل أن يكون الكافر الذي يكرهنا ويسعى جاهداً للإيقاع بنا وإيذائنا ، والذي يعمل ليل نهار على استئصال شأفتنا والكيد بنا أخا وصاحباً ونصوحاً ؟!! إنهم كما قال تعالى " لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون " .. وهل يعقل أن ترى ذكياً لبيباً بعد ذلك يتخذهم أولياء يلقي إليهم بالمودّة ؟! إن من يفعل ذلك واحد من اثنين لا ثالث لهما : غافل لاهٍ غبيّ أو منافق أظهر الإسلام وأبطن الكفر .
أما الغافل اللاهي فقد أساء إلى نفسه دون أن يدري حيث استحق تتمة الآية " أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً " إنه حين يرضى لنفسه مصاحبة الكافر عدو الله فقد حكم على نفسه بالهلاك والويل والثبور وعظائم الأمور ، فضلاً عن غضب الله تعالى على من أسلم قياده وزمامه لعدو الله " إن الطيور على أشكالها تقع " وما يأمن لكافر إلا السفيه الغرّير .
وأما المنافق فله عذاب أليم جزاءً وفاقاً ، بل " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " و الدرْك منازل النار والدرجة منازل الجنة " فأولئك لهم الدرجات العلا ، جنات عدن تجري من تحتها الأنهار " . والدرك في النار سبع منازل أشدها : الهاوية ثم الجحيم ثم سقر ثم السعير ثم الحطمة ثم لظى ثم جهنّم .وللمنافقين أسفلها وهو "الهاوية " . لغلظ كفرهم وشدة غوائلهم ، وتمكنهم من المسلمين . نعوذ بالله أن نكون منافقين . ..
قال ابن مسعود رض الله عنه : للمنافقين في الهاوية توابيت من حديد ، مقفلة في النار تقفل عليهم . وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة :
المنافقون : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار "
من كفر من أصحاب المائدة : " إني منزلها عليكم فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين "
آل فرعون : " النار يعرضون عليها غُدُوّاً وعشيّاً ، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " .
أما درجات الجنة فهي مئة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض " .
وهل هناك من ينصر هؤلاء المنافقين ؟! حاشا وكلاّ .. إن الله خصيمهم ." ولن تجد لهم نصيراً " ومن يقف أمام الله تعالى ؟! بل " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وهل يشفع أحد إلا لمن يريد الله تعالى له الخير ؟ " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " .
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن يترك لهم باب الأمل مفتوحاً على مصراعيه ، ولو فعلوا ما فعلوا ، ألا نقرأ دائماً " بسم الله الرحمن الرحيم " في كل لحظة من حياتنا ؟ فهو الرحيم بعباده ، الرؤوف بهم ، الغفور لزلاتهم . العطوف عليهم ، المسامح الكريم ، لا إله إلاّ هو ... يدعوهم إليه كل حين ، " إلا الذين ....
1- تابوا ،
2- وأصلحوا ،(/1)
3- واعتصموا بالله ،
4- وأخلصوا دينهم لله ،
فأولئك مع المؤمنين ...............
وسوف يؤتي اللهُ المؤمنين أجراً عظيماً "
فلا بد من التوبة النصوح التي لا رجوع بعدها إلى الكفر والشرك . والعمل الصالح الذي يجب ما قبله ويمحوه ، ويؤكد توبة صاحبه ويدل على صدق توجهه . واللجوء إلى الله تعالى أن يبدل السيئات حسنات ، ويغفر الذنب ويستر العيب ، ويعين على التوبة والعمل الصالح ، فبالله المستعان دائما . والإخلاص في الأمور كلها لله تعالى ، فبالنية الخالصة تقبل الأعمال " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " . وهنا يضمهم الله تعالى إلى ركب المؤمنين الصالحين الذين وعدهم الله عز وجل بالأجر العظيم .
قال مكحول رحمه الله تعالى : أربعٌ من كنّ فيه كنّ له ، وثلاثٌ من كنّ فيه كنّ عليه .
أما أربع الصفات التي إن كنّ فيه كنّ له ( أي كنّ في ميزان حسناته )
فالإيمان والشكر : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ، وكان الله شاكراً عليماً "
والاستغفار : " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " .
والدعاء : " قل : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم " .
وأما ثلاث الصفات التي إن كن فيه كن عليه ( أي كنّ وبالاً عليه )
فالمكر : " ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله " .
والبغي : " يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم " .
والنكث : " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه "(/2)
( يا إخواننا الدعاة لا تنسوا أهل السنة في العراق )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد :
فيقول الله عز وجل : ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ)) (التوبة :71).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
ثم أن ما يقفه المسلمون اليوم وبخاصة رموز الدعوة والعلم فيهم مما يجري من الأحداث المؤلمة في لبنان لموقف يذكر لهم ويشكر وذلك في استنكارهم القصف الوحشي من اليهود الظلمة للأبرياء من أهل لبنان وإدانتهم لهذا العمل الإجرامي نسأل الله عز وجل أن يقصم الظالمين وأن يلطف بالمسلمين ويرفع عنهم المحنة والبلاء .
ومع الفرح بهذا الموقف المشرف من دعاة المسلمين إزاء ما يحدث في لبنان إلا أن في النفس لوم وعتاب على بعضهم أرجو أن يتقبلوه بصدر رحب وأن لا يضيقوا به ذرعاً فإن المؤمنين نصحة والمنافقين غششة ولا زال المؤمنون يناصح بعضهم بعضاً وقلوبهم سليمة ولا يقدح ذلك في مودة بعضهم بعضاً ، وقبل أن أدخل في العتاب أود أن أنوه أن من أكره الأشياء إلي النفس نشر العتب بين الإخوان في منابر عامة، ولكن رأيت كلاماً منشوراً للناس عامة في مواقع الإنترنت وفي بعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة لا يصبر عليه ، أسأل الله عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وألخص هذا العتاب لبعض إخواني الدعاة فيما يلي :
أولاً : إن الدعوة من بعضهم إلى دعم (حزب الله) بقيادة حسن نصر الله في حربه الغامضة ضد اليهود لأمر مستغرب جداً ومستنكر، ولقد بينت شناعة هذا الموقف في مقالة نشرت بعنوان (احذروا فنتة حسن نصر الله وشيعته) وإن المرء ليقف محتاراً من هذه المواقف ويتساءل ؟ ألا يعرف إخواننا هداهم الله حقيقة الرافضة في القديم والحديث ؟ إن كانوا لا يعرفون فتلك مصيبة ، وندعوهم أن يعرفوا . وإن كانوا يعرفون فالمصيبة أعظم على أنفسهم وعلى المسلمين الذين يضلون بسبب هذه المواقف .
ثانياً: إذا كان من يدعو إلى دعم نصر الله وحزبه قد درس الأمر من الناحية الشرعية وانتهى إلى قناعة شرعية بموقف يدين الله به ، فإن السؤال الكبير هنا هو : أين الدعوة إلى دعم إخوانكم السنة في بلاد الرافدين ، الذين يواجهون الإبادة و التهجير من الأمريكان و إخوانهم الرافضة! أين دعوتكم للمسلمين بالوقوف معهم ودعمهم في جهادهم مساواة بدعم داعي الرفض والتشيع في لبنان ؟! فهلا كان المكيال واحد ؟!
ثالثاً : ومع تألمنا لما أصاب الأبرياء في (قانا) وغيرها من جراء العدوان اليهودي الغاشم فإننا نسأل إخواننا الدعاة الذين نددوا واستنكروا ـ وهذا أمر يشكرون عليه ـ ولكننا نسألهم أين استنكاركم لما يصيب إخوانكم السنة في بلاد الرافدين ، والقتلى ليسوا بالعشرات بل بالمئات ، أين استنكاركم عندما ضربت الفلوجة بالأطنان من القنابل والقنابل الفسفورية التي تفتت اللحم وتذيب الصخر ؟ وأين استنكاركم لما ضربت تل عفر وسامراء والأعظمية والرمادي وغيرها من مدن أهل السنة ؟ هلا كان المكيال واحد ؟ إن الله عز و جل سيسألنا عن نطقنا وصمتنا فهل اعددنا للسؤال جواباً ،،
أسأل الله عز وجل أن يهدينا جميعاً للحق وأن يجعلنا من أنصار دينه الذين يحبهم ويحبونه، والذين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم ...
والحمد لله رب العالمين .(/1)
يا الله ... يا الله ... يا الله
أ. محمد مصطفى المصراتي
إذا ضاقت في وجهك الدنيا فقل ... يا الله إذا سدت في وجهك الأبواب وقطعت أمامك الأسباب فتوجه إلى رب الأسباب و المسببات وقل يا الله إذا غدر بك الصديق وخانك الحبيب وسد في طريقك كل سبيل فقل يا الله إذا انقطع عنك الرزق وقل في يدك المال وتكاثرت الديون و الهموم وزادت عليك الأحزان فقل يا الله ...يا الله ...يا الله . فلن يضيع ندائك ولن يخيب رجاؤك فأنت تلجأ إلى الرب الرحيم اللطيف الخبير الذي رحمته وسعت كل شيء...
فهل دعوته بقلب خاشع ونفس طائعة واثقة لا تزعزعها الظروف فهو قريب يجيب دعوة الداع .. ويكشف السوء و الضر كيف تخاف الفقر و الغني الكريم موجود ، وكيف تهاب الغير والقوي الناصر لا تأخذه سنة ولا نوم ... أما وعيت لتلك الأمور !!
لقد خلقنا الله في الوجود وله حكمة في كل شيء...وحكمة وراء كل شيء وحكمة في خلق كل شيء في الألم حكمة وفي المرض حكمة وفي العذاب حكمة وفي الفشل حكمة وفي العجز حكمة وفي كل شيء حكمة فلنعمل معاً راضين بقضائه وقدره غير ساخطين ولا متبرمين بل طائعين ولنكسب أوقاتنا في رضاه و الابتعاد عما يغضبه وما ينهانا عنه لماذا ننسى في معترك حياتنا وفي لحظات الفشل و الضيق و الضياع أننا في كون يملكه الله الواحد فالله موجود' مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ' فليطمأن القلب وترتاح النفس ويسكن الفؤاد ويزول القلق فالحق لا بدان يصل لأصحابه ...و الدموع لن تذهب سدى ولن يمضى الصبر بلا ثمرة ولن يكون الخير بلا مقابل ولن يمر الشر بلا رادع ولن تفلت الجريمة بلا قصاص عندما يكون خالقك وربك رحمن رحيم لطيف خبير كريم عليم حي قيوم صمد فهل تلجأ إلى غيره أما تحتمي بحماه وتقصد بابه فتطرق أبوابه وتسعى في أرضائه وتتوب إليه وتدعوه يا الله يا الله يا الله ...
أنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك فارحمني يا الله يريدك ربك أن لا تعرف اليأس ولا تذوق القنوط ولا تهاب العوائق ولا تسأم السدود و العقبات ولا تركن إلى أهواء النفس و أن لا تيأس من روح الله ' وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ' وأن تشكو بثك وحزنك إلى الله ، فمن يفرج الكروب وينفس الهموم ويرزق من يشاء بغير حساب إلا الله الرزاق الكريم . ألا يقول لنا الله 'إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا' ويقول 'وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ' وإن الضيق يأتي وفي طياته الفرج فأي بشرى ابعث للاطمئنان من هذه البشرى ففروا إلى الله فكل القوه عنده وكل الرزق عنده وكل العلم عنده 'واتقوا الله ويعلمكم الله ' وكل الخير عنده فهو الوطن و هو الحمى و الملجأ و السند و الصمد واحد أحد لا شريك له ولم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد ...
ألا يدفعك ذلك إلى الإحساس بالسكن و الطمأنينة وراحة البال و التفاؤل و الهمة و الإقبال و النشاط والحماس و العمل بلا ملل وبلا فتور وبلا كسل وتلك ثمرة ' لا إله إلا الله ' في نفس قائلها الذي يشعر بها ويتمثلها ويؤمن بها ويعيشها وتلك هي الصيدلية التي تداوي كل أمراض النفس وتشفي كل علل العقول وتبرئ بأذن الله كل تقلبات القلوب ، وتلك هي صيحة التحرير التي تحطم أغلال الأيدي و الأرجل و الأعناق وهي أيضاً مفتاح الطاقة المكنوزة في داخلنا ، وكلمة السر التي حركت أجدادنا ليقطعوا في زمن قصير ما قطعه الغير في عقود وقرون ففتحوا الأمصار و أناروا النفوس و فكوا العباد من أغلال عبودية العباد إلى حرية عبودية رب العباد فتعال ندعو الله معاً يا الله يا الله استودعك نفسي استودعك همي وكربي وحزني وضيق عيشي فحفني بعنايتك وعفوك وكرمك ورزقك الكريم ، وثبتني على الحق و على الصراط المستقيم و ألهمني العزيمة على الرشد و شكر نعمتك وحسن عبادتك اللهم انس وحشتي و أمن روعتي وأهدني وسددني ، و أسألك أن تأتيني في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقني عذاب النار ...
يا الله يا الله يا الله أسألك العفو و المعافاة و العافية في ديني ودنياي اللهم تولى أمري كله ودبر لي حالي كله و أصلح لي شأني كله ، وارزقني من حيث احتسب ومن حيث لا احتسب يا ارحم الراحمين . يا الله يا الله يا الله آتي نفوسنا تقواها وزكها فأنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها . يا لله يا الله يا الله علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وتقبل منا صلاتنا وصيامنا و زكاتنا وسائر أعمالنا بجزيل الأجر و عظيم الثواب و استجاب دعائنا بأفضل ما تكون الإجابة و أحسن ما يكون القبول برحمتك يا حي يا قيوم ... يا الله يا الله يا الله علمنا كيف نخشاك وكيف ندعوك وكيف ترضى عنا وكيف نكون من عبادك المتقين الصالحين المحسنين الهادين المهتدين بالله يا ارحم الراحمين ... آمين آمين آمين .(/1)
والصلاة و السلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
يا بنتي
محمد بن عبدالله الدويش
دار القاسم
يا بنتي
لو دون المرء الأمور المهمة في حياته فسيجد قائمة طويلة، لكنه حين يعمد إلى ترتيبها حسب الأولويات فسيأتي في رأس القائمة أولاده و ذريته فهم أغلى من المال، من الراحة، من رغباته و شهواته، و مطالبه في الدنيا و الدليل على ذلك يا بنتي أنه حين يمرض أحد أولاده مرضاً مزعجاً فهو يسهر و يسافر هنا و هناك و يدفع من أمواله ما يدفع بل ربما اقترض و استدان، كل ذلك من أجل و لده، لذلك فهو حين يخاطب و لده و يناصحه فسوف يكون صادقاً غاية الصدق و مخلصاً غاية الإخلاص و قديما ً قيل " الرائد لا يكذب أهله ".
يا بنتي
لقد صدمت اليوم بما رأيته من واقع الفتاة المسلمة، تعيش في دوامة من الصراع، فتسمع تارة ذلك الصوت النشاز الذي يدعوها إلى الإرتكاس و التخلي عن كل معاني العفة، و تسمع أخرى الصوت الصادق يهز من داخلها هزاً عنيفاً ليقول لها رويدك فهو طريق الغواية و بوابة الهلاك. و تتصارع هذه الأصوات أمام سمعها و تتموج هذه الأفكار في خاطرها.
يا بنتي
لنكن صريحين صراحة منضبطة بضوابط الشرع، و واضحين وضوحاً محاطاً بسياج الحياء و العفة لتكون خطوة للتصحيح و نقلة للإصلاح.
بعيداً عن العاطفة و عن سرابها الخادع، لو كانت هذه الفتاة التي تقيم هذه العلاقة المحرمة منطقية مع نفسها و طرحت هذا السؤال، ماذا يريد هذا الشاب ؟ ما الذي يدفعه إلى هذه العلاقة ؟ بل ماذا يقول لزملائه حين يلتقي بهم ؟ و بأي لغة يتحدثون عني ؟
إنني أجزم يا بنتي انها حين تزيح وهم العاطفة عن تفكيرها فستقول و بملء صوتها إن مراده هو الشهوة و الشهوة الحرام ليس إلا، إذن ألا تخشين الخيانة ؟ أترين هذا أهلاً للثقة ؟ شاب خاطر لأجل بناء علاقة محرمة، شاب لا يحميه دين أو خلق أو وفاء، شاب لا يدفعه إلا الشهوة أولاً و آخراً، أتأمنه على نفسها بعد ذلك ؟ لقد خان ربه و دينه و أمته و لن تكون هذه الفتاة أعز ما لديه، و ما أسرع ما يحقق مقصوده لتبقى لا سمح الله صريعة الأسى و الحزن و الندم.
و حين يخلو هؤلاء الشباب التائهون يا بنتي بأنفسهم تعلو ضحكاتهم بتلك التي خدعوها، أو التي ينطلي عليها الوعد الكاذب و الأحاديث المعسولة.
يا بنتي
إن الله حكيم عليم ما خلق شيء إلا لحكمة، علم ابن آدم أو جهل. لقد شاء الله بحكمته أن تكون المرأة ذات عاطفة جياشة - تتجاوب مع ما يثيرها للتتفجر رصيداً هائلاً من المشاعر التي تصنع سلوكها أو توجهه. و حين تصاب الفتاة بالتعلق بفلان من الناس قرب أو بعد فأي هيام سيبلغ بها ؟ فتاة تعشق رجلاً فتقبل شاشة التلفاز حين ترى صورته، و أخرى تعشق حديثه و صوته فتنتظر على أحر من الجمر لتشنف سمعها بأحاديثه، و حين تغيب عن ناظرها صورته، أو تفقد أذنها صوته يرتفع مؤشر القلق لديها، و يتعالى انزعاجها فقد غدى هو البلسم الشافي.
يا بنتي
بعيداً عن تحريم ذلك و عما فيه من مخالفة شرعية ماذا بقي في قلب هذه الفتاة من حب الله و رسوله و حب الصالحين بحب الله ( ماذا بقي لتلاوة كتاب الله و التلذذ به ؟ ) أين تلك التي تنتظر موعد المكالمة على أحر من الجمر في وقت النزول الألهي حين يبقى ثلث الليل الآخر !؟ أينها عن الانطراح بين يدي الله و التلذذ بمناجاته ؟ بل و أينها عن مصالح دنياها فهي على أتم الاستعداد لأن تتخلف عن الدراسة من أجل اللقاء به ؟ و أن تهمل شؤون منزلها من أجله.
إن هذا الركام الهائل من العواطف المهدرة ليتدفق فيغرق كل مشاعر الخير و الوفاء للوالدين الذين لم يعد لهما في القلب مكانه، و يقضي على كل مشاعر الحب و العاطفة لشريك العمر الزوج الذي تسكن إليه و يسكن إليها. و بعد حين ترزق أبناء تتطلع لبرهم فلن تجد رصيداً من العواطف تصرفه لهم فينشؤون نشأة شاذة و يتربون تربية نشازاً.
إن العاقل حين يملك المال فإنه يكون رشيداً في التصرف فيه حتى لا يفقده حين يحتاجه، فما بالها تهدر هذه العواطف و المشاعر فتصرفها في غير مصرفها و هي لا تقارن بالمال، و لا تقاس بالدنيا ؟
يا بنتي
لقد خص الله سبحانه و تعالى الفتاة بهذه العاطفة و الحنان لحكم يريدها الله سبحانه و منها أن تبقى هذه العاطفة رصيداً يمد الحياة الزوجية بعد ذلك بماء الحياة و الاستقرار و الطمأنينة، رصيداً يدر على الأبناء و الأولاد الصالحين حتى ينشؤوا نشأة صالحة. فلم تهدر هذه العواطف لتجني صاحبتها وحدها الشقاء في الدنيا و تضع يدها على قلبها خوفاً من الفضيحة في النهاية ؟
يا بنتي(/1)
حين تعودين إلى المنزل و تستلقين على الفراش تفضلي على نفسك بدقائق فاسترجعي صورة الفتاة الصالحة القانتة، البعيدة عن مواطن الريبة، و قارني بينها و بين الفتاة الأخرى التي أصابها من لوثة العلاقات المحرمة ما أصابها، بالله عليك أيهما أهنأ عيشاً و أكثر استقراراً ؟ أيهما أولى بصفات المدح و الثناء تلك التي تنصر على نفسها و رغبتها و تستعلي على شهواتها، و هي تعاني من الفراغ كما يعاني غيرها، و تشكو من تأجج الشهوة كم يشتكين. أم الأخرى التي تنهار أمام شهوتها ؟ تساؤل يطرح نفسه و يفرضه الواقع، لماذا هذه الفتاة تنجح و تلك لا تنجح ؟ لماذا تجتاز هذه العقبات و تنهزم تلك أمامها ؟
يا بنتي
لقد عجبت أشد العجب عندما رأيت فتاة الإسلام تسير بلهاث مستمر وراء ما يريده الأعداء، فتساير الموضة، و تتمرد على حجابها و حيائها، و ها نحن نرى كل يوم صورة جديدة و لوناً جديداً من ألوان هذا التمرد، إنها يا بنتي تتحايل على الحجاب بحيل مكشوفة، لست بحاجة أن أسوق لك فتاوى حول ما تقع فيه كثير من الفتيات، لكن المؤمن الحق يا بنتي يخاف الله و يتقيه و رائده قول الرسول : { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } و هو يدرك أن الإلتفاف على الأحكام و الاحتيال عليها لن ينفعه يوم يلقى الله العليم بما تخفي الصدور.
يا بنتي
ها أنت تتطلعين في المرآة فترين صورة وجه وضيء يتدفق حيوية و شباباً،. ها أنت تغدين و تروحين و أنت تتمتعين بوافر الصحة و قوة الشباب. و لكن ألم تزوري جدتك يوماً، أو تري عجوزاً قد رق عظمها، و خارت قواها ؟! لقد كانت يوماً من الدهر شابة مثلك، و زهرة كزهرتك، و لكن سرعان ما مضت السنون و انقضت الأيام فاندفنت زهرة الشباب تحت ركام الشيخوخة و مضت أيام الصبوة لتبقى صورة منقوشة في الذاكرة. و ها أنت يا بنتي على الطريق، و ما ترينه من صورة شاحبة و شيخوخة ستصيرين إليها بعد سنوات إذاً فإياك أن تهدري وقت الشباب و زهرته، و تضيعي الحيوية فيما لا يعود عليك إلا بالندم و سوء العاقبة.
يا بنتي
لو فكر أهل الشهوات و المتاع الزائل في الدنيا بحقيقة مصيرهم لأعادوا النظر كثيراً في منطلقاتهم، تصوري يا بنتي من حصل كل متاع الدنيا و ذاق لذائذها و لم ير يوماً من الأيام ما يكدره. إن كل هذا سينساه لو غمس غمسة واحدة في عذاب النار حمانا الله و إياك.
و الآخر الذي عاش من الحياة أشقاها سينسى هذا الشقاء لو غمس غمسة واحدة في النعيم، عن انس بن مالك قال قال رسول الله : { يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط ؟ هل مر بك نعيم قط فيقول لا و الله يا رب و يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط ؟ هل مر بك شدة قط فيقول لا و الله يا رب ما مر بي بؤس قط و لا رأيت شدة قط } [رواه مسلم].
وأخيراً أسأل الله العزيز القدير أن ينفعك بهذه الرسالة و صلى الله على نبينا محمد.(/2)
يا بني توجيه رفيق 1/4/1425
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
ما زلنا مع سورة يوسف، ونقف اليوم مع آية يعلمنا فيها يعقوب - عليه السلام - أسلوباً فريداً في التربية والتوجيه، يقول الله - تعالى-: "إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ" (يوسف:4، 5). أسلوب رائع في التعامل بين الأب وابنه، فيعقوب - عليه السلام - يربي أبناءه على الرجوع إليه كلما حدث لهم ما يثير انتباههم، حتى يوجههم التوجيه المناسب، فأنت ترى ابنه يوسف –عليه السلام- يرى رؤيا فيبادر بقصها على أبيه ولا يتردد، وهذا يشير إلى طبيعة العلاقة الحميمة بينهما.
ثم لما قص عليه الرؤيا أولاها ما تستحقه من الاهتمام، فلا هو أهملها كما يفعل الكثيرون، ولا هو بالغ في الاهتمام بها. كثير من الناس يظن أن رؤيا الأطفال لا أهمية لها والواقع أنها قد تكون أصدق من رؤى الكبار؛ لأنهم ما زالوا على الفطرة ولم يتعودوا الكذب وفي الحديث الصحيح "أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً"(1). كذلك المبالغة في الاهتمام برؤى الصغار ليس أمراً مرضياً؛ لأنه ربما دفعهم إلى الكذب لينالوا ما يرونه من تشجيع.
ومن اللفتات في هذه أن يوسف - عليه السلام - لم يقصص رؤياه على أبيه أمام إخوته، وهذا ما ينبغي أن يراعى لئلا تدفع المنافسة الصغار لاختلاق الرؤى.
وفي تأكيد أبيه على عدم قصها مصداقاً لما روي عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصححه بعض أهل العلم(2) "اقضوا حوائجكم بالكتمان، فكل ذي نعمة محسود"، وإذا كان هذا قد يقع بين الإخوان، فوقوعه مع العامة أحرى، ومراعاته إذن أولى.
قوله: "إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً" (يوسف: من الآية4) فهمها يعقوب - عليه السلام-؛ لأنه كان ممن يعبر الرؤى، وعلم ما سيحدث لابنه من عز وشرف، لذا نبهه ألا يقص الرؤيا على إخوته لئلا يحسدوه عليها، ثم لم يكتف بالنهي لئلا يبقى في نفس الصغير شيء، فيتساءل لم يكد له إخوانه؟ وماذا صنع لهم! فقال له: إنهم سيفعلون ذلك بكيد من الشيطان فبقيت في نفس يوسف - عليه السلام - فعلل بها في آخر القصة "مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي" (يوسف: من الآية100)، وهنا إشارة لواجب الآباء في السيطرة على مشاعر أبنائهم بحسن التوجيه لئلا ينشأ بينهم التباغض والحسد.
ومن اللفات هنا أن يوسف - عليه السلام - من أهل بيت آتاه الله الحكمة، وعرف بتأويل الرؤى صغاره وكباره، ولهذا قال يعقوب - عليه السلام-: "لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ" (يوسف: من الآية5)، فعَلِم أنهم سوف يعلمون تأويلها فربما نزغهم الشيطان إلى الكيد، فأمره بعدم قصها عليهم.
ومن اللفتات أيضاً مبالغة يعقوب – عليه السلام - في تحذيره فهو لم يقل: فيكيدوك، بل قال: "فَيَكِيدُوا لَكَ" (يوسف: من الآية5) فضَمَّن معنى فعل يتعدى باللام، ليفيد معنى فعل الكيد، مع إفادة معنى الفعل المضمن، فيكون آكد وأبلغ في التخويف، وذلك نحو: فيحتالوا لك.
واللفتات التربوية في هذه الآية كثيرة، ولعل من أهمها ما يلي:
1- البدء بما يسترعي انتباه الابن أو الطالب أو المقصود بالتوجيه، وهنا استرعى يعقوب سمع ابنه يوسف - عليهما السلام - بعبارة حانية محببة يقول فيها: (يا بني)! وفرق بين أن تجذب انتباه من تريد توجيهه بعبارة تلفت انتباهه نحو ما تقول فيلتفت إليك بوجهه وعقله، وبين أن تجذب انتباهه بعبارة زاجرة تجعل جل همه التفكير فيما يخلصه من الصراخ أو الزجر أو التوبيخ، فيترك ما نهي عنه للحظة، ثم يعود بعد مدة؛ لأنه ما تنبه إلى الحكم والأسباب، وإنما كان همه التخلص من العبارة المرعدة المرعبة: "يا ولد"! أو "يا ..."!
2- اختار يعقوب - عليه السلام - عبارة تأطر الابن على طاعة أمر والده، فهذه العبارة الحانية (يا بني!) والتي فيها نسبة الابن إلى نفسه، تنبه الابن إلى معاني الأبوة في الكلام المقبل على تلقيه، فهو يعلم أن ما سيأتي بعدها أمر أبوي يفيض بحب الخير للأبناء، وكراهة كل ما يسوؤهم، وطاعة مثل هذا الأمر أقرب من عصيانه، كما أن النداء بـ (يا بني!) مشعر بنوع شفقة وحرص أبوي يناسب مقام النهي والتحذير، والسامع للعبارة يستشف منها معنى: أنت مني، ولذا أشفق عليك فلا تفعل.(/1)
3- لم يكتف بالنهي المجرد، بل أتبعه بتعليله، فقال أولاً: "لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ" (يوسف: من الآية5)، وعقب بقوله: "فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً" (يوسف: من الآية5)، فالأجسام البشرية ليست مجرد آلات تتحرك بالأوامر، فما أسرع الناس لمخالفة ما لم يعرفوا حكمته، أو يقفوا على علته، بل ما أسرعهم إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به –كما قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها-.
ولهذا قرر علماء التربية في العصر الحاضر أن توجيه الأطفال لابد أن يصحبه شيء من التعليل، وإلاّ كانت النتيجة امتثال الأمر أمام الأباء، ومخالفتهم فور تولية ظهورهم!
إن هذه النمط الديكتاتوري في التربية: افعل "وبس"! لم يكن يعرفه أعظم المربين - صلى الله عليه وسلم-.
هاهو ذا يوجه ابن عباس في كلمات تلحظ الشبه بينها وبين كلمات يعقوب –عليهما السلام- هذه فيقول: "يا غلام إني أعلمك كلمات".. وينهى الآخر الذي طاشت يده في الصحفة بأسلوب أكثر بلاغة وإبداعاً، فيقول: "يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك"، فيا لله أي معلم هذا! يقول علماء التربية الغربيون: إذا أردت أن تنهى ابنك أو من توجه، عن فعل أمر، فحاول أن يكون ذلك بصيغة الأمر قدر المستطاع، فإن النهي المباشر مصادمة لإرادة الطفل أو الموجه، وصرفه عن خطئه بإرشاده إلى الصواب توجيه وتسديد لإرادته، ولهذا قال: "كل بيمينك.. كل مما يليك"، ومن هذا القبيل أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - للحسن عندما امتدت يده إلى تمر الصدقة: "كخ كخ" تنبيه! "ارم بها" توجيه بالأمر لابالنهي! "أما علمت أنها لا تحل لنا" تعليل، فأين هذا الأسلوب من الأسلوب العسكري الدكتاتوري الذي ينتهجه بعض الآباء! لتكون النتيجة تربية ديكتاتوريين صغار ليصبحوا في المستقبل دكتاتوريو رجال الغد! بينما يتنازل الحسن –رضي الله عنه- الذي رباه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الفهم والتعليل عن الخلافة وأي خلافة!
وهنا يعقوب - عليه السلام - ينهى عن محذور لم تتوجه إليه إرادة الطفل ولكنه محتمل، فناسب أن يكون النهي نهياً صريحاً، ومع ذلك علله بقوله: "فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً" (يوسف: من الآية5) فهو ليس نهياً مجرداً بل نهي معلل مقنع.
4- قوله: "فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً" (يوسف: من الآية5) فيه دليل على فطنة يعقوب، إلى تصرفات وسلوك بنيه، فلم يكن يعقوب - عليه السلام - سيئ الظن، ولكنها فراسة المؤمن قادته إليها يقظته وفطنته، فهو يعلم أحوال أبنائه من حوله، ويستشف من تصرفاتهم شيئاً ربما وجد في نفوسهم، ويعمل جاهداً على ألا يستفحل الأمر فيخرج إلى نطاق لا يمكن تداركه، فتراه يقطع كل سبيل ربما قاد إلى تفاقمه، وهكذا ينبغي أن يكون المربي فطناً لبقاً يحسن قراءة نفوس طلابه ومن حوله بناءً على تصرفاتهم، ويتعامل مع تلك النفوس بما يناسبها، وليحذر من الإيغال في الريبة والشك فلايرتاب بغير مبرر ظاهر ومحض ظنون، فـ "إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" (الحجرات: من الآية12)، كما ليحذر من أن يكون الحاضر الغائب، لايعلم شيئاً ولايحلظ أمراً حتى تقع الفأس كما يقولون على الرأس! ولات ساعة مندم.
5- وأخيراً حرصه على سلامة صدور الإخوة بعضهم تجاه بعض، ولهذا نسب إلى أحد الدوافع والأسباب، وهي وسوسة الشيطان (عدو الإنسان)، وفي هذا فائدة أخرى، وهي استثمار المواطن المناسبة، لبيان العدو الحقيقي، وتوطيد بغضه، ولهذا قال: "إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ" (يوسف: من الآية5)، فذكر عداوته وعبَّر بالمصدر (عدو) فهو عدو بغَضِّ النظر عن الزمان أو المكان، وليست عداوته عداوة خفية، بل هي عداوة بينة جلية، كيف لا وقد أخبر الله عن قوله : "لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ" (الأعراف: من الآية16).
نسأل الله أن يجنبنا الشيطان وكيده، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يرزقنا متابعة الأنبياء في أسلوب تربية الناشئة والأبناء، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
____________
(1) صحيح مسلم 4/1773.
(2) انظر السلسلة الصحيحة رقم 1453.(/2)
يا بني
المحتويات
مدخل بين يدي الرسالة
حديث حول العقوق
حين يخطيء الوالد
حديث من شيخ إلى شاب
مشكلة الشهوة
ما الأمر الذي يهمك؟
قصة مجتمعك
مدخل بين يدي الرسالة
معشر الإخوة الكرام: إن المصارحة مع أنفسنا مطلب ضروري، والتخلي عنها لايسهم إلا في دفن الحقائق، وخلق سحب وضبابية حول كثير من أخطائنا، وصنع الأسلاك الشائكة حول أرض المحاسبة، وخلق الخطوط الحمراء ستكون ضريبته استمرار الأخطاء وتضاعف التجاوزات.
إن مواجهة النفس، والتخلص من الحيل النفسية مطلب ملح هو الآخر ولن يجني غيرنا ثمرة المخادعة والتزويق.
معشر الإخوة الكرام: ثمة مشكلات في حياتنا الاجتماعية، وأخطاء، وتجاوزات: في علاقة الأب بأبنائه، والابن بوالديه، والزوج بزوجته، والزوجة بزوجها. والمدير بالموظف، ورب العمل بالعامل. وحين نكون جادين في التخلص من هذه المشكلات وتصحيح هذه الأخطاء فلا مناص من طرح هذه الموضوعات تحت ضوء الشمس فلم تعد أسراراً، بل صار يدركها حتى المغفل، ويبصرها الأعشى والأعمش.
ولاشك أن ذلك يعني أن تثار بمحضر الخصم، وبمسمع الطرف الآخر، فسوف يسمع الابن مشكلة أبيه، والزوجة مشكلة زوجها، وقد يكون هناك حساسية وحرج ولكن: لماذا تطغى هذه الحساسيات على تفكيرنا لتكون عائقاً عن أي خطوة في التصحيح والمصارحة، ولماذا نتوهم أن مشكلاتنا لايعلم عنها غيرنا؟
معشر الإخوة الكرام: إن الحقيقة مرة، والمصارحة مؤلمة. لكن ذلك أهون بحال من مرارة النتائج الفادحة لاستمراء الخطأ وإلف المخالفة.
لقد طرحنا قضية الآباء ومشكلاتهم مع أبنائهم في رسالة واضحة بعنوان (يا أبت). وآن الأوان لطرح الحوار مع الطرف الآخر فإلى رسالة يا بني:-
يا بني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:-
فأحمد الله إليك وهو للحمد أهل، وأثني عليه ولا أحد أحب إليه الثناء منه عز وجل. ثم إني مسطر لك كلمات خطها مداد النصيحة، ومعبر لك عن كوامن في الصدر فجرها دافع المحبة. فمعذرة يا بني إن كان في الألفاظ خشونة، أو كان في التعبير قسوة لكنها قسوة المحب. والدرن يا بني قد لا يزول إلا مع بعض القسوة.
يابني: تتسابق الكلمات، وتتدافع الموضوعات حين أريد أن أسطر لك. فأشعر أن حيز هذه الرسالة قد لا يتسع لما أريد قوله. فآثرت أن أشير إلى أهمه، تنبيهاً وتلميحاً، والحر تكفيه الإشارة. وما لم أسطره لك يابني فإنما حال دونه شعوري أنه مستقر لديك ولم يعد بحاجة إلى إشارة . أو شعوري بأن غيره احتل المساحة دونه.
يابني: تحوم هذه الرسالة حول البر وحقيقته، وترحل بك إلى واقع السلف لترى نماذج من ذلك. وتعرج على شؤم العقوق ووباله، منبهة على العقوق في الفكر والمنهج وهو نوع معاصر من العقوق. ثم تدلف بك إلى وصايا حول الفتن والشهوات، والاهتمامات والدوافع. مذكرة لك. بمواعظ عاجلة. حاكية لك قصة هذا المجتمع مما لم تره بعينك ورآه والدك. ورأيت يا بني تسهيلاً عليك. أن أجعلها في فصول متتابعة: فصل عن البر. وفصل عن العقوق. وفصل بعنوان حين يخطئ الوالد. وفصل بعنوان حديث من شيخ إلى شاب. وفصل بعنوان قصة مجتمعك. وفصل بعنوان مواعظ ووصايا.
فأرعني سمعك وحكم عقلك، وقبل ذلك موازين الشرع المطهر.
يا بني: ها أنت بلغت سن التكليف، فأصبحت رجلاً مسؤولاً عن أعمالك، ومحاسب مجزي عليها. يا بني : إن بلوغك يعني أنك أصبحت مخاطباً بسائر التكاليف الشرعية. فقد جاوزت مرحلة الطفولة إلى غير رجعة، ودخلت بوابة جديدة إلى الحياة. وآن لي أن أبوح لك بحديث طالما كان يعتلج في صدري، ويكنه فؤادي، كان يحبسه انتظار بلوغك ما بلغت الآن. ومع ما كان يعتلج في صدري، ويدور في خاطري فقد قلبت الطرف، وقرأت ما سطره بعض الأوائل والأواخر، من رسائل لأبنائهم، ووصايا لفلذات أكبادهم، فضمنت وصيتي بعض ما قالوه، وزينتها ببعض ما صاغوه. فهل أنت مصغ لي سمعك؟. وفاتح لي فؤادك؟ عل الله أن ينفعك ببعض ماتسمع.
يا بني: كم كان سروري وأمك حين بلغنا نبأ حملها بك، وكنا نتردد على الطبيب للفحص والمتابعة. وحين كانت تلك الساعة التي خرجت فيها إلى الدنيا. لم تكن تدري كم كان مبلغ سرورنا، وبهجتنا
لقد كانت آمالنا معقودة عليك، وكنا ننتظر تلك الساعة التي تبلغ فيها السعي، كانت أمك تردد في نفسها، وتناجيك وأنت صغير رضيع تؤمل الآمال العريضة، وتتمنى الأمنيات الغالية أن تبلغ ما تبلغ.
وكان والدك لا يقل عنها حالاً، إلا أن خواطره كانت حبيسة الفؤاد، تعتلج في صورة أمنيات.
يا بني: طالما سمعت أن الله قرن حق الوالدين بحقه [وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً]. إن هذا وحده يا بني كاف في تعظيم حق الوالدين وعلو شأنهما. كاف دون سرد الأمثلة والنماذج والشواهد.
يابني: لم يأمر الله بالذل إلا للوالدين والمؤمنين [واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا].(/1)
يابني: الجهاد ذروة سنام الإسلام وتحديث النفس به شرط للبراءة من النفاق. ومع ذلك يابني فإذن الوالدين شرط للمشاركة في الجهاد فقد استأذن رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: "أحي والداك؟" قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد". متفق عليه من حديث عبدالله بن عمرو.
وروى هذا المعنى مسلم من حديث أبي هريرة. وأبويعلى والطبراني من حديث أنس. والوقت يابني يطول عن سرد النصوص في ذلك.
يابني : يبلغ حق الوالدين درجة لا تسقط معها الصلة حتى ولو كانا مشركين [وإن جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما] وفي الصحيحين من حديث أسماء رضي الله عنها قالت: " قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت علي أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: "نعم صِلِي أمك".
يابني : أتدري من أحق الناس بحسن صحابتك؟ سأل رجل هذا السؤال النبيَّ صلى الله عليه وسلم قائلاً :من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:" أمك"، قال: ثم من؟ قال:"أمك"، قال ثم من؟ قال: "أبوك".
يابني : كم يحتل أصدقاؤك من مكانة في قلبك تستوجب قائمة طويلة من التضحية، والإيثار، والمشاورة، والمجاملة؟ ولكن ألا تعلم يابني أن أمك، وأباك أحقُّ الناس بحسن صحابتك.
أتريد يابني أن تعرف عظم وجد الأم على ابنها فاسمع معي هذه الأبيات:-
لأمك حق لو علمت كبير*** كثيرك ياهذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي *** لها من جؤاها أنة وزفير
وفي الوضع لوتدري عليها مشقة *** فمن غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها *** وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك مماتشتكيه بنفسها *** ومن ثديها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها *** حناناً وإشفاقا ًوأنت صغير
يابني: أتدري كم يبلغ فرط الأم وشوقها عليك حين تغادر المنزل حتى تعود؟ كم مرة أيقظتني من النوم لتقول: إن ابني لم يعد، كم مرة أزعجتني حين سافرت لتسأل متى يعود؟ وما شأنه؟ وأنت يابني سادر تعيش في عالم آخر. فتغيب عن المنزل دون أن تشعرها، وحين تسافر تنتظر اتصالك على أحر من الجمر لكنها لاتجد إلا اللامبالاة. أهذا حق أمك يابني؟.
يابني !: إنكم حين تواجهوا أنفسكم بالسؤال الصريح وتبحثوا عن موقعكم في خارطة البر أو العقوق، تدركون لماذا يكرر ويبدأ الموضوع ويعاد، لست بحاجة يابني لأفيض في الحديث عن حق الوالدين وعظم منزلتهما، لكني أسألك بصراحة أن تحدد موقعك أفي سياج البر، أم العقوق.
يابني : أتريد رضا الله عز وجل. فهو مرتبط برضا الوالد يخبرنا بذلك أعلم الخلق بالله سبحانه وتعالى فيقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم عن عبدالله بن عمرو :"رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد".
أرأيت يابني أي بوار وهلاك يجنيه من يسخط والده، حيث يستجلب على نفسه سخط رب السماء والأرض؟. ومن ذا يابني يطيق هذا الوعيد الشديد؟
يابني : إن الجنة مطلب الجميع، ومسعى من سهروا وهجروا الرقاد ،ومطلب من بذلوا الأرواح والمهج رخيصة للّه. أتدري بعد ذلك يابني أن الوالد أوسط أبواب الجنة.
ويندب صلى الله عليه وسلم من أضاع هذه الفرصة فيقول: " رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه" قيل: من يارسول الله؟ قال: "من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة " رواه مسلم.
يابني : إن الدعاء هو الملجأ للمسلم حين تدلهمُّ به الخطوب، وحن تقفل الأبواب أمامه. أتعلم أن بر الأم من أسباب إجابة الدعاء؟ لقد كان أول الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فدعا الله بصالح عمله: رجلا بارًّا بأمه.
وخير التابعين أويس القرني رضي الله عنه كان برًّا بأمه فكان مجاب الدعوة يوصي النبي صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أن يطلب منه الدعاء. وهذا فوق أنه شهادة بر وصلاح لأويس فهو رسالة إلى كل من كان له أم أن برها من أسباب استنزال النصر، واستحقاق إجابة الدعوة.
فدونك فارغب في عميم دعائها *** فأنت لما تدعو إليه فقير
يابني : أعرفت الآن أن البر ينتج لصاحبه رضا الله، ودخول الجنة، وإجابة الدعاء؟
يابني : توهم نفسك كثيراً أن حق والديك عليك أعظم، وأنك وفيٌّ لهما بارٌّ بهما. لكني أذكر أنك ذات يوم اعتذرت عن إجابة دعوة أمك محتجاً بالتعب والإرهاق، وحينها قدم زميلك محمد وهو شاب خير لا مطعن فيه، فنسيت ما بك من بأس وفقدت التعب والإعياء، أهكذا يابني مفهوم البرِّ لديك؟
يابني : إليك صورة من حقيقة البر؛ لتدرك أن إحضار الخبز، أو الإيصال لزيارة، أو الوفاء بمطلب ليس هو منتهى البر وأداء الحق.
عن أبى هريرة رضي اللّه عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايجزي ولدٌ والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه " رواه مسلم وأهل السنن.(/2)
ويدرك ابن عمر رضي الله عنهما أن البر يمتد حتى بعد موت الوالد فيلقى أعرابياً في الطريق فيركبه راحلته، ويعطيه عمامة له على رأسه . فقيل له إنهم أعراب يرضون باليسير. فيقول رضي اللّه عنهما إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه" رواه مسلم.
يابني : نقف وإياك سريعاً مع بعض صور البر لدى سلف الأمة علك تدرك أن الكثير مما يظنه البعض من شبابنا براً لايرقى لذلك:
محمد بن المنكدر الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام كان براً بأمه وكان يضع خده على الأرض ثم يقول لأمه قومي ضعي قدمك على خدي. وقال سعيد بن عامر عنه: بات أخي يصلي وبت أغمز قدم أمي ، وما أحب أن ليلتي بليلته.
وكهمس الحنفي البصري العابد أبو الحسن من كبار الثقات. أراد قتل عقرب فدخلت في جحر فأدخل إصبعه خلفها فضربته، فقيل له. قال خفت أن تخرج فتجىء إلى أمي تلدغها.
وعبدالله بن عون الإمام القدوة عالم البصرة نادت أمه فأجابها فعلا صوته صوتها فأعتق رقبتين.
وابن سيرين شيخ الإسلام مولى أنس رضي اللّه عنه إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها.
أما عروة بن الزبير الإمام الفقيه فتزداد حساسيته فيرى أن من شد الطرف إلى والده فلم يبره.
ولقد كانت الرحلة في طلب العلم من أشد مايعنى به السلف، وكانوا يعدونها كالماء للسمك. والهواء للطائر. ومع ذلك تركها جمع منهم براً بأمهاتهم. وممن فعل ذلك يابني بُندار الإمام الحافظ راوية الإسلام، وأبو العباس أحمد بن علي الأبار الحافظ المتقن الإمام الرباني، والإمام العلامة محدث الشام الحافظ ابن عساكر، وغير هؤلاء كثير.
يابني : لقد أتبع الله العقوق والعصيان بالشرك به [قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً] وهاهو معلم البشرية ومرسي معالم العلاقات الإنسانية صلى اللّه عليه وسلم يربط العقوق بالشرك باللّه، ويدرجه ضمن قائمة أكبر الكبائر.
حديث حول العقوق
يابني : إن العقوق شؤمه عاجل، وعقوبته قريبة في الدنيا، روى الطبراني عن أبي بكرة رضي اللّه عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اثنان يعجلهما اللّه في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين ". وروى الحاكم في المستدرك من حديث أنس رضي الله عنه: " بابان معجلان عقوبتهما في الدنيا: البغي و العقوق". فهل يأمن العاقُّون يابني أن تحل بهم كارثة أو تصيبهم مصيبة؟
يابني : أتدري مانتائج العقوق: كبيرة من أكبر الكبائر تقرن بالشرك باللّه عز وجل. ومجلبة لسخط اللّه سبحانه. ومدعاة لتعجيل العقوبة في الدنيا، وأزيدك الأخرى حين يسيء الابن إلى والديه يدعوه ذلك للدعاء عليه. وهي دعوة مستجابة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم " رواه أحمد وأبو داود والترمذي. حينئذٍ . يجتمع على هذا الابن عمل ضعيف زهيد يبعده من رحمة الله أصلاً، وعقوق تعجل له فيه عقوبة أو قارعة، ويأتي بعد ذلك الدعاء الذي لايرد، إنها مصائب يابني يجنيها العاق، واحدة منها كافية لوعظه وردعه إن كان له قلب.
يابني : إن العقوق أبواب كثيرة، ومجالات شتى، ولكن العقوق غاية العقوق يابني عقوق المنهج والسلوك والفكر؛ فحين يكون الأب صالحاً عابداً قانتاً والابن خلاف ذلك، حين يكون الأب يفزع للصلاة عند سماع النداء، ويتخلص من كل مشاغله حين يطرق مسامعه صوت حي على الفلاح. حين يكون كذلك. أفليس من العقوق أن يكون الابن سادراً غافلاً بعيداً عن إجابة النداء؟ وحين يعود الأب للصلاة والدعاء يعود الابن من سهرة مع رفقة ساقطة، وحين يكون الأب مبادراً إلى الصلاة حين يسمع النداء أما الابن فغاية تبكيره أن يدرك الركعة الأخيرة، ومنتهى مبادرته أن يأتي قبل سلام الإمام هذا إذا أدى الصلاة مع الجماعة، وحين يكون الأب ورعاً عن الشبهات، بعيد عن المريبات والابن ساعياً للحرام، حين يكون الأمر كذلك فهذا واللّه هو العقوق الأشد والأنكى.
حين يخطيء الوالد
يابني : الأب ناصح حنون، ومشفق ودود. وما خلت يوماً أن أباً يود الشر لابنه، أو يحسده على أن حقق خيراً دونه، لكن يا بني : قد يضل بعض الآباء الطريق، أو يخطئ السبيل. فيدرك الابن أن مايقوله أبوه ليس حقاً، وما يدعوه إليه لايسوغ بحكم الشرع ومنطق العقل. فكيف يتعامل الابن مع خطأ والده يابني؟
أولاً: حين يقع الأب في مخالفة شرع الله فليس له فيه قدوة، والطاعة إنما هي في المعروف وقد عاب اللّه الذين قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة، والأب له حق عظيم لكن حق الله أعظم. وواجب محتم لكن وجب اللّه اتم وأولى.(/3)
ثانياً: حين يشعر الابن يابني أنه يختلف مع أبيه في رأي، أو لا يوافقه في مسالة أيعني ذلك إسقاط حق حسن الصحبة والجرأة على العقوق؟ لقد أوصى الله ببر الأب ولو كان مشركاً، ولو دعا ابنه للشرك، فكيف إذا كان خطؤه عن اجتهاد، ومجانبته للصواب عن رغبة في الإصلاح؟
ثالثاً: حين يهمل أب ولده في شأن التربية. ويغفل عن أداء واجب النصيحة، بل حين يسعى لتسهيل المعصية له وشرائها بحر ماله، أفيعني ذلك يابني أن الابن معذور عند الله؟ أبداً يابني، إن ذلك قد يكون سبباً في انحرافه وصبوته، ومدعاة لأن يجازى الأب على ذلك يوم القيامة، لكنه يابني ليس عذراً أمام الله بحال. لقد قتل الشبان من بني قريظة كفاراً، وما كان لهم عذراً أن آباءهم كذلك، بل ولا أنهم دعوهم للكفر وصدوهم عن الإيمان.
رابعاً: وحين يلمس الابن الخطأ من أبيه، أفيعني ذلك أن يسلك مسلك التمشيخ والأستاذية لوالده؟ أيعجز الابن الشاب أن يسلك مسلكاً حكيماً في الاصلاح، وسليماً في التوجيه؟
يابني : كثير هم الشباب الذين يسيئون طريق الإصلاح، ويجهلون طريق الدعوة لآبائهم وأمهاتهم. فرفع الصوت، وخشونة الكلمة، وقسوة اللهجة منطق إن ساغ يابني مع أحد لم يسغ مع الوالدين بحال.
حديث من شيخ إلى شاب
مشكلة الشهوة:
يابني : أعرف أنك الآن بلغت سن التكليف وأعرف -وقد مررت بالمرحلة التي أنت فيها وقاسيت منها ما قاسيت- جيداً يابني مايعانيه الشاب في هذه السن وأن مشكلة الشهوة هاجس لايفارق خياله، فهل لي يا بني أن أحدثك عنها بصراحة ووضوح؟ نعم يابني؛ فهي واللّه خير من أن تكون ضحية خبرة أصحابك، وتوجيه خلانك.
يا بني: إن من حكمة الله سبحانه في عباده أن يبتليهم بالشهوات والمكاره؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم:"حجبت الجنة بالمكاره وحجبت النار بالشهوات".
نعم يابني لقد زين للناس في هذه الدار حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وركب في الإنسان يابني غرائز تدعوه إلى مقارفة الشهوة و ارتكابها.
وأعرف يابني أن الأمر لم يقتصر على الدافع الفطري - وهو وحده كاف في الابتلاء- كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم :"ماتركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء". بل زاد الأمر يابني فصارت الصورة المحرمة تلاحق الشاب والفتاة في الشارع والمنزل، في المجلة والمشهد، في المرأة المتبرجة في السوق والمنتزهات، وحين يسلم من ذلك -ولا إخاله - فإنه يابني لن يسلم من حديث زميله في المدرسة، وقد يريه الصورة، ويحدثه عن المغامرة، وعن التخطيط للمارسة.
يابني : يكون الشاب عفيفاً لكنه حين يخلو بنفسه يتيه في أودية التفكير، وشعاب الخواطر فتتقاذفه يمنة ويسرة، ويشعل النار على نفسه، وحينها يسأل عن العلاج.
يابني : إن غض البصر، والكف عن المحارم هو الخطوة الأولى والأساس. ألم تقرأ قوله تعالى [قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم]. ألم تعجب مثلي يابني لمن يتجرؤون على المخالفة ومن ثم يبحثون عن العلاج.
يابني : واللّه ماصدقوا إذ قالوا هذا أمر ابتلينا به ولامخرج لنا منه، إذاً فلماذا تنقلهم أقدامهم إلى مواقع الفتنة؟ ولماذا تتحرك أيديهم لجيوبهم ليشتروا الصورة المحرمة ويبحثوا عنها؟
يابني : نعم إنه أمر يحتاج للمجاهدة لكنه ليس بالمستحيل، وشتان بين أن يكون الأمر صعباً أو مستحيلاً، إنهم وإن حببت إليهم الشهوات، فقد خلق اللّه لهم عقولاً يميزون فيها مايضرهم وما ينفعهم، ومنحهم سبحانه إرادة يختارون بها، ويسيطرون بها على نفوسهم ودوافعها.
يابني : أعرف أن من أشد ألقاب الذم والهجاء أن يقال للشاب إنك غير مكتمل الرجولة، وإنك ضعيف الشخصية، فما رأيك فيمن ينهار أمام شهوته، وينهزم أمام داعي هواه أليس مهزوز الإرادة؟ ضعيف الشخصية؟ فاقد الرجولة؟
يا بني: لن أستطيع في هذه العجالة أن أسهب في هذا الحديث لكنها خواطر عاجلة فإن أردت فارجع إلى مادون فيه من كتب، أو ألقي عنه من محاضرات.
ما الأمر الذي يهمك؟
يابني : تتفاوت اهتمامات الناس وهمومهم في هذا الزمن فمنهم من همه تحصيل شهوته فبها يفكر، وبها يعيش، ومن أجلها يسعى ويحفد، ومنهم من فتن بالرياضة فأسرت لبه، واسترقت فؤاده، ألم تعلم مثلي أن البعض من الشباب ذات ليلة شهد صلاة الفجر خلاف العادة. أتدري لماذا يابني ؟ لقد علمت بعدها أن مباراة كانت في الثلث الأخير من الليل حين ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، فاستيقظوا لمتابعتها، وربما لم يناموا حتى يدركوها.(/4)
والشيء بالشيء يذكر يابني، لقد عهدنا هؤلاء لايشهدون صلاة الصبح مع جماعة المسلمين، ويرون أنهم لايطيقون ذلك، فلماذا يستيقظون ويطيقون الآن؟ أوَ ما علموا أن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر؟ أوَ مايخافون من الجبار حتى يستفتحون اليوم بمعصيته؟ أوَ مايعلمون أن أول عمل يحاسبون عليه يوم القيامة الصلاة؟ ولقد عهدتهم أيام الامتحان يستيقظون مبكرين يابني أفشأنها أعلى عندهم من دينهم؟
يابني : تتفاوت همم الناس علوًّا وسفلاً، تتفاوت في مضمونها واتجاهاتها، فمنهم من تقف همته على تحصيل شهادة يتوظف بها ويسترزق، ومنهم من يطمح أكثر للحصول على وظيفة أعلى، ومنهم من تكون همته تحصيل علم شرعي ينفع اللّه به الأمة، فأين أرى همتك تقف يابني؟
يابني: لقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن المرء على دين خليله، وأن المرء يحشر يوم القيامة مع من أحب، وقديماً قيل:-
يقاس المرء بالمرء***إذا ما المرء ماشاه
وذو العُرِّ إذا احتك *** ذا الصحة أعداه
وللشيء من الشيء *** مقاييس وأشباه
وللروح على الروح *** دليل حين يلقاه
ألا ترى يابني أن الكثير من الشباب مع إدراكه لهذا المعنى، ووضوحه لديه يفتقر إلى المعايير السليمة في اختيار الأصدقاء؟
قصة مجتمعك:
يابني : أستأذنك في أن أقص عليك قصة مجتمعك، لقد كان مجتمعاً يابني محافظاً، مجتمعاً متديناً، مجتمعاً عفيفاً، لقد كنا يابني قبل سنيات نرى على جنبات الحائط أثراً، أتدري مم ذاك يابني ؟ لقد كانت المرأة فيه يابني قلما تخرج وحن تخرج تراها ملتصقة بالحائط.
يابني : لقد كنا إذا أجدبت السماء فزع الناس، وتصدقوا وأنفقوا، واستسقوالله ففي أحيان كثيرة يا بني كان المطر ينزل علينا ونحن في المصلى، وإن تأخر فلن يجاوز اليوم الذي صلينا فيه.
يابني !: لقد كان الناس إذ ذاك يبغضون الكافر، وينفرون منه، بل وكل مظهر يذكرهم به من لباس ومطعم ومشرب فهو مظهر منبوذ مرفوض.
أما الصورة الداعرة، والمشهد الفاتن، والتبرج والسفور، فهذه قل من يسمع عنها فضلاً عن أن يراها، ولن ترى أحداً إذ ذاك يابني يفهم مصطلح ( المخدرات، الاغتصاب، الابتزاز، الاختطاف…) فضلاً عن أن تكون مرت بطيفه أو خياله، فضلاً عن أن يكون رآها.
يابني : دارت الأيام دورتها وتوالت السنون، وبين غفلة منا وذنوب وإهمال، وتآمر من العدو الظاهر والكامن، فتحولت الأمور وصار الناس غيرَ الناس، والحال غيرَ الحال، أحدثك يابني عن مجتمعك وأنت تراه بعينك وعيانك؟
ولئن كان حالنا أهون من حال غيرنا من المجتمعات يابني، فمؤامرات الأعداء لم تنقطع، وحقدهم لم يتوقف، ولن يرضوا يابني حتى يروا الفتاة تسير في شوارعنا كما تسير في باريس ولندن، وحتى يرو الخمرة تباع جهاراً كما تباع المرطبات [ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم] وأنت يابني حصيف عاقل تدرك تآمرهم، وترى مكرهم وكيدهم، وتعرفهم في لحن القول، فإياك إياك أن تخدع.
ثم إني سائلك يابني : هذا الواقع مسؤولية من؟ ومن تريد أن يقف في وجه تيار الفساد؟ ومن تريد أن يساهم في الإصلاح والتغيير؟، فالآمال يابني عليك وعلى أقرانك، فاللّه اللّه في أمتكم، واللّه اللّه في مجتمعاتكم، وقولوا يا بني لحال الغفلة واللهو وداعاً إلى غير رجعة.
يا بني : روي أن الحسن البصري رحمه الله تعالى أعطي شربة ماء بارد، فلما أخذ القدح غشي عليه وسقط من يده، فلما أفاق قيل له: مابالك يا أبا سعيد؟ قال: ذكر أمنية أهل النار حين يقولون لأهل الجنة ] أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللّه[.
يابني : كم مرة أغلقت على نفسك الباب ولم يعد يراك إلا الملك الجبار، علام الغيوب، والمطلع على مافي الصدور، أفتراك حين تغلق الباب، وترخي الحجاب، تهم بمعصية الملك التواب؟، أو لم تقرأ قوله تعالى ]الله يعلم ماتحمل كل أنثى وماتغيض الأرحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار[.
أتراك يابني حين تطفئ المصباح تذكر ظلمة القبور، وأنك إذ تنام قد لا توقظ إلا يوم النشور، أم أراك تعصي مولاك وقد سمعت قول الحبيب " ليأتين أقوام من أمتي معهم حسنات أمثال جبال تهامة بيضا فيصيرها الله هباءً منثوراً "، لقد كانوا يابني يصلون كما يصلي الناس ، ويصومون كما يصوم الناس، ويقرأون كما يقرأ الناس، لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.
يا بني : أعرف أن كثيراً من الشبان يخشى أن يراه والده وهو على معصية، أو يسمعه وهو يهم بسوء، أتراه يابني نسي أن الله يراه ولا تخفى عليه خافية، ويسمعه وقد وسع سمعه الأصوات؟(/5)
يابني : لقد رفع الله مقام الذين يخشونه بالغيب فقال [إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير] وقال [وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب. ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود. لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد] فهل لك يابني أن تعقد الصفقة، وتتم البيعة، فالسوق رائجة، والمتسابقون قد شمروا؟
يابني : نحن في هذه الدار دار سفر وغربة، ووحدة ووحشة، والمسافر لابد له من زاد فهل سألت نفسك أين الزاد؟
يابني : أرأيت جدك محمد وقد أعياه الكبر، فرق عظمه، وخارت قواه، فلم تعد تحمله قدماه، لقد كان قبل ذلك شاباً مثلك غض الشباب، قوي البنية، وما لبث أن رد إلى أرذل العمر وبلغ من الكبر عتيًّا، وغيره يابني -ولو كان شاباً – في الطريق إلا إن مات دون ذلك، وهما يابني أمران أحلاهما مر، فهل ترى يا بني أن الشباب يفكرون بحق في هذا المصير؟ فيأخذون للأمر أهبته ويغتنمون سني الشباب، وقد أوصى صلى الله عليه وسلم الشباب بذلك قائلاً: "اغتنم شبابك قبل هرمك ، وفراغك قبل شغلك، وصحتك قبل مرضك".
يابني : حين ترى بعض الشباب تظن أنهم لا يدرون أنهم سيموتون، أو يرون أن الموت لن يأتيهم إلا حين يشيخون، أتذكر زميلك الذي توفي في إجازة الربيع، وابن عمك الذي توفي قبل أسابيع؟ فضع يابني هادم اللذات نصب عينيك، واعرف أنك يوشك أن يدعوك داعيه يوماً، فلا خيار لك إلا الإجابة، فماذا أعددت للرحيل، وأين زادك وقد قرب الفراق؟
يابني : حين مات ذر بن عمر وقف والده على قبره وهو يقول: يابني، شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، فليت شعري ما قلت وما قيل لك، اللهم إنك أمرته بطاعتك وببري، فقد وهبت له ما قصر فيه من حقي، فهب له ما قصر فيه من حقك، انطلقنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك، فنستودعك أرحم الراحمين، أتراك يابني تقول هذا الكلام أم يقال لك؟
يابني: في يوم القيامة حين تدنو الشمس من الخلائق فتكون منهم قدر ميل فيعرقون حتى ينزل عرقهم سبعون ذراعاً، ويبلغ منهم على قدر أعمالهم، في ذاك الموطن يا بني سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لاظل إلا ظله، ومنهم: شاب نشأ في طاعة الله أتعجز يابني أن تكون واحداً من هؤلاء؟ والله ليس الأمر بالمستحيل، ولا هو بالبعيد، فكن عالي الهمة، واسلك الطريق تصل إلى مبتغاك.(/6)
يا جندنا هيا بنا
يَا جُنْدَنَا هَيّا بِنَا
يا جُنْدَنَا يا مَجْدَنا إلى العُلا هَيّا بِنَا
حَتْى نُعِيدَ ماْ لَنَا ولا نُضيعَ خَيرَنا
يا جُنْدَنا هيّا بِنا
فشَعْبُنا يأبى الرَدَى ولا يُبالي بالعدا
مهما تَعالى أو طَغَى أو زَادَ فِينَا أَسْرَنا
يا جُنْدَنا هيّا بِنا
يا مَوطِنَ الشَعْبِ الأَبي الظُلمَ لا لنْ نَبْتَغي
فامْضُوا إِخْواني مَعي حتى نُعيدَ أَرْضَنا
يا جُنْدَنا هيّا بِنا
نَارُ اللَظى لنْ تَنْطَفي ما دامَ في الأَسرِ أَخي
يا دَوْلَةَ الكُفْرِ عِي أَنْ هَذَا دَرْبُنَا
يا جُنْدَنا هيّا بِنا
يا قُدْسَنا أًنْتي الهَوى وأَنْتي الفَجْرُ والسَّنَا
فَمَنْ أَكُونُ إذنْ أَنا إذا ما عشتُ جَرْحَنا
يا جُنْدَنا هيّا بِنا
مَسْرَى النَبيِ يَشْتَكِي فَلْيَسْتَمِعْ مَنْ يَتَقِي
متى القُلوبُ تَلْتَقِ يَكُنْ النَّصرُ حَتماً لنا
شعر : إبراهيم بن عبد العزي(/1)
يا حجر اتباع لا ابتداع
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله الذي أتم النعمة، وأكمل دين الأمة، ورضي الإسلام ملة، والصلاة والسلام على من سن سنن الهدى، وعلى آله وصحبه ومن لآثارهم وسنتهم اقتفى، ثم أما بعد:
فهذه وقفة مع تقبيل عمر –رضي الله عنه- الحجر الأسود، وبيان لما في صنيعه من الاتساء والاتباع، لا الإحداث أو الابتداع، وإلى هذا نبه فقال كما في الصحيح عندما قبل الحجر: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقبلك ما قبلتك"، وقد علم أن الحجر لا ينتفع بهذا الخطاب، ولكن كما قال القائل: إياكِ أعني واسمعي يا جارة!
فقال عمر _رضي الله عنه_ قولته المشهورة تنبيهاً للعباد إلى أن العبادات المحضة ليس للرأي فيها مجال، بل هي توقيفية، لا تدرك بقياس، ولذلك أنكر ابن عباس على معاوية _رضي الله عنهما_ استلامه بقية أركان البيت، فقد صح أن ابن عباس طاف مع معاوية فجعل معاوية يستلم الأركان كلها. فقال له بن عباس: لم تستلم هذين الركنين، ولم يكن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، يستلمهما؟
فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً!
فقال ابن عباس: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"، فقال معاوية: صدقت. [والزيادة الأخيرة من تصديق معاوية عند أحمد]، ولهذا قال بعض أهل العلم: "وهذا الخلاف قد ارتفع وأجمع من بعدهم على أنه لا يستلم إلا اليمانيين".
ولاشك أن من جملة التوحيد الذي أهل به النبي _صلى الله عليه وسلم_ توحيد العبادة، المعلن في التلبية، ومنه أن لا يعبد الله بغير ما شرع:
هَذَا وَثَانِي نَوعَي التَّوحِيدِ تَو ... ...
حِيدُ العِبَادَةِ مِنكَ لِلرَّحمَنِ
أن لاَ تَكُونَ لِغَيرِهِ عَبداً وَ لاَ ... ...
تَعبُد بِغَيرِ شَرِيعَةِ الإِيمَانِ
وفي هذا تأكيد على بعض مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، بالحض على المتابعة للنبي _صلى الله عليه وسلم_، فيفعل ما فعله من قربة، ويترك ما ترك، وإن ظنها قربة لشبهها بغيرها، اعتماداً على النص، فالعبادات توقيفية، فيلزم ترك القياس في العبادات التي لا يعقل معناها.
فإذا أدركت أيها القارئ الكريم هذا المعنى، وجدت البون الواسع والفرق الشاسع بين هؤلاء وبين من يأتون بعبادات محدثة ما أنزل الله بها من سلطان، وما أقبحها يوم تصرف على حساب غيرها مما شرعه الله، في أشرف البقاع، عند المناسك والمشاعر، والمواقيت والمناحر، وقد مررت ببعض المخيمات وقت غروب شمس عرفة، فوجدتها تهتز وأهلها يقولون بصوت رجل واحد (هو هو هو) وبينما وقف الموفقون يدعون ويتضرعون ولسان حالهم:
أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً ... ...
فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلاّ الرَجا ... ...
وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلاّ مُحسِنٌ ... ...
فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ!
فلله ما أعظم الحرمان. وآخرون مغبونون بنوع آخر فتراهم قد أرهقهم الإعياء جراء الازدحام على صعود الجبل، الذي يسمونه جبل الرحمة، على حساب الذكر والتضرع والدعاء.
وطائفة شغلها الإنشاد الذي أحسن أحواله الإباحة عن الذكر والقرآن.
هذا مع أن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وأوصانا في ذلك المقام، فقال: "خذوا عني مناسككم"، "لتأخذوا عني مناسككم".
فالموفق من وفقه الله لتعلم حج النبي _صلى الله عليه وسلم_، ثم رزقه الله بعد ذلك الاتباع والعمل بما شرع الله للناس وبينه لهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، والمحروم من ترك ذلك الذي أمر به أو بعضه واستعاضه بأمور حادثات، لا تقرب من رب الأرض والسماوات إن لم تبعد.
وخير الأمور السالفات على الهدى ... ...
وشر الأمور المحدثات فبعد
رزقني الله وإياكم لموافقة السنة، واتباع صابحها _عليه أفضل الصلاة والسلام_، ورزقنا من حبه ما يحرك في قلبونا بغض مخالفة نهجه، أو سلوك غير سبيله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.(/1)
يا حسرة على العباد...!!
أ. د. عماد الدين خليل 6/9/1426
09/10/2005
ليس تفسيراً -وحاشا لله- ولكنها مقاربة أو محاولة للفهم، قد تخطئ وقد تصيب، إلا أن النية التي تكمن وراءها ربما تشفع لها أمام الله ..
هزّتني مقاطع من سورة الأعراف .. تكشّفت لي فجأة عن تصوّر للوجود، كما يعرضه كتاب الله، ما خطر على بالي من قبل بهذا الوضوح والارتباط.
ودائماً كنت أقول بأن وقفة متأملة، أو محاولة جادة للمقاربة مع مقطع من كتاب الله، قد تفتح المغاليق، وقد تكون أكثر جدوى من عشر ختمات للقرآن الكريم!
هذا الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الردّ .. صدقت يا رسول الله؛ فأنت بكلماتك هذه أوجزت المعجزة وقلت فيها ما يكفي .. ولكن أين القلوب التي تحسّ، والعقول التي ترى، وكيف تُكسر الأقفال التي خُتمت بالشمع الأحمر على الأفئدة والأسماع والأبصار؟!
هزتني مقاطع من سورة الأعراف؛ إذ وجدتني ـ فجأة ـ قبالة حالة أو وضع يريد الله ـ جلّت قدرته ـ أن يتحقق في هذا العالم.. مع الإنسان تماماً .. لصالحه تماماً .. على كل المستويات .. سعادة، ورفاهية، وتوحّداً، وأملاً، وأمناً، وإصلاحاً، وعطاءً، وعمراناً، وعدلاً، وانسجاماً ..
وإزاء حالة مضادة في الوقت نفسه، تسعى كلمات الله جلّ في علاه، إلى هدمها، وتدميرها، والانقلاب عليها، وإزالتها من الوجود.. ضد الإنسان تماماً .. ضد مصلحته ووضعه البشري على كل المستويات : تعاسة، وفقراً، وتمزقاً، ويأساً، وخوفاً، وإفساداً، وتخريباً، وكسلاً، وتشتتاً، وظلماً ..
أكثر من هذا: إن الحالة الأولى تتجاوز الوفاق مع الذات والآخر.. تتجاوز المجتمع والبشرية والعالم، صوب الطبيعة والوجود والكون، لكي تجعلها جميعاً في صيغة توافق، وتضادٍ مشترك، وعطاء، وتسخير، وتبادل في الأداء .. يؤول في نهاية المطاف إلى أقصى حالات الانسجام بين الإنسان والعالم والطبيعة والوجود والكون .. يشكل البيئة التي تتوحد فيها الظواهر والأشياء .. الإيقاع الذي يتحرك، وهو يسبّح بحمد الله، ويتوجه إليه وحده بلا شريك .. وحده بلا ندّ .. لكي يرتفع بالإنسان، أكثر فأكثر، يصعّد به في المراقي، يصنع الإنسان الكوني الذي يتجاوز شد الأرض وجاذبيتها إلى فوق ..
وهو في مهرجانه المتسامي هذا.. بالإنسان والجماعة والحياة.. يستجيش كل الطاقات والقدرات البشرية: الروحية والعقلية والحسّية والوجدانية.. ويوظف كل إمكانات الطبيعة والعالم والوجود، بدءًا من دفق الضوء القمري ودفء الشمس، وانتهاء بالينابيع والجداول والأنهار والأمطار والنبات والحيوان .. كلها تتلاءم وتتواءم، لكي تقدم أقصى ما تستطيع أن تقدمه للإنسان، وبأكبر قدر من الأُلفة الميتافيزيقية والودّ والتوحّد والمحبة والتناغم والانسجام ..
والنبوّات التي تتحدث عنها مقاطع سورة الأعراف هذه، انما هي في نهاية الأمر وبدئه، نبوة واحدة .. هي الدعوة نفسها .. الصوت والنداء والفاعلية المتواصلة في الزمن والمكان، من أجل الخروج بالإنسان من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ..
إن الحالة الضدّ التي تتحدث عنها الآيات البينّات حيناً، وتتركها حيناً آخر، لكي يتملاّها الذهن كصيغة مضادة للقيم والمرتكزات الإيجابية التي ألمحنا إليها قبل قليل .. هذه الحالة التي يدينها كتاب الله ويعلن الحرب عليها .. ما الذي تصنعه بالإنسان .. وإلى أي المآزق تقوده، وعبر أي من الطرق المعوجة تمضي به لكي ما تلبث أن تمرّغه بالتراب، وتحجر عليه في الثقوب الضيّقة، وتدفن وجوده البشري في لزوجة الطين وشدّ الجاذبية .. وتضيّق الخناق على وضعه في العالم لكي يغدو بموازاة عالم النحل والنمل والأنعام والحيوان..؟!
تريد الحالة الأولى أن يصير الإنسان إنساناً ، وأن تكون قامته مرفوعة إلى فوق، عالية بما هي قامة إنسان أُريد له أن يكون سيد المخلوقات جميعاً.. وتريد الحالة الثانية أن يتضاءل الإنسان، ويتقزّم، وتنكمش قامته، وينكفئ في الجحور الضيقّة كما تنكمش الحشرات، وهي تأوي إلى ثقوبها تحت الأرض، وكما تلجأ الأنعام إلى حظائرها خوفاً من البرد والمطر والزمهرير ..
نداء التوحيد والنبوة هو النداء الوحيد لتحرير الإنسان من مصير كهذا.. وهو الدرب الوحيد لاجتياز المحنة، والانطلاق إلى الأفق العريض المضيء المفتوح، ليس فقط على ساحة العالم، وإنما على مدى الكون كلّه .. وليس وراء ذلك إلاّ الضياع، والحيرة، والضلال.. وليس ثمة طريق ثالث .. أبداً .. إما هذا أو ذاك ..
يعجز القلم عن ملاحقة الايماضات التي تشع بها آيات سورة الأعراف تلك .. عن التعبير عن العالم الجميل السعيد المتوافق المضيء الذي ترسمه وتومئ إليه .. وعن نقيضه البشع .. الشقي .. الممزق .. المعتم الذي تحذّر من الاندفاع إليه ..(/1)
يعجز القلم .. رغم أنه يملك مفردات واحدة من أكثر لغات العالم خصباً، عن أن يحقق التغطية الشاملة لكل المعاني التي تفجّرها كلمات الله.. لكل الومضات التي تنقدح في الذهن والوجدان، قبالة هذا المقطع أو غيره، فلا تقدر اللغة ـ مهما دقّت ورقّت ـ أن تعبر تماماً، وبالصدق المطلوب، عما يتشكل في ذهن الإنسان ووجدانه، فيما تريد الآيات البيّنات أن تقوله، وترسمه، وتغري به، وتحضّ عليه.
مهما يكن من أمر، فإنها مرة أخرى، محاولة للفهم .. مقاربة، كما يصطلح الأدباء المحدثون، لحافات المنظور القرآني للعالم والحياة .. ولعلّ هذا يكفي ..
في مساحة لا تتجاوز الصفحات الستّ.. وعبر عدد من الآيات لا يتجاوز البضع والأربعين من سورة الأعراف، يتحدث كتاب الله عن هذا كله .. يمنحنا ـ بعبارة أدق ـ هذا كلّه .. فمن يختار بعدها التعاسة على السعادة، والتمزّق على التوحّد، والحزن على الفرح، والظلم على العدل، والانكماش على الانتشار، والقيد على الحرية، والجحور الضيقة على الفضاء الواسع، وضيق الدنيا على سعتها، وجور الأديان على عدل الإسلام، وعبادة العباد والآلهة والطواغيت والظنون والشهوات والأهواء على عبادة الله وحده، والتمسّك بحبله الذي تتقطع دونه الحبال.. وبسلّمه الواصل بالخلود.. وبعلمه اللدّني ذي المصداقية المطلقة الذي يعلو
على المتغيّرات والنسبيات، والذي تتضاءل دونه وتتهافت كل المعارف والعلوم التي لا تستهدي بهديه، ولا تتلقى عنه الضوء والإشارة ..
في مساحة لا تتجاوز الصفحات الستّ يجد المرء نفسه قبالة عقيدة ليست كالعقائد، ودين ليس كالأديان، وعبادة ليست كالعبادات.. ويجد معها حالة من الحزن والشجن على الإنسان الضائع، والمسيرة البشرية التائهة التي تتقاذفها الطواغيت والأرباب، والمصير الأسود الكالح الذي يُساق إليه بنو آدم، بقوة الإغراء الشيطاني، المضلّل، المخادع، الدجال.. ويتذكر الآية الكريمة، والنداء الإلهي المؤثر، المحزن: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [يّس:30] ويتذكر ، بالأسى والشجن نفسه، وعد الله وأكذوبة الشيطان: [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) [يّس:60-61]
بإيجاز بالغ: إنه الصراط الذي تصوغه وتضيئه عبادة الله وحده.. وليس ثمة وراءه، قبله أو معه أو بعده، إلاّ التيه والتخبط والضلال .. لأنه ما من طريق، غير هذا الطريق، إلاّ وهو من عمل الشيطان الذي يسوق عباده إلى مصيدة الشرك، والتعدّد، والضياع ..
وما لنا ألاّ نقرأ معاً المقطع المذكور من سورة الأعراف لكي نتدّبر معا ما تريد أن تقوله لنا آياته البيّنات:
(ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون (52) هل ينظرون إلاّ تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا، أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون(53) إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار، يطلبه حثيثاً، والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين (54) ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين(55) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين(56) وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته، حتى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون(57) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً، كذلك نصرّف الآيات لقوم يشكرون(58).
في مقطع قرآني لا تتجاوز آياته السبع عدداً، نجد أنفسنا قبالة حوارٍ محتدم، أو مجابهة حاسمة ـ بعبارة أدق ـ بين قيم الخير والشر .. بين الاستقامة والاعوجاج، وبين الهدى والضلال.. بين حياة آمنة، عاملة، مبدعة، متجددة، طيبة، يدعونا إليها القرآن .. وحياة وجلة، ساكنة، مفسدة، نكدة، خبيثة، ميتّة .. يغرينا بها الشيطان ..
في الخطاب القرآني نجد أنفسنا إزاء مفردات العلم، والهدى، والرحمة، والحق، والعمل، والإصلاح، والإحسان، والبشرى، والطيب، والبعث، والشكر.. وفي الإغواء الشيطاني نجد أنفسنا إزاء مفردات: النسيان، والخسران، والضلال، والافتراء، والعدوان، والإفساد، والموت، والخبث، والنكد ..
فمن منا يرتضي لنفسه أن يذهب مع الثانية ويتجاوز الأولى فيضع نفسه في دائرة الضنك والضيق والتعاسة والضلال .. ؟(/2)
إنها صفقة خاسرة بكل المعايير .. ومن أجل ذلك يمضي المقطع التالي في كتاب الله، عبر رحلة مكثفة مع النبوّات وهي ترفع الخطاب نفسه، على تقلّبها في الزمان والمكان، (أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ...)(62) ( ...أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين) (68) (... يا قوم! لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين (79) ( ...يا قوم! لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم...!)(93).
ومرة أخرى نتذكر ـ ونحن نتابع مأساة الإنسان الضائع في العالم، المتكبّر على النصح، المتأبّي على الصلاح، المتخبّط في مصيدة الشرّ والضلال ـ نتذكر النداء الإلهي المؤثر المحزن. (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون) [ ياسين: 30 ] .. ونتذكر، بالأسى والشجن نفسه، وعد الله وأكذوبة الشيطان: (ألم أعهد إليكم يا بني
آدم ألاّ تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين. وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) [ياسين :60 ـ 61].(/3)
يا دماءً عطَّرتْ وجهَ الصَّبي
زاهية بنت البحر
يا دماءً عطَّرتْ وجهَ الصَّبي = فارتمتْ شمسُ الضُّحى في المغربِ
أوْدَعتْ أنوارَها في دمعةٍ = فوقَ جفنٍ مؤمنٍ حُرٍّ أبيّْ
لا تلمْني يا صغيري إنْ أكن= بالدِّما أبكي هوانَ العربِ
رايةُ الإسلامِ منْ يحملُها = رغمَ كيدِ الخادِعِ المغتصبِ؟
ليتني ما كنتُ إلا رايةً = للعلا أدعو بعزمٍ للنَّبي
صرخةٌُ ضاقتْ بها أسماعُنا= بعدَ ذلِّ القومِ عند الأجنبي
سامحيني يا بلادي إنْ غدتْ = في حروفي دمعةٌ من لهبِ
أمَّتي الثَّكلى أراها بالعنا = تحتَ حكمِ الظَّالمِ الوغدِ الغبي
قد أضاء الدَّربَ أنواراً بها = ناشرُ الفسق ِرديفُ المخلبِ
يستخفُّ القومَ يلغي وعيَهم = طَرِبَ السَّامع ُأمْ لمْ يَطْرَبِ
من ترى في دربنا عونٌ لنا = إن طلبنا اليومَ نصرَ العَربِ
سوف نلقى الرَّفضَ قولاً واحداً =إن نسرْ نحو العدا في موكبِ
فاستفِقْ يا شعبُ من ذلِّ بهِ = علقمٌ في الأكل ِأو في المشرَبِ
ربَّنا ضاقتْ بنا أيَّامُنا = قدْ وقعْنا في خطيرِ الغيْهبِ
قد دعوناكَ بقلبٍ واجفٍ = أنْ أجبْنا في بلوغِ المَطلبِ(/1)
يا ذاتَ الخِمار
اصْفَعي خَدَّ الكُفْرِ في كُلِّ حِينِ
وامْلَئِي أَفْواهَ القَذارَةِ رُغْماً
وَاسْكُبِي ناراً فَوْقَ سُودِ قُلُوبٍ
أَنْتِ يا أُخْتُ نَجْمَةٌ تَتَحَدَّى
أَنْتِ يا أُخْتُ بَيْنَ أَكْوامِ فَحْمٍ
أَنْتِ مِنْ أُمَّةٍ تَرَى العُهْرَ عاراً
وَنَوادِي الغَرْبِ البَغيضِ تُنادِي
«أَنا دارُ العُصاةِ والفُحْشِ، هَيّا
«ولْتُصَلُّوا في ظِلِّ مِحْرابِ فِسْقٍ
لَسْتِ منهمْ، إلاّ إذا الشَّمْسُ كانتْ
لَسْتِ منهم، إلا إذا العَقْلُ أمْسى
لسْتِ مِن مُومِساتِ نادي التَّعَرِّي
فَاهْزَئي مِنْ أَهْلِ الضَّلالِ وقُولِي
يا لَهُمْ مِنْ جُنْدٍ لإبْلِيسَ ظَنُّوا
حَظَرُوا عِفَّةَ الفَتاةِ وسَنُّوا
لا ورَبِّ الأَرْبابِ لَنْ تَتَخَلَّى
لا فَرَنْسا، ولا سِواكِ، فَرَنسا
فَحُصونُ الحياءِ أمْنَعُ، أَبْقى
فَأميتُوهُ قَبْلَ إِبْصارِ نورٍ
وارْكُلُوا بِدْعَةَ «الحِوارِ» بَعِيداً
وارْفُضُوا «الاندِماجَ» في الغَرْبِ، فِرُّوا
أيْنَ حُكَّامي والكَرامَةُ تُسْبى؟!
سَلَبُوا خاطِرِي بقايا افْتِخارٍ
ها هُو «المصطَفَى» لِحُرْمَةِ أُنْثى
نالَ مِنْ سِتْرِها اليَهودُ فَنالوا
والّتي في «زبَطْرَةَ» الأَمْسَ صاحتْ،
زَحَفَ ابنُ الرَّشيدِ يَنْشُدُ ثأراً
قالَ: «لَبَّيْكِ فالخِمارُ عَزِيزٌ
لا تَهُوني أُخْتاه، لا، لا تَهونِي
لا تُبالِي بِضِفْدَعٍ وذُبابٍ
أَغْمِدِي حَسْرَةَ الخِمارِ بعُمْقٍ
واصْرُخي: «سوف يَشْهَدُ الكَوْنُ أنّا
«نحنُ لا نَفْتِنُ الكِتَابِيَّ يوماً
«غَيْرَ أنّ الحكْمَ الذي شاءَ قَهْرِي
مَوْعِدُ الفَجْرِ فيهِ دولَةُ نورٍ ... ... بِيَدٍ أُودِعَتْ حَلالَ الْيَقِينِ
بِرُجومٍ مِن الحصَى والطِّينِ
تَصْرَعُ الحاقِدينَ دونَ أَنينِ
بَطْشَ عُهْرٍ يَصولُ كالتِّنِّينِ
دُرَّةٌ مِنْ ماسٍ فريدٍ ثَمينِ
وتَرى السِّتْرَ تاجَ كُلِّ جَبينِ
«أقْبِلوا أقبِلوا إلى الأتُّونِ»
لا تُبالوا بِعِفَّةٍ أَوْ دِينِ»
ولْتُقِيموا لَيْلاءَكُم في مُجونِ»
مِنْ مَعاني الدُّجى ورَهْطِ الظُّنُونِ
سُنَّةً في مَصَحِّ أَهْلِ الجُنونِ
أو مِنْ الرَّاقِصاتِ بِالبِكِّيني
«أنا يا ربِّ ذاتُ رُشْدٍ مَتينِ»
في الهَوى ما يَفوقُ وَحْيَ «الأَمينِ»
لِلبَغايا ابْتِدارَ كُلِّ مُشِينِ
ذاتُ خِدْرٍ عَن الرِّداءِ الرَّزينِ
قادِراتٌ على اقْتِحامِ العَرينِ
مِنْ قرارٍ لِلْحَظْرِ أَعْمى العُيونِ
واسْلُكُوا فيهِ حِلَّ وَأْدِ الجنِينِ
فالحضاراتُ في صِراعٍ مَكينِ
مِنْ جَحيمٍ يفيضُ بالغِسْلِينِ
أَيْنَ مَنْ يَدَّعُونَ رَعْيَ الشُّؤُونِ؟
مِنْ عُهودِ الأسْلافِ عَبْرَ القرونِ
شَنَّ حَرْباً جاءَتْ بِنَصْرٍ مُبينِ
خَيْرَ طَرْدٍ، والبِرُّ طَرْدُ اللَّعِينِ(1)
فَأتاها الجَوابُ: «لا لَنْ تَهونِي»
وشَوى جُنْدَ الرُّومِ بَيْنَ الحُصُونِ(2)
بَعْضُ أَثْمانِهِ اقْتِلاعُ الجُفونِ(3)»
وَارْفُضي فَتْوى الطائِشِ المَفْتونِ(4)
واهْزَئِي مِنْ نَقِيقِهِ وَالطَّنِينِ
في قُلوبِ الأَوْغادِ كالسكِّينِ
نَنْشُدُ العَدْلَ، مَوْعِدَ التَّمْكِينِ
ذاكَ أَمْسي وَلِي غَدٌ ذِي شُجونِ
لَنْ أَراهُ بِغَيْرِ ثَوْبِ الدَّفِينِ
تَحْمِلُ البِشْرِ في سَدادِ الدُّيونِ قرآن كريم
الشاعر أيمن القادري
29- 01- 2004
1- الإشارة هنا إلى بني قينقاع الذين احتالوا على امرأة لِيَنْكَشف ما تحت خمارها، فنفاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
2- الإشارة هنا إلى الخليفة المعتصم وفتح عمّورية.
3- أي اقتلاع الجفون الطامعة بصدّنا عن ديننا.
4- الإشارة هنا إلى فتوى شيخ الأزهر الطنطاو(/1)
يا راحلاً وجميلُ الصبرِ يتبعُه
المصدر/المؤلف: محمد بن سرّار اليامي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فلقد دار الدهر دورته، ومضت الأيام تلو الأيام، وإذا بشهرنا تغيض أنواره.. وتبلى أستاره.. ويأفل نجمه بعد أن سطع، ويُظلم ليله بعد أن لمع، ويُخيم السكون على الكون.. بعدما كان الوجود كل والوجود يستعد، ويتأهب للقاء هذا الضيف الكريم..
أنا لا أدري وأنا أرقم هذه الجمل.. ءأهنيكم بحلول عيد الفطر المبارك؟ أم أعزيكم بفراق شهر العتق والغفران؟
إن القلبَ ليحزن، وإن العينَ لتدمع، وإنّا على فراقك يا رمضان لمحزونون...
لحن الخلود
إن قلبي ليُمْلِي على بناتي عبارات الأسى واللوعة، فتكتب البنانُ بمداد المدامع لحنَ الخلود، وتأبى الكلماتُ أن تستقي على صفحات دفاتري.. إلا حينما أعظها بواحدة.. حينما أعظها بأن الله قد جعل من سننه في هذه الحياة.. أن للشمل التمامٌ وافترق..
سُتر السنا وتحجبت شمس الضحى *** وتغيبت بعد الشروق بدورُ
ومضى الذي أهوى وجرعني الأسى *** وعدت بقلبي جذوةٌ وسعيرُ
يا ليته لما نوى عهد النوى *** وافى العيون من الظلام نذيرُ
ناهيك ما فعلت بماء حشاشتي *** نارٌ لها بين الضلوع زفيرُ
انقضى رمضان.. ويا وَلْهِي عليه.. انقضت أيامه ولياليه.. ذهب.. ليعود على من بقى، وليودع من كان أجله قد حان.. نعم.. ذهبت يا رمضان.. فجرت المدامع..
يا راحلاً وجميل الصبر يتبعهُ *** هل من سبيل إلى لقياك يتفقُ
ما أنصفتك دموعي وهي داميةٌ *** ولا وفى لك قلبي وهو يحترقُ
نعم.. انقضى رمضان.. ولكن.. ماذا بعده؟!
إن عمل المؤمن لا ينقضي أبداً..
انقضى رمضان، وقد اعتاد كثيرٌ من أبنائه الصلاة مع جماعة المسلمين..
فيا من أَلِف الحق.. تمسك به هُديت، واستمر عليه.. نعم اجعل رمضان كقاعدة تنطلق منها للمحافظة على الصلاة في باقي الشهور.. نعم اجعل رمضان منطلقاً لترك الذنوب والمعاصي.. عَلَّ الله جل وعز أن يغفر لك بما قدمت، وإياك ثم إياك أن تكون من عُباد رمضان..
إن من علامات قبول العمل المواصلة فيه، والاستمرار عليه.. فاحكم أنت على صيامك.. هل هو مقبولٌ أم مردود؟ نعم احكم أنت..
خواطر صائم في لحظات الوداع
أخي الصائم.. أختي الصائمة:
إن لحظات الوداع لحظاتٌ لا تُنسى، ولوعتها لوعةٌ لا تبلى.. حرقة الوداع تُلهب الأحشاء، ودموعه تحرق الوجنات بحرارة العبرات..
لم يُبكني إلا حديث فراقكم *** لما أسرّ به إليَّ مودعِّي
هو ذلك الدر الذي أودعتمُ *** في مسمعي أجريته من مدمعي
فيا من صام لسانه في رمضان عن الغيبة والنميمة والكذب واصل مسيرتك، وجُدَّ في الطلب.. ويا من صامت عينهُ في رمضان عن النظر المحرم.. غُض طرفك ما بقيت.. يورث الله قلبك حلاوة الإيمان ما حييت..
ويا من صامت أذنه في رمضان عن سماع ما يحرم من القول، وما يُستقذر.. من سماع غيبة، أو نميمة، أو غناء، أو لهو.. اتق الله، و لا تعد، اتق الله، ولا تعد..
ويا من صام بطنه في رمضان عن الطعام، وعن أكل الحرام.. اتق الله في صيامك، ولا تذهب أجرك بذنبك، وإياك ثم إياك من أكل الربا.. فإن آكله محارب لله ولرسوله .. فهل تطيق ذلك؟!
ويا من صام بطنه.. تذكر إخواناً لك في رمضان، وغيره يبيتون على الجوع والعُري.. ولا يجد أحدهم ما يسدُّ به جوعته، ولا فاقة عياله.. تذكر أنهم ينتظرون منك.. نعم.. منك أنت ومن أمثالك من يُمدُّ لهم يد العون، والمساعدة..
حان الوداع
وأخيراً أخي الصائم.. أختي الصائمة..
إن العيد على الأبواب، وإن رمضان آذن بوادع، وكم هي شاقة هذه الكلمة (وداع)، ولكنني أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يعيده علينا وعلى سائر المسلمين أياماً عديدة.. وأزمنة مديدة.. وقد تحقق للأمة الإسلامية ما تصبو إليه من عز وتمكين، وسؤدد في العالمين.. إن الله وليُّ ذلك، والقادر عليه..
يا لائمي في البكا زدني به كلفاً
واسمع غريب أحاديث وأشعار
ما كان أحسننا والشمل مجتمع
منا المصلي ومنا القانت القاري
وفي التراويح للراحات جامعة
فيها المصابيح تزهو مثل أزهار
شهرٌ به يُعتق الله العصاة وقد
أشفوا على جُرف من حصة النار
فابكوا على ما
مضى في الشهر واغتنموا
ما قد بقي فهو
حقٌ عنكم جاري
فرحة العيد
إلى كل صائم وصائمة.. أوجه هذه العبارات.. علَّ الله جل وعز أن يكتبها في ميزان الحسنات.. أقول:
أخي.. أختي: حينما تشرق شمس صباح العيد، فيجتمع الشمل، ويُلبس الجديد، ويؤكل ما لذَّ وطاب..
تذكروا ذلكم الطفل اليتيم.. الذي ما وجد والداً يبارك له بالعيد، ولا يُقبَّله، ولا يمسح على رأسه.. قتل أبوه في جرح من جراحِ هذه الأمة..
وتذكروا تلكم الطفلة الصغيرة.. حينما ترى بنات جيرنها يرتدين الجديد، وهي يتيمة الأب.. إنها تخاطب فيكم مشاعركم، وأحاسيسكم.. إنها تقول لكم:(/1)
أنا طفلة صغيرة، ومن حقي أن أفرح بهذا العيد.. نعم.. من حقي أن ارتدي ثوباً حسناً لائقاً بيوم العيد.. من حقي.. أن أجد الحنان والعطف.. أريد قبلة من والدي، ومسحة حانية على رأسي.. أريد حلوى، ولكن السؤال المرّ.. الذي لم أجد له جواباً حتى الآن هو.. أين والدي؟ أين والدي؟ أين والدي؟!!
فيا أخي.. ويا أختي.. قدموا لأنفسكم، واجعلوا فرحة هذا العيد المبارك.. تعم أرجاء عالمنا الإسلامي..
فها هي المبرات، ودور الصدقات، ولجان الإغاثة، والمساعدات.. مُشَرَّعة أبوابها، فهلموا إليها.. وما تقدموا لأنفسكم تجدوه عند الله.
والله يرعاكم ويتولانا وإياكم جعل الله صيامنا، وصيامكم مقبولاً، خالصاً لوجهه الكريم(/2)
يا شاعرَ العشق
( إلى شاعر الإسلام الكبير : محمّد إقبال رحمه الله )
شعر :أنس إبراهيم الدغيم
أأموتُ أم أبقى أسيرَ قراري
أم أنحني لمشيئة الفجّارِ ؟
أنا بين ذاك و ذاك شيئٌ ضائعٌ
وهنت قواي و حوربت أفكاري
أنا إن أمُتْ ستموت روحُ قضيتي
وحكايتي و ستنتهي أشعاري
و إن انحنيتُ أمامَ عزّاهم فقد
ضيّعتُ قرآني و خنتُ شعاري
أنا بين ذاك و ذاك شيئٌ ضائعٌ
يا سيّدي إني صنعتُ سفينتي
و صنعتُ مجدافي فأين بحاري ؟
و الشمسُ تبعثُ كلَّ يومٍ نورها
في لجّة الدنيا فأين نهاري ؟
سافرتُ أضربُ في البلادِ و ها أنا
طفتُ البلادَ و ما انتهتْ أسفاري
سافرتُ أبحثُ عن قوافيك التي
ملأتْ دمي بنبوّة المختارِ
و بحثتُ عنك فما وجدتُك في رؤى
قيسٍ و لا في لافتاتِ نزارِ
فعلمتُ أنّك فوق ما قالوا وما
نظموا و فوق النّظم و الأشعارِ
ماذا تخبّر عنك قرطبةُ التي
تبكيك في الآصال و الإبكارِ ؟
و بما يبوح نسيم مكةَ و الهوى
مرٌّ و إنك صاحب التذكارِ ؟
يا صوتكَ النبويَّ كم عرجتْ بهِ
فوقَ السماءِ حناجرُ الأطيارِ ؟
أشواقكَ الحمراءُ كم سارتْ بها
فوق الترابِ سرائرُ الأسحارِ ؟
يا أعجميَّ الدّنّ أسعفني فقد
يبستْ على شفةِ الهوى أوتاري
يا سيدي هبني شعاعاً خالداً
من ذاتكم فقد انطوتْ أنواري
و ابعثْ بنورك في حياتي مثلما
يسري النّدى في برعم النُّوّارِ
إنّي أضعتُ الدربَ في ليل النوى
فامنحْ سراجي شعلةً من نارِ
يا سيدي و امنحْ فؤادي قوةً
علويّةَ الأركان و الأسرارِ
حتّى إذا زرع الفؤادُ ورودَه
وقفتْ أمام قوادمِ الإعصارِ
ِ
• - هذه القصيدة من ديوان : حروفٌ أمامَ النّار(/1)
يا شباب !! رفقاً بعلماء السنة
الحمد لله القائل في محكم التنزيل : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } ، والصلاة والسلام على نبينا محمد سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه ودعا بدعوته إلى يوم الدين .
أما بعد :
فالذي ينظر لحال الأمة , يرى واقعا مريرا خيم على أغلب شباب الصحوة , ويكمن ذلك في تنكرهم للعلم والعلماء , وذلك : إما بسبب جهلهم بالعلم وحقيقته وحال العلماء , أو بسبب غلبة الهوى .. وهذا ما دفعني في هذه الكلمات لبيان فضل العلم والعلماء وواجب الأمة نحوهم .
فقد أشاد سبحانه وتعالى – أيما إشادة ! – بفضل أهل العلم ، ورفع من شأنهم ، وأعلى من قدرهم ، بما يعجز عن بيانه إلا البيان المبين ، من كَلامِ رَبِّ العالمين
فقد جعلهم سبحانه وتعالى شهودٌ ؛ على أجلِّ مَشْهُودٍ , وقرنهم بخير شُهُودٍ فَقَالَ تَعَالَى : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ سورة آل عمران : 18 ]
وقد ذكر سبحانه فضله ومنته على أنبيائه ورسله وعباده بما آتاهم من العلم , فذكر سبحانه نعمته على خاتم أنبيائه ورسله فَقَالَ تَعَالَى : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ من شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)} [سورة النساء : 113]
وقال في يوسف عليه السلام : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)} [سورة يوسف : 22]
وقال في كَلِيمِهِ مُوسى : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)} [سورة القصص : 14]
وقال في حَقِّ الْمَسِيحِ :{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاس فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [سورة المائدة : 110] فجعل تعليمه مما بشر به أمه وأقر عينها به .
وقال في حَقِّ داود : {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)} [سورة ص : 20]
وقال في حَقِّ الخضر صاحب موسى وفتاه : {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً من عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ من لَدُنَّا عِلْماً } [سورة الكهف : 65]
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } [سورة الأنبياء : 78 - 79]
فذكر النبيين الكريمين وأثنى عليهما بالحكم والعلم , وخص أحدهما بفهم القضية .
وحصر سبحانه الخشية منه على العلماء , فَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [ سورة فاطر: 28 ]
وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذين يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [ سورة الزمر : 9 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : { يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذين آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ سورة المجادلة : 11 ] .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا ؛ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ . (1)
فحملة العلم هم العلماء , وأعني بهم العلماء الربانيين الذين لا يأخذون على علمهم أجرا , ولا ينتظرون ثناء الناس أو مدحهم , ويقومون بتعليم الناس بالكتاب والسنة , على فهم السلف رضي الله عنهم من الصحابة ومن تبعهم بإحسان .
فالعلم دينٌ فانظر ممن تأخذ دينك , فإن وجدت من تأمنه على دينك ؛ فخُطَاك أشرفُ خُطى ؛ فقد سهل الله لها الطَّريق إلى الجنة .
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ , فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ . (2)(/1)
وعن يحيى بن أكثم قَالَ : قَالَ لي الرَّشِيد : مَا أَنْبَلُ الْمَرَاتِب ؟ قلت : ما أنت فيه يا أمير المؤمنين , قَالَ : فَتَعْرِفُ أَجَلَّ مِنِّي ؟! قلت : لا , قَالَ : لكني أعرفه , رجل يقول في حلقة : حَدَّثَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم , قلت : وَوَلِيُّ عَهْدِ الْمُسْلِمِين ؟! قَالَ : نَعَم ويلك ! هذا خَيْرٌ مِنِّي , لأن اسمه مقترنٌ باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم , لا يموت أبدًا , نحن نموت ونفنى , والعُلَمَاءُ باقون ما بقي الدَّهْرُ . (3)
قَالَ أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي : سمعت الأستاذ بن العميد يقول : ما كنت أظن أن في الدُّنيا حلاوةً ألذَّ من الرِّئاسةِ والوزارةِ التي أنا فيها ؛ حتى شهدت مُذاكرة سليمان بن أحمد الطَّبراني , وأبي بكر الجِعَابي بحضرتي , فكان الطَّبرانيُّ يغلبُ الجِعَابي بكثرةِ حفظه , وكان الجِعَابي يغلب الطَّبراني بفطنته وذكاء أهل بغداد , حتى ارتفعت اصواتهما , ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبه , فقال الجِعَابي : عندي حديثٌ ليس في الدُّنيا إلا عندي , فقال : هاته , فقال : حدثنا أبو خليفة الجمحي , ثنا سليمان بن أيوب , وحدَّث بحديثٍ , فقال الطَّبراني : أنا سليمان بن أيوب , ومنى سمع أبو خليفة , فاسمع مني حتى يعلو إسنادك , فإنك تروي عن أبي خليفة عني , فخَجِلَ الجِعَابي , وغلبه الطَّبراني , قَالَ ابن العميد : فوددت في مكاني أَنَّ الوزارة والرِّئاسة ليتها لم تكن لي ؛ وكنت أنا الطَّبراني , وفرحت مثل الفرح الذي فرحه لأجل الحديث , أو كما قَالَ . (4)
قَالَ الجاحظ (5) : ولقد دَخَلْتُ على إسحاق بن سليمان في إمْرَته ، فرأيتُ السِّمّاطِين(6) والرِّجَالَ مُثُولًا كأنّ على رءوسهم الطير ، ورأيتُ فِرشته وبِزَّته ، ثم دَخَلْتُ عليه وهو مَعْزُول ، وإذا هو في بيتِ كُتبِه، وحواليه الأسفاط(7) والرُّقوق(8) ، والقَمَاطِر(9) والدَّفاتر والمساطِر والمحابِر ، فما رأيته قط أفخمَ ولا أنبلَ ، ولا أهيبَ ولا أجزلَ منه في ذلك اليوم ، لأنه جَمَعَ مع المهابَةِ المحبَّةَ ، ومع الفَخَامةِ الحلاوةَ ، ومع السُّؤددِ الحِكمةَ . اهـ.
ولما كان العلماء ورثة الأنبياء، فقد أوجب الله عليهم بيان الحق للناس، وحرّم عليهم كتمانه، قال تعالى: { وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران:187]. وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } [البقرة:159]. والمعني بهاتين الآيتين كل من كتم علماً من دين الله يعلمه، وكان الناس بحاجة إليه .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عَلِمَهُ ثُمَّ كَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ . (10)
وكما أوجب سبحانه وتعالى على العلماء أن يبيّنوا الحق للناس ولا يكتمونه، فقد أوجب على الناس أن يعودوا إلى علمائهم فيستفتوهم ويسألوهم ، قال تعالى: { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [الأنبياء:7] .
ولابد للسائل أن يختار العالم المتمكن في علمه ، ويحذر من الجهلة الذين يدّعون العلم .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا . (11)
ولا أظن أحداً يجهل أمر هؤلاء الرؤساء الجهلة الذين أسند إليهم الوظائف الدينية ، فأسرفوا في المتاجرة بدين الله إرضاءً لسادتهم ، وطمعاً بمزيد من الهبات والعطايا التي تقدم لهم .. كما لا أظن أحداً يجهل فتاوى الغلاة الذين أخطأوا في فهم أقوال أئمة الإسلام التي يستدلون بها، وأخطأوا في إسقاطها على واقع الأمة ، وأخطأوا مرة ثالثة عندما تصدوا لمهمة ليسوا أهلاً لها.
فالعلماء الدعاة وحدهم هم القادرون على حسم هذه الفوضى ، وتحديد المسار الصحيح لأمة الإسلام .
هذا وإن العلماء الصالحين المصلحين لا يخلو منهم عصر من الأعصار , ولا مصر من الأمصار والحمد لله، ولن يجد الناس صعوبة في الاهتداء إليهم، لأن الله سبحانه وتعالى قد خصهم بكثير من الصفات التي كان يمتاز بها الهداة المهديون من أئمة هذا الدين.(/2)
إن مسؤولية هؤلاء العلماء كبيرة وكبيرة جداً، والأمل فيهم بعد الله يتضاعف، لأن المطلوب منهم إصلاح الناس ، ومطلوب منهم عدم تأخير البيان عند الحاجة .
والعلماء في هذا الزمان كغيرهم من علماء كل زمان يصيبون ويخطئون , الواجب معهم عند الخطأ ؛ النصيحة والبيان لا التشهير والهجران , وقد نبغ في زمننا هذا فئة من الناس , همهم فتح الأعين والآذان على كل خطأ أو زلل لعالم لا يوافق الهوى والوجدان , فإذا سمعوا كلمة طاروا بها في كل مكان , فإلى الله المشتكى من غثاء هذا الزمان .
ولقد كان علماء السلف على ورع عجيب في أمر الجرح والتعديل , وذلك حينما بلغ الأمر فيه الغاية من التشديد لحفظ السنة , فهذا يحى بن معين شيخ المحدثين كيف كان يتعامل مع علماء زمانه ؟!
قال يحيى بن معين "إمام الجرح والتعديل" : ما رأيت على رجل خطأ إلا سترته , وأحببت أن أزين أمره , وما استقبلت رجلا في وجهه بأمر يكرهه , ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه , فإن قبل ذلك وإلا تركته . (12)
بل ننظر لحالهم في من تلبس ببدعة , ووضحت وشانت .
ففي ترجمة قتادة
ابن دعامة بن قتادة السدوسي
قال الذهبي : وكان من أوعية العلم وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ وهو حجة بالإجماع إذا بيَّن السَّماع , فإنه مدلس معروف بذلك , وكان يرى القدر نسأل الله العفو , ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه , ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه , وبذل وسعه , والله حكم عدل لطيف بعباده , ولا يسأل عما يفعل , ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه , وعلم تحريه للحق , واتسع علمه , وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه , يغفر له زلّتَهُ , ولا نضلله ونطرحه , وننسى محاسنه , نعم ؛ ولا نقتدي به في بدعته وخطئه , ونرجوا له التوبة من ذلك . (13)
بل نراهم على ورع تام في من جاوز الحد في التجريح , كما وقع للقاضي أبي بكر بن العربي مع ابن حزم رغم ما تلبس به ابن حزم في شأن الصفات .
قال الذهبي -في شأن القاضي ابن العربي - قلت : ولم أنقم على القاضي رحمه الله إلا إقذاعه في ذم ابن حزم واستجهاله له , وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم , وأحفظ بكثير , وقد أصاب في أشياء وأجاد وزلق في مضايق كغيره من الأئمة , والإنصاف عزيز . (14)
ثم قال في موطن آخر : لم ينصف القاضي أبو بكر رحمه الله شيخ أبيه في العلم ولا تكلم فيه بالقسط , وبالغ في الاستخفاف به , وأبو بكر فعلى عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد ولا يكاد , فرحمهما الله وغفر لهما . (15)
بل حينما وقع العداء المفرط بين الإمام مالك وبين محمد بن إسحاق صاحب المغازي وأفرط كل منهما في الآخر .
قال الذهبي - قلت : لسنا ندعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر , ولا من الكلام بنفس حاد فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة , وقد علم أن كثيرا من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدر لا عبرة به , ولا سيما إذا وثق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف , وهذان الرجلان - يعني الإمام مالك ومحمد بن إسحاق - كل منهما قد نال من صاحبه , لكن أثر كلام مالك في محمد بعض اللين , ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة , وارتفع مالك وصار كالنجم , والآخر - يعني ابن إسحاق -فله ارتفاع بحسبه , ولا سيما في السير , وأما في أحاديث الأحكام فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن , إلا فيما شذ فيه فإنه يعد منكرا , هذا الذي عندي في حاله - والله أعلم . (16)
ولما تكلم محمد بن نصر المروزي في مسألة الإيمان , قام عليه جماعة من أهل العلم كابن منده وغيره - كما ساق الذهبي القصة .
قال الحافظ أبو عبد الله بن مندة في مسألة الإيمان : صرح محمد بن نصر في كتاب الإيمان بأن الإيمان مخلوق , وأن الإقرار والشهادة وقراءة القرآن بلفظه مخلوق , ثم قال : وهجره على ذلك علماء وقته , وخالفه أئمة خراسان والعراق .
. قلت - أي الذهبي رحمه الله : الخوض في ذلك لا يجوز , وكذلك لا يجوز أن يقال الإيمان والإقرار والقراءة والتلفظ بالقرآن غير مخلوق , فإن الله خلق العباد وأعمالهم , والإيمان فقول وعمل , والقراءة والتلفظ من كسب القارئ , والمقروء الملفوظ هو كلام الله ووحيه وتنزيله , وهو غير مخلوق , وكذلك كلمة الإيمان , وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله داخلة في القرآن , وما كان من القرآن فليس بمخلوق , والتكلم بها من فعلنا , وأفعالنا مخلوقة . ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورا له , قمنا عليه وبدعناه وهجرناه , لما سلم معنا لا ابن نصر , ولا ابن مندة , ولا من هو أكبر منهما , والله هو هادي الخلق إلى الحق , وهو أرحم الراحمين , فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة . (17)(/3)
قال الذهبي : ثم قد تكلم خلق من التابعين بعضهم في بعض , وتحاربوا وجرت أمور لا يمكن شرحها , فلا فائدة في بثها , ووقع في كتب التواريخ , وكتب الجرح والتعديل أمور عجيبة , والعاقل خصم نفسه , ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه , ولحوم العلماء مسمومة , وما نقل من ذلك لتبيين غلط العالم وكثرة وهمه أو نقص حفظه , فليس من هذا النمط , بل لتوضيح الحديث الصحيح من الحسن , والحسن من الضعيف . (18)
والذي يتتبع أخطاء العلماء يرى كما عظيما لا تحتويه الكواغد , فإنّ الله تعالى أبى العصمةَ إلا لكتابه الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ و لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ، و لنبيّه صلى الله عليه و سلّم في تبليغ الرسالة ، و ذلك مقتضى حفظ دينه ، و إقامة حجّته على خلقه .
و اصطفى تعالى لحمل العلم من كلّ خلفٍ عدولَه و خصّهم بالفهم و الاستنباط السليم ، فسخّروا ما آتاهم الله من فضله في إقامة الحجّة و بيان المحجّة ، و استشعروا عِظَم واجب التبليغ و التوقيع عن ربّ العالمين فقاموا به خيرَ قيامٍ ، تحمُّلاً و أداءً ، و كان حقّاً على من عرَف فضلهم ، و خبرَ سبقهم أن يتقرّب إلى الله بحبّهم و الذبّ عن أعراضهم ، كيفَ وهم أهل الذكر الذين أُمرنا بسؤالهم و طاعتهم ، كما في قوله تعالى : { وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] .
فأعظم القرب وأجل المنن التقرب إلى الله بحب العلماء , وتعظيمهم وذكر فضلهم .
و ما ابتُليَ عالمٌ بجاهلٍ بقدرهِ ، طاعنٍ في دينه أو علمه ، إلاّ قيّض الله له من ينافح عنه و يذبّ عن عِرضه ، و هذا واجب كفائيٌّ في أقلِّ أحواله .
وأهل الحق والإنصاف يقدمون التماس العذر للعالم في زلّته ، و التأدّب في ردّ مقالته عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ . (19) ، و العالِم في هذا كغيره ؛ معرَّضٌٌٌ للخطأ ، و الوَهمِ ، و النسيان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يتكلم عن أعراض العلماء : نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة ، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم ، أو محادتهم و ترك محبتهم و موالاتهم ، و نرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم و يواليهم و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ ، و لا حول و لا قوة إلا بالله . (20) .
وقد علق البخاري : وَقَالَ عَمَّارٌ : ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ . قال الحافظ في الفتح : قال أبو الزناد بن سراج و غيره : إنما كان من جمع الثلاث مستكملاً للإيمان لأن مداره عليها ; لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقاً واجباً عليه إلا أداه , و لم يترك شيئاً مما نهاه عنه إلا اجتنبه , و هذا يجمع أركان الإيمان . (21) .
فينبغي عليك يا طالب العلم أن تذكر نفسك أن العلماء بشَرٌ يصيبون و يخطئون ، و إن كانوا في معظم الأحوال موافقين للحقّ فيما يقولون و يفعلون ، و أنّهم عنه لا يعدلون ، إلا أن تقَع منهم زلّة ، في حال التباسٍ أو غَفلة , فإن وقعت فالتمس لهم الأعذار وإلا فأين من تجده معصوما من الخطأ والزلات ؟!.
فيا طالب العلم ! عود نفسك الإنصاف , وإياك والإسراف , فإن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في منتقصيهم معلومة وأن من أطلق لسانه في العلماء بالسلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب .
كتبه
أبو محمد
________________________________________
(1) رواه مسلم (2699) .
(2) رواه مسلم (المقدمة) .
(3) أدب الإملاء (20) .
(4) ترجمة الطبراني "للأصبهاني" (344) .
(5) حياة الحيوان (1/61) .
(6) الصفوف من الجنود .
(7) ما يخبأ فيه الطيب ونحوه .
(8) ما بكتب فيه .
(9) أماكن وضع الكتب .
(10) رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث حسن .
(11) متفق عليه .
(12) سير أعلام النبلاء (11/83) .
(13) سير أعلام النبلاء (5/271) .
(14) سير أعلام النبلاء (20/203) .
(15) سير أعلام النبلاء (18/190) .
(16) سير أعلام النبلاء (7/40) .
(17) سير أعلام النبلاء (14/39) .
(18) سير أعلام النبلاء (10/94) .
(19) رواه الترمذي و ابن ماجة و أحمد بإسنادٍ حسن .
(20) الفتاوى الكبرى : 6 / 92 .
(21) فتح الباري : 1 / 83 .(/4)
يا شباب ...
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.
والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ورفع الله به رؤوسنا وكانت مخفوضة، وشرح به صدورنا وكانت ضيقة، وأسمع به آذاننا وكانت صماً، وبصَّر به عيوننا وكانت عمياً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إن أمة بلا إيمان قطيع من البهائم، ومدرسة بلا إيمان ثكنة متهدّمة خاوية، وقلباً بلا إيمان كتلة من لحم ميتة، وأستاذاً بلا إيمان جثمان هامد لا حراك فيه، وكتاباً بلا إيمان أوراق مصففة، وخطبة بلا إيمان كلام ملفف.
فما هو الإيمان؟
يقول - سبحانه وتعالى-: " أوَ مَن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كَمَن مثله في الظلمات ليسَ بخارج منها " (الأنعام: الآية 122).
كانت هذه الأمة قبل الإسلام، أمة لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً، أمة بلا حضارة أو تقدم، أو تاريخ أو ثقافة.
فلما بعث الله فينا هذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابتعثنا من جديد: " هو الذي بعث في الأمِّيين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويُزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " (الجمعة: الآية 2).
ولما حصر مفهوم الإيمان في مسائل ضيقة أصبح الجيل كما ترون إلا من رحم ربي-.
قالوا: الإيمان معناه: أن تصلي صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر.
والإيمان: أن تغتسل من الجنابة.
والإيمان: أن تتوضأ.
والإيمان: أن تضحي يوم الأضحى، وأن تحج وأن تعتمر.
ثم تركوا السلوك والأدبيات في شخصية المسلم، فلم يتعرضوا لها.
تركوا البيوت، والمجتمعات تخوض في المحرمات، وكأن لا علاقة للإيمان فيهما.
وهذا من أكبر الخطأ والخلل، لأنه لا تأثير للإيمان، إذا كان مجرد طقوس تعبدية فحسب.
فما وجدت الأغنية الماجنة في المجتمع المسلم، وأبعد القرآن من البيت إلا خرج الإيمان من القلوب.
وما دخلت المجلة الخليعة إلى البيوت إلا يوم اضمحل الإيمان في القلوب.
وما جلس مع رفقة السوء، وأهديت السجائر في الجلسات، وقضيت الليالي الحمراء في السهرات، وكثر الذهاب والإياب فيما يغضب الواحد الأحد، وما خولفت سنته - صلى الله عليه وسلم - إلا يوم ضعف الإيمان في القلب.
فالحل الوحيد لجميع مشكلاتنا هو: الإيمان.
والإيمان معناه: أن تكون مؤمناً بالله خلال يومك وليلك، وفي قيامك وقعودك، وحلّك وترحالك.
الإيمان بالله هو: أن يكون الله رقيباً عليك في حركاتك وسكناتك.
الإيمان بالله: أن تجلس على الكرسي، وأن تستمع للكلمة وللدرس، وقد سلمت قلبك للحي القيوم.
والإيمان مستويات:
فمثلاً: المدير في مدرسته أو معهده واجبه أن يكون مؤمناً بالله، وأن يرعى هذه الرعية برعاية الله - عز وجل -، وألا يقطع حبله من الله - عز وجل -، يقول - صلى الله عليه وسلم -: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "(1)، وهذا الجيل أمانة في عنقه، إما أن يهديهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وإما أن يتركهم يتردون في النار على وجوههم، نعوذ بالله من ذلك.
وهذه هي الأمانة: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً " (الأحزاب: الآية 72).
وأمانة الأستاذ: أن يأتي من بيته صباحاً، وأكبر قضية يحملها في ذهنه، هي: قضية الإيمان، وكيف ينقله إلى قلوب طلابه.
ويعلم أنه وراث محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه خليفة له، وأن المسلمين قد وضعوا أبناءهم أمانة بين يديه، وقد أخرجوا فلذات أكبادهم، وطرحوا قلوبهم، ووجناتهم، ومقلهم، وقالوا: يا عبد الله، اتق الله في أبنائنا.
وليس معنى الإيمان: أنه إذا درس التوحيد أن يكون موحداً، وإذا درس التاريخ أن يكون مؤرخاً، وإذا درس الجغرافيا أن يكون جغرافيّاً.
لا.. إن هذه المواد إذا لم تربط بحبل الإيمان، فإن الله سوف يسأل هذا المعلم عنها يوم القيامة.
إن الإيمان لا بد أن يكون في الدرس وفي المحاضرة، وفي الندوة، وفي الكلمة، بربط جميع جزئيات ما يتحدث عنه بالإيمان بالله، وبقدرته، وبعظمته - سبحانه وتعالى-.
حتى ينشأ الجيل مؤمناً موحداً.
وأما الطلاب والشباب المتعلم فواجباتهم أربع:
أولها وأعظمها: رقابة الله في هذا العلم، وأن تأتي بلهف وشوق وحرص إليه، ونحمد الله - عز وجل - على أن شرّفنا وجعلنا طلبة علم، ثم نسأله - سبحانه وتعالى- دائماً وأبداً أن يفتح علينا من فتوحاته.
وأعظم الفتوحات التي يفتحها الله عليك: أن يجعلك عبداً له.
ولقد رأينا وأبصرنا شباباً ضيعوا الله، فضيعهم الله في الحياة، وسوف يضيعون إن لم يتوبوا في الآخرة.
فهم لما ضيعوا الله في الاستقامة، ضاعوا في الدراسة، وضاعوا في المناهج، وضاعوا في المستقبل.(/1)
وأخذوا مرغمين إلى السجون، وحبسوا وضربوا بالسياط، وقيدوا بالحديد، وأصبحوا في ذلة وفي حقارة وفي صغار، لأنهم ما حفظوا الله.
فالزم يديك بحبل الله معتصماً
فإنه الركن إن خانتك أركان
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته
أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها
فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
إن الذي لا يحفظ الله يضيعه الله، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - يوقف الصحابي الواحد من أصحابه ويقول له: " احفظ الله يحفظك ". (2)
فرغون طاغية، ضيع الله فضيعه الله في اليم.
وأبو لهب طاغية، ضيع الله فرده الله في نار ذات لهب.
وأبو جهل طاغية، لما لم يسلم للا إله إلا الله ضاع.
وأنتم تستقرئون من قرابتكم ومن مجتمعاتكم أن من ضيع الله ضيعه الله - عز وجل -.
فأكبر قضية نريدها هي: حفظ الله - عز وجل -.
إن رقابة الأستاذ، أو الإدارة، أو السلطة لا يمكن أن تنفذ إلى قلبك، إذا لم تراقب الله - عز وجل -.
يقول - سبحانه وتعالى-: " وذروا ظاهر الإثم وباطنه " (الأنعام: الآية 120)، فظاهر الإثم قد تتركه خوفاً من السلطة، لكن باطن الإثم لا يترك إلا خوفاً من الله - تعالى -.
الثاني: يا أيها الأحباب، أن نحمل العبودية كطلبة علم.
فهل يرضيكم أن تروا طالب علم يقرأ قال الله، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبين أساتذة أخيار أبرار، ولا تظهر عليه معالم السنة والاستقامة، كأنه خرج من نادٍ من باريس، أو من لندن، أو من واشنطن؟
فأين أثر ما طلب وما درس على محياه وعلى كلامه؟
فلا بد من العمل مع العلم، لأن العلم وحده لا ينجي عند الله يوم القيامة، فإبليس علم ولم يعمل، فعلمتم ما هو مصيره.
ولذلك كثيراً ما يقرن الله - سبحانه وتعالى- بين العلم والإيمان، كما في قوله: " وقال الذين أوتوا العلم والإيمان " (الروم: الآية 56). لأن العلم بلا إيمان يؤدي إلى الانحراف وإلى الإلحاد والعياذ بالله.
فلا بد إذن من العبودية بجانب العلم.
والعبودية تكون وتظهر على عدة أعضاء، من أبرزها هذا القلب كتلة اللحم الذي تحمله بين جنبيك، فهو حياتك وموتك، وواجبك أمام الله أن تدخل فيه الإيمان كما قال - سبحانه -: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدًّاً " (مريم: الآية 96)، " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " (العصر: الآيات 1-3).
أيضاً: أن تملأه بالإخلاص والنية الطيبة.
ثالثاً: أن نحيي سنته - صلى الله عليه وسلم - في حياتنا المعاصرة.
ولا يتحقق ذلك إلا بدراسة سيرته والتأمل في أحداثها وإيحاءاتها التربوية التي تهم واقع الشباب.
وإن لم تفعل ذلك فما صدقت في حبك له.
يا مدعي حب طه لا تخالفه
الخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته
وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد خيراً تفز به
أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
فلا بد للشباب من تحقيق سيرة هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، وإقامتها حقاً على سلوكه، وعلى مظهره، دون أن يرد بعضها، أو يهون ناحية من نواحيها كاللحية والثوت مثلاً، لأن الجميع قد جاء به - صلى الله عليه وسلم -، ولا يكمل إيمان العبد حتى ينشرح صدره بجميع ما جاء به - صلى الله عليه وسلم -.
رابعاً: أن نحرص على أوقاتنا أن تضيع من بين أيدينا هدراً، قال - سبحانه -: " أفحسبتم أنَّما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ف- تعالى - الله الملكُ الحقُّ لا إله إلا هو ربُّ العرش الكريم " (المؤمنون: الآيات 115-116).
فلا بد لنا أن ننظم أوقاتنا تنظيماً دقيقاً، لأننا أمة الدقة والنظام.
يقول - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ". (3)
ولا يكون ذلك كما قلت إلا بالتنظيم، بان تقسم أوقاتك إلى أجزاء، وتجعل في كل جزء ما يناسبه، فالصلاة في وقتها جماعة، وتجعل وقتاً للحفظ والتلاوة، ووقتاً للاطلاع والقراءة، ووقتاً للزيارات وصلة الرحم، ووقتاً للأهل ومتطلباتهم، ووقتاً للترويح عن النفس في غير المحرم، وهكذا.
ولن يتم لك الاستفادة من وقتك إلا بمثل هذا التنظيم، وقد جرب الكثير ذلك فعلموا مصداق هذا.
لأن العشوائية في الوقت لا تحقق الاستفادة التامة منه، بل يصبح الإنسان يراوح في مكانه سنوات طويلة دون أن يثمر من وقته شيئاً.
فيا شباب، عليكم قبل هذه المسائل الأربع بالصدق مع الله في الحياة، فإنه من يصدق الله يصدقه.
ولا يكون الصدق إلا بالمبادرة إلى النوافل والطاعات، حتى يتحقق لنا حب الله ومعونته، فإنه القائل كما في الحديث الصحيح: " ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصره به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه ". (4)
فالنوافل والطاعات الاجتهادية تزيدك قرباً منه - سبحانه -.(/2)
واعلم، أنه لن يتم لك تحقيق ما تصبو إليه: من استغلال وقتك، أو التزود بالطاعات والنوافل، إلا بأن تتخلى كلياً عن رفقاء السوء الذين يعيدونك إلى سابق عهدك، ويصرفونك عن الجد والاجتهاد.
فعليك أن تفر منهم فرارك من الأسد.
لأن الجليس يؤثر في جليسه حتماً، لا سيما إذا كان فاسداً، لأن الفساد ينتشر أعظم من انتشار الخير لأنه سهل وله وسائله المغرية.
والهدم كما هو معلوم أسهل من البناء.
فالبناء يحتاج إلى تروٍّ، وإلى زمن، وإلى اختيار.
وأما الهدم فلا يحتاج إلا إلى عشوائية، ولا يحتاج أكثر من لحظات يبيع فيها المسلم دينه مع أولئك الرفقاء السيئين.
ولا يغررنَّك الشيطان بخطواته عندما يوهمك بأنك أنت المؤثر لا المتأثر، لأنك لو كنت كذلك فترة من الزمن، فإنك لا شك ستنتقل إلى جانب التأثر، والتقبل بعد فترة أخرى، لأن المرء لا يدوم على حال.
كما قال - تعالى -: " لمن شاء منكم أن يتقدَّم أو يتأخّر " (المدثر: الآية 37)، فهو إما التقدم للخير، أو التأخر عنه.
هذه بعض الوصايا العاجلة لطائفة الشباب، لعلها أن تنفعهم في حياتهم، فيكونوا خير زاد للإسلام في مرحلته المقبلة.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (893، 5200)، ومسلم (1829) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) الحديث صحيح، أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي (2516)، والحاكم (6304)، وانظر: المشكاة (5302).
(3) رواه البخاري (6412) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(4) أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق.
المراجع د. عايض القرني، للشباب خاصة، 121-129(/3)
يا شرق
شعر: مصطفى الغلاييني
شرقُ فانزع عنكَ ثوبَ البلى واستبدل المبُهجَ بالموجِعِ
فقد كفى أهليك ما نابهم حتى أضاعوا واضح المهيَعِ
كان لهم ما كان من عزةٍ أرفعَ من أوج السُّهى الأرفع
قد ملأ الكونَ شذا ذكرهم من موضع يسري إلى موضع
فما ترى إلا قلوباً له ترنو كأسرابِ القطا الشرَّع
قد رفرفتْ من حولها وُلْهاً رفرفةَ الطير على المُشرَع
فيا بني الشرقِ وأهل الحجى حسبُكمُ ما حلَّ في الأربُع
هل فيكمُ من حازمٍ أرْوَعِ جُعبة عقل عالم ألمعي
يكسر قيد الجهل عن عقلنا وينزع الرمح من الأضلع
وليس بدعاً إن نكن نرتقي لمجدنا من هُوّة المصرعِ
فالشمس بعد الكسف تبدو لنا وتنجلي في رائع المطلعِ
والجِدُّ يُدني شائعاتِ المنى واليأس يقصي دانيَ المنجع(/1)
يا طالب العلم ابدأ بهذا أولا
فإن من أول ما يجب على طالب العلم معرفته وإدراكه قبل طلب العلم وتحصيله؛ أن يعلم أن هناك صفات يجب أن تلزم طالب العلم، وأن تصاحبه في عمره وسيره إلى الله عز وجل، فإن أخل بهذه الصفات أخل بمكانته في العلم وتعثر في طريقه إلى الآخرة...
فمن هذه الصفات أنه ينبغي له أن يتصف بأنواع الجود والكرم كلها، فيجود بنفسه في طاعة اللّه وفي سبيل نشر العلم، ويجود بوقته في تحصيل العلم وبلوغ الغاية منه، ويجود براحته تعبًا في التعلم وتعليم غيره، ويجود بعلمه فينشره بين الناس، ويجود بجاهه فيشفع لأصحاب الحاجات، ويجود ببدنه في خدمة الناس والإِصلاح بينهم وإعانتهم، ويجود بعرضه فيعفو عمَّن اغتابه أو سبَّه، ويجود بصبره فيصبر على أذى الناس، ويجود بالخلق الحسن وبشاشة الوجه والبسطة، ويجود بما في أيدي الناس فيزهد فيه ولا يلتفت إليه، وكل أنواع الجود والكرم ينبغي أن يأخذ منها طالب العلم أكبر الحظ والنصيب، إقتداء بنبيه - صلى الله عليه وسلم -
ومن أهم هذه الخصال وأرفعها "زهده فيما في أيدي الناس"، وعدم التطلع له، وهذا ما أوقع الكثير من طلبة العلم في النكبات، والارتكاس والتدني بعد العلو والرفعة .
عَنْ أَبي العَبَّاس سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيّ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ, إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ, أَحَبّنِيَ اللّهُ, وَأَحَبّنِي النّاسُ، فَقَالَ: (ازْهَدْ فِي الدّنْيَا, يُحِبَّكَ اللّهُ. وَازْهَدْ فِيمَا عِنْد النّاسِ, يُحِبّكَ النّاسُ) [حديث حسن، رواه ابن ماجه، وغيره بأسانيد حسنة]
فقوله صلى الله عليه وسلم (وَازْهَدْ فِيمَا عِنْد النّاسِ, يُحِبّكَ النّاسُ)، يعني لا يكن قلبك متعلقا بما في أيدي الناس، فإذا فعلت ذلك، فأخرجت نفسك مما في أيدي الناس من التعلق ومن الاهتمام، وكان ما عند الناس في قلبك لا قيمة له، سواءً عظم أم قل، فإنّه بذلك يحبك الناس؛ لأنّ الناس يرون فيك أنك غير متعلق بما في أيديهم، لا تنظر إلى ما أنعم الله به عليهم نظر رغبة، ولا نظر طلب، وإنما تسأل الله جل وعلا لهم التخفيف من الحساب، وتحمد الله جل وعلا على ما أعطاك، وما أنت فيه، فهذا إخراج ما في أيدي الناس من القلب، فهذه حقيقة الزهادة فيما عند الناس، وإذا فعل ذلك المرء أحبه الناس؛ لأن الناس جُبِلوا على أنهم لا يحبون من نازعهم ما يختصون به، مما يملكون.
وهذا يعكر صفو المحبة، فوطن نفسك أن ما عند الناس شيء قليل لا قيمة له، حقير لا وزن له مهما بلغ، وهذا في الحقيقة لا يكون إلا لقلب زاهد متعلق بالآخرة، لا ينظر إلى الدنيا أما من ينظر إلى الدنيا، فإنه يكون متعلقا بما في أيدي الناس، فإذا نظر إلى مُلك هذا تعلق به، وإذا نظر إلى مُلك هذا تعلق به، ولا يزال يسأل، أو ينظر إليه، أو يتمتَّع به حتى لا يكون محبوبا عند الناس.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ ثُمَّ قَالَ: (مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً هُوَ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ).[متفق عليه] .
فهذا الحديث اشتمل على أربع جمل جامعة نافعة.
إحداها: قوله: « وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ».
والثانية: قوله: « وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ».
وهاتان الجملتان متلازمتان، فإن كمال العبد في إخلاصه لله رغبة ورهبة وتعلقا به دون المخلوقين. فعليه أن يسعى لتحقيق هذا الكمال، ويعمل كل سبب يوصله إلى ذلك، حتى يكون عبدا لله حقا، حرا من رق المخلوقين، وذلك بأن يجاهد نفسه على أمرين: انصرافها عن التعلق بالمخلوقين بالاستعفاف عما في أيديهم، فلا يطلبه بمقاله ولا بلسان حاله، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ: (خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ).[رواه البخاري ومسلم]
فقطع الإشراف في القلب والسؤال باللسان، تعففا وترفعا عن منن الخلق، وعن تعلق القلب بهم، سبب قوي لحصول العفة.(/1)
وتمام ذلك: أن يجاهد نفسه على الأمر الثاني: وهو الاستغناء بالله والثقة بكفايته، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، وهذا هو المقصود، والأول وسيلة إلى هذا، فإن من استعف عما في أيدي الناس وعما يناله منهم، أوجب له ذلك أن يقوى تعلقه بالله، ورجاؤه وطمعه في فضل الله وإحسانه، ويحسن ظنه وثقته بربه، والله تعالى عند حسن ظن عبده به، إن ظن خيرا فله، وإن ظن غيره فله، وكل واحد من الأمرين يمد الآخر فيقويه، فكلما قوي تعلقه بالله ضعف تعلقه بالمخلوقين وبالعكس.
ومما صح من الدعاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى).[رواه مسلم]
فجمع الخير كله في هذا الدعاء، فالهدى: هو العلم النافع، والتقى: هو العمل الصالح، وترك المحرمات كلها، هذا صلاح الدين.
وتمام ذلك بصلاح القلب، وطمأنينته بالعفاف عن الخلق، والغنى بالله، ومن كان غنيا بالله فهو الغني حقا، وإن قلت حواصله، فليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى القلب، وبالعفاف والغنى يتم للعبد الحياة الطيبة، والنعيم الدنيوي، والقناعة بما آتاه الله.
والثالثة قوله: « وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ».
ثم ذكر في الجملة الرابعة: أن الصبر إذا أعطاه الله العبد فهو أفضل العطاء وأوسعه وأعظمه إعانة على الأمور، قال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ } [ البقرة : 45 ]. أي: على أموركم كلها.
والصبر كسائر الأخلاق يحتاج إلى مجاهدة للنفس وتمرينها، فلهذا قال: « وَمَنْ يَتَصَبَّرْ » أي: يجاهد نفسه على الصبر « يُصَبِّرْهُ اللَّهُ » ويعينه، وإنما كان الصبر أعظم العطايا، لأنه يتعلق بجميع أمور العبد وكمالاته، وكل حالة من أحواله تحتاج إلى صبر.
وقد وعد الله الصابرين في كتابه وعلى لسان رسوله أمورا عالية جليلة، وعدهم بالإعانة في كل أمورهم. وأنه معهم بالعناية والتوفيق والتسديد، وأنه يحبهم ويثبت قلوبهم وأقدامهم، ويلقي عليهم السكينة والطمأنينة، ويسهل لهم الطاعات، ويحفظهم من المخالفات، ويتفضل عليهم بالصلوات والرحمة والهداية عند المصيبات، والله يرفعهم إلى أعلى المقامات في الدنيا والآخرة، وعدهم النصر، وأن ييسرهم لليسرى ويجنبهم العسرى، ووعدهم بالسعادة والفلاح والنجاح، وأن يوفيهم أجرهم بغير حساب، وأن يخلف عليهم في الدنيا أكثر مما أخذ منهم من محبوباتهم وأحسن، يعوضهم عن وقوع المكروهات عوضا عاجلا يقابل أضعاف أضعاف ما وقع عليهم من كريهة ومصيبة وهو في ابتدائه صعب شديد وفي انتهائه سهل حميد العواقب، كما قيل:
والصبر مثل اسمه مر مذاقته
لكن عواقبه أحلى من iiالعسل
فلذلك يجب على طالب العلم أن يتصبر ويلعق العلقم حتى ينال المراد.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: ولا يحول بينك وبين هذا المطلب الشريف ما تنازعك نفسك إليه من مطالب الدنيا التي تروقها وتود الظفر بها، فإنها حاصلة لك على الوجه الذي تحب، والسبيل الذي تريد، بعد تحصيلك لما أرشدتك إليه من الرتبة العلمية، وتكون إذ ذاك مخطوباً لا خاطباً، ومطلوباً لا طالباً.
وعلى فرض أنها تكدي عليك المطالب، وتعاند الأسباب، فلست تعدم الكفاف الذي لا بد لك منه. فما رأينا عالماً ولا متعلماً مات جوعاً، ولا أعوزه الحال حتى انكشفت عورته عرياً، أو لم يجد مكاناً يكنه، ومنزلاً يسكنه، وليس الدنيا إلا هذه الأمور، وما عداها فضلات مشغلة للأحياء مهلكة للأموات.
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً
وإذا مت لست أعدم iiقبراً
وعلى العاقل أن يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، ولا يعدوه ما قدره له، وأنه قد فرغ من أمر رزقه الذي فرضه الله له. فلا القعود يصده، ولا السعي وأتعاب النفس يوجب الوصول إلى ما لم يأذن به الله تعالى.
وهذا معلوم من الشرع، قد توافق عليه صريح الكتاب والسنة، وتطابقت عليه الشرائع.
وإن أعظم ما يريده الله منه، ويقربه إليه، ويفوز به عنده، أن يشغل نفسه ويستغرق أوقاته في طلب معرفة هذه الشريعة التي شرعها الله لعباده، وينفق ساعاته في تحصيل هذا الأمر الذي جاءت به رسل الله إلى عباده، ونزلت به ملائكته. فإن جميع ما يريده الله من عباده عاجلاً وآجلاً، وما وعدهم به من خير وشر، قد صار في هذه الشريعة.
فأكرم برجل تاقت نفسه عن أن يكون عبد بطنه إلى أن يكون مهتما بأمر دينه، حتى يناله على الوجه الأكمل، ويعرفه على الوجه الذي أراده الله منه، ويرشد إليه من عباده من أراد له الرشاد، ويهدي به من استحق الهداية. فانظر أعزك الله كم الفرق بين الرجلين، وتأمل قدر مسافة التفاوت بين الأمرين ؟!.(/2)
هذا يستغرق جميع أوقاته وينفق كل ساعاته في تحصيل طعامه وشرابه وملبسه وما لا بد منه قام أو قعد سعى أو وقف، وهذا يقابله بسعي غير هذا السعي وعمل غير ذلك العمل، فينفق ساعاته ويستغرق أوقاته في طلب ما جاء عن الله وعن رسوله، من التكاليف التي كلف بها عباده، وما أذن به من إبلاغه إليهم من أمور دنياهم وأخراهم لينتفع بذلك، ثم ينفع به من يشاء الله من عباده، ويبلغ إليهم حجة الله، ويعرفهم شرائعه.
فلقد تعاظم الفرق بين النوعين، وتفاوت تفاوتاً يقصر التعبير عنه، ويعجز البيان له، إلا على وجه الإجمال بأن يقال إن أحد النوعين قد التحق بالدواب، والآخر بالملائكة؛ لأن كل واحد منهما قد سعى سعياً شابه من التحق به، فإن الدابة يستعملها مالكها في مصالحه، ويقوم بطعامها وشرابها وما يحتاج إليه.
ومع هذا فمن نظر في الأمر بعين البصيرة، وتأمله حق التأمل، وجد عيش من شغل نفسه بالطاعة، وفرغها للعلم، ولم يلتفت إلى ما تدعو إليه الحاجة من أمر دنياه، تجده أرفه، وحاله أقوم، وسروره أتم، وتلك حكمة الله البالغة التي يتبين عندها أنه لن يعدو المرء ما قدر له، ولن يفوته ما كان يدركه.
وكما أن هذا المعنى الذي ذكرناه، ثابت في الشريعة، مصرح به في غير موطن منها، قد أجراه الله على لسان الجبابرة من عباده وعتاة أمته، حتى قال الحجاج بن يوسف الثقفي في بعض خطبه ما معناه: أيها الناس، إن الله كفانا أمر الرزق، وأمرنا بالعبادة، فسعينا لما كفيناه، وتركنا السعي للذي أمرنا به، فليتنا أمرنا بطلب الرزق، وكفينا العبادة، حتى نكون كما أراده الله منا. هذا معنى كلامه لا لفظه. فلما بلغ كلامه هذا بعض السلف المعاصرين له قال: إن الله لا يخرج الفاجر من هذه الدار وفى قلبه حكمة ينتفع بها العباد إلا أخرجها منه، وإن هذا مما أخرجه من الحجاج.
فانظر هذا الجبار كيف لم يخف عليه هذا الأمر، مع ما هو فيه من التجبر، وسفك الدماء، وهتك الحرم، والتجرؤ على الله، وعلى عباده، وتعدي حدوده. فما أحقه بأن لا يخفى على من هو ألين منه قلباً وأقل منه ظلماً، وأخف منه تجبراً، وأقرب منه خيرا، وأبعد منه من شرا.
وإن من تصور هذا الأمر حق التصور وتعقله كما ينبغي انتفع به انتفاعاً عظيماً ونال به من الفوائد جسيما، والهداية بيد الهادي جل جلاله وتقدست أسماؤه.<ينظر كتابي"ترجمة الشوكاني رحمه الله" (64)>
فيجب على طالب العلم توطين النفس على التعلق بالله وحده، في أمور معاشه ومعاده، فلا يسأل إلا الله، ولا يطمع إلا في فضله، ويوطن نفسه على اليأس مما في أيدي الناس; فإن اليأس عصمة، ومن آيس من شيء استغنى عنه. فكما أنه لا يسأل بلسانه إلا الله، فلا يعلق قلبه إلا بالله. فيبقى عبدا لله حقيقة، سالما من عبودية الخلق. قد تحرر من رقهم، واكتسب بذلك العز والشرف؛ فإن المتعلق بالخلق يكتسب الذل والسقوط بحسب تعلقه بهم.
فيكون الباعث له في جميع الأعمال: امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، والعلم بأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، يقود صاحبه إلى الرضا بالقليل، والعفاف عما في أيدي الناس، ويبعده عن التملق لغير الله، أو الانشغال بغير عبادة الله ورضاه، أو إرضاء الناس بسخط الله، ويورث العزم في متانة، ويربط القلب، فيمضي صاحبه حتى يبلغ الغاية.
ومن جميل السخاءِ سخاءُ المرء عما في أيدي الناس، فلا يلتفت إليه، ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرَّض له بحاله ولسانه.
قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [سورة هود، الآية: 6].
فهذا هو طريق الاستعلاء أن تنظرَ إلى السماء، وأن نلح بالدعاء، لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوةِ والسعادة، وأنك تأوي إلى ركنٍ شديد.
أما الشكوى إلى الناس، والنظرِ إلى ما في أيدي الناس فيشعرك بالضعف والذل والإهانةِ والتبعية.
ولكن إذا غلبت النفس وتدنت وتطلعت إلى ما في أيدي الناس، وأوجبت على العبد تعريضها للحاجة والسؤال إذا مسته الحاجة إلى المال. فطلب الرزق الحلال والعمل لمن هذه حاله في أي حرفة أو طلب معاش أنفع له وأجدر حتى ولو فاته من العلم، لأن العلم وسيلة وليس بغاية، فإن لم يصلح العبد قلبه بالعلم ويصون به عرضه فلا خير في هذا العلم.
ولقد كان شأن العلماء هو الترفع عما في أيدي الناس مهما بلغ بهم العوز والحاجة ولا يلجئون إلا إلى خالقهم ورازقهم رب السموات والأرض.
فهذا:
سفيان الثوري
من تأمل سيرته وجده من أفضل أهل زمانه؛ رغم ما مر به من محن ونكبات وعوز وضيق.
عن يوسف بن أسباط قال: خلف سفيان مائتي دينار، كانت مع رجل يتبضع بها <الذهبي "تاريخ الإسلام" (4/557)>
وقال أبو نعيم: قال الثوري: لولا بضيعتنا تلا عب بنا هؤلاء -يعني الملوك.
وعنه قال: أُحب أن يكون صاحب العلم في كفاية, فإن الآفات إليه أسرع, والألسنة إليه أسرع .<الذهبي"سير أعلام النبلاء"(7/254)>
ولذلك ربما نقض سقف بيته, أو أساسه إذا اضطر إليه, فباعه دون أن يسأل أحدا.(/3)
فعن محمد بن عبيد قال: كان سفيان الثوري إذا أبطأت عليه بضاعته؛ نقض جذوع بيته, فباعها, فإذا رجعت بضاعته؛ أعادها. <ابن أبي حاتم " مقدمة الجرح والتعديل" (99)>
وعن زيد بن الحباب قال: نفدت نفقة سفيان الثوري بمكة فقدم عليه رجل من قومه, فقال لسفيان: لك معي عشرة دراهم, قال: مِنْ أين؟ قال من غزل فلانة, قال: ائتني بهم فإني منذ ثلاث أستف الرمل. <أبو نعيم "الحلية" (7/63)>
وعن حسين بن روح قال: أتى سفيان الثوري رجلٌ, فقال: إني مررت بفلان, فأعطاني صُرَّة فيها ألف دينار أعطيك إياها, فقال له سفيان فمررت بأختي فأعطتك شيئا من دقيق؟ قال: نعم. قال: فأتني بصرة الدقيق، ورُدَّ صُرَّة الدنانير, قال: فكان يختبز منها أقراصا ويأكل. <ابن أبي حاتم " مقدمة الجرح والتعديل" (101)>
وعن عبد العزيز بن أبى عثمان قال: خرجت إلى مكة فبعث معي المبارك بن سعيد إلى سفيان الثوري بجراب من دقيق, وهو مختف بمكة. قال: فلما قدمت مكة, جعلت أسأل عنه فلم يَدُلُّوني؛ حتى قلت لبعض أصحابه: إنه ليسرُّه لو قد رآني, قال: فدَلُّوني عليه, فدخلت عليه, فقلت له: إن المبارك بعث إليك بجرابٍ من دقيق, فقال: عجل به عليّ, فإن بنا إليه حاجة شديدة. <ابن أبي حاتم " مقدمة الجرح والتعديل" (91)>
وعن أبى شهاب الحناط قال: أرسل معي المبارك بن سعيد إلى سفيان وهو بمكة, بجراب من خبز مدقوق, فلقيته في المسجد وهو متكئ، فسلم وهو متكئ كأنه ضعيف, فقلت: إن معي جرابا أرسل به مبارك, فقعد! فقلت: سلمتُ عليك وأنت مضطجع, ثم لما قلتُ معي شيء فقعدت! قال: فكأنه استحيا, وقال: ويحك إنه أتاني على حاجة؛ أي شيء هو؟ قلت: جراب خبز. ثم قال: ما نلت شيئا منذ يومين. <ابن أبي حاتم " مقدمة الجرح والتعديل" (93)>
عن سفيان بن عيينة قال: جاع سفيان الثوري جوعا شديدا, مكث ثلاثة أيام لا يأكل شيئا, فمر بدار فيها عُرس فدعته نفسه إلى أن يدخل فعصمه الله, ومضى إلى منزل ابنته فأتته بقرص، فأكله وشرب ماء ثم تجشى, وجعل يتمثل بهذه الأبيات <ابن أبي حاتم " مقدمة الجرح والتعديل" (98)>:
سَيَكْفِيكَ عَمَّا أُغْلِقَ البَابُ iiدُونَهُ
وَضَنَّ بِهِ الأَقْوَامُ مِلْحٌ iiوَجَرْدَقُ
وَتَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فُرَاتٍ وَتَغْتَدِي
تُعَارِضُ أَصْحَابَ الثَّريدِ iiالْمُلَبَّقُ
تَجَشَّى إِذَا مَا هُمْ تَجَشَّوا iiكَأَنَّمَا
ظَلَلْتَ بِأَنْوَاعِ الخَبِيصِ iiتفتَّقُ
وكان لا يذل نفسه لأحد قط.
عن النضر بن أبى زرعة قال: قال لي المبارك بن سعيد -أخو سفيان الثوري- بالموصل: ائت سفيان فأخبره أن نفقتي قد نفدت, وثيابي قد تخرقت, فقل له: يكتب إلى والي الموصل لعله يصلني بمال أكتسي, قال: فقدمت الكوفة فأتيت سفيان فأخبرته بما قال مبارك. فدخل الدار فأخرج دورقا فيه كسر يابسة, فنثرها على الأرض, ثم قال: لو رضي مبارك بمثل هذا!لم يكن له بالموصل عمل, ما له عندنا كتاب. <ابن أبي حاتم " مقدمة الجرح والتعديل" (1/92)>
الفضيل بن عياض
فقد نال القدح المعلى في الزهد والصبر وعفة النفس، فقد أرسل بعض الخلفاء إلى الفقهاء بجوائز فقبلوها؛ وردها الفضيل, فقالت له امرأته: ترد عشرة آلاف, وما عندنا قوت يومنا؟! فقال: مثلي ومثلكم كقوم لهم بقرة يحرثون عليها, فلما هرمت ذبحوها, وكذا أنتم أردتم ذبحي على كبر سني, موتوا جوعا قبل أن تذبحوا فضيلا. <المناوي "فيض القدير"(5/436)>
الأعمش
وهذا الأعمش رغم ما كان فيه من شدة، ولو مال إلى حكام زمانه لبسطت له الدنيا بأسرها.
قال عبد الله بن داود الخريبي: مر أبو جعفر فبعث إلى الأعمش فخرج إليه فقال: يا أبا محمد لك حاجة؟ فقال: أما أنا فليس لي إليك حاجة وقد ترى ما الناس فيه من هذه الحال فاتق الله فيهم.
قال أبو حرب: وكان الناس في ذلك الزمان يموتون جوعا، وكان يباع قفيز دقيق<القَفِيزُ من المكاييل معروف وهو مكيال تتواضَعُ الناسُ عليه> بدانق<الدانق وهو سدس الدرهم> ولم تكن دراهم. <«أمالي اليزيدي»(1/21).>
ابن جرير وابن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي والروياني
وهؤلاء الأئمة الأربعة كادوا في أول الطلب أن يهلكوا لولا عناية الله ورعايته لهم.(/4)
قال أبو العباس البكري: جمعت الرحلة بين ابن جرير وابن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني بمصر، فأرملوا ولم يبق عندهم ما يقوتهم، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على ابن خزيمة، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أصلي صلاة الخيرة، قال: فاندفع في الصلاة، فإذا هم بالشموع وخصي من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا فدفعها إليه. ثم قال: و أيكم محمد ابن جرير؟ فأعطاه خمسين دينارا، وكذلك للروياني وابن خزيمة. ثم قال: إن الأمير كان قائلا بالأمس، فرأى في المنام أن المحامد جياع، قد طووا كشحهم، فأنفذ إليكم هذه الصرر، وأقسم عليكم إذا نفذت فابعثوا إليّ أحدكم. <سير أعلام النبلاء (14/270)>
الخطيب البغدادي
وهذا الخطيب كان على نفس الطريقة والهدي.
قال الفضل ابن عمر النسوي: كنت بجامع صور عند أبي بكر الخطيب، فدخل علوي وفي كمه دنانير، فقال: هذا الذهب تصرفه في مهماتك.
فقطب في وجهه، وقال: لا حاجة لي فيه، فقال: كأنك تستقله، وأرسله من كمه على سجادة الخطيب.
وقال: هذه ثلاث مئة دينار.
فقام الخطيب خجلا محمرا وجهه، وأخذ سجادته، ورمى الدنانير، وراح.
فما أنسى عز الخطيب وذل العلوي وهو يلتقط الدنانير من شقوق الحصير. <«سير أعلام النبلاء»(18/277)>
أخي الحبيب طالب العلم: هناك باب يجب أن تدخل منه في أول الطلب؛ قد غاب عن الكثير، وهو باب عفة النفس والفضيلة، فقف عليه واصبر وسيفتح لك إن شاء الله.(/5)
يا عباد الله فاثبتوا
الحمد لله السميع البصير، اللطيف الخبير، أحاط بكل شيء علمًا، ووسع كل شيء رحمة وحلمًا، هو الحليم الشكور، العزيز الغفور، قائم على كل نفس بما كسبت، يحصي على العباد أعمالهم، ثم يجزيهم بما كسبت أيديهم، ولا يظلم ربك أحدًا، هو العلي القدير، العليم بذات الصدور. أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، صاحبُ النهج الرشيِد والقول السديد، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد، فيا إخوة الإسلام: اتّقوا الله واخشَوه، ومن يَخْش اللّهَ وَيَتَّقه فأولئك همُ الْفائِزون.
واثبتوا على دين الله وشرعته، وليكن كل منا زاده التقوى، وشعاره الجهاد، وحصنه الإيمان، وعدته الصبر، وخلقه القرآن، وقدوته سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. أمنيته الشهادة في سبيل الله؛ ليكون الدين كله لله، وغايته تلك مع الجنة ورضوان الله. كذا كان جيل الصحابة رضوان الله عليهم، جيل حمل فكراً سامياً لغاية أسمى.. والذي لا إله إلا هو لولا النقل الصحيح المتواتر القطعي لقيل:
ذاك طيف من خيال بل هو الشيء المحال
قد تقولون: مُحال! ذاك ضرب من خيال
قد تقولون.. ولكني أقول: إنها تربية السبع الطوال..! لا محال...
إنه هدي الكتاب لا محال...
فعلى وقع التلاوات تخضَرُّ التلال لا محال...
إنهم جيل المصاحف لا محال...
إنه جيل المحاريب وأساد النبال إنهم شم الجبال لا محال...
هل تغير النبع؟!
هل تغير المنهج الذي تربوا عليه؟!
مهما تقادم جوهر في عتقه فهو الثمين وليس يبرح جوهرا
لقد كان رسول الله أشجع الناس، وأثبتهم في دين الله؛ فعن أبي هريرة قال: كنا إذا صحبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سفر تركنا له أعظم دوحة وأظلها فينزل تحتها، فنزل ذات يوم تحت شجرة، وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الله يمنعني منك، ضع عنك السيف فوضعه، فنزلت: والله يعصمك من الناس.
فيا عباد الله فاثبتوا
فكيف تخاف من زيد ومن عمرو *** وعند الله رزقك والقضاء
* حنين كثرة عدد.. ولكن
خرج صلى الله عليه وسلم، ومعه ألفان من أهل مكة، وعشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله بهم مكة، فكانوا اثني عشر ألفاً. فلما استقبلوا وادي حنين، انحدروا في واد من أودية تهامة أجوف في عماية الصبح. قال جابر: وكانوا قد سبقونا إليه، فكمنوا في شعابه ومضايقه، قد تهيئوا. فوالله ما راعنا إلا الكتائب، قد شدوا علينا شدة رجل واحد، فانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد. وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين، ثم قال:أيها الناس ! أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله، وبقي معه نفر من المهاجرين، وأهل بيته، فاجتلد الناس فوالله ما رجعت الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى عند رسول الله. وكانوا حين رأوا كثرتهم قالوا: لن نغلب اليوم عن قلة، فوقع بهم ما وقع من ابتلاء الله لقولهم ذلك.
فلما اختلط الناس، اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بغلته وأصلت السيف، حتى تراجع الناس، وكروا كرة رجل واحد.
أنا النبي لا كذب
قال العباس: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكنت امرءاً جسيماً شديد الصوت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين رأى ما رأى من الناس-: إليَّ أيها الناس، أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، فلم أر الناس يلوون على شئ، فقال: أي عباس، اهتف بأصحاب السمرة، فناديت: يا أصحاب السمرة ! يا أصحاب سورة البقرة ! فكان الرجل يريد أن يرد بعيره فلا يقدر، فيأخذ سلاحه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤم الصوت، فأتوا من كل ناحية: لبيك، لبيك، حتى إذا اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة استقبلوا الناس، فكانت الدعوة أولاً: يا للأنصار، يا للأنصار، ثم خلصت الدعوة: يا لبني الحارث بن الخزرج، وكانوا صبراً عند الحرب.
وفي صحيح مسلم: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات، فرمى بها وجوه القوم، ثم قال: انهزموا، ورب محمد، فما هو إلا أن رماهم، فما زلت أرى حدهم كليلاً، وأمرهم مدبراً. وانهزم المشركون
فيا عباد الله فاثبتوا
**وها هو الصدِّيق رضي الله عنه وأرضاه، عندما حدثت وفاة رسول الله صلى الله وعليه وسلم، قد ثبت ثبات الجبال الشم الرواسي، حيث خارت عزائم جل الصحابة، وفت في عضدهم، إذ قال المغيرة: يا عمر! مات رسول الله، فقال عمر: كذبت! بل أنت رجل تحوسك فتنة. إن رسول الله لا يموت حتى يفني الله المنافقين. فخرجا على الناس، وقام عمر يخطب الناس ويتوعد من قال مات بالقتل والقطع، ويقول: والله ما مات رسول الله، وليبعثه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم.(/1)
فلما اختلفوا في موته ذهب سالم بن عبيد إلى الصديق بمنزله وأخبره، وكان الصديق حين صلى الفجر ورأى رسول الله بخير انصرف إلى منزله، فجاء فكشف عن رسول الله فقبّله فقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا، ثم خرج وعمر يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس: فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ألا من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون، وقال: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين.
فنشج الناس يبكون، وقال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت أنه الحق، فعقرت حتى ما تقلّني رجلاي، وهويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله قد مات.
إنه الصدِّيق اتخذ الله معبوده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم دليله وإمامه، فرجح إيمانه.
فحفت به العلياء من كل جانبٍ كما حف أرجاءَ العيون المحاجرُ
واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير. فذهب إليهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. فقال حباب بن المنذر: لا والله لا تفعل، منّا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء، وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب دارا، وأعربهم حسبا، فبايعوا عمرا أو أبا عبيدة، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله، فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس، وذلك يوم الاثنين الذي توفي فيه رسول الله.
لما أشار بعض المسلمين على أبي بكر رضي الله عنه بألا يبعث جيش أسامة لاحتياجه إليه، قال: [[والله لو أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة، وأن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين؛ ما رددتُ جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللتُ لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو لم يبقَ في القُرَى غيري لأنفذته، أفأطيعه حياً وأعصه ميتاً! ]] فأنفذه.
يقول: [[لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت من أمره شيئاً أن أزيغ ]] فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
.................... فانقاد كُرهاً من أبى واستكبرا
مَن يخف سلطان ذي العرش المجيدْ خافه كل قريبٍ وبعيدْ
ثم أعلنها حرباً على المرتدين، فقيل له: [[إنهم يقولون: لا إله إلا الله، قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عَناقاً أو عِقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ]] فنصر الله به دين الله:
قاد السفينَ بجرأة ومهارة كالطَّود نحو مسيرة لا تُهْزَمُ
وارتدت العرب الغلاظ فأشفقتْ همم الرجال فصاح: هل مَن يفهمُ؟
والله لو منعوا عِقال نويقةٍ أدَّوه نحو المصطفى لن يَسلَموا
ومضى أبو بكر لغايته إلى أن أخضع المرتد وهو مرغمُ
هذا هو الإسلام في عليائه مُثُلٌ وأعلامٌ ودينٌ قَيِّمُ
ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وتلك سهلة بالدعوى واللسان؛ لكنها صعبة عند التحقيق والامتحان.
مستمسكاً بعرى العقيدة تابعاً ولغير شرع الله لا يستسلمُ
فيا عباد الله فاثبتوا
** لما أسلم عمر رضي الله عنه وأرضاه قال المشركون: [[صبأت، فقال عمر: كذبتم! ولكني أسلمت وصدَّقت، فثاروا إليه، فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وأعيى من التعب فقعد، فقاموا على رأسه وهو يقول: {افعلوا ما بدا لكم! أحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا ]، وحاله: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55].
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
الله يعلم أنا لا نحبكمُ ولا نلومكمُ ألا تحبونا
كلٌ له نية في بغض صاحبه بالله نبغضكم دوماً وتقلونا
الله أكبر! ما كان بين إسلامه رضي الله عنه وبين أن قاتلهم وقاتلوه، وقال: [ افعلوا ما بدا لكم] إلا سويعات عديدة، وحاله:
إذا كان قلبي لا يغار لدينه فما هو لي قلب ولا أنا صاحبه
إن أعداء الله ومبادئهم كذوات السموم؛ نحن معهم على افتراق وبراء وعداء حتى يدخلوا في ديننا.
هل لمحتم طيبة من حيةٍ؟! أو لمستم رقة من عقربِ؟!
إنَّا حين نسايرهم ولو خطوة واحدة فإنا نفقد الطريق إلى العلياء، ونتيه في بيداء الضلالة أذلاء
وليس يجهل ما ينوي الخصوم لنا إلا الجواميس أو شبه الجواميسِ(/2)
وحين نتميز ونفاصل ولا نلتقي إلا على نبع الوحي الصافي نكون بحق أجلاء الرفعة والعلاء، وأهل العطاء والسمو للسماء.
إن الطيور وإن قصصت جناحها
تسمو بفطرتها إلى الطيرانِ
فيا عباد الله فاثبتوا
أحمد والمعتزلة
أظهر المعتزلة القول بخلق القرآن في عهد هارون الرشيد، ولكن هارون وقف بالمرصاد أمام دعوته وقال: "بلغني أن بشر المريسي زعم أن القرآن مخلوق ولله علي إن أظفرني الله به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحد قط" وكان الأمين على صرامة أبيه، ولما جاء المأمون أقنعه المعتزلة فكرة خلق القرآن حتى حمل الناس على الإيمان بها بقوة السيف.
ومن يكُ أعوراً والقلب أعمى فكل الخلق في عينيه عورُ
وثبت أحمد ثباتا شديدا وعذبه المأمون، ثم عذبه المعتصم وسجنه أعواما عديدة، وهو ثابت لا يلين ولا يتراجع عن قولة الحق حتى نصره الله نصرا مؤزرا.
فيا عباد الله فاثبتوا
هاهو أخر قد آمن بالله حقًا، فأكسبه ذلك الإيمان عزة، جعل يكلم هشام بن عبد الملك الخليفة كلامًا غليظًا جافيًا، فقال هشام له: وتتكلم أيضًا في مجلسي؟! فقال: يقول الله –جل وعلا-: (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) أفنجادل الله جدالا، ولا نكلمك يا هشام؟! فما كان من هشام إلا أن قال: قل ما شئت، ثم انصرف راشدًا، فقال ما شاء وانصرف راشدًا بعزة المؤمن (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) إنها العزّة، أثر إيماني يظهر صاحبه الحق، لا يخشى دون الله أحدًا.
نحن نهدي الخلق زهراً وثماراً وسوانا يبعث النار ضراما
كل نمرود إذا أوقد ناراً عادت النيران برداً وسلاما
فيا عباد الله فاثبتوا
** وهاهو الأوزاعي كان واحد زمانه وإمام عصره وأوانه، وكان ممّن لا يخاف في الله لومة لائم، نهّاء على المنكر مقوالا بالحقّ لا يخاف سطوة العظماء، من مواقفه أيضا حديثه مع عبد الله بن علي الشيعي لما قدم الشام وقتل بني أميّة، فإنّه استدعى الأوزاعي، وعبد الله في جنده وسيوفهم مسلولة وقال له: " ما تقول في دماء بني أميّة"؟
قال: " قد كانت بينك وبينهم عهود؟ وكان ينبغي أن تفوا بها".
قال عبد الله: "ويحك أجعلتني وإياّهم لا عهد بيننا". يقول الأوزاعي: فأجهشت نفسي وكرهت القتل فذكرت مقامي بين يدي الله، فلفظتها فقلت: "دماؤهم عليك حرام".
قال هذه الكلمة أمام الجبار وسيوف رجاله مصلتة تريد أن تنال من دم الإمام، ولكن
ليس الليث من جوع يقادُ إلى جيف تحيط بها كلابُ
فغضب عبد الله بن علي الشيعي وانتفخت عيناه وأوداجه، و قال: " ويحك ولم؟"فقال له الأوزاعي: " قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ثيّب زان ونفس بنفس وتارك لدينه مفارق للجماعة".
قال: و يحك، أو ليس الأمر لنا ديانة؟ أليس كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أوصى لعلي؟
قال الأوزاعي: لو أوصى إليه ما حكّم الحكمين، فسكت واجتمع غضبا، يقول الأوزاعي: وجعلت أتوقّع رأسي يسقط بين يدي، فأومأ أن أخرجوه فخرجت.
إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سواهما حُلُم.
يا مفني العمر في التفتيش عن حلم لو كان يُدرَكُ ما كان اسمه الحلما(/3)
يا عقلاء الإسلام اقتلوا هذا الترابي الزنديق)
أو أودعوه مصحة للأمراض العقلية
لقد أقر الرجل بأقوال الكفر؛ فحق أن يُستتاب ثلاثة أيام ثم يُقتل. فإن قيل إن عقله قد ذهب، فلابد أن يدع مصحة للأمراض العقلية؛ ليتولى الأطباء إجراء الكشف على قواه العقلية ويحددون ما يحتاجه من جلسات كهربية أو غيرها من أنواع الدواء.
إن ذلك المخرف قد صرح بأقوال وأفعال تثبت عليه الكفر. وهو، إن لم يكن مجنونا، فقد تحققت فيه شروط تكفير المعيّن، وانتفت عنه موانعه. ويكفي:
1- أنه يزعم أن أبا البشر حواء وليس أدم !.
2- وإباحته للردة ، وعدم إقامة الحد على المرتد
3- وقوله عن سلمان رشدي : " لو كان عندنا في السودان لما حكمنا عليه بالردة
4- وأنه يدعو إلى توحيد الأديان على أساس الملة الإبراهيمية وتحت راية حزب يسميه الحزب الإبراهيمي !
5- زعمه أن اليهود والنصارى ليسوا كفاراً الكفر الإعتقادي !! إنما كفرهم من قبيل الكفر العملي .زعمه أن الصحابة ليسوا عدولاً كلهم.
6 - واستعماله للألفاظ القبيحة مع أنبياء الله عليهم السلام والصحابة الكرام رضي الله عنهم ؛ كقوله إن : " يونس شرد " " وإبراهيم كان " يبحث عن ربه " أو قوله عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم : " الرسول صلى الله عليه وسلم بشر مثلنا يوحى إليه ، ما حيفسر القرآن لهذا اليوم : لأنه لا يعرف هذا اليوم "!
7- إنكاره لعصمة الأنبياء ! وحصره العصمة في عصمتهم من الناس فقط .
8 - إنكاره لجهاد الطلب !
9 - وأنه لا يؤمن بنزول عيسي عليه السلام آخر الزمان !
10 -"قوله عن حديث " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم .. " بأنه : " يأخذ فيه برأي الطبيب الكافر ، ولا يأخذ فيه بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم " !
11 - وكقوله عن ابن عباس رضي الله عنهما " ابن عباس زروه ".
12-إباحته للغناء ، وتضليله الشباب بقوله : إن الاشتغال بالغناء والموسيقى عبادة !! ( كما في رسالته : حوار الدين والفن)
13- زعمه أن العقيدة لا ينبغي أن تكون سلفية! ).
** فيا أيها العقلاء المسلمون، أما من مطالبة ونصيحة لمن بيده القدرة والاستطاعة بتنفيذ حد الله في هذا الزنديق، أو القبض عليه وإيداعه المصحة؟؟
قال الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري، بعد أن أورد الحيث:
(حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال
أُتي علي، رضي الله عنه، بزنادقة فأحرقهم. فبلغ ذلك ابن عباس، رضي الله عنهما، فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعذبوا بعذاب الله"، ولقتلتهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه".) قال:
وعند الطبراني في الأوسط من طريق سويد بن غفلة " أن عليا بلغه أن قوما ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا , فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم ثم قال : صدق الله ورسوله "
وفي رواية: فلما كان اليوم الثالث قال لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك. فقال يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرروهم فخد لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر، وقال : احفروا فأبعدوا في الأرض. وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال : إني طارحكم فيها أو ترجعوا. فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قنبرا
وهذا سند حسن.
وقد وقع في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له " أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه , وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها " وسنده حسن. أهـ
وقد تعرض الشيخ علي الحلبي للترابي في كتابه " العقلانيون أفراخ المعتزلة العصريون"، حيث قال : ويؤكد الترابي في مقابلة أجرتها معه وكالة فرانس برس: انه لا ديانة ولا جنس الرئيس يمكن أن تطرحا أي مشكلة، ردا علي سؤال إن كان يمكن للسودان أن يختار رئيسا نصرانيا.
ويقول إذا كان هناك مرشح نصراني نزيه وقادر علي مقاومة التأثير الفاسد للمنصب الحكومي، وكان نزيها ولن يستخدم نفوذه ضد الآخرين، سأنتخبه. ويضيف كما انه لا توجد لدي مشكلة في أن انتخب امرأة .
ويقول الترابي: إن الناس لا يفهمون ما هي الشريعة. إنهم يعتقدون أنها نظام قانوني، لكنها في الحقيقة نمط حياة .
ويقول الترابي في كتابه : " تجديد الفكر الإسلامي " (ص: 26 ) : " أما المصدر الذي يتعين علينا أن نعيد إليه اعتباره كأصل له مكانته فهو العقل ... " !!
ولقد أداه نظره ( العقلاني ) هذا إلى اعتبار الاكتفاء بالكتاب والسنة (وهماً شائعاً ) فتراه يقول في الكتاب نفسه ( ص : 25 ) : " ومن المعوقات : هناك من يقول : بأن عندنا ما يكفينا من الكتاب والسنة وهذا وهم شائع ، إذ لا بد أن ينهض علماء فقهاء ، فنحن بحاجة إلى فقه جديد لهذا الواقع الجديد " !!
ما هو هذا الفقه الجديد ؟!(/1)
هل هو خارج عن الكتاب والسنة غير متصل بهما ؟!
أم صادر عنهما منبعث منهما ؟!
إن كان الأول ـ وهو ما يريده ـ فهو مردود مرفوض ! بل هو من أبواب الردة ، ـ نسأل الله العافية .
وإن كان الثاني ـ وهو ما وهمه ـ فهو إبطال لكلامه من أساسه ! بل انظر إلى تلك الباقعة العظيمة التي تقيأها هذا الترابي حيث يقول في محاضرة عنوانها " تحكيم الشريعة " ( مبيحاً ) الردة عن الإسلام : " وأود أن أقول : إنه في إطار الدولة الواحدة ، والعهد الواحد : يجوز للمسلم ـ كما يجوز للنصراني ـ أن يبدل دينه " !! والعياذ بالله تعالى! ولقد أنكر الترابي ـ فيما أنكر بأسلوبه العقلاني الوافد ـ حد الرجم ، كما نقله عنه الدكتور محمود الطحان في كتابه " مفهوم التجديد بين السنة النبوية وأدعياء التجديد المعاصرين " ( ص : 31 ) وكذا صاحب كتاب " الصارم المسلول " ( ص : 12 ) ثم تراه ينتقد ( منهج السلف ) والمنتسبين إليه إعلاء لمنهجه ( العقلاني ) ( التجديدي ) بقوله : " ولكن يتسمي بالسلفية آخرون يرون الدين متمثلاً في تاريخ المتدينين (!) فهم بحسن نية يتعصبون لذلك التاريخ ، وينسون أن مغزاه في وجهته لا في صورته ! ويقلدون السلف (!) لا في مناهجهم (!) وسننهم الأصولية (!) بل في شكل كسبهم المعين (!) ، ويعتبرون بالصحابة والتابعين حرف (!) أقوالهم وأعمالهم ، ويرون الاتباع لا في المضي على المنهج السالك قدماً (!) إلى الله بل في الموقف عند حد الأولين ومبلغهم ... " !!
بل انظر إلى قوله بعد ذلك مباشرة : " والغالب في الذين يرجعون إلى الصور السالفة في تطبيق الشريعة لا إلى مغزى أحكامها أنهم أهل ثقافة صاغها الانغلاق على القديم .. " !! لذلك ... أجاز ـ بانفتاحه على الحديث والجديد ـ الكفر بالردة عن الإسلام ـ كما سبق ـ !! وأنكر حد الرجم !! وجعل حد شارب الخمر " لا يتعدى الجلد بين عشرين وأربعين (!!) ولا يتعدى السجن نحو شهر أو أكثر من ذلك بقليل (!) وغرامة قليلة (!!) ) .
**عجيب فعلا ما يقوله هذا الكائن؛ إذ أن المعروف أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه و سلم - قد اكتفوا بالقرآن والسنة ، وكان كل حسب علمه وفهمه، وصلح أمرهم على ذلك فلما تباعد الزمان احتجنا للفقهاء ليبينوا لنا القرآن والسنة الصحيحة وهدي السلف في فهم الكتاب و السنة، واستقام بنا الحال ، إذ أن المراد في الإقتداء بالسلف الصالح هو العمل بالكتاب والسنة على الوجه الأقرب لفعل رسول الله وما أقر عليه أصحابه ، و هو نوع من التشبه الدال على الحب والإتباع .
أما عن تلك الخرافات حول المطالبة بفقه جديد فلقد تركنا رسول الله على البيضاء ، و أتم الله أمر الدين منذ 1400 عام تقريبا فلا نعرف أن الحلال مثلا قد يتحول في عصرنا إلى حرام ولا الحرام والفواحش تتحول إلى فضل وكرم ، ولا يمكن مثلا أن يصبح في الفقه الجديد الزنا وشرب الخمر من فضائل الأعمال ، والمعروف عندنا معشر العقلاء أن الحلال بين والحرام بين ، وأن علينا اتقاء الشبهات ، والسكوت عما سكت الشرع عنه ، واتباع الرسول - صلى الله عليه و سلم - سواء عرفنا سبب الأمر أو النهي أو لم نعرفه ، فالعاقل هو من سلم نفسه لله ، فالله أعلم بعباده ، و هو بذلك يجعل توكله على من لا حدود لعلمه و قوته ، و بذلك يفوز بدلا من أن يتكل على عقله الذي يؤكد أنه لن يدرك كل ما يدور حوله في الوجود - سواء ضاق و دق هذا الأمر أو اتسع و وضح - فالتوكل على الله ، والعبودية و التسليم له هي السبيل للنجاة في الدنيا و الآخرة(/2)
يا علماءنا اتحدوا
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
ابتعد غالب قادة الشعوب عن تطبيق شريعتنا، وذهبوا يستغيثون بمبادئ غربية وشرقية، وجربوا كل مذهب ومبدأ سلبيين على شعوبنا، الشيوعية والإلحاد والدكتاتورية الشرقية، والرأسمالية والإباحية [لتي سموها الحرية]والقومية الغربية معاملين شعوبهم معاملة التجارب الطبية على الفئران والقرود والخنازير، فقتلوا تلك الشعوب وحطموا معنوياتها، وأبعدوا كثيرا من أبنائها عن حقيقة دينها الحنيف، وحلوا ما كان بينها من روابط العقيدة والأخوة والاجتماع.
فأصبح كل شعب مكون من عدة قرى ومدن، ينظر إلى جاره المماثل له نظرة أجنبي لأجنبي، فتنافرت النفوس، وتحاقدت القلوب، وحمل الأخ سلاحه ضد أخيه، ورأى أعداء الإسلام هذه الشعوب وما تملكه من خيرات، شبيهة بجواهر ثمينة يرمقها السارق لا حرز لها ولا حامي.
بل وجدوا من أبنائها من اقتدى برئيس المنافقين، الذي والى المشركين واليهود في حب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام فأخذوا يترسمون خطاه في حرب الشعوب الإسلامية، ينادون الصليبيين واليهود: أن هلموا إلى قصعتنا الشهية فانهبوها، وهلموا إلى مقدساتنا فدنسوها، وهلموا إلى ديننا فاستأصلوه!
فأصبحت الشعوب الإسلامية، بقيادة زعمائها من جاكرتا إلى نواكشوط تتحكم فيها شرذمة تجمعت من آفاق الأرض تجمعا لم تنله في أحقاب التاريخ في قلب الأرض المباركة لهذه الأمة، هذه.
هذا حصل ويحصل، ونحن ندعو الله تعالى أن يعيد هؤلاء القادة إلى رشدهم ويجمعوا كلمتهم على الحق، ويعطوا الخطر اليهودي والصليبي حقه من مقاومته والدفاع عن دينهم وشعوبهم، بل وعن أنفسهم إذا أرادوا البقاء.
ولكن بقي عندنا أمل في أن لا يتمكن هذا التنازع وهذا التفرق إلى علماء الأمة الإسلامية وجماعاتهم ومفكريهم وأحزابهم، لأنهم يجب أن يكونوا قدوة لشعوبهم وشبابهم في جمع الكلمة واتحادها على الحق، متبعين النص من القرآن والسنة فيما اختلفوا فيه إن وجد، وإلا الاجتهاد والشورى بقواعدها وضوابطها فيما لا نص فيه، أو فيه نص يحتاج إلى اجتهاد في كيفية التطبيق.
وأن يحجزهم ذلك عن التنازع المؤدي إلى الفشل، والظهر أمام أتباعهم بمظهر التمزق وعدم الاعتصام بحبل الله تعالى، وهو في نفس الوقت مغر لأعدائهم من المحتلين والمغتصبين وأذنابهم الذين ظاهروهم ودعوهم إلى احتلال بلاد المسلمين.
ويسرنا كثيرا أن نرى علماءنا في العراق المسلم، مجتمعي الكلمة، متعاونين على تحقيق مصالح بلادهم، ويحزننا كثيرا أن نرى بينهم تفرقا واختلافا، مع تعاون ومظاهرة أعدائهم في الداخل والخارج عليهم.
ولقد اطلعت على خبر يحكي فتوى عدد منهم تقول:
64 إماما عراقيا مع الانضمام لقوات الأمن
http://www.islamonline.net/Arabic/news/2005-04/02/article01.shtml]
وخبر آخر في نفس الموقع، يقول:
هيئة العلماء تتبرأ من فتوى أم القرى
http://www.islam-online.net/Arabic/news/2005-04/02/article11.shtml]
وساءني ذلك كثيرا وساء كل مهتم بشئون المسلمين، ولا سيما ما يجري من أعداء الإسلام في العراق.
أيها العلماء في العراق، ألا تقدرون في هذه الفترة العصيبة، أن تفرزوا من الأطراف المختلفة، من تتوسمون فيهم التقى والعلم والورع أن يجتمعوا وتفوضوهم في الاجتهاد فيما أنتم فيه مختلفون وتزودهم بما عندكم من حجج ليتدارسوها، ويصلوا إلى نتيجة فيها تجمع كلمتكم، وتوحدكم بدلا من الفتاوى المتناقضة التي زادت قلوبنا جروحا على الجروح النازفة بسبب ما نراه من العدوان عليكم.
إذا كنا قد سئمنا من تنازع واختلافات زعماء الشعوب الإسلامية، فهل يليق بعلمائنا الذين هم قدوتنا أن يسيروا في نفس الطريق المحزن:
نحن لا نقول: إن الاختلاف لا يجوز أن يحصل بنيكم يا علماءنا فيما يحتاج إلى اجتهاد، ونعرف أن غالب الأمور السياسية والعسكرية ونحوهما هي من القضايا الاجتهادية القابلة للاختلاف، ولكن الذي لا يقبل الاختلاف انفراد كل فئة من الفئات المختلفة برأيها بدون تنسيق بينها وبين الفئة الأخرى اختلافا يجعل المختلفين يهدرون جلب مصالحهم ودفع مضارهم أمام عدوهم المشترك، وهذا مالا يرضاه الله تعالى من عباده المؤمنين، وبخاصة العلماء الذين تتبعهم الأمة:
وماذا عسانا أنقول لربنا إذا سألنا: ماذا فعلتم في تطبيق أمري ونهيي لكم عندما قرأتم قوله تعالى:(/1)
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
(105) آل عمران.
ألا تخافون على أنفسكم من أن تؤتى أمتكم من قبل تنازعكم المؤدي إلى الفشل:
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) الأنفال(46)
إنكم أحق من يتذكر هذه الآيات وما جاء في معناها من الأحاديث الثابتة، مثل قوله صل الله عليه وسلم في حديث
مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: قالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة ) سنن الترمذي (4/663) وقال: "قال أبو عيسى هذا حديث صحيح"
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)
وفي حديث ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية فقال يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا، فقال أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم... إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة) سنن الترمذي (4/465)وقال:"قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه وقد رواه بن المبارك عن محمد بن سوقة وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم"
وفي حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم –عندما بعثه ومعاذا إلى اليمن -قال لهما: (يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا) صحيح البخاري (3/1104)
إن أحباءكم يدعون لكم ليلا ونهارا، ويرجون أن يجمع الله كلمتكم على الحق وأن ينصركم على عدوكم فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم.(/2)
يا عيني فلتذرفي الدموع
مواعظ و أذكار لي أصحاب مسافرين معي قد تجهزوا وما تجهزت معهم ، لقد حملوا طيبات كثيرة وما حملت .... لا ، بل لي حمل أثقل كاهلي ... حمل يضر ولا ينفع .. فليت شعري ما الذي جعلني أحمل ما يضر ولا ينفع ؟
ثم ليت شعري إنَّ صحبي حولي أراهم قد حملوا الطيبات فسعدوا وارتاحوا ... أما نفوسهم فراضية مطمئنة ، وأما نفسي فحزينة متألمة..
كم مرة ٍ راودتني نفسي أن أكون معهم ؟
لكن خطواتي ثقيلة لا تتقدم نحوهم !!
فقلت لها يا نفسي إن لم تتحركي من أجل ما ينفعك فلا أقل من أن تتخلصي مما تحملين .
يا نفس لكم أثقلك ما تحملين ... يا نفس لكم ضرك وما نفعك... فلماذا تواصلين الحمل ؟
فلم تجبني..
فناديت : يا عيني فلتذرفي الدموع .
قرب وقت السفر واشتد الجمع له ، فمن حولي أمثال دوي خلية النحل من العمل والسعي الدءوب من أجل السفر .
نعم لأنه ليس سفرا ً مهما ً وفقط ، بل أهم سفر سنسافره جميعا ً ... إنه السفر للآخرة ، وهل هناك سفر أهم منه ؟
لا وألف لا ... إنه أهم سفر منذ ولدتنا أمهاتنا ... سفر ٌ لا رجعة فيه .. فحق له أن يكون أهم سفر في حياتنا .
ومع هذا فلم يحركني كل هذا ، فناديت يا عيني فلتذرفي الدموع .
تقاربت الأيام ولكن اليوم ليس ككل يوم..
أحس ذلك ولكن لا أدري لماذا ؟
لكن هال عيني ما رأت من هذا ؟ من هؤلاء ؟
أحقا ً هي النهاية ؟ هل بدأ السفر ؟
ما بال أطرافي قد بردت ؟
لقد أيقنت أنها النهاية ... نعم بدأ السفر ، ولكن أين الزاد ؟ أحقا ً سأرحل بلا زاد ؟ .... أحقا ً سأرحل بلا زاد ؟
لكن أشغلني أمرٌ آخر .. لقد وجدتني أحمل حملاً سيئا ... إنه فرصة للتخلص منه ، ولكن مالي لا أستطيع ؟
هل أنادي يا عيني فلتذرفي الدموع ؟ لكن حتى هذه لا أستطيع .
اللسان لا يتحرك ، والجسد كله هامد ، فلا إله إلا الله .
{ كلا إذا بلغت الترقي وقيل من راق وظن أنه الفراق } { فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ ٍ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} أفي هذه اللحظة توبة ؟ كلا وربي .
ما هذا ؟ وإلى أين ؟ إنه عالم جديد كل من يدخله يوزن بما معه من زاد .
لقد هالني ذلك عن النوم على التراب ، ومفارقة الأحباب ، لكن كل هذا يهون أمام الميزان ...
أين الزاد أين ؟ أين ؟
ولكن يا ويحي مما أحمل .. أتراني سأضعه في الميزان أيضا ً ؟
ياعيني فلتذرفي الدموع .
حتى إذا شاء الله أن تحق الحاقة وتقرع القارعة فإذ بالأرض قد زلزلت زلزالها ، وأخرجت أثقالها ، فقمت مع من قاموا حفاة عراة غرلا .
فيا لهول ما أرى ... إن منهم من يغطي العرق نصفه ومنهم يلجمه العرق ، ومنهم من يحمل أوزارا ً مثل الجبال ولكن أين؟؟
إنه يحملها على ظهره يسعى بها إلى الحشر .
ومنهم من يطوق أرضا ً ... في رقبته ولكن أي أرض ؟ إن شبرا ً من أرض الدنيا يطوق اليوم في الرقبة إلى سبع أراضين .
وها أنا كم أحمل ... فيا عيني فلتذرفي الدموع .
حتى إذا شاء الله ـ بعد وقوف طويل ـ أن يفصل بين الخلائق فتطايرت الصحف فآخذ ٌ باليمين وآخذ بالشمال ، فإلى أين هؤلاء ؟ وإلى أين أولئك ؟
أهل اليمين في نعيم مقيم ... فأطلق لخيالك العنان ليسبح في هذا النعيم حتى يصل إلى غايته ، فهناك تعرف أنه أعلى من ذلك كيف لا ؟ وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
أما أهل الشمال فـ { في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم } ... ينادى على أحدهم { خذوه فغلّوه ثم الجحيم صلّوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه }
فحدِّث ولا حرج ... تقرح العيون ، وتفطر القلوب ، وتهتك الجلود ، ولكن ... { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب }
فعفوك يا رب الأرباب .
أخي وحبيبي ..... أرجوك لا تنادي : يا عيني فلتذرفي الدموع ؛ فأمامك الفرصة بعد أن عدت من رحلتك تلك ـ إن شاء الله ـ بالعِبرة .
وإلى لقاء مع أهل اليمين أسأل الله أن يجمعنا هناك .(/1)
يا فارس الكرسي
عبد الرحمن العشماوي
هم أكسبوك من السباق رهاناً ... فربحت أنت وأدركواالخسرانا
هم أوصلوك إلى مُناك بغدرهم ... فأذقتهم فوق الهوان هوانا
إني لأرجو أن تكون بنارهم ... لما رموك بها، بلغت جنانا
غدروا بشيبتك الكريمة جهرة ... أبشر فقد أورثتهم خذلانا
أهل الإساءة هم، ولكن ما دروا ... كم قدموا لشموخك الإحسانا
لقب الشهادة مطمح لم تدخر ... وسعاً لتحمله فكنت وكانا
يا أحمد الياسين، كنت مفوهًّا ... بالصمت، كان الصمت منك بياناٍ
ما كنت إلا همة وعزيمة ... وشموخ صبر أعجز العدوانا
فرحي بنيل مناك يمزج دمعتي ... ببشارتي ويخفف الأحزانا
وثَّقت بالله اتصالك حينما ... صليت فجرك تطلب الغفرانا
وتلوت آيات الكتاب مرتلاًَ ... متأملاً تتدبر القرآنا
ووضعت جبهتك الكريمة ساجداً ... إن السجود ليرفع الإنسانا
وخرجت يتبعك الأحبة، ما دروا ... أن الفراق من الأحبة حانا
كرسيك المتحرك اختصر المدى ... وطوى بك الآفاق والأزمانا
علمته معنى الإباء، فلم يكن ... مثل الكراسي الراجفات هوانا
معك استلذ الموت، صار وفاؤه ... مثلاً، وصار إباؤه عنوانا
أشلاء كرسي البطولة شاهد ... عدل يدين الغادر الخوانا
لكأنني أبصرت في عجلاته ... ألماً لفقدك، لوعة وحنانا
حزناً لأنك قد رحلت، ولم تعد ... تمشي به، كالطود لا تتوانى
إني لتسألني العدالة بعدما ... لقيت جحود القوم، والنكرانا
هل أبصرت أجفان أمريكا اللظى ... أم أنها لا تملك الأجفانا؟!
وعيون أوربا تُراها لم تزل ... في غفلة لا تُبصر الطغيانا
هل أبصروا جسداً على كرسيه ... لمّا تناثر في الصباح عِيانا؟!
أين الحضارة أيها الغرب الذي ... جعل الحضارة جمرة، ودخانا؟!
عذراً، فما هذا سؤال تعطف ... قد ضل من يستعطف البركانا
هذا سؤال لا يجيد جوابه ... من يعبد الأهواء، والشيطانا
يا أحمد الياسين، إن ودعتنا ... فلقد تركت الصدق والإيمانا
أنا إن بكيت فإنما أبكي على ... مليارنا لما غدوا قطعانا
أبكي على هذا الشتات لأمتي ... أبكي الخلاف المرَّ، والأضغانا
أبكي ولي أمل كبير أن أرى ... في أمتي من يكسر الأوثانا
يا فارس الكرسي، وجهك لم يكن ... إلا ربيعاً بالهدى مزدانا
في شعر لحيتك الكريمة صورة ... للفجر حين يبشر الأكوانا
فرحت بك الحور الحسان كأنني ... بك عندهن مغرداً جذلانا
قدمتَ في الدنيا المهور وربما ... بشموخ صبرك قد عقدت قرانا
هذا رجائي يا ابن ياسين الذي ... شيدت في قلبي له بنيانا
دمك الزكي هو الينابيع التي ... تسقي الجذور وتنعش الأغصانا
روّيت بستان الإباء بدفقه ... ما أجمل الأنهار والبستانا!
ستظل نجماً في سماء جهادنا ... يا مُقعداً جعل العدو جبانا(/1)
يا فتاة
المحتويات
فهناك سؤال يفرض نفسه :
من أخاطب ؟
معذرة على المصارحة
ماذا يريدون منكِ ؟
ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
لماذا إهدار العاطفة ؟
ألهذا الحد ترخص المرأة ؟
قارني بين صورتين
من أولى بالقدوة
ألم تدخلي المصلى؟
قبل أن تذبل الزهرة
ما للفتاة والرياضة ؟
العذراء في خدرها
لا مجال للمخاطرة
صور من حياة المرأة في الغرب
أولاً: هكذا تهان المرأة
ثانيا: العلاقات غير الشرعية
ثالثا: العائلة
القرار بيدكِ أنتِ
فهناك سؤال يفرض نفسه :
لماذا الحديث إلى الفتاة ولماذا نخصها بالخطاب ؟ أعرف أن الإجابة موجودة لديكِ سلفا ولكن ماذا عَلَىَّ لو قلت إني أتحدث لك :-
1- لأنك أمي وهل خرج أحد للدنيا دون أم؟ وهل تنفس الصعداء قبل أن يعيش في بطن أمه شهورا؟ وبين أحضانها سنيات من عمره وهى ترعاه وتعاهده؟ وحين يشب طوقه ويصلب عوده يعود به الحنين، فطرة فطر عليها، يعود به الحنين ليلتصق بشريكة الحياة فالمرأة والرجل لصيقان يبدأ حياته وتاريخه من خلالها، ويودع الدنيا كذلك.
2- لأن الكثير يتحدثون عنك يا فتاة، ويرفعون شعار نصرة قضيتك فالأديب قد سخر شعره ونثره، والكاتب قد وظف قلمه، والصحفي قد استنفر قوته فالجميع أجلبوا بخيلهم ورجلهم ما بين كاتب ومفكر وعامل ومنفذ. الجميع نزلوا بثقلهم ليتحدثوا عنك يا فتاة، عن قضية المرأة وحقوق المرأة. ويعلو ضجيج وصخب الأصوات المأجورة ليذيب الصوت الصادق والناصح الذي لم تعد تسمعه الفتاة إلا خافتا.
ألم تسمعي يا فتاة ذلك الصوت القائل يوما من الدهر :-
حينما كنا صغاراً في الكتاتيب ***علمونا أن وجه المرأة عورة
والقائل :-
مزقيه ذات البرقع لا تخافي مزقيه
وابن بلدك القائل :-
محجبة تريك سفور جهل *** ومسفرة تريك حجاب علم
إنها أصوات لا أشك أنك تسمعينها وتقرئينها هنا وهناك. ويعلو ضجيجها ويرتفع صخبها، وكلها تدعو إلى دعوة واحدة، وتتحدث عن قضية واحدة هي قضيتك. لقد زعموا أنك مظلومة لقد زعموا أنك مهانة وزعموا أنهم يتحدثون باسمك ونقلوا وكالة دون موافقة صاحب الشأن ودون موافقة الوكيل فصار الجميع يتحدث ويبدئ ويعيد في قضية المرأة.
يا فتاة : يعلو ضجيج وصخب هذه الأصوات المأجورة ليذيب الصوت الصادق والناصح الذي لم تعد تسمعه الفتاة إلا خافتًا.
ألا يحق بعد ذلك للناصحين أن يرفعوا هاماتهم، وينادون بصوت مسموع رافعين الراية ليقولوا هاهنا الطريق يا فتاة وإياك وبنيات الطرق وأزقة الغفلة؟
3- ونتحدث إليك لأن النبي صلى الله عليه وسلم يوليك يا فتاة عناية واهتماما يليقان بمقامك ؛ ففي كل عيد يخطب فيه المسلمين، ينصرف إلى النساء، إلى العواتق وذوات الخدور ليحدثهن ويعظهن، وتستقل النسوة هذا الأمر فتطمع بالمزيد. وتتطلع إلى ما فوق ذلك ؛ فتأتى إحداهن إليه صلى الله عليه وسلم قائلة : ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا يوما من نفسك فيعدهن صلى الله عليه وسلم ويحدثهن حديثاً خاصًّا لا شأن للرجال به.
وحين نتصفح دواوين السنة ونقرأ ما سطر فيها، نرى الكثير من النصوص التي توصي بحقك ورعايتك والعناية بك، ولقد كان صلى الله عليه وسلم في مجمع عظيم في حجة الوداع يجعل قضية المرأة من أهم القضايا فيقول صلى الله عليه وسلم : " الله الله في النساء، اتقوا الله في النساء ". ويجعل النبي صلى الله عليه وسلم التعامل مع المرأة معيارًا تقاس من خلاله خيرية الرجل فيقول : صلى الله عليه وسلم "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي ".
بل إن الأمر يتجاوز مجرد هذا التوجيه لنرى هديه صلى الله عليه وسلم في المكانة التي يعليها المرأة. فيحبس صلى الله عليه وسلم الجيش لماذا ؟ لأن زوجه عائشة رضي الله عنها قد فقدت عقدًا لها. فيأتي إليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فينتهرها فيقول : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، وحين قام البعير وجدوا العقد تحته. فنزلت آية التيمم. فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
ويرتفع شأن المرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم. فتأتي أم هانئ رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه سلم فتقول: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم زعم ابن أختك أنه قاتلُ رجلاً قد أجرتُه. فقال صلى الله عليه وسلم :"قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
فللمرأة مكانة وقيمة يرفعها إليها النبي صلى الله عليه وسلم فتصبح كلمتها نافذة على المسلمين، وحين تجير رجلاً فتقبل إجارتها ولا يسوغ لأي امرئ أيًّا كان أن يغفل جوار هذه المرأة.(/1)
4- ونتحدث إليك لأنك أم المصلحين، والمجددين. أقرأت سير المجاهدين الصادقين. وهل خفيت عليك صفحات العلماء العاملين، تأملي في التاريخ وارفعي الرأس وانظري إلى سماء أمتك لتري هناك نجوما تلوح في الأفق ساهمت في صياغة تاريخ الأمة وصناعة مجدها، وخطت صفحاته البيضاء. فليس يغيب عن ناظريك أبداً اسم الشافعي وعمر بن عبد العزيز وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم ممن حاز قصب التجديد وأخذ منه بنصيب وافر. ولن تنسَيْ سير نور الدين الشهيد، أو صلاح الدين، أو الغزنوي أو غيرهم ممن حمل روحه على كفه وسار في ميدان الوغى وشعاره ولسان حاله يقول :
أذا العرش إن حانت وفاتي فلا تكن *** على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن أحن يومي سعيداً بصحبة *** يمسون في فج من الأرض خائف
يتغنى بها صادقا من قلبه، وقد صفا لإخوانه أهل الإسلام وغلا مِرجله على أهل الأوثان. وهاهى صفحات سيرة أبى حنيفة ومالك وأحمد والعز بن عبد السلام وغيرهم كثير ممن أراد الله بهم خيرا ففقههم في الدين فساروا ينشرون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم. وقبل الجميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يا فتاة كم تهزك هذه الأسماء هزا، وكم تطرب أذنك ويتشنف سمعك حين تسمعين بها. لكن لا تنسي أن أولئك وغيرهم كان لكل منهم أم برة صادقة طالما دعت الله عز وجل أن يجعل ابنها قرة عين لها، وكان له شريكة حياة يسكن لها ويطمئن إليها وهي تقول له كل صباح والله لا يخزيك الله أبداً، وتحتمل اللأواء معه وتصبر وتصابر وكانت خير زاد له ومعين.
فإذا كنت أنت أم الدعاة وأم المصلحين، وأنت بعد ذلك الزوجة الوفية لهم فيحق لنا يا فتاة أن نخاطبك ونخصك بالحديث.
من أخاطب ؟
يافتاة :- من أخاطب في هذه الرسالة ؟ ولمن أتحدث ؟
إنى أخاطب الفتاة الحصان الرزان، الطاهرة العفيفة. فتاة ولدت من أبوين فاضلين، وعاشت في بيت محافظ تستيقظ وتنام وتغدو وتروح وهي تسمع الدعاء لها بالستر والعافية. ولكنها مع فتن العصر وصوارفه، ومع الغربة الحالكة بدأت تنظر ذات اليمين والشمال، وتلتفت إلى الوراء، فترفع سماعة الهاتف لتخاطب شابًّا لم تعرفه إلا من كلامه، وتسهر أحيانا على فلم ينسخ من ذاكرتها كل صور البراءة والعفة لتتراءى أمام ناظريها مظاهر السفور والعلاقة المحرمة.
فتعيش في دوامة من الصراع، فتسمع تارة هذا الصوت النشاز، الذي يدعوها إلى الارتكاس في الحمأة والتخلي عن كل معاني العفة. وتسمع أخرى الصوت الصادق يهزها من داخلها هزًّا عنيفاً ليقول لها رويدك فهو طريق الغواية وبوابة الهلاك، وتتصارع هذا الأصوات أمام سمعها وتتموج هذه الأفكار في خاطرها.
إنها تؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان، وتعرف الجنة والنار، وتؤمن بالحلال والحرام، ولكن الصراع مع الشهوة قد رجح لغير كفتها.
ومع ذلك كله فقد رزقت أباً غافلا قد شغل بتجارته وعلاقته مع أصدقائه وزملائه، وأمًّا بعيدة عنها كل البعد لا يعنيها شأنها ولاتشغلها قضيتها، ولم تعتد أن تتلقى منهم الابتسامة الصادقة والكلمة الوادة، ولم تر منهم القلب الحنون، ولم تر منهم من يفتح ذراعيه لها، وحينئذ وجدت بغيتها وضالتها في صاحبتها صاحبة السوء التي تلقاها في المدرسة، وربما كانت الضالة في شاب تائه غاو ضال يغويها بمعسول الكلام.
يا فتاة :- إن كنت كذلك فما أجدرك أن نخاطبك، وما أجدرك أن تقدِّري موقفي، فاصغَيْ لصوتي وحكَّمي عقلك، فإن سمعت خيرا فحيهلاً، وإن كان غير ذلك فأنت وما تريدين. أما إن كنتِ من أهل الصلاح والاستقامة فاسمعي ما أقول وكوني رسولة خير، وترجمان صدق لمن وراءك وأسهمي معنا في إبلاغ هذا الصوت الذي أصبح نشازا قد اختفي تحت ركام الأصوات الهائلة التي تدعو الفتاة إلى الغواية والضلال والانحراف، والتي صارت تتاجر بقضية المرأة وحيائها وعفتها، بل صارت تتاجر بحياة الأمة وعفتها وعفافها. لقد اختفت الأصوات الناصحة الصادقة، وبقيت حبيسة تحت هذا الركام من آلاف المجلات الوافدة والمسلسلات الساقطة، والأصوات التي تعلو هنا وهناك، والتي تدعو الفتاة والشباب جميعاً إلى هذا الطريق وتقول لهم بلسان الحال والمقال هيت لكم.
يا فتاة :- لست أتحدث من فراغ، ولا أبني قصورا في الرمال بل أتحدث عن واقع رأيته ولمسته، وحدثني عنه الثقات. فقد قرأت بعيني رسالة عتاب على جفاء صديق لم يستقبلها بالأحضان، واعتذر عن مبادلة القبلات فعاشت جحيماً لا يطاق لتكَدُّرِ خاطر من كان لا يزول عنها الهم إلا بسماع صوته.
نعم قرأت تلك الرسالة التي سطرَتْها أناملها لصديق السوء. والرسالة الأخرى التي كانت من شاب لم يدرك قيمة عمله ومهنته وما استؤمن عليه فسطر رسالة غرام مكتوبة بالآلة الكاتبة، وعلى ورق رسمي ليرسلها إلى صديقته. وسمعت الرواية بسند متصل رجاله ثقات عن مكالمة هاتفية تفيض عاطفة وقد علا نشيج الفتاة بالبكاء وهى تسمع التهديد بالقطيعة واختيار البديل فصاحبها يعرف عشرين فتاة غيرها سيختار أوفاهن له، وما أبعده عن الوفاء !!(/2)
إنها صور كثيرة يا فتاة، لا أظن أني - مهما بلغت من الإحاطة، وحفظت من النماذج - أحيط بما لم تحيطين به، أو أدرك مالا تدركين.
معذرة على المصارحة
يا فتاة :- إن مبدأ المبالغة، واتهام الناس أن عهودهم قد مرجت، ووصم الفتيات أن عفافهن قد اندرس. إن هذا المبدأ مرفوض جملة وتفصيلا، فلا يزال في الناس بقايا من خير. وإن الحديث عن أخطاء شخصية وفضائح لفلانة أو فلان هو خرق لسياج العفة في المجتمع وإشاعة للفاحشة.
ولكن في مقابل ذلك لا يسوغ أن نتغافل ونتعامى بحجة أن المجتمع بخير، وأننا أفضل من غيرنا إذ أن هذه اللغة قد ولى وقتها إلى غير عودة.
يا فتاة :- فلنكن صرحاء صراحة منضبطة بضوابط الشرع، وواضحين وضوحا محاطا بسياج الحياء والعفة، لتكون خطوة للتصحيح ونقله للإصلاح.
وهاهنا لن أتحدث عن الأسباب وتحليل الظاهرة إنما هي دعوة عاجلة للمراجعة، وإعادة الحساب. إن غاية ما أريد أن أقوله في هذا المجلس هي الدعوة هي دعوة أرفع بها صوتي لكل فتاة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تعود إلى طريق الاستقامة والصلاح، وأن تسلك الطريق التي خلقها الله عز وجل من أجله واختارها سبحانه وتعالى لتكون سائرة عليه، ولتكون أمًّا للأجيال. هذا هو ما نريد أن نصل إليه من خلال هذا الحديث، ومن ثمَّ فلن نفيض في الحديث عن الأسباب ومظاهر الانحراف والخلل ؛ إنما هي إلمامة عُجلى نضم بعد ذلك صوتنا فيها إلى أصوات الناصحين والمنادين بضرورة العودة إلى الطريق وتصحيح المسار.
ماذا يريدون منكِ ؟
يا فتاة :- لقد رأيتيه في السوق، وعند بوابة المدرسة، وسمعتِ صوته عبر جهاز الهاتف وربما التقيتِ معه وسمعت الألفاظ المعسولة والكلمات التي تسيل رقة وعاطفة، مصحوبة بالأيمان المغلظة على صدق المحبة وعمق المودة، وقد تكون يده قد خطت رسالة لكِ تفيض بمعاني العشق والغرام. وربما دار في خاطرك أن هذا زوج المستقبل.
يا فتاة :- بعيدا عن العاطفة، وعن سرابها الخادع، كوني منطقية مع نفسك واطرحي هذا السؤال، ماذا يريد ؟ ما الذي يدفعه لهذه العلاقة ؟ إن الصراحة خير من دفع الثمن الباهظ في المستقبل ماذا يقول لزملائه حين يلتقي بهم ؟ وبأي لغة يتحدث عنك ؟
إننى أجزم يا فتاة أنك حين تُزيحين وهم العاطفة عن تفكيرك فستقولين وبملء، صوتك إن مراده هى الشهوة والشهوة الحرام ليس إلا.
يا فتاة :- ألا تخشين الخيانة ؟ أتُرين هذا أهلا للثقة ؟ شاب خاطر لأجل بناء علاقة محرمة، شاب لا يحميه دين أو خلق أو وفاء، شاب لا يدفعه إلا الشهوة أولا وآخراً أتأمنينه على نفسك بعد ذلك؟
لقد خان ربه، ودينه، وأمته ولن تكوني أنت أعز ما لديه، وما أسرع ما يحقق مقصوده لتبقي لا سمح الله صريعة الأسى والحزن والندم .
ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
يا فتاة :- هبي أنك قد بنيت علاقة مع فلان من الناس، وزادت المودة، وقويت العلاقة حتى صار خليلا وصَفِيًّا تبثينه الأشجان، وتأسين لفراقه، وتحزنين لوداعه ولكن ألم تحدثي نفسك يوما من الأيام بالمستقبل.
ألم تسمعي أن هناك من ندمت أشد الندم، وتمنت أنها لم تعرف فلاناً، ولم يمر طيفه بخيالها ؟. وإن لم تكن ندمت في الدنيا فقد تقول يوم القيامة ((ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً)).
لماذا إهدار العاطفة ؟
يا فتاة :- إن الله حكيم عليم ما خلق شيئا إلا لحكمة، ولا قضى قضاء إلا وفيه الخير. علم ابن آدم أو جهل.
لقد شاء الله بحكمته أن تكون المرأة ذات عاطفة جياشة تتجاوب مع ما يثيرها لتتفجر رصيدا هائلاً من المشاعر التي تصنع سلوكها أو توجهه. وحين تصاب الفتاة بالتعلق بفلان من الناس قرب أو بعد فأيُّ هيام سيبلغ بها. فتاة تعشق رجلا فتقبل شاشة التلفاز حين ترى صورته، أو أخرى تعشق حديثه وصوته فتنتظره على أحر من الجمر لتشنف سمعها بأحاديثه. وحين تغيب عن ناظرها صورته، أو تفقد أذنها صوته يرتفع مؤشر القلق لديها، ويتعالى انزعاجها فقد غدا هو البلسم الشافي.
يا فتاة :- بعيدا عن تحريم ذلك وعما فيه من مخالفة شرعية، ماذا بقي في قلب هذه الفتاة من حب لله ورسوله، وحب للصالحين بحب الله؟ ماذا بقي لتلاوة كلام الله والتلذذ به؟ أين تلك التي تنتظر موعد المكالمة على أحر من الجمر في وقت النزول الإلهي حين يبقى ثلث الليل الأخير عن الاطراح بين يدي الله والتلذذ بمناجاته؟
بل وأينها عن مصالح دنياها، فهي على أتم الاستعداد لأن تتخلف عن الدراسة من أجل اللقاء به، وأن تهمل شؤون منزلها من أجله.
بل وما بالها تعيش هذا الجحيم والأسى فيبقى قلبها نهباً للعواطف المتناقضة والمشاعر المتضاربة.
فما في الأرض أشقى من محب *** وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حال *** مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم *** ويبكي إن دنوا حذر الفراق
إن هذا الركام الهائل من العواطف المهدرة ليتدفق فيغرق كل مشاعر الخير والحب والوفاء للوالدين الذين لم يعد لهما في القلب مكانة.(/3)
ويقضى على كل مشاعر الحب والعاطفة لشريك العمر الزوج الذي تسكن إليه ويسكن إليها.
وبعد حين ترزق أبناء تتطلع لبرهم فلن تجد رصيدا من العواطف تصرفه لهم فينشأون نشأة شاذة ويتربون تربية نشازا.
يا فتاة :- العاقل حين يملك المال فإنه يكون رشيدا في التصرف فيه حتى لا يفقده حين يحتاجه. فما بالك تهدرين هذه العواطف والمشاعر فتصرفيها في غير مصرفها وهى لا تقارن بالمال، ولا تقاس بالدنيا؟
يا فتاة : لقد خصك الله سبحانه وتعالى بهذه العاطفة والحنان وهذه الرقة وهذا التجاوب مع هذه المشاعر لحكمة يريدها سبحانه وتعالى ؛ ليبقى هذا رصيدا يمد الحياة الزوجية بعد ذلك بماء الحياة والاستقرار والطمأنينة رصيداً يدر على الأبناء والأولاد الصالحين حتى ينشأوا نشأة صالحة، فما بالك تهدرين هذه العواطف لتجني أنت وحدك الشقاء في الدنيا؟ فتارة تشتاقين إلى اللقاء، وأخرى تبكين خوف الفراق والأسى، وأخيرا تضعين يدك على قلبك خوف النهاية والفضيحة، خوف هذه النهاية المؤلمة، التي أهدرت عواطفك وأهدرت أعز ما تملكين من أجل أن تصلي إليها .
ألهذا الحد ترخص المرأة ؟
يا فتاة :- مظهر لا أشك أنك ترفضينه غاية الرفض، وتمقتينه غاية المقت، إنه يمثل إهدارا لشخصيتك وإهانة لمقومات أنوثتك، إنه تحويل للمرأة التي كرمها الله سبحانه وتعالى وجعل لها حقا ومنزلة وأوصى ببرها وحسن صحابتها وربط ذلك برضاه سبحانه، وقرن عقوقها بالشرك به وعده من أكبر الكبائر.
أي إهدار رخيص لقيمة المرأة أن تُجعل وسيلة للدعاية والإعلان لترويج السلع والمنتجات. فهل تصل قيمة الفتاة عند هؤلاء أن توضع صورتها على علبة للصابون أو المناديل؟ وما معنى أن تزين أغلفة المجلات بصورة فتاة جميلة، أليس هذا وسيلة للإغراء والإثارة ولترويج المطبوعة ؟! ألا تشعرين يا فتاة أن في هذا إهانة وتحويلاً لك إلى مصدر للثراء ولجمع المال أيًّا كان مصدره.
لقد بدأت حتى أفجر الممثلات في الغرب يشعرن بسقوط المرأة أمام قدمي الرجل ونفسيته الجشعة فقد نشرت إحدى الصحف أن ممثلة فرنسية بينما كانت تمثل مشهدا عارياً أمام الكاميرا ثارت ثورة عارمة وصاحت في وجه الممثل والمخرج قائلة: أيها الكلاب، أنتم الرجال لا تريدون منا نحن النساء إلا أجسادنا؛ حتى تصبحوا من أصحاب الملايين على حسابنا ثم انفجرت باكية. لقد استيقظت فطرة هذه المرأة في لحظة واحدة على الرغم من الحياة الفاسدة التي تغرق فيها، استيقظت لتقدم الدليل القاطع على عمق المأساة التي تعيشها المرأة التي قالوا عنها إنها متقدمة.
قارني بين صورتين
الصورة الأولى :- شاب مستقيم محافظ على طاعة مولاه، قد سخَّر وقته وجهده لعبادة ربه، وأفنى شبابه لطاعته. والثاني شاب تائه زائغ تقيمه شهوته وتقعده. الأول تعرض له الفتنة، وتبدو أمام ناظريه مظاهر الإغراء والإثارة فيعرض عنها، ويغض بصره، بل وينأى عن مواقعها، إنه كالآخرين لديه شهوة ولديه العواطف لكنه يشعر أنها مأسورة بإطار الشرع ومحاطة بسياجه. تحادثه الفتاة وتنبري أمامه وتسعى لإيقاعه، لكن لسان حاله يقول ((معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي)).
والثاني ينهار أمام شهوته ورغبته؛ فيقضي سحابة نهاره في التسكع في الأسواق وأمام التجمعات النسائية، في قراءة مجلة داعرة، أو البحث عن صورة فاتنة. ويمضي ليلة عند سماعه الهاتف أو مقابل فيلم ساقط ومشهد داعر.
يا فتاة : كوني واقعية، ومنطقية واحكمي بعيداً عن العاطفة، أيهما أكثر رجولة؟ ومن أحق بالثناء والإعجاب، الشاب الذي ينتصر على شهوته ويستعلي على رغبته استجابة لمرضاة الله؟ أم الشاب الذي ينهار أمام داعي الشهوة ويسعى لتحقيقها على أشلاء كل خلق وفضيلة؟
من أولى بالقدوة
يا فتاة : لكل أمة تاريخ تفخر به، ولكل امرئ مجد ينافح عنه ويتطلع إليه، وتتحكم ثقافة المرء وخلفيته الفكرية في اختيار المحتوى التاريخي الذي يفتخر به وينتمي إليه. فهناك من غاية التراث لديه موروثات قديمة، ومقتنيات الآباء والأجداد من الأدوات و الأواني و الأثاث. وهناك من يشعر أن المنهج، والفكر، والمبدأ أثمن من هذا كله، فيعتبر أن هذا هو تراثه الحقيقي.(/4)
يا فتاة : حين نطبق هذه القاعدة على الفتيات فسنجد الصورة نفسها، فمنهن من لا تذكر من التاريخ إلا روايات جدتها وحكاياتها قبل النوم، وهناك من ترى التراث في إناء وموروثات قديمة، ومنهن من تمتد في التاريخ امتداداً أفقيًّا مع الجيل الحاضر والأمم المعاصرة؛ فترى قدوتها في عارضة أزياء كافرة، أو ممثلة فاجرة، أو مغنية ساقطة. ومنهن من تمتد امتداداً رأسيًّا لترى قدوتها في أم عمارة نسيبة بنت كعب، أو ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، أو في اللواتي أثنى عليهن الله ((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً)) وقال تعالى :((قانتات تائبات عابدات سائحات)). ويتجاوز هذا المدى ليدرج ضمن هذه القائمة امرأة فرعون :((إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين)).
يا فتاة : أدعوك مرة أخرى لتحكمي وبمنطق العقل والموضوعية ؛ من أولى بالقدوة ؟ ومن الأحق بالأسوة ؟.
يا فتاة : لو وضع لك الخيار أن تكوني كإحدى الطائفتين فأين أراك تختارين؟ حزب عائشة وزينب وأسماء وآسية. أم حزب عارضات الأزياء والممثلات؟
يا فتاة : حين يهديك عقلك الراشد إلى اختيار أحد الحزبين، وخير الطائفتين، فسوف تسعين حتماً للاقتداء بمن تختارين، والسير في ركابه، وإن لم تصلي النهاية التي وصلن إليها، إلا أنك في الطريق.
واليك النهاية التي تصل إليها هذه الساقطات:
إحدى الممثلات الساقطات. الممثلة الراحلة كما يقال مارلين منرو نالت المال الذي تستطيع أن تحصل به على كل شيء، والشهرة التي جعلت اسمها وصورتها تملأ صحف العالم، والجمال الذي يشد أنظار الرجال إليها ويجذبهم نحوها، لقد وجد المحقق الذي درس قضية انتحار هذه الممثلة الشهيرة رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في بنك منهاتن في نيويورك، فتح المحقق الرسالة وجدها مكتوبة بخط مارلين منرو نفسها وهي موجهة إلى فتاة تطلب نصيحة مارلين عن الطريق إلى التمثيل فتقول في رسالتها إليها : احذري المجد ، احذري كل من يخدعك بالأضواء ، إنني أتعس امرأة على هذه الأرض لم أستطع أن أكون أمًّا. إني امرأة افضل البيت ، أفضل الحياة العائلية على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة بل إن هذه الحياة لهي رمز سعادة المرأة بل الإنسانية .انتهى كلامها.
وصرح بعض النقاد بأن الجاني هو كل فرد في المجتمع الغربي. قال أحدهم في إيطاليا إنها لم تنتحر نحن الذين قتلناها نحن الذين نشاهد الأفلام ونقرأ المجلات، بل اعتبرها أديب آخر إنسانة لم تطق استمرار العيش في قاذورات تلك الحضارة، ولم تجد مفرا من موتها اليومي إلا بالموت النهائي.
نعم لقد وجدت هذه الممثلة في الانتحار خلاصا من شقائها وتحررا من واقعها ونجاة من مستغليها والمثرين على حساب أنوثتها. قارني بين هذه الصورة وبين صورة تلك المرأة التي تقول :
( رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين ).
ألم تدخلي المصلى؟
يا فتاة : ألم تنقلك قدميك إلى المصلى ؟ تفضلي علينا بدقائق من وقتك وادلفي خطوات إلى مصلى الكلية، إلى حيث يجتمع ثلة من الصالحات القانتات، وألقي عليهن نظرة عاجلة فإحداهن تقرأ القرآن، والثانية تصلي الضحى، والثالثة في مجلس علم وذكر. في حين يتحلق غيرهن على موائد اللحوم البشرية. واحتفظي بهذه الصورة في الذاكرة.
وحين تعودين إلى المنزل وتستلقين على الفراش تفضلي على نفسك بدقائق فاسترجعي تلك الصورة، وقارني بينها وبين فتاة تقف عند بوابة المدرسة، أو أمام محل تجاري وهي تسارع خطاها، وأنظارها في كل اتجاه هل جاء صاحبها أم لا؟ ثم هل يراكم من أحد؟ أو بين تلك التي تتصفح مجلة ساقطة، أو تحملق أمام الشاشة أو تمسك بسماعة الهاتف.
بالله عليك أيهما أهنأ عيشاً، وأكثر استقراراً؟ أيهما أولى بصفات المدح والثناء، تلك التي تنتصر على نفسها ورغبتها، وتستعلي على شهواتها، وهي تعاني من الفراغ كما تعانين، وتشكو من تأجج الشهوة كما تشتكين. أم الأخرى التي تنهار أمام شهوتها؟
يا فتاة : تساؤل يطرح نفسه ويفرضه الواقع : لماذا هذه الفتاة تنجح ولا أنجح أنا ؟ لماذا تجتاز هذه العقبات وأنهزم أمامها ؟.
أليس هذا أكبر دليل ودافع لك أنك أنت قادرة على أن تسيري في ركاب التائبات القانتات العابدات الصالحات؟ أنك قادرة على أن تودعي حياة الغفلة والإعراض؟ وهاأنت ترين نموذج القدوة أمامك، بعيدا عن أن نفتش لك صفحات التاريخ، أو أن نطلب منك العودة بالذاكرة إلى الوراء. وها هي صورة شاخصة أمام عينيك ترينها كل صباح في المدرسة ترينها كل مساء في مناسبات عائلية أو مناسبة أفراح، ترين هذه الصورة وأجزم أنك وأنت تواجهينها بسخرية لاذعة والكلمة الجارحة أنك تقولين من الداخل كلاما آخر غير هذا كله.(/5)
فلماذا لا تكونين صريحة ؟ وتعلني هذا الكلام الذي بداخلك؟ لماذا لا تفكرين مرة أخرى بمنطق العقل كيف تستطيع هذه الفتاة السير في هذا الطريق ولا أستطيع أنا؟
إن كل ما تطرحين من عائق، أو تتوهمين من عقبة، أو تفتعلين من حاجز دون طريق الاستقامة والصلاح. إن هذا كله موجود لدى هذا الصنف من الفتيات، وربما كان أكثر.
قبل أن تذبل الزهرة
يافتاة : هاأنت تتطلعين في المرآة فترين صورة وجه وضيء يتدفق حيوية وشباباً، هاأنت تغدين وتروحين وأنت تتمتعين بوافر الصحة وقوة الشباب.
ولكن ألم تزوري جدتك يوماً، أو تري عجوزاً قد رق عظمها، وخارت قواها، لقد كانت يوماً من الدهر شابة مثلك، وزهرة كزهرتك، ولكن سرعان ما مضت السنون وانقضت الأيام فاندفنت زهرة الشباب تحت ركام الشيخوخة، ومضت أيام الصبوة لتبقى صورة منقوشة في الذاكرة؟ وهاأنت يا فتاة على الطريق، وما ترينه من صورة شاحبة وشيخوخة ستصيرين إليها بعد سنيات.
إذاً فكيف تهدرين وقت الشباب وزهرته، وتضيعين الحيوية فيما لا يعود عليك إلا بالندم وسوء العاقبة؟
يا فتاة لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم صلى الله عليه وسلم شاباً نشأ في طاعة الله عز وجل والخطاب للرجال تدخل فيه النساء، إذا فممَّن يظل الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله شاب نشأ في طاعة الله، أو فتاة نشأت في طاعة الله عز وجل، ومتى هذا الوعد ؟ ومتى هذا النعيم ؟ إنه في يوم تدنو الشمس فيه من الخلائق حتى تكون منهم على قدر ميل، فيعرقون ويذهب عرقهم في الأرض سبعون ذراعا؛ فيرتفع عرقهم في الأرض، فمنهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما.. فهل فكرت أيتها الفتاة أن تكوني من اللواتي في عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله؟
ما للفتاة والرياضة ؟
يا فتاة : هل صحيح ما سمعنا عنك، أنك قد لا تحضرين للدراسة حين يكون هناك مباراة هامة، وأحياناً تستأذنين من المحاضرة لتتصلي بالهاتف فتسألي عن أخبار المباراة ومن الفريق المنتصر؟ وأنك تعجبين بلاعب أو رياضي ماهر، فيزيد حد الإعجاب عن المعقول، ليُتَرْجَم إلى تصرفات شاذة، ومسالك غير منضبطة.
يا فتاة : اللهو المباح المنضبط من حق كل إنسان رجلاً كان أو امرأة لكن هل العناية بالرياضة تليق بأنوثة المرأة وطبيعتها ؟! أم أنها نشاز وشذوذ عما فطرها الله عليه.
فهل يليق بمربية الأجيال، وأم الدعاة، ومنجبة القادة أن تكون هذه نهاية اهتماماتها وغاية طموحاتها ؟.
يا فتاة : فاز الفريق وانتصر وحصل على كذا وكذا من النقاط وكذا وكذا من الأهداف فماذا حصل ؟ وأي ثمرة جنتها الأمة وحققتها وراء ذلك؟ وماذا ستحصل عليه الفتاة حين تشغل نفسها بذلك إلا إهدار الوقت، والتلاعب بالمشاعر والعواطف، ومخالفة طبيعة الأنوثة والأمومة؟
العذراء في خدرها
يا فتاة : يمتدح الرجال بالنخوة والشجاعة والكرم، وأما المرأة فتمدح بالحياء وحين يوصف الرجل بالحياء يشبه بالعذراء.. ولهذا كان صلى الله أشد حياءً من العذراء في خدرها، أتظنين يا فتاة أنك حين تطيلين اللسان وترفعين اللهجة، وحين تزيلين عنك غشاوات الحياء أتظنين أنك تبلغين مبلغاً عالياً سامياً أم أنك تضحين بشيء من أغلى ما تمدحين وتوصفين به؟
لا مجال للمخاطرة
قد يقود الفراغ - وربما الفضول - الفتاة لمكالمة هاتفية خاطفة تكون بداية مأساة لهذه الفتاة:-
1– فإما أن : يعرف ذلك أحد الوالدين.
2- أو أن يتم اللقاء والفضيحة وتدمير المستقبل.
في مجلة مرآة الأمة الصادرة بتاريخ 22/7/1987م نقرأ هذه المأساة " أنا فتاة أبلغ من العمر التاسعة عشرة، في السنة الأولى في الجامعة اعتدت أن أراه في ذهابي وعند عودتي من الجامعة، في كل مرة يبادلني التحية، وتصادف أن التقينا في مكان عام، وشعرت معه بمعنى الحياة، تعاهدنا على الزواج، ثم تقدم لخطبتي، وعشت أياماً سعيدة.
وفي ذات يوم حدث بيني وبينه لقاء فقدت فيه عذيرتي ووعدني أن يسرع بالزواج ، وبعد عدة شهور من لقائنا اختفي من حياتي وأرسل والدته لتنهي الخطوبة، ولتنهي معها حياتي كلها، فالحزن لا يفارق عيني أعيش في سجن مظلم مليء بالحسرة واللوعة والأسى، ولا تقولي لي إن الأيام كفيلة بأن تداويني بنعمة النسيان. فكيف أنسى ما أصابني من الذي أعطيته كل شيء، وجعلني لا أساوي شيئاً " إنها النهاية التي قد تصل إليها من تسلك هذا المسلك؟
صور من حياة المرأة في الغرب
يا فتاة : لقد قص الله عز وجل علينا قصص الأمم الكافرة والأمم الغابرة لنتعظ ولتكون عبرة لنا. والآن لنقف مع صور من حياة المرأة في عالم الغرب، الصورة المقابلة للمجتمع المحافظ، وهي النهاية لأي طريق يدعو إلى رمي عفة الفتاة وحيائها، وهي صور سيئة ساقطة يطول الحديث عنها، ولكننا هاهنا نتحدث بإيجاز عن جوانب في تلك الصورة لتعرف الفتاة ما هو الطريق الذي يراد بها أن تساق إليه:
p>
أولاً: هكذا تهان المرأة :(/6)
في دراسة أمريكية أجريت في عام 1407هـ، أشارت إلى أن 79% من الرجال يقومون بضرب النساء، وبخاصة إذا كانوا متزوجين منهن.
وفي دراسةٍ فحص فيها 1360 سجلاًّ للنساء في المستشفيات، تقول إن ضرب النساء في أمريكا ربما كان أكثر الأسباب شيوعًا للجروح التي تصاب بها النساء، وأنها تفوق حتى ما يلحق بهن من أذى نتيجة حوادث السيارات والسرقة والاغتصاب مجتمعة.
وفي فرنسا تتعرض حوالي مليون امرأة للضرب، وأمام هذه الظاهرة التي تقول الشرطة أنها تمثل حوالي 10% من العائلات الفرنسية، أعلنت الحكومة أنها ستبدأ حملة توعية لمنع أن تبدو أعمال العنف هذه كأنها ظاهرة طبيعية. وقالت أمينة سر الدولة لحقوق المرأة: إن الحيوانات تعامل أحيانًا أحسن منهن، فلو أن رجلاً ضرب كلبًا في الشارع فسيتقدم شخص ما بالشكوى إلى جمعية الرفق بالحيوان. ولكن إذا ضرب رجلٌ زوجته في الشارع فلن يتحرك أحد. ونقلت صحيفة FRANSAR عن الشرطة أن 60% من الدعوات الهاتفية التي تتلقاها شرطة الخدمة في باريس أثناء الليل هي نداءات استغاثة من نساء يسيء أزواجهن معاملتهن.
وقد وضع في تصرف الرجال سريعي الغضب خط هاتفي على مدى 24 ساعة، يتصل به الزوج ليفرغ غضبه إلى طرف آخر لعله يغنيه عن ضرب زوجته. ونشرت مجلة TIMES الأمريكية أن حوالي 4000 زوجة من حوالي 6 ملايين زوجة مضروبة، تنتهي حياتهن نتيجة ذلك الضرب. وأشار خبر نشره مكتب التحقيقات الفيدرالية جاء فيه أن 40% من حوادث قتل السيدات ارتكبها أزواجهن.
وجانب آخر من صورة المرأة في الغرب:
ثانيا: العلاقات غير الشرعية:
دلت الدراسات على أن في الولايات المتحدة نفسها أكثر من 35 مليون متزوج يقيم علاقات غير شرعية خارج عش الزوجية، أي نسبة تصل إلى 70% من الرجال المتزوجين. وبعبارة أخرى فإن 70% من الزوجات الأمريكيات مأسورات بقيد الخيانة، خيانة أزواجهن لهن.
وقد دفعت المعاناة الزوجات اللواتي يخونهن أزواجهن إلى تشكيل تجمع نسائي جديد في أمريكيا، يضمهن أطلق عليه اسم WAHS. أما صورة أخرى فهي صور الاغتصاب الذي تتعرض له المرأة. وفي الولايات المتحدة تقول التقارير الخاصة بالاغتصاب إن حادثة الاغتصاب تسجل كل 6 دقائق، وإن جريمة الاغتصاب أكثر جريمة تسجيلا في محاضر الشرطة والمدن الأمريكية.
ويقول المحللون إن 90% من حوادث الاغتصاب لاتصل إلى سجلات البوليس وهذا يعني بحسبة بسيطة أن عشر حوادث للاغتصاب تتم كل 6 دقائق أو جريمتين كل دقيقة تقريبًا.
وفي LOS ANGELES التي أصبحت تشتهر بأنها عاصمة حوادث الاغتصاب في العالم.
واحدة من ثلاث فتيات فوق سن 14 عامًا معرضة للاغتصاب. وقد بلغ الحال من السوء جدًّا أن دفع بحاكم ولاية CALIFORNIA لأن يعلن في حديث تلفزيوني حربًا لمدة عشر سنوات بكلفة 5 مليارات دولار لمكافحة الجريمة. وتحدث الحاكم واسمه JER BRAUON عن الحال التي وصلت إليها الأوضاع في المدينة بقوله إن مستوى الخوف ودرجة العنف البشعة أنشأت جوًّا من شأنه تقويض حقنا الأساسي في أن نكون أحرارًا في مجتمعنا.
وأما في فرنسا، فقد أذاع الراديو الفرنسي في يوم الأحد 25/9/1977م إحصائية ذكر فيها أن في فرنسا 5 ملايين امرأة متزوجة على علاقة جنسية بغير أزواجهن. وأذاع التلفزيون الفرنسي في القناة الأولى في 23/9/1977م أن المحكمة الفرنسية ردت الدعوى التي قدمها الزوج بحق زوجته التي تخونه، وبعد تقديم الدليل قالت المحكمة، ليس من حق الزوج أن يتدخل في الشؤون الخاصة بزوجته
ثالثا: العائلة:
(أنقذوا العائلة من الموت، أنقذوا العائلة من الموت). هذا النداء الدراماتيكي أطلقه العالم الاجتماعي الفرنسي JERNARD OREL وهو النداء الثالث الذي يطلقه خلال 30 سنة الماضية. كان الأول : أنقذوا العائلة من الاستلاب، وكان الثاني : أنقذوا العائلة من التفتت. وهو يطلق النداء الثالث لأن المعطيات التي توفرت لديه حول وضع العائلة في الغرب تثبت جميعها أنه قد حان الوقت لكي تقرع أجراس الإنذار في كل بيت من نصف الكرةالشمالي.
وقد قام الباحث الغربي على امتداد سنتين ماضيتين بمسح ميداني للعائلة الغربية تنقل بين مختلف البلاد الأوروبية وعبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة وكندا ليعود بجعبة مليئة بالأصوات التي تحذر من اتجاه العائلة الغربية نحو الهلاك. هذه الأصوات مع تحليل واف لها جمعها OPEL في كتاب أطلق عليه عنوان : أنقذونا. والأصوات تلك هي عبارة عن الحوارات القصيرة التي أجراها المؤلف مع نساء وأطفال وآباء وأجداد حول طبيعة علاقة كل واحد منهم بأفراد العائلة الآخرين، والأصوات البعيدة كانت نادرة جدًّا بل هي استثنائية.
وها هي المرأة الغربية تنادي : أريد أن أعود إلى منزلي. وهذا عنوان كتاب ألفته إحدى المفكرات الفرنسيات.
في إحصائية في السويد تقول إن المرأة السويدية فجأة اكتشفت أنها اشترت وهما هائلا تقصد الحرية التي أعطيت لها بثمن مفزع وهو سعادتها الحقيقية.(/7)
والكاتبة الإنجليزية LADY COOK أحست بعواقب الاختلاط الوخيمة. وكتبت قبل عشر سنين في صحيفة ALAIEO تقول : إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طبعت المرأة بما يخالف فطرتها. وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنى وهنا البلاء العظيم على المرأة. ثم تقول : أما آن لنا أن نبحث عما يخفف إذا لم نقل عما يزيل هذه المصائب العائدة بالعار على المدنية الغربية. أما آن لنا أن نتخذ طريقًا تمنع قتل الآلاف من الأطفال الذين لا ذنب لهم بل الذنب على الرجل الذي أغرى المرأة المجبولة على رقة القلب. يا أيها الوالدان لا يعنيكما دريهمات تكسبها بناتكم باشتغالهن في المعامل ونحوها، ومصيرهن إلى ما ذكرنا. علموهن الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد. لقد دلتنا الإحصائيات على أن البلاء الناتج من حمل الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال. ألم تروا أن أكثر أمهات أولاد الزنا من المشتغلات في المعامل والخادمات في البيوت ، وكثير من السيدات معرضات للأنظار، ولولا الأطباء الذين يعطون أدوية الإسقاط لرأينا أضعاف ما نرى الآن. لقد أدت بنا الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في الإمكان، وهذا غاية الهبوط بالمدنية.
هذا ما قالته تلك الكاتبة الغربية.
فها هي يا فتاة، ها هي المرأة الغربية تنادي بأعلى صوتها، أريد العودة إلى منزلي، فقد جربت ورأت نهاية الحياة التعيسة.
القرار بيدكِ أنتِ:
إن الاقتناع بخطأ طريق الغفلة، والممارسة الشاذة، والسلوك المنحرف . أمر يشترك فيه الكثير من الشباب والفتيات ممن هم كذلك. بل أكثرهم يقتنع بحاجته إلى الالتزام والاستقامة، ولكن هذا القرار الشجاع، الحاسم يقف المرء معه متردداً متهيباً.
لست أدري ما مصدر هذا التردد ؟ ما دام الاقتناع قد تكون لدى الفتاة بخطأ طريقها، وسلامة الطريق الآخر فما ذا تنتظر ؟ إنه التخوف أحيانا من المستقبل، الذي لا مبرر له.
القضية باختصار يا فتاة قرار جريء وشجاع تتخذينه وبعد ذلك يتغير مجرى حياتكِ تلقائيا، ويهون ما بعده، فهل تعجزين عن اتخاذ هذا القرار ؟ لا أخالك كذلك وأنت الفتاة الجريئة في حياتك كلها. واسألي من كنَّ شركاء لكِ في الماضي، فاتخذن القرار، وسلكن طريق الهداية.(/8)
يا ليل الصب
شعر: الضرير القيرواني
يا ليل الصَّب متى غده أقيامُ الساعةِ موعدُهُ
رقدَ السُّمَّارُ وأرَّقَهُ أسفٌ للبينِ يردِّدُهُ
فبكاه النجمُ ورقَّ له ممّا يرعاه ويرصدُهُ
نَصَبَتْ عينايَ له شَرَكاً في النوم فعزّ تصيُّدُهُ
صاحٍ والخمرُ جَنَى فمِهِ سكرانُ اللَّحْظِ مُعَرْبدُهُ
يا منْ سفكتْ عيناه دمي وعلى خدّيه تورُّدُهُ
خَدَّاكَ قد اعترفا بدمي فعلامَ جفونُكَ تَجْحَدُهُ
بالله هَبِ المشتاقَ كَرَى فلعلَّ خيالك يُسْعِدُهُ
لمْ يُبْقِ هواكَ به رَمَقاً فَلْيَبْكِ عليه عُوَّدُهُ
وغداً يقضي أو بعدَ غدٍ هل مِنْ نظرٍ يتزوَّدُهُ(/1)
يا مجلس الحكم
مع الإعتذار للفضلاء الوطنيين من أعضائه.
الدكتور محمد الجهني
كفي عن اللوم أقسى اللوم ما عظما
و أعظم الذنب ما أوسعته iiندما
دار الخلافة لو أبصرت iiماصنعت
بك الخطوب لعنت العرب و القمما
لا الجاهلية ترضى أن نكون iiلها
إن لمتني فلقد كلفتني iiشططاً
لو كنت تدرين كم في القلب iiلاعجة
لكنت أشفق من أم على iiولد
ماعاد في القلب من سلوى تعلله
قد كان كل مصاب قبلها iiجللاً
كأنها لم تكن يوماً iiمملكة
يستخرج الكفر من رذالها iiبطلاً
لو أن قحطان يدري بعض ما iiصنعت
لا قيس غيلان أو ذبيان iiيمنعها
إذا نظرت اليها خلتها iiعرباً
فما تراها على ذل ترد iiيداً
با عوا العراق فبئس البائعون iiهم
لا يرتضون لهم من ديننا حكماً
أو يغضبون متى نيشت iiكرامتهم
ماأسقط الكفر من أصنامنا iiصنما
فالخوف أقرب من روح إلى جسد
إن الذي نال صداماًً iiلنائلها
يا مجلس الحكم عش ماشئت iiمحتمياً
لا عمرك الله في أرض غدرت بها
لئن اراق لنا صدام بعض iiدم
غداً ترى من يقود الجيش iiمنتصراً
لا يستوي من يلاقي الموت مبتسماً
بع ماتشاء من الدنيا التي بقيت
أغاية الفخر تستعدي على iiرحم
يا افخر الفخر أنت الذي أسلمتها iiبيد
تطوف في ردهات الكفر iiمختبلاً
فلا تلمها متى ثارت iiحميتها
يفديك بغداد من لانت iiمرؤته
بغداد لو كانت الدنيا تخط iiبها
متى نرى الحق يابغداد iiمنتقماً
والجيش مصطدماً والطعن iiمحتدماً
اليوم يحميك في بغداد ii"مرتزق"
غداً نراك تجوب الأرض iiمنكسراًً
إني لأخشى على الإسلام iiمنقلبا
فلن تزول بنو صهيون عن iiخطط
ما كشر الغرب عن أنيابه iiغضباً
والجاهلي يراعى الأشهر iiالحرما
لولاكم ما إستطاع الكفر iiيقسمنا
يا سوأة العرب العرباء iiروضها
فكلما التفتت عيني iiرأيت
فما ترى عربياً في iiعباءته
يسير في الأرض لا الأرحام iiتسعفه
يبدل الظلم من أماله iiألماً
فما ترى القلب إلا كان iiملتهباً
مشرداً في فيافي الأرض تدفعه
يرى اليهود لهم في أرضه iiذمماً
يا أيها الغاصب المشئوم طائره
لا تسألوه عن الشيخ الذي iiقتلا
أو التراث الذي لم تحوه iiأمم
إن كمنتمو تستطيعون السوأل سلوا
ماعدت ابصر في بغداد iiمنقلباً
هذي جيوش بني العباس قادمة
فما تمر بجيش من iiجيوشهم
بغداد ماعاد لي قلب iiيبلغني
فخففي أو فزيدي لوعتي iiفلقد
ترى الثكالى سئمن العيش iiنازفة
لو أن قبر صلاح الدين iiتبلغه
لما سألت إمام المسلمين iiبها
فلا قياس إذا صار الفرات iiدماً
... نداً فنستقسم الأنصاب و iiالزلما
وإن عذرت فكم أوليتني نعما
من الهموم تذود الشعر و iiالكلا
وما أصخت لمن أغراك iiمتهما
بعد العراق ولا شكوى تغيث iiفما
=فصار كل مصاب بعدها iiلمما
ولم تكن لهضيم الحق iiمعتصما
و ينصب البغي من شذاذها iiعلما
بها العروبة ما أبقى لها iiرحما
من الشقاق ولا عوفاً ولا iiهرما
وإن عجمت لغاها خلتها iiعجما
ولا تراها على هون تقول لما
وسلموا للغزاة الشكم و iiاللجما
أو يرتضون لنا من دينهم iiحكما
ويغضبون إذا ما لاعب iiهزما
إلا أقام لنا من بعده iiصنما
والموت أقرب من "جحر" لمن iiسلما
إن لم تؤد حقوق الله iiلاجرما
بالغاصبين فلن تلقى هناك iiحمى
وما حفظت بها الأيمان iiوالقسما
لقد جعلت لنا كل العراق iiدما
ومن يعض على سبابة iiندما
ومن يقبل في واشنطن iiالقدا
فلن تبيع لنا مجداً ولا iiكرما
من لا يراعي لها حلاً ولا حرما
غدراً وقدت إليها الجحفل iiالعرما
حتى جلبت إليها الحادث iiالعمما
وأمطرتك كما أمطرتها iiديما
ومن يسومك لا ديناً ولا iiشيما
أقدارها كنت منها اللوح iiوالقلما
و الغيم مبتسماً والصدع iiملتئما
والموت مضطرماً والنقع iiمزدحما
فمن يجيرك إن ولاك منهزما
ويسأل المجد عنك البيد و iiالأكما
يروع الشام و الفسطاط و iiالحرما
حتى تجاوز في أسوارها إرما
إلا وكنتم له المصقولة iiالخذما
و أنتم لم تراعوا الأشهر الحرما
ولم يجد بيننا قسماً ولا iiقسما
وغد ......... وألقى بينها iiالتهما
وكلما نظرت عيني رأيت دمى
إلا ويحمل من آماله iiحطما
ولا يرى العيش إلا البؤس والألما
ويجدع الذل من عرنينه iiشمما
ولا ترى الدمع إلا كان iiمنسجما
جحافل الظلم لا ماءً ولا iiأدما
ولا يرى في مغانيها له iiذمما
لأنت أخبث من ولى ومن iiحكما
أو تسألوه عن البيت الذي iiهدما
فصار بين وحوش الغاب iiمقتسما
عن جهله وسلوه أين ما زعما؟
للخائنين ولا عزماً ولا iiهمما
ويملأ الرعب منها السهل والعلما
إلا و تجعل من أسواره iiحمما
إلى هواك وقد أبليته سقما
و هبتك القلب مكلوماً و مضطرما
عيونهن دماً والبغي ما سئما
صيحاتهن لأحيت أعظماً iiرمما
عن القياس أجاب السيف iiواللمما
ولا قياس إذا ماظالم iiظلما(/1)
يا من تجرأتم على حبيب الله.. صبراً نزار محمد عثمان*
جزى الله الشيخ رائد حليحل ومن معه في لجنة نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كل خير؛ لأجل كشفهم لتعدي صحيفة دنماركية على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهم بفعلهم هذا بينوا للمسلمين عظم الحقد والحسد الذي يمور في قلوب كثيرين في الغرب للإسلام والمسلمين؛ ليس الصحيفة وحدها، ولا الحكومة الدنماركية فقط؛ بل الاتحاد الأوربي كله، والغرب في معظمه!!.. ثم جزاهم الله خيراً كذلك؛ لأنهم سيسجلون إعجازاً جديداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم برصد الخاتمة (الآليمة) لكل من استهزأ به صلى الله عليه وسلم ولم يتب.. ليس ذلك رجماً بالغيب؛ وإنما معرفة بسنن الله، واستقراءًا للتاريخ؛ فقد أثبتت وقائعه أنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به إلا أهلكه الله، وقتله شر قتلة!!.. فقديما تظاهر بالاستهزاء به كل من: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والحارث بن عبطل السهمي، والعاص بن وائل؛ فكفى الله رسوله شرهم؛ فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً فأصاب أكحله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول: (يابنيّ! ألا تدفعون عني؟!؛ قد هلكت، وطُعنت بالشوك في عينيّ)؛ فجعلوا يقولون: (ما نرى شيئاً).. فلم يزل كذلك حتى عتمت عينا، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منه، وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل من أخمص قدمه شوكة فقتلته.
كما روى البخاري في صحيحه أن أنس رضي الله عنه قال: (كان رجل نصراني, فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران, وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم, فعاد نصرانياً, فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبت له, فأماته الله, فدفنوه, فأصبح وقد لفظته الأرض, فقالوا: (هذا فِعْل محمدٍ وأصحابه؛ نبشوا عن صاحبنا؛ فألقوه؛ فحفروا في الأرض ما استطاعوا؛ فأصبح قد لفظته؛ فعلموا أنه ليس من الناس؛ فألقوه).. وقد علَّق ابن تيمية على الحديث قائلا: (فهذا الملعون - الذي قد افترى على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدري إلا ما كتب له - قصمه الله، وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دفن مراراً.. وهذا أمر خارج عن العادة؛ يدل كل أحد على أن هذا كان عقوبة لما قاله, وأنه كان كاذباً)، ثم قال: (ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا؛ قالوا: كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه؛ حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة).
يا من تجرأتم على حبيب الله.. صبراً؛ فالأيام بيننا.(/1)
يا من تخلف عن الصلاة
المصدر/المؤلف: أبو سلمان ... أرسلها لصديق
عرض للطباعة
عدد القرّاء: 5391
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يقول الرسول : { لتنقضن عرى الإيمان عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة }.
فالصلاة هي أول ما أوجبه الله تعالى من العبادات وهي أول ما يحاسب عليه العبد وهي آخر وصية أوصى بها رسول الله أمته عند موته فقال: { الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم } وهي آخر مايفقد من الدين فإن ضاعت ضاع الدين كله.
فالصلاة شرط أساسي للهداية والتقوى فقال تعالى: ألم (1) ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين فمنهم هؤلاء المتقين قال: الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون .
وحينما ذكر الله سبحانه وتعالى أصحاب الأخلاق الذميمة في قوله: إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعاً إستثنى الله تعالى منهم المحافظين على الصلاة فقال: إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون .
وقد حذر سبحانه وتعالى من إضاعة الصلاة وتوعد مضيعها بالعذاب الشديد فقال تعالى: فخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا . والغي: هو واد في جهنم خبيث الطعم بعيد القعر جعله الله لمن أضاع الصلاة واتبع الشهوات.
فسعيد بن المسيب من شدة حرصه على الصلاة حافظ على دخول المسجد قبل الأذان لمدة تزيد عن 40 سنه. وقد قال النبي : {ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ } قالوا: بلى يارسول الله. قال: { إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذالكم الرباط فذالكم الرباط }.
أما في زماننا فلا يحلوا للبعض النوم إلا في وقت الصلاة والبعض يسمع صوت المنبه للصلاة ولكن لايستيقظ، وأخرون يوقظون للصلاة ولا يستجيبون ولكن لو سمعوا بأن لصا في البيت أو أن صافرة الأنذار انطلقت لرأيت سرعة الإنتباه وقوة الوثبة.
-فالمؤمن الحق هو المؤمن السريع الاستجابة لأمر الله ماستطاع إلى ذالك سبيلا. فقد قال تعالى: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا . فالمؤمن إذا استجاب لأمر ربه تبارك وتعالى وامتثل أوامره. فإن الله تعالى يلقي في نفسه الراحة والاطمئنان. ولا يلزم أن يعلم عن الحكمة من مشروعية بعض النواهي التي نهى الله عنها. فقد تكون الحكمة عن النواهي معلومة، وقد تكون غير معلومة ولكن ليكن شعار المؤمن ( سمعنا وأطعنا ). والله تعالى يقول: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا . وقال سبحانه: ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فسيظهر معنى الاستجابة لأمر الله تعالى في قول النبي : { إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها } قال تعالى: ياأيها الذين آمنوا لاتسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها .
وقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم مثلا رائعا في الطاعة وعدم السؤال عما لايهم. فقد قال النبي :(إن الله يضحك) فلم يسأل الصحابة رضي الله عنهم عن كيفية الضحك. وهل ضحكه سبحانه وتعالى مثل ضحك المخلوقين؟ لم يسألوا عن هذا أبداً. بل قالوا:(لانعدم الخير من رب يضحك)
فالصلاة أمرها عظيم جدا. يقول أبو بكر بن عبدالله المزني: ( من مثلك يا ابن آدم، خلي بينك وبين الماء والمحراب متى شئت تطهرت ودخلت على ربك عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان ولاحاجب ). فالسلف أعطوا الصلاة حقها وأنزلوها منزلتها ولذلك كانت عندهم المقياس الأول كما أكد ذلك عمربن الخطاب بقوله: ( إذا رأيت الرجل يضيع من الصلاة هو و الله لغيرها أشد تضييعا ). ويقول أحدهم: كنت أرحل إلى الرجل مسيرة أيام فأول ماأتفقد من أمره صلاته فإن وجدته يقيمها ويتمها أقمت وسمعت منه. وإن وجدته يضيعها رجعت ولم أسمع منه وقلت: هو لغير الصلاة أضيع.
وكان سعيد بن عبدالعزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى ولم تكن صلاة الجماعة تعدل عندهم شيئا من امور الدنيا التي نلهث وراءها وربما نؤخر الصلاة من أجل الدنيا. وقد جاء أحد السلف الصالح إلى المسجد فقيل له: إن الناس قد انصرفوا فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لفضل هذه الصلاة أحب إلي من ولاية العراق.
والبعض منا يفوت صلاة الجماعة لأمر بسيط وشغل قليل من امور الدنيا لايعد شيئا يذكر، فما بالك بولاية العراق؟!!
وقد لايكتب للرجل من صلاته إلا بعضها كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: { إن الرجل لينصرف ماكتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها } لماذا? لأنه لم يأتي بأركان الصلاة وواجباتها وسننها ومستحباتها على الوجه الأكمل.(/1)
وقد قال عمر بن الخطاب على المنبر: ( إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة ). قيل: وكيف ذلك؟ قال: ( لايتم خشوعها وتواضعها وإقباله على الله عز وجل ). هذا قول عمربن الخطاب في صدر الإسلام فماذا عن واقعنا نحن اليوم! والكثير إلا من رحم الله تذهب به أموال الدنيا وأسواقها يبيع ويشتر ويزيد وينقص وهو في الصلاة وما ذلك إلامن غفلتنا.
يقول الشيخ عبدالرحمن الدوسري رحمه الله تعالى في تفسير سورة البقرة في قوله تعالى: ياأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة قد أظهر الطب الحديث فائدة للصلاة، وهي أن الدماغ ينتفع انتفاعا كبيرا بالصلاة ذات الخشوع وهذا من الأدلة التي تبين سبب قوة تفكير الصحابة رضي الله عنهم وسلامة عقولهم ونفوذ بصيرتهم.
ثم قال رحمه الله تعالى: إن في الصلاة علاجا شافيا من أمراض اجتماعية فتكت بالناس وهي الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وقهر الرجال. وذلك أن هذه الثمانية التي تعوذ منها النبي مقسمة إلى أزواج، وكل زوجين منها قريبان ومترادفان من بعض. فالهم والحزن إخوان، والعجز والكسل إخوان، والجبن والبخل إخوان، وضلع الدين وقهر الرجال إخوان.
فالمكروه المؤلم إذا ورد على القلب فإما أن يكون سببه ماضيا أومستقبلا:
- فان كان ماضيا أوجب له الحزن، وان كان مستقبلا أوجب له الهم.
- وتفويت المصالح على الإنسان أو تخلفه عن تحقيقها بالسعي والطلب إما أن يكون من عدم الإرادة فهو الكسل.
- وحبس الخير عن الغير إما أن يكون بالنفس والبدن فهو الجبن وإما إن يكون بالمال فهذا هو البخل.
- وقهر الرجال إما أن يكون بحق فهو غلبة الدين، وإما أن يكون بباطل فهو قهر الرجال. والمصلي الصحيح الذي يقيم الصلاة بكامل حق إقامتها ينجيه الله من ذلك كله.
فالله تعالى يقول: واستعينوا بالصبر والصلاة فجمع الله بين الصبر الذي يستعان به على تحمل المشاق والمكاره، وبين الصلاة التي توطن النفس وتروضها وتصلها بربها، وتبعث الراحة والطمأنينة. وقال النبي : { أرحنا بها يا بلال } فمن لم يجد راحته وهو يصلي فأين يجدها؟
وأما عن صلاة الفجر فحدث ولاحرج قل من يشهد صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد وأصبحت ثقيلة إلا على من رحم الله تعالى فالمؤمن الذي يهب من فراشه مسرعا ويترك لذة النوم ولين الفراش يردد مع المؤذن مايقول ثم يسير إلى صلاة الفجر بخطوات مطمئنة وقد يكون في برد قارس وضلام دامس. فالنبي يبشره بالنور التام يوم القيامة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: { بشروا المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة }، وعلى الإنسان أن يخلص في عملة لله وحده لاشريك له وأن يصلح باطنه وظاهره مخلصا لله، يقول عثمان بن عفان رضي الله عنه: ( ماأسر احد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه والغرض الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ) فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله ظاهره فالذي يصلح باطنه يصلح الله له ظاهره. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( من أصلح سريرته أصلح الله علانيته ).
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد.(/2)
يا من فقدناه في المسجد
محمد بن سرار اليامي
دار الوطن
إلى من غاب عن الساحة، إلى من يحمل قلباً ملؤه الخير، إليك أخي الحبيب: أخاطب فيك قلباً طالما خشع لربه سبحانه.
أخاطب فيك حساً مرهقاً، نعم إنك تحمل قلباً لا ككل القلوب، أعلم أنك تحب مكارم الأخلاق، نعم وأعلم أنك تحب الصدق مع كل الناس حتى مع نفسك، نعم، تحب الصدق حتى مع نفسك، وإن الصدق ليهدي إلى البر، وإن البر ليهدي إلى الجنة.
إلى من فقدناه في المسجد إليك أخي الحبيب: أحمل قلمي ومحبرتي، وأسطر هذه الكلمات، عل الله أن يكتبها في ميزان الحسنات.
أخي الحبيب: يا من فقدناه في المسجد، إن رحمة الله قريب من المحسنين فكن منهم، إن الله يحب المتقين، فكن منهم، إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فكن ممن أحسن.
أخي الحبيب: إن جماعة مسجد ليتساءلون وإن حيطان المسجد لتنتظر، وإن مصلاك لخالي، ينتظرك، نعم ينتظرك أنت.
أخي الحبيب: أما علمت أن ربك العظيم الغني الحميد يستزيرك، فهل تعرض عن زيارته، ألا تسمع مناديه كل يوم وليلة خمس مرات أن: ( حي على الصلاة … حي على الفلاح ).
فقل لبلال العزم إن كنت صادقاً أرحنا بها إن كنت حقاً مصلياً أما سمعت قول عليه الصلاة والسلام: { "من سمع المنادي فلم يمنعه من اتباعه عذر" قالوا وما العذر؟ قال: "خوف أو مرض، لم تقبل منه الصلاة التي صلى" } [رواه أبو داود].
بل قبل ذلك قول الله جل وعز: واركعوا مع الراكعين أما علمت أنه لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد؟ أما علمت أن أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر. أما علمت أن نبي الله هم أن يحرق بيوت بعض من عن الصلاة في الجماعة كما في البخاري؟ أما علمت أن صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاة الفرد بـ 27 درجة؟ أما سمعت قول ابن مسعود رضي الله عنه: "لقد رايتنا وما يتخلف عنها إلا منافق قد علم نفاقه" فأين أنت من زيارة بيت ربك الذي خلقك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك؟ أي أنت م زيارة ملك الملوك … ما ذا تنتظر؟ أتنتظر الموت يأخذك على حين غرة؟ ثم تقول: رب ارجعون، لعلي أعمل صالحاً فيما تركت ما ذا تقول: أتقول: ياليتني كنت تراباً أم تقول: ياليتني لم أوت كتابيه أما تعلم أن ربك وهو أغنى الأغنياء ليفرح بتوبة عبده فرحاً عظيماً يليق بجلاله وعظمته، أما تعلم أن ربك أرحم بك من الوالدة بولدها، ومن رحمته بك أن كونك من نطفة قذرة حتى أصبحت رجلاً، وجعل لك السمع والبصر والفؤاد ثم قال: كل أولئك كان عنه مسؤولاً والله ثم والله إن القلب عليك ليحزن، وإنا على فراقك لمحزونون، نريد أن نرى صفحة وجهك المشرق معنا في بيت الله، نريد أن تكثر سود المسلمين بين يدي الله، نريد لك خيري الدنيا والآخرة، نريد لك حياة السعادة والطمأنينة ألا بذكر الله تطمئن القلوب نريد لك بعداً عن ضيق الصدر وعن الهموم والمصائب والأحزان، وأن لا تكون كمن قال الله فيهم: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربي لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها، وكذلك اليوم تنسى ولا أحسبك إلا مستجيباً لهذه النداءات من أحبابك جمعة المسجد. فالحق بنا على ركب الهدى، وقائد هذا الركب هو محمد ابن عبد الله ، وأفراد هذا الركب هم كل خير حمل القرآن والسنة منهجاً وديناً.
أخي الحبيب: الله الله في الصلاة، فإنها كانت آخر وصية أوصى بها المعصوم ، إن فلبي ليتمزق، وإن عيني لتذرف، ويعلم الله عن أحوالنا التي لا نشكوها إلا له سبحان ولكن هيا بنا، نعم هيا بنا، إلى روضة من ضياء، وإلى قبس من نور، إلى حيث البر والإحسان، وإلى حيث الخشوع والإذعان، إلى بيت ربنا.
إلى الله نادى منادي الرحيل *** فهبوا إلى الله يا أوفياء
وسيروا على بركان الإله *** فإن الإله جزيل العطاء
أخي الحبيب: وفي الختام …نريد … نعم … نريد أن نراك في مسجدنا … فلا تحرمنا رؤياك.
وإلى لقاء قريب بإذن الله في روضة المسجد إن شاء الله تعالى.
مع تحيات إخوانك في جماعة المسجد.(/1)
يا منصور كل الناس مسرور إلا أنا
شريف عبد العزيز
shreef@islammemo.cc
مفكرة الإسلام: ربما لا يعرف الناس من قائل العبارة أو متى قيلت وما مناسبتها،وربما لا يخطر ببالهم من منصور هذا الذى يخاطب بهذه العبارة الحزينة المبكية،ولكنها كانت دوماً تقفز أمام ناظرى وتقتحم ذاكرتى إقتحاماً كلما هل علينا العيد خاصة عيد الأضحى، عيد الأمة الكبير،أتدرون لماذا؟ اسمعوا معى الخبر وعندها تعرفون لماذا؟
[كان عصر الحاجب المنصور بن أبى عامر من سنه369-392هجرية، هو العصر الذهبى للأندلس،حيث بلغت دولة الإسلام فى الأندلس أوج قوتها وأقصى إتساعها، وكان المنصور شغوفاً بالجهاد فى سبيل الله، لا ينقطع عنه صيفاً ولا شتاءً،وقد انزوى الصليبيون فى عهده فى أقصى شمال الأندلس وأقصى أمانيهم أن يكف المنصور عن غزو بلادهم،وذات مرة خرج للجهاد فى سبيل الله،وبعد أن حقق النصر كعادته على الإسبان، عاد إلى قرطبة ووافق رجوعه صلاة عيد الأضحى والناس فى المصلى يكبرون ويهللون، وقبل أن ينزل من على صهوة جواده، اعترضت طريقه امرأة عجوز، وقالت له بقلب متفطر باكى: يا منصور كل الناس مسرور إلا أنا، قال المنصور:وما ذاك؟ قالت:ولدى أسير عند الصليبيين فى حصن رباح ،فإذا بالبطل العظيم الذى لم ينزل بعد من على ظهر جواده، والذى يعلم قدر المسئولية الملقاة على عاتقه تجاه أمة الإسلام، والذب عن حياض الأمة والدين، إذا به يلوى عنق فرسه مباشرة وينادى فى جيشه ألا ينزل أحد من على فرسه ثم ينطلق متوجها إلى حصن رباح ويظل يجاهدهم حتى يجبرهم على إطلاق سراح أسرى المسلمين عندهم ومنهم ولد العجوز]
والناظر إلى هذا الموقف،والعبارة التى أطلقتها العجوز يجد أن تنطبق على واقع أمتنا الإسلامية الأن، فالناس من حولنا من شتى الأجناس والملل والنحل،ينعمون ويفرحون وعلى أشلاء أمتنا يرقصون،أمتنا التى سرقت من على شفاه أطفالها البسمة والسرور والفرح،فلسان حال أمتنا الأن: كل الناس مسرور إلا أنا، فأطفال فلسطين لا يمكنهم الفرح والسرور واللعب،ليس بسبب الحزن على من فقدوه من أب وأخ وصاحب،فهم قد اعتادوا ذلك منذ زمن، ولكن لأن السلطة الفلسطينية التى ولدت سفاحا من رحم أوسلو وغيرها، قد أصدرت قراراً بمنع الإحتفالات بالعيد الكبير تعاطفاً مع الشعب الإسرائيلى الصديق والجار!
في مصابه بزعيمه وقائده رجل السلام السفاح شارون!، ورياحين العراق وزهورها، لا يستطيعون الخروج للعب والسرور فى ربوع العراق و مروجها حتى لا تحصدهم طائرات الاباتشى الأمريكية،أو فيالق بدر الرافضية، أو مغاوير الشرطة العميلة، وأما أطفال النيجر ومالى وتشاد والصومال ، فهم لم يدركوا يوما معنى العيد أو ما هو العيد أصلاً،ولم يعرفوا يوما ًمعنى السرور والفرح بالكلية،فقد ماتوا وهلكوا قبل أن يعرفوا هذه المعانى ،قتلهم القحط والجوع وإهمال إخوانهم المسلمين لهم،وأطفال الشيشان وأفغانستان وكشمير والبوسنة وكوسوفو وبورما وتايلاند والفلبين والأوجادين و…… …………………. القائمة طويلة، كل هؤلاء لا يعرفون للعيد طعماً ولا فرحة أبداً
ونحن لانملك أمام هذه المأساة العامة ألا أن نهتف بأعلى صوت لربنا عزوجل فى علاه قائلين [اللهم أعد علينا المنصور وأيامه](/1)
يا مُعلِّم.. علِّم د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
المعلم قدوة لطلاَّبه شاء ذلك أو أبى، وإذا غاب عن المعلِّم أو المعلِّمة شعورهما بصفة القدوة فقد جنيا على التعليم والتربية جناية كبيرة، وإذا لم يكونا قدوة حسنة للطلاب والطالبات فلا مناص من أن يكونا قدوة سيئة أو سلبية باهتة الأثر عديمة الجدوى.
هنالك مشكلة واضحة في مستوى كثير من المعلمين والمعلمات من حيث العلم والثقافة والأخلاق والجد والإحساس بالمسؤولية وتقدير معنى الأمانة، وهي مشكلة خطيرة جداً؛ لأنها تتعلق بالأجيال الناشئة وبنائها العلمي والثقافي والخلقي والتربوي، فهذه الأجيال تتعلق بالنماذج التربوية وتتأثر بها وتقلِّدها، وتتلقى منها دون تردُّد، وتعتقد أن كل سلوك يصدر من نماذج القدوة مقبول مباح، وأن كل معلومة أو فكرة تصدر عنها صحيحة ثابتة، وقد أكدت جميع الدراسات الميدانية التربوية والنفسية، وجميع الاستبانات، أن النسبة الكبرى من الطلاب والطالبات يتأثرون بصور متعددة ونسب متفاوتة بثقافة وإخلاص وسلوك معلِّميهم ومعلِّماتهم، وأن نسبة كبيرة من الآباء والأمهات يثقون بنسبة متفاوتة أيضاً في المعلِّمين والمعلِّمات، ومعنى ذلك أنهم يفترضون حينما يوجِّهون أولادهم إلى المدارس أن المعلمين والمعلمات سيقومون بواجب التربية والتعليم خير قيام، وسيحملون عبئاً كبيراً كان المنزل يحمله وحيداً قبل التحاق الأولاد بالمدرسة.
هذه المعاني كلُّها يجب أن تكون حاضرة حضوراً قوياً في وجدان المعلم والمعلمة، ولا يصح لأحد منهم أن يتهاون بها، أو يغفل عنها، أو يقلِّل من أهميتها مهما كانت الأسباب.
وهنا نتساءل: ما مدى إحساس جميع المعلمين والمعلمات بهذه المسؤولية التربوية والتعليمية والتثقيفية؟ وبأي صورة من الاهتمام والعناية يتعاملون معها؟
هنالك نماذج مضيئة ناجحة نجاحاً ملموساً من المعلمين والمعلمات في مدارسنا لا يخفى أثرهم الإيجابي على أحد منا. وإنما نتساءل هنا عن النماذج الأخرى التي لا تنظر إلى التعليم إلا بعين العمل الروتيني والمصلحة المادية، ولا تبذل من اهتمامها ووقتها وجهدها ما يحقق الهدف المنشود من التعليم والتربية.
نتساءل عن المعلمين الذين لا يملكون علماً غزيراً، ولا ثقافة واسعة، ولا تعاملاً حسناً، ولا يهتمون بتطوير أنفسهم وتثقيفها وضبط سلوكها، ولا يحبون القراءة مع أنهم يعلمون القراءة، ولا يقدِّرون مكانة العلم مع أنهم في مجالات علمية، ولا يلتفتون إلى أهمية القدوة مع أنهم في موقع القدوة. نتساءل عن هؤلاء: إلى متى يبقون في هذه الدائرة السلبية المظلمة؟ وإلى متى تبقى وزارة التربية والتعليم بعيدة عن اعتماد البرامج التدريبية المكثفة لتحقيق معالم الشخصية الإيجابية في نفوسهم؟!
المعلم مسؤول مسؤولية مباشرة عن نفسه؛ لأنه يعرف ما يجب على مثله في موقعه ومسؤوليته، فهو يدرك أن التعليم ليس وظيفة ذات دخل مادي فقط، ولكنه عمل حضاري مهم تقوم عليه المجتمعات البشرية.
المعلم مسؤول أمام الله عن نفسه التي يشغلها بما لا يفيد من دوريات يجتمع فيها مع ثلة من زملائه وأصدقائه ليس فيها إلا الهرج والمرج ونكت الجوَّالات، وأخبار الرياضيين والفنانين، وكبسات الرز واللحم ذات الألوان والأشكال.
المعلم مسؤول أمام الله عن رسالته العظيمة التي سيُسأل عنها، وسيلقى جزاء ما قدَّم فيها؛ إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.
إشارة:
يا معلِّم.. علِّم بإخلاصٍ؛ فإنَّك مسؤول(/1)
يا مُعلِّم.. علِّم
د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
المعلم قدوة لطلاَّبه شاء ذلك أو أبى، وإذا غاب عن المعلِّم أو المعلِّمة شعورهما بصفة القدوة فقد جنيا على التعليم والتربية جناية كبيرة، وإذا لم يكونا قدوة حسنة للطلاب والطالبات فلا مناص من أن يكونا قدوة سيئة أو سلبية باهتة الأثر عديمة الجدوى.
هنالك مشكلة واضحة في مستوى كثير من المعلمين والمعلمات من حيث العلم والثقافة والأخلاق والجد والإحساس بالمسؤولية وتقدير معنى الأمانة، وهي مشكلة خطيرة جداً؛ لأنها تتعلق بالأجيال الناشئة وبنائها العلمي والثقافي والخلقي والتربوي، فهذه الأجيال تتعلق بالنماذج التربوية وتتأثر بها وتقلِّدها، وتتلقى منها دون تردُّد، وتعتقد أن كل سلوك يصدر من نماذج القدوة مقبول مباح، وأن كل معلومة أو فكرة تصدر عنها صحيحة ثابتة، وقد أكدت جميع الدراسات الميدانية التربوية والنفسية، وجميع الاستبانات، أن النسبة الكبرى من الطلاب والطالبات يتأثرون بصور متعددة ونسب متفاوتة بثقافة وإخلاص وسلوك معلِّميهم ومعلِّماتهم، وأن نسبة كبيرة من الآباء والأمهات يثقون بنسبة متفاوتة أيضاً في المعلِّمين والمعلِّمات، ومعنى ذلك أنهم يفترضون حينما يوجِّهون أولادهم إلى المدارس أن المعلمين والمعلمات سيقومون بواجب التربية والتعليم خير قيام، وسيحملون عبئاً كبيراً كان المنزل يحمله وحيداً قبل التحاق الأولاد بالمدرسة.
هذه المعاني كلُّها يجب أن تكون حاضرة حضوراً قوياً في وجدان المعلم والمعلمة، ولا يصح لأحد منهم أن يتهاون بها، أو يغفل عنها، أو يقلِّل من أهميتها مهما كانت الأسباب.
وهنا نتساءل: ما مدى إحساس جميع المعلمين والمعلمات بهذه المسؤولية التربوية والتعليمية والتثقيفية؟ وبأي صورة من الاهتمام والعناية يتعاملون معها؟
هنالك نماذج مضيئة ناجحة نجاحاً ملموساً من المعلمين والمعلمات في مدارسنا لا يخفى أثرهم الإيجابي على أحد منا. وإنما نتساءل هنا عن النماذج الأخرى التي لا تنظر إلى التعليم إلا بعين العمل الروتيني والمصلحة المادية، ولا تبذل من اهتمامها ووقتها وجهدها ما يحقق الهدف المنشود من التعليم والتربية.
نتساءل عن المعلمين الذين لا يملكون علماً غزيراً، ولا ثقافة واسعة، ولا تعاملاً حسناً، ولا يهتمون بتطوير أنفسهم وتثقيفها وضبط سلوكها، ولا يحبون القراءة مع أنهم يعلمون القراءة، ولا يقدِّرون مكانة العلم مع أنهم في مجالات علمية، ولا يلتفتون إلى أهمية القدوة مع أنهم في موقع القدوة. نتساءل عن هؤلاء: إلى متى يبقون في هذه الدائرة السلبية المظلمة؟ وإلى متى تبقى وزارة التربية والتعليم بعيدة عن اعتماد البرامج التدريبية المكثفة لتحقيق معالم الشخصية الإيجابية في نفوسهم؟!
المعلم مسؤول مسؤولية مباشرة عن نفسه؛ لأنه يعرف ما يجب على مثله في موقعه ومسؤوليته، فهو يدرك أن التعليم ليس وظيفة ذات دخل مادي فقط، ولكنه عمل حضاري مهم تقوم عليه المجتمعات البشرية.
المعلم مسؤول أمام الله عن نفسه التي يشغلها بما لا يفيد من دوريات يجتمع فيها مع ثلة من زملائه وأصدقائه ليس فيها إلا الهرج والمرج ونكت الجوَّالات، وأخبار الرياضيين والفنانين، وكبسات الرز واللحم ذات الألوان والأشكال.
المعلم مسؤول أمام الله عن رسالته العظيمة التي سيُسأل عنها، وسيلقى جزاء ما قدَّم فيها؛ إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشراً.
إشارة:
يا معلِّم.. علِّم بإخلاصٍ؛ فإنَّك مسؤول(/1)
يا نفس لا تقنطي
د. يوسف محمد صديق*
قال تعالى: ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)،
قال ابن منظور: القُنُوط: اليأْس من الخير، وقيل: أَشدّ اليأْس من الشيء، وفي التنزيل قال: (ومن يَقْنُطُ من رحمة ربه إِلا الضالون ) ويقال: شر الناس الذين يُقَنِّطُون الناس من رحمة الله أَي يُؤْيِسُونهم، وقال أيضأ: اليَأْس: القُنوط، وقيل: اليَأْس نقيض الرجاء.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي)
قال الجزري قوله تعالى: ( إِنَّ رَحْمَتِي تغلب غَضَبِي) هو إشارة إلى سعة الرحمة وشمولها الخلق، كما يقال غلب على فلان الكرم أي هو أكثر خصاله وإلا فرحمة الله وغضبه صفتان راجعتان إلى إرادته للثواب والعقاب وصفاته لا توصف بغلبة إحداهما الأخرى، وقال الطيبي أي لما خلق الخلق حكم حكما جازما ووعد وعدا لازما لا خلف فيه بأن رحمتي سبقت غضبي فإن المبالغ في حكمه إذا أراد إحكامه عقد عليه سجلا ).
سبحانه الغني المغني و في الصحيح ( يَدُ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَقَالَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْأُخْرَى الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ) و العبد المسكين الفقير الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ جميل السجايا، يُصلح كبوته و يعتدل مع خالقه، و يسدد رميه، و يقارب، و يمضي نحو غرضه بهمة و روحٍ عالية ، مستظلاً برحمة الرحمن الرحيم غير المتناهية، و التي لا يبلغ كنه معرفتها أحد ، و المؤمن قد اختص بأنه طَمَاعَية مختار نحو الخلود في أعلى الجنان ـ و الله الرحيم قد أطْمَعَهُ بقوله: (ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) ـ متعطش للخلد، والثبات الدائم، والبقاء اللازم الذي لا ينقطع، مترنم بقول امرؤ القيس:
و أمة محمد مرحومة مبشرة بالبشير، ما ترك ثغرة للقنوط يتسرب عبرها إلى أفئدة و نفوس أتباعه و لما شَكَتِ الصحابة ما وجدته في نفوسها، عالج ذلك بإغلاق باب الشك و القنوط في رحمة الله بأبلغ عبارة وأصرحها؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :( قلنا ما لنا يا رسول الله إذا كنا عندك كانت قلوبنا في الآخرة فإذا رجعنا ذهب، فقال لو كنتم تكونون إذا رجعتم كهيئتكم عندي لزارتكم الملائكة في بيوتكم ولصافحتكم بأكفها ولو كنتم لا تذنبون لجاء الله بخلق يذنبون فيغفر لهم قلت يا رسول الله أخبرنا عن الجنة ما بناؤها قال لبنة من ذهب ولبنة من فضة ملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وتربتها الورس والزعفران من يدخلها يخلد لا يموت وينعم لا يبؤس، لا تخرق ثيابهم ولا يبلى شبابهم)
و الكافر خِبٌّ لَئِيمٌ مختص بالقُنُوط، مرارة الإحباط ملازمة لحنجرته، ( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون)، و لو يعلم المرء ما يأتيه بعد الموت من الأهوال والشدائد ما أكل أكلة ولا شرب شربة إلا وهو يبكي، ويضرب على صدره حيرة ودهشا، قال الغزالي:( فعلى العاقل التفكر في عقاب الآخرة وأهوالها وشدائدها وحسرات العاصين في الحرمان من النعيم المقيم ) فالتفريج والتنفيس والترويح في التعلق بحبل الرجاء، و التذلل لرحمة الله.
و اليأس من روح الله، والقنوط من عفوه وكرمه، هو منهج الكافرين، لا يشبه سبيل المؤمنين، بل يجافي منهج الموحدين، وهو من الكبائر و القبائح: (الكبائر أربعة اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله والشرك بالله) و عن ابن عباس رضي الله عنه ( أن رجلا قال يا رسول الله: ما الكبائر؟ قال الشرك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله )، و عليه يعتبر القنوط نقض لعرى الشريعة .(/1)
و الفأل الحسن و الرجاء الواسع، مطلب الصالحين، و سنة الراشدين المهديين، وسبيل الناجين الفائزين، قال علي رضي الله عنه لأهل العراق (إنكم تقولون إن أرجى آية في كتاب الله عز وجل: ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله)، قالوا إنا نقول ذلك، قال ولكنا أهل البيت نقول إن أرجى آية (ولسوف يعطيك ربك فترضى)، وفي الحديث لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذاً والله لا أرضى و واحد من أمتي في النار )، فواجب المسلم معاداة القنوط من رحمة الله جل وعلا، و التوسط وعدم المبالغة في الاتكال على سعة رحمته تعالى بالإهمال و التقاعس و التلهي عن العمل الصالح، و في حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةِ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ وَاخْتَالَ وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالِ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى وَنَسِيَ الْجَبَّارَ الْأَعْلَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا وَلَهَا وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا وَطَغَى وَنَسِيَ الْمُبْتَدَا وَالْمُنْتَهَى بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشُّبُهَاتِ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ) .
وظواهر النصوص ترشدنا لذلك؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ) عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ ) .
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ ( قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فَإِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ لِمَ فَعَلْتَ قَالَ مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ فَغَفَرَ لَهُ) واليه الإشارة بقوله تعالى: (وكان بالمؤمنين رحيما).(/2)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: (أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ) وَنَزَلَتْ ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) قال ابن عباس وعطاء: ( نزلت في وحشي قاتل حمزة لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه )، فإذا كان قاتل أسد الله حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقنط من رحمة الله، فما بال من غيره يقنط، و قوله تعالى:( قل يا عبادي، أفهم بالإضافة تخصيص المؤمنين و نداء ودعوة من الله لأمة المعصوم صلى الله عليه وسلم المرحومة، فوجب أن نستجيب، و نفرح و نسعد بصفح الله و عفوه، و قوله تعالى: ( الذين أسرفوا) أي جاوزوا الحد على أنفسهم بالانهماك في المعاصي (لا تقنطوا) لا تيأسوا من رحمة الله مغفرته أولا وتفضله ثانيا. قوله تعالى: (إن الله يغفر الذنوب جميعا) يسترها بعفوه ولو بلا توبة إذا شاء، و إذا وعد الله الكفار أعداء الله و قتلة الأنبياء و أعداء الإنسانية، بالمغفرة ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)، فكيف يسوغ للمؤمن الموحد أن يسمح لضميره بالشك في عفوه جل وعلا. و قد شرعت أبواب الرجاء والمحبة أمامه متسعة عَنْ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ قال: (كنا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ إِذْ نَادَاهُ أَعْرَابِيٌّ بِصَوْتٍ لَهُ جَهْوَرِيٍّ يَا مُحَمَّدُ فَأَجَابَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوًا مِنْ صَوْتِهِ هَاؤُمُ فَقُلْنَا لَهُ وَيْحَكَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ فَإِنَّكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ نُهِيتَ عَنْ هَذَا فَقَالَ وَاللَّهِ لَا أَغْضُضُ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ الْمَرْءُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ فقَالَ النَّبِيُّ : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَا زَالَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى ذَكَرَ بَابًا مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ مَسِيرَةُ سَبْعِينَ عَامًا عَرْضُهُ أَوْ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي عَرْضِهِ أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ عَامًا قَالَ سُفْيَانُ قِبَلَ الشَّامِ خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مَفْتُوحًا يَعْنِي لِلتَّوْبَةِ لَا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْهُ). عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ قَالَ أَبو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ)، وعَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)، و ينزل ربنا في كل ليلة يدعو عباده ليغفر و يستجيب لهم؛ عن أبى هُرَيْرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (يَنْزِلُ اللَّهُ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا لِشَطْرِ اللَّيْلِ أَوْ لِثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ أَوْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ثُمَّ يَقُولُ مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ) و قد عقد المحدثون الأبواب و الفصول عن سعة رحمة الله و ساقوا بأسانيدهم الصحاح و الحسان الكثير من كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم في بيان سعة رحمة الله ، ما يذهب هم القنوط، قال ابن أبي شيبة في مصنفه ( كتاب ذكر رحمة الله - ما ذكر في سعة رحمة الله تعالى) عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم)، وعن سلمان رضي الله عنه قال( لما أري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض رأى عبدا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر فدعا عليه فهلك ثم رأى آخر فدعا عليه فهلك فقال الله أنزلوا عبدي لا تهلكوا عبادي ).
عباد الله لا تقنطوا من رحمة الله.(/3)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم من علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله الذي أطعم من الطعام وسقى من الشراب وكسى من العري وهدى من الضلالة وبصر من عمى وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد أيها الأحبة في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذه ليلة الأحد الموافق للثامن من الشهر السادس للعام السابع عشر بعد الأربعمائة والألف وفي هذا الجامع المبارك جامع الملك فهد بمدينة >بريدة< نلتقي بهذه الوجوه الطيبة المباركة وفي مجلس من مجالس الذكر يا سامعا لكل شكوى يا خالقا الأكوان أنت المرتجى وإليك وحدك ترتقي صلواتي يا خالقي ماذا أقول وأنت تعلمني وأنت تعلمني وتعلم حاجتي وشكايتي يا خالقي ماذا أقول يا خالقي ماذا أقول وأنت مطلع على شكواي والأنات اللهم يا موضع كل شكوى ويا سامع كل نجوى ويا شاهد كل بلوى ويا عالم كل خفية ويا كاشف كل بلية يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ضمائر الصامتين ندعوك دعاء من اشتدت فاقته وضعفت قوته وقلت حيلته دعاء الغرباء المضطرين الذين لا يجدون لكشف ما هم فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين اكشف ما بنا وبالمسلمين من ضعف وفتور وذل وهوان يا سامعا لكل شكوى أعن المساكين والمستضعفين وارحم النساء الثكالى والأطفال اليتامى وذا الشيبة الكبير إنك على كل شيء قدير معاشر الاخوة والأخوات إن في تقلب الدهر عجائب وفي تغير الأحوال مواعظ توالت العقبات وتكاثرت النكبات وطغت الماديات على كثير من الخلق فتنكروا لربهم ووهنت صلتهم به اعتمدوا على الأسباب المادية البحتة فسادت موجات القلق والاضطراب والضعف والهوان وعم الخوف والهلع من المستقبل بل وعلى المستقبل تخلوا عن ربهم فتخلى الله عنهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) جميع الخلق مفتقرون إلى الله مفتقرون إلى الله في كل شئونهم وأحوالهم وفي كل كبيرة وصغيرة وفي هذا العصر تعلق الناس بالناس وشكا الناس إلى الناس ولا بأس أن يستعان بالناس فيما يقدرون عليه لكن أن يكون المعتمد عليهم والسؤال إليهم والتعلق بهم فهذا هو الهلاك بعينه فإن من تعلق بشيء وكل إليه نعتمد على أنفسنا وذكائنا بكل غرور وعجب ....أما أن نسأل الله العون والتوفيق ونلح عليه بالدعاء ونحرص على دوام الصلة بالله في كل الأشياء وفي الشدة والرخاء فهذا آخِر ما يفكر فيه بعض الناس
فقيرا جئت بابك يا إلهي
ولست إلى عبادك بالفقير
غني عنهم بيقين قلبي
وأطمع منك بالفضل الكبير
إلهي ما سألت سواك عونا
فحسبي العون من رب قدير
إ لهي ما سألت سواك عفوا
فحسبي العفو من رب غفور
إلهي ما سألت سواك هديا
فحسبي الهدي من رب بصير
إذا لم أستعن بك يا إلهي
فمن عوني سواك ومن مجيرِ
أيها الاخوة إن الفرار إلى الله واللجوء إليه في كل حال وفي كل كرب وهم هو السبيل للتخلص من فتورنا وضعفنا وذلنا وهواننا إن في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحن وبلايا آلاما تضيق بها النفوس ومزعجات تورث الخوف والجزع كم في الدنيا من عين باكية وكم فيها من قلب حزين وكم فيها من الضعفاء والمعدومين قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل هذا يشكو علة وسقما وذاك حاجة وفقرا وآخر هما وقلقا عزيز قد ذل وغني افتقر وصحيح مرض رجل يتبرم من زوجه وولده وآخر يشكو ويئن من ظلم سيده وثالث كسدت وبارت تجارته شاب أو فتاة يبحث عن عروس وطالب يشكو كثرة الامتحانات والدروس هذا مسحور وذاك مدين وآخر ابتلي بالإدمان والتدخين ورابع أصابه الخوف ووسوسة الشياطين تلك هي الدنيا تضحك وتبكي وتجمع وتشتت شدة ورخاء وسراء وضراء وصدق الله العظيم (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) أيها الاخوة السؤال الذي يجب أن يكون؛ هؤلاء إلى من يشكون وأيديهم إلى من يمدون يجيبك واقع الحال على بشر مثلهم يترددون وللعبيد يتملقون يسألون ويلحون وفي الثناء والمديح يتقلبون وربما على السحرة والكهنة يتهافتون نعم والله تؤلمنا شكاوي المستضعفين وزفرات المساكين وصرخات المنكوبين وتدمع أعيننا يعلم الله لأهات المتوجعين وأنات المظلومين وانكسار الملذوعين لكن أليس إلى الله وحده المشتكي أليس إلى الله وحده المشتكي أين الإيمان بالله أين التوكل على الله أين الثقة واليقين بالله
وإذا عرفت بلية فاصبر لها
صبر الكريم فإنه بك أرحم
وإذا شكوت إلى ابن أدم فإنما
تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم(/1)
ألم نسمع عن أناس كانوا يشكون إلى الله حتى انقطاع شسع نعلهم نعم حتى سير النعل كانوا يشكون إلى الله بل كانوا يسألون الله حتى الملح يا أصحاب الحاجات أيها المرضى أيها المدينون أيها المكروب والمظلوم أيها المعسر والمهموم أيها الفقير والمحروم يا من يبحث عن السعادة الزوجية يا من يشكو العقم ويبحث عن الذرية يا من يريد التوفيق في الدراسة والوظيفة يا من يهتم لأمر المسلمين يا كل محتاج يا من ضاقت عليه الأرض بما رحبت لماذا لا نشكو إلى الله أمرنا لماذا لا نشكو إلى الله أمرنا وهو القائل (ادعون أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) لماذا لا نرفع أكف الضراعة إلى الله وهو القائل (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعي إِذَا دَعَانِ ) لماذا ضعف الصلة بالله وقله في الاعتماد على الله وهو القائل (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ) لولا دعاؤكم أيها المؤمنون أيها المسلمون يا أصحاب الحاجات ألم نقرأ في القرآن قول الحق عز وجل (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ) لماذا ( لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) فأين نحن من الشكوى لله أين نحن من الإلحاح والتضرع لله سبحان الله ألسنا بحاجة لربنا أنعتمد على قوتنا وحولنا والله ثم والله لا حول لنا ولا قوة إلا بالله والله لا شفاء إلا بيد الله ولا كاشف للبلوى إلا الله لا توفيق ولا فلاح ولا سعادة ولا نجاح إلا من الله العجيب والغريب أيها الاخوة أن كل مسلم يعلم هذا ويعترف بهذا بل ويقسم على هذا فلماذا إذن تتعلق القلوب بالضعفاء والعاجزين ولماذا نشكو إلى الناس ونلجأ للمخلوقين
سل الله ربك ما عنده
ولا تسأل الناس ما عندهم
ولا تبتغي من سواه الغنى
وكن عبده لا تكن عبدهم
فيا من إذا بليت سلاك أحبابك وهجرك أصحابك يا من نزلت به نازلة أو حلت به كارثة يا من بليت بمصيبة أو بلاء ارفع يديك إلى السماء وأكثر الدمع والبكاء وألح على الله بالدعاء وقل يا سامعا لكل شكوى " إذا استعنت فاستعن بالله وإذا سألت فاسأل الله " وقل يا سامعا لكل شكوى توكل على الله وحده وأعلن بصدق أنك عبده واسجد لله بخشوع وردد بصوت مسموع يا سامعا لكل شكوى :
أنت الملاذ إذا ما أزمة شملت
وأنت ملجأ من ضاقت به الحيل
أنت المنادى به في كل حادثة
أنت الإله وأنت الذخر والأمل
أنت الرجاء لمن سدت مذاهبه
أنت الدليل لمن ضلت به السبل
إنا قصدناك والآمال واقعة
عليك والكل ملهوف ومبتهل(/2)
إن الأنبياء والرسل وهم خير الخلق وأحب الناس إلى الله نزل بهم البلاء واشتد بهم الكرب فماذا فعلوا وإلى من لجئوا ؟ أخي الحبيب أختصر لك الإجابة إنه التضرع والدعاء والافتقار لرب الأرض والسماء إنها الشكاية لله وحسن الصلة بالله هذا نوح عليه السلام يشكو أمره إلى الله ويلجأ إلى مولاه قال تعالى (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) كانت المناجاة كانت المناجاة فكانت الإجابة من الرحمن الرحيم وقال (وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ) وقال عز من قائل (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء منْهَمِرٍ ) هذا أيوب عليه السلام ابتلاه الله بالمرض ثمانية عشر عاما حتى أن الناس ملوا زيارته لطول المدة فلم يبق معه إلا رجلان من إخوانه يزورانه لكنه لم ييئس عليه السلام بل صبر واحتسب وأثنى الله عليه فقال (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) أواب أي رجاع منيب إلى ربه ظل على صلته بربه وثقته به ورضاه بما قسم له توجه إلى ربه بالشكوى ليرفع عنه الضر والبلوى قال تعالى (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فماذا كانت النتيجة قال الحق عز وجل العليم البصير بعباده الرحمن الرحيم قال (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم معَهُمْ رَحْمَةً منْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ) هذا يونس عليه السلام رفع الشكاية لله فلم يناج ولم يناد إلا الله قال تعالى (وَذَا النُّونِ إِذ ذهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لن نقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) فماذا كانت النتيجة ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ) وذكريا عليه السلام قال الحق عز وجل عنه (وذكريا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) الذين يشكون العقم وقلة الولد (وذكريا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) فماذا كانت النتيجة ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى َوأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) إذن لماذا استجاب الله دعاءه لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات كانوا لا يملون الدعاء بل كان القلب متصلا متعلقا بالله لذلك قال الله عنهم وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ؛ خاشعين متذللين معترفين بالتقصير فالشكاية تخرج من القلب قبل اللسان يعقوب عليه السلام قال (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) انظروا إلى اليقين انظروا للمعرفة لرب العالمين (وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) فاستجاب الله دعاه وشكواه ورد عليه يوسف وأخاه وهذا يوسف عليه السلام ابتلاه الله بكيد النساء فلجأ إلى الله وشكا إليه ودعاه فقال (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) وأخبر الله عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ ) استغاثة لجاءة إلى الله شكوى وصلة لله سبحانه وتعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ منَ الملائكة مُرْدِفِينَ ) وهكذا أيها الأحبة إننا حينما نستعرض حياة الرسل جميعا كما قصها علينا القرآن الكريم نرى أن الابتلاء والامتحان كانا مادتها وماؤها وأن الصبر وحسن الصلة بالله ودوام الالتجاء وكثرة الدعاء وحلاوة الشكوى كان قوامها وما أشرنا إليه إنما هي نماذج من الاستجابة للدعاء ومن نظر في كتب السير والتفاسير وقف على شدة البلاء الذي أصاب الأنبياء وعلم أن الاستجابة جاءت بعد إلحاح ودعاء واستغاثة ونداء إنها آيات بينات وبراهين واضحات وتقول بل وتعني أن من توكل واعتمد على الله وأحسن الصلة بمولاه استجاب الله دعاءه وحفظه ورعاه فإن لم يكن ذلك في الدنيا كان في الآخرة وما عند الله خير وأبقى إنها صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية لتسجل أن لا اعتماد إلا على الله وأن لا فارج للهم ولا كاشف للبلوى إلا الله هذا هو طريق الاستعلاء أن ننظر إلى السماء وأن نلح بالدعاء لأن الشكوى إلى الله تشعرك بالقوة والسعادة وأنك تأوي إلى ركن شديد أما الشكوى إلى الناس والنظر لما في أيدي الناس سيشعرك(/3)
بالضعف والذل والإهانة والتبعية يا أخا التوحيد أليس هذا أصل من أصول التوحيد إن من أصول التوحيد أن تتعلق القلوب بخالقها في وقت الشدة والرخاء والخوف والأمن والمرض والصحة بل وفي كل حال وزمان وما نراه اليوم من تعلق القلوب بالمخلوقين وبالأسباب وحدها دون اللجوء إلى الله لهو والله نذير خطر لزعزعة عقيدة التوحيد في النفوس أيها الأحبة إن الشكوى لله والتضرع إلى الله وإظهار الحاجة إليه والاعتراف بالافتقار إليه من أعظم عرى الإيمان وثوابت التوحيد وبرهان ذلك الدعاء والإلحاح في السؤال والثقة واليقين بالله في كل حال ولقد زخرت كتب السنة بأنواع من الدعاء تجعل المسلم على صلة بربه وفي حرز من عدوه يقضي أمره ويقضي همه في كل مناسبة دعاء في اليقظة والمنام والحركة والسكون قياما وقعودا وعلى الجنوب ابتهال وتضرع في كل ما أهم العبد وهل إلى غير الله مفر أم هل إلى غيره ملاذ ففي المرض مثلا الأدعية كثيرة والأحاديث مستفيضة إليك على سبيل المثال ما أخرجه [البخاري] و[مسلم] من حديث [عائشة] رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أو" أن رسول الله كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها" وأخرج البخاري ومسلم أيضا من حديث عائشة قالت" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال : اذهب الباس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما "أي لا يترك سقما وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود [والترمذي] عن [عثمان بن أبي العاص] رضي الله تعالى عنه أنه شكي رسول الله أو شكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم فقال له صلى الله عليه وآله وسلم انظروا لرسول الله لقدوتنا وحبيبنا يربي الناس يربي أصحابه على الاعتماد واللجوء إلى الله فقال له صلى الله عليه وسلم ضع يدك على الذي تألم من جسدك ضع يدك الإرشاد أولا لله التعلق أولا بالله لم يرشده أولا لطبيب حاذق ولا بأس بهذا لكن التعلق بالله هو أولا " ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله بسم الله بسم الله ثم قل سبعا أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر " وفي رواية امسحه بيمينك سبع مرات وفي رواية قال عثمان فقلت ذلك فأذهب الله ما كان بي فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم .سبحان الله اسمعوا لحسن الصلة بالله والتوكل على الله فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم أيها المريض اعلم أن من أعظم أسباب الشفاء التداوي بالرقى الشرعية من القرآن والأدعية النبوية ولها أثر عجيب في شفاء المريض وزوال علته لكنها تريد قلبا صادقا وذلا وخضوعا لله رددها أنت بلسانك فرقيتك لنفسك أفضل وأنجى فأنت المريض وأنت صاحب الحاجة وأنت المضطر وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة وما حك جلدك مثل ظفرك فتوكل على الله بصدق وألح عليه بدون ملل وأظهر ضعفك وعجزك وحالك وفقرك إليه وستجد النتيجة العجيبة إن شاء الله ثقة بالله فإلى كل مريض مهما كان مرضه أقول أخي الحبيب شفاك الله وعافاك اعلم أن الأمراض من جملة ما يبتلي الله به عباده والله عز وجل لا يقضي شيئا إلا وفيه الخير والرحمة بعباده وربما ربما كان مرضك لحكمة لحكمة خفيت عليك أو خفيت على عقلك البشري الضعيف وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم أيها المحب شفاك الله هل علمت أن للأمراض والأسقام فوائد وحكم أشار [ابن القيم] إلى أنه أحصاها فزادت على مائة فائدة وانظر كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل صفحة خمسة وعشرين وخمسمائة أيها المسلم أيها المسلم أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ويعافيك هل سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" والحديث متفق عليه من حديث [ابن مسعود] وهل سمعت أنه صلى الله عليه وسلم زار أم العلاء وهي مريضة فقال "لها ابشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما يذهب خبث الذهب والفضة أو كما تذهب النار خبث الذهب والفضة" والحديث أخرجه [أبو داود] وحسنه [المنذري] وقال [الألباني] في صحيحه هذا سند جيد قال[ ابن عبد البر] رحمه الله الذنوب تكفرها المصائب والآلام والأمراض والأسقام وهذا أمر مجتمع عليه .انتهى كلامه رحمه الله والأحاديث والآثار في هذا مأثورة ليس هذا مقام بسطها لكن المراد هنا أننا نرى حال بعض الناس إذا مرض يفعل كل الأسباب المادية من ذهاب للأطباء وأخذ للدواء وبذل للأموال وسفر للقريب والبعيد ولا شك أن هذا مشروع محمود ولكن الأمر الغريب أن يطرق كل الأبواب وينسى باب مسبب الأسباب بل ربما لجأ للسحرة والمشعوذين نعوذ بالله من الشرك والمشركين ألم يقرأ في القرآن ( وإذا مرضت فهو يشفين ) أيها المريض اعلم أن الشافي الله ولا شفاء إلا شفاؤه أيها المريض بل يا كل مصاب أيا كانت مصيبته هل سألت نفسك لماذا(/4)
ابتلاك الله بهذا المرض أو بهذه المصيبة ربما لخير كثير ولحكم لا تعلمها ولكن الله يعلمها ألم يخطر ببالك أنه أصابك بهذا البلاء ليسمع صوتك وأنت تدعوه ويرى فقرك وأنت ترجوه فمن فوائد المصائب استخراج مكنون عبودية الدعاء قال أحدهم سبحان من استخرج الدعاء بالبلاء وفي الأثر "أن الله ابتلى عبدا صالحا من عباده وقال لملائكته لأسمع صوته" يعني بالدعاء والإلحاح أيها المريض المرض يريك فقرك وحاجتك إلى الله وأنه لا غنى لك عنه طرفة عين فيتعلق قلبك بالله وتقبل عليه بعد أن كنت غافلا عنه وصدق من قال فربما صحت الأجسام بالعلل فارفع يديك ارفع يديك وأسل دمع عينيك وأظهر فقرك وعجزك واعترف بذلك وضعفك في رواية عن [سعيد بن عنبسة] قال بينما رجل جالس وهو يعبث بالحصى ويحذف به إذ رجعت حصاة منها عليه فصارت في أذنه فجهدوا بكل حيلة فلم يقدروا على إخراجها فبقيت الحصاة في أذنه مدة وهي تؤلمه فبينما هو ذات يوم جالس إذ سمع قارئا يقرأ ( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ) فقال الرجل يا رب يا رب أنت المجيب وأنا المضطر فاكشف عني ضر ما أنا فيه فنزلت الحصاة من أذنه في الحال لا تعجب إن ربي لسميع الدعاء إذا أراد شيئا قال له كن فيكون أيها المريض إياك وسوء الظن بالله إن طال بك المرض فتعتقد أن الله أراد بك سوءا أو أنه لا يريد معافاتك أو أنه ظالم لك فإنك إن ظننت ذلك إنك على خطر عظيم أخرج [الإمام أحمد] بسند صحيح في السنة الصحيحة من حديث [أبي هريرة] أنه صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى يقول " أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرا فله وإن ظن شرا فله" يعني ما كان في ظنه فإني فاعله به فأحسن الظن بالله تجد خيرا إن شاء الله لا تجزعن إذا نالتك موجعة
لا تجزعن إذا نالتك موجعة
واضرع إلى الله مسرع نحوك الفرج
ثم استعن بجميل الصبر محتسبا
فصب يسرك بعد العسر ينثلج
فسوف يدرج عنك الهم مرتحلا
وإن أقام قليلا سوف يندلج
هذا في المرض وأطلت فيه لكثرة المرضى وحاجة الناس إلى مثل هذه التوجيهات وهي تحتاج إلى دروس ومحاضرات لكن حسبي ما ذكرته الآن لأن الموضوع عام في المصائب والآلام ومن المصائب والآلام التي يحتاج الناس فيها الشكوى إلى الله تراكم الديون وكثرة المعسرين كم من مدين عجز عن الوفاء وكم من معسر يعيش في شقاء هم في الليل وذل في النهار أحزان وآلام لا يغمض في منام ولا يهنأ في طعام طريد للغرماء أو مع السجناء صبية صغار وبيت للإيجار وزوجة مسكينة لا تدري أتطرق أبواب المحسنين أو تسلك طريق الفاسقين هذه الرسالة رسالة مؤلمة من زوجة إلى زوجها في السجن بسبب الديون جاء فيها تقول الزوجة : لم أتمتع معك في حياتنا الزوجية إلا فترة من الزمن حتى غيبوك في غياهب السجون كم سنة غبت عني لا أدري ماذا فعل الله بك ولا أدري عنك أحي فترجى أم ميت فتنعى ليتك ترى حالي وحال أولادك ليتك ترى حال صغارك لست أدري هل أخون أمانة الله وأمانتك وأطلب الرزق لهؤلاء بطرق محرمة وأنا في ذمتك وعهدك أم أطلب الطلاق ويضيع أولادك إلى آخر الرسالة ذكرها صاحب كتاب نداء إلى الدائنين والمدينين وأقول أيها الأحبة تصوروا حال هذا الزوج كيف يكون وهو يقرأ هذه الكلمات ديون وسجون وهموم وأولاد ذل وخضوع للناس واسمعوا لهذا الرجل وهو يشكو حاله فيقول أنا رجل سجين علي مبلغ من المال وصار لي في السجن أكثر من سنة ونصف ولا يقبل خصمي الكفيل فأنا معسر وصاحب عائلة فهل يجوز سجني إلى هؤلاء وأمثالهم أقول لماذا طرقتم الأبواب كلها ونسيتم باب من" يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا خائب اليدين "كما في [أبي داود] و[الترمذي] وقال [ أبن حجر] سنده جيد قال [ السريقسطي ] كن مثل الصبي إذا اشتهى على أبويه شهوة فلم يمكناه قعد يبكي عليهما فكن أنت مثله فإذا سألت ربك ولم يعطك فاقعد فابك عليه فاقعد فابكي عليه كما في شعب الإيمان [ للبيهقي] :
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
زرعا وعند الله منها مخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها ...
فرجت وكان يظنها لا تفرج(/5)
ومن الأدعية في قضاء الدين ما أخرجه أبي داود في سننه من حديث [أبي سعيد الخدري] قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم فرأى فيه رجل من الأنصار يقال له أبو أمامة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إني أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة قال هموم لزمتني وديون يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم أفلا أعلمك كلاما يعلق القلوب يعلق القلوب بالله صلوات الله وسلامه عليه "أفلا أعلمك كلاما إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك قال قلت بلى يا رسول الله قال قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال قال ففعلت ذلك فأذهب الله تعالى همي وغمي وقضى عني ديني" وروى [البيهقي] في فضائل الأعمال عن [حماد بن سلمة] عن [ عاصم بن أبي إسحاق ] شيخ القراء في زمانه قال أصابتني خصاصة أي حاجة وفاقة فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة فخرجت من منزله إلى الجبانة أي إلى الصحراء فصليت ما شاء الله تعالى ثم وضعت وجهي على الأرض وقلت يا مسبب الأسباب ويا مفتح الأبواب ويا سامع الأصوات يا مجيب الدعوات يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك يلح على الله بهذا الدعاء قال والله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعة بقربي فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانين دينارا وجوهرا ملفوف في قطنه فبعت الجواهر بمبلغ عظيم وأفضلت أي أبقيت الدنانير فاشتريت بها عقارا وحمدت الله تعالى على ذلك لا نعجب أيها الاخوة إن ربي لسميع الدعاء ومن يتوكل على الله فهو حسبه ومن الأدعية عند الهم والقلق ما أخرجه أحمد في المسند من حديث [عبد الله بن مسعود ] رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا وفي رواية فرحا قال فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها فقال بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها" صححه ابن حبان وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية أيها الاخوة إن الإنسان منا ضعيف ضعيف فكيف إذا اجتمعت عليه الهموم والأحزان وشواغل الدنيا ومشاكلها فزادته ضعفا وجعلته فريسة للهم والقلق والتمزق النفسي انظروا للعيادات النفسية وكثرة المراجعين لها شباب وفتيات في أعمار الزهور أين هؤلاء من الاعتصام بالله والاتصال والشكوى للذي يقدر أو للذي قدر الهموم والغموم وقضى بالمصائب والأحزان يتصل به متذللا معترفا بذنبه طارقا بابه مستعينا به مستيقنا بأنه هو القادر على كشفها دون سواه وما سواه ؛الأسباب هو الذي يهيئها ويقدرها للعبد إن الله تعالى يقول (خلق الإنسان ضعيفا) قال [ ابن القيم ] في طريق الهجرتين فإنه أي الإنسان ضعيف البنية ضعيف القوة ضعيف الإرادة ضعيف العلم ضعيف الصبر، والآفات إليه مع هذا أسرع من السيل في طيب الحدوق فالاضطرار لا بد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده فإن تخلى عنه هذا المساعد المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه إلى آخر كلامه إذن فلنتعلم هذا الحديث كما نصحنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فيه خضوعا لله فيه اعتراف بالذل والعبودية لله فيه توسل واستغاثة بجميع أسماء الله ما يعرف منها وما لا يعرف ما كتب وما أخفى وأبشر أخي الحبيب فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله له بها من خطاياه" كم في البخاري ومسلم
يا صاحب الهم إن الهم منفرج
أبشر بخير فإن الفارج الله
إذا بليت فثق بالله وارض به
إن الذي يكشف البلوى هو الله
ومن الأدعية عند النوازل والفتن والخوف ما أخرجه [ أبو داود والنسائي ] عن [ أبي موسى ] أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول أو كان إذا خاف قوما قال " اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم "وكان يقول صلى الله عليه وسلم عند لقاء العدو" اللهم أنت عضدي وأنت ناصري بك أصول وبك أجول وبك أقاتل" كما عند أبي داود والترمذي وأحمد وفي صحيح البخاري من حديث [ابن عباس] قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم فإذا كان المحيي والمميت والرزاق هو الله فلماذا التعلق بغير الله لماذا التعلق بغير الله ولماذا الخوف من الناس وصلى الله عليه وسلم يقول " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك" أيها المسلم .(/6)
أيها الاخوة والأخوات إن من أعظم البلايا وأشد الرزايا ما يصيب المسلمين كل يوم من غزو واجتياح وتعديات ومظالم وفقر وتجويع حتى أصاب بعض النفوس الضعيفة أصابها اليأس والقنوط والإحباط وفقدان الثقة والأمل لماذا أيها الاخوة أليس الأمر لله من قبل ومن بعد أليس حسبنا الله وكفى بالله حسيبا أليس الله بقادر أليس الله أو أليس هو الناصر وكفى بالله نصيرا ألا يعلم الله مكرهم ألم يقل ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) (أليس الله بكاف عبده)( أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) ألم يقل ( إنا كفيناك المستهزئين ) ألم يقل ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) معاشر الاخوة اسمعوا وعوا وأعلنوا واعلموا إن مصيبتنا ليست في قوة عدونا إنما هي بضعف صلتنا بربنا وضعف ثقتنا وقلة اعتمادنا عليه لنفتش في أنفسنا عند وقوعنا في الشدائد والمحن أين الضراعة والشكوى لله أين اللجاءة والمناجاة لله ليس شيء أفضل عند الله من الدعاء لأن فيه إظهار الفقر والعجز والتذلل والاعتراف بقوة الله وقدرته وغناه أيها المسلمون نريد أن نتعلم فن الدعاء والتذلل والخضوع والبكاء لنعترف بالفقر إليه ولنظهر العجز والضعف بين يديه أليس لنا في رسول الله قدوة أليس لنا أسوة أوذي أشد الأذى وكذب أشد التكذيب اتهم بعرضه وخدشت كرامته وطرد من بلده عاش يتيما وافتقر ومن شدة الجوع ربط على بطنه الحجر قيل عنه كذاب وساحر ومجنون وشاعر توضع العراقيل في طريقه وسلى الجزور على ظهره يشج رأسه وتكسر ثنيته يقتل عمه جمعوا عليه الأحزاب وحاصروه المشركون والمنافقون واليهود يذهب إلى الطائف ليبلغ دعوته فيقابل بالتكذيب والسب والشتم ويطرد ويلاحق ويرمى بالحجارة فماذا فعل بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه أين ذهب من يسأل إلى من يشكو إلى ذي الجبروت والملكوت إلى القوي العزيز فأعلن صلى الله عليه وآله وسلم الشكوى ورفع يديه بالنجوى دعا وألح وبكى وتظلم وتألم وشكا لكن اسمع لفن الشكوى وإظهار الضعف والعجز والافتقار منه صلى الله عليه وسلم قال " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري إن لم تكن ساخطا علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السماوات وأشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تحل علي غضبك أو تنزل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك " هكذا كان صلى الله عليه وآله وسلم ضراعة ونجوى لربه والحديث أخرجه [الطبراني] كما في الكبير وقال [الهيثمي] في المجمع رواه الطبراني وفيه [ابن إسحاق] وهو مدلس ثقة ورجاله ثقات .(/7)
أيها الاخوة لماذا نشكو إلى الناس ونبث الضعف والهوان والهزيمة النفسية في مجالسنا وننسى أو نتكاسل عن الشكوى لمن بيده الأمر من قبل ومن بعد ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ) أليس فينا من بينه وبين الله أسرار أليس فينا أيها الأحبة أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره أليس فينا من يرفع يديه إلى الله في ظلمة الليل يسجد ويركع ينتحب إلى الله يرفع الشكوى إلى الله فلنشكو إلى الله ولنقوي الصلة بالله والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ومن الأدعية في المصيبة والكرب والشدة والضيق ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم" وفي رواية كان إذا أحزبه أمر قال ذلك قال[ النووي] في شرح مسلم هو حديث جليل ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة قال الطبري كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب وأخرج[ أبو داود] و[أحمد ]عن [أبي بكرة ] رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " دعوات المكروب اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت " حسنه [ ابن حجر] كما في الفتوحات الربانية و[ الألباني ] كما في صحيح الجامع وأخرج [ الترمذي [ و[ أحمد ] عن [ سعد بن أبي وقاص] رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة [ذي النون ]إذ دعا وهو في بطن الحوت ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له حسنه [ابن حجر] كما في الفتوحات وصححه الألباني كما في صحيح الجامع لما قالها [يونس ]عليه السلام وهو في بطن الحوت قال الله عز وجل ( فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين) قال [ابن كثير] في تفسيره ( وكذلك ننجي المؤمنين )أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء فقد جاء الترغيب في الدعاء فيها عن سيد الأنبياء انتهى كلامه .
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث [ أم سلمة ] رضي الله تعالى عنها أنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أخلف الله له خيرا منها قالت فلما مات أبو سلمة قلت أي قالت في نفسها أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذن فالاسترجاع ملجأ وملاذ لذوي المصائب ومعناه باختصار إن لله توحيد وإقرار بالعبودية والملك وإنا لله وإنا إليه راجعون إقرار بأن الله يمسكنا ثم يبعثنا إذاً فالأمر كله لله فلا ملجأ منه إلا إليه والله عز وجل يقول ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ) .
وإليكم أيها الأحبة إليكم أمثلة ومواقف للذين لجئوا إلى حصن الإيمان وسلاح الدعاء وأدركوا أن المفزع بعد الإيمان هو الدعاء؛ السلاح الذي يستدفع به البلاء ويرد به شر القضاء عن [ أصبغ بن زيد ] قال مكثت أنا ومن عندي ثلاثا لم نطعم شيئا أي من الجوع فخرجت إلى ابنتي الصغيرة وقالت يا أبت الجوع؛ تشكو الجوع قال فأتيت الميضأة انظروا إلى من اللجاءة انظروا إلى من يلجئون فأتيت الميضأة وتوضأت وصليت ركعتين وألهمت دعاء دعوت به في آخره اللهم افتح على منك رزقا لا تجعل علي لأحد منة ولا لك علي في الآخرة فيه تبعة برحمتك يا أرحم الراحمين ثم انصرفت إلى البيت فإذا بابنتي الكبيرة قد قامت إلي وقالت يا أبه جاء رجل يقول إنه عمي بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق وحمال عليه من كل شيء في السوق وقال أقرئوا أخي السلام وقولوا له إذا احتجت إلى شيء فادع بهذا الدعاء تأتك حاجتك قال أصبغ بن زيد والله ما كان لي أخ قط ولا أعرف من كان هذا القائل ولكن الله على كل شيء قدير
فقلت للفكر لما صار مضطربا
وحارني الصبر والتفريط والجلد
دعها سماوية تجري على قدر
لا تعترضها بأمر منك تنفسد
تحفني بخفي اللطف خالقنا
نعم الوكيل ونعم العون والمدد(/8)
وعن [شقيق] ....قال كنت في بيتي قاعدا فقال لي أهلي قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به قال فتوضأت نرجع إلى السبب الذي كانوا يدورون حوله رضي الله تعالى عنهم وتوضأت وكان لي صديق لا يزال يقسم علي بالله إن يكن لي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه فخطر ذكره ببالي فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد فذكرت ما روي عن [أبي جعفر] قال من عرضت له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله فليبدأ فيها بالله بالله عز وجل قال فدخلت المسجد فصليت ركعتين فلما كنت في التشهد أفرغ علي النوم فرأيت في منامي أنه قيل يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه قال فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني به ربي فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة ثم تركت الذهاب لصاحبي وتوكلت على الله وانصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت أن أقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم إن ربي لسميع الدعاء فلا نعجب أيها الأحبة ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) واسمع لدعاء[ ابن القيم ] بالفاتحة يقول ومكثت بمكة مدة يعتريني أدواء لا أجد لها طبيبا ولا دواء فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأرى لها تأثيرا عجيبا فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما فكان كثير منهم يبرأ سريعا ذكر ذلك في الجواب الكافي وذكره أيضا في زاد المعاد وفي حديث [أبي سعيد الخدري] المتفق عليه لما قرأ على سيد الحي الفاتحة قال فكأنما نشط من عقال فهذا يشهد أيضا بفضل الفاتحة .
ومن المواقف الجميلة في الدعاء المواقف الطريفة أنه كان [لسعيد بن جبير] ديك كان يقوم من الليل لصياحه فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح فلم يصلِّ سعيد تلك الليلة أي لم يصلِّ قيام الليل فشق عليه ذلك فقال ما له قطع الله صوته يعني الديك وكان سعيد مجاب الدعوة فما سمع للديك صوت بعد ذلك الدعاء فقالت أم سعيد يا بني لا تدع على شيء بعدها ذكر ذلك [الذهبي] في السير وذكر أحد الدعاة في بعض رسائله أن رجلا من العباد كان مع أهله في الصحراء في جهة البادية وكان عابدا قانتا ذاكرا منيبا لله قال فانقطعت المياه المجاورة لنا وذهبت ألتمس ماء لأهلي فوجدت أن الغدير قد جف فعدت إليهم ثم التمسنا الماء يمنة ويسرة فلم نجد ولو قطرة وأدركنا الظمأ واحتاج أطفالي إلى الماء فتذكرت رب العزة سبحانه القريب المجيب فقمت فتيممت واستقبلت القبلة وصليت ركعتين ثم رفعت يدي وبكيت وسالت دموعي وسألت الله بإلحاح وتذكرت قوله ( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ) قال والله وما هو ألا أن قمت من مقامي وليس بالسماء من سحاب ولا غيم وإذا بسحابة قد توسطت مكاني ومنزلي في الصحراء واحتكمت على المكان ثم أنزلت ماءها فامتلأت الغدران من حولنا وعن يميننا وعن يسارنا فشربنا واغتسلنا وتوضأنا وحمدنا الله سبحانه وتعالى ثم ارتحلت قليلا خلف هذا المكان وإذا الجدب والقحط فعلمت أن الله ساقها لي بدعائي فحمدت الله عز وجل (وَهُوَ الذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) وذكر أيضا أن رجلا مسلما ذهب إلى إحدى الدول والتجأ بأهله إليها وطلب بأن تمنحه الجنسية قال فأغلقت في وجهه الأبواب وحاول هذا الرجل كل المحاولة قال واستفرغ جهده وعرض الأمر على كل معارفه فبارت الحيل وسدت السبل ثم لقي عالما ورعا فشكا إليه الحال قال له عليك بالثلث الأخير من الليل ادع مولاك فإنه الميسر سبحانه وتعالى قال هذا الرجل فوالله لقد تركت الذهاب إلى الناس وطلب الشفاعات وأخذت أداوم على الثلث الأخير كما أخبرني ذلك العالم وكنت أهتف لله في السحر وأدعوه فما هو إلا بعد أيام وتقدمت بمعروض عادي ولم أجعل بيني وبينهم واسطة فذهب هذا الخطاب وما هي إلا أيام وفوجئت بالبيت أني أدعى وأسلم الجنسية وكانت لي ظروف صعبة إن الله سميع مجيب ولطيف قريب لكن التقصير منا لا بد أن نلح على الله وندعوه وأبشروا إن ربي لسميع الدعاء .(/9)
وأذكر أيها الاخوة أذكر أن طالبا متميزا في دراسته حصل له ظرف في ليلة امتحان إحدى المواد ولم يستطع أن يذاكر جميع المنهج المقرر للمادة إلا بقدر الثلث فاهتم واغتم وضاقت عليه نفسه ولم يستطع الإفادة من باقي الوقت لاقتراب النفس وطول المنهج فما كان منه إلا أن توضأ وصلى ركعتين وألح على الله بأسمائه وصفاته وباسمه الأعظم يقول الطالب فدخلت قاعة الامتحان ووزعت أوراق الأسئلة وقبل أن أنظر فيها دعوت الله عز وجل ورددت بعض الأذكار ثم قلبت الورقة فإذا الأسئلة أكثرها من ذلك الثلث الذي درسته فبدأت بالإجابة ففتح الله علي فتحا عجيبا لم أكن أتصوره ولكن ربي سميع مجيب فإلى كل الطلاب والطالبات أقول لماذا غفلتم عن الدعاء والشكوى لله وأنتم تشكون لبعضكم وتذكرون وتتوجعون لماذا يعتمد الكثير منكم على نفسه وذكائه بل ربما اعتمد البعض على الغش والاحتيال إن النفس مهما بلغت من الكمال والذكاء فإنها ضعيفة وهي عرضة للغفلة والنسيان نعم لنفعل الأسباب ولنحفظ ولنذاكر ونجتهد ولكنها كلها لا شيء إن لم يعنك الله ويفتح عليك ولا حول ولا قوة إلا بالله في كل شيء فهل طلبت العون من الله توكل على الله وافعل الأسباب وارفع يديك إلى السماء وقل يا سامعا لكل شكوى وأظهر ضعفك وفقرك لله وسترى النتائج بإذن الله وأنت أيها المدرس والمدرسة بل يا كل داعية لماذا نعتمد على أنفسنا الضعيفة في التوجيه والتعليم هب أننا أعددنا الدرس جيدا وفعلنا كل الأسباب هل يكفي هذا لعلك تسأل ما بقي أقول هل سألت الله العون والتوفيق عند تحضير الدرس هل سألت الله أن يفتح لك القلوب وأن يبارك في كلماتك وأن ينفع بها هل سألت الله العون والتوفيق وأنت تلقي الدرس هل دعوت لطلابك أن يبارك الله لهم وأن ينفع بهم وأن يصلحهم وأن ييسر عليهم هذه بعض الأمثلة والمواقف وما يعرف ويحكى أكثر وأكثر ولكننا نريد العمل والتطبيق ، تنبيه مهم فكثير من الناس إذا وقع في شدة عمد إلى الحرام كمن يذهب للسحرة والكهان أو يتعامل بالربا والحرام فإذا نصح أو ذكر قال إنه مضطر أو كما يقول البعض ليس من رجله في النار كمن رجله في الماء ولعلي أيها الحبيب أذكرك بآية ربما أنك نسيتها في خضم المصيبة والشدة التي وقعت فيها إن الله عز وجل يقول ( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر ؛إلى اللجوء والتضرع إلى الله كما يقول [الزمخشري] وأنت أيها الأخ أو أيتها الأخت تذكر أنك مضطر والمضطر وعده الله بالإجابة حتى وإن كان فاسقا فإذا كان الله أجاب دعوة المشركين عند الاضطرار فإن إجابته للمسلمين مع تقصيرهم من باب أولى .
جاء رجل إلى [مالك بن دينار] فقال أنا أسألك بالله أن تدعو لي فأنا مضطر فقال له فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه فاسأله فإنه يجيب المضطر إذا دعاه إن الله عز وجل قد ذم من لا يستكين له ولا يتضرع إليه عند الشدائد وانتبهوا أيها الأحبة لا بد من الضراعة والاستكانة لله عند الشدة كما أخبر الله فقال عز من قائل ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) أي لو استكانوا لربهم وتضرعوا لكان أمرا آخر فكيف بحال من يقع في الشرك والحرام عند البلاء والشدة فيزيد الطين بلة كيف يريد الشفاء أو انكشاح البلاء وهو يطلبه من مخلوقين مثله ضعفاء .
قال بعض السلف قرأت في بعض الكتب المنزلة يقول الله عز وجل "يؤمل غيري للشدائد والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكورات
وبيدي مفاتيح الخزائن وبابي مفتوح لمن دعاني من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به أو من الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له أنا غاية الآمال فكيف تنقطع الآمال دوني أبخيل أنا فيبخلني عبدي أليست الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي فما يمنع المؤملون أن يؤملوني ولو جمعت أهل السماوات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع وبلغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة وكيف ينقص ملك أنا قيومه فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ويا بؤسا لمن عصاني ووثب على محارمي "ذكر ذلك [ابن رجب] في نور الاقتباس والإسرائيليات يعتبر بها ولا يعتمد عليها كما يقول شيخ الإسلام[ ابن تيميه] رحمه الله .
أيها الاخوة إن الله يحب أن يسأل ويغضب على من لا يسأله فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إليه ويحب الملحين في الدعاء بل وينادي في كل ليلة هل من سائل فأعطيه وهل من داع فأستجيب له فأين المضطرون أين أصحاب الحاجات أين من وقع في الشدائد والكربات .(/10)
معاشر الاخوة والأخوات اقرءوا وانظروا في حادث الإفك وفي حديث الثلاثة أصحاب الغار وحديث المقترض الذي وضع المال في الخشبة وألقاها في البحر وحديث الثلاثة الذين خلفوا وغيرها من القصص النبوي في الصحاح والسنن فرج عنهم لسؤالهم لله وإلحاحهم بالدعاء رفعوا أيديهم إلى الله وأعلنوا الذل والخضوع لله وهذا الذل لا يصلح إلا لله لحبيبه ومولاه
ذل الفتى في الحب مكرمة وخضوعه لحبيبه شرف
فالعبودية لله عز ورفعة ولغيره ذل ومهانة وفي سؤال الله عبودية عظيمة لأنها إظهار للافتقار إليه واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا
فابذله للمتكرم المفضال
كان [يحيى بن معاذ] يقول يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من قد سألك وكان [بكر المزني ]يقول من مثلك يا ابن آدم متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إلى بعض المخلوقين فقال له أنا لا أطرق بابا مفتوحا وأذهب إلى باب مغلق هكذا فلتكن الثقة بالله والتوكل على الله وقبل الختام وحتى نصل إلى ما نريد من فن الشكوى وحسن النجوى تنبه لهذه التوجيهات :
أولا : الدعاء له آداب وشروط لا بد من تعلمها والحرص عليها واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس [لابن القيم] رحمه الله قال وإذا جمع العبد مع الدعاء حضور القلب وصادف وقتا من أوقات الإجابة وخشوعا في القلب وانكسارا بين يدي الرب وذلا له وتضرعا ورقة واستقبل الداعي القبلة وكان على طهارة ورفع يديه إلى الله وبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ثنى بالصلاة على رسول الله ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار ثم دخل على الله وألح عليه في المسألة وتملقه ودعاه رغبة ورهبة وتوسل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده وقدم بين يدي دعاءه صدقة فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدا ولا سيما إذا صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة وأنها متضمنة الاسم الأعظم انتهى بتصرف من الجواب الكافي لابن القيم صفحة تسعة عشر .
ثانيا :الصدقة وقد أكد عليها ابن القيم في كلامه السابق ولها أثر عجيب في قبول الدعاء بل وفعل المعروف أيا كان فصنائع المعروف تقي مصارع السوء كما قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله عز وجل يقول عن يونس عليه السلام ( فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) .
ثالثا : عليك بالصبر وإياك واليأس والقنوط وفي هذا توجيهات :
أولا : أعلم أن الدعاء عبادة ولو لم يتوفر لك من دعاءك إلا الأجر على هذا الدعاء بعد إخلاصك لله عز وجل فيه لكفى .
ثانيا: أن تعلم أن الله أعلم بمصلحتك منك فيعلم سبحانه أن مصلحتك بتأجيل الإجابة أو عدمها .
ثالثا : لا تجزع من عدم الإجابة فربما دفع عنك بهذا الدعاء شرا كان سينزل بك فعن [عبادة بن الصامت] رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا أتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم فقال رجل من القوم إذن نكثر قال الله أكثر" رواه [الترمذي] وقال حديث حسن صحيح ورواه [الحاكم] من رواية [أبي سعيد] وزاد فيه أو يدخر له من الأجر مثلها .
رابعا : ربما كان عدم الإجابة أو تأخيرها امتحان لصبرك وتحملك وجلدك هل تستمر في الدعاء وفي هذه العبادة أم تستحسر وتمل وتترك الدعاء ففي الحديث عن ]أبي هريرة ] رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل أو ما لم يعجل يقول قد دعوت ربي ولم يستجب لي "متفق عليه وفي جزء من رواية ابن مسلم قيل يا رسول الله ما الاستعجال قال يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء .
خامسا : أن تلقي باللوم على نفسك وهي من أهمها أن تلقي باللوم على نفسك فقد يكون سبب عدم الإجابة وقوعك أنت في بعض المعاصي أو التقصير أو إخلالك في الدعاء أو تعديك فيه فمن أعظم الأمور أن تتهم نفسك بالتقصير وتنسب عدم الإجابة لنفسك فهذا من أعظم الذل والافتقار لله، واسمع أيضا لهذا الكلام الجميل النفيس [لابن رجب] رحمه الله في نور الاقتباس يقول إن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة رجع إلى نفسه باللائمة يقول لها إنما أوتيت من قبلك ولو كان فيك خير لأجبت وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه فلذلك يسرع إليه حينئذ بإجابة الدعاء وتفريج الكرب فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله وعلى قدر الكسر يكون الجبر انتهى كلامه رحمه الله .(/11)
رابعا : من التوجيهات الأساسية تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة قال [سلمان الفارسي] : إذا كان للرجل دعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت معروف فشفعوا له وإذا كان ليس له دعاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة صوت ليس بمعروف فلا يشفعون له ذكر ذلك ابن رجب .
أيها الاخوة وأنا أتأمل في حديث الثلاثة؛ أصحاب الغار وهم يدعون ويتوسلون إلي الله بصالح أعمالهم وأخلصها لله أقول في نفسي وأفتش فيها أين ذلك العمل الصالح الخالص لله الخالي من حظوظ النفس الذي سألجأ إلى الله فيه عند الشدة فلنرجع إلى أنفسنا ولنسألها مثل هذا السؤال لنبحث في أعمالنا وعن الإخلاص لله فيها ولنكن على صلة بالله في الرخاء وصدق من قال
إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخرا يكون كصالح الأعمال .
خامسا : إن الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان بالله تعالى وفيه اطمئنان للنفس وراحة للقلب فاعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وتذكر دائما أن كل شيء بقضاء وقدر وأنه من عند الله .
سادسا : احرص على أكل الحلال احرص على أكل الحلال فهو شرط من شروط إجابة الدعاء وفي الحديث "ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له "أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة فالله الله بالحلال فإن له أثرا عجيبا في إجابة الدعاء ربما قصرنا في وظائفنا أي نوع من التقصير وكان ذلك التقصير سببا في رد الدعاء وإجابته فلنتنبه إلى هذا أيها الأحبة .
سابعا : وأخيرا في التوجيهات حتى تكون مجاب الدعوة إن شاء الله أكثر من الاستغفار في الليل والنهار فلو لم يكن فيه إلا قول الحق عز وجل ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) فأين من يشكو الفقر والعقم والقحط عن هذه الآية هذه توجيهات سبع انتبه لها قبل أن ترفع يديك إلى السماء لتكن إن شاء الله مجابا للدعاء.
إلى كل مصاب ومنكوب وإلى كل من وقع بشدة وضيق أقول اطمئنوا فقد سبقكم أناس في هذا الطريق وما هي إلا أيام سرعان ما تنقضي. في الكتب المصنفة في الفرج بعد الشدة [للتنوخي] و[ابن أبي الدنيا] و[السيوطي] وغيرهم مئات القصص لمن مرضوا أو افتقروا أو عذبوا أو شردوا أو حبسوا أو عذبوا فجاءهم الفرج ساقه لهم السميع المجيب فلك في المصابين أسوة قال ابن القيم في زاد المعاد كلاما جميلا أيضاً فاسمع قال ومن علاج المصيبة أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأصحاب المصائب وليعلم أنه في كل واد بنو سعد ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ثم ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة وأنه لو فتش العالم لن يرى فيهم إلا مبتلى إما بفوت محبوب أو حصول مكروه وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا وإن سرت يوما ساءت دهرا وإن متعت قليلا منعت طويلا وما ملئت دارا حبرة أي سعادة إلا ملأتها عبرة ولا سرته في يوم بسرور إلا خبأت له يوم شرور انتهى كلامه رحمه الله.
فيا أيها الاخوة والأخوات أحصوا القرآن والأحاديث في كتب السنة والقصص والمواقف في كتب الفرج بعد الشدة والأحداث والعبر في واقعنا المعاصر جميعها تخبرنا أن الشدائد مهما طالت لا تدوم على أصحابها .
إذا اشتملت على اليأس القلوب
وضاقت بها الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمئنت ...
وأرست في أماكنها الخطوب
ولن ترى لانكشاف الضر وجها
ولا أغني بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث
... يجيئ به القريب المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت
فموصول بها الفرج القريب
ولو لم يكن في المصائب والبلايا إلا أنها سبب لتكفير الذنوب وكسر لجماح النفس وغرورها ونيل للثواب بالصبر عليها وتذكير بالنعمة التي غفل عن شكرها وهي تذكر العبد بذنوبه فربما تاب وأقلع عنها وهي تجلب عطف الناس ووقوفهم مع المصاب بل من أعظم ثمار المصيبة أن يتوجه العبد بقلبه إلى الله ويقف ببابه ويتضرع إليه فسبحان مستخلف الدعاء بالبلاء فالبلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين ويوجب له الإقبال على الخالق وحده وهذا هو الإخلاص والتوحيد فإذا علم العبد أن هذه من ثمار المصيبة أنس بها وارتاح ولم ينزعج ولم يقنط فإلى ذوي المصائب والحاجات والشدائد والكربات إن منهج القرآن يقول وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم بل اسمعوا لهذه الآية العجيبة ففيها عزاء وتطمين لكل المسلمين قال تعالى : ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) فلماذا التسخط والجزع والشكوى والأنين فلعل فيما حصل خير لك فتفاءل وأبشر واعتمد على الله وارفع يديك إلى السماء وقل يا سامعا لكل شكوى وأحسن الظن بالله وقل :
صبرا جميلا ما أسرع الفرج
من صدق الله في الأمور نجا
من خشي الله لم ينله أذى
ومن رجا الله كان حيث رجا(/12)
هذه الكلمات كلمات لتسلية المحزونين وتفريج كرب الملذوعين وهي عزاء للمصابين وتطييب للمنكسرين أسأل الله أن ينفع بها المسلمين وأن يغفر لي ولكم أجمعين .
فيا سامعا لكل شكوى ويا عالما بكل نجوى يا سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغمم ويا كاشف الظلم ويا أعدل من حكم ويا حسيب من ظلم ويا ولي من ظلم يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا يصفه الواصفون ولا تغيره الحوادث ولا الدهور يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وعدد قطر الأمطار وعدد ورق الأشجار وعدد ما يظلم عليه الليل ويشرق عليه النهار كم من نعمة أنعمت بها علينا قل لك عندها شكرنا وكم من بلية ابتليتنا بها قل عندها صبرنا فيا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا ويا من قل عند بلائه صبرنا فلم يخذلنا اقذف في قلوبنا رجاءك اللهم اقذف في قلوبنا رجاءك واقطع رجاءنا عمن سواك حتى لا نرجو أحدا غيرك
اللهم إنا نسألك إيمانا ثابتا ويقينا صادقا حتى نعلم أنه لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا اللهم لا نهلك وأنت رجاؤنا احرسنا بعينك التي لا تنام وبركنك الذي لا يرام يا سامعا لكل شكوى ويا عالما بكل نجوى يا كاشف كربتنا ويا مستمع دعوتنا ويا راحم عبرتنا ويا مقيل عثرتنا يا رب البيت العتيق اكشف عنا وعن المسلمين كل شدة وضيق واكفنا والمسلمين ما نطيق وما لا نطيق اللهم فرج عنا وعن المسلمين كل هم وغم وأخرجنا والمسلمين من كل حزن وكرب يا فارج الهم يا كاشف الغم يا منزل القطر يا مجيب دعوة المضطر يا سامعا لكل شكوى احفظ إيماننا وأمن هذه البلاد ووفق ولاة الأمر لما فيه صلاح الإسلام والعباد يا كاشف كل ضر وبلية ويا عالم كل سر وخفية نسألك فرجا قريبا للمسلمين وصبرا جميلا للمستضعفين يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدا ويا ذا النعم التي لا تحصى عددا أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد أبدا اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك .(/13)
ياطالب العلم
خالدبن عبد العزيز أباالخيل* 15/5/1424
15/07/2003
إن كنت تشكو من البلاهة في العلم فلا تبتأس إذا كان فيك بقية من تُقى!
وإن منحك الله دقة في الفهم وحِذقاً في النظر فلا يستخفك الفرح إذا خلا قلبك من الورع!
قال الذهبي : قاتل الله الذكاء بلا علم ، ورضي الله عن البلاهة مع التقوى .
يا طالب العلم :
إذا لم يورثك علمك خشية الله فسيورثك نقيضها : رياء ونفاقاً!!
إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء
وإن لم يستبن لك الحال فتفقد نفسك في موطن الأمر والنهي! وحينها تقف على الحقيقة!
يا طالب العلم :
إن رمت العلم وحفظته فما بقي عليك إلا العمل ! وإن استأخرت دونه ، وقصرت بك همتك عن بلوغه ، فيا الله ما أعظم مصيبتك بعلمك ! وما أشد بليتك بنفسك! فتدبَّر أمرك ، وحاسب نفسك ، وإلا فعد إلى بيتك ، وكن ناسكاً في محراب جدتك فهو خيرٌ لك مما أنت فيه!!
يا طالب العلم :
اجعل لك ورداً من سير نجوم الهدى ومصابيح الدجى ! لتقوى في موطن الضعف ، وتضعف في موطن الكبر!
واستعن بذلك على إلجام نفسك والمطامنة من كبريائها:
فإذا رأيت من نفسك نبوغاً في علم السنة فاقرأ في ترجمة البخاري!
وإن رأيت منها نظراً دقيقاً في الفقه فدونك سيرة الشافعي!
وإذا أوحت إليك نفسك ببلوغ القمة في الأصول والمقاصد فدونك الشاطبي!
وإن ظننت يوماً إنك نلت العلوم وحُزت الفنون ! فلا تنس قول الشافعي ـ في أحمد بن حنبل : أحمد إمامٌ في ثمان خصال :إمام في الحديث ، إمام في الفقه ، إمام في اللغة ، إمام في القرآن ، إمام في الفقر، إمام في الزهد ، إمام في الورع، إمام في السنَّة!!
وإن خادعتك نفسك بأنك معرض عن الدنيا وزاهدٌ فيها فاقرأ في سيرة إبراهيم الحربي!
وإن توهمت أنك ممسكٌ بناصية الورع فتأمل حياة أيوب وابن سيرين ، والحسن البصري!
يا طالب العلم :
إن كان يخفق قلبك فرحاً عند إبانتك لغامض مسألة ، أو كشفك لعويصها ، وما يخفق عند سماع النداء للصلاة ! فثق أنه ليس لك حاسد ! وما مثلك مغبوط ! ففتش في خبايا نفسك وستجد مكنون السر فيها!!
يا طالب العلم :
اخفض جناح الذل لإخوانك، وكن رفيقاً بهم ، واحذر الجفاء والجلافة !وإياك وغمط الناس ورد الحق! واحترس من داء التعالم والعُجب!! فإنه داء دقيق المسلك ، سريع النفوذ ! وأشد ما يكون نفوذاً حال اللجاج والحِجاج!
يا طالب العلم :
كن كثير الرماد ، كريم المعشر ، باسم الثنايا!
وإذا علِمت ـ يوم الطلب ـ أن من أسباب دخول الجنة إطعام الطعام فما بالك اليوم تضيق ذرعاً بزوارك وطلابك؟! يأتي أحدهم إليك مستفتياً أو مستشيراً فتقف في الباب معترضاً! خشية أن يتسلل إلى بيتك فينعم بظلك، أويشرب من ماءك!
وإن اعتذرت بضيق الوقت والحرص عليه فاعلم أن ما تقضيه في نفع أخيك خيرٌ لك من كثير مما تشتغل به !
يا طالب العلم :
الوقت يمر مرَّ البرق ، وصوارف الحق تعرض كل حين ، ولا مخرج لك من كل هذا إلا حبل الله المتين ، فتشبث به، واشدد يديك عليه ، وأعلم أن رأس مال العمل هو الإخلاص، فإن اخطأت طريقه فلا تلم إلا نفسك إن تخطفتك طيور الهوى، أو هوت بك رياح الشهوات في مكان سحيق .
ختاماً يا طالب العلم:
الطريق مخوف، ولسالكه ثمناً يدفعه من ماله وجسده، ودون الغاية صوارف وقواطع، ولكن في آخره جنة مستطابة ،وسعادة دائمة، فتوكل على الله، وامض في طريقك، واجعل حداءك : (( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ))* معيد في قسم السنة بكلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم(/1)
ياعباد الله اثبتوا
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لانبي بعده وبعد :
فحين تتوالى المدلهمات وتتنادى الخطوب وتتلون الفتن يتكاثر المتساقطون على قارعة الطريق ، منهم من يسقط خوفا ومنهم من يسقط جزعا ومنهم من يسقط طمعا ومنهم من يسقط وهو يظن السلامة في الحور بعد الكور .
وفي هذه الأزمنة المتأخرة التي كثرت فيها الفتن وتوالت فيها المغريات وأقبلت الدنيا حاشدة رجلها وخيلها وعسكرها مغررة بالقلوب ومغرية للأنفس بنعيم الدنيا الزائف ومتاعها المرجف الراجف ، في هذه الأزمنة ما أحوجنا إلى ذلك الصوت النبوي الحاني : " ياعباد الله اثبتوا".
إن الثبات أمام الشدائد والمحن والخطوب وأمام تلون الدنيا ومغرياتها سمة من سمات عباد الراشدين الذين يعلمون أن الفتن إنما هي تمحيص للمؤمنين وفتنة للغافلين اللاهين ، والفئة المؤمنة لاتغير من إيمانها الكروب سلبا بل إن الكروب تزيدها قناعة بنصاعة الطريق الذي تسير عليه ولذا تجد في محطات الألم والغربة والكربة والابتلاء جلاء لما صدأ من إيمانها.
إن الثبات معناه أن يستمر المرء في طريق الهداية والالتزام بمقتضيات هذا الطريق والمداومة على الخير والسعي الدائم للاستزاده ومهما فتر المرء إلا أن هناك مستوى معين لايقبل منه النزول دونه أو التقصير فيه وإن زلت قدمه فلا يلبث أن يئوب ويتوب لله علام الغيوب.
لقد ذكر الله عزوجل في محكم التنزيل صورا متعددة للثبات في حياة المسلم وما ذلم إلا لكي يستشعر المسلم خطورة هذه القضية وأهميتها ومن تلك الصور التي ذكرها القرآن العظيم صورة الثبات في المعركة أمام جحافل أعداء الله ورسوله فالربانيون لايزيدهم صليل السيوف وزمجرة الموت إلا ثباتا وتضحية واطراحا بين يدي الواحد الأحد مؤملين في عونه ومدده ومغفرته " وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وماضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين * ووما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ".
نعم في أحلك ساعات الخوف والشدة والكربة ثبات على الحق وإيمان عميق يقود إلى تماسك وتمسك وعبودية مطلقة للواحد الأحد وهكذا هم رجال الموقف ورجال الحسم الذين لاتعصف بهم الرياح كما تعصف بغيرهم من أصحاب الإيمان الواهن الضعيف " ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا " ، لقد كانت نتيجة ذلك الصبر والثبات حميدة سعيدة في الدنيا مع ماينتظر أصحابها من حسن الجزاء في الآخرة.
لقد كانت مسألة الثبات على دين الله عزوجل الشغل الشاغل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت هي القضية التي تشغل فكر أصحابه من بعده وهي القضية التي كدت أذهان العلماء والصلحاء والفضلاء ، فلقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم كما في مسند الإمام أحمد رحمه الله كثيرا مايدعو " يامقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " وهاهو حذيفة رضي الله عنه يحذر العلماء بقوله " يامعشر القراء استقيموا فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا " ، وكان عبدالله بن مسعود رضي الله عنه كثيرا مايدعو بهذا الدعء " ألله إني أسألك إيمانا لايرتد ونعيما لاينفد " ، ويقول شداد بن أوس رضي الله عنه " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات ندعو بهن في صلاتنا : أللهم إني أسألك الثبات في الأمر وأسألك عزيمة الرشد ".
ومهما يكن من أمر فإن الثبات على الدين معلم بارز من معالم الاستقامة لأن المتردد والخائف والمضعضع لايقدر على الثبات ولا يقوى على تكاليف الاستقامة .
وإن من صور الثبات على الدين الثبات في الفتن نعم الثبات في أيام الصبر التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( الصبر فيهن مثل القبض على الجمر ) ، وما أروع تلك الصورة الإيمانية تتجلى في ذلك العبد المنيب الذي يهرع حال الفتن إلى تجسيد معنى الإيمان بثباته وصبره بل واستزاده من الخير وترقيه في درجات الصلاح مع يعصف بالكون حوله من الفتن ومع ذلك فهو متشبث بأهداب دينه متلمس لطريق نبيه صلى الله عليه وسلم وفي أحلك الظروف وأكثرها شدة لايتحكم بتصرفاته وأعمال إلا الأوامر الربانية والتوجيهات المحمدية النورانية التي تشحذ همته وترتقي به إلى عنان الجوزاء فيحقق العبودية والإخبات لله رب العالمين والناس من حوله في أمر مريج ، ومثل هذا استحق أجر خمسين من الصحابة نظرا لما هو عليه من خير عظيم عند ثباته حال الفتن : ( يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر) و ( إن من ورائكم أيام الصبر ، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم).
إننا ونحن نرى هذه الأجور العظيمة ما أحوجنا لأن نربي أنفسنا على هذا المعنى الإيماني وخصوصا في هذه الأزمنة المتأخرة لكي ننهض بهممنا وننفض غبار الكسل عنا فهل نتنبه لذك ؟ ، عسى الله أن يجعل لقلوبنا من بعد ذلك فرجا قريبا وصلى الله على محمد.
ماجد بن محمد الجهني(/1)
mm_gohani@hotmail.com(/2)
يانصيب الحصول على الجنسية الأمريكية
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/القمار والرهان والميسر
التاريخ ... 02/05/1425هـ
السؤال
ما هو الحكم الشرعي في (يانصيب الحصول على الجنسية الأمريكية) بالدليل؟.
الجواب
اليانصيب كما عرفها القانون هي: لعبة يسهم فيها عدد من الناس، بأن يدفع كل منهم مبلغاً صغيراً ابتغاء كسب النصيب، وهو عبارة عن مبلغ نقدي كبير، أو سلعة من السلع يوضع تحت السحب، ويكون لكل مساهم رقم، ثم توضع أرقام للمساهمين في مكان، ويسحب منها عن طريق الحظ رقم أو أرقام، فمن خرج رقمه كان هو الفائز بالنصيب، وهذا من القمار المحرم، كما في حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- مرفوعاً: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق" رواه البخاري(4860)، ومسلم(1647) من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه- والقمار هو الميسر المحرم بنص القرآن "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ"[المائدة:90-91]، وسبب تحريم الميسر في الآية هو أن المشركين في مكة كانوا يتقامرون على الجزور ناقة يرونها يتوازعونها أسهماً بينهم تبلغ (29) سهماً، ثم يضعون هذه الأسهم في خريطة - كيسة - ويخبصونها ثم يبدأ كل واحد منهم يسحب سهماً، فمن ظهر له رقم من هذه الأسهم دفع جزءاً من قيمة الجزور يماثل قيمة سهمه الذي خرج له، وهكذا حتى النهاية ثم يدفعون قيمة هذه الأسهم الـ (29) إلى صاحب الجزور، ثم يذبحونها ويتصدقون بلحمها على الفقراء منهم، فجاءت الآية بالتحريم، هذا عن الشق الأول لسؤالك وهو حكم (اليانصيب).
أما الشق الثاني: وهو تجنس المسلم بالجنسية الأمريكية أو غيرها، فأقول إذا كان السفر والإقامة المؤقتة في بلاد الكفار لغير غرض شرعي فمنهي عنها؛ لأحاديث كثيرة منها ما رواه أبو داود(2645) والترمذي(1604): "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، قالوا يا رسول الله ولم؟ قال: "لا تراءى ناراهما"، فإن النهي عن التجنس بجنسية الدولة الكافرة من باب أولى؛ لأنها إقامة دائمة، فالنهي عنها أشد وأعظم، وقد تدعوه الحال إلى أن يتحاكم إلى محاكمها وأنظمتها الكفرية، والإقامة بين أظهر الكفار تسبِّب ضعف الدين ورقته وضياع الأولاد والأهل، واستمراء المعاصي والمنكرات؛ لأن كثرة المساس تذهب الإحساس، كما يقال، هذا كله إذا كان التجنس بجنسية الدولة الكافرة أو الإقامة فيها لغير ضرورة شرعية، أما إذا كان هناك ضرورة تدعوه لأخذ جنسية الدولة الكافرة، كأن لا يأمن على نفسه أو أهله، فهو يلاحق ظلماً وعدواناً، أو لا يستطيع طلب الرزق له ولأولاده في بلاده التي نشأ بها، ولم يجد دولة مسلمة تؤيه، كما هو الحال اليوم مع كثير من الدعاة أو المعارضين لحكوماتهم، أو يكون المسلمون (الأقلية المسلمة) في بلاد الكفار بحاجة إلى من يعلمهم دينهم، ولا يحصل لهم هذا إلا إذا تجنَّس من يدعوهم بجنسية دولتهم، ففي مثل هذه الحالات يجوز أخذ جنسية دولة كافرة بشروط منها:
(1) أن يكون ولاؤه الحقيقي ومحبته القلبية لأمته المسلمة، ولو خالط الكفار وعاشرهم في الظاهر إنما لحمله جنسيتهم.
(2) أن لا يترتب على أخذه الجنسية ارتكابه لمحظور شرعي قطعي الدلالة.
(3) أن يتمكن من إظهار شعائره التعبدية من صلاة وصيام وزكاة ونحوها.
(4) أن يكون مضطر ضرورة شرعية لا محالة له منها للقاعدة الأصولية (الضرورات تبيح المحظورات) والضرورة تقدر بقدرها، أو يكون طلبه للجنسية باعثه حاجة ملحة لا مندوحة له منها؛ للقاعدة الفقهية (إن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة) وإذا جازت الإقامة في بلاد الكفار لغرض شرعي جاز أخذ الجنسية؛ لأنها متفرعة عنها في كل حال، وما قد يرد على أخذ الجنسية من التحاكم إلى محاكم الكفر وقوانينه يرد على المقيم في ديار الكفر، فإنه ملزم باتباع أنظمة البلاد وقوانينها، ومثله من أسلم في دار الكفر أو ولد فيها مسلماً.(/1)
وإذا جاز للمسلم أن يتوظف في حكومة كافرة، ويطبق من أنظمة الدولة ما يوافق شرع الله، كما كان من تولي نبي الله يوسف -عليه السلام- وظيفة المالية والخزانة لفرعون مصر قال تعالى: " قال اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ"[يوسف: من الآية55]، فإن أخذ الجنسية من الدولة الكافرة أهون من هذا، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية (السابق لعصره) حيث يقول في مجموع الفتاوى(30/55): (الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب أو أحب، فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوباً تارة واستحباباً أخرى، ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق – عليه السلام -على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته له أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفاراً، كما قال تعالى: "وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ"[غافر: من الآية34]، وقال تعالى عنه: "يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ"[يوسف: 39-40]، ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف – عليه السلام- يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال يوسف – عليه السلام- بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته، وهم مسلمون، بل وفيهم أبوه نبي الله يعقوب – عليه السلام- ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم"[التغابن: 16] ا.هـ.
واستنباطاً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية هذا نقول: إذا كان نبي الله يوسف – عليه السلام- لم يستطع أن يفعل كل ما يريده فيمنع فرعون وجنده، وحاشيته من استئثارهم بالمال العام وتبذيره وحفظه لصالح الأمة، مع أنه -عليه السلام- هو المشرف والمتولي للخزانة العامة لدولة فرعون، وإنما فعل يوسف – عليه السلام- من العدل والإحسان ما تمكن منه وقدر عليه، إذا كان هذا جائزاً في حق يوسف -عليه السلام- وهو نبي يوحى إليه، فإنه في حق غيره من البشر أولى، ومنهم المتجنس بجنسية الكفار اضطراراً، فإن عليه أن يفعل الممكن من العدل والإحسان، وأخيراً ولو كان قليلاً مما اشتملت عليه أنظمة تلك البلاد وقوانينها وإظهار شعائر دينه من صلاة وصيام، وخلاصة الجواب: أن ما تفعله بعض المكاتب التجارية من اليانصيب للاقتراع للحصول على الجنسية الأمريكية أعتقد أنه مزايدة تجارية، ولا يمكن لدولة أن تجعل أنظمتها كالتجنس بأيدي تجار يزيدون عليها، ولو فرض وقوعه في دولة من الدول لامتنع في أمريكا، وبالأخص بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي غيرت مجرى التاريخ أو كادت، والتجنس بالجنسية الأمريكية أو غيرها جائز إذا توفرت في طالبها الشروط السابق ذكرها. والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(/2)
يتفكرون ويعتبرون
بقلم: أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
حين يكرم الله المسلم بتفتح البصيرة ويقظة القلب ، يحس بعبوديته لله وأن صدق هذه العبودية كائن في تسخير الجوارح لطاعة الله والجهاد في سبيله ، لذا تجده دائم الفكرة ، ينظر فيعتبر، لا تبطره النعمة ، ولا تصرفه الدنيا وملذاتها عن الجهاد في سبيل الله والعمل للآخرة التي هي خير وأبقى ، وتراه حين يراه، لا يفتر عن ذكر الله ، والتفكر في آلائه ، يذكر الموت فلا يغتر بالحياة الدنيا ، ويذكر ما أعد الله للمؤمنين في دار كرامته فيصغر في عينيه كل ما يعظمه أولئك الذين غرهم بالله الغرور .
ولقد وصف الله أولي الألباب في سورة آل عمران فقال :
[إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار] (1).
وللربانيين أهل الخشية من علماء هذه الأمة ورجالها كلمات تنم عن مدى تذوقهم لهاتين الصفتين من صفات أولي الألباب ، وصفاء إحساسهم بنعم الله ودلالاتها على قدرته وحكمته جل وعلا .
فقد روي عن الحسن البصري قوله : (الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك) وإذن فلابد للمسلم من أن يجلو هذه المرآة دائماً لتريه حسناته فيزداد منها وسيئاته فيتوب إلى الله ويقلع عنها .
وقال سفيان بن عيينة : (الفكرة نور يدخل القلب) وربما تمثل بهذا البيت :
إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة
ولم يكن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بمنأى عن هذه الساحة المشرقة المباركة ، فقد كانت حياته -وهو يحمل مسؤولية الإمارة- صورة صادقة عن هذا الصفاء الذي ارتفع به إلى الإنابة الدائمة لله عز وجل فكان ـ وهو يحكم الناس ـ رجل الآخرة في عدله وجهاده وتقواه فقد روي عنه قوله :
(الكلام بذكر الله عز وجل حسن ، والفكرة في نعم الله من أفضل العبادة).
كما روي أنه بكى يوماً بين أصحابه ، فسئل عن ذلك ، فقال : فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فاعتبرت بها ، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر، إن فيها مواعظ لمن ادكر).
رحم الله الحسن وسفيان ، ورحم الله خامس الراشدين ورضي عنه ، فلقد برز في تاريخ هذه الأمة أنموذجاً لمعنى التقوى والصلاح ، وإن ذلك ليس مقصوراً على الفرد في نفسه وإنما هو قضية عظيمة تنعكس على المجتمع ، فعمر بن عبد العزيز لم يكن عابداً في صومعته ، ولكن عبد الله بتحكيم شريعة الإسلام ، وإقامة العدل بين الناس ، وزهادته في الدنيا وهي مذللة بين يديه ـ وقاد جيوش الجهاد إلى ساحات القتال في سبيل الله ، والتمكين لأمة الإسلام في الأرض .
أجل : لقد كان صلاح عمر بن عبد العزيز ضياء على طريق المسلمين في إعزاز دين الله ، والتوطيد لكلمة الحق في المجتمع ، وإقامة صروح العدل الذي جاء به الإسلام .. ذلكم هو الرجل الرباني الذي استطاع أن يحقق ـ بصدقه وإخلاصه ـ في زمن يسير ما تعجز عن تحقيقه السنون وهكذا يعلم الربانيون .
(1) سورة آل عمران : 190 ـ 191 .(/1)
يخرب بيتك يا قانون...!!
محمد العبد الكريم 15/3/1427
13/04/2006
إذا أردت استفزاز هيئة سوق المال فإنك حقاً تفعل المستحيل؛ لأن الضرب في الميت حرام...
هيئة سوق المال هي استكبار في الأرض ومكر سيئ، ونحن مطمئنون أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله.
مطمئنون يا سادة أعضاء الهيئة الموقرة إلى أن السحر ينقلب على الساحر، ويوماً ما ستتجلي الحقائق، وسيكون الانتقام عنيفاً وقاسياً، وأرجو ألاّ يكون دموياً.
هذه ليست رسالة تهديد!!
إنها الواقعية كما أعتقد؛ إذ لكل فعل عنيف رد عنيف قد يساويه وقد يزيد عليه.
الإحساس الميت لدى الهيئة والتعالي والاستكبار والتنطيش والتجاهل...
الاستهبال الأسبوعي والمكايدة اليومية والاستعراض الدكتاتوري والتصريحات الباهتة...
كلها أثمان باهظة وفاتورة مكلفة، تنعكس سلباً إلى ما لا تُحمد عقباه.
زدْ على ذلك إغلاق شبه تام لجمعيات التعبير والتنفيس (الحقيقية)، يتبعه ضغط ثم المصير حتماً إلى انفجار لا نعلم حجمه، أو مقداره، لكننا متأكدون أنه نوع مدمر.
قد يكون الدمار نفسياً.
وقد يكون الدمار انتحاراً.
وقد يكون الدمار طلاقاً.
وقد يكون كارثة سياسية، تماماً كما يحدث الضغط على المؤشر، حتى يهبط إلى القاع ويتم تركيع السوق بالكامل، ثم يتنظر الناس بعد ذلك أمراً ملكي عله أن يبعد شبح الكارثة السياسية لا سمح الله.
المواطن السعودي يا سادة، يا أعضاء الهيئة، مواطن كريم تربّى على معانٍ إيمانية عظيمة: متصدق ومنفق.
لديه لمسات عاطفية جبّارة.
يحن على البعيد.
يمسح دمعة اليتيم.
بسيط إلى حد لا يصدق.
يحسن الظن في كل شيء وهذه سذاجة.
لكنها من وجه آخر، تخبر عن إنسان يحمل قيماً، ولا يريد الذي يسمونه قانوناً.
هذا قدره
ولكل شيء قدر!
ومواطن بكل هذه المواصفات، لا يجد من يحميه!! ولا يعرف كيف ينتصف لنفسه!!
قد أكلت المساهمات العقارية نصف ماله.
وأكل توظيف الأموال بعضه.
ثم أتت قوانين الهيئة لتستأثر بفتاته، ولتضيف إلى مأساته بيع تسهيلاته؛ ليبقى عائلاً يبحث عن سكن في نادي خط الفقر.
لن أقول: إن الهيئة جاءت لحماية عشرة ملايين مستثمر؛ فهذا لغو، وأتمنى منها أن ترفع قضية عاجلة ضد هذه التهمة، ويا ليتها تفعل ولن تفعل.
فهي لا تبحث عمّن يجرّمها؛ لأنها تدرك في داخلها معنى أكبر من الجريمة، وتعرف أنها تُحمى من سلطة النظام الذي أكّد في عزّ الإنهيار المالي والنفسي أنه يدعم جميع قراراتها!! (إحباط) شعرت يومها أن الحيوانات في مرابعها أكثر إحساساً بوجودها مني كمواطن.
وللأسف الشديد ليس لدى الهيئة جواب على كل باقعة إلا أن قانون الهيئة هيك! يعني من لا يعجبه القانون فأمامه بحر من كل جهة فليشرب وليستمتع!!
وحينها تسمع في داخلك صوت يصرخ: يخرب بيتك يا قانون!!
مالكم كيف تحكمون؟!
تُشهرون أسماء الشركات التي تعلّق بها آلاف مؤلفة، وتتكتمون على أسماء المتحايلين.
يا تُرى هل يجوز في قانون الشرف أن يغتصب رجل امرأة، ثم يُعلَن اسم المرأة بالتفصيل ويُحتفَظ باسم الغاصب لحين انتهاء التحقيق؟!
أين في قانون الشرف: سحق الصغار حتى يخاف الكبار!!
هذه جاهلية لم يعرفها أبو لهب، ولم تكن من وسواس إبليس
وإذا كانت الهيئة تحتج بالقانون، فمتى كان القانون عندنا سيداً للموقف؟
نحن نتقن الفوضى والتسيّب، وحكم القويّ على الضعيف، ولا نعرف من القوانين إلا أنها تُطبّق على الضعفاء، ومن لا سند له يحميه.
كنا نتمنى أن هناك قانوناً يحكم ويضرب على يد السفيه، حتى لا نرى متحدثاً منهم يخرج على الفضائيات ليزيد معدلات الموت البطيء!
وإذا كانت الهيئة ترى عملها عملاً مقنناً فأين موافقة قانونهم لعقود المعاملات في الشريعة التي تبطل عقود الغرر، وتجيز بل توجب تدخّل أعلى سلطة في الدولة لمنع الضرر، وهم يحتجون على امتناع الدولة من التدخل بأن جميع قوانين سوق المال في العالم تمنع التدخّل؟ يعني مرجعيتنا قوانين سوق المال في العالم، ومع التسليم جدلاً بأن قوانين سوق المال العالمية تُعدّ مرجعاً، فإن قوانين هيئة سوق المال السعودية لا تصح -جدلاً ولا منطقاً- أن تكون معياراً للعمل؛ فإن تطبيقاتها الحالية تدل على سوء انتقائها، ولا جدال في سوء تطبيقهم، لكن التطبيق مهما تحسّن فإن المشكلة في ظني تتعلق بنوعية ما تقنّن لديهم، والمشكلة الأسوأ أن قانون هيئة سوق المال بلا ضمير وانعدام شبه تام لمعاني الإنسانية، في بلد يعتز بالقيم أكثر من اعتززاه بتطبيق القانون حتى لو كان ضده!(/1)
يسر الإسلام في أحكام حج بيت الله الحرام
وفيه التحقيق لجواز رمي الجمار قبل الزوال
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي هدانا للإسلام ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، شهادة من قال: ( ربي الله ثم استقام) واستسلمت جوارحه لإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والصيام وحج بيت الله الحرام .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، الذي رفع ببعثته عن أمته الآصار والأغلال فشرع الأحكام ، وبين للناس الحلال والحرام ، وسكت عن أشياء رحمة منه غير نسيان.
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد ، وعلى آله وصحبه ، ومن اتبعهم بإحسان.
أما بعد ــ فإن الله سبحانه قد أكمل لعباده الدين ، وأتم عليهم النعمة ، بإرسال هذا النبي الصادق الأمين (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) . وجعله رحمة لمن اتبعه وسعادة لن تمسك بهديه ، وقال: » بعثت بحنيفية سمحة « فالدين الذي جاء به هو دين السهولة واليسر » ما جعل عليكم في الدين من حرج « ، » يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر« ، وقال: » ونيسرك لليسرى « ، أي للشريعة التي تفضل غيرها بالسماحة واليسر ، فمن رأفته وسماحة شريعته ، أنه يشق عليه كل ما يعنت أمته وكان يقول لأصحابه: » يسروا ولا تعسروا « ، ويقول : » أ كلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا «.
وكل من تأمل شرائع الإسلام التي جاء بها ــ عليه الصلاة والسلام ــ وجدها في مواردها ومصادرها تفر من مضائق الشدة والعنت واليسر إلى فضاء السهولة واليسر .
فما من شيء من العبادات تشق على الناس مشقة زائدة على المعتاد إلا كان لها بدل من التيسير حاضر عتيد » ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعمله الذين يستنبطونه منهم«.
فمن ذلك الصلاة التي هي آكد العبادات ، لما كان من شروطها الطهارة بالماء وقد أعوز استعماله ، إما لمشقة طلبه ، أو لحبس الماء خوفا على نفسه أو رفقته أو تضرر العضو العليل به، بحيث يخشى أن يزيد في مرضه أو يؤخر من برئه ، قام التيمم بدله ومثله عادم الطهورين يصلي على حسب حاله ولا إعادة عليه ، وكذا القيام ي صلاة الفرض فإنه ركن من أركان صحة الصلاة وينوب القعود عنه عند وجد ما يمنعه ، ومثله صيام رمضان ، فإنه أحد أركان الإسلام ، وقد قال تعالى : » فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر « ، ورخص للشيخ الكبير الذي يشق عليه الصيام فوق المشقة المعتادة بأن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا، وكذا الحج، فإنه فرض العمر مرة واحدة: » والله على الناس حج البيت من استطاع سبيلا «.
وفسر استطاعة السبيل بوجود الزاد والراحلة وأمن الطريق ، ونص الفقهاء على سقوطه بظن حصول الضرر على نفسه وأهله ولو يأخذ خفارة من ماله مجحفة ، وقيل أو غير مجحفة، وهكذا سائر العبادات ما قدر عليه منها فعله وما أعجزه سقط عنه ، إما سقوطا كليا أو إلى بدل، وهذه قاعدة مطردة في سائر الشرائع الدينية تعرف بالتتبع والاستقرار ، لأن الشرائع منزلة على مصالح العباد في المعاش والمعاد ، لأنها إما مصلحة يطلب جبلها وتكثيرها ، وإما مفسدة يطلب درأها وتقليلها ، فيه دائما تطلب الفعل فتعلله بما فيه من نفع أو تنهى عنه لما فيه من ضر ، وهذا الطلب وإن لم يكن مستمرا لفظاً ، فإنه ثابت حقيقة ، ومعنى إذ ليس العقول بقادرة على إدراك جميع أسرار الشرائع.
ولهذا نرى العلماء تختلف أفهامهم في حكمة الشيء الواحد ، فيحكى كل واحد منهم الحكمة على حسب ما أدى فيهمه ، فينهون الكلام في حكمة الشيء الواحد في ثلاثة أقوال أو أربعة أو أكثر، فيمكن إدراك تلك الأقوال أو بعضها لسر الحكمة ، ويمكن عجزها عن إدراكها ، فإن من أسرار الشرائع ما أمكن الناس الوصول إلى معرفته ، ومنها ما عجزوا عن أسرار حكمته، لكنهم مع جهلهم بها يؤمنون بكل ما جاء عن الله ورسوله إيماناً جازماً ليس مشروطا ، بعدم معارض، وإن الله في كتابه وعلى لسان نبيه لم يخبر بما يكذبه العقل ولم يشرع ما ينافي الميزان والعدل
» وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلا «.
ومن ذلك سائر مناسك الحج ومشاعره ، مثل التجرد عن الثياب للإحرام ، والطواف والاضبطاع فيه والرمل والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والحلق غير ذلك. فهذه وإن خفي على الناس أسرار حكمتها ، فإنها إنما شرعت لإقامة ذكر الله وطاعته وتوجيه جميع المسلمين في صلاتهم وطوافهم إلى قبلة بيت ربهم واجتماعهم في البلد الحرام » سواء العاكف فيه والباد « والذي من دخله كان آمناً ، فيتذاكرون بهداية الإسلام والقيام بشرائعه على التمام ولما طاف عمر بن الخطاب بالكعبة وقبل الحجر قال: » إني أعلم أنك حجر ولا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك « .(/1)
وهكذا سائر أعمال الحج تجري على هذا المنهج كما روى الترمذي في صحيحه عن عائشة أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال: » إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله ــ عز وجل ــ يقول الله : » فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم « ، وقال: » واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى «.
وقد حكى بعض العلماء الإجماع على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة: حادي عشر ـ ثاني عشر ـ ثالث عشر ، ويدل له حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة : » أن أناسا من أهل نجد جاءوا إلى رسول الله وهو واقف بعرفة فسألوا فأمر منادياً ينادي الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك « ، وقال: وأيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ، وأمر رجلا ينادي بهن ليعرف الناس الحكم .
وذكر الله المأمور به في هذه الأيام المعدودات يشمل الذكر والتكبير في إدبار الصلوات والتكبير عند نحر النسك ، والتكبير والدعاء عند رمي الجمار ، فهذه كلها داخلة في عموم الذكر المأمور به في الأيام المعدودات ، وكان النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ يخص الجمرة الأولى والوسطى بتطويل الوقوف عندها للدعاء ويقف الناس معه صفوفا يدعون ويتضرعون كما في صحيح البخاري عن ابن عمر: » أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات ، يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم فيسهل فيستقبل القبلة ثم يدعو فيرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم يقول : هكذا رأيت رسول الله يفعل « وروى أبو داود » أن ابن عمر كان يدعو عند الجمار بدعائه الذي يدعو به بعرفة « ، وفي صحيح مسلم عن نبشة الهذلي أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال: » أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل «.
وإنما خص الله الأمر بالذكر في هذه الأيام المعدودات من أجل أن الذكر هو روح الدين وإنما شرع الرمي للتذكير به ، وقد حكى بعض العلماء أنه إنما شرع الرمي حفظا للتكبير ، وقد تركه وكبر أجزأه ، رواه ابن جرير الطبري عن عائشة ، وإنما خص النبي ــ صلى الله عليه وسلم طول الوقوف عند الجمار للدعاء والتضرع حتى قيل أنه وقف بقدر سورة البقرة ، كله من أجل أن رمي الجمار ختام عمل الحج ، فهو يدعو ويتضرع بقبول عمله ، وكذلك أصحابه وقفوا صفوفاً يدعون ويتضرعون ، فهذا المشعر الذي شرع للدعاء والتضرع وللذكر والتكبير قد انقلب إلى تزاحم وتلاكم وتدافع وخطر على الأرواح كبير ، وصار الناس يذهبون إليها وهم متذمرون للمدافعة وقصد المغالبة ، يؤيد بعضهم بعضا وصار أكثر الناس لا يباشرون الرمي بأنفسهم خوفا على حياتهم ، وإنما يستنيبون الأقوياء الجلداء في الرمي عنهم وأكثرهم تقع جمارهم بعيدة عن الأحواض من أجل شدة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام.
ومن شرط صحة الرمي العلم بحصول الجمار في المرمى ، كما نص على ذلك الفقهاء وليس كذلك الزحام في الطواف ، فإن الناس يسيرون فيه ولا يقفون ، وكل المسجد الحرام مجال للطواف وليس الطواف محصورا بوقت دون وقت ، بخلاف رمي الجمار ، فإن الجمع كثير وحوض المرمى صغير وزمن الرمي قصير ، وكل واحد يقف حتى يتمم رمي جماره واحدة بعد أخرى.
فهذا العمل بهذه الصفة قد أفضى بالناس إلى الحرج والضيق ، لكون هذا الوقت القصير
لا يسع أداء واجب الخلق الكثير.
ثم إن هذا التحديد بما بين الزوال إلى الغروب ليس له أصل لا من الكتاب ولا من السنة
ولا القياس ولا الإجماع ، فلا تجوز نسبة القبول به إلى الشرع أو إلى الدين، مع عدم ما يدل على صحته وصار الحكم بالإلزام به مستلزما للعجز عنه ، إذ هو من تكليف ما لا يستطاع » لا يكلف الله نفسا إلا وسعها «.
وفي الحديث أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال: » إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم « ، فلا يقول بالإلزام به في مثل هذا الزمان إلا من يحاول حطمة الناس وعدم رحمتهم:
وإذا شئت أن تعصى وإن كنت قادرا
...
...
فمر بالذي لا يستطاع من الأمر
تعاليم النبي
لأحكام الحج قولا منه وفعلا(/2)
والنبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قد بين للناس في حجهم جميل ما يحتاجون إليه ، وما يجب أن يفعلوه وما ينبغي أن يتقوه ، فحدد لهم المواقيت الزمانية والمكانية ، وحدد لهم الوقوف بعرفة زمانه ومكانه ، فقال : » عرفة كلها وموقف وارفعوا عن بطن عرنة « ، وقال: » من جاء ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك «، وقال: » أيام منى ثلاثة أيام من تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه « ، ونهى أن تصام هذه الأيام إلا لمن لم يجد الهدي ، وقال: » منى مناخ لمن سبق« ، وقال: » فجاج مكة كلها منحر« ، وقال: » لا يلبس المحرم القميص ولا العمائم ولا السراويلات والبرانص ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا شيئا مسه الزعفران ولا الورس « ، خطب بهذا في المدينة لكنه ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس ، قال: » سمعت رسول الله يخطب بعرفة يقول: السراويلات لمن لم يجد الإزار والخفاف لمن يجد النعلين « ، وروى مسلم عن جابر بلفظ: » من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل « ، ولم يذكر قطع الخفين ، وهذا هو آخر الأمرين من رسول الله ، وقال في الذي وقصته ناقته بعرفة فمات: » غسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ، أو قال: في ثوبين ولا تخمروا رأسه، وجنبوه الطيب ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا«.
وروى أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بن معاذ التيمي ، قال: » خطبنا رسول الله ونحن بمنى ففتحنا أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار فوضع إصبعيه السبابتين ، ثم قال بحصا الخذف ، وفي رواية بمثل حصا الخذف ، فارموا وإياكم والغلو إلى غير ذلك من التعليمات الكافية الشافية «.
فلو كان ما قبل الزوال وقت نهي غير قابل للرمي لحذر منه النبي أمته ، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، وهذا واضح جلي ، لا مجال للشك في مثله.
والذي جعل الأمر يشكل على بعض الناس هو أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ إنما حج حجة واحدة من أجل أن قريشا صدته عن الحج فلم تمكنه من دخول مكة حتى فتحها عام ثمان من الهجرة ، وفي السنة التاسعة أمر رسول الله أبا بكر بأن يحج بالناس وأمر عليا ـ رضي الله عنه ـ بأن ينادي في الناس بسورة براءة ، وأن لا يحج بعد العام مشرك لا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله عهد فأجله إلى مدته » إن الله بريء من المشركين ورسوله «.
صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم
وفي السنة العاشرة أذن في الناس أن رسول الله حاج ، فقدم المدينة بشر كثير كلهم يريد أ، يأتم برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعمل مثل عمله ، فخرج رسول الله من المدينة حتى نزل ذا الحليفة وبات بها حتى طلعت الشمس ثم اغتسل وتطيب ، قالت عائشة : طيبت رسول الله لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت ، لهذا كان يرى وبيص الطيب في مفرق رسول الله وهو محرم ، ولبس ثياب إحرامه إزارا ورداء ثم صلى ركعتين في مسجد ذي الحليفة وتسمى ركعتي الإحرام ثم أهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، وأهل الناس بالذين يهلون به ولزم رسول الله تلبيته.
وولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، وأرسلت إلى رسول الله : كيف أصنع؟ فقال: » اغتسلي واستشفري بثوب واحرمي « ، ثم أنه لقي ركبا بالروحاء ، فقال: » من القوم؟ قالوا: المسلمون قالوا: من أنت؟ قال: أنا رسول الله ، فرفعت امرأة إليه صبيا ، فقالت: يا رسول الله ا لهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر واعترضت له امرأة من خثعم ، وقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم ، حجي عنه وذلك في حجة الوداع ، وسألته امرأة من جهينة وقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم، أرأيت لو كان على أمك دين أ كنت قاضيته ، اقضوا الله فالله أحق بالوفاء «.
وسميت هذه الحجة بحجة الوداع لكونه ودع الناس فيها وقال: » لعلكم لا تلقوني بعد عامي هذا، وأنزل الله عليه بعرفة يوم الجمعة : » اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا« ، كما أنزل الله عليه في أوسط أيام التشريق سورة النصر: » إذا جاء نصر الله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا «، وفي هذه السورة الإشعار باقتراب أجل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما فسرها بذلك ابن عباس.
ولهذا توفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد حجته ببضعة وثمانين يوما، وكان غالب من حج مع النبي هم أهل المدينة ومن حول مكة من الأعراب لكونه لم يفتح في زمنه شيء من البلدان ما عدا الطائف .(/3)
ولهذا يعد العلماء تحديد المواقيت من معجزات نبوته ، حيث حددها قبل إسلام أهلها، فوقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الحجفة ، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ، فمن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك، فمن حيث إن شاء حتى أهل مكة من مكة. رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس، ولهذا قال
ابن عبد القوي :
وتحديدها من معجزات نبينا
...
...
لتعينه م قبل فتح المعدد
فالناس لا يعرفون أحكام حجة الإسلام إلا من طريقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فهم يتبعونه في سائر أفعاله من الواجبات والمستحبات ، كما يتبعونه في الصلاة ، ولهذا توسع الخلاف جدا بين الأئمة وفقهاء المذاهب في مسائل الحج كلها اختلافا لا يعهد له نظير في سائر العبادات، اختلفوا في إحرام رسول الله ، فمنهم من قال: أحرم مفردا ، ومنهم من قال: أحرم متمتعا ، ومنهم من قال: أحرم قارنا ، واختلفوا في إحرام التمتع ، فمنهم من قال: بإستحبابه ، ومنهم من قال بمنعه، واختلفوا في السعي بين الصفا والمروة ، فمنهم من قال: هو ركن، ومنهم من قال: هو واجب، ومنهم من قال: مستحب، واختلفوا هل يجب على المتمتع طوافان وسعيان أم يكفيه طواف واحد وسعي واحد كالقارن ، إلي غير ذلك من الاختلاف.
والأمر الثابت عن رسول الله ، أنه تجرد لإحرامه واغتسل وتطيب ثم أحرم ولبى قارنا ، وكذا أمر عائشة ، حين حاضت بسرف بأن تدخل عمرتها على الحج حتى تصير قارنة وأن تفعل ما يفعل الناس غير أن لا تطوف بالبيت حتى تطهر ، وقال لها: إن طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك.
وطاف رسول الله طواف القدوم وطاف الناس معه، ثم صلى ركعتي الطواف بالمقام ، ثم خرج إلى الصفا فسعى بين الصفا والمروة سبعاً ، وعند إنتهائه قال لأصحابه عند المروة: » لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة ، حتى قال سراقة بن مالك بن خثعم : يا رسول الله ، أ لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: لا بل لأبد الأبد« دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ، فحل الناس كلهم وقصروا إلا رسول الله ومن كان معه هدي حتى قال رجل: يا رسول الله ، الحل ماذا ؟ فقال: الحل كله « فحلوا من إحرامهم ولبسوا ثيابهم ودارت المجامر بينهم وأوجب الله عليهم عن هذا الترفة والتمتع ذبح هدي لقول الله تعالى: » فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي « ، وفي اليوم الثامن أحرم بالحج كل الذين من حلوا من إحرامهم وتوجهوا إلى منى فنزلوا بها ، حتى إذا كان يوم عرفة أتى إلى نمرة حتى إذا زاغت الشمس صلى بالناس الظهر والعصر جمع تقديم بأذان وإقامتين ثم خطب الناس وعلمهم كيفية حجهم من وقوفهم وانصرافهم ولم يزل واقفا بعرفة يدعو ويتضرع حتى غابت الشمس ، فانصرف وقد شنف للقصوى الزمام حتى أن رأسها ، ليصيب مورك، ورحل رسول الله ويقول: أيها الناس السكينة . السكينة ، كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى مزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء قصرا وجمعا بأذان وإقامتين ورخص رسول الله للضعفة وللنساء أن يدفعن قبله ليلا وبات هو وأصحابه بمزدلفة حتى وصلوا بها الفجر، ثم وقف يدعو ويستغفر الله حتى أسفر جدا ، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتي منى فبدأ برمي جمرة العقبة فرماها ضحى بسبع حصيات وهو على راحلته ، ثم انصرف إلى المنحر فنحر هديه ( وعدده مائة بدنة نحر منها ثلاثا وستين بدنة بيده وكن يزدلفن بين يديه، أي تبرك الناقة قبل الأخرى ووكل عليا فنحر الباقي) ، ثم حلق رأسه ثم حل من إحرامه ، ولبس ثيابه وتطيب.
ثم خطب الناس يوم العيد وبين لهم ما ينبغي أن يفعلوه وجعل الناس يسألونه ، فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: » إفعل ولا حرج «.
فبعد أن أكل من لحم هديه وشرب من مرقه ركب راحلته ودفع إلى مكة والناس معه فطاف بالبيت طواف الإفاضة وصلى ركعتي الطواف عند المقام، ثم أتي بني عبد المطلب ، وهم يسقون في زمزم ، فقال: » انزعوا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، فناولوه دلوا فشرب منه وهو قائم « ، ثم صلى بالناس الظهر في المسجد الحرام قصرا ، وقال: » يا أهل مكة أتموا فإنا قوم سفر« ، ثم رجع إلى منى وبات بها.(/4)
وفي اليوم الثاني جعل الناس يسألونه ، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: » افعل ولا حرج« حتى قال رجل: يا رسول الله ، رميت بعدما أمسيت، فقال: » إرم ولا حرج « رواه البخاري من حديث ابن عباس والليل يدخل في مسمى المساء حتى إذا زالت الشمس قام لرمي الجمار وقام الناس معه ، فبدأ بالجمرة الأولى فرماها بسبع حصيات ، ثم وقف عندها طويلا يدعو ويتضرع ووقف الناس صفوفا يدعون ويتضرعون ، ثم رمى الثانية مثل ذلك ووقف عندها طويلا يدعو ويتضرع ، ثم رمى جمرة العقبة ولم يقف عندها ، قيل من أجل ضيق المكان ، ثم انصرف إلى مسجد الخيف فصلى بالناس الظهر ركعتين قصرا من غير جمع ، لأن من هدي رسول الله أنه كان يصر الصلاة في منى ولا يجمع، وإنما يصلي كل فرض في وقته ، قال ابن مسعود: » من حدثكم أن رسول الله كان يجمع في منى فقد كذب عليه « ففعل في اليوم الثاني والثالث مثل ذلك ، يرمي الجمار بعد الزوال ثم ينصرف إلى مسجد الخيف فيصلي بالناس الظهر وكأنه حاول الرفق بالناس ليخرج بهم مخرجا واحدا لرمي الجمار وللصلاة في مسجد الخيف لكون حجه صادف شدة حر، حتى أن بلالا يظلله عن الشمس عند الجمار.
ولهذا نرى كثيرا من الفقهاء يذكرون في كتبهم استحباب الصلاة بعد رمي الجمار في مسجد الخيف ، تأسيا بفعل النبي وأصحابه ، ثم أنه عمل الخلفاء الراشدون بمثل عمله ، يرمون الجمار بعد الزوال ثم يصلون صلاة الظهر في مسجد الخيف.
ثم أخذ أمراء الحاج من بني أمية وبني العباس يعملون بمثل ذلك ، ثم استمر عمل الناس على ذلك ، لأن مجموع الحاج يكونون قليلين بالنسبة إلى هذه السنين فيختارون للرمي من الوقت أفضله ويتمكنون من القيام بمشروعيته : الدعاء والتضرع ، والذكر والتكبير عند هذا المقام من أجل قلتهم وسعة المكان وقبل أن يوجد في منى شيء من البنيان.
(اتفاق أئمة المذاهب على القول برمي أيام التشريق بعد الزوال)
أنه في القرن الثاني من خلافة بني العباس ، عند ابتداء تدوين العلم والحديث والفقه ، قرر الفقهاء في كتبهم تحديد الرمي في أيام التشريق بما بين الزوال إلى الغروب اجتهادا منهم في ذلك وأخذوا بعضهم ينقل عن بعض القول به والحكم بموجبه حتى انتشر في كتب الأصحاب من ساير المذاهب ، وحتى صار عند كثير من الناس بمثابة الأمر الواجب ودليلهم في ذلك ما روى البخاري عن جابر قال: رمي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم النحر ضحى ، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس ، وعن ابن عمر وعائشة بمعناه وكلها أحاديث صحيحة ، لكنها ليست بصريحة في الدلالة على التحديد بما ذكروا.
لهذا ظن من ظن أن هذا حكم عام لازم للناس في جميع الأحوال والأزمان وأنه لو رمى قبل الزوال أو بالليل لم يجزيه.
وخفي عليهم بأن هذا التحديد جرى على حسب الاجتهاد من الفقهاء يؤجرون على اجتهادهم فيه ولا يجب أن يبايعوا عليه، إذ ليس بلازم أن يقبل ما يقوله الفقيه بدون دليل يؤيده ، ولا قياس يعضده ، لكون التحديد بابه التوقيف ، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد ، سيما وليس له أصل يرد إليه ، و نظر يقاس عليه ، ولو فرض أنهم وجدوا دليل ابتداءه بالزوال ، استنادا واستدلالا بفعل رسول الله وأصحابه ، لن يجدوا دليل بانتهائه بالغروب ، لأنه بمقتضى التتبع والاستقراء لكتب الصحاح والسنن والمسانيد والتفاسير لم يجد عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حديثا صحيحا ولا حسنا ولا ضعيفا ، يأمر فيه بتحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب حتى نلتزم العمل به طاعة لله ورسوله ، ومع عدمه فإنه لا يجوز لنا أن نسمى ما قبل الزوال، وقت نهي بدون أن ينهى عنه رسول الله ، وغاية الأمر أنه مسكوت عنه رحمة منه بالناس كما في الحديث: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: » إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها « والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رمى الجمرة يوم العيد قبل الزوال ، ثم رمى بقيته أيام التشريق بعد الزوال ، فعليه في هذا وهذا هو مشروع منه بسعة وقته لأمته تأجل العمل الرمي به إلى وقت الحاجة إليه، فمن قال بإختصاص قبل الزوال بيوم العيد دون أيام التشريق استدلالا واستنادا منه إلى فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزمه أن يقول بوجوب الحلق يوم العيد ضحى ، ووجوب النحر يوم العيد ضحى ، كما فعل رسول الله ولم يقل بذلك أحد ، بل جعله العلماء موسعة تفعل في أي ساعة من أيام التشريق ليلا ونهارا ، وكذلك الرمي إذ هو نظيرها في الحكم والوجوب إذ ليس عندنا أن رميها فيما بين الزوال إلى الغروب كان على المؤمنين كتابا موقوتا ، كيف والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطب الناس يوم العيد وخطبهم في أوسط أيام التشريق ، وجعل الناس يسألونه فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: » افعل ولا حرج « وهذا النص قاطع للنزاع ودافع للخلاف إلى مواقع الإجماع.(/5)
وأما اختياره لما بعد الزوال للرمي في أيام التشريق ، فقد ذكرنا سببه ، وأنه أراد أن لا يحرج أمته ، بل يخرج بهم مخرجا واحدا لرمي الجمار ولصلاة الظهر في مسجد الخيف ، لكون حجه صادف شدة الحر ، على أن هذا فعل والفعل لا يقتضي تحديد المفعول فيه بمجرده لكون الأفعال الصادرة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ موقوفة على دلائلها، فما كان منها للوجوب صير إليه أو للاستحباب صير إليه أو للإباحة صير إليه .
ثم إن القائلين بوجوب الرمي بعد الزوال ، وأنه لو رمى قبل الزوال فعليه دم استدلالا بحديث جابر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رمي جمرة العقبة يوم العيد أضحى ، وأما بعد ذلك فإذا زالت الشمس فإنهم يخالفون هذا الحديث نفسه ، حيث يرمون جمرة العقبة بالليل وهم أصحاء أقوياء ، عملا بظاهر المذهب من أنه يجوز رميها بعد نصف الليل وهو الظاهر من مذهب الشافعي ، وذهب الإمام أبوحنيفة ومالك ، إلى أنه لا يجوز رميها بالليل ولا يعتد به لما روى أحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: » أرسلنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أغيلمة بني عبد المطلب على حمراة لنا من جمع بليل فجعل يلطخ على أفخاذنا ويقول: أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس « قال الترمذي :حديث صحيح ، وهذا النص يقتضي المنع لكون الرمي لجمرة العقبة يعتبر من عمل يوم العيد أشبه النحر والحلق ، ولأنه عمل يفعل قبل التحلل من الحج ، فناسب الاحتياط فيه ، ولهذا خرج النهي مخرج الزجر عنه ، وإنما رخص للنساء في الرمي بالليل من أجل ضعفهن عن مزاحمة الناس.
قال العلامة ابن القيم في تهذيب السنن: إن حديث ابن عباس هو أصح من حديث عائشة ، قالت : أرسل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت ، لأن ابن عباس من جملة المدفوعين وقد جرى الحديث على يده ، فهو أعرف الناس به ، وحديث أم سلمة فيه اضطراب ، ثم على تقدير فرض صحته ، فإن الجمع بين الحديثين ممكن ، وأن وقت الرمي يدخل بطلوع الشمس في حق من لا عذر له من الصبيان والرجال وأما النساء ، فإنه يجوز لهن الرمي قبل طلوع الشمس للخوف عليهن من زحمة الناس وحطتهم .. انتهي.
ويدل له ما في الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر ، أنها دفعت ليلة جمع من مزدلفة بعدما غابت القمر فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم رجعت فصلت الصبح وقالت: إن رسول الله أذن للضعن والمقصود أن هؤلاء الذين يدفعون من مزدلفة بالليل ويرمون جمرة العقبة بالليل وهم أصحاء أقوياء قد خالفوا في سنتين صحيحتين من سنن الحج ، إحداهما: دفعهم بالليل وهو خلاف عمل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعمل خلفائه وأصحابه ، كما أنه خلاف نص القرآن في قوله : » فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروا كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم « ، والناس هم الرسول وأصحابه ، وإنما أفاضوا من مزدلفة بعدما صلوا الصبح بغلس ، ثم وقفوا يذكرون الله وستغفرونه ويدعونه ، ثم دفعوا إلى منى بعدما أسفروا جدا . والمخالفة الثانية: رميهم جمرة العقبة بالليل، وقد نهى رسول الله عن ذلك بصيغة الزجر ، وقال: » لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس « ، والمخالفة الثالثة : طوافهم للإفاضة الذي هو ركن الحج بالليل من ليلة العيد ، وإنما طاف رسول الله وأصحابه ضحى يوم العيد فتساهلوا فيما ينبغي للاحتياط فيه وشددوا فيما ينبغي التساهل فيه ، فإن رمي أيام التشريق يقع بعد التحلل الثاني من عمل الحج فناسب التسهيل فيه وعدم التشديد.
فيما أنه ثبت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه نحر يوم العيد ضحى وحلق يوم العيد ضحى وحلق يوم العيد ضحى وطاف طواف الإفاضة يوم العيد ضحى وسكت عن التحديد فجعله العلماء موسعا تفعل في أي ساعة من أيام التشريق ، فكذلك الرمي ، ويدل لذلك ما روى البخاري ، قال: حدثنا أبونعيم ،حدثنا مسعر عن وبرة قالت: سألت ابن عمر متى أرمي الجمار؟ فقال: إذا رمى أمامك فارمه. فأعدت عليه المسألة ، فقال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا ، فهذا ابن عمر الذي هو أحرص الناس على اتباع السنة قد أحال هذا السائل على اتباع إمامه فيه عند أول سؤاله ، لعلمه بسعة وقته ، ولو كان يرى أنه محدد بالزوال كوقت الظهر لما وسعه كتمانه ، لأن العلم أمانة ، ولأنه لو سأله سائل فقال: متى أصلي الفجر ليلة المزدلفة لم يجر أن يقول: إذا صلى إمامك فصل لكونه يعرف أن الأئمة من يؤخر الصلاة عن وقتها ، وقد يقدمها قبل وقتها كما أخبر النبي عنهم ، وكذلك الرمي والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليسوا بمعصومين من الخطأ ولم يكن من كلام رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.(/6)
فإن التحديد بهذا الزمن القصير قد أفضى بالناس إلى الحرج والضيق حتى شغلهم شدة الزحام عن الذكر والتكبير وعن الدعاء والتضرع عند هذا المقام ، بل وعن العلم بوقوع الجمار في موقعها المشروع من الأحواض ، وهذا الزحام من المحتمل أن يزداد عاماً بعد عام ، متى كان التحديد على هذه الحال، وذلك لعوامل تساعد على ذلك لم تكن معروفة في السنين السابقة ، فمنها فتح مشارق الأرض ومغاربها بالآلات الحديثة من الطائرات والسيارات وسائر الوسائل التي قضت بقصر المسافة وتسهيل السفر حتى صارت الدنيا كلها كمدينة واحدة ، وكأ، عواصمها بيوت متقاربة ، وقد أشارت المعجزة إلى الإخبار بهذا الشي قبل وقوعه كما روى ابن أبي الدنيا عن مكحول مرسلا: أن رجلا قال: يا رسول الله متى الساعة ؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، ولكن لها أشراط وتقارب أسواق ، وفي البخاري من أشراطها تقارب الزمان وليس من الممكن أن يفسر تقارب الأسواق بانضمام الأرض بعضها إلى بعض ولكن بالآلات البرية والبحرية والهوائية وسائر الوسائل الناقلة للذوات والأصوات والتي كان الناس قبلها يقاسون الشدائد في الأسفار ، يسيرون المدة الطويلة من الزمان ولا يبلغون منتهى قصدهم من وصول مثل هذه الديار ، أضف إليه ما يعرض لهم من المهالك والأخطار ، وما يلاقونه من المخاوف والأوجال لكون الحاج في زمن لم يبعد في التاريخ كان هدفا للأغراض ونهباً للأعراب يعدون الاعتداء عليهم بالنهب والسلب من أعظم أو يعولون عليه في منع هذا الظلم المستمر سوى تعززهم بالخفراء المستأجرين ، ألا أنه لا يدفع عنهم الخطر بجلمته ، لكنه قد يقلله ولأجله يكون الحجاج بجملتهم قليلين، بالنسبة إلى هذه السنين ، لأنه لا يحج في الغالب إلا الناس المعدودون بالقرب من مكة ، أما أهل البلدان البعيدة فلا يحج منهم إلا النادر ، لبعد الشقة وشدة المشقة ووحشة الطريق ونصب وسائل التعويق ، وفهم لا يستطيعون لوصوله حيلة ولا يهتدون سبيلا.
كيف الوصول إلى سعاد ودونها
...
...
قلل الجبال ودونهن حتوف
الرجل حافية ومالي مركب
...
...
والكف صقر والطريق مخوف
أما الآن وفي هذا الزمان ، وقد قصرت المسافات وسهلت المواصلات ، ودكت عقبات التعويق وقطع دابر قطاع الطريق ، وزد عليه حصول الأمن المستتب في أنحاء الحرم ، وسائر السبل المفضية إليه حتى أن الناس فيه آمن منهم في أوطانهم ، فمن أجله قوّض الناس إلى الحج من كل فج، فأقبلوا إليه يجرؤن وهم من كل حدب ينسلون ، وفي كل زمان يزيدون ، فاشتد الزحام عند هذا المقام وشق الرمي على الخاص والعام من أجل الفقهاء حددوه بما بين الزوال إلى الغروب ، وهو لا يسع الخلق الكثير فصار من تكليف ما لا يستطاع ، إن القول به مستلزم للعجز عنه في هذا الزمان ، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها ونم المعلوم أن للفقهاء ـ رحمهم الله ـ تحديدات وتقييدات يستقين العلم الصحيح نفيها . ويقوي في القياس ضعفها ، كما حددوا مسافة السفر المبيح للقصر بيومين وكما حددوا الإقامة الموجبة لإتمام الصلاة بأربعة أيام ، وكما حددوا صحة الجمعة بحضور أربعين من أهل وجوبها إلى غير ذلك من التحديدات والتقييدات التي
لا أصل لها .
وتحديد الرمي بما بين الزوال إلى الغروب هو نوع من ذلك ، وقد خطب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم عرفة ثم يوم العيد ، ثم أوسط أيام التشريق وبين للناس ما يحتاجون إليه وجعل الناس يسألونه فما سئل عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: » افعل ولا حرج « حتى سأله رجل فقال: يا رسول الله رميت بعدما أمسيت؟ فقال: » ارم ولا حرج «. رواه البخاري من حديث ابن عباس ، والليل يدخل في مسمى المساء.
فنفى رسول الله وقوع الحرج من كل ما يفعله الحاج من التقديم والتأخير لأعمال الحج التي تفعل في يوم العيد وأيام التشريق.
وهذا الحكم قاطع للنزاع يعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع ، فلو كان يوجد في أيام التشريق وقت نهي غير قابل للرمي لبينه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للناس بنص جلي قطعي الرواية والدلالة وارد ومورد التشريع العام ، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه .
وأما الاستدلال باستمرار عمل الناس على الرمي بعد الزوال من النبي وزمن خلفائه وأصحابه إلى هذه السنين .
فجوابه : إننا لا ننكر أن ما بعد الزوال هو أفضل ما يرمي فيه لو وسع الناس كلهم ، لكننا لا نقول بفرضه فيه ، وإنما غاية ما يقال أن ما بعد الزوال هو وقت الفضيلة وما قبل الزوال وبالليل وقت إباحة ، أشبه الوقوف بعرفة ، فإن ما بعد الزوال إلى الغروب هو أفضل ما يوقف فيه اقتداء بفعل رسول الله وفعل خلفائه وأصحابه والليل كله إلى فجر يوم العيد وقت إباحة للوقوف ، وإن لم يستمر عليه عمل الناس .(/7)
والحالة الآن هي حالة ضرورة توجب على العلماء والحكام إعادة النظر فيما يزيل هذا الضرر ويؤمن الناس من مخاوف الخطر الحاصل من شدة الزحام والسقوط تحت الأقدام ، إذ شدة هذا الزحام تزداد عاما بعد عام ، كما أنها لو ضاقت مني عن مناخ الناس كان من الجائز أن ينزلوا بما قرب مني منها حتى ولو في وادي محسر ، لأن ما جاور الشيء يعطي حكمه ، كما قالوا في زوايد المسجد الحرام على حدوده السابقة ، بأن حكم الزائد حكم المزيد في الحد والفضيلة .
ولأن المقصود من نزول مني هو إتمام أعمال الحج المتعلقة بمنى مثل النحر والحلق والرمي ، ولأنها حالة ضرورة وقد قيل: إن الحاجة في هي أم التحقيقات وللضرورة حالات ويتعلق بها أحكام غير أحكام السعة والاختيار.
ولو فكروا في نصوص الدين بإمعان ونظر لوجدوا فيه الفرج من هذا الحرج ، لأن نصوص الدين كفيلة بحل كل ما يقع الناس فيه من الشدات والمشكلات يؤكده أن الرمي أيام التشريق يقع بعد التحلل الثاني من عمل الحج ، بحيث يباح للحاج أن يقع كل شيء من محظورات الإحرام حتى النكاح ولكون الانسان إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد وحلق رأسه فقد تحلل التحلل الأول لحديث عائشة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: » إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء « . رواه أبو داود . فإذا طاف طواف الإفاضة فقد تحلل التحلل الثاني، بحيث لو مات لحكم بتمام حجه ، فناسب التسهيل وعدم التشديد في التحديد ، إذ هي من فروع المسائل الاجتهادية يوضحه أن الفقهاء من الحنابلة والشافعية قالوا : إنه لو جمع الجمار كلها حتى جمرة العقبة يوم العيد فرماها في اليوم الثالث من أيام التشريق اجزأت أداء لاعتبار أن أيام منى كلها كالوقت الواحد قاله في المغني والشرح الكبير ، وكذا في الإقناع والمنتهى ، وهو المذهب ، وحكى النووي في المجموع : أنه الظاهر من مذهب الشافعي .
فمتى كان الأمر بهذه الصفة وأن أيام منى كالوقت الواحد حسبما ذكروا ، فإذا لا وجه للإنكار على من رمى قبل الزوال والحالة هذه ، فإن من أنكر الرمي قبل الزوال أو بالليل بحجة مخالفتها لفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفعل أصحابه وقال: بجواز رميها مجموعة في اليوم الثالث ، فإنه من المتناقضين الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه ، فإن رمى كل يوم في يومه ولو قبل الزوال أقرب إلى إصابة السنة ، بحيث يصدق عليه أنه رمى في اليوم الذي رمى فيه رسول الله ، سيما إذا صحب هذا الرمي ما يترتب عليه من الذكر والتكبير والدعاء والتضرع ، بخلاف جمعها ثم رميها في اليوم الثالث في حالة الزحام حتى لا يدري أصاب الهدف أن وقعت بعيدا منه ، فإن جمعها ثم رميها في اليوم الثالث إنما ورد في حق المعذورين برعاية الإبل من أجل غيبتهم عن منى ، على أن كلا من الأمرين صحيح إن شاء الله ، لدخول الناس كلهم في واسع العذر بداعي مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام .
وكل من تأمل الفتاوى الصادرة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد التحلل الثاني يجدها تتمشى على غاية السهولة واليسر ، فقد استأذنه العباس في أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له على أن هذا الإذن مستلزم لترك واجبين وهما المبيت والرمي ، ولم يأمره في أن يستنيب من يرمي عنه ولا من يسقي عنه على أن الاستنابة فيكلا الأمرين ممكنة ، وقيل له : أن صفية قد حاضت قال: فهل طافت طواف الإفاضة قالوا : قال: فلتنفر إذا فأسقط عناه طواف الوداع وهو معدود من الواجبات ، ولم يأمرها في أن تستنيب من يطوف بدلها ورخص لرعاة الإبل في المبيت عن منى ، بأن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا جمار الأيام الثلاثة يرمونها يوم النفر في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار .(/8)
واختلف العلماء في المعذور مثل المريض الذي لا يستطيع الرمي والشيخ الكبير والمرآة الكبيرة وكل من لا يستطيع الوصول إلى الجمار هل يسقط عنه الرمي سقوطا كليا أم يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه ، فعند الفقهاء من الحنابلة والشافعية أنه يجب عليه أن يستنيب من يرمي عنه كالمعذور ، وإن لم يفعل فعليه دم ، وبنوا على ذلك كون العذر في المبيت يسقط الإثم والدم والعذر في الرمي يسقط الإثم دون الدم ،وهذا تفريق بين متماثلين لا يقتضيه النص ولا يوافقه القياس ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمر العباس في أن يستنيب من يرمي عنه لم يأمر الحائض في أن تستنيب من يطوف عنها طواف الوداع وهو معدود من الواجبات ، على أن الاستنابة في كلا الأمرين ممكنة ، يؤكده إنما ترك من الواجبات للعذر وعدم القدرة على الفعل، فإنه بمنزلة المأتي به في عدم الإثم ، ولأن الدم إنما يجب في ترك المأمور وفعل المحظور بالاختيار وهذا لم يترك مأمورا ولم يفعل محظورا باختياره وإنما تركه عجزا والله لا يكلف نفسا إلا وسعها وفي الحديث: » أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم « ، لأن الله سبحانه إنما أوجب فرض الحج على المستطيع ، وقد نص الفقهاء على سقوطه بظن حصول الضرر على نفسه ، أو أهله أو ماله فإذا كان هذا السقوط في أصل الحج فما بالك بفرعه ، ولأن العبادات كلها ما قدر عليه منها فعله وما أعجزه سقط عنه وهذه قاعدة مطردة في سائر الشرائع الدينية تعرف بالتتبع والاستقراء ، ولهذا تجب الصلاة بحسب الإمكان وما عجز عنه من شروطها وواجباتها سقط عنه . على أن شروط الصلاة وواجباتها آكد من شروط الحج وواجباته ، فإنه لو ترك شيئا من واجبات الصلاة عمدا بطلت صلاته ، بخلاف لو ترك شيئا من واجبات الحج عمدا ، فإنه لا يبطل بذلك حجه ويجبره بدم .
وأما الاستدلال على وجوب الاستنابة بحديث جابر قال: » حججنا مع رسول الله ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم « رواه أحمد وابن ماجة ، فهذا لا يدل على الوجوب قطعا ، فإن أصل الحج لا يجب على الصبي وكذلك فرعه ولأن التلبية عنه ليست بواجبة وكذلك الرمي وغاية الأمر أن يقال : أن استنابة المعذور من يرمي عنه أنها أحوط خروجا من خلاف من قال بوجوبه.
وأما الاستدلال بحديث: لتأخذوا عني مناسككم ، وأن الرمي بعد الزوال هي من المناسك التي فعلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتي أمر أن تؤخذ عنه .
فالجواب: أن هذه كلمة جامعة ، فإن المناسك التي نسكها رسول الله والتي أمر أن تؤخذ عنه تشمل الواجبات و المستحبات مثل الاغتسال لإحرام والتلبية و الاضطباع في الطواف والرمل وتقبيل الحجر وصلاة ركعتي الطواف ، و غير ذلك من العبادات التي نسكها رسول الله في حجه و هي من المستحبات ، و كل من عرف قواعد الشريعة و أصولها المعتبرة و ما تشتمل عليه من الحكمة و المصلحة و الرحمة و منافاتها للخرج و المشقة ، عرف حينئذ تمام المعرفة أن في الشريعة السمحة ما يخرج الناس عن هذه الشدة والمشقة التي يعانيها الناس عند الجمار ، لأن الدين عدل الله في أرضه و رحمته لعباده لم يشرعه إلا لسعادة البشر في أمورهم الروحية و الجسدية و الاجتماعية ومن قواعده أنه إذا ضاق الأمر اتسع و المشقة تجلب التيسير : » و ما جعل عليكم في الدين من حرج ، يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر« .
فهذه المشقة التي يعانيها الناس عند الجمار لا يجوز نسبة القول بها إلى الشرع و هو لا دليل على هذا التحديد لا من الكتاب و لا من السنة و لا قياس و لا إجماع .
غاية القول فيها أنه جرى على حسب الاجتهاد من الفقهاء الذين ليسوا بمعصومين من الخطأ ، و ليس من كلام رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي ، فإن رمى النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ و خلفائه و أصحابه فيما بين الزوال إلى الغروب هو بمثابة وقوفهم بعرفة فيما بين الزوال إلى الغروب ، على أنه لم ينته بذلكم حد الوقوف ، بل الليل كله وقت للوقوف .
و بما أن الرمي من واجبات الحج ، فإنه يتمشى مع نظائره من الواجبات مثل النحر و الحلق و التقصير فيدخل بدخولها في الزمان ، و يجاريها في الميدان إذ الكل من واجبات الحج الذي يقاس بعضها على بعض عند عدم ما يدل على الفرق ، و قد دلت نصوص الشريعة السمحة على أن الصواب في مثل هذه المسألة هو وجوب التوسعة ، و عدم التحديد بالزوال ، بل يجوز قبله و بالليل ، كما دلت عليه نصوص طائفة من العلماء فلم تجمع الأئمة و لله الحمد على المنع و لا على وجوب هذا التحديد ، إذ كانوا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله و إلى الرسول ، فيتبين لهم بذلك كمال دين الله و حكمة شريعته و كونه صالحا لكل زمان و مكان ، قد نظم حياة الناس أحسن نظام في شئون عباداتهم من حجهم و صلاتهم و صيامهم .(/9)
و بالجملة ، فإن القول بجواز رمي أيام التشريق قبل الزوال مطلقا هو مذهب طاوس و عطاء و نقل في التحفة عن الرافعي أحد شيخي مذهب الشافعي الجزم بجوازه ، قال : و حققه الأسنوي و زعم أنه المعروف مذهبا .
و ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يجوز الرمي قبل الزوال للمستعجل مطلقا وهي رواية عن الإمام أحمد ، ساقها في الفروع بصيغة الجزم بقوله : وعنه يجوز رمي متعجل قبل الزوال ، قال في الإنصاف : وجوز ابن الجوزي الرمي قبل الزوال ، وقال في الواضح: ويجوز الرمي بعد طلوع الشمس في الأيام الثلاثة وجزم به الزركشي ونقل في بداية المجتهد عن أبي جعفر محمد بن علي ، أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس ، وروى الدار قطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله أرخص للرعاة أن يرموا جمارهم بالليل أو أية ساعة من النهار، قال الموفق في كتابه الكافي : وكل ذي عذر من مرض أو خوف على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا لأنهم في معناهم ، قال: فيرمون كل يوم في الليلة المستقبلة ، قال: في الإنصاف وهذا هو الصواب ، وقاله في الإقناع والمنتهي وهو المذهب ، فعلم من هذه الأقوال أن للعلماء المتقدمين مجالا في الاجتهاد في القضية وأنهم قد استباحوا الافتاء بالتوسعة ، فمنهم من قال بجواز الرمي قبل الزوال مطلقا ، أي سواء كان لعذر أو لغير العذر ، ومنهم من قال بجوازه لحاجة التعجل ، ومنهم من قال بجوازه لكل ذي عذر ، كما هو الظاهر من المذهب ، فمتى أجيز لذوي الأعذار في صريح المذهب أن يرموا جمارهم في أية ساعة شاءوا من ليل أو نهار، فلا شك أن العذر الحاصل للناس في هذا الزمان من مشقة الزحام والخوف من السقوط تحت الأقدام أنه أشد وآكد من كل عذر فيدخل به جميع الناس في الجواز بنصوص القرآن والسنة وصريح المذهب ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما سئل يوم العيد و لا في أيام التشريق عن شيء من التقديم والتأخير إلا قال: » افعل ولا حرج « ، فلو وجد وقت نهي غير قابل للرمي أمام السائلين لحذرهم منه ، إذ
لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، فسكوته عن تحديد وقته هو من الدليل الواضح على سعته ، والحمد لله الذي جعل هذا التحديد من قول من ليسوا بمعصومين عن الخطأ ولم يكن من كلام من لا ينطق عن الهوى . فإن الحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله ، وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عفوه واحمدوا الله على عافيته ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ، ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
حرر في 5 شعبان عام 1393هـ(/10)
يطفئ نيران غضب الأمة التي أُدميت بقتل رجالها؟!
ما يثير غضب الأمة، ويؤجج النيران في صدور أبنائها، ويثير مشاعر الغيظ في قلوب الغيورين على مصالحها، ليس هو سقوط خيرة أبنائها شهداء غيلة وغدراً على أيدي أعدائها، وإنما هو عدم الاقتصاص لهؤلاء الشهداء من عدوهم، وعدم الانتصار لهم، وعدم وجود دولة تتبنى قضيتهم، وتدافع عن دمائهم، وتذود عن حرماتهم.
لقد صدق الحق سبحانه عندما قال – وقوله الحق-: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِم } .
فالله سبحانه بيَّن في هذه الآية الكريمة –وبيانه هو الحق والعدل- أن الصدور لا تُشفى، وأن غيظ القلوب لا يزول، إلا بقتال الأعداء، وقتلهم بأيدي المؤمنين، وإلحاق الخزي بهم، والانتصار عليهم.
ولقد أُدميت هذه الأمة الكريمة في هذه الأيام بقتل أشرافها ورموزها، وأغيظت بعدم الثأر لقتلاها، وعدم الانتقام لهم.
واغتيال الرنتيسي في فلسطين، وقتل أبي الوليد الغامدي في الشيشان، وقتل الألوف من مجاهدي هذه الأمة ومناضليها، هو قتل لرموز الأمة، وهو استهداف لمعاني العزة والكرامة والجهاد فيها. ولا فرق بين أن يكون المناضلون والمجاهدون في فلسطين، أم أفغانستان، في أوزبيكستان، أم في الشيشان. فالكل مستهدف، والكل مطلوب، والكل إرهابي أو أصولي متطرف. هذه هي نظرة أميركا الآن للمخلصين من أبناء هذه الأمة العريقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: إلى متى تظل حكومات البلدان الإسلامية صامتة عاجزة خانعة؟ بل إلى متى تستمر هذه الحكومات في التدليس على شعوبها، وإيهامهم بأنها تدافع عن رموز الأمة وأشرافها مع أنها من الواضح أنها تتآمر ضدهم مع أعداء الأمة؟
إنه إذا كان الأفراد والشعوب يكتفون بإطلاق صيحات الغضب شاجبين، مستنكرين، منددين بهذه الاغتيالات الجبانة، فإنه ليس مقبولاً من الحكومات البتة فعل ذلك. لأن الحكومات ليست عزلاء كالشعوب، وهي تملك الفعل إلى جانب الكلمة، ولا مبرر أن تكتفي بالكلمة وتدع الفعل، وهي تملك أن تفعل أشياء كثيرة، مؤثرة، وفاعلة، غير إطلاق تصريحات الشجب، والتنديد، والاستنكار، فهي تستطيع مثلاً أن تقوم بتحريك الجيوش، وقطع العلاقات، ووقف الاتصالات، وطرد السفراء، وإلغاء المفاوضات، وإلغاء العقود، وتصفية المشاريع وما شابهها. ومثل هذه الأفعال يكون مؤثراً، ومنتجاً، وفاعلاً، فعلى الحكومات إن كانت صادقة، وإن أرادت مثلاً أن ترد على اغتيال أحمد ياسين، والرنتيسي، والغامدي، وعلى جميع الذين سقطوا وهم يدافعون عن دين الأمة، وشرفها وكرامتها، عليها إن أرادت، أن تفعل، وأن تتحرك، بفعل وحركة يشكلان رداً مكافئاً لحجم هذه الكوكبة من الشهداء الذين رووا بدمائهم الزكية ثرى البلاد الإسلامية المغتصبة.
على أن الحكومات إن صدقت –ولا نظن بصدقيتها- أن تقطع مثلاً علاقاتها الدبلوماسية، والاقتصادية، والعسكرية، مع أميركا و(إسرائيل) وحلفائها، وعليها إن أخلصت لشعوبها –ولا نظنها تفعل- أن تعمل على كنس الوجود الأميركي واليهودي، من بلاد المسلمين، كنساً شاملاً بجميع نواحيه العسكرية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، عليها أن لا تسمح لأميركا وحلفائها بوجود قواعد أو قوات على أراضي المسلمين، وأن لا تقبل بوجود تسهيلات أو امتيازات لها في البلاد الإسلامية، وأن لا تتعامل مع الشركات والاستثمارات الأميركية، وأن لا تنظر في مبادرات أميركا ومشاريعها، وبالمحصلة عليها أن تجعل من القطيعة مع أميركا تامة ومن المقاطعة معها شاملة.
وبهذا فقط يمكن أن نبتر الأيادي الأميركية القذرة بتراً تاماً، فلا تعود للعبث بمقدرات الأمة يوماً من الأيام.
أما أن تستنكر هذه الحكومات جرائم أميركا وإسرائيل اليوم، وتتفاوض معها غداَ فهذا هو النفاق بذاته، وهذه هي الخيانة بعينها.
لقد آن الأوان للأمة أن تصرخ في وجه حكامها، وأن تأخذ على أيديهم، وأن تأطرهم على الحق أطراً، وتأصرهم عليه أصراً، وتحملهم على التوقف عن الثرثرة والكلام، وتجعلهم يقومون بالأفعال التي تعيد للأمة هيبتها وكرامتها، وحضورها بين الأمم، وعزتها لتعود أمة عزيزة شامخة، أمة العدل والخير بين الأمم.
لقد ملَّت الشعوب الإسلامية من خطاب حكوماتها، وخطاب الشعارات الزائفة المخادعة، وخطاب التبريرات الساقطة، المتهالكة، التي امتهنها رجال السياسة الذين مردوا على التبعية، والنفاق، والخنوع، ردحاً طويلاً من الزمن.
نعم، لقد انكشف هذا الخطاب الأجوف لجماهير الأمة، فبان عواره، وظهر تعفنه، وأزكمت رائحته الأنوف، وما عاد صالحاً للتغطية على عيوب هؤلاء المرتزقة سياسياً، والتستر على أولئك المستوزرين دبلوماسياً، الذين اتخذوا من الشعارات العاجزة قدوة لهم، من مثل "الرضا بالأمر الواقع" وَ "خذ وطالب" وما شاكلها.(/1)
فغضب الأمة على هذه الاغتيالات لن يطفئه إلا دولة تقارع أميركا، وتسحق إسرائيل، وتزيل الوسط السياسي الفاسد، وتفرض نفسها على العالم عزيزة، منيعة، قوية، مهابة الجانب.
وغضب الأمة لن يطفئه إلا دولة تطبق الإسلام على الناس وتجاهد في سبيل الله وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتقيم العدل، وتحكم بالسوية، وتجعل من الكتاب والسنة أساساً للدستور ولا أساس غيره.
وغضب الأمة لن يطفئه أيضاً إلا إزالة هؤلاء الحكام الرويبضات الذين يتحكمون في رقاب الناس بإسناد أميركا وحلفائها، فينطقون باسمها بالتافه من القول، ويصنعون في الشعوب ما يريده منهم الأسياد القابعون في واشنطن ولندن وتل أبيب.
وأخيراً فإن غضب الأمة لن يطفئه إلا مبايعة خليفة واحد يحكم المسلمين جميعاً في شتى بقاع الأرض، يوحدهم في دولة واحدة تقيم فيهم شرع الله وترفع العنت عنهم وتجلب لهم العزة والكرامة والانتصارات قرآن كريم
أحمد الخطيب - القدس(/2)
يا أَرض كابول !
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أَنَا الغَرِيبُ ... فَأَيُّ الأَرْضِ تَحْمِلُني
إِلى غَرِيبٍ أُوَاسِي جُرْحَه بِدَمي
* *
*
* *
يَا أَرْضَ "كَابُول"..! كَمْ أَلقَيْتِ مُنْهَزِماً
يَجْرِي مَعَ الدَّهْرِ في أَعْقَابِ مُنْهَزِمِ
وَكَمْ شَمَخْتِ ..! وَهَبتْ كُلُّ شاهِقَةٍ
مِنَ الذُّرى قِمَّةً تَسْعَى إلى قِمَمِ
تَسَابَقَتْ في عَنَانِ الجَوّ وانْطَلَقَتْ
إِلى مَرَاقِيَ مِنْ عِزٍّ وَمِنْ شَمَمِ
تَقُولُ في وَثَبَاتِ المجْدِ إِنَّ لَنَا
دَفْقاً إِلى الموتِ سَيْل الغَاضِبِ العَرِمِ
أَنا الَذِي عَزَّني الإِسْلاَمُ فائْتَلَقَتْ
حُمْرُ البَطِاحْ بِنُورٍ دافِقٍ تَمَمَ
مَدَدْتُ في جَوْلةِ الإِيمانِ سَاحَتَهُ
وَفي مَيَادِيِنه أَطْلَقْتُ كُلَّ كَمِي
أَيَطْمَعُ الرَّوْسُ أَن تُحْني الذُّرَى لَهُمُو
هَاماً وَقَدْ رَفَعَتْهَا عِزَّةُ الشِّيمِ
يَا وَيحَ "مُسْكُو".! وَقَدْ جَالتْ بجَوْلَتِها
وَأَوقَعَتْ نَفْسَها في مَسْرحٍ وَخِمِ
في لُعْبَةٍ أَمْسَكَتْ في كَفِّهَا طَرَفاً
وَأَفْلَتَتْ طَرَفاً في كَفِّ "ذي صَمَمِ"(2)
في كَفِّ " واشنْطُنِ " سَدَّتْ مَسَامِعَها
وأَغْمْضَتْ عَيْنَها عَنْ \ظَالِمِ غَلِمِ (3)
فَمَا وَعَتْ صَيْحَةً دَوّتْ مُجَلْجِلَةً
مِنَ النِّسَاءِ .. وَطِفْلٍ غَيْرِ مُنْفَطِمِ
وَكَمْ تُرى سَمِعتْ هَمْساً لِغَانَيةٍ
من اليَهودِ فَأَوْفَتْ زَهْوَةَ الكَرَمِ
يَا شَرَّ "ريْغَانَ"(4) كَمْ مَدَّتْ يدَاهُ أَسى
وَأَفْرَغَتْ كَفُّهُ أَحقادَ مُنْتَقِمِ
وَكَمْ هَوىَ المِنْجَلُ الدَّامِي على بَلَدٍ
لِيَسْحَقَ الأَرْضَ مِنْ زَرْعٍ وَمِنْ نَسَمِ
هُنَا التَقَى الظَّالِمَانِ استَحْدَثَا عَجَباً
بَيْنَ الكَوَاليس مِنْ شَرٍّ وَمِنْ غَمَمٍ
نَزَعْتِ يا أَرضَ " كَابُولٍ " قِنَاعَهُما
وَبَان زَيْفُهُمَا في وَقْدَةِ الضَّرَمِ
وَأَقْبَلا بِزُحُوفِ المَوْتِ كَاسِحَةً
تَطوي الشّوَاهِقَ طَيَّ الجَارِفِ العَرِمِ
وَأَشْعَلا النَّار مِنْ بَحْرٍ إلّى جَبَلٍ
إلى فَيَافَي مِنْ رَوْضٍ إِلى أَجَمِ
كَأَنَّمَا راسيَاتُ الأرْضِ زَلزَلها
هَوْلٌ مِنَ اللَّيْلِ أَو في عَتْمَةِ التُّخُمِ
تَنْسَابُ مِنهَا الأفَاعِي وَهْيَ هَائِجَةُ
لِتَدْفَعَ السُّمَّ نَبْضَ العِرْقِ دَفقَ دَمِ
تَنَاثَرَ النَاسُ مَمَّا قَدْ أَلَمَّ بِهِمْ
عَلَى الهَوَى نُهْبَةً للشَكّ وَالتُّهَمِ
وَتَاهَتِ الخطْوةُ الحَيْرَى عَلَى سُبُلٍ
شَتَّى وَفي مَهْمَهٍ دَاجٍ وَفي بُهُمِ (4)
وَعُدْتُ أَدْفَعُ في دُنْيَا اللَّجُوءِ خُطَّى
وَأَزْرَعُ الأَفْقَ مِنْ كُوْخي ومِن خِيَمي
أَنا الغرِيبُ .. يَكَادُ الدَّرْبُ يَشْرَقُ بِيْ
وَظُلْمَةُ اللَّيْلِ تَرْمِيْني إلى ظُلَمِ
* *
*
* *
وَعُدْتُ أسْأَلُ : كَيْفَ الخالَيِاتُ مَضتْ
وَمَا وثَبْنَا لِدَفْعِ الشَرِّ و النِّقَمِ
وكَيْفَ هَبَّ عَدُوّي عِنْدَها وَغَفَتْ
عَيْني عَلى دَافيء الأشْوَاقِ وَالحُلُمِ
كَأَنَّ دَارِيَ قَدْ ظَلّتْ مُفَتَّحَةً
أَبْوَابُهَا شُرَّعاً للزَّاحِفِ النَّهِمِ
أَيْنَ الَملاَيينُ ..!؟ في لَهْوٍ وَفي خَدَرٍ
أَين الدعاة وصَفْوُ النّهجِ والهِمَمِ .!؟
* *
*
* *
23/11/1405هـ
8/8/1985م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ملحمة الغُرباء .
(1) " ذي صَمَم " إشارة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي سدَّت أذنيها ، واغمضت عينها عن اكتساح الاتحاد السوفياتي لحدود أفغانستان على وحشية احتلال .
(2) غَلِمِ : الهائج الثائر .
(3) ريغانَ الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية ، وعند دخول الإتحاد السوفياتي لأفغانستان كان كارتر هو رئيس الولايات المتحدة ، والسياسة واحدة لا تتغير بتغير الرؤساء .
(4) بُهُمِ : جمع بهيم وهو الليل الذي لا ضوء فيه حتى الصباح والجمع بضمة وبضمتين .(/1)
يا قُدسُ !
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يا قُدسُ ! يَا نجْوى الزَّمان و لَهْفةَ الـ ... ... أُفُقِ اُلمُطِلِّ على رُبَاكِ ! فأجْملي
... ...
يَا قُدسُ ! يَا إشراقة الفَجْر النَّدِ ... ... يِّ وبسمةً طَلَعتْ مَع الصُّبْحِ الجَلِي
... ...
يَا قُدسُ ! يَا عِطرَ الدُّهور ونفحةً ... ... مَاجَت على الأمَلِ الغنيِّ المرفِلِ
... ...
يا قُدسُ ! يا رفَّ الحَنين وخَفْقةً ... ... مِن كلِّ قَلبٍ خَاشعٍ متبتِّلِ
... ...
يا قُدسُ ! يَا عَبَقَ الفُتُوحِ ونسمةً ... ... سَارَتْ بريَّا المِسْكِ فوحَ قُرنْفُلِ
... ...
يا قُدسُ ! يا نُور َ النُّبوَّةِ أشرقَتْ ... ... في الدَّاجياتِ و يَا صَفاء المَنْهَلِ
... ...
كلُّ النُّبُواتِ التِي بُعِثَتْ سَعَتْ ... ... شَوقاً إِليكِ بِنُورِهَا المُتَهلِّلِ
... ...
كمَ أشرَقَتْ في كلِّ ساحٍ آيةٌْ ... ... للهِ تُنْبِئُ بالنَّبي ِّ الأَكْمَلِ
... ...
فَإِليكِ أُسْريَ بالنَّبيِّ مُحَمَّدٍ ... ... لِيَؤُمَّهُمْ ! يَا للإِمامِ الأعدلِ
... ...
ثُمَّ ارتَقَى لمعارِجٍ موصُولةٍ ... ... بَلَغتْ بهِ أَعلى رُؤَى أو مَنْزِلِ
... ...
دارٌ مبارَكَةٌ و أنفاسُ الهُدى ... ... فيها على رَوْضٍ أَغَنَّ مُظَلَّلِ
... ...
المسْجد الأقْصَى بِساحك ! يا له ... ... من مَسْجِدٍ بِهُدَى العُصُور مُجَلَّل
... ...
بالحقِّ بالإسلام بالدين الذي ... ... حَمَلتْهَ كلُّ نُبُوَّة أو مُرْسَل
... ...
طاف الجَمال بكلِّ أرضٍِ وانْتَهى ... ... لرُبَاكِ مَجْلوّاً ! فَقِيل هُنا انْزِلِ
... ...
وإذا رباك غَنيَّةٌ خَفقَ الهوى ... ... في كلِّ ركنٍ بالجلال مُكلَّل
... ...
أرضَ الملاحِم حدّثي عن أُمَّةٍ ... ... تركَتْك في أسْرٍ شَدِيد مُثْقِلِ
... ...
أرض الملاحِم حدِّثي عَنْ غافِلٍ ... ... مُسْتَسْلمٍ أو جاهِلٍ مُتَنَصِّل
... ...
طيبي فلسطينُ الحبيبَة أشْرقي ... ... أملاً تجَدِّده الدّماء و هلِّلي
... ...
ستَظلُّ أرضُك بالملاحم ساحَةً ... ... للمؤمنين و عَهْدَ يوم مُقْبِل
... ...
سَتَظَلُّ أرضُكِ بالملاحم شُعْلَةً ... ... لتَشُقَّ مِنْ ظُلُماتِ لَيْلٍ ألْيَلِ
... ...
لا تيأسي ! فالأُفْقُ مزْدَحِمٌ بطلْـ ... ... ــعَةِ أُمَّةٍ موصولةٍ لمْ تُجْهَل
... ...
وكتائبٍ مَرْصُوصَةٍ لا تَنْثني ... ... إلا على نَصْرٍ أعزَّ و أجْمَلِ
*** ... ... ***
الأربعاء
15/2/1422هـ
9/5/2001م ... ... ...(/1)
يا لهفةَ الأشواقِ للأشواقِ
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يا لهفةَ الأشواق للأشواق ... ... وحنين فُرْسَانٍ ليوم تلاقِ
ورفيفَ أجنحة تَشُقُّ فَضَاءَها ... ... وثْبَ الخيالِ ولمحةَ الأحداقِ
طافتْ فما أعْيا جَنَاحَيْها الهَوى ... ... والشُّوقُ عَزْمُ جَناحِها الخفَّاقِ
والسّائرون تلفَّتوا ما للدّرو ... ... بِ تشَعَّبتْ في مَهْمَهٍ وخناقِ
طال السُّرى ! والليلُ مُنْعَقدٌ على ... ... سُبُلٍ يسُدُّ مطالعَ الآفاقِ
لله ما تشكو القلوب وحَيْرةٌ ... ... عضَّتْ على الأكبادِ والأعناقِ
ما بين مدمعها وبين أَنينِها ... ... ثَكْلى وأيْتامٌ ونارُ شِقاقِ
وجماجمٌ تنهالُ فوقَ جماجمٍ ... ... ومجازرٌ هولُ الدَّم الدفَّاقِ
*** ... * ... ***
ما للدّيار تَفَتَّحتْ أبْوابُها ... ... للمجرمين ووثْبةِ الفُسَّاقِ
وتفتَّحتْ تلك القُلُوبُ لِفتْنةٍ ... ... تَغْزو وظلمةِ فُرْقةٍ ونِفاقِ
السَّائرون على الطّريق تفرَّقوا ... ... شِيَعاً على هُونٍ وطول فِراقِ
عجباً وعندَهمُ الكتابُ و سُنّةٌ ... ... نوراً يَشُقُّ طريقهم لتلاقِ
تتلفّتُ الآفاقُ ! أينَ أخوّةٌ ... ... وعُراً تُشدُّ بها وعزمةُ واقي
هذا الصَّراطُ المستقيمُ يَمدُّه ... ... صدقُ اليقين وعزمة الميثاقِ
يمضون للأمل العظيم وجنَّةٍ ... ... فُتِحَتْ للهْفةِ صادقٍ مشتاقِ
صفَّاً كأنَّهُمُ البناءُ يُرصُّ في ... ... عَهْدٍ أبرّ وجولةٍ وسباقِ
تتفَتَّحُ الدنيا لهمُ وكأنَّهمْ ... ... فجرٌ أطلَّ وطلعةُ الإشراقِ
*** ... * ... ***
... ... الرياض
1/1/1424هـ
5/3/2003م(/1)
يا ديار الشآم
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
يا دِيَار الشّآمِ ! طُوبَى لِدَار
حَفِظَ الله سَاحَها مِنْ عَوادي (1)
بَارَك اللهُ في رُباها فَأَغْنتْ
وحَمَى الله وثْبَةَ الأَنْجادِ
أَنتِ أرضُ الرِّباط ! مَحْشَرُ جُندٍ
مَنْشَرٌ صادقٌ لِيَومِ مَعَادِ (2)
جَمَعَتْ أرضُك الغَنَّيةُ أمْجَا
داً وزهواً من طارفٍ وتِلادِ
أَنْتِ يا شامُ خيرُة الله من أَرْ
ضٍ ودُنْيا ملاحِمٍ واشْتِدادِ
أنتِ مأوى مُبارَكٌ وحمى صِدْ
قٍ إذا هبَّ فِتْنةٌ في البلادِ
أَنْتِ سَاحُ يُمحَّصُ الناسُ فيها
في ابتلاءٍ مع الزّمانِ مُعَادِ
يالِفُسْطاطِها ومَلْحَمةٍ كُبْـ
ـرى وإطلالِ " غُوطةٍ " ونِجَادِ
و" دِمشْقٌ " نِعْم المنازل هَبَّتْ
مِنْ رُبَاها طلائِعُ الرّوّادِ
ودِيارُ الأقْصَى تَمدُّ يَدَيْها
لهفةَ الشَّوق والوفا وتُنادِي
بين أَكْنافِها تَدُور اللَّيالي
وهْي تَهْفو لصادِقِ الميعادِ
يالبُشْرى نُزولِ عيسى ونُورٍ
مُشْرقٍ باليَقينِ والإنجادِ
أشْرقَتْ عِنَدها المنَارةُ شَرقـ
يَّ دِمَشْقٍ بآيَةٍ وجِهَادِ
يَنْشُر الحقَّ دعوةَ الله للإسْـ
ــلام فوقَ الذُّرا وبَين الوهادِ
ومضى يَكْسر الصَّليبَ ويُحيي سُـ
ــنّةَ الحقِّ في جَلالٍ بادِ
يَقْتلُ المجْرِمَ المدَجّل عند اللُّـ
ــدِّ يَطْوي مِنْ فِتْنَةٍ وفَسَادِ
وإذا الأرض كُلُّها آيَةُ العَدْ
لِ ونُورُ الإِحْسَانِ والإسْعَادِ
* * *
* * *
1421هـ
2000م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ملحمة أرض الرسالات
(1) بلاد الشام ، أو الشام : تعني فلسطين وسوريا والأردن ولبنان . فهي الأرض المعنيّة بهذه ـ اللفظة ـ الشام ـ في كتب التاريخ والتفسير ولا تعني مدينة دمشق وحدها .
(2) عن أبي ذر عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : (( الشام أرض المحشر والمنشر )) . رواه أحمد ابن ماجة عن ميمونة بنت سعد صحيح الجامع الصغير (ط:2) ـ ( رقم : 3620) .(/1)
يف تحدث القرآن عن الأنوثة??
عزيزي القارئ:
هل تحدث القرآن عن الأنوثة ؟ وكيف تحدث عنها ؟
مفكرة الإسلام : نعم لقد تحدث القرآن عن المرأة وكان التركيز كله في الآيات الكريمة على إخفاء أنوثة المرأة أمام الرجال الغرباء؛ لأن طبيعة المرأة التي جبلها الله عليها تفيض أنوثة ورقة ونعومة، ويؤكد رأينا هذا قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف: 18].
وقد جاء في تفسير هذه الآية من كتاب 'في ظلال القرآن' لسيد قطب رحمه الله:
'أفما كان من اللياقة والأدب ألا يخصوا الله بمن يُنشّأ في الحلية والدعة والنعومة'.
عزيزي القارئ:
إذا تجولنا معًا في آيات القرآن التي تتحدث عن المرأة لرأينا العجب العُجاب على ما ينبغي أن تكون عليه المرأة مع محارمها وخصوصًا الزوج. فتعالوا معنا لنقف مع بعض الآيات هذه الوقفات.
الوقفة الأولى مع قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف: 18].
أي تُنشأ المرأة منذ أن تكون طفلة في الحلية والدعة والنعومة كما جاء في تفسير في ظلال القرآن والحلية هي الزينة... وهنا يأتي السؤال ما معنى التزين؟
التزين هو: اتخاذ الزينة وهي ما يُستعمل استجلابًا لحسن المنظر من الحلي وغيره.
ومنه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس: 24]، أي حسنت وبهجت بالنبات.
والتزين يكون بالزيادة المنفصلة عن الأصل [أي أصل الخلقة] قال تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت: 12].
قال القرطبي: الزينة المكتسبة ما تحاول المرأة أن تحسن نفسها به كالثياب والحلي والكحل والخضاب، ومنه قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].
والسؤال هنا لمن تتزين المرأة ؟
وفي رأيي أن المرأة تتزين لنفسها أولاً؛ لِمَ لهذا الجمال من أثر على حالتها النفسية.
ثم تتزين للزوج ولمحارمها وللنساء. والأصل في التزين عمومًا الاستحباب لقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
وانظروا معنا إلى هذا المشهد من حياة الرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم: فقد روى مكحول عن عائشة رضي الله عنها قالت: 'كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره، فقلت: يا رسول الله وأنت تفعل هذا ؟ قال: [[نعم، إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال]] هكذا كان يفعل الحبيب صلى الله عليه وسلم فكان يتزين ويحسن هيئته عند مقابلة أصحابه، فأين التزين للزوج؟
ونحن لا نخص المرأة بالتزين ولكن أيضًا على الزوج أن يتزين لزوجته كما كان يفعل ابن عباس الذي كان يمشط شعره ويقول: 'إني أحب أن أتزين لزوجتي كما أحب أن تتزين لي'.
وتأمل معي عزيزي القارئ قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31].
أي لا يبدين الزينة الباطنة كالقلادة والخلخال والسوار. والذي يظهر هو الثياب.
لماذا اهتم الله سبحانه وتعالى بعدم إظهار المرأة لزينتها؟
لا شك أن إظهار زينة المرأة يُظهر أيضًا جمالها وأنوثتها ونعومتها، وهذا لا يرضاه الله أن تفعله خارج بيتها وللغرباء من الرجال. وعلى العكس طبعًا فهو أمر مستحب وجائز وهام جدًا للزوج بل واجب للزوج لإحصانه ومساعدته على غض البصر وملأ نفسه وعينه وقلبه.
الوقفة الثانية مع قوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33].
يقول صاحب كتاب 'في ظلال القرآن':
'لقد كانت المرأة في الجاهلية تتبرج ولكن جميع الصور التي تُروى عن تبرج الجاهلية الأولى تبدو ساذجة أو محتشمة حين تُقاس إلى تبرج أيامنا هذه في جاهليتنا الحاضرة'
قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال، وكانت لهن مشية تكسر وتغنج كما جاء في تفسير ابن كثير فنهى الله تعالى عن ذلك. فأين المشية والتكسر والتغنج للزوج عزيزتي الزوجة؟
وقال مقاتل بن حيان: والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيداري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها. وذلك التبرج.
هيا بنا عزيزي القارئ لنغوص أكثر في هذه الآية. ولنبدأ بالسؤال ما معنى التبرج؟
التبرج: هو إظهار محاسن المرأة [من بدنها] وزينتها [مما يُلبس فوق البدن] أمام الرجال.
وإذا أردنا الغوص أكثر لنعرف معنى التبرج، ولمن يكون التبرج؟
تابعونا في المقال التالي والذي هو بعنوان:
'أين التبرج للزوج؟'(/1)
يقظة الوعي الحضاري ..هل يُنهي زمن الغفوة؟
د. مسفر بن علي القحطاني 3/1/1427
02/02/2006
يشكّل غياب فقه مقاصد الشريعة وبُعده عن فقه الأحكام التكليفية وعزله عن الفروعيات الجزئية- أزمة واقعية على المستوى الفكري والتطبيقي للإسلام؛ فأصبحت الأحكام الشرعية نتيجة لهذا الغياب عبارة عن أفعال ديناميكية تصدر من اللاشعور الاعتيادي عند ممارسة الفرد لها دون فهم حقيقي لمراد الشرع الحنيف من هذه التكاليف أومقصد الدين من هذه العبادات, كما أدّى هذا الغياب في فهم المقاصد إلى تأطير الشريعة في مجالات محدودة من الحياة, وقصر التعبّد على نواحٍ معدودة من العبادات العملية, فأثر هذا الفصام في تهميش دورها التفاعلي في "حفظ نظام الأمة واستدامة صلاح هذا النظام الشامل بصلاح المهيمن عليه، وهو النوع الإنساني" .. كما قال الإمام الطاهر بن عاشور -رحمه الله- في معرض ذكره عن المقصد الرئيس لهذه الشريعة.
إن الأزمة الحقيقية التي تمر بها مجتمعاتنا الإسلامية في عصورنا الراهنة هي أزمة وعي بالدور الحضاري للأمة التي أراد الله –عزوجل- أن تكون شاهدة على كل الأمم وفي كل العصور!! يقول الحق تبارك وتعالى :( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...)[آل عمران: من الآية110] و قال سبحانه :(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...)[البقرة: من الآية143] فالخيرية التي وُصفت بها الأمة إنما هي معلّلة بالدور الذي يجب أن تؤديه لتلك المجتمعات الأرضية من أمر بالمعروف بكل ما يشمله هذا المفهوم, وكذلك النهي عن المنكر بنفس الشمول أيضاً، وهذا المعنى الزائد عن الوصف هو من أهم الأسس في شهودنا الحضاري على الأمم, وقد نبه عمر -رضي الله عنه- على حقيقة هذا المفهوم الشامل الذي يتعدى الأحكام الفردية إلى الممارسات الحياتية المختلفة إلى الهيئات الخارجية للناس, وذلك لمّا رأى في أحد الحجج التي حجها هيئة سيئة للناس لا تليق بمقام أهل الإسلام، حينها قرأ قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس ..) ثم قال : "يأيها الناس، من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله منها".
إن المراد بحقيقة هذه الأزمة التي تعاني منها الأمة يكمن في أن رسالتها في الشهود الحضاري على الخلق جميعاً: إنسهم وجِنّهم، برّهم وفاجرهم، جمادهم وحيوانهم غير واضحة في وعيهم الديني فضلاً عن وجود هذه المعاني في واقع حياتهم .. بل أصبحت مغيّبة من دروس العلم وخطب الوعظ ولقاءات ومؤتمرات وكتابات أهل الفكر والعلم والنظر- إلا من رحم ربك- وأظن أن عددهم قليل بالنسبة لجموع أولئك النخب.
هذه الأهمية لا مجال لبسط الحديث حولها في مثل هذا المقال؛ بل يحتاج الأمر إلى فصول وأبواب حتى يتم تشكيل الوعي المدرك بالخطوة الأولى في مدارج العمل الراشد للتحضر .. ولعل الأهم في هذه المرحلة أن نثير أهل العزم والحزم من علماء ودعاة الأمة الإسلامية بأن يبعثوا من جديد هذا الوعي في عقول الجميع, ويقدموا لأفراد الأمة العدة الكافية والعتاد اللازم لخوض المعركة الحضارية التي زاد سعارها بعد اندفاع سيل العولمة في كل أودية الفكر والثقافة والاقتصاد في مجتمعاتنا؛ حتى الحملات العسكرية الغربية التي تُشنّ على بعض البلاد الإسلامية وغيرها تُسوّغ بأنها دفاع عن القيم والمبادئ الحضارية، ولا يقصدون هنا سوى حضارتهم دون غيرها. فأُقحمنا -شئنا ذلك أم أبينا- أمام صدام عملي بين الحضارات العالمية، وإن كان المفهوم النظري لهذا الصدام أكثر تسامحاً وتعقّلاً - ومع هذا التحفظ على المصطلح - فإن الأدوات الفاعلة في هذه الحرب المستعرة هي للعلم والتقدم والتسابق التقني والتنافس الاقتصادي على الموارد والطاقة، وليست في حقيقتها سباقاً في التسلح أو من خلال عسكرة الحرب.
فالمعركة ضارية، وتحتاج منا إلى تأهل يدفعنا إلى معرفة موقعنا على خارطة الأمم، ومحاولة اليقظة العاجلة بالعودة إلى أسس المدافعة والبناء، ولن يتم ذلك إلا بالبناء العلمي، وإشاعة العدل والمساواة، واحترام الإنسان والإحسان إلى كل شيء.(/1)
وبالعودة الصادقة الواعية للدين نضمن الحصول على كل تلك الأدوات الفاعلة للنهوض الحضاري, كما استخدمها النبي -صلى الله عليه وسلم- في بعثه الأول للأمة ..فالعلم فريضة في شريعتنا على كل مسلم ومسلمة، والعدل والمساواة قواعد كلية عليها قامت كل أحكام الدين و الدنيا, واحترام الإنسان جاء من خلال حفظ كلياته الخمس: دينه ونفسه ونسله وعقله وماله، وانتظمت كل الأحكام الشرعية في تلك المقاصد الكلية, أما الإحسان فقد كتبه الله –عزوجل- على كل شيء حتى في أعنف حالات التعامل مع الآخرين, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" حتى الجماد والبيئة لم يُغفل حقها من التشريع؛ كما في النهي عن البول في الماء الراكد أو تحت الأشجار أو طرقات الناس، وكذا نهيه عن سبّ الدهر، والريح، أو قطع الأشجار المثمرة، إلى غيرها من صور التحضر الواعي الذي افتقدناه في مجتمعاتنا التي أصبحت مضرب المثل في التخلف والفقر، وشيوع الأمراض، وانعدام الحياة الكريمة للفرد العادي, فهل ستشكّل يقظة الوعي لدينا الإفاقة اللازمة لغفوتنا الحضارية الراهنة..(/2)
يقولون لا دليل على منع الإختلاط ، بل كان موجوداً ، لذا نحن ندعوا إليه !
20-5-2005
بقلم ندى العبدالله
"...هذه الأمور والأدلة كلها قرائن تدلُ على حرمة الإختلاط وهو سبب لتفسخِ المجتمعات ونزول العقوبات ، وهناك قاعدة في الشرعِ المطهر ، أن الله سبحانة وتعالى إذا حرم شيئاً حرم الأسباب المفضية إليه ..."
لاَ يَخْدعَنَّكَ عن دِيْن الهُدى نَفَرٌ
لَمْ يُرْزَقُوا في التماس الحق تأييدا
عُمي القلوب عَرُوا عن كل قَائِدَةٍ
لأنهم كفروا بالله تَقْلِيْدا
نقرأ بين الفينة والأخرى مقولات لفئام من الناس , أشُربت قلوبها بالزيغِ والإنحراف , فيسعون سعياً حثيثاً من أجلِ تَحَدُرِ مجتمعنا الإسلامي إلى التحلل من القيم النبيلة والإنسلاخِ من التعاليم الجليلة , وذلك بدعوته إلى كلِ منقصة مُخِلْة و منادته لكُل ذريعة تَذْرعُ به إلى الآثام في عصرِ الفتن والشرور .
فحينما يُحذر أهل العلم والبصيرة المستنيرة المسلمين من الإختلاط ومغبته , في أماكن العمل والدراسة والمؤتمرات والندوات والتجمعات وحتى في المساجد , يُقال بكل جهالة : لقد كان الإختلاط موجوداً في عهد رسول الله , فالنساء كن يذهبن للأسواق والمساجد , ويشهدن المعارك والغزوات , ملبسين الحق بالباطل , يلوون بذلك عنق الأخبار والحوادث , والأغرب من ذلك حينما يستطردون كلامهم بقولهم : ليس هناك دليل شرعي يدل على حرمة الإختلاط !
فما هذه إلا تخبطات وتَرُّنحات يناقض بعضها البعض , مرةً بمناداتها للإختلاط وحذوِ مسالك اليهود والنصارى من الغربيين , وأخرى بدعواها أنها لم تخالف تعاليم الدين الإسلامي , ولا دليل يدلُ على حرمة الإختلاط , فلا جَرَمَ عندهم ان تجلس المرأة في مكتبها بجانب زميلها في العمل وهي محجبة ! , ولا ضَيِرَ ان تكون معلمة تُعلم الشُبان في الصفِ وهي محجبة ! وتعمل في المرور والشرطة .. فلمَ لا ؟ فهي محجبة ! وتخالط هذا لساعاتِ طويلة في العمل , وتمازحُ ذاك , وتتناول الغداء مع آخر , وتقضي الساعات مستئنسة بالأحاديث معه , فتفتح أبواب الذرائع المؤدية إلى مالايُحمد عقباه .
وهذا للأسف بعيد كل البعد عن سنة وتعاليم رسول الله , قريب كل القُرب من شهوات القلب وأهواء النفس , يقول الله سبحانه وتعالى ( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ) .
فها هو نبي الأمة يُخصص في مسجده باباً خاصاً للنساء , _ اضغط هنا _ , ويأمر النساء وهن خروج من مسجده بتجنب الإختلاط بالرجال , ويتجلى ذلك واضحاً في قوله : ( عليكن بحافات الطريق ) _ إضغط هنا _ ولقد كان بأبي وأمي هو صلوات الله وسلامه عليه ينتظر بعد صلاته حتى ينصرف النساء لبيوتهن _ إضغط هنا _ ولم يكن لأحد معرفة نساء المؤمنين من شدة الغلس _ إضغط هنا _ و كانت صفوف النساء في آخر المسجد بعيدة معزولة عن صفوف الرجال , بل إن خير صفوف النساء آخرها , هذا في الصلاة , فكيف بما عداها من الأمور الأخرى ! _ إضغط هنا _ فالمجتمع الإسلامي معروف بأنه مجتمع فردي - أي غير مختلط - فللمرأة مجتمعها الخاص بها, وللرجل مجتمعه الخاص به , وذلك بإستثناء الرجل مع زوجتة وأهله , والمرأة مع محارمها وزوجها .
ومن المعلوم أيضاً , أن نظر المرأة للرجل عمداً محرم والرجل للمرأة أيضاً , ومصافحة الرجل للمرأة ومسه إياها محرم , وخلوة الرجل بالمرأة , وإذا ورد الأمر بالتفريق بين الصبيان في المضاجع , فكيف بالإختلاط بين البالغين !
فهذه الأمور والأدلة كلها قرائن تدلُ على حرمة الإختلاط وهو سبب لتفسخِ المجتمعات ونزول العقوبات , وهناك قاعدة في الشرعِ المطهر , أن الله سبحانة وتعالى إذا حرم شيئاً حرم الأسباب المفضية إليه , منعاً من الوصول إلية , فلما حرم الله الزنا حرم الأسباب المفضية إليه من التكشف والسفور والتبرج والإختلاط والخضوع في القول , ولو حرم الله أمراً وأباح الوصول إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم , وحاشا شريعة رب العالمين .
وختاماً .. لتكن لنا المجتمعات الإسلامية التي عم فيها هذا البلاء عبرة وعظة , فلننظر إلى الدول المجاورة كيف انتشرت فيها البلايا , من تفكك المجتمعات وإنتشار الرذائل .. كإنتشار الزنا .. وتبعه سقوط حد الزنا .. وجود الحمل السفاح , عزوف الشباب عن الزواج , تزايد أعداد العنوسة , قلة النسل , الطلاق , حلول العقوبات الالهيه من الفقر والقحط ونزع البركة وقبل ذلك كله ضياع الدين .(/1)
يكفرون وهم لا يعلمون ...
الحمدلله الذي فرق بين الحق والباطل وبين الكفر والإيمان ، جعل للجنة أهل وخلان ، وجعل للنار صحبا وسكان .
إلى كل من يريد أن يكون من أهل النجاة اعلم أنه لن يبلغ المرء درجة الصالحين حتى يتعلق بقلبه الخوف من الله، والخوف من الوقوع في الشرك والكفر وهذه هي سنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله عن إبراهيم : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } قال إبراهيم: ( ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ) . وحق لخليل الله أن يخاف إذ أنه لا ينفع بعد الكفر طاعة قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء} .
وبعد هذا وجب علينا جميعا أن نعرف طرق الكفر والشرك وصوره حتى يستقيم ديننا وتصلح أحوالنا والله الهادي إلى سواء السبيل.
أيكفر المسلم وهو لا يعلم ؟!
قال تعالى : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } التوبة 66
وقال صلى الله عليه وسلم : ( بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا ) رواه مسلم
وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم قال: ( يخرج في هذه الأمة قوم، تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، وعملكم إلى عملهم، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن ليناً رطباً، لا يجاوز حناجرهم، يحسبونه لهم وهو عليهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة، من أبغض خلق الله إليه ).
ولكن ما هو الكفر ؟؟!
الكفر في اللغة : هو التغطية والستر والجحود
وفي الشرع : فعل ما ينافي الإيمان .. وهو نوعان :
الأول : كفر أكبر : وهو نقض الإيمان بترك ما لا يصح الإسلام إلا به، مما دلت عليه النصوص الشرعية، بلا عذر شرعي، وهو خمسة أنواع :
(1) التكذيب
(2) الشك
(3) الإعراض مع التصديق: إهمالاً أو استكبارا أو عناداً
(4) الشرك
(5) النفاق.
الثاني : كفر أصغر : وهو نقص الإيمان بفعل أعمال محرمة سميت في الشرع كفراً لتضمنها جحد حق عظيم لأحد، ولا تخرج من الإسلام، ولا تحبط جميع الأعمال ومنها:
(1) كفر النعمة
(2) تكفير المسلم
(3) قتال المسلم
(4) كفران العشير
(5) الطعن في الأنساب
(6) النياحة
(7) أبق العبد
(8) انتساب المرء لغير أبيه.
صور من الكفر الأكبر المخرج من الإسلام
لتعلم أن فقهاء الإسلام عقدوا باباً مستقلاً في كتبهم الفقهية بإسم « باب أحكام الردة » ذكروا فيه العشرات من الأعمال والأقوال والاعتقادات التي تخرج المسلم من الإسلام إذا فعل واحداً منها... فلترجع إلى أقوالهم ولتتأكد من صحة إسلامك وتوحيدك !! وأذكر لك صوراً من الكفر الأكبر:
1- الدعوة إلى العلمانية أو الرضى بها وقبولها ( وحقيقتها محاربة الدين لإقصائه عن مظاهر الحياة وأنظمة الدولة) وكذا الانتماء إلى المذهب الإلحادية الأخرى: كالشيوعية والرأسمالية.
2- من يرى أن القوانين الوضعية أحسن من الإسلام، أو يرى أن الإسلام قديم، أو لا يناسب عصرنا. وكما أنه يجب على الحكام أن يحكموا بما أنزل الله، فكذلك هو واجب على الرعية في أنفسهم وفيما بينهم.
3- اعتقاد أن الدين فقط هو العبادات الكبيرة وهي : (الصلاة والزكاة والحج والصيام) وأنه لا يشمل كل جوانب الحياة، وكذا الاعتقاد أن بوسع أحداً أن يخرج من الدين أو من الشريعة الإسلامية.
4- محاربة أو كره أو الاستهزاء بشيء مما أمر الله به، ولو عمل به، مثل: (الحجاب، أو عدم الاختلاط، أو إعفاء اللحية، أو تقصير الثوب).
5- عدم فهم معنى « شهادة لا إله إلا الله » فقولها بلا معرفة لمعناها لا ينفع القائل ولا يدخله الإسلام، ومعناها: أعبد الله وحده بالعبادات الشرعية، ولا أعبد أو أشرك غيره معه، فهو إلهي وحده، لا إله لي سواه، إليه أتوجه بالصلاة والدعاء والتوكل والرجاء، والطاعة المطلقة، والمحبة الصادقة، فلا معبود بحق إلا الله وحده، ومن الأخطاء الشنيعة اعتقاد أن معناها: «لا خالق ولا رازق إلا الله» أي توحيد الربوبية فقط.
6- الاعتقاد بأن «لا إله إلا الله» كلمة تقال باللسان، وليس وراءها عمل.
7- الإعراض الكلي والتام عن الإسلام، لا يتعلمه، ولا يعمل به، ولا يأبه به.
8- ترك الصلاة وعدم الإتيان بها بتاتاً.
9- تكفير الصحابة أو اعتقاد أنهم ضلال، جميعهم أو معظمهم.
10- من لم يكفر المشركين أو أهل الكتاب من اليهود والنصارى، أو شك في كفرهم.
11- موالاة الكفار من النصارى واليهود، وغيرهم بمحبتهم ومعاونتهم على المسلمين.
12- الانتماء للأحزاب الجاهلية والقوميات العنصرية المخالفة للإسلام.
13- الشرك : ( قال الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته و شركه ) رواه مسلم .
14- السحر: بأن يتعلمه أو يعمله بواسطة الشياطين.(/1)
15- إدعاء علم الغيب ومن صوره : ( قراءة الكف والفنجان، والنظر في النجوم لمعرفة الغيب «المنجم»، والكهانة، والسحر، والرمّال، والمندل، والعراف )، وهؤلاء كلهم مشعوذون كذابون، يدعون علم الغيب في المستقبل أو الماضي أو الحاضر، ويدعون القدرة على علاج المرضى، وكشف الحقائق، وهم يستخدمون في ذلك كل الجن والشياطين والطلاسم الشركية، والحروف المختلفة، ويتمتمون بكلام لا يعرف، ويطلبون اسم أم المريض، ويطلبون أيضاً ما فيه رائحة المريض، وذبح حيوان، ويخبرون المريض بمعلومات تتعلق به لكي يتعلق بهم ويتوكل عليهم.. ولتعلم بأنه في بلد عربي واحد: 300 ألف مشعوذ، وينفق الشعب على الشعوذة عشر مليارات ريال.
16- يكفر من يعتقد أن هناك من يعلم الغيب مع الله، فيأتيه ويسأله، ولو بالهاتف أو في برامج إذاعية، ويصدقه، أو يأخذ بكلامه، ومن صوره: (قراءة البخت، أو أبراج الحظ في الجرائد والمجلات، وهذه يجب مقاطعتها). لأنه مكذب بقوله تعالى: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله }. وأما إذا أتاه ولم يصدقه فلا يكفر، لكنه فعل كبيرة، ( ولا تقبل له صلاة أربعين يوماً ) كما قال صلى الله عليه وسلم.
17- من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، مع قيام الحجة عليه من الكتاب والسنة، كحرمة: الخمر، والزنا، واللواط، وغيرها.
محرمات متنوعة هي بدع وخرافات أو شركيات
1- التبرك بالتمسح بالكعبة : بجدرانها، وستائرها، وبابها، باستثناء ما ورد فيه الشرع وهو: استلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني بلا تقبيل.
2- التمسح بأبواب وجدران وشبابيك المسجد الحرام أو غيره، وكذا جدران الحجرة النبوية.
3- التبرك: بغار ثور، أو غار حراء، أو أي بقعة مرَّ عليها الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحد الصحابة أو أحد الصالحين.
4- اعتقاد أن تعليق التمائم والحجب على الإنسان، أو في المنزل، أو جعلها تحت الوسادة، أو في السيارة، سبب لدفع الأذى والعين والحسد، سواء كانت هذه التمائم والحجب من الخرز أو من الآيات معدنية. «وكذا لو كانت من الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية على الصحيح من أقوال أهل العلم».
5- اعتقاد أن لبس الحلق والخيوط ونحوها سبب لرفع البلاء أو دفعه.
6- التوسل نوعان :
(الأول) الدعي: وهو دعاء الله والتوسل له بما لم يشرعه، مثل التوسل :
(1) بجاه النبي صلى الله عليه وسلم
(2) أو بذوات المخلوقين
(3) أو بحقهم كأن يقول: اللهم إني أسالك بجاه نبيك أو حقه، أو مكانته عندك ...
(4) أو بحق فلان
(5) أو بروح فلان الميت أو الحي.
(الثاني) التوسل الجائز هو:
(1) بأسماء الله وصفاته
(2) بالإيمان والعمل الصالح
(3) أن يطلب من الصالحين الأحياء الدعاء له.
7- الولاء للقبيلة أو البلد أو الحزب أو الجماعة بدلاً من الولاء للإيمان وأهله وبحسب قرب العبد من الله تعالى.
8- إقامة الحفلات المتنوعة بقصد التقرب بها إلى الله، أو تقليداً للكفار من أهل الكتاب وغيرهم، مقل :
(1) الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم
(2) بالهجرة
(3) برأس السنة الهجرية أو الميلادية
(4) ليلة الإسراء والمعراج
(5) ليلة النصف من شعبان أو إحيائها
(6) ليلة سبعة وعشرين من رمضان
(7) عيدا لأم
(8) عيد الميلاد
(9) التقرب إلى الله بالذكر مع ضرب الطبول والدفوف والأشعار ونحوها
(10) إقامة الأذكار الجماعية المبتدعة.
9- التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم.
10- إقامة التماثيل والتصوير وتعليق الصور.
11- التشأوم والتطير وهو : ( تعليق أو توقع حدوث البلاء والشر على شيء بلا مستند شرعي ولا حسي ) مثل: التشاؤم من شهر صفر، فلا يتزوج فيه الإنسان، ولا يسافر، ولا يتأخر...
12- اتباع الطرق المبتدعة الضالة المنحرفة والتي لم يفعلها الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، مثل: ( التيجانية، والشاذلية، والقادرية، والجيلانية...)
13- إساءة الظن بالله تعالى : ( بأن يظن بأنه لا يتوب عليه إن تاب، ولا يستجيب دعاءه، ولا يرحمه....).
14- توزيع نشرات وكتب تشمل على بدع ومحرمات، مثل : ( الوصية المكذوبة على الشيخ أحمد خادم المسجد النبوي الشريف ).
ألفاظ محرمة مخالفة للعقيدة
1- فلان: ( أغنى الأغنياء، ملك الملوك، يفعل ما يشاء، حاكم الحكام، قاضي القضاة ). ( إن أخنع إسم عند الله رجل تسمى: ملك الأملاك، لا مالك إلا الله ).
2- اللهم أغفر لي أو أعطني إن شئت. ( إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن... )
3- يا كافر، يا يهودي، يا نصراني، يا عدو الله ( أيما رجل قال لأخيه، يا كافر فقد باء بها أحدهما ).
4- شاءت الأقدار، شاءت الظروف أو الطبيعة، شاءت قدرة الله، شاء القدر، تدخل القدر. (لأنها لا مشيئة له ا)
5- ما تستاهل ، أو فلان ما يستاهل المرض أو المصيبة ( محرم لكونه اعتراض على الله )(/2)
6- فلان بعيد عن المغفرة، أو الخير، أو الهداية، أو الجنة، أو رحمة الله... قال الله : { من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له، وأحبطت عملك}.
7- الله يظلمك، الله يسأل عن حالك، خان الله من يخون، ربنا افتكر فلان ( للميت)، يأكل معك الرحمن، ماذا فعلت يا رب، غداً سأفعل كذا ( لأنه لم يقل : إن شاء الله )، لو أني فعلت كذا لكان كذا لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لو تفتح عمل الشيطان )، فلان دفن في مثواه الأخير، يا سيدي، السيد فلان لقوله صلى الله عليه وسلم: ( السيد الله )، ألفاظ سب الدهر.(/3)
يمين الإكرام
راشد بن فهد آل حفيظ(#) 19/3/1425
08/05/2004
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً.
أما بعد:
فإن مسألة يمين الإكرام مسألة مهمة، يكثر وقوعها، واستعمالها، والسؤال عنها، ومن أجل ذلك أحببت أن أكتب هذا البحث عنها، وقد رتبته في مبحثين:
المبحث الأول: تعريف مفردات عنوان البحث، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف اليمين، وفيه فرعان:
الفرع الأول: تعريف اليمين في اللغة.
الفرع الثاني: تعريف اليمين في الاصطلاح.
المطلب الثاني : تعريف الإكرام
المطلب الثالث: المراد بيمين الإكرام.
المبحث الثاني: الكفارة في يمين الإكرام.
والله أسأل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه موافقاً لمرضاته نافعاً لعباده إنه قريب مجيب.
المبحث الأول
تعريف مفردات عنوان البحث
المطلب الأول
تعريف اليمين
وفيه فرعان:
الفرع الأول: تعريف اليمين في اللغة.
تطلق اليمين في اللغة على معانٍ منها:
الأول: القوة والقد (1)، ومنه قوله تعالى: (لأخذنا منه باليمين)(2) أي بالقوة والقدرة(3).
الثاني: اليد اليمنى(4)، ومنه قوله تعالى: (فراغ عليهم ضرباً باليمين)(5) أي باليد اليمنى(6).
الثالث: الحلف والقسم(7) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "يمينك على ما يصدَّقك به صاحبك(8)أي يجب عليك أن تحلف على ما يصدَّقك به إذا حلفت له)(9).
الرابع: العهد والميثاق(10) ومنه قوله تعالى: (وإن نكثوا أيمانهم)(11) أي عهودهم ومواثيقهم(12) الفرع الثاني: تعريف اليمين في الاصطلاح.
يمكننا تعريف اليمين اصطلاحاً – من خلال ما ذكره الفقهاء في تعريفها – بما يلي:
توكيد الشيء بذكر معظم (13)بصيغة مخصوصة(14)(15).
المطلب الثاني
تعريف الإكرام
الإكرام: إيصال النفع للغير بلا غضاضة، وبلا عوض (16).
أو الإعطاء بسهولة، وبطيب نفس(17).
أو إيصال الخير للغير، من بذل، وجود وإحسان، وحسن خلق(18)
المطلب الثالث
المراد بيمين الإكرام
يمين الإكرام: الحلف على الغير بأن يفعل شيئاً قاصداً – أي الحالف – بذلك الإكرام(19) كمن حلف على غيره بأن يتغذى عنده، أو يجلس في مكان معين، قاصداً بذلك الإكرام، لا الإلزام (20).
المبحث الثاني
الكفارة في هذه اليمين
لقد ذهب جماهير الفقهاء – الحنفية (21)والمالكية(22)والشافعية(23) والحنابلة(24))- إلى وجوب الكفارة في هذه اليمين بالحنث.
واستدلوا بعموم الأدلة، ومنها ما يلي:
الدليل الأول:
قوله تعالى : ( لا يؤاخذكم الله باللغو (25)في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم)(26) . وقوله تعالى : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان )(27).
وجه الاستدلال:
أن عموم هاتين الآيتين يشمل كل من عقد اليمين (28) وكسبها بقلبه(29) سواء قصد بها الإكرام أم لا.
الدليل الثاني
قوله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير"(30)، وفي رواية : " فليأت الذي هو خير، وليفكر عن يمينيه".
وجه الاستدلال:
أن هذا الحديث عام، يشمل كل من حلف قاصداً اليمين على أمر مستقبل، سواء قصد بها الإكرام أو لا.
هذا ما ذهب إليه جماهير الفقهاء، وهو القول الأول في هذه المسألة.
أما القول الثاني فهو عدم وجوبها في هذه اليمين وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية(31) ، ورجحه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (32).
واستدل شيخ الإسلام بدليلين:
الدليل الأول:
قصة أبي بكر – رضي الله عنه- لما صلى بالناس.
وفيها : أن النبي – صلى الله عليه وسلم- جاء والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف فصفق الناس، وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته، فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فأشار إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أن امكث مكانك،..... ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، وتقدم رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فصلى، فلما انصرف قال: يا أبا بكر: ما منعك أن تثبت إذ أمرتك" .فقال أبو بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- (33).
وجه الاستدلال:
أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- لم ينكر على أبي بكر، عدم امتثاله لأمره، مع أن امتثال أمره واجب، مما يدل على أن الأمر إذا أريد به الإكرام لم يلزم امتثا (34)ولم يُعد مخالفه عاصياً، وعليه فاليمين التي يراد بها الإكرام كذلك، لا يعد مخالفها حانثاً(35) ونوفش:
بأن من أكد أمره باليمين- سواء قصد به الإكرام أم لا- داخل في عموم قوله –تعالى- ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان)(36) وحينئذٍ تُعدُ مخالفة أمره حنثاً، لكونه قد أكده باليمين.
الدليل الثاني(/1)
قصة أبي بكر- رضي الله عنه- أيضاً، لما فسَّر الرؤيا، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم- : " أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً" فقال أبو بكر: فوالله، لتحدثني بالذي أخطأت، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- : " لا تقسم"(37).
وجه الاستدلال:
أن النبي – صلى الله عليه وسلم- لم يأمره بالكفارة، ولم يذكر عنه أنه كفَّر، لكونه لم يرد الإقسام على النبي – صلى الله عليه وسلم- ولا إلزامه بأن يخبره مع المصلحة المقتضية للكتم، مما يدل على أنه لا كفارة على الحالف الذي يريد الإكرام لا الإلزام(38).
ونوقش:
بأن عدم أمره بالكفارة لا يدل على سقوط وجوبها، لكونه قد علم من نصوص أخرى (39) كقوله – تعالى-: ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) (40) ويمكن أن يستدل لما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية-أيضاً- .
بقصة أبي بكر- رضي الله عنه- مع أضيافه، عندما أبوْا الأكل قبله، فقال: والله، لا أطعمه الليلة، فقالوا: والله، لا نطعمه حتى تطعمه، فسمى فأكل، فأكلوا، فلما أصبح غدا إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، بروا وحنثت، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- " بل أنت أبرهم وأخيرهم"(41).
وجه الاستدلال:
أن الرسول – صلى الله عليه وسلم- لم يأمر أبا بكر بالكفارة، بل قال له: " أنت أبرهم"، لكونه قد قصد بيمينه الإكرام، مما يدل على أنه لا كفارة على الحالف الذي يريد الإكرام.
ونوقش:
بأن عدم أمره بالكفارة لا يدل على سقوط وجوبها، لكونه قد علم من نصوص أخرى(42) كقوله – تعالى-: ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان)(43) وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه" (44).
أما قوله صلى الله عليه وسلم- : " أنت أبرهم" فمعناه: أكثرهم طاعة وخير منهم، لأنك حنثت في يمينك حنثاً مندوباً إليه محثوثاً عليه – كما في قوله: "فليأت الذي هو خير" فأنت أفضل منهم(45).
وعُلل لما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، بما يلي:
أن الإكرام قد حصل بمجرد اليمين، فكأنه قال: والله إني أكرمك بهذا، وقد تم (46) هذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام – رحمه الله- فيه وجاهد، تخفيف على الناس- بلا شك- لكن عموم الأدلة يقتضي خلافه؛ إذ يقتضي وجوب الكفارة في هذه اليمين(47).
وإلى هنا انتهى ما أردناه، والحمد الذي بنعمته تتم الصالحات.
المراجع والمصادر
1. الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للبعلي، دار العاصمة، الرياض.
2. إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان، لابن القيم، المكتب الإسلامي، بيروت.
3. الإفصاح عن معاني الصحاح، لابن هيبرة الطبعة الثانية، 1366هـ، المكتبة الحلبية، حلب.
4. الإقناع لطالب الانتفاع، للحجاوي، دار هجر، القاهرة.
5. الأم، للإمام الشافعي، الطبعة الثانية 1393هـ، دار المعرفة، بيروت.
6. الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرادوي، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
7. التعريفات، للجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت.
8. تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، المكتبة العصرية، بيروت.
9. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لابن جرير، دار الفكر، بيروت.
10. حاشية ابن عابدن (رد المحتار)، دار الكتب العلمية، بيروت.
11. حاشية الشيخ محمد بن عثيمين على الروض، مؤسسة الرسالة، بيروت.
12. الدر المختار شرح تنوير الأبصار، للحصكفي، دار الكتب العلمية، بيروت.
13. الذخيرة، للقرافي، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
14. روضة الطالبين وعمدة المفتين، للنووي، المكتب الإسلامي، بيروت.
15. زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، المكتب الإسلامي، بيروت.
16. شرح الرزكشي عل مختصر الخرقي، دار أولي النهى، بيروت.
17. شرح صحيح مسلم، للنووي، مؤسسة قرطبة.
18. شرح منتهى الإرادات المسمى دقائق أولي النهى لشرح المنتهى، للبهوتي، دار الفكر.
19. صحيح البخاري، دار الريان، القاهرة.
20. صحيح مسلم، مؤسسة قرطبة.
21. العزيز شرح الوجير، للرافعي، دار الكتب العلمية، بيروت.
22. فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مطبعة الحكومة بمكة المكرمة.
23. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، دار الريان للتراث، القاهرة.
24. فتح القدير، لابن الهمام، دار الكتب العلمية، بيروت.
25. الفروع، لابن مفلح، عالم الكتب ، بيروت.
26. العقود (نظرية العقد) لشيخ الإسلام بن تيمية، دار السلفية المحمدية، توزيع مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
27. الكافي في فقه الإمام أحمد، لابن قدامة، دار هجر.
28. كشاف القناع عن متن الإقناع، للبهوتي، الناشر مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة، الرياض.
29. لسان العرب، لابن منظور، دار الفكر.
30. المبسوط، للسرخسي، دار الكتب العلمية، بيروت.
31. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، دار عالم الكتب، الرياض.
32. مختار الصحاح للرازي، مؤسسة الرسالة، بيروت.
33. المدونة للإمام مالك، مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة.(/2)
34. المصباح المنير، للفيومي، دار الكتب العلمية، بيروت.
35. المطلع على أبواب المقنع للبعلي، المكتب الإسلامي، بيروت.
36. معجم لغة الفقهاء، المقلعجي ، دار النفائس، بيروت.
37. المغني، لابن قدامه، دار هجر ، مصر.
38. مفردات ألفاظ القرآن، للأصفهاني، دار القلم، دمشق.
39. فتح الجليل على مختصر خليل، لمحمد عليش، الناشر مكتبة النجاح، طرابلس.
40. نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، لابن الجوزي، مؤسسة الرسالة، بيروت.
41. نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للشوكاني، دار زمزم، الرياض.
(#) القاضي بالمحكمة العامة بالمخواة.
(1) انظر لسان العرب 13/461، والمصباح المنير 2/682، ومختار الصحاح ص 745.
(2) سورة الحاقة الآية رقم (45)
(3) انظر جامع البيان عن تأويل أي القرآن 1/73.
(4) انظر لسان العرب 13/462، ومختار الصحاح ص 745.
(5) سورة الصافات الآية رقم (93).
(6) انظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن 1/73
(7) انظر لسان العرب 13/462، ومختار الصحاح ص 745
(8) أخرجه مسلم في كتاب الأيمان، باب يمين الحالف على نية المستحلف، برقم 1653، 11/68، نووي، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) لسان العرب 13/311
(10) انظر لسان العرب 13/311، ومختار الصحاح ص 460، ومفردات ألفاظ القرآن ص 893-894؟
(11) سورة التوبة الآية رقم (12)
(12) انظر جامع البيان 6/87-89.
(13) يشمل العظيم في نفسه، أو عند الحالف. انظر شرح الزركشي 7/64، وشرح منتهى الإرادات 3/419.
(14) أي صيغة القسم انظر الزركشي 7/64 وشرح منتهى الاردات 3/419.
(15) انظر شرح الزركشي 7/64، والمبدع 9/252، والإقناع 4/335، وفتح الباري بشرح صحيح البخاري 11/525.
(16) انظر التعريفات للجرجاني ص 184، ومفردات ألفاظ القرآن ص 707.
(17) انظر التعريفات للجرجاني ص 184، ومعجم لغة الفقهاء ص 380.
(18) انظر لسان العرب 12/510، والمطلع ص 130.
(19) انظر الفروع لابن مفلح 6/390، والأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للبعلي ص 387، والإنصاف 9/116 وكشاف القناع 5/2906.
(20) انظر المصادر السابقة.
(21) انظر فتح القدير 5/192، والدر المختار مع حاشية ابن عابدين 5/675-676.
(22) انظر المدونة 2/104، وفتح الجليل 1/625،و الذخيرة 4/15.
(23) انظر الأم 7/62، وروضة الطالبين 11/4، والعزيز 12/230.
(24) انظر الفروع 6/390، والإنصاف 9/116، والإقناع 3/531، وكشاف القناع 5/2706
(25) اللغو في الأيمان: ما لا عقد فيه، ولا قصد، ولا إرادة.انظر لسان العرب 15/250، والمصباح المنير 2/55، ومختار الصحاح ص 600 ونزهة الأعين النواظر ص 531، ومفردات ألفاظ القرآن ص 742، ويمين اللغو: ما يجري على اللسان بغير قصد، أما اليمين على ما يظنه حقاً وليس كذلك فليست من لغو اليمين، لتحقق القصد فيها، لكن مع ذلك هي في حكم اليمين اللغو، ليس فيها كفارة. انظر الأم 7/63، وروضة الطالبين 11/3، والعزيز 12/229، والمغني 13/451، الكافي 6/6، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 33/212، والإقناع 4/341، ونيل الأوطار 8/272.
(26) سورة البقرة الآية رقم (225).
(27) سورة المائدة الآية رقم (89).
(28) عقد الشيء: ربطه وشده. وانعقاد الأيمان: إحكامها، وتأكيدها، وتوثيقها، وتثبيتها. انظر لسان العرب 3/296 -297، والمصباح المنير 2/41، وزاد المسير 2/412-413، وتفسير القرآن العظيم 2/83. واليمين المنعقدة : هي التي قصدها الحالف على أمر مستقبل. انظر الإفصاح 2/461، والمبسوط 8/126،130 والمدونة 2/102 ، والمغني 13/445.
(29) كسب القلب: قصده، وإرادته. انظر تفسير القرآن العظيم 1/233-234، 2/83، وإغاثة اللهفان ص 46.
(30) أخرجه البخاري، في كتاب الأيمان والنذور، باب قول الله –تعالى- : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) برقم 6622 وفي كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده برقم 6721 ورقم 6722 ، 11/616 فتح، ومسلم في كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يميناً، فرأي غيرها خيراً منها، أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه ، برقم 1649، ورقم 1650، 11/156 نووي.
(31) انظر الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 387، والفروع 6/390، والانصاف 9/116، وكشاف القناع 5/2706، وحاشية الشيخ العلامة محمد بن عثيمين على الروض المربع ص 583.
(32) انظر فتاواه 12/230-231.
(33) أخرجه البخاري، في كتاب الأذان، باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام...، برقم 684 ، 2/196 فتح، ومسلم، في كتاب الصلاة باب تقديم الجماعة من يصلي بهم....برقم 421، 4/190 نووي، كلاهما من حديث سهل بن سعد الساعدي- رضي الله عنه-(/3)
(34) قال ابن حجر: ( وفيه – أي الحديث.... أن من أكرم بكرامة يتخير بين القبول والترك إذا فهم الأمر على غير جهة اللزوم وكان القرينة التي بينت لأبي بكر ذلك هو كونه – صلى الله عليه وسلم- شق الصفوف إلى أن انتهى إليه فكأنه فهم من ذلك أن مراده أن يؤم الناس، وأن أمره إياه بالاستمرار في الإمامة من باب الإكرام، والتنويه بقدره) أ.هـ من فتح الباري 2/199
(35) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 33/209، والعقود (نظرية العقد) لشيخ الإسلام ص 50، والفروع 6/390، والأخبار العلمية ص 387، والإنصاف 9/116.
(36) سورة المائدة الآية رقم 89.
(37) أخرجه البخاري ، في كتاب التعبير، باب من لم ير الرؤيا لأول عابر إذا لم يصب برقم 7046، 12/450 فتح، ومسلم، في كتاب الرؤيا، باب تأويل الرؤيا، برقم 2269،15/41-42 نووي، كلاهما من حديث عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما-.
(38) انظر الفروع 6/390، والأخبار العلمية ص 387، والإنصاف 9/116، وفتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ 12/230-231.
(39) انظر شرح صحيح مسلم للنووي 14/30، وفتح الباري 6/694.
(40) سورة المائدة الآية رقم 89
(41) أخرجه البخاري، في كتاب الآداب، باب ما يكره من الغضب والجزع عند الضيف، برقم 6140 رقم 6141، 10/551 فتح، ومسلم، في كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، برقم 2057، 14/30، نووي، كلاهما من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر – رضي الله عنهما-.
(42) انظر شرح صحيح مسلم للنووي 14/30، وفتح الباري 6/694.
(43) سورة المائدة الآية رقم 89
(44) سبق تخريجه هامش (30).
(45) انظر شرح صحيح مسلم للنووي 14/30، وفتح الباري 6/694.
(46) انظر كشاف القناع 5/2706
(47) قال الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين- رحمه الله- : " ظاهر النصوص خلاف كلامه- يقصد شيخ الإسلام" أ.هـ من تعليقه على كتاب الأيمان من صحيح البخاري، الشريط رقم (1) آخر الوجه الأول. وقال – رحمه الله- في موضع آخر: " هذا القول فيه فرج للناس.." فسئل: هل في هذه اليمين كفارة؟ فقال- رحمه الله- : " على كل حال انظر ما هو الأقرب إلى الصواب واعتمده" أ.هـ من شرحه للزاد، شريط رقم (3) آخر الوجه الثاني. فسألته- رحمه الله- عن ذلك فقلت: هل ترجحون ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في يمين الإكرام من أنه لا كفارة فيها؟. فقال الشيخ –رحمه الله- لا . أ.هـ 25/10/1417هـ.(/4)
يهوذا الاسخريوطي.. إذْ (يخوّن)المسيح..!
د. محمد الحضيف
</TD
هنا قصة افتراضية ..!
أصل القصة يقول : أن يهوذا الأسخريوطي، كان من تلاميذ المسيح عيسى، عليه السلام.. فخانه، بتحريض من اليهود ، وأسلمه للرومان الذين أرادوا قتله.
الأجزاء الافتراضية للقصة ، أخذت أشكالا عديدة. أحدها .. أن يهوذا ، ندم على خيانته المسيح، ودلالته للرومان على مكانه ، ورجع عن دعواه ، وقوله بأن تعاليم المسيح هرطقة ، ومحاولة لتقويض (سلطة) الرومان .
هناك جزء افتراضي للقصة، لم ينتشر كثيرا . ملخّص هذا الجزء، أن يهوذا الاسخريوطي، حين (خان) المسيح ، وتنكّر لـ (مبادئه) .. متقربا للرومان، ساهم في ترويج (أسطورة) الصلب، التي تهدف إلى (تبشيع) نهاية المخالف، وتوحي بغلبة الرومان على المسيح. كان له دور كذلك، في إشاعة حملة تشويه وأكاذيب، ينسجها اليهود : عن فساد المسيح، وضلاله، وشقه لصف (المؤمنين)، وترويجه خطاباً مملوءاً بالكراهية، وإقصاء (الآخر)..!
الذي حدث .. أن تعاليم المسيح انتشرت، وصار رمزا للتضحية والإصلاح، لدى عموم الطبقات الكادحة والمهمشة، التي ذاقت ويلات الاستبداد، وعانت من الاستغلال، القائم على الطبقية ، ونظام السخرة. لذلك.. كان لا بد من استراتيجية جديدة، فاُنتدِب يهوذا، للقيام بدور مختلف.
الرومان الذين مثلوا رمز الظلم، وحصار الحقيقة.. عبر سلطة مطلقة، وعبروا عن شكل بشع للاستبداد، الذي يصادر حق الإيمان، وجدوا في يهوذا الاسخريوطي.. أو هكذا توهموا، وسيلة ناجعة للالتفاف على تعاليم المسيح وتطويقها، ومن ثمّ اختراقها.. لتدميرها من الداخل، بدل مواجهتها، ومصادمة أتباعها. دأْب كل الدكتاتوريات، التي ترى في (الإيمان) ،وحق القلوب في إسلام قيادها للخالق.. تهديدا لسلطتها المطلقة.
جرّب (الرومان) كل وسائل القمع، والمصادرة، والحصار.. و (تجفيف المنابع)، واستعانوا بكل حيَل اليهود. كانت النتيجة إفلاساً.. يتبعه إفلاس. كلما حطموا فانوساً، تطايرت جزيئات حطامه.. لتشتعل مصابيح في كل زاوية، تنثر النور في كل اتجاه.
يهوذا الاسخريوطي، (الخارج) من عمق تعاليم المسيح، تلميذه الأثير.. الذي (خانه)، سيكون هو من سيدق إسفين الفناء، في نعش (الحركة) الصاعدة، المولودة من الضوء، في يوم (صحو).. استيقظت فيه الجموع المهمشة، المضللة، لتتلمس طريقها. هذه كانت إستراتيجية الرومان الجديدة، التي أوحى بها اليهود: بذرة فناء الشيء، تخرج منه.ليس غير يهوذا الاسخريوطي،من سيصيب ميراث المسيح في مقتل.
يهوذا الذي التحق بالمسيح، باحثاً عن مكان في (حركة صحو) وليدة، ثم خانه.. باحثا عن شهوة ومكانة.. التقطه الرومان، ودفعه اليهود، ليؤدي الدور المطلوب. رفع اليهود (يهوذا الاسخريوطي)، وقدّم له الرومان المنابر.. وقدموه في المحافل.
يهوذا.. كان قبل (المسيح) صفراً، فالتحق بالمسيح.. فصار (شيئا)، ثم خانه.. فانتهى أجيراً للرومان، ومطية لأغراض اليهود.
فاصلة:
"تاريخياً.. عُرف النفاق بين عرب المدينة، ولم يظهر في عرب مكة.. لوجود اليهود في المدينة. منذ ذلك التاريخ، ارتبط اليهود بالنفاق والمنافقين، وصار هناك حلف، غير معلن، بينهم. ظلّ المنافقين.. على مدار التاريخ، مطية لليهود، لتحقيق أهدافهم.. في صراعهم ضد الإسلام".
طاف يهوذا بمدرجات الرومان، وارتقى عتبات كُنُس اليهود، وأعلن.. والحاخامات فوق رأسه، وجنود الرومان عن يمينه وشماله:
"أنّ المسيح خائن".
أقسم يهوذا أن المسيح (خائن).. فتناظر الناس. يهوذا يقف بين (الحاكم) الروماني.. وحاخام يهودي، ليعلن أن المسيح خائن.
إنه يهوذا، الذي وقف يوما بجوار (المسيح)، بين تلاميذه.. يحلف أن (الرومان) كفار وثنيون، ويدحض زعم اليهود.. (نفاقاً)، أن الإله، أودع فيهم سره ، ومنحهم حقاً مقدسا في الملك.
أقسم يهوذا، وهو يوزع نظراته بين الحاكم الروماني والحاخام، أن المسيح يكذب، في حديثه عن التسامح والمحبة. انتشى.. وهو يرى مكانه بين الحاكم والحاخام.. فهزّ قبضته في الهواء، وصاح بملء فيه:
- لقد كان المسيح إقصائيا، يبشر بثقافة إرهاب وكراهية، تنفي الآخر، وتحرّض على قتله. لا تصدقوه.. حين قال: " إذا صفعك شخص على خدك الأيسر، فأدر له خدك الأيمن". هذا حق أريد به باطل. إنه فقط.. يريد أن يلتفت صوب أتباعه المتربصين، الذين ينتظرون إشارته، لينقضوا على مخالفيهم. هذا هو معنى " أدر خدك الأيمن" عندهم..!
تناظر الناس: إنه يهوذا.. الذي جادل (المسيح) يوماً، رافضا منهج الرفق والسكينة، ولغة اللين والمحبة.. وداعياً للعنف :
- يا كَلِمَة الله.. الرومان أسكرتهم شهوة الملك والسلطة، و(اليهود) عينهم الخائنة.. طابور خامس. اشنق آخر حاكم روماني، بأمعاء آخر حاخام يهودي.
يظل يهوذا الاسخريوطي، إلى هزيع الليل الأخير، يتنقّل على مدرجات المسرح الروماني.. صوته يدوي، مخوّناً المسيح، ومحذّراً من المضامين الإرهابية، والطبيعة الإقصائية لتعاليمه.(/1)
الناس يأخذهم الإعياء، كل مأخذ. تشرئب أعناقهم، ويتناظرون.. لحظة ترتفع نبرة صوت يهوذا، متحدثاً عن (خيانة) المسيح، و(كاشفاً) الطبيعة المبطنة للعنف في تعاليمه..!
يتذكر الناس، أن يهوذا كان يوماً تلميذاً للمسيح.. (فخانه) ، ويتذكرون أنه جادله في منهجه، وخرج عليه.. داعياً (للعنف).
في أعلى المدرج، حيث يخطب يهوذا (تحتهم)، يميل الحاخام على الحاكم الروماني.. ويهمس:
- ليس غير يهوذا الاسخريوطي، من سيصيب ميراث المسيح في مقتل.
فاصلة:
" نجح العلم في القيام بأول عملية (استنساخ) لكائن حيّ. حيث قام عالم بريطاني، في أحد مراكز البحث، باستنساخ النعجة (دوللي)، من إحدى خلاياها" .
يهوذا الاسخريوطي مات، وانتهى حكم الرومان.. وألفا عام ونيّف مرّت. الأوصياء على ميراث يهوذا الاسخريوطي أرادوا استعادته .. بقناع جديد ، و بعثه بقوم قد (تلبرلوا) . وجدوا في استنساخ (دوللي) ضالتهم.
إذا كان الرومان هلكوا، وناب عنهم غيرهم.. لهم طبع الرومان وأخلاقهم.. ودكتاتوريتهم، فإن يهوذا الاسخريوطي، لا يمكن أن ينوب عنه غيره.. فما السبيل..؟ هل يجدون لدى صاحب (دوللي) العلاج ؟
يهوذا الاسخريوطي اندرس، وأكلته الأرض.. لكن أخلاق اليهود لم تندرس، وهل كان يهوذا، إلاّ زبدة أخلاق اليهود..؟
صنع صاحب النعجة دوللي، خليطاً من أخلاق اليهود، ومزجه بحديث يهوذا عن خيانة المسيح، وأضاف إلى ذلك، قصة السامري وعجله، فاستنسخ من تلك العجينة (يهوذاً اسخريوطياً)..فتناسل منه خَلفٌ مثل الدود .. انتشروا. نكصوا.. وارتدوا على (الصحوة) ينهشونها، ليس لهم منها، إلا ما ناله السامري من (الوحي) : "قبضة من أثر الرسول..".
و بقي لهم.. (عجلٌ) أمريكيٌّ له خوار.. فضائيات وصحف، ظلوا عليها عاكفين.(/2)
يوسف القرضاوي يتلاعب بعقيدة المسلمين
[الكاتب: محمد بن محمد الفزازي]
بسم الله الرحمن الرحيم
سألت سائلة: هل النصارى كفار؟
فأجاب الدكتور القرضاوي على هذا السؤال في حلقة يوم الأحد؛ 22/جمادى/الأولى 1419، موافق: 13/9/1998 من برنامج "الشريعة والحياة" التي تبثه قناة الجزيرة، بما يمكن أن نجد له وجهاً من الحق وإن كان في كلامه ما يتعب المسلم الموحد.
إلا أنه بعد ذلك تدخل مقدم البرنامج أحمد منصور بشبهة أفسدت على الشيخ كل شيء: (يعني هنا... هم كفار بديننا وليسوا كفاراً بالله... هذه القضية ينبغي أن توضح لأن هناك فهماً لدى كثير من الناس... بأنهم كفار بالله).
وهنا استأنف الشيخ القرضاوي كلامه متأثراً بتوجيه أحمد منصور قائلاً: (ليسوا كفاراً بالله... ويؤمنون بالله، ويؤمنون باليوم الآخر، ويؤمنون بعبادة الله سبحانه وتعالى، ويؤمنون بالقيم الأخلاقية، ولذلك نحن دعونا إلى الحوار الإسلامي المسيحي لأن هناك أرضية مشتركة بيننا وبينهم، {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [...]، وقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]) - وقد أسقط من الآية قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، ومكانه بين القوسين، ولعله مجرد سهو -
ثم أردف قائلاً: (فنحن نؤمن بالله، ونؤمن بالفضائل، ونؤمن بالعبادات، ونؤمن بالآخرة. هذه قواسم مشتركة بيننا وبينهم. إنما ليسوا مسلمين يقيناً، هم يعتبروننا كفاراً، ونحن نعتبرهم كفاراً، هذا أمر طبيعي... نحن كفار بدينهم، لا نؤمن بالمسيحية الموجودة، وهم كفار بديننا لا يؤمنون برسالة محمد وأن القرآن كلام الله، هذا أمر طبيعي يجب أن [...]، ومع هذا... الإسلام يدعو إلى التسامح مع هؤلاء الناس، وأباح مؤاكلتهم ومصاهرتهم والتزوج منهم... رابطة اجتماعية نسباً وصهراً [...] المصاهرة إحدى الروابط الأساسية، هذا هو الذي...).
أضف إلى ذلك أنه خاطب نصرانياً من لبنان، بعد أن علم بنصرانيته، خاطبه: (يا أخي... يا أخي...)، في لين بليغ وعبارات ودودة.
وقبل تحليل كلام القرضاوي وفسخه، وبيان ما فيه من التدليس والتلبيس على المسلمين، أحب أن أنبه أن الشيخ القرضاوي مجرح في فتاواه عند أهل العلم، ونظرة شرعية خاطفة على كتاباته وفتواه تكفي لمعرفة مدى التسيب والتلاعب بالدين عند الرجل. حيث إنه يتتبع رخص الأولين والآخرين، ويمطّ دائرة الضرورة من غير ضرورة شرعية حتى أحل بذلك كثيراً مما حرم الله... جرياً خلف ما يسميه التيسير على المسلمين، والتبشير بالإسلام، فنسج على منوال التمييع أثواباً قذرة تعكس طعوناً بليغة في ثوابت الدين المحكمة.
ونحن مع التيسير والتبشير، ولسنا مع التعسير والتنفير، لكن دون أن يكون هذا ذريعة للاجتهاد في ما لا يجوز فيه الاجتهاد، كما يفعل القرضاوي وهو الذي أولَ كثيراً من النصوص بالهوى، مداهنة لمن طغى وغوى، فصار علماً في التأويل الفاسد... وهاهو اليوم يشكك المسلمين في دينهم، ويشوه عقيدتهم عبر الفضائيات، حتى أصبح محط المدح المفرط من طرف النصارى والفساق والمتسيبين، فضلاً عن الطوائف والفرق الدينية المبتدعة التي اتخذته مُنَظِّراً وإماماً وهادياً إلى صراط معوج... فما عاد ينفع حوار، والقرضاوي عندهم أعلم من يهدي، وأهدى من يعلم.
الرد على القرضاوي، لا ينتهي، فمنكراته ومثالبه لا أول لها ولا آخر، ولقد رددت بعضاً من جهالاته الفظيعة حول مفهومه "للديموقراطية" في كتابي "الشورى المفترى عليها والديموقراطية"، ورد عليه آخرون وآخرون، في هذا وفي غير هذا.
والرجل ليس في حاجة إلى نصح أو موعظة، إنما هو في حاجة إلى استتابة، والمطلوب أن يصدر فيه العلماء الأحرار تحذيرهم ونذيرهم حتى لا يستفحل الأمر أكثر، ولا سيما وقد بدأت ترخيصاته وتيسيراته المزعومة تتحول إلى دين وسلوك للمسلمين... فوجب البيان.
* * *
ورداً عليه حول ما سبق ذكره، أبدأ في هذه العجالة بمخاطبته للنصراني اللبناني في تودد مكشوف: (يا أخي... ! يا أخي...):
فأقول: لإن كانت هذه الأخوة المعلنة دينية، فهي ردة واضحة ولا أبا بكر لها، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] بالحصر، ويقول: {فإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، واليهود والنصارى وغيرهم من الكفار ليسوا إخوة للمسلمين، ولم يصبحوا وإيانا بنعمة الله إخواناً.(/1)
أما إن كانت هذه الأخوة في جانبها الإنساني، باعتبارنا جميعاً أبناء آدم وحواء عليهما السلام؛ على نحو ما ورد في قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف: 65]، وفي قوله سبحانه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73]، وقوله عز ثناؤه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [هود: 84]، وما أشبه ذلك، فبعيد بكل تأكيد، ومعلوم أن هذه الأخوة المشار إليها في الآيات بين أولئك الأنبياء وأقوامهم الكفرة أخوة على نحو ما ذكر المفسرون.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في آية الأعراف (65) : (أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، قال ابن عباس أي ابن أبيهم، وقيل: أخاهم في القبيلة، وقيل: أي بشراً من بني أبيهم آدم، وفي مصنف أبي داود أن أخاهم هودا أي صاحبهم...) [الجامع لأحكام القرآن للقرطبي].
وبالتأكيد ليس في هذا للقرضاوي معض ولا مستمسك، فليس ذلك النصراني اللبناني ابن أبيه أو ابن أبي المصريين جميعهم، وليس أخاً لهم في القبيلة، وليس صاحبهم، إلا أن يكون بشراً من بني آدم، فنعود إلى الأخوة الإنسانية، وهو ما لا يشي به سياق الحوار في البرنامج؛ ذلك الحوار المطبوع بالذلة وخفض الجناح للنصارى، في حين كانت عباراته في حقي، أنا المسلم، تنبعث منها رائحة الكراهية والسخط، كأني أفوت عليهم فرصة للتقارب أكيدة يقوم على أساسها جلاء الجيوش النصرانية من بلاد الإسلام شرقاً وغرباً.
ونقطة أخرى قبل التحول إلى غيرها؛ وهي أن الآيات السالفة الذكر فيها الإخبار من الله تعالى على تلك الأخوة وفق ما فسر أهل التفسير، وليس فيها أن نبياً من الأنبياء عليهم السلام قال لكافر من الكفار: "يا أخي، يا أخي..."، أو "يا إخواني..."، بل يقول: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [هود: 65]، ومثيلاتها، فبطل القياس لهذا الفارق.
زد على هذا أن القرضاوي وأمثاله لا يقولون للشيوعيين والبوذيين والهندوس... مثلاً؛ يا إخوان، مع أن الإنسانية جامعة، فهل هي إلا أخوة المحبة مع النصارى؟
من هنا كانت إثارة هذه الأخوة مع النصراني اللبناني، الحربي بمفهوم الشرع، تلبيساً خسيساً لا يشي إلا بالأخوة المحرمة، والتي هي ثمرة العقيدة اللجلجة في جانب الولاء والبراء. قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
وأقرب الأمرين في مخاطبة النصراني: "يا أخي... يا أخي..." أنه إلقاء المودة المحرمة إليه ضداً على الإسلام الذي ينهى المؤمنين عن ذلك. فيقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ} إلى قوله تعالى: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].
والقرضاوي يعلن هذه المودة ولا يسر بها، والمفروض شرعاً - أقول المفروض وليس المستحب - أن تبدو العداوة والبغضاء بين المسلمين والكافرين، ولنا في ذلك الأسوة الحسنة في أب الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4]، فليتفضل القرضاوي وليظهر لنا علمه في هذا، وليقل لنا فيما؛ إذا كان النصارى يؤمنون بالله وحده، أم يؤمنون بأن الله ثالث ثلاثة، وأنه سبحانه هو المسيح ابن مريم؟ تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
* * *
النصارى كفار بالله واليوم الآخر:
إن ما نؤاخذه على القرضاوي في ما نقلناه عنه بأمانة، هو الإطلاقات التي أطلقها في النصارى من حيث وصفهم بأنهم مؤمنون و... إلى آخره، وهذه الإطلاقات من شأنها أن تُفهَم فهماً يكتنفه كثير من الخلط، وكثير من التيه والضياع، وبالتالي تتسبب في التشويش على المؤمنين حيال هؤلاء النصارى واليهود المشركين بالله، لا سيما وأن هناك كتماناً من طرف الشيخ من حيث ضرورة التفصيل في أنواع الكفار محاربين ومعاهدين وذميين ومستأمنين... وكيف هي الأحكام الشرعية مختلفة باختلاف هذه الأنواع من الكافرين.(/2)
فالتسامح الإسلامي الذي يدندن حوله القرضاوي ليس على إطلاقه، ولكنه مقيد ومحدود في حق أهل الذمة والعهود، بالشروط العمرية، وليس لأهل الحرب فيه نصيب، كما أن دعوته إلى ما أسماه "الحوار الإسلامي" بناء على الأرضية المشتركة المزعومة ليست دعوة سليمة ولا مستقيمة، وخاصة وهي محكومة من طرف حكومات لا علاقة لها بالإسلام البتة - حكومة إيطاليا مثلاُ - وتضم عناصر من الفقهاء هم أقرب للقوانين الوضعية الوضيعة منهم للشريعة الإسلامية.
لذا أحببت هنا تفنيد هذه الدعاوى التي أسماها القرضاوي "قواسم مشتركة بيننا وبين النصارى"، وأنها مجرد حيلة ابتدعها الكفار أنفسهم للحيلولة دون انتشار الوعي الإسلامي بضرورة إحياء فريضة الجهاد في سبيل الله، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ذلك لأن الجهاد وحده هو الذي يحرر بلاد المسلمين من قبضة الكافرين... حيلة سيق إليها المخدوعون، واعتمدها المنافقون.
1) قال الله عز ثناؤه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]، وهذه الآية قرأها القرضاوي خلال جوابه، إلا أنه استشهد بها على كون النصارى كفاراً بديننا وليسوا كفاراً بالله، وهذا تحريف للقرآن وتخريف في معانيه.
فقولهم عن الله تعالى: {هُوَ الْمَسِيحُ}؛ يفيد أنهم كفار بالله، ولا سيما باستعمال ضمير الفصل الذي يفيد الحصر، حيث وجب أن يكون الله تعالى عندهم هو المسيح ابن مريم لا غيره، وبالتالي فقوله سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ...}؛ هو الكفر بالله لا بأي شيء آخر، وقوم بلغ بهم الكفر هذا المبلغ لا نتأدب معهم على نحو ما يهذي به القرضاوي والمهزومون من ضرورة الأدب والأخلاق وما إلى ذلك.
وانظر إلى أدب الأئمة الجهابذة أمثال الحافظ ابن كثير رحمه الله الذي قال في أثناء تفسير هذه الآية نفسها: (وهذا ردّ على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة) [تفسير القرآن العظيم: ج: 2/ص: 34].
وذكر الإمام ابن كثير في تفسيره للآية (116) من سورة البقرة: {وقالوا اتخذ الله ولدا، سبحانه} حديثاً قدسياً أخرجه البخاري رحمه الله بسنده قال: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولدا فسبحاني أن اتخذ صاحبة أو ولدا).
أرأيت يا شيخ يوسف أدب العلماء مع من يسبون الله تعالى؟ وفي المقابل، أرأيت كيف تتأدب أنت مع من يشتم ربك ورب الناس أجمعين؟ والآن ما حكم من يشتم الله عز وجل؟ هل هو مؤمن بالله أم كافر به؟
أترك الجواب للمفتي الكبير القرضاوي.
2) وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73].
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: (قالوا كفراً بربهم وشركاً: "الله ثالث ثلاثة" وهذا قول كان عليه جمهور النصارى...) [جامع البيان للطبري].
أرأيت مرة أخرى يا شيخ... "قالوا كفراً بربهم وشركاً"، فالكفر بالرب تعالى والشرك بالرب تعالى، ومعنى "ثالث ثلاثة": (الله سبحانه، وعيسى، ومريم) [فتح القدير للشوكاني]، فهل الإيمان بالتثليث والقول بأن الله متعدد إيمان بالله تعالى؟
قلت: وهذه الآية ذكرها القرضاوي في معرض جوابه عن السؤال: هل النصارى كفار؟ لكن ذكرها مع تأكيده أنهم ليسوا كفاراً بالله في حين هي نص في كونهم كفاراً به جل وعلا، ثم جاء بالقول ونقيضه حيث اعترف أنهم كفار بديننا، وأننا كفار بدينهم، وفاته أنه ذكر بالحرف: (إن النصارى لهم عقائد معينة، القرآن اعتبرها كفراً بالتوحيد) [نفس الحلقة]، فهل الكفر بالتوحيد إيمان بالله؟
3) يقول القرضاوي بالحرف: (وهم - أي النصارى - كفار بديننا، لا يؤمنون برسالة محمد وأن القرآن كلام الله).
فالنصارى إذن لا يؤمنون برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويسمون النبي الكريم؛ الكذاب، وفي هذا لا يغضب القرضاوي وأتباعه لوجه الله، وغيرة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى القرآن الكريم، بل يقولون عن هؤلاء الملاعين "إخواننا".
وأنصح مقدم البرنامج "أحمد منصور" أن يتقي الله في هذا، وقد ذكرهم بهذه الأخوة غير مرة.
قلت: وإنكار ما أنزل الله تعالى على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إنكار لكل الرسالات، وطعن في ذات الله جل جلاله، وهم بهذا ما قدروا الله حق قدره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
قال ابن أبي العز في كتابه "شرح العقيدة الطحاوية" : (بل إنكار رسالته صلى الله عليه وآله وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إلى الظلم والسفه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل جحد للرب بالكلية وإنكار) [ص: 153]، ثم بين ذلك بالأدلة والبراهين، رحمه الله.(/3)
ومن المعلوم أن القرضاوي لبّس على المسلمين في كون النصارى أهل كتاب، وقال: (ونناديهم بأهل الكتاب)، كأنه يستثقل نعتهم بالكفر، وبأن الإسلام: (يدعو إلى التسامح مع هؤلاء الناس، وأباح مؤاكلتهم ومصاهرتهم والتزوج منهم...)، على حد قوله.
ومن المعلوم لدى صغار طلبة العلم أن كون اليهود والنصارى أهل كتاب، لا يعني بحال من الأحوال الشرعية أنهم مؤمنون بالله، بل قد صرح القرآن بأن من أهل الكتاب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر مع كونهم من أهل الكتاب؛ وذلك في قوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وهذا صريح جداً، خاصة إذا علمنا أن الآية نزلت في محاربة الروم، فغزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزولها غزوة تبوك [تفسير الطبري للآية].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: (فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد الرسل ولا بما جاءوا به وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع الله ودينه، لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحاً لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه. فلما جاء كفروا به وهو أشرف الرسل عُلم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من الله. بل لحظوظهم وأهوائهم فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم، ولهذا قال : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}).
قلتُ: ولئن ادعى أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، فليس هو الإيمان المعتبر شرعاً، هم مؤمنون بزعمهم، لكنهم كافرون في شرعنا، والعبرة بما عندنا لا بما يأفكون.
وطبعاً القرضاوي لا يحب الكلام في الجزية وأحكامها ولا في مشروعيتها إبقاءً على مودته للنصارى، وخصوصاً أقباط مصر الذين تربطه بهم مودة المواطنة، وعذوبة النيل.
وقد يقول المفتونون به: ليس الوقت وقته!
ونقول: بل وقته، والإسلام كله صالح للزمان كله والمكان كله إلى قيام الساعة، وإلا، هل الوقت وقت المرأة القاضية في الإسلام؟ فأين الإسلام؟ ولماذا الدندنة حول الملكة بلقيس يوم أن كانت كافرة، وقبل أن تسلم وجهها لله مع سليمان عليه السلام؟ بل لماذا ولاية المرأة بما كان في شريعة من قبلنا المنسوخة بشريعتنا؟
وفي كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى [جاء في الصفحة 215 منه] قوله: (وإذا كانت المشابهة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض هذه القبائح كانت محرمة، فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله؟ من التبرك بالصليب - قلت: فالتبرك بالصليب إيمان بهذا الصليب، وهو تكذيب مباشر لرب العالمين،فهل هو إلا الكفر بالله كما قال شيخ الإسلام؟ -... والتعميد في المعمودية، أو قول القائل "المعبود واحد، وإن كانت الطرق مختلفة" ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن: إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدّلتين المنسوختين موصلة إلى الله، وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله، والتدين بذلك أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك؟).
أجل، بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك، فما هي تلك الوسطية وذاك الاعتدال الذي يرفع القرضاوي رايته،وقد خالف الأمة الوسط بلا خلاف؟
وبخصوص المناكحة والمصاهرة والمؤاكلة، فهذه من الأمور التي ينبغي إمعان النظر فيها اليوم، ذلك لأن النصارى واليهود في هذا الزمان حربيون وليس منهم ذمي واحد، وأن أغلبيتهم اليوم لا علاقة لهم لا بالتوراة ولا بالإنجيل، على ما فيهما من تحريف، وكل ما لدى النصارى اليوم مثلاً هو إنجيل متّى وإنجيل ماركوس وإنجيل يوحنى وإنجيل لوقا، وليس عندهم إنجيل عيسى عليه السلام، ولو كان عندهم إنجيل عيسى عليه السلام وهم مؤمنون به لآمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ونستحضر هنا أن من الصحابة رضي الله عنهم من كان لا يرى الزواج والمصاهرة... إلا من حرائر وعفائف الذميين، وليس من الحربيين، هذه واحدة.
ومنهم من كان يرى أن امرأة تقول "عيسى ابن الله" هي مشركة لا تحل.(/4)
قال ابن كثير في التفسير: (وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر... الآية}، وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول؛ لا أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن... الآية}).
صحيح خالفه الصحابة رضي الله عنهم، للاعتبارات التي ذكرها ابن كثير رحمه الله، وهو ما نعيبه على القرضاوي الذي يفتي في أمور كثيرة وخطيرة دون أن يشير إلى ما هنالك من أقوال للسلف، ودون ما وضعه أولئك السلف من قيود وشروط... لذا جاءت فتاوى القرضاوي في كثير من القضايا متسيبة سقيمة.
أما أهل الكتاب الحقيقيون؛ فهم أهل الكتاب الحقيقي، الكتاب الذي أنزله الله تعالى من توراة وإنجيل، قبل التحريف.
أما بعد التحريف؛ فلم يعد أحدهما الكتاب الذي أنزله الله، ولا أتباع المحرف منهما أهل الكتاب الذين يؤمنون بالله، إلا وفق ما تعارف عليه الكفار وزعموه لأنفسهم من أنهم أهل دين وإيمان، والعبرة بما في ديننا لا بما في أفواههم، كما علمت.
* * *
ومما ينبغي أن يعلمه المسلمون؛ أن التسامح المطلوب شرعاً مع غيرهم، مقيد وليس مطلقاً، كما قلت آنفاً، والقرضاوي ذكر قول الله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وعامة المسلمين لا يفهمون ما هي هذه التي هي أحسن، ولا ما هي طبيعة تلك المجادلة، وعلى أي أساس وبأية شروط، إلا من كان دارساً، واستغلال جهل المسلمين من طرف أصحاب راية الاعتدال المزيفة، استغلال خبيث خال من تقوى الله تعالى.
فهل ذكر القرضاوي للناس بأن ما استشهد به هنا منسوخ على حد قول التابعي الجليل قتادة وغيره، رضي الله عنهم؟ أو أنها محكمة لكن في حق طلاب الحق من أهل الكتاب؟
وهذا كما قال المفسر الكبير ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية: (قال قتادة وغير واحد: هذه الآية منسوخة بآية السيف، ولم يبق معهم مجادلة، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف، وقال آخرون: بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين، فيجادَل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه، كما قال تعالى {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة... الآية}).
إلى قوله: (قال مجاهد: {إلا الذين ظلموا منهم}؛ يعني أهل الحرب ومن امتنع منهم من أداء الجزية) اهـ.
وهذا هو القيد في التسامح الإسلامي، فهل نتبع سلفنا الصالح، أهل العلم والعمل، أم نتبع الدكتور وصاحبه أحمد منصور؟!
ولا شك أن الفهم الصحيح للقرآن الكريم هو فهم السلف لا فهم الخلف المخالف، والذين يتجاوزون أقوال الأئمة وحفاظ الأمة ويذهبون إلى مزبلة الأفكار البشرية قوم لا يعقلون.
ثم إن القرضاوي كتم على المسلمين الاستثناء القرآني في الآية، فأوردها ناقصة في المبنى والمعنى، وهو عبث بعقيدة المسلمين لا يخدم إلا مراد الكافرين والمنافقين، والمستثنى من الجدال بالتي هي أحسن، وفق ما تم بيانه، هو قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ولئن كان إسقاطها عن سهو، كما رجحنا، فإسقاط معناها كان عن عمد، وهذا هو الخطر على الشيخ، ونقول عن عمد، لأن كل ما بنى عليه من اجتهادات كان على هذا الخرم الفاضح للقرآن الكريم، أم نقول جاهل؟
وهؤلاء الذين ظلموا منهم، هم أهل الحرب ومن امتنع منهم من أداء الجزية؛ كما قال مجاهد رضي الله عنه، وهم اليوم الذين يصولون ويجولون ويسرحون ويمرحون في بلاد المسلمين، بل يقتلون ويغتصبون ويرهبون وينهبون ويحاصرون... كما فعل الأمريكان - ولا يزالون -
ويعصرني الألم وأنا أسمع إدانة القرضاوي لليهود باعتبارهم يفعلون في فلسطين المسلمة ما يفعلون، ويبرئ ساحة النصارى على ما هم عليه من عدوان وإجرام في حق أمتنا، وكأني به يجهل أن النصارى هم وراء زرع الكيان اليهودي في قلب أمتنا، وهم الذين يحمون اليهود وينصرونهم بالرجال والأموال والعتاد والتكنلوجيا والدعاية والإعلام والفيتو... وغير ذلك، ويتجاهل أن النصارى محاربون بكل معاني الكلمة، كما يدل على ذلك الوضع في جنوب السودان وفي احتلال المدينتين المسلمتين سبتة ومليلية، بل واحتلال بلاد الجزيرة العربية الآن احتلالاً مسلحاً، وإن كان مقنّعاً.
بل إن النصارى في مصر والأردن وسوريا ولبنان وغيرها محاربون بكل المعاني الشرعية، وأنهم حقيقة هم وأمثالهم الذين استثناهم الله تعالى بقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، فهؤلاء ليسوا معنيين بالجدال بالتي هي أحسن، ولو على فهم المهزومين.
* * *
ونأتي الآن إلى الأمور المشتركة المزعومة بيننا وبين أهل الكتاب:
فقد ذكر القرضاوي أن هناك أموراً مشتركة بيننا وبين النصارى، ينبغي أن تشكل قاعدة التسامح والتعايش؛ وهي الإيمان بالله واليوم الآخر... إلخ.(/5)
وقد سبق أن بينا بالنصوص القاطعة أن النصارى واليهود لا يؤمنون بالله تعالى، وأن كل من لا يؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو بالإسلام، أو بشيء منه؛ فهو لا يؤمن بالله تعالى.
والقول؛ بأنهم مؤمنون بالله ولكنهم كفار بديننا - كما قال القرضاوي - قول سقيم لا يمت إلى العلم بأدنى صلة، ذلك لأن الله الذي يؤمن به اليهود له ابن اسمه عزير، والله الذي يؤمن به النصارى له ابن اسمه المسيح، والله الذي نؤمن به - نحن المسلمين - لم يلد ولم يولد، فهل الله هو هو في عقيدة هؤلاء وهؤلاء؟ اللهم ألف لا.
فإن قالوا: إنهم يؤمنون بالله!
فليس الله الذي يؤمنون به هو الله الذي نعلم نحن أسماءه وصفاته وأفعاله التي هي في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن إبراهيم عليه السلام الذي نجتمع فيه - نحن الثلاثة - مسلمين ويهوداً ونصارى، والذي هو أيضاً من القواسم المشتركة بيننا وبينهم كما يقول الجاهلون، كان مسلماً ولم يكن مشركاً: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، وفي قوله تعالى: {وما كان من المشركين} إشارة إلى أن اليهود والنصارى مشركون. كيف لا وهم الذين {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]، أجل: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وكذلك الأمر في قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135].
* * *
وأختم بما بدأ القرضاوي به، قال: (كلمة كفار، يعني إيه؟ ملحدون؟ ليسوا ملحدين)، قالها بنبرة غاضبة.
وأقول: بل هم ملحدون بلغة الشرع، وأعلم أنه يقصد ما تعارف الناس عليه اليوم من أن الملحدين هم الدهريون والشيوعيون وأمثالهم الذين ينكرون اليوم الآخر، إلا أن تغليب لغة الشرع في فتاوانا ينبغي أن يكون سائداً، لأنه هو الصواب، ونفي الإلحاد عن أهل الكتاب بهذا الإطلاق لا ينم إلا عن الهشاشة العلمية، أو الكتمان لشهادة الحق عياذاً بالله، فما هو الإلحاد؟
(الإلحاد: الميل وترك القصد; يقال: ألحد الرجل في الدين، وألحد إذا مال، ومنه اللحد في القبر؛ لأنه في ناحيته) [تفسير القرطبي].
(وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الإلحاد التكذيب، وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد والميل والجور والانحراف... ) [تفسير القرآن العظيم].
قلتُ: واليهود والنصارى مالوا ميلاً عظيماً، وتركوا القصد المطلوب، وكذبوا بدين الله تعالى جملة وتفصيلاً، وطعنوا في أسماء الله جل وعلا طعناً بليغاً، وجاروا وانحرفوا وانجرفوا، {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
* * *
فيا شيخ يوسف القرضاوي، اتق الله تعالى، فقد بلغت من الكبر عتياً، ولم يعد أمامك عمر مديد، وانظر كيف تلقى ربك.
وعد إلى ذلك الماضي المشرق في حياتك يوم كنت طليقاً في سجن أعدائك، وقبل أن تصبح أسيراً في عالم ساداتك وكبرائك اليوم، حيث كنت يومها تنشدنا من وراء القضبان:
النور في قلبي، وقلبي بين يدي ربي، وربي ناصري ومعيني...
سأظل معتصماً بحبل عقيدتي، وأموت مبتسماً ليحيى ديني...
فلا تمت عبوساً ليحيى دين شنودة.
وإياك أن تأخذك العزة بالإثم.
اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
وكتبه؛ محمد بن محمد الفزازي
طنجة، 24 جمادى الأولى 1419هـ(/6)
يوم الأهوال... فاللهم سلم ...سلم
أخيتي الغالية، بعد أن عشنا سويا مع القبر وسكرته ، والقبر وظلمته، نعيش اليوم مع يوم لا مفر منه... يوم لا ينفع فيه إلا العمل الصالح ... ولا يفوز فيه إلى من أتى الله بقلب سليم... يوم يتخلى عنكِ فيه الجميع حتى والداك رغم حبهما الجم لكِ، وزوجك وأولادك، فالجميع يعلو منهم كلمة واحدة: [ نفسي ... نفسي ].
يوم القيامة يا له من يوم:
إنه اليوم الذي يقبض فيه الحقُّ جل وعلا الأرض بيده، ويطوي السماوات بيمينه، كما قال تبارك وتعالى:
[[ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ]] [الأنبياء:104].
إنه اليوم الذي تتفجر فيه البحار، وتشتعل نارًا، [[وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ]] [الانفطار:3]
إنه اليوم الذي تُنسَف فيه الجبال الراسيات، لتصبح كثيبًا مهيلًا ككُثبان الرمل، بعد أن كانت حجارةً صماء:
[[يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً]] [المزمل:14]
[[وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً [105] فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً [106] لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً [107] ]] [طه:105-107].
إنه اليوم الذي تصبح فيه هذه السماء الجميلة المزينة بالكواكب واهية ضعيفة: [[وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ]] [الحاقة:16].
و الشمس التي جعلها الله سببًا من أسباب الحياة؛ فإنها تُجمع وتُكوَّر ويذهب ضوؤها [ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ]] [التكوير:1].
والقمر الذي نراه في أبهى وأجمل صورة ؛ فإنه يخسف ويذهب ضوؤه، قال تعالى: [[فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ [7] وَخَسَفَ الْقَمَرُ ]] [القيامة:7-8]
وهذه النجوم، وتلك الكواكب التي تُزين السماء؛ فإنها تنكدر وتتناثر: [[وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ] [التكوير:2].
وها هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يشيب رأسه من سماع هذه الأهوال، فتجد الصديق رضي الله عنه يقول له: أراك قد شِبت يا رسول الله قال: [[ شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت ]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
فيا أيتها الأخت الغالية، ما غرك بربك الكريم، حيث أغلقت الأبواب وأرخيت الستور، واستترتِ عن الخلائق، وقد رآك على معاصيك الخالق، فماذا تفعلين وقد شهدت عليك جوارحكِ وأعضاؤكِ؟ فما أعظم غفلة الغافلين.
قال تعالى: [[اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ [1]مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [2] لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ]] [الأنبياء:1-3]
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
عرق يفضح المفرطين:
قال صلى الله عليه وسلم: [[ تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل ]]، قال سليم بن عامر: والله ما أدرى ما يعنى بالميل: مسافة الأرض؟ أو الميل التي تكحل به العين؟!
قال صلى الله عليه وسلم: [[ فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى رُكبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يُلجِمُه العرق إلجامًا ]] وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فِيه. صححه الألباني في صحيح الترهيب والترغيب.
فكل إنسان يعرق على قدر معاصيه، فكلما حسن عمله؛ كان عرقه أقل، وكلما زادت قبائحه؛ فإن كثرة عرقه تفضحه عياذًا بالله.
سحقًا لمن بدل بعدي :
ويُكرم الله النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف العظيم بكرامة خاصة؛ فيعطيه حوضًا واسع الأرجاء، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، يأتي هذا الماء الطيب من نهر الكوثر، الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في الجنة، تَرِدُ عليه أمَّته؛ فيسقيهم صلى الله عليه وسلم منه بيده الشريفة شربةً، من شَرِبها لا يظمأ بعدها أبدًا.
ولكن كيف يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّته في يوم الحشر، الذي تجتمع فيه كل الخلائق، منذ أن خلق الله الخلق إلى يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: [[ نعم، لكم سيما ليست لأحدٍ من الأمم، تَرِدُون عليَّ غُرَّاً محجَّلين، من أثر الوضوء ]]. رواه مسلم.
فمن استقام في حياته على أداء الصلاة؛ فإنه يأتي يوم القيامة بعلامةٍ بيضاء تكون في شعره، ويديه، ورجليه، من آثار الوضوء، استعدادًا للوقوف بين يدي الله جل وعلا.
ولكن بعض المصلين الذين يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه العلامة تمنعُهم الملائكة من الحوض، فيا ترى ما السر؟(/1)
قال صلى الله عليه وسلم: [[ إني فرطكم على الحوض، من مرَّ بي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، وليردنَّ عليَّ أقوام، أعرفهم ويعرفوني، ثم يُحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي ]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
فهؤلاء الذين تخلُّوا عن أمانة الدين، واكتفوا ببعض رُكَيعات يُؤدُّونها في جفاء قلب، أما حياتهم كلُّها، فبعيدة بُعد المشرقين عن شرع الله، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ثَمَّ؛ استحقُّوا أن يعيشوا هذا الموقف المُخزي، يوم أن تطرُدهم الملائكة عن الحوض.
جهنم تزفر:
ثم تكتمل أهوال ذلك اليوم، بإتيان جهنم في أرض المحشر، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: [[ يؤتى بجهنَّم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمامٍ سبعون ألف ملك يجرونها ]]. رواه مسلم.
فإذا أقبلت جهنَّم، وأحاطت بالخلائق، ورأت الخلق؛ زَفَرَت وزمجرت؛ غضبًا منها لغضب الله جل وعلا، عند ذلك؛ تجثوا جميع الأمم على الرُّكب من الخوف والذلة: [[وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ]] [الجاثية:28].
وليس ذلك فقط، بل يحدث ما تشيب منه الرؤوس، وتنخلع له القلوب!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[ يخرج عُنقٌ من النَّار، له عينان يُبصران، وأذنان يسمعان، ولسانٌ ينطق، يقول: إني وُكِّلت بثلاثة: بكلِّ جبَّار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصوِّرين ]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
اللهم سلم سلم:
في هذا اليوم الذي ترتعد منه الفرائص، وتشيب له الرؤوس، ويهتزُّ الوجدان، حتى إن الأنبياء وهم صفوة الله من البشر يقولون: اللهم سلِّم سلِّم!! هذه دعوتهم يومها، لا ينطقون بغيرها، ترى ما السر في ذلك؟!
إن هول القيامة-أخيتي الحبيبة- شديد، لا يكاد يتحمَّله بشر، فيومها تذهَلُ كلُّ مُرضعةٍ عن رضيعها، وتضع كلُّ ذات حملٍ حملها، وينتاب الناس الهلع والرعب؛ حتى ليخيل إليك أنهم سُكارى، وما هم بسُكارى؛ ولكنَّ عذاب الله شديد.
يومئذٍ يفرُّ المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، يومها ترمي الأم الحنون بطفلها في غير وعي، والكلُّ يقول: نفسي نفسي؛ حتى الأنبياء!!!
قال تعالى [ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [34] وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [35] وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [ 36] لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ]] [عبس : 34 – 37 ].
وفي ذلك اليوم العصيب، الذي يقف فيه الناس على أقدامهم، خمسين ألف سنة بموازين الآخرة؛ يبلغ الكرب والضيق بالناس إلى الدرجة التي يتمنَّون معها أن ينفضَّ الموقف، وينصرفوا منه ولو إلى النَّار.
الحبيب لم ينسانا، فهل تذكرناه؟
وهنا يبحث الناس عمَّن يستغيثون به، ليشفع لهم عند ربهم، حتى يأذن جل وعلا ببدء الحساب، والفصل بين العباد، فلا يجدون إلا الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فيذهبون إليهم ليطلبوا منهم الشَّفاعة لهم عند الله جل وعلا، فيقول صلى الله عليه وسلم: [[ إذا كان يوم القيامة، ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم، فإنه خليل الرحمن ، فيأتون إبراهيم ، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم الله.
فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى ، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد r، فيأتوني، فأقول: أنا لها.
فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني بمحامد أحمده بها، لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجدًا فيقول: يا محمد ، ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تُعط، واشفع تُشفع, فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق، فانظر فيها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق، فأفعل.
ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أَخِرُّ له ساجدًا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع, فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق، فانظر فيها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأخرجه، فأنطلق، فأفعل.
ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدًا، فيقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع, فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق، فانظر من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل ]]. رواه البخاري.
هكذا لم ينساكِ الحبيب صلى الله عليه وسلم في الآخرة ؛ فهل تذكَّرتيه في الدنيا؟ هل خفق قلبُك بحبِّه صلى الله عليه وسلم؟ هل سِرتِ على سنَّته، واتَّبعته في كل شأن؟ هل حافظتِ على أمانة الدين التي تركها صلى الله عليه وسلم في أعناق أمته؟!
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية:(/2)
وبعد أن يستجيب المولى تعالى لشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ يأذن تبارك وتعالى ببدء الحساب والعرض عليه جل وعلا، ويُفاجأُ كلُّ إنسان بنداءٍ مَهيب من قِبل ملائكةِ الجبَّار جل وعلا: يا فلانة بنت فلان، قوُمي وتهيَّئي للعرض على ديَّان السماوات والأرض، وساعتها ستعرف كل إنسانة أنها المقصودة بهذا النداء، ولو تشابه اسمها مع الملايين من البشر.
قال صلى الله عليه وسلم: [[ ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه؛ فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه؛ فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه؛ فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار، ولو بشق تمرة ]]. رواه البخاري.
وحينها تُنصَب محكمة العدل الإلهية، محكمةٌ عظيمةٌ مهيبة لا كمحاكم الدنيا، محكمةٌ قاضيها الحكم العدل، الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماء.
وشُهودها كثيرون جداً، من ملائكةٍ كرامٍ كاتبين، وأرضٌ تُحدِّث بما ارتُكب عليها من خيرٍ أو شر، وجوارحٌ وأعضاءٌ تُحدِّث بما ارتكبت من الفضائح.
وفي هذه المحكمة، لا نقض، ولا استئناف، بل يظهر الحكم النِّهائي فوراً في نفس المحاكمة من الحَكَم العدل على عبده، بالانضمام إلى أحد أصناف ثلاثة:
فصنف يدخل الجنَّة بغير حساب... هل تعرفيه؟ وصنف ثان يحاسب حسابًا يسيرًا ... هل سمعتِ عنه ؟ ومنه نسأل الله العفو والعافية.. من يحاسب حسابًا عسيرًا؟
، وأترك لكِ الاختيار أيهم تريدين أن تكوني؟ بعد أن تتعرفي معهم علينا في المقالة القادمة إن شاء الله.
المصادر ..
هزة الإيمان. فريد مناع(/3)
يوم الجمعة فضله وآدابه
الحمد لله أسبغ علينا من النعم مالا يحصيه إلا هو، وهو صاحب المن والفضل، ونسأله دوام نعمائه والتوفيق لأداء شكرها، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه.
أما بعد: معشر المسلمين، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى التي لا فوز ولا نجاح ولا فلاح بدونها. واعلموا أن الله تعالى اختار من خلقه ما شاء ففضله على سائر المخلوقات، فضل الإنسان على كثير من خلقه ? وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً?[الإسراء: 70].
وجعل مكة أشرف بقاع الأرض، اختصها ببيته الحرام أفضل بيوت الله، وفضل شهر رمضان على سائر الشهور، وفضل ليلة القدر على سائر الليالي: كما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير يوم طلعت عليه الشمس، يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة"، ولأجل ذلك الفضل فإن الله تعالى خصه بأمور لا توجد في غيره من أيام الأسبوع، فهو اليوم الذي تكرم الله بأن جعله عيداً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ففرض عليهم تعظيمه كما جعل السبت لليهود، والأحد للنصارى، ففي صحيح مسلم، عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة.
نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق"،
وفي يوم الجمعة ساعة الإجابة، لا يسأل الله العبد فيها شيئاً إلا استجاب له، ما لم يسأل حراماً، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: "فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا، إلا أعطاه إياه"، وروى مسلم أيضاً أن هذه الساعة، ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة، كما روي أنها ساعة بعد العصر، وأنها آخر ساعة من يوم الجمعة، وفي إبهامها ترغيب للإكثار من الصلاة عليه، عليه الصلاة والسلام، فمما روي عنه صلى الله عليه وسلم قول: "فأكثروا من الصلاة لي في يوم الجمعة، فإن صلاتكم معروضة علي". وفرض الله في هذا اليوم صلاة الجمعة وتوعد تاركها والمتهاون بها أشد الوعيد، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روى أحمد ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: "لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس: ثم احرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم.
وروى مسلم أيضا عن أبي هريرة وابن عمر: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين"، وروى الخمسة وأحمد "من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه".
وللجمعة سنن وآداب ينبغي المحافظة عليها من ذلك: الاغتسال يوم الجمعة والتطيب ولبس أحسن الثياب والتبكير إلى المسجد والدنو من الإمام والإكثار من الصلاة وإذا خرج الإمام أمسك عن الكلام روى أحمد والبخاري عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت للإمام إذا تكلم إلا غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة الأخرى". وفي رواية "وزيادة ثلاثة أيام"
وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ثم يصلي ما كتب له، ما يدل على أنه لم يكن هناك يوم الجمعة من نوافل الصلاة ما هو معين بعدد أو وقت ولكن من أتى المسجد فله أن يصلي ما يشاء قبل أن يدخل الإمام في الخطبة إلا أن الداخل لا ينبغي له أن يجلس حتى يصلي ركعتين سواء جاء والإمام يخطب أو جاء قبل ذلك، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال: أصليت قال لا؛ قال قم فصل ركعتين".
ويخطئ الذين يقومون والإمام يخطب فيصلون بعد أن كانوا قد صلوا وجلسوا فهذا مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فليس بعد دخول الإمام في الخطبة من ذكر ولا كلام إلا ركعتي التحية للمسجد للداخل.
ويحرم الكلام والإمام يخطب كما يحرم الاشتغال بكل ما يصرف عن الاستماع للإمام والإصغاء لما يقول.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت".(/1)
وفي رواية لأحمد "ومن لغا فلا جمعة له"فإذا كان قولك أنصت لصاحبك وهو أمر بمعروف يحرمك من أجر الجمعة فبالأولى غيره من الكلام بل لقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يتكلم والإمام يخطب بالحمار يحمل أسفاراً، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: " من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً والذي يقول له أنصت:ليس له جمعة "أي كما أن الحمار لا ينال من حمل الكتب إلا التعب والمشقة دون أن يستفيد شيئاً مما فيها فكذلك الذي يحضر الجمعة ثم يتكلم ليس له من جمعته إلا تعبه ومجيئه إلى المسجد دون أن يكسب من وراء ذلك من الأجر شيئاً، واحذروا رحمكم الله من تخطي الرقاب عند دخول المسجد، فقد ورد النهي عن ذلك فيما رواه أبو داؤود والنسائي وأحمد عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " اجلس فقد آذيت".
وقد روى أحمد أيضاً عن أرقم بن أبي الأرقم المخزومي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبة في النار"، أي كالذي يجر أمعاءه في النار لذلك ينبغي على من أتى الجمعة أن يبكر ولا يقعد في صف حتى يعلم أن الصف الذي أمامه لا يوجد فيه مكان ومن ابتلي بالتأخر فلا يجوز له أن يتخطى رقاب الناس إلا أن العلماء أجازوا التخطي لاثنين للإمام إذا لم يكن له باب من جهة القبلة يدخل فيه ولمن وجد فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي والذي يترك الفرجة أمامه ولا يسدها حتى يأتي آخر فيتخطاه إلى تلك الفرجة يكون هو الجاني على نفسه والمهدر حق نفسه من حرمة التخطي.
هذه الحقوق والسنن والآداب التي تتعلق بالجمعة، فاحرصوا عليها تقبل بها صلاتكم ويضاعف لكم الأجر وتكونوا قد أديتم حق الجمعة لما أرشدكم إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ?[الأنفال: 24]. وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله يهدي لنوره من يشاء نحمده جعل عبادته ومرضاته غاية أحبابه وأوليائه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته والسائرين على منهاجه إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول أي ما يجده المؤذن والمصلي في الصف الأول من الأجر- ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا).
وقوله: (لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله) ، أي يتأخرون عن الصلاة في الصفوف الأولى حتى يؤخرهم الله عن رحمته وعظيم ثوابه وفضله ورفيع منزلة أهل قربه. إننا نشاهد كثيراً من المصلين يقعدون عن المسابقة في مواطن الخير فيؤثرون الصلاة في مؤخرة المسجد في حين أن الصفوف الأولى غير تامة ولكي ينال المصلي مجلساً في الصفوف الأولى ويسلم من إيذاء الناس وتخطيهم فعليه بالتبكير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح –أي خرج في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".
ومن أراد أن يصلي نافلة بعد صلاة الجمعة فليصل أربعاً في المسجد أو ركعتين في البيت أو ركعتين في المسجد وركعتين في البيت كل ذلك ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية عبد الله بن عمر وغيره.
وهذا الذي ذكرناه عن الجمعة لم نستقص فيه كل ما جاء في السنة عنها ويتبين بذلك ما لهذا اليوم من عظيم الفضل وما يجب على المسلمين فيه من المزيد في الشكر لربهم المنعم المتفضل جل وعلا.
وأن يشتد حرصهم على كل ساعة من ساعاته, فيكثرون فيه من القرب وفعل الخيرات ولكن الذي يؤسف له أن كثيراً من الناس يحولون هذه المقاصد الشرعية الحسنة إلى مقاصد سيئة يسهرون ليلة الجمعة في اللهو واللعب والإثم، فلا ينامون إلا في ساعة متأخرة من الليل حتى يؤدي بهم ذلك إلى تضييع صلاة الفجر وربما ضيع بعضهم صلاة الجمعة أيضاً أما نهار يوم الجمعة فالأمر أدهى من ذلك وأمر, تراهم يخرجون في هذا اليوم العظيم وكأنه يوم مجون وخلاعة وفسوق يخرج الكثير بعوائلهم وقد حسرت المرأة عن ثيابها لِتَفْتِن ثم تُفْتَن، ثم يجاهرون ربهم بالمعاصي في ساعات فضيلة من هذا اليوم حيث يجتمع الرجال والنساء في أماكن السباحة والخلاعة دون حياء ولا خجل.(/2)
هذا ما يجب علينا من التنبيه والبيان والحجة على من يسمع ويُعْرِض لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً ولا يجعل قيمة لأوامر الله ونهيه والله شهيد على ما تعملون.
تأليف الدكتور/ عبد الوهاب الديلمي.
مراجعة : عبد الحميد أحمد مرشد.
- مسلم ج2، كتاب الجمعة باب فضل يوم الجمعة برقم 18 : 585 محمد فؤاد عبد الباقي.
- مسلم ج2، كتاب الجمعة باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة برقم 22-856، صـ586.
- مسلم 2/ 583، حديث رقم: 852,
- راجع مسلم ج2 كتاب الجمعة باب في الساعة التي يوم الجمعة 13-852، 16-853، وصحيح سنن أبي داود ج1/924-1046.
- مسلم ج1 كتاب المساجد مواضع الصلاة 254-652.
- مسلم ج2، كتاب الجمعة باب التغليظ في ترك الجمعة برقم 40-865.
- صحيح الترمذي ج1 414-504 وقال الألباني صحيح.
- البخاري ج1 الجمعة 843. وفي المسند ج9/23771. صدقي محمد جميل العطار .
ـ الزيادة عند مسلم 2/ 587 ، حديث رقم: 857 .
- البخاري 1/ 889، ومسلم ج2 الجمعة برقم 55 / 596.
- مسلم 2، كتاب الجمعة باب الإنصات يوم الجمعة في الخطبة 12/ 583، وفي صحيح أبي داود 1/983-1112 قريباً من هذا.
- الفتح الرباني 6/62 رقم 1563.
- الفتح الرباني 6/97 رقم 1599 من حديث بن عباس، باب المنع من الكلام والإمام يخطب.
- الفتح الرباني 6/71 رقم 1573 وصحيح أبي داؤود 1/989، وفي النسائي 3/103 رقم 1399، وقال الألباني صحيح.
- أحمد 3/417، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/179 : فيه هشام بن زياد وقد أجمعوا على ضعفه أنظر الميزان 4/298 برقم 9223.وضعفه الألباني في سلسلة الضعيفة 6/312
ـ البخاري 2/ 222 ، حديث رقم: 590، ومسلم 1/ 325 ، حديث رقم: 437.
ـ مسلم 1/ 325 ، حديث رقم: 438.
- البخاري 1/841. مسلم 2/10/850، وفي صحيح أبي داؤود 1/338-351. وفي صحيح الترمذي ج1/413-503.
- مسلم 2 كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة باب 67-881، وباب68/600.(/3)
يوم الفرقان انتصار وقلب لموازين القوى
أحدثت معركة بدر الكبرى، تحويلاً كبيراً في مجريات الأحداث داخل الجزيرة العربية، كما غيرت كثيراً من المعالم الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، ولعل أبرز ما أحدثته بادئ ذي بدء، ذلك الشرح الكبير في موازين القوى بين التجمعات السكانية والعشائر العربية، ولم يكن أحد من سكان الجزيرة العربية يتوقع آنذاك أن تغير هذه المعركة مجريات الأمور وأحداث الحياة، وكانت تسكن الجزيرة - بعد الهجرة بسنتين - فئات مختلفة نوزعت بين الحواضر والبادية، كما اختلفت تحالفات تلك الفئات تبعاً لعقائدها، حيث انقسمت الجزيرة العربية بسكانها قسمين رئيسين، مجتمع الكفر والضلال والجاهلية، ويشمل فئات متعددة، أبرزها مجتمع مكة الجاهلي، ثم مجتمع العشائر والقبائل العربية التي تعيش في البادية، وهناك طائفة اليهود التي كانت تقبع حول المدينة المنورة، وتعتبر هذه التجمعات هي أركان المجتمع الكافر بين يدي غزوة بدر، وأما القسم الثاني من سكان الجزيرة العربية، فهم المسلمون الذين اتخذوا المدينة المنورة سكناً لهم، وهم المهاجرون والأنصار، وسوف أتناول هنا أثر معركة بدر على كل فئة من هذه الفئات.
غزوة بدر في مجتمع المدينة المسلم:
ومجتمع المدينة مجتمع صغير، يجمع بين المهاجرين، والأوس والخزرج من الأنصار، بايعوا الله ورسوله على الإيمان والإسلام والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، وبعد انتهاء معركة بدر، أرسل الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجلين إلى المدينة؛ ليزفوا البشرى لأهلها بنصر الله، وأحد هذين الرجلين من الأنصار وهو عبد الله بن رواحه شاعر الدعوة، والآخر زيد بن حارثة وهو من المهاجرين، ولما غنم أهل المدينة بنصر إخوانهم في معركة الإيمان والشرك الفاصلة، خرج رؤوسهم يستبقون وصول رسول الله إلى المدينة، ولما وصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى منطقة الروحاء، التقى بكبار رجال المدينة المسلمة، الذين قدموا له ولمن شهد بدراً معه تهانئ النصر فرحين مستبشرين بنصر الله، وهذا موقف فيه كثير من الدلالات، لقد وفد المسلمون دون ما خوف أو هلع أو خشية، جاءوا مرفوعي الرأس بما منحهم الله من نصر، وكانوا يعانون من الظلم والرهق والعناد الذي كانت تواجههم به مجتمعات الكفر، فلقد رفعت غزوة بدر من معنويات المسلمين، فشد الله أزرهم بذلك، فازدادوا بذلك نصرًا فوق نصرهم، وأثناء تهنئة وفود المدينة للرسول وصحبة، قال لهم أحد المقاتلين، وهو سلمه بن سلامة، ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا ابن أخي، أولئك الملا، وقد قصد - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم الأشراف، وفي ذلك ما فيه من معاني العزة الإسلامية، فوصف سلمة بن سلامة لصناديد المشركين أثناء القتال بأنهم عجائز صلع كالبدن، يدل على مدى القوة التي منحها الإسلام العظيم لجنود بدر، بحيث كان كل جندي يستصغر فراعين قريش، وكفارها العتاة، الذين أذاقوا ضعاف المسلمين في مكة سوء العذاب، فقد كانوا هم الأشراف، وكانوا يعاملون المسلمين بأسوء أشكال العنف والاضطهاد.
أما موقف المتخلفين عن بدر من أهل المدينة المسلمين، فقد كان موقفاً مؤثراً جداً، كيف لا؟ وهم لا يعرفون أن إخوانهم وقائدهم سوف يخوضون هذه المعركة الفاصلة، التي انتصرت فيها القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة المشركة، ولعل في قول الصحابي أسيد بن الخضير ما يبوح بذلك، ففي الروجاء، كان أسيد مع وفود التهنئة، وقد خاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: "يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر، وأنا أظن أنك تلقى عدوًا، ولكن ظننت أنها عبر، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت..
أما مجتمع المدينة فقد كان ينتظر نتائج المعركة على أحر من الجمر، ولما وصلهم البشيران (ابن رواحه وأن حارثه) علت أصوات المسلمين بالتهليل والتكبير، وخُذِل المنافقون واليهود الذين كانوا يبشرون المسلمين بخسارة محمد - صلى الله عليه وسلم - وصحبه، وكان هؤلاء يحاولون زرع الشكوك وبث الرعب في صفوف المسلمين، إلا أن خبر النصر أزعجهم، بينما عمت البهجة والسرور نفوس المسلمين، وزالت عنهم الهواجس المزعجة، التي انتابتهم نتيجة الإشاعات الكاذبة. والإرجاف المقصود، الذي نظمه اليهود والمنافقون، وهذا شأنهم في كل عصر وفي كل مكان، فهما فريقان متفقان دائماً على الكيد للمسلمين.(/1)
ولما دخل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المدينة استقبله أهلها استقبالاً رائعاً، أما اليهود والمنافقون فقد اسودت وجوههم، واستبد بهم الخوف والحقد في آن واحد بينما ارتفعت معنويات المسلمين، وعلت شوكتهم على المشركين والمنافقين واليهود، وتسامع العرب في أرجاء الجزيرة بانتصار القلة المؤمنة، على الكثرة الكافرة، فدخلت هيبة الإسلام والمسلمين في قلوبهم، وكان لهذا أثر كبير في إيمان كثير من القبائل ودخولها في معاهدات وأحلاف مع المسلمين، بل ودخول بعضها في الإسلام فيما بعد.
صدى المعركة في مكة وآثارها على المشركين:
قلنا إن معركة بدر انتهت بتغيير موازين القوى الروحية والسياسية والعسكرية والاجتماعية في الجزيرة العربية، وكان أن قفزت سمعة المسلمين العسكرية والقتالية إلى الأوج، فأصبحوا سادة الموقف، ولا سيما في منطقة المدينة وما يحوط بها، وبالمقابل، فإن سمعة قريش الكافرة تدهورت سياسياً وعسكرياً وما عادت لها هيبتها السابقة.
أما أخبار المعركة في مكة، فقد عم الذهول أرجاء مكة آنذاك، فعندما تلقى المشركون النبأ لم يصدقوا الأمر بادئ ذي بدء، حيث كانوا يتهمون ناقلي الأخبار بالجنون، فما كان يخطر ببالهم أن ينتصر المسلمون، وما كانوا يتصورون أن ألف مقاتل يضم خيرة شباب قريش وأمهر قادتها وأشجع زعمائها سوف يولون الأدبار أو يقتلون أو يصابون بما لم يعهدوه من الخسارة والهزيمة، بل الهزيمة النكراء أمام ثلاثمائة مقاتل من المسلمين، وكان أول من وصل من بدر على مكة، الحيسمان بن أياس الخزامي، الذي كان أول الفارين، وقد تجمع حوله الناس يسألونه عن نتيجة المعركة، فأبلغهم خبر الهزيمة التي نزلت بجيش مكة، وبينما كان يعدد لهم بعض أسماء الصرعى من زعماء مكة وقادتها وقف عليه صفوان بن أمية، وهو أحد زعماء المشركين الذين لم يشهدوا بدراً فذهل وانقلب به الوعي، إلا أن كبرياءه وعتوه وعناده وبغضه للمسلمين آنذاك، حاد به عن تصديق الأمر، فعاد يكذب الحيسمان وأخباره، وراح يؤكد لمن حضر من القرشيين أنه مجنون، ورغبة منه في التأكيد الزائد التفت إلى المجتمعين وخاطبهم، اسالوه - يقصد الحيسمان - عني إن كان يعقل، فقال القوم للحيسمان: ما فعل صفوان بن أمية! فقال: هو ذاك جالس في الحجر، وقد ازدادت دهشتهم حين قال لهم: لقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
أما هذه الأنباء فقد اختلط الحابل بالنابل في مكة، أسقط في أيدي الزعماء العتاة، الذين علت صيحات التشكيك من أفواههم، وهاج عامة الناس، واختلطت أقوالهم وتحليلاتهم للموقف وما عاد المرء منهم يعرف صوابه لهول الصدمة وعنف الخبر، وقد زاد الأمر تأكيداً عليهم، مجيء ابن سفيان بن الحارث، وهو أحد القادة المشركين الكبار، الذين قادوا المعركة وأداروها، وترأسوا دفة القتال ضد المسلمين في المعركة، فبدأ أقواله بجميع ما أخبرهم به الحيسمان، وأدلهم على هزيمة فرسان الشرك وجيوشه أمام النصر الساحق للمسلمين القلة، وفي حديث الحارث لأبي لهب ما يوضح الموقف على لسان أحد القادة، فقد سأله أبو لهب عن خبر المعركة فأجابه، "والله ما هو إلا أن لقينا القوم، فمنحناهم أكتافنا يقلبوننا كيف شاءوا، وأيم الله – مع ذلك - ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل يلقون، من بين السماء والأرض، والله لا يقوم لها شيء.
وهكذا تأكد خبر الهزيمة، حيث عرف كل بيت في مكة بمصابه، وعرف المقتولين منه، فقامت المناحات، إلا أن زعماء مكة أصدروا أمرًا بأن لا ينوح أحد على قتيل من قتلى هذه المعركة، وطلبوا من جميع الناس التزام الصمت والسكوت مع إظهار الجلد، وقد دفعهم إلى ذلك رغبتهم في عدم شمات المسلمين بهم، والحق أن نتيجة المعركة كانت فاجعة أليمة في مكة، فلم يكد ينجو بيت هناك من مأتم على قتيل، ولقد بلغ المصاب أن بعض الأشراف والزعماء، فقد أكثر من قتيل من أسرته في هذه المعركة التي أشعلها أو جهل بدافع من كبريائه وخيلائه دون أن يكون لها مبرر في نظر كثير من المشركين والقادة، ومن ذلك أن صفوان بن أمية فقد في هذه المعركة أباه، كما فقد أخاه عليًا، أما أبو سفيان فقد فقد ابنه خنظله وأسر ابنه الثاني عمرو، وقد طهت هذه المعركة حياة العتاة الكبار وعلى رأسهم أبو جهل، الذي ما فتئ طيلة حياته يكيد للإسلام والمسلمين فكان بذلك فرعوناً كبيراً يكيد للدعوة وللمسلمين، وعلى الرغم من أن المعركة حطمت رؤوس طواغيت الشرك، إلا أنهم لم يستكينوا، فبعد أن أفاقوا من هول الصدمة، أخذوا يواصلون اجتماعاتهم وينظمون مؤتمراتهم، ويبحثون عن السبل التي تمكنهم من غسل العار الذي حاق بهم، فقد ازدادوا حقداً على رسول الله وازدادوا بغضاً للمسلمين، فكان أن أعنلوا التعبئة العامة لخوض معركة الثأر، ومنعوا كل رجل في مكة من اعتناق الإسلام وحاربوه أشد ما تكون الحرب.
موقف اليهود والمنافقين من المعركة وأثرها عليهم:(/2)
وكان هؤلاء يسكنون المدينة، أما اليهود فكانوا معروفين، وأما المنافقون فكانوا يتغلغلون في صفوف المسلمين، وكانوا جميعاً يتمنون اندحار المسلمين، بل إنهم كانوا يتوقعون هزيمة المسلمين القلة، ونصر المشركين الكثر الأشداء الأقوياء، وقد قام كل من اليهود والمنافقين بتنظيم حملة ضخمة من الشائعات المرجفة، وذلك لبلبلة الأفكار وخلخلة المسلمين، وكان أن أشاعوا في المدينة بين المسلمين، خبر مقتل النبي - عليه الصلاة والسلام - كما أشاعوا خبر هزيمة المسلمين، وتمزيق جيشهم منذ بدء المعركة، وعلى الرغم من مجيء أخبار نصر المسلمين، واندحار جيش الكفر القرشي، فقد حاول اليهود المنافقون تكذيب أخبار نصر جيش محمد - صلى الله عليه وسلم -. واستمروا في إرجافهم وبث شائعاتهم، حتى إن أحد المنافقين، عندما شاهد زيد بن حارثة يركب القصواء ناقة رسول الله هتف: لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فلاً أي مهزوماً. كما قالت اليهود: ما جاء زيد إلا فلاً، وكان لهذه الإرجافات والإشاعات المتلاحقة التي تعاون اليهود والمنافقون على نشرها، بعض الأثر في قلق المؤمنين في المدينة، حيث ظلت فئة منهم تترقب عودة جيش المسلمين كاملاً لتقف بنفسها على حقيقة النصر الذي كتبه الله للفئة المؤمنة.
إلا أن رؤوس الكفر من اليهود والمنافقين صعقوا مرة واحدة لدى وصول جيش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فعلى الرغم من استمرارهم بأساليب الإرجاف والكيد، فإن حقيقة نصر المؤمنين سكنت كيدهم الذي كادوه، فعندما شاهدوا طليعة الجيش المنتصر، رجعوا واتلفأوا على أنفسهم خاسئين، وقد كادوا أن يتهموا أبصارهم عندما شاهدوا صناديد قريش وأقوياءها أسرى في يد المسلمين، فقد دهشوا أشد دهشة عندما رأوا سهيل بن عمرو، ونوفل بن الحارث، وعمرو بن أبي سفيان، والعباس بن عبد المطلب، والوليد بن الوليد أسرى مكبلين يقودهم المسلمين كالنعاج، وقد شدت أيديهم إلى الوراء يتعثرون في خطاهم كما تتعثر الدابة المكبلة، وقد صار اليهود والمنافقون في حالة من الذعر والذلة لا توصف، وذلك عندما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة منتصراً، حيث استقبلته المدينة استقبالاً رائعاً، مما زاد من إذلال وجود اليهود المنافقين الذين دأبوا على الإرجاف والمكيدة.
فقد قلبت معركة بدر الموازين رأساً على عقب، فقد أصبحت السيطرة للمسلمين، أما مشركوا المدينة فقد خافوا على بعضهم، فما كان إلا أن تظاهروا بالإسلام مع بقائهم على كفرهم، فازداد عدد المنافقين، وكان على رأسهم المنافق الكبير عبد الله بن أبي بن سلول، فقد نصح أصحابه آنذاك أن يعلنوا إسلامهم، وقد قال مشيراً إلى قوة المسلمين واشتداد شوكتهم: (هذا أمر قد توجه - أي استمر - فلا مطمع في إزالته، ثم أعلن ابن سلول إسلامه، وتبعته أحزاب النفاق، حيث تظاهروا بالإسلام خوفاً على نفوسهم أولاً، وليكيدوا للإسلام والمسلمين من داخل الصفوف المؤمنة، فظلوا يتربصون الدوائر لإسقاط الدعوة الجديدة، ولجأوا في محاربة الرسول وأصحابه إلى سلوك سبيل الدس والخيانة والخديعة، وصاروا يرسمون الخطط سراً للإيقاع بالنبي، وينتهزون الفرص لتفكيك وحدة أصحابه وإضعاف قوتهم.
ويضاف إلى هذا بعض اليهود، وهم الذين عاهدوا الرسول على عدم الإيذاء فخالفوا عهدهم، وأعلنوا سخطهم على الرسول وأصحابه بعد هذه المعركة التي حاقت بالمشركين، فصاروا يحرضون أهل مكة على الفتك بالنبي والقضاء على دعوته، وصاروا يقدمون لهم أيضاً كل مساعدة، وضربوا بذلك عهدهم الذي أعطوه للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهكذا فقد أفقد النصر الذي أحرزه المسلمون اليهود صوابهم، فاشتد حقدهم على الإسلام، وتضاعف نشاطهم ضد الدعوة، إلا أن المسلمين ابتعدوا عن الصدام مع اليهود آنذاك، حتى تفاقم الأمر، واتسع الخلاف بين المسلمين واليهود بسبب ما كان يكيده هؤلاء للإسلام، مما اضطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقضي على بعضهم وأن يبعد القسم الآخر عن المدينة، لتطهيرها من فتنهم ودسائسهم ومؤامراتهم.
المعركة وأعراب الجزيرة العربية:
عمت أخبار نصر المسلمين في بدر سائر الجزيرة العربية، وسمعت بها عشار الأعراب المتفرقة حول الحواضر وفي البادية، وكان هؤلاء يكنون لقريش احتراماً شديداً، لذلك فقد أثرت فيهم أخبار الانتصار الإسلامي في بدر تأثيراً كبيراً، فقد اضطرب كثير منهم وبخاصة الأعراب الذين يسكنون قرب المدينة، عندما خافوا أن تشتد قبضة المسلمين، مما يحول بينهم وبين مبدأ حياتهم القائمة على السلب والنهب.(/3)
فقد كانوا يعيشون على الإغارة وسلب أرزاق الآخرين، ويرى محمد أحمد باشميل أن خوف الأعراب من الدعوة الإسلامية لم يكن موقفاً عقائدياً، ذلك أن "مسألة الكفر والإيمان ليست ذات أهمية بالنسبة لهؤلاء الأعراب، إذا قيست بمسألة حرصهم وإصرارهم على إخضاع المنطقة لرماحهم، ينهبون ويسلبون في ظلها، كما هي شرعة الجاهلية في جميع مناطق الأعراب". ويميز باشميل بين موقف مشركي مكة والأعراب من الدعوة الإسلامية قائلاً: "فباعث قلق الأعراب من انتصار المسلمين في هذه المعركة، وانتشار نفوذهم، لم يكن باعثاً سياسياً أو عقائدياً، وهذا عكس ما عليه أهل مكة الذين يعتبرون أنفسهم حراس الوثنية وسدنة الكعبة، والزعماء الروحيين لجميع المشركين في الجزيرة بحكم وجودهم في منطقة الحرم التي يعظمها ويحج لها جميع الوثنيين على اختلافهم في تعدد الآلهة التي يعبدون من دون الله، كما أن قريشاً كانت تعتبر من الناحية السياسية والعسكرية في الدرجة الأولى بالنسبة لجميع سكان الجزيرة، مما أعطاها مركز ممتازاً بين جميع قبائل العرب في كل من الميادين، ولهذا كان حقد قريش على محمد، وبغضهم للإسلام قائماً على بواعث عقائدية وسياسية في الدرجة الأولى، ومن هنا صاروا أشد سكان الجزيرة حرصاً على القضاء على محمد وقتل دعوته على أن امتداد قوة المسلمين فيما بعد، كان سبباً في دخول كثير من القبائل في الإسلام.
وهكذا نرى أن معركة بدر كانت حداً فاصلاً بين الكفر على اختلاف اتجاهاته، وبين الإيمان الذي رسخ في القلوب، واستقر في العقول، فعقبت به الأرواح نصراً مبيناً، فقد تغيرت موازين القوى لصالح المسلمين، واندحر الكفر باندحار قريش وخيبة أمل اليهود والمنافقين.
عبد العزيز عبد اللطيف(/4)
"يوم الفلوجة"
معروف الرصافي
قالها في مدينة الفلوجة البطلة ومقاومتها ضد الاستعمار عام 1941م:
أيها "الإنكليز" لن iiنتناسى
ذاك بغي لن يشفيَ الله إلا
هو كرب تأبى الحمية iiأنَّا
هو خطب أبكى ii"العراقيين"
حلَّها جيشكم يريد iiانتقاماً
يوم عاثت ذئاب "آشور" iiفيها
فاستهنتم بالمسلمين iiسفاها
وأدرتم فيها على العزْلِ كأساً
واستبحتم أموالها iiوقطعتم
أفهذا تمدن، iiوعلاء
أم سكرتم لما غلبتم iiبحربٍ
قد نتجنا لقوحها عن iiخداج
هل نسيتم جيشاً لكم iiمبذعراً(1)
وهوى بانهزامه حصن ii"اقريط"
سوف ينأى بخزيه iiوبعار
لا تغرنكم شباكٌ iiكبار
لستم اليوم في المسالك iiإلا
وطنٌ عشتُ فيه غير iiسعيد
أتمنى فيه السعادة iiلكن
أخصب الله أرضه ولو iiاُني
كل يوم بعزه iiأتغنى
ما حياة الإنسان بالذل iiإلا
فثناء "للرافدين" iiوشكراً ... ... بغيكم في مساكن iiالفلوجة
بالمواضي؛ جريحه iiوشجيجه
بسوى السيفِ نبتغي iiتفريجه
والشام وركنَ البِنْيةِ iiالمحجوجه
وهو مغرٍ بالساكنين iiعلوجه
عيشة تحمل الشنار iiسميجه
واتخذتم من اليهود iiوليجه
من دماء بالغدر كانت iiمزيجه
بين أهل الديار كل iiوشيجه
شعبكم يدَّعي إليه عروجه
لم تكن في انبعاثها بنضيجه
فلذاك انتهت بسوء iiالنتيجه
شهدت جبنه سواحل ii"إيجه"
وأمسى قذى على "عين iiفيجه
عن بلاد تريد منها iiخروجه
أصبحت لاصطيادنا iiمنسوجه
جملاً تحت صدره دُحروجه
عيش حر يأبى على الدهر عوجه
ليس لي فيه ناقة iiمنتوجه
لست أرعى رياضه iiومروجه
جاعلاً ذكر عزه iiأهزوجه
مرة عند حَسْوها iiممجوجه
وسلاماً عليك يا ii"فلوجه"
الهوامش:
(1)متفرقا(/1)
يوم المسلم بين الحفظ والضياع
أخي المسلم :
سلام الله عليك ورحمته وبركاته وبعد .
احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك .
هل حفظت الله تعالى في صلاة الفجر فصليتها جماعة . فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ((من صلى الفجر في جماعة فهو ذمة الله)) ((أي في حفظه ورعايته)) .
هل صليت الصلوات الخمس بخشوع وخضوع وحضور قلب . قال تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} وهل أدينت السنن الرواتب هل جددت التوبة كل يوم وأكثرت من الاستغفار {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا} [ التحريم : 8 ] .
عمل يسير عليك أيها المسلم يجزئك عن كل مفصل من جسمك ركعتا الضحى هي صلاة الأوابين الصادقين .
يوم لا تقرأ فيه شيئاً من القرآن يوم مظلم لا بركة فيه ، لأن بركة الوقت تؤخذ من القرآن {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} [ ص : 29 ] .
قسوة القلب مصيبة من أعظم المصائب دواؤها ذكر الله عز وجل {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} ومنها أذكار الصلوات وأذكار الصباح والمساء كيف يسلم لك أيها المسلم إيمانك وقد أطلقت نظرك إلى الحرام {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم} [ النور : 30 ] .
يومك المبارك يوم تتصدق بصدقة أو تدخل السرور على مسلم أو تصلح بين متشاجرين {لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [ النساء : 114 ] .
وأنت في طريقك إلى اليوم الآخر لا تنس زادك {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} قيام الليل ، صيام النوافل ، زيارة المريض ، زيارة القبور ، تشييع الجنائز ، مجالس الذكر ، البكاء من خشية الله ، التفكر في آيات الله تعالى ، سلامة الصدر ، حفظ اللسان ، حب الصالحين .
كلها نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
صلاة وسلاماً على محمد نبي الهدى والرحمة والآل والصحب والتابعين .
أخوكم
الفقير إلى عفو ربه
عائض بن عبدالله القرني(/1)
يوم تبلى السرائر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد.
فعنوان هذه المقالةِ آيةٌ عظيمة من كتاب الله عز وجل، يُذكِّر الله سبحانه عباده فيها بشأن القلوب، وأعمالها وسرائرها، مما لا يعلمه الناس وهو بها عالم، كما ينبهُ الله عز وجل من خلال هذه الآيةِ على أن هذه السرائر ستبلى وتختبر يوم القيامة، ويظهر ما فيها من الإخلاص، والمحبة والصدق، أو ما يضادها من النفاق والكذب والرياء.
وذلك في يوم القيامة، يوم الجزاء والحساب، وهذا واضح من الآية وما قبلها وبعدها، حيث يقول الله عز وجل: (( إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ )) (الطارق:10) .
والقلب هو محطُّ نظر الله عز وجل، وعليه يدور القبول والرد، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) [1].
والسريرة إذا صلحت صلح شأن العبد كله، وصلحت أعماله الظاهرة ولو كانت قليلة، والعكس من ذلك عندما تفسد السريرة، فإنها تفسد بفسادها أقوالُ العبد وأعماله، وتكون أقرب إلى النفاق والرياء عياذًا بالله تعالى، ويوضحُ هذا الأمر قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) [2] .
ويشرح هذا ما نقله صاحب الحلية- رحمه الله تعالى- عن وهب قوله: ( ولا تظن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإنَّ مثل العلانية مع السريرة، كمثل ورق الشجر مع عرقها، العلانية ورقها، والسريرة عرقها. إن نُخر العرق هلكت الشجرة كلها، ورقها وعودها، وإن صلحت صلحت الشجرة كلها، ثمرها وورقها، فلا يزالُ ما ظهر من الشجرة في خيرٍ ما كان عرقها مستخفيًا، لا يُرى منه شيء، كذلك الدين لا يزال صالحًا ما كان له سريرةً صالحة، يصدق الله بها علانيته، فإنَّ العلانية تنفعُ مع السريرة الصالحة، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياتها من قبل عرقها، فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين، فإنَّ العلانية معها تزين الدين وتجمله، إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عز وجل ) [3].
ويقول الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: (( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ )) : ( وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة، وهو أنَّ الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرتهُ صالحة، كان عمله صالحًا ، فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة، كان عمله تابعًا لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمة وشينًا، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها ) [4] .
وقال أيضًا في تفسير هذه الآية : قوله تعالى : (( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ )) أي تختبر، وقال مقاتل: تظهر وتبدو، وبلوت الشيءَ إذا اختبرته، ليظهر لك باطنه، وما خفي منه، والسرائر جمع سريرة، وهي سرائر الله التي بينهُ وبين عبده في ظاهره وباطنه لله، فالإيمان من السرائر، وشرائعه من السرائر، فتُختبر ذلك اليوم، حتى يظهر خيرُها من شرها، ومؤدِّيها من مضيعها، وما كان لله مما لم يكن له؛ قال عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-: يُبدي الله يوم القيامة كل سرٍ فيكون زيناً في الوجوه، وشينًا فيها، والمعنى تختبر السرائر بإظهارها، وإظهار مقتضياتها من الثواب والعقاب، والحمد والذم ) ([5]) أهـ.
مما سبق يتبين لنا عظم شأن القلب والسريرة، حيثُ إنَّها محطُّ نظر الله عز وجل، وعليها مدارُ القبول عنده سبحانه، وحسب صلاحها وفسادها يكون حسن الخاتمة وسوؤها، وكلما صلحت السريرة نمت الأعمال الصالحة، وزكت، ولو كانت قليلةً والعكس، من ذلك في قلة بركة الأعمال، حينما تفسد السريرة ويصيبها من الآفات ما يصيبها، وهذا هو الذي يفسر لنا تفوق أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - على غيرهم، ممن جاء بعدهم، والذي قد يكون أكثر من بعض الصحابة عبادةً وقربات.
حيث إنَّ أساس التفاضلِ بين العباد عند الله عز وجل، هو ما وقرَ في القلب من سريرةٍ صالحة، حشوها المحبة والتعظيم، والإخلاص لله تعالى.
فعن عبد الله بن مسعود ? قال : (( أنتم أطول صلاة، وأكثر اجتهادًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهم كانوا أفضل منكم، قيل له: بأي شيء؟ قال: إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم )) [6].
وعن القاسم بن محمد قال: كنَّا نُسافر مع ابن المبارك، فكثيرًا ما كان يخطرُ ببالي فأقول في نفسي: بأيِّ شيءٍ فُضل هذا الرجل علينا، حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة، إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنَّا لنغزو، وإن كان يحجَّ إنا لنحج.(/1)
قال : فكنَّا في بعض مسيرنا في طريق الشام، ليلة نتعشى في بيتٍ إذ طفئ السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح، فمكث هنيهةً ثم جاء بالسراج، فنظرتُ إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضل هذا الرجل علينا، ولعلهُ حين فقد السراج، فصار إلى الظلمة ذكر القيامة [7] .
وأخبار السلف في حرصهم على أعمال القلوب، وإصلاح السرائر كثيرة ومتنوعة، وبخاصة فيما يتعلق بمحبة الله عز وجل، والخوف منه وإخلاص العمل له سبحانه، ومن ذلك:
* قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (( القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم للغد، والأمانة ألاَّ تخالف سريرةٌ علانية، واتقوا الله عز وجل،فإنما التقوى بالتوقي،ومن يتق الله يقه )) [8] .
* وعن عثمان رضي الله عنه قال : ( ما أسرَّ أحدٌ سريرة إلاَّ أظهرها الله على صفحاتِ وجهه، وفلتات لسانه) .
* وعن نعيم بن حماد قال: سمعت ابن المبارك يقول: ما رأيتُ أحدًا ارتفع مثل مالك، ليس لهُ كثيرُ صلاة ولا صيام، إلاَّ أن تكون له سريرة [9] .
* وعن خالد بن صفوان قال: لقيتُ مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد: أخبرني عن حسن أهل البصرة قلت: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلمٍ أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به، أشبه الناس سريرةً بعلانية، وأشبهه قولاً بفعل، إن قعد على أمرٍ قام به، وإن قام على أمرٍ قعد عليه، وإن أمر بأمرٍ كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيءٍ كان أتركُ الناس له، رأيتهُ مستغنيًا عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك كيف يضل قوم هذا فيهم[10] .
* وعن الحسن- رحمه الله تعالى- قال: ابن آدم، لك قولٌ وعمل، وعملك أولى بك من قولك، ولك سريرةٌ وعلانية، وسريرتك أولى بك من علانيتك [11] .
* وعن ابن عيينة- رحمه الله تعالى- قال : (( إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور[12] .
* وعن عبد الله بن المبارك- رحمه الله تعالى- قال: قيل لحمدون بن أحمد، ما بال كلام السلف أنفعُ من كلامنا؟! قال: لأنَّهم تكلموا لعزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلمُ لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق [13] .
* ويقول ابن القيم- رحمه الله تعالى- : (( فكل محبةٍ لغيره فهي عذابٌ على صاحبها، وحسرةٌ عليه، إلاَّ محبته، ومحبة ما يدعو إلى محبته، ويعين على طاعته ومرضاته، فهذه هي التي تبقى في القلب يوم تبلى السرائر)) [14] .
ونكتفي بهذه المقتطفات من وصايا السلف، في إصلاح السرائر، لنتعرف على بعض العلامات الدالة على صلاح السريرة، وسلامة القلب، ومنها نعرف ما يضادها من المظاهر، التي تدل على فساد في السريرة ومرض في القلب.
ومن هذه العلامات:
(1) عناية العبد بأعمال القلوب، ومنها إخلاص الأعمال والأقوال لله عز وجل، ومحاولة إخفائها عن الناس، وكراهة الشهرة والظهور، والزهد في ثناء الناس. ويضاد ذلك الرياء، وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، وحب الظهور.
(2) التواضع والشعور بالتقصير، والانشغال بإصلاح النفس وعيوبها، ويضاد ذلك الكبر والعجب، والولع بنقد الآخرين.
(3) الإنابة إلى الدار الآخرة، والتجافي عن الدنيا، والاستعداد للرحيل، وحفظ الوقت، وتدارك العمر، ويضاد ذلك الركون إلى الدنيا، وامتلاءُ القلب بهمومها ومتاعها الزائل، ونسيان الآخرة، وقلة ذكر الله عز وجل، وتضييع الأوقات.
(4) سلامة القلب من الحقدِ والغلِ والحسد، ويضادُ ذلك امتلاؤه بهذه الأمراض- عياذًا بالله -.
(5) التسليم لأمر الله عز وجل، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - دون لماذا وكيف؟؟ ويضاد ذلك الولوع بالمتشابهات، والخواطر الرديئة.
(6) الاهتمام بأمر الدين والدعوة إلى الله عز وجل، والجهاد في سبيله جلَّ وعلا، ومحبة كل داعيةٍ إلى الخير والحق، والدعاء له والتعاون معه على البر والتقوى، ويضاد ذلك القعود عن تبليغ دين الله عز وجل، وعدم الاهتمام به، بل إذا صفى له مأكله ومشربه ومسكنه، وغير ذلك من متاع الدنيا الزائل، فلا يهمه بعد ذلك شيء، وقد لا يقفُ الأمر في فساد السريرةِ عند هذا الحد، بل قد يتعداه إلى مناصبة الداعين إلى الحق العداء، أو التشهير بهم، والتشكيك في نواياهم، ومحاولة إحباط جهودهم الخيرة.
(7) شدة الخوف من الله عز وجل، ومراقبته في السر والعلن، والمبادرةِ بالتوبة والإنابة من الذنب، ويضاد ذلك ضعف الوازع الديني، وقلة الخوف من الله جلَّ وعلا، بحيث إذا خلا بمحارم الله عز وجل انتهكها، وإذا فعل معصيةً لم يتب منها، بل أصر عليها وكابر وتبجح.(/2)
(8) الصدق في الحديث، والوفاء بالعهود وأداء الأمانة، وإنفاذ الوعد، وتقوى الله عز وجل في الخصومة، فكلُّ هذه الخصال تدلُ على صلاحٍ في السريرة، لأنَّ أضداد هذه الصفات إنما هي من خصال المنافقين، الذين فسدت سرائرهم،كما أخبر بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم -بقوله: (( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق:إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر)) ([15])، ويدخل في ذلك ذو الوجهين، الذي يلقى هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه.
(9) قبول الحق والتسليم له، من أي جهة كان، ويضاد ذلك التعصب للأخطاء، والجدال بالباطل، وإتباع الهوى في ذلك.
وأكتفي بذكر هذه العلامات على صلاح الباطن والسريرة، لتدلَّ على ما سواها، مما لم أذكره ها هنا.
ويحسنُ في نهاية هذه المقالة، الإشارةُ إلى بعض الثمرات العظيمةِ لصلاح السريرة، وذلك فيما يلي:
1- نزول الطمأنينة والسكينة في قلبِ من صلحت سريرته وثباته، أمام فتن الشبهات والشهوات، وابتلاءات الخير والشر.
2- إلقاء المحبة لمن صلحت سريرته بين الناس، مما يكون لهُ الأثر في قبول كلامه ونصحه، وأمره ونهيه.
3- أثر صلاح الباطن والسريرة في حسن الخاتمة، حيث ما سمع ولا علم - ولله الحمد - بأن صاحب السريرة الصالحة، والقلب السليم قد خُتم له بسوء، وإنما يكون ذلك لمن فسدت سريرته، وباغتهُ الموت قبل إصلاح الطوية.
4- القبول عند الله عز وجل يوم القيامة، ومضاعفة الحسنات، وتكفير السيئات، قال الله عز وجل: (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً )) ( الطلاق : 5 ) .
وقال تعالى : (( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)) (المائدة: 27) .
5- تفريج الكربات، وإعانة الله عز وجل للعبد عند حدوث الملمات والضائقات، كما حصل لأصحاب الغار.
6- الهداية إلى الحق، والتوفيق إلى الصواب، عندما تحتار العقول والأفهام.
والحمد لله رب العالمين .
________________________________________
[1] مسلم : ( 2564 ) .
[2] البخاري كتاب الإيمان ( 52 ) ، مسلم كتاب المساقات ( 1599 ) .
[3] حلية الأولياء 4 / 70 .
[4] بدائع التفسير 5 / 185 .
[5] بدائع التفسير 5 / 185 .
[6] صفة الصفوة 1 / 420 .
[7] المصدر السابق 4 / 145 .
[8] سير أعلام النبلاء 2 / 572 .
[9] المصدر السابق 8 / 97 .
[10] سير أعلام النبلاء 4 / 576 .
[11] مدارج السالكين 1 / 436 .
[12] صفة الصفوة 2 / 234 .
[13] المصدر السابق 4 / 122 .
[14] روضة المحبين ص280 .
[15] البخاري ، كتاب الإيمان ( 34 ) ، مسلم ( 58 ) واللفظ له .(/3)
يوم تبلى السرائر ...
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد. فعنوان هذه المقالةِ آيةٌ عظيمة من كتاب الله - عز وجل -، يُذكِّر الله - سبحانه - عباده فيها بشأن القلوب، وأعمالها وسرائرها، مما لا يعلمه الناس وهو بها عالم، كما ينبهُ الله - عز وجل - من خلال هذه الآيةِ على أن هذه السرائر ستبلى وتختبر يوم القيامة، ويظهر ما فيها من الإخلاص، والمحبة والصدق، أو ما يضادها من النفاق والكذب والرياء.
وذلك في يوم القيامة، يوم الجزاء والحساب، وهذا واضح من الآية وما قبلها وبعدها، حيث يقول الله - عز وجل -: ((إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ)) (الطارق: 10). والقلب هو محطُّ نظر الله - عز وجل -، وعليه يدور القبول والرد، كما قال: ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) [1].
والسريرة إذا صلحت صلح شأن العبد كله، وصلحت أعماله الظاهرة ولو كانت قليلة، والعكس من ذلك عندما تفسد السريرة، فإنها تفسد بفسادها أقوالُ العبد وأعماله، وتكون أقرب إلى النفاق والرياء عياذًا بالله - تعالى -، ويوضحُ هذا الأمر قوله: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) [2].
ويشرح هذا ما نقله صاحب الحلية - رحمه الله تعالى - عن وهب قوله: (ولا تظن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإنَّ مثل العلانية مع السريرة، كمثل ورق الشجر مع عرقها، العلانية ورقها، والسريرة عرقها. إن نُخر العرق هلكت الشجرة كلها، ورقها وعودها، وإن صلحت صلحت الشجرة كلها، ثمرها وورقها، فلا يزالُ ما ظهر من الشجرة في خيرٍ ما كان عرقها مستخفيًا، لا يُرى منه شيء، كذلك الدين لا يزال صالحًا ما كان له سريرةً صالحة، يصدق الله بها علانيته، فإنَّ العلانية تنفعُ مع السريرة الصالحة، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياتها من قبل عرقها، فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين، فإنَّ العلانية معها تزين الدين وتجمله، إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه - عز وجل -) [3].
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله - تعالى -: ((يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)): (وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة، وهو أنَّ الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرتهُ صالحة، كان عمله صالحًا، فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة، كان عمله تابعًا لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمة وشينًا، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها) [4].
وقال أيضًا في تفسير هذه الآية: قوله - تعالى -: ((يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)) أي تختبر، وقال مقاتل: تظهر وتبدو، وبلوت الشيءَ إذا اختبرته، ليظهر لك باطنه، وما خفي منه، والسرائر جمع سريرة، وهي سرائر الله التي بينهُ وبين عبده في ظاهره وباطنه لله، فالإيمان من السرائر، وشرائعه من السرائر، فتُختبر ذلك اليوم، حتى يظهر خيرُها من شرها، ومؤدِّيها من مضيعها، وما كان لله مما لم يكن له؛ قال عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-: يُبدي الله يوم القيامة كل سرٍ فيكون زيناً في الوجوه، وشينًا فيها، والمعنى تختبر السرائر بإظهارها، وإظهار مقتضياتها من الثواب والعقاب، والحمد والذم) ([5]) أهـ.
مما سبق يتبين لنا عظم شأن القلب والسريرة، حيثُ إنَّها محطُّ نظر الله - عز وجل -، وعليها مدارُ القبول عنده - سبحانه -، وحسب صلاحها وفسادها يكون حسن الخاتمة وسوؤها، وكلما صلحت السريرة نمت الأعمال الصالحة، وزكت، ولو كانت قليلةً والعكس، من ذلك في قلة بركة الأعمال، حينما تفسد السريرة ويصيبها من الآفات ما يصيبها، وهذا هو الذي يفسر لنا تفوق أصحاب محمد على غيرهم، ممن جاء بعدهم، والذي قد يكون أكثر من بعض الصحابة عبادةً وقربات.
حيث إنَّ أساس التفاضلِ بين العباد عند الله - عز وجل -، هو ما وقرَ في القلب من سريرةٍ صالحة، حشوها المحبة والتعظيم، والإخلاص لله - تعالى -.
فعن عبد الله بن مسعود ? قال: ((أنتم أطول صلاة، وأكثر اجتهادًا من أصحاب رسول الله ، وهم كانوا أفضل منكم، قيل له: بأي شيء؟ قال: إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم)) [6].
وعن القاسم بن محمد قال: كنَّا نُسافر مع ابن المبارك، فكثيرًا ما كان يخطرُ ببالي فأقول في نفسي: بأيِّ شيءٍ فُضل هذا الرجل علينا، حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة، إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنَّا لنغزو، وإن كان يحجَّ إنا لنحج.(/1)
قال: فكنَّا في بعض مسيرنا في طريق الشام، ليلة نتعشى في بيتٍ إذ طفئ السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح، فمكث هنيهةً ثم جاء بالسراج، فنظرتُ إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضل هذا الرجل علينا، ولعلهُ حين فقد السراج، فصار إلى الظلمة ذكر القيامة [7].
وأخبار السلف في حرصهم على أعمال القلوب، وإصلاح السرائر كثيرة ومتنوعة، وبخاصة فيما يتعلق بمحبة الله - عز وجل -، والخوف منه وإخلاص العمل له - سبحانه -، ومن ذلك:
* قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ((القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم للغد، والأمانة ألاَّ تخالف سريرةٌ علانية، واتقوا الله - عز وجل -، فإنما التقوى بالتوقي، ومن يتق الله يقه)) [8].
* وعن عثمان - رضي الله عنه - قال: (ما أسرَّ أحدٌ سريرة إلاَّ أظهرها الله على صفحاتِ وجهه، وفلتات لسانه).
* وعن نعيم بن حماد قال: سمعت ابن المبارك يقول: ما رأيتُ أحدًا ارتفع مثل مالك، ليس لهُ كثيرُ صلاة ولا صيام، إلاَّ أن تكون له سريرة [9].
* وعن خالد بن صفوان قال: لقيتُ مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد: أخبرني عن حسن أهل البصرة قلت: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلمٍ أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به، أشبه الناس سريرةً بعلانية، وأشبهه قولاً بفعل، إن قعد على أمرٍ قام به، وإن قام على أمرٍ قعد عليه، وإن أمر بأمرٍ كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيءٍ كان أتركُ الناس له، رأيتهُ مستغنيًا عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك كيف يضل قوم هذا فيهم[10].
* وعن الحسن - رحمه الله تعالى - قال: ابن آدم، لك قولٌ وعمل، وعملك أولى بك من قولك، ولك سريرةٌ وعلانية، وسريرتك أولى بك من علانيتك [11].
* وعن ابن عيينة - رحمه الله تعالى - قال: ((إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور[12].
* وعن عبد الله بن المبارك - رحمه الله تعالى - قال: قيل لحمدون بن أحمد، ما بال كلام السلف أنفعُ من كلامنا؟! قال: لأنَّهم تكلموا لعزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلمُ لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق [13].
* ويقول ابن القيم- رحمه الله - تعالى-: ((فكل محبةٍ لغيره فهي عذابٌ على صاحبها، وحسرةٌ عليه، إلاَّ محبته، ومحبة ما يدعو إلى محبته، ويعين على طاعته ومرضاته، فهذه هي التي تبقى في القلب يوم تبلى السرائر)) [14].
ونكتفي بهذه المقتطفات من وصايا السلف، في إصلاح السرائر، لنتعرف على بعض العلامات الدالة على صلاح السريرة، وسلامة القلب، ومنها نعرف ما يضادها من المظاهر، التي تدل على فساد في السريرة ومرض في القلب.
ومن هذه العلامات:
* عناية العبد بأعمال القلوب، ومنها إخلاص الأعمال والأقوال لله - عز وجل -، ومحاولة إخفائها عن الناس، وكراهة الشهرة والظهور، والزهد في ثناء الناس. ويضاد ذلك الرياء، وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، وحب الظهور.
* التواضع والشعور بالتقصير، والانشغال بإصلاح النفس وعيوبها، ويضاد ذلك الكبر والعجب، والولع بنقد الآخرين.
* الإنابة إلى الدار الآخرة، والتجافي عن الدنيا، والاستعداد للرحيل، وحفظ الوقت، وتدارك العمر، ويضاد ذلك الركون إلى الدنيا، وامتلاءُ القلب بهمومها ومتاعها الزائل، ونسيان الآخرة، وقلة ذكر الله - عز وجل -، وتضييع الأوقات.
* سلامة القلب من الحقدِ والغلِ والحسد، ويضادُ ذلك امتلاؤه بهذه الأمراض- عياذًا بالله -.
* التسليم لأمر الله - عز وجل -، وأمر رسوله e دون لماذا وكيف؟؟ ويضاد ذلك الولوع بالمتشابهات، والخواطر الرديئة.
* الاهتمام بأمر الدين والدعوة إلى الله - عز وجل -، والجهاد في سبيله - جل وعلا -، ومحبة كل داعيةٍ إلى الخير والحق، والدعاء له والتعاون معه على البر والتقوى، ويضاد ذلك القعود عن تبليغ دين الله - عز وجل -، وعدم الاهتمام به، بل إذا صفى له مأكله ومشربه ومسكنه، وغير ذلك من متاع الدنيا الزائل، فلا يهمه بعد ذلك شيء، وقد لا يقفُ الأمر في فساد السريرةِ عند هذا الحد، بل قد يتعداه إلى مناصبة الداعين إلى الحق العداء، أو التشهير بهم، والتشكيك في نواياهم، ومحاولة إحباط جهودهم الخيرة.
* شدة الخوف من الله - عز وجل -، ومراقبته في السر والعلن، والمبادرةِ بالتوبة والإنابة من الذنب، ويضاد ذلك ضعف الوازع الديني، وقلة الخوف من الله - جل وعلا -، بحيث إذا خلا بمحارم الله - عز وجل - انتهكها، وإذا فعل معصيةً لم يتب منها، بل أصر عليها وكابر وتبجح.(/2)
* الصدق في الحديث، والوفاء بالعهود وأداء الأمانة، وإنفاذ الوعد، وتقوى الله - عز وجل - في الخصومة، فكلُّ هذه الخصال تدلُ على صلاحٍ في السريرة، لأنَّ أضداد هذه الصفات إنما هي من خصال المنافقين، الذين فسدت سرائرهم، كما أخبر بذلك الرسول eبقوله: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر)) ([15])، ويدخل في ذلك ذو الوجهين، الذي يلقى هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه.
* قبول الحق والتسليم له، من أي جهة كان، ويضاد ذلك التعصب للأخطاء، والجدال بالباطل، وإتباع الهوى في ذلك.
وأكتفي بذكر هذه العلامات على صلاح الباطن والسريرة، لتدلَّ على ما سواها، مما لم أذكره ها هنا.
ويحسنُ في نهاية هذه المقالة، الإشارةُ إلى بعض الثمرات العظيمةِ لصلاح السريرة، وذلك فيما يلي:
*- نزول الطمأنينة والسكينة في قلبِ من صلحت سريرته وثباته، أمام فتن الشبهات والشهوات، وابتلاءات الخير والشر.
* - إلقاء المحبة لمن صلحت سريرته بين الناس، مما يكون لهُ الأثر في قبول كلامه ونصحه، وأمره ونهيه.
* - أثر صلاح الباطن والسريرة في حسن الخاتمة، حيث ما سمع ولا علم - ولله الحمد - بأن صاحب السريرة الصالحة، والقلب السليم قد خُتم له بسوء، وإنما يكون ذلك لمن فسدت سريرته، وباغتهُ الموت قبل إصلاح الطوية.
*- القبول عند الله - عز وجل - يوم القيامة، ومضاعفة الحسنات، وتكفير السيئات، قال الله - عز وجل -: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً)) (الطلاق: 5).
وقال - تعالى -: ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)) (المائدة: 27).
*- تفريج الكربات، وإعانة الله - عز وجل - للعبد عند حدوث الملمات والضائقات، كما حصل لأصحاب الغار.
*- الهداية إلى الحق، والتوفيق إلى الصواب، عندما تحتار العقول والأفهام.
والحمد لله رب العالمين.
15/2/1426 هـ
الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل - موقع نور الإسلام
--------------------
[1] مسلم: (2564).
[2] البخاري كتاب الإيمان (52)، مسلم كتاب المساقات (1599).
[3] حلية الأولياء 4 / 70.
[4] بدائع التفسير 5 / 185.
[5] بدائع التفسير 5 / 185.
[6] صفة الصفوة 1 / 420.
[7] المصدر السابق 4 / 145.
[8] سير أعلام النبلاء 2 / 572.
[9] المصدر السابق 8 / 97.
[10] سير أعلام النبلاء 4 / 576.
[11] مدارج السالكين 1 / 436.
[12] صفة الصفوة 2 / 234.
[13] المصدر السابق 4 / 122.
[14] روضة المحبين ص280.
[15] البخاري، كتاب الإيمان (34)، مسلم (58) واللفظ له.(/3)
يوم عاشوراء أهميته وحكم صيامه
الشيخ عطية صقر ـ إسلام أون لاين
يومُ عاشوراءَ وهو اليوم العاشر من شهر الله المُحرَّم أول شهور التّقويم الهجري ـ دخل التاريخ من أوسَع أبوابه منذ بدء الخَليقة كما تحكي الروايات التي لا يصمُد أكثرُها أمام النقد العلميّ عند رِجال الحديث.
ويُهِمُّنا من هذه الأبواب بابان كان لكلٍّ منهما أثرُه في تحوُّل مجرى التاريخ الديني والتشريعي في اليهوديّة والإسلام، أحدهما يوم أن نجَّى الله موسى ـ عليه السلام ـ وجماعتَه الإسرائيليينَ، وأغرقَ فرعونَ وقومَه الظّالمين، وكان يومًا فاصلًا بين عهدينِ في تاريخ اليهود، عَهْدٍ ذاقُوا فيه العذاب ألوانًا حين كانوا تحت حكمِ فرعونَ، كما يُذَكِّرهم اللهُ به في قوله: (وإذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذابِ يُذَبِّحونَ أَبْناءَكُمْ ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ . وإذْ فَرَقْنَا بِكُمْ البَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (سورة البقرة : 49،50)، وعَهْدِ التّحرُّر والاتجاه إلى تأسيس مجتمَع مستقلٍّ ما لبِث أن تقلّبت به الأحداث ما بين صعود وهبوط واجتماع وتفرُّق، كما قضى بذلك ربُّ العِزّة في كتابه وسجَّله القرآن الكريم في أوائل سورة الإسراء (وقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتابِ لَتُفْسِدُّنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُّنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا)، وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قَدِم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة فرأى اليهود يصومون عاشوراءَ فقال لهم "ما هذا الذي تصومُونه" ؟ فقالوا: هذا يومٌ عَظيم، نَجَّى اللهُ فيه موسى قومَه وأغرقَ فرعونَ وقومَه، فصامَه وأمرَ بصيامِه حتّى جاءَ فرضُ صِيام رمضانَ فبَقِيَ صِيام يوم عاشوراء مَندوبًا.
وإذا كان الخبر الصحيح يَشْرَعُ صومَه شكرًا لله على نَجاة موسى، فإن تحديد هذا اليوم ورَبطه بنجاة آبائهم هو خبرُ اليهود، كما جاء في كُتبهم التي توارَثوها، والثابت في الصحيحين أيضًا عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصوم عاشوراء قبل هجرتِه من مكّة إلى المدينة اتباعًا لقريش في صيام هذا اليوم في الجاهليّة، ويعلِّل عكرمة صيام قريشٍ له بأنّهم أذنَبوا ذنبًا في الجاهليّة فعَظُم في صدورهم فقيل لهم: صُوموا عاشوراءَ يُكَفَّر ذلك الذّنب، فهل كان ذلك تقليداً لليهود في صيام يوم الكفّارة "يوم كبور" أو بناء على شرع سابق؟ والمعروف أن شِرعة إبراهيم وإسماعيل التي كانت في مكّة هي أسبقُ مِن الشريعة التي جاءت بها تَوراة موسى الذي نجّاه الله من فرعونَ وقومِه.
روى البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصومُه. فلمّا قدِم المدينة صامَه، وأمرَ الناس بصيامِه فلمّا فُرِض رمضانُ قال "مَنْ شَاءَ صامَه ومَنْ شَاءَ تَرَكَه".
إن الذي يهمُّنا كمسلمين أنّ صوم يوم عاشوراء بَقِيَ مندوبًا كسائر الأيام التي يُنْدَب فيها الصِّيام، ولم يكن يَأْبَهُ له أحدٌ من المسلمين بأكثرَ من أنّ الصِّيام فيه له فضله الذي وَرد فيه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما رواه مسلم "يُكَفِّر السَّنة الماضيةَ" وجرى الأمر على ذلك في عهد الخُلفاء الراشدين، حتى كان يومُ الجمعة العاشِر من المحرّم سنة إحدى وستين من الهجرة، وهو اليوم الذي استُشهِد فيه الحسينُ بن علي ـ رضي الله عنهما ـ في كَرْبِلاء، فدخل يوم عاشوراء التاريخَ مرّة أخرى من باب واسع، عمَّق الشعورَ بالتشيُّع لآلِ البيت.
وعلى الرغم من مرور أربعة عشر قرنًا على هذا الحادث، فإن آثاَره ما زالت باقية، تظهَر في الاحتفال بذكْراه، فهو في إيران والعِراق وغيرهما يوم حزن عَميق لا داعيَ لوصف مظاهره، وهو في بلاد المغرب وغيرها من البلاد التي تُبرِّر ما صنعه رجال البيت الأمويّ للاحتفاظ بالسلطان يوم فَرَح وهَدايا وتوسِعة وترفيهٍ بالحلوَى وكلِّ ما لذّ وطاب.
وفي ظلِّ هذه العواطف ظهرت بِدع واختُرِعت أقاويل وحكايات، بل وُضعت أحاديثُ على النبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ تشجِّع الأولين على المُبالغة في الأسَى والحُزن، وتشجِّع الآخرين على المبالغة في الفَرَح والسُّرور، ونكتفي بهذا القدر في بيان استغلال يوم عاشوراء استغلالًا سياسيًّا لنعرِف مدى صحّة ما يُقال إن التوسِعة على العِيال في يوم عاشوراء أثرٌ من آثار النزاع بين البيت الأموي والهاشميّ فنقول:(/1)
جاء في كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدُنِّيّة للقسطلاني " ج 8 ص 123" أنّ الحديث الذي يقول : "مَن وَسّع على عِياله في يوم عاشوراء وسّع الله عليه السَّنةَ كلَّها" رواه الطبراني والبيهقي وأبو الشيخ، وقال البيهقي إن أسانيدَه كلها ضعيفة، ولكن إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعض أفادَ قوّةً، قال العراقي في أماليه: لحديث أبي هريرة طُرق صحّحَ بعضُها ابن ناصر الحافظ، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات. وذلك لأن سليمان بن أبي عبد الله الراوي عن أبي هريرة مجهول، لكن جزَم الحافظ في تقريبه بأنه مقبول، وذكره ابن حبان في الثِّقات والحديث حسَنٌ على رأيه.قال العراقي : وله طُرق عن جابر على شرط مسلم أخرجها ابن عبد البَرِّ في "الاستيعاب" وهي أصحُّ طُرقه. رواه ابن عبد البر والدارقطني بسند جيِّد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ موقوفًا عليه.
قد يقال: إذا كان الصوم شَعيرة عاشوراء، وهو يقوم على الزُّهد والتقشُّف فكيف يتَّفق ذلك مع التوسِعة على العِيال والأهل؟ لئِن كانت هناك توسِعة فلتكنْ على الفقراء كالبِرِّ في رمضان، ومهما يكنْ من شيء فإن التوسِعة مندوبة وأفضل دينار يُنفقه الإنسانُ بعد نفسه هو على أهله، وكل ذلك في حدود الوُسع، ورأى بعض المفكِّرين أن "العيال" المذكورين في هذا الحديث هم عيال الله وهم الفُقراء، وهنا تظهر الحكمةُ في التوسِعة مع الصيام. وجاء في الزرقاني أيضًا أن ما يذكَر من فضيلة الاغتسال فيه والخِضاب والادِّهان والاكتحال ونحو ذلك فبِدعة ابتدَعَها قتلةُ الحُسين، كما صرّح به غيرُ واحد.
هذا، والأولى الاقتصارُ على ما جاء في الحديث من أنَّ صيامه يُكَفِّر ذنوب سَنة، كما يُسَنُّ صيام يوم التاسع أيضًا لحديث رواه مسلم عن ابن عباس قال: لمّا صامَ رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ يوم عاشوراءَ وأمر بصِيامه قالوا: يا رسول الله إنّه يومٌ تُعظِّمه اليهود والنّصارى فقال: "إذا كان العامُ المُقْبِلُ ـ إنْ شاء الله ـ صُمْنا اليومَ التاسِع" قال: فلم يأتِ العام المُقبل حتّى تُوفِّيَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وروى أحمد "خالِفوا اليَهودَ صومُوا يومًا قبلَه ويومًا بعدَه".
وقد ذكر العلماء أنَّ صيام عاشوراءَ على ثلاث مراتِب:
المرتبة الأولى صوم ثلاثة أيام: التاسِع والعاشر والحادي عشر. والمرتبة الثانية صوم التاسع والعاشر، والمرتبة الثالثة صوم العاشر وحدَه.
وموضوع صيام عاشوراء مبسوط في كتاب "زاد المعاد لابن القيم ج 1 ص 164 وما بعدها.
هذا ، وقد جاء في الترمذي بإسناد حسن أنّه قد يكون هو اليومَ الذي تاب فيه على قوم ويتوب على آخرين، ولكن ليس في الحديث تعيِين لهذا اليوم ولا لهؤلاء الأقوام، وصحّ من حديث أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد قال: سألت عُبيد بن عُمير عن صيام يوم عاشوراء فقال: المُحرّم شهر الله الأصمّ، فيه يوم تِيبَ فيه على آدم، فإن استطعتَ ألا يمُرَّ بك إلا وأنت صائم فافعل (تفسير القرطبي ج 1 ص 324)وهو حديث غير مرفوع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
وجاء في مسند أحمد أنه ربما يكون هو اليوم الذي استوتْ فيه سفينة نوح على الجوديّ.
ولا أعلم درجة هذا الحديث، كما جاء في الكتب حوادث أخرى في يوم عاشوراء ليس لها سند صحيح، منها مولد الخليل إبراهيم ومولد موسى ومولد عيسى، وبَرَدَت فيه النارُ على إبراهيم ، ورَفْع العَذابِ عن قوم يونس، وكشْف الضُّر عن أيوب، وردُّ البصر على يعقوب ، وخُروج يوسف من الجُبِّ، ويوم الزِّينة الذي غَلَب فيه موسى السَّحَرة.
أما صيام النبيّ يوم عاشوراء في مكّة فكان كصيام قريش لمتابعتهم في الخير كمتابعتهم في الحجّ ولم يأمُر به أصحابَه، وصامَه بعد الهجرة لمَّا وجد اليهود يصومونه قال العلماء: إن صيامَه في المدينة كان بوحْيٍ أو باستدامة صِيامه في مكّة وزاد تأكيده بشكر الله على نجاة موسى. وليس صيامه متابعة لليهود في شريعتِهم، وقال بعضهم: إنه اجتِهاد من النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لأنّه كان يُحِبُّ موافقةَ أهلِ الكتاب فيما لم يؤمَر فيه بشيء، ولعل هذا من باب تأليف قلوبهم، كالتوجُّه إلى بيت المَقدِس في الصلاة. وكانت هذه الموافقة في أول الإسلام، فلمّا فُتحت مكّة وقَوِيَ الإسلام خالَف أهل الكِتاب، بل أمرَ بمخالَفتِهم في شكل الصيام لا في أصله، ودليل ذلك أنّه في أواخر حياته ـ وكان يصوم عاشوراء استحباباً ويصومُه أصحابه ـ قيل له: إنّه يوم تعظِّمه اليهودُ والنصارى فقال ـ كما رواه مسلم ـ "إذا كان العامُ المُقبِلُ، إن شاء الله، صُمْنا اليومَ التاسع" فلم يأتِ العامُ المُقبلُ حتى تُوفِّي.(/2)
و تكفير الذُّنوب بصِيام عاشوراء المُراد بها الذّنوب الصّغائر، وهي ذنوب سنةٍ ماضيةٍ أو آتية إن وقعتْ من الصائم، فإن لم تكنْ صغائِرُ خُفِّف مِن الكَبائر، فإن لم تكن كبائِرُ رُفِعَت الدرجات . أما الكبائر فلا تكفِّرها إلا التوبة النَّصوح، وقيل يكفِّرها الحَجُّ المَبرور، لعموم الحديث المتَّفَق عليه "مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يفسُق رجعَ كيومَ وَلَدَتْه أمُّه".
قال النووي: اختُلف في حكم صوم عاشوراء في أولِ الإسلام حين شُرِع قبلَ رمضان، فقال أبو حنيفة كان واجبًا لظواهر الأحاديث، ولأصحاب الشافعي وجهان: وجهٌ كأبي حنيفة، والأشهر أنه لم يزلَ سُنَّةً حين شُرِع. لكن كان متأكَّد الاستحبابِ، فلمَّا فُرِضَ رمضانُ صار استحبابُه أقلَّ من الأوَّل.
هذا، وقد ثبت في الصحيحين أن ابن مسعود أفطرَ يوم عاشوراءَ، ولما سُئِل قال: كان النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصومُه قبل أن ينزل صوم رمضان، فلما نَزَل رمضانُ تركَه، والتفسير الصحيح لفعل ابن مسعود وقوله أنّ صومَ عاشوراء تَرَكَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجوبَه بعد فرض صيام رمضان، وبقِي مستَحَبًّا كما تدلُّ عليه الروايات الأخرى(/3)
يوم عاشوراء .. أحكام وفوائد ...
ما المناسبات الإسلامية إلا اصطفاء من الله ـ تعالى ـ لبعض الأزمان وتخصيص لها بعبادات ووظائف.
تأتي تلك المناسبات الكريمة فتحرك الشعور الإسلامي في أهله ليُقبلوا على الله ـ عز وجل ـ فيزدادوا طهراً وصفاءاً ونقاءاً.
يُقبل شهر الله المحرم فيدعو المسلمين للصيام؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم"(1).
وفي الوقت الذي يذكِّرنا فيه هذا الشهر بهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ـ بداية ظهور الدعوة وقيام دولة الإسلام ـ نجد فيه يوماً يذكِّرنا بانتصار نبي آخر هو موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ. ذلكم هو يوم عاشوراء ـ العاشر من المحرم ـ.
ولقد حبا الله هذا اليوم فضلاً، فضاعف فيه أجر الصيام. ثم كان للناس فيه طرائق فأدخلوا فيه وأحدثوا وزادوا.. إما رغبة في الخير، أو مجاراة للناس، وإما اتباعاً للهوى وزهداً في السنة.
من هنا نشأت الحاجة لبيان فضل هذا اليوم، وما يشرع فيه، وبيان أحوال الناس في تعظيمه، مع وقفات تبرز من خلال المطالعة والبحث في هذا الموضوع، أسأل الله ـ تعالى ـ الهدى والسداد، وأن ينفع بهذه السطور.
أولاً: خصوصية عاشوراء وفضل صومه:
جاء في فضل عاشوراء أنه يوم نجَّى الله فيه نبيه موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمؤمنين معه، وأغرق فيه فرعون وحزبه؛ فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟" فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحق وأوْلى بموسى منكم" فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه(2)، وها يحتمل أن الله ـ تعالى ـ: "أوحى إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك"(3).
وقد جاء بيان فضل صيام يوم عاشوراء في حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم عاشوراء، فقال: "يكفِّر السنة الماضية"، وفي رواية: "صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله"(4)، وفي حديث آخر: "ومن صام عاشوراء غفر الله له سنة"(5).
قال البيهقي: "وهذا فيمن صادف صومه وله سيئات يحتاج إلى ما يكفِّرها؛ فإن صادف صومه وقد كُفِّرت سيئاته بغيره انقلبت زيادة في درجاته، وبالله التوفيق"(6).
بل إن صيامه يعدل صيام سنة، كما في رواية: "ذاك صوم سنة"(7).
ويصور ابن عباس حرص النبي صلى الله عليه وسلم على صيامه فيقول: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني: شهر رمضان"(8).
ولِمَا عُرف من فضله فقد كان للسلف حرص كبير على إدراكه، حتى كان بعضهم يصومه في السفر؛ خشية فواته، كما نقله ابن رجب عن طائفة منهم ابن عباس، وأبو إسحاق السبيعي، والزهري، وقال: "رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر"(9).
ثانياً: حالات صوم عاشوراء:
مرّ صوم يوم عاشوراء بأحوال عدة(10):
الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم عاشوراء بمكة، ولا يأمر الناس بصومه.
الثانية: لما قدم المدينة وجد اليهود يصومونه، فصامه وأمر الناس بصيامه، حتى أمر من أكل في ذلك اليوم أن يمسك بقية ذلك اليوم. وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة؛ لأنه قدم المدينة في ربيع الأول.
الثالثة: لما فرض رمضان في السنة الثانية نُسِخَ وجوب صوم عاشوراء، وصار مستحباً، فلم يقع الأمر بصيامه إلا سنة واحدة(11).
ويشهد لهذه الحالات أحاديث، منها: حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه، فلما هاجر إلى المدينة، صامه وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان قال: "من شاء صامه، ومن شاء تركه"(12).
وعن الرُّبَيِّع بنت معوِّذ قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من كان منكم صائماً فليتمَّ صومه، ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه"، فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوِّم صبياننا الصغار منهم، إن شاء الله، ونذهب بهم إلى المسجد، ونصنع لهم اللعبة من العهن، فنذهب به معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم، حتى يتموا صومهم"(13).(/1)
ومن العلماء من قال: إنه لم يكن واجباً أصلاً (14)؛ احتجاجاً بقول معاوية ـ رضي الله عنه ـ لما خطب يوم عاشوراء فقال: "ولم يكتب الله عليكم صيامه"(15)، قال الحافظ ابن حجر: "ولا دلالة فيه؛ لاحتمال أن يريد: ولم يكتب الله عليكم صيامه على الدوام كصيام رمضان، وغايته: أنه عامٌّ خُصَّ بالأدلة الدالة على تقدُّم وجوبه، أو المراد: أنه لم يدخل في قوله ـ تعالى ـ: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)) [البقرة: 183]، ثم فسره بأنه شهر رمضان، ولا يناقض هذا الأمر السابق بصيامه الذي صار منسوخاً،ويؤيد ذلك: أن معاوية إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم من سنة الفتح، والذين شهدوا أمره بصيام عاشوراء والنداء بذلك شهدوه في السنة الأولى أوائل العام الثاني. ويؤخذ من مجموع الروايات أنه كان واجباً؛ لثبوت الأمر بصيامه، ثم تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات ألاَّ يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم: "لما فُرِضَ رمضان ترك عاشوراء"، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدل على أن المتروك وجوبه"(16).
فكما كان واجباً أولاً فهو الآن مستحب غير واجب، كما نقل ابن عبد البر الإجماع على هذا(17).
واستحبابه متأكد يدل عليه قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر، يعني: شهر رمضان"(18).
قال ابن حجر: "وأما قول بعضهم: المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه.. فلا يخفى ضعفه، بل تأكُّد استحبابه باقٍ، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته صلى الله عليه وسلم؛ حيث يقول: "لئن عشت لأصومن التاسع والعاشر"، ولترغيبه في صومه وأنه يكفِّر سنة، وأي تأكيد أبلغ من هذا؟!"(19).
ولا يشوِّش على هذا ما روي من أن ابن عمر كان لا يصومه إلا أن يوافق صيامه(20)، وأنه كان يكره إفراده بالصوم، فهو اجتهاد منه لا تُعارَض به الأحاديث الصحيحة، وقد انقرض القول بذلك(21).
الحالة الرابعة: الأمر بمخالفة اليهود في صيام عاشوراء:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء"(22)، حتى أُمر بمخالفتهم، ونُهي عن موافقتهم، فعزم على أن لا يصوم عاشوراء مفرداً، فكانت مخالفته لهم في ترك إفراد عاشوراء بالصوم.
ويشهد لذلك أحاديث منها: عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل ـ إن شاء الله ـ صمنا اليوم التاسع". قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم(23)، والمراد: أنه عزم على صوم التاسع مع العاشر. يشهد لذلك قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: "أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر"(24)، وقوله: "خالفوا اليهود، وصوموا التاسع والعاشر"(25)، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصيام عاشوراء يوم العاشر(26).
أما جواب ابن عباس لمن سأله عن صيام عاشوراء، فقال: "إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، وأصبِحْ يوم التاسع صائماً"(27)، فلا إشكال فيه، قال ابن القيم: "فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال وسعة علم ابن عباس؛ فإنه لم يجعل عاشوراء هو اليوم التاسع، بل قال للسائل: صم اليوم التاسع، واكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي يعده الناس كلهم يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه"(28).
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً"(29). وعلى صحة هذا الحديث فإن من لم يصم التاسع فإنه يصوم الحادي عشر؛ لتتحقق له مخالفة اليهود في عدم إفراد عاشوراء بالصوم.
أما رواية: "صوموا يوماً قبله، ويوماً بعده" فهي ضعيفة(30).
وعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال: كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه اليهود، وتتخذه عيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فصوموه أنتم"(31).
قال ابن رجب: "وهذا يدل على النهي عن اتخاذه عيداً، وعلى استحباب صيام أعياد المشركين؛ فإن الصوم ينافي اتخاذه عيداً، فيوافقون في صيامه مع صيام يوم آخر معه... فإن في ذلك مخالفة لهم في كيفية صيامه أيضاً، فلا يبقى فيه موافقة لهم في شيء بالكلية"(32).
ثالثاً: كيفية مخالفة اليهود في صوم يوم عاشوراء:
يظهر مما تقدم من الأحاديث ـ والله أعلم ـ أن الأكمل هو صوم التاسع والعاشر؛ لأنه هو الذي عزم على فعله النبي صلى الله عليه وسلم.(/2)
ومن صحح حديث: "وصوموا قبله يومًا، أو بعده يومًا" فإنه قال بمشروعية صيام الحادي عشر لمن لم يصم التاسع، لتحصل له مخالفة اليهود التي قصد إليها النبي صلى الله عليه وسلم؛ خاصة أن من أهل العلم من يرى كراهية إفراد العاشر بالصوم؛ لما فيه من موافقة اليهود ومخالفة الأمر بمخالفتهم، وأيضًا خشية فوات العاشر(33).
ومن أهل العلم من قال بأفضلية صوم الثلاثة أيام: التاسع والحادي عشر مع العاشر، وحجتهم الرواية المتقدمة: "صوموا يومًا قبله، ويومًا بعده"، وأيضًا: الاحتياط لإدراك العاشر، ولأنه أبلغ في مخالفة اليهود(34).
رابعاً: أعمال الناس في عاشوراء في ميزان الشرع:
الناظر في حال الناس اليوم يرى أنهم يخصصون عاشوراء بأمور عديدة. ومن خلال سؤال عدد من الناس من بلدان عدة تبين أن من الأعمال المنتشرة التي يحرص عليها الناس في عاشوراء: الصيام ـ وقد عرفنا مشروعيته ـ.
ومنها: إحياء ليلة عاشوراء، والحرص على التكلف في الطعام، والذبح عموماً لأجل اللحم، وإظهار البهجة والسرور، ومنها: ما يقع في بلدان كثيرة من المآتم المشتملة على طقوس معينة مما يفعله الروافض وغيرهم.
وحتى نعرف مدى شرعية تلك الأعمال فتكون مقربة إلى الله، أو عدم مشروعيتها لتصير بدعاً ومحدثات تُبعِد العبد عن الله؛ فإنه لا بد أن نعلم جيداً أن للعمل المقبول عند الله ـ تعالى ـ شروطاً منها: أن يكون العامل متابعاً ـ في عمله ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم(35).
وإذا نظرنا في أفعال الناس في عاشوراء ـ سواء ما كان منها في الحاضر أو الماضي أو الماضي القريب(36) ـ رأينا أنها على صور عدة:
أ - ما كان منها في باب العبادات؛ حيث خصوا هذا اليوم ببعض العبادات كقيام ليلة عاشوراء، وزيارة القبور فيه، والصدقة، وتقديم الزكاة أو تأخيرها عن وقتها لتقع في يوم عاشوراء، وقراءة سورة فيها ذكر موسى فجر يوم عاشوراء ... فهذه ونحوها وقعت المخالفة فيها في سبب العمل وهو تخصيصه بوقت لم يخصه الشارع بهذه الأعمال، ولو أراده لحثَّ عليه، كما حث على الصيام فيه، فيُمنع من فعلها بهذا التقييد الزمني، وإن كانت مشروعة في أصلها.
ولأن باب البدع لا يقف عند حدّ فإن البدع في العبادات قد تنال كيفية العبادة، كما اختلقوا حديثاً موضوعاً مكذوباً في صلاة أربع ركعات ليلة عاشوراء ويومها، يقرأ فيها ((قل هو الله أحد)) [الإخلاص: 1] إحدى وخمسين مرة(37)، وخرافة رقية عاشوراء، ونعي الحسين ـ رضي الله عنه ـ على المنابر يوم الجمعة(38)، وكالمنكرات المصاحبة لزيارة القبور.
ب - ما كان من باب العادات التي تمارس في عاشوراء تشبيهاً له بالعيد، ومن ذلك:
الاغتسال، والاكتحال، واستعمال البخور، والتوسع في المآكل والمشارب، وطحن الحبوب، وطبخ الطعام المخصوص، والذبح لأجل اللحم، وإظهار البهجة والسرور. ومنها عادات لا تخلو من منكرات قبيحة.
وهذه في أصلها نشأت وظهرت رد فعل لمآتم الشيعة التي يقيمونها حزناً على مقتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ فكان من الناصبة(39) أن أظهروا الشماتة والفرح، وابتدعوا فيه أشياء ليست من الدين، فوقعوا في التشبه باليهود الذين يتخذونه عيداً ـ كما تقدم ـ(40).
وأما ما روي من الأحاديث في فضل التوسعة على العيال في عاشوراء فإن طرقها ضعيفة، وهي وإن رأى بعض العلماء أنها قوية فإن ضعفها لا ينجبر، ولا ينهض لدرجة الحسن.
أما الاغتسال والاكتحال والاختضاب فلم يثبت فيه شيء البتة(41)، ولمَّا أشار ابن تيمية إلى ما روي من الأحاديث في فضل عاشوراء قال: "وكل هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يصح في عاشوراء إلا فضل صيامه"(42).
وبذلك تعرف أن الشرع لم يخص عاشوراء بعمل غير الصيام، وهذا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب: 12]. وكم فات على أولئك المنشغلين بتلك البدع من اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته!
ج - مآتم الشيعة (الرافضة والباطنية):
أما بالنسبة لمآتم الشيعة فإنه لا نزاع في فضل الحسين ـ رضي الله عنه ـ ومناقبه؛ فهو من علماء الصحابة، ومن سادات المسلمين في الدنيا والآخرة الذين عرفوا بالعبادة والشجاعة والسخاء ...، وابن بنت أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، والتي هي أفضل بناته، وما وقع من قتله فأمر منكر شنيع محزن لكل مسلم، وقد انتقم الله ـ عز وجل ـ من قتلته فأهانهم في الدنيا وجعلهم عبرة، فأصابتهم العاهات والفتن، وقلَّ من نجا منهم.
والذي ينبغي عند ذكر مصيبة الحسين وأمثالها هو الصبر والرضى بقضاء الله وقدره، وأنه ـ تعالى ـ يختار لعبده ما هو خير، ثم احتساب أجرها عند الله ـ تعالى ـ.(/3)
ولكن لا يحسن أبداً ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي يُلحَظُ التصنع والتكلف في أكثره، وقد كان أبوه عليٌّ أفضل منه وقُتل، ولم يتخذوا موته مأتماً، وقتل عثمان وعمر ومات أبو بكر ـ رضي الله عنهم ـ، وكلهم أفضل منه .. ومات سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولم يقع في يوم موته ما هو حاصل في مقتل الحسين. وليس اتخاذ المآتم من دين المسلمين أصلاً، بل هو أشبه بفعل أهل الجاهلية(43).
قال ابن رجب عن يوم عاشوراء: "وأما اتخاذه مأتماً كما تفعله الرافضة؛ لأجل قتل الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ فيه .. فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً، فكيف بمن دونهم؟"(44).
ولقد كانت بعض تصرفات الرافضة في مآتمهم موضع انتقاد من بعض علمائهم، مع إصرار الجميع على المآتم والحزن.
ففي مقابلة مع أحد مراجعهم(45) سئل: "هناك أيضاً قضية عاشوراء التي لا تحبذها؟" فأجاب: "عاشوراء لا بد أن تتحرك مع الخط العاطفي، ولكن لا أوافق على الاحتفال بعاشوراء بطريقة ضرب الرؤوس بالسيوف، وجلد الأجساد بالسلاسل الحديدية، وأنا قد حرمت هذا". ثم طالب بأساليب للتعبير عن العاطفة أكثر (عصرية)، وذكر منها استخدام المسرح، حتى يكون لعاشوراء امتداد في العالم!(46).
والملاحظ أن مآتم الرافضة في عاشوراء لم ترتبط بأصل إسلامي من قريب أو بعيد؛ إذ لا علاقة لها بنجاة موسى \، ولا بصيام النبي صلى الله عليه وسلم، بل الواقع أنهم حولوا المناسبة إلى اتجاه آخر، وهذا من جنس تبديل دين الله ـ عز وجل ـ.
خامسًا: وقفات وفوائد:
1- حين يعظم الكفار بعض الشعائر:
تقدم في حديث عائشة الصحيح أن قريشاً كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية، وعنها قالت: كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان، وكان يوماً تُسْتَرُ فيه الكعبة ..."(47)، وقد قيل في سبب صيامهم أنهم أذنبوا ذنباً فعظم في صدورهم،فقيل لهم: صوموا عاشوراء(48)، وقيل: أصابهم قحط، ثم رفع عنهم، فصاموه شكراً(49)،و"لعلهم تلقوه من الشرع السالف، ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة، وغير ذلك"(50).
وأياً كان الحامل لهم على ذلك فإنه ليس غريباً بقاء أثارة من تدين عند الكفرة والمشركين، وهذا ـ غالباً ـ هو حال المبدلين شرع الله. ولكن وجود شيء من ذلك لا يعني استحسان حالهم العامة بإطلاق مع بقائهم على الشرك والكفر؛ لأن ميزان التفضيل هو التزام الدين قلباً وقالباً عن رضىً وقبول ـ كما أراده الله ـ، لا تجزئة الدين والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض، ولا التعلق بمجرد شعائر خالية من اليقين والإيمان الخالص الذي هو دليل الشكر الصادق، وسبب التكفير والمغفرة ـ لمن سعى لذلك ـ.
يقول الله ـ عز وجل ـ: ((مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ ولَمْ يَخْشَ إلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ)) [التوبة: 17، 18].
وهكذا الحال بالنسبة لبعض المنتسبين لهذه الأمة في التزامهم بعض شعائر الإسلام وتركهم كثيراً منها؛ فذلك شبه باليهود الذين أنكر الله عليهم بقوله: ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ العَذَابِ ومَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) [البقرة: 85]. كحال من يكتفي من الإسلام بصيام رمضان، أو الإحسان إلى الناس مثلاً، مع فساد المعتقد، أو إهمال الصلوات، أو الركون إلى الكفرة وتوليهم.
2 - مخالفة أهل الكتاب من أعظم مقاصد الشريعة(51):
مخالفة الكفار من أبرز مظاهر تحقيق البراء من الكافرين الذي لا يتم الإيمان إلا به، وقد شدد الشارع على المتشبهين بهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"(52)، وقد ذكر ابن تيمية أن هذا أقل أحواله التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم(53).
وفي ترك إفراد عاشوراء بالصوم درس عظيم، فإنه مع فضل صوم ذلك اليوم، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على صومه، وكونه كفارة سنة ماضية .. إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمخالفة اليهود فيه، وعزم على ضم التاسع إليه، فوقعت المخالفة في صفة ذلك العمل، مع أن صوم عاشوراء مشروع في الشريعتين، أو أنه مشروع لنا وهم يفعلونه، فكيف بما كان دون ذلك من المباح أو المحرم وما كان من شعائر دينهم؟! لا شك أن في ذلك من المفاسد ما لا يظهر أكثره لأكثر الخلق(54).(/4)
أما اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على صوم عاشوراء أولاً فقد كان قبل أن يؤمر بمخالفة أهل الكتاب، وقد كان قبل ذلك يحب موافقتهم فيما لم يؤمر فيه بشيء(55)، واحتمل أن يكون صومه "استئلافاً لليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، وعلى كل حال فلم يصمه اقتداءاً بهم؛ فإنه كان يصومه قبل ذلك"(56).
والإسلام منهج وسط في الاتباع، حاديه دائماً الحق المجرد؛ ففعل المشركين لِحَقٍّ لا يسوِّغ ترك هذا الحق بدعوى مخالفتهم، كما أن فعلهم لباطل لا يسوِّغ متابعتهم فيه بدعوى موافقتهم لتأليف قلوبهم، وعليه: تنتفي الدوافع المتوهمة للإعجاب بحال أي مبطل أو متابعته في باطله أو ترك حق لأنه فعله؛ إذ مقياس قبول الأحوال توافقها مع الشرع، وميزان المخالفة ما كان من خصائص مِلَّتهم وشعائر دينهم، وبين هذا وهذا درجات لا مجال لتفصيلها.
3 - حقيقة الانتماء:
علَّل اليهود صيامهم عاشوراء بمتابعتهم موسى \ حين صامه شكراً لله على إنجائه له من فرعون. وهاهنا أمران:
أولهما: هل يكفي صيامهم عاشوراء برهاناً للمتابعة وسبباً للأولوية بموسى \؟
وثانيهما: هل وقع لهم ما أرادوا من موافقة عاشر المحرم (عاشوراء) فعلاً؟
أما الأول: فلا يكفي صومهم عاشوراء أن يقوم دليلاً لكونهم أوْلى بموسى \؟ أبداً؛ إذ الحكم في ذلك بحسب تمام المتابعة والتزام المنهج، قال الله ـ عز وجل ـ: ((إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهَذَا النَّبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا واللَّهُ ولِيُّ المُؤْمِنِينَ)) [آل عمران: 68].
ولذا كان نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم وأتباعه أوْلى بنبي الله موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الأمة الغضبية، فقال: "نحن أحق وأوْلى بموسى منكم"(57).
وهكذا تتوحد المشاعر، وترتبط القلوب مع طول العهد الزماني، والتباعد المكاني، فيكون المؤمنون حزباً واحداً هو حزب الله ـ عز وجل ـ؛ فهم أمة واحدة، من وراء الأجيال والقرون، ومن وراء المكان والأوطان .. لا يحول دون الانتماء إليها أصل الإنسان أو لونه أو لغته أو طبقته .. إنما هو شرط واحد لا يتبدل، وهو تحقيق الإيمان، فإذا ما وجد كان صاحبه هو الأوْلى والأحق بالولاية دون القريب ممن افتقد الشرط؛ ولذا استحقت هذه الأمة ولاية موسى دون اليهود المغضوب عليهم. ((إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)) [الأنبياء: 29].
وأما الثاني: ـ وهو: هل وافقوا صيام عاشوراء فعلاً؟ ـ فقد ذكر بعض أهل العلم(58) أن حساب اليهود كان بالسنة الشمسية، والمحرم شهر هلالي لا شمسي، وهذا يوقع الشك في إصابة اليهود يوم عاشوراء، أما المسلمون فحسابهم بالأشهر الهلالية فأصابوا تعيين عاشوراء، وإذا ظهر خطأ اليهود تبينت أولوية المسلمين من هذا الوجه أيضاً.
ويشبه هذا ضلال أهل الكتاب عن يوم الجمعة، فاختار اليهود السبت، واختار النصارى الأحد، وهُدي المسلمون ليوم الجمعة.
4 - عبادة الله أبلغ الشكر:
كانت نجاة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقومه من فرعون.. منَّة كبرى أعقبها موسى \ بصيام ذلك اليوم، فكان بذلك ـ وغيره من العبادات ـ شاكرًا لله ـ تعالى ـ؛ إذ العمل الصالح شكر لله كبير، قال ربنا ـ عز وجل ـ: ((\اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)) [سبأ: 31]، وأساس الشكر مبني على خمس قواعد: الخضوع للمنعم، وحبه، والاعتراف بنعمته، والثناء عليه بها، وألا تصرف النعمة فيما يكرهه المنعم(59). "والبشر مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن الوفاء، فكيف إذا قصّروا وغفلوا عن الشكر من الأساس"؟!(60).
ويجب التنبه إلى أن أمر العبادة قائم على الاتباع، فلا يجوز إحداث عبادات لم تشرع، كما لا يجوز تخصيص عاشوراء ولا غيره من الأزمان الفاضلة بعبادات لم ينص عليها الشارع في ذلك الزمن. أما الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فعباداتهم شرع معصوم مبني على وحي الله ـ عز وجل ـ إليهم.
ثم اقتفاء آثار الأنبياء وتحقيق الاهتداء بهديهم والاجتهاد في تطبيق سنتهم هو الشكر بعينه.
5 - في التعويد على الخير تثبيت عليه:
بلغ بالصحابة الحرص على تعويد صغارهم الصيام أن احتالوا عليهم في تمرينهم عليه حتى يُتِمُّوه، فصنعوا لهم اللعب يتلهون بها عن طلب الطعام، ـ كما تقدم في حديث الربيِّع ـ؛ وذلك لكون تعويد الصغير على فعل الخير مكمن قوة في استقامته عليه في الكبر؛ لأنه يصير هيئة راسخة في نفسه تعسر زعزعتها.. واليوم لدينا من وسائل التلهية المباحة بقدر ما لدينا من أصناف الطعام وأشكاله، وإذا اقتنع المربي بواجبه التربوي لم تُعْيِه الحيلة؛ فإن الحاجة تفتق الحيلة(61).
==========
الهوامش:
(1) رواه مسلم، ح/ 1163. (2) البخاري، ح/2004، ومسلم، ح/11330، واللفظ له .
(3) فتح الباري: 4/291 . (4) رواه مسلم، ح: 1162 .
(5) رواه البزار، انظر: مختصر زوائد البزار 1/407، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: 1/422 .(/5)