إذن فالتوبة الصادقة ثمرتها المغفرة وتكفير السيئات ، كما أن الصدق في أداء الأعمال الصالحة والإكثار من الحسنات يؤدي إلى محو السيئات وتكفيرها كما قال تعالى : (( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ )) [ هود:114]
9 – الهداية للحق دلالة وانقيادا : يقول الله عز وجل : (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )) [ العنكبوت:69 ] ، فمن هذه الآية نفهم أثر الصدق في مجاهدة النفس ابتغاء مرضاة الله عز وجل بفعل الطاعات والجهاد في سبيل الله سبحانه ، وأن ثمرة ذلك الهداية للطريق المستقيم في الدنيا والآخرة والتوفيق لمعرفة الحق واتباعه والانقياد له .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية (( لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )) : (( أي لنبصرنهم سبلنا ، أي طرقنا في الدنيا والآخرة . قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، أخبرنا عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكا في قول الله تعالى : (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )) قال : الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا
يعلمون . قال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه ، وقال :ليس ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر ، فإذا سمعه في الأثر عمل به ، وحمد الله حتى وافق ما في قلبه )) اهـ .
ويقول العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى : (( وكلما كثرت الطاعات وتراكمت الأنوار حتى يصير المطيع إلى درجات العارفين الأبرار (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )) ، وهذا مما يعرفه المطيعون المخلصون ، فإذا خلت الأعمال عن الإخلاص لم يزدد العاملون إلا ظلمة في القلوب ، لأنهم عاصون بترك الإخلاص ، وإبطال ما أفسده الرياء والتصنع من الأعمال )) .
ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى : (( فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة . فإلهام مثل هذا دليل في حقه ، وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة ، والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذاهب والخلاف والفقه .
وقد قال عمر بن الخطاب : اقربوا من أفواه المطيعين ، واسمعوا ما يقولون ؛ فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة . وحديث مكحول المرفوع (( ما أخلص عبد العبادة لله أربعين يوما إلا أجرى الله الحكمة على قلبه وأنطق بها لسانه )) ، وفي رواية : (( إلا ظهرت ينابيع الحكمة من على لسانه )) .
وقال أبو سليمان الداراني : إن القلوب إذا اجتمعت على التقوى جالت في الملكوت ورجعت إلى أصحابها بطرف الفوائد من غير أن يؤدي إليها عالم علما .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الصلاة نور ؛ والصدقة برهان ؛ والصبر ضياء )) . ومن معه نور وبرهان وضياء كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها ؟ ولا سيما الأحاديث النبوية ؛ فإنه يعرف ذلك معرفة تامة ؛ لأنه قاصد العمل بها ؛ فتتساعد في حقه هذه الأشياء مع الامتثال ومحبة الله ورسوله ، حتى أن المحب يعرف من فحوى كلام محبوبه مراده منه تلويحا لا تصريحا .
والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها إنارة العقل مكشوف بطوع هوى وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا وفي الحديث الصحيح : (( ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها )) ، ومن كان توفيق الله له كذلك فكيف لا يكون ذا بصيرة نافذة ونفس فعالة ؟ وإذا كان الإثم والبر في صدور الخلق له تردد وجولان ؛ فكيف حال من الله سمعه وبصره وهو في قلبه ؟ وقد قال ابن مسعود : (( الإثم حواز القلوب )) ، وقد قدمنا أن الكذب ريبة والصدق طمأنينة ، فالحديث الصدق تطمئن إليه النفس ، ويطمئن إليه القلب )) .(/106)
وقال أيضا رحمه الله تعالى : (( وإذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت ؛ بخلاف القلب الخراب المظلم ، قال حذيفة بن اليمان : إن في قلب المؤمن سراجا يزهر . وفي الحديث الصحيح : (( إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر ، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ )) ، فدل على أن المؤمن يتبين له مالا يتبين لغيره ؛ ولا سيما في الفتن ، وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله ؛ فإن الدجال أكذب خلق الله ، مع أن الله يجري على يديه أمورا هائلة ومخاريق مزلزلة ، حتى أن من رآه افتتن به ، فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له ؛ وعرف حقائقها من بواطلها ، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف ، وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم ؛ ولهذا قال بعض السلف في قوله : (( نُورٌ عَلَى نُورٍ )) [ النور: 35 ] قال : هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر ، فإذا سمع فيها بالأثر كان نورا على نور .
فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن ؛ فالإلهام القلبي تارة يكون من جنس القول والعلم ؛ والظن أن هذا القول كذب ؛ وأن هذا العمل باطل ؛ وهذا أرجح من هذا ؛ أو هذا أصوب )) اهـ .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية والإضلال ، فيقوم بالقلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه والمؤثر لأثره ، وكذلك الضلال . فأعمال البر تثمر الهدى وكلما ازداد منها ازداد هدى ، وأعمال الفجور بالضد ، وذلك أن الله سبحانه يحب أعمال البر فيجازي عليها الهدى والفلاح ، ويبغض الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء )) .
وقال أيضا في قوله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ )) [ يونس: 9 ] : (( فهداهم أولا للإيمان فلما آمنوا هداهم للإيمان هداية بعد هداية ، ونظير هذا قوله : (( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً)) [ مريم: 76 ] ، وقوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً )) [ الأنفال: 29 ] ، ومن الفرقان ما يعطيهم من النور الذي يفرقون به بين الحق والباطل ، والنصر والعز الذي يتمكنون به من إقامة الحق وكسر الباطل )) اهـ .
ويقول رحمه الله تعالى في موطن آخر : (( كلما قرب القلب من الله زالت عنه معارضات السوء ، وكان نور كشفه للحق أتم وأقوى ، وكلما بعد عن الله كثرت عليه المعارضات ، وضعف نور كشفه للصواب ؛ فإن العلم نور يقذفه الله في القلب ، ويفرق به العبد بين الخطأ والصواب .
وقال مالك للشافعي رضي الله عنهما في أول ما لقيه : إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية ، وقد قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً )) ، ومن الفرقان النور الذي يفرق به العبد بين الحق والباطل ، وكلما كان قلبه أقرب إلى الله كان فرقانه أتم ، وبالله التوفيق )) اهـ .
والحاصل من كل ما سبق أن الصدق مع الله سبحانه وتقواه كل هذا يثمر توفيق الله عز وجل للعبد إلى الحق والصواب ، وبخاصة إذا التبست الأمور وحارت العقول وكثرت الفتن كما هو الحال في زماننا هذا . فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه يا أرحم الراحمين .
10 – الزهد في الدنيا والتزود للآخرة :
(( إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل )) فالإيمان الصادق بالله عز وجل وباليوم الآخر لابد أن يثمر العمل الصالح ، والاستعداد للرحيل والإكثار من الزاد ليوم المعاد . وهذا بدوره يحمل على الحذر من كل ما يشغل عن هذه الغاية العظمى من فتن الدنيا المختلفة ؛ فيزهد في ذلك كله ويجعلها في يده لا في قلبه ، وقد مر بنا في
علامات الصدق الحديث المروي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل عن شرح الصدر في قوله تعالى : (( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلام ))
[ الأنعام: 125] ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح )) ، قيل فهل لذلك إمارة ؟ قال : (( نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت )) .
وقد فصلت القول في مبحث ( علامات الصدق ) حول هذه المسألة وذلك ببعض النقولات عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ؛ فليرجع إليها هناك حيث لاداعي لتكرارها .
11 – حسن الخاتمة :(/107)
وهذه خاتمة المسك في ثمار الصدق فما أعظمها من ثمرة وما أشرفها من غاية ، فهي التي شمر إليها المشمرون ، وهي التي أقضت مضاجع الصالحين وأوجلت قلوب العارفين . فما هو السبيل إليها ؟ إن أعظم سبيل إليها هو الصدق مع الله سبحانه في الإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، والذي يثمر بدوره الأعمال الصالحة المنبثقة من العبودية الحقة لله عز وجل .
إن الصدق وتحريه طريق إلى مرتبة الصديقية والخاتمة الحسنة الموصلة لركب الصديقين ، وهذا هو ما يفهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( وما يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا )) ، وهذا يفيد حسن خاتمة من صدق وتحرى الصدق ؛ لأن الله عز وجل يكتبه عنده صديقا ، ولا يكون هذه المرتبة إلا لمن علم اله حسن خاتمته وأنه سيموت على الإيمان الحق . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة )) . فما هو السر في حسن خاتمة من ختم كلامه بكلمة التوحيد ؟
يجيب عن ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى جوابا عظيم الفائدة له علاقة بالصدق في كلمة التوحيد وأثر ذلك في حسن الخاتمة فيقول : (( لشهادة أن لا إله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها ؛ لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها ، وقد ماتت منه
الشهوات ، ولانت نفسه المتمردة ، وانقادت بعد إبائها واستعصائها ، وأقبلت بعد إعراضها ، وذلت بعد عزها ، وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها ، واستسلمت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق ، وأذل ما كانت له ، وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته ، وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب
الشرك وتحقق بطلانه ، فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها ، واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه ، فوجه العبد وجهه بكليته إليه وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه ، فاستسلم وحده ظاهرا وباطنا ، واستوى سره وعلانيته ؛ فقال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه ، وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه ، قد خرجت الدنيا كلها من قلبه ، وشارف القدوم على ربه ، وخمدت نيران شهوته ، وامتلأ قلبه من الآخرة فصارت نصب عينيه وصارت الدنيا وراء ظهره ؛ فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه ؛ لنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها ، فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها وفر إلى الله من الناس وأنس به دون ما سواه ، لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأسبابها ، ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله ، فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي ، والله المستعان )) اهـ .
* * *
الخاتمة
لا يسعني في نهاية هذا البحث وقبل ختمه إلا أن أفضي ببعض الخواطر التي جالت في الذهن أثناء كتابة الموضوع ، وما هي إلا هموم وأشجان أبثها في صورة نصائح أخص بها نفسي بادئ ذي بدء ن ثم أبعثها بعد ذلك إلى من يهمهم أمر هذا الدين من علماء وطلبة علم ودعاة ومجاهدين ومربين وإعلاميين ، ومن يملكون الكلمة في هذه الأمة كل في موقعه ، فأقول وبالله
التوفيق :
1 – إلى علماء الأمة وطلبة العلم فيها : أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به ربنا عز وجل عباده المؤمنين : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) .
يا علماء الأمة : هذه وصية الله إليكم فاقبلوها ، واصدقوا مع ربكم فيما أنعم به عليكم من العلم ، وأروا الأمة من أنفسكم خيرا بالعمل بما تعلمون .
واصدقوا مع عباد الله عز وجل في تعليمهم الخير وتحذيرهم من الشر ؛ فإن الله سبحانه سائلكم عن علمكم فيما عملتم به .
يا علماءنا الأجلاء : يا من تعقد عليهم الأمة أملها بعد الله سبحانه في إنقاذها مما هي من جهل ومحن وبلاء (( اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) وإن من لوازم الصدق مع الله سبحانه ومع عباده المؤمنين الحذر الشديد من الدنيا وزينتها ومناصبها وزخرفها ، فلا أضر على العالم منها ؛ ولذا كان سلفنا الصالح يحذرونها أشد الحذر فبارك الله في علمهم وعملهم وأصلح الله بهم ما فسد .(/108)
وأسوق بهذه المناسبة كلاما مفيدا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أذكر فيه علمائي الأفاضل وإخواني طلاب العلم بخطر الدنيا وضرورة الحذر الشديد منها ، ولا شك أنه معلوم للجميع ، ولا يساق التمر إلى هجر . . ولكن من باب الذكرى والذكرى تنفع المؤمنين : يقول رحمه الله تعالى : (( كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه وفي خبره وإلزامه ؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على أغراض الناس ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات ؛ فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا ، فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع
ما يضاده من الحق ، ولا سيما إذا قامت له شبهة ، فتتفتق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق ، وإن كان الحق ظاهرا لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته وقال : لي مخرج بالتوبة .
وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى : (( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)) [مريم:59 ]
وقال تعالى فيهم أيضا : (( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى
وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ))
[الأعراف:169]
فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا : سيغفر لنا ، وإن عرض لهم عرض آخر أخذوه فهم مصرون على ذلك ، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق ، فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه ، وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه ،خلاف ذلك ،أولا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه ، فتارة يقولون على الله مالا يعلمون ، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه .
وهؤلاء لابد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل ، فيجتمع لهم الأمران ، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب فلا يميز بين السنة والبدعة ، أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة .
فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات ، وهذه الآيات فيهم إلى قوله : (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) [ الأعراف:175- 176] .
فهذا مثل عالم السوء الذي عمل بخلاف علمه )) .
وقد ذكر الآجري رحمه الله تعالى كلاما يجدر بكل عالم وطالب علم أن يقرأه وذلك في كتابه القيم أخلاق العلماء ، أقتطف منه المناسب للمقام هنا في التحذير من الدنيا وفتنة السلاطين فيقول : (( أخبرنا عمر بن أيوب السقطي أخبرنا الحسن بن حماد الكوفي أخبرنا أبو أسامة عن عيسى بن سنان قال : سمعت وهب بن منبه يقول لعطاء الخراساني : كان العلماء قبلنا استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم ، فكانوا لا يلتفتون إلى دنياهم ، فكان أهل الدنيا يبذلون لهم دنياهم رغبة في علمهم ، فأصبح أهل العلم منا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في دنياهم ، فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم .
فإياك وأبواب السلاطين ؛ فإن عند أبوابهم فتنا كمبارك الإبل ، لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك مثله .
قال محمد بن الحسين الآجري : فإذا كان يخاف على العلماء في ذلك الزمان أن تفتنهم الدنيا فما ظنك به في زماننا هذا ؟ والله المستعان ما أعظم ما قد حل بالعلماء من الفتن وهم عنه غفلة )) .
يا علماء الأمة في كل مكان : هكذا خوف سلفنا الصالح وحذرهم الشديد من الدنيا ومن تبعة العلم وحمله الثقيل . فالله الله في أمتكم ودينكم .. اصدقوا مع ربكم في تعليم الأمة دينها ، واصدقوا مع ربكم في قول الحق وإبطال الباطل ، ولا تتركوا الأمة في حيرتها وضلالها .(/109)
أيها العلماء الأجلاء : إن أمتنا الإسلامية تمر في هذا الزمان بساعات رهيبة ومحن عظيمة ونوازل شديدة ، وهي تنتظر كلمتكم وإرشادها بالنور الذي تحملونه لتسير به في دياجير الظلمة التي تعيشها في هذا الزمان .. بالله عليكم لا تتركوها في حيرتها ، ولا تسلموها لأعداء الملة من الكافرين والمنافقين يسيرونها وفق أهوائهم ويكيدون لها كيدا . وأنتم بارك الله فيكم تعلمون ذلك كله و أن الله سبحانه سائلكم عن علمكم فيما عملتم به فـ (( لاتَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) .
يا علماءنا الكرام ، ويا من نعقد عليهم الآمال بعد الله سبحانه : إن الأمة تنتظر كلمتكم في قضايا كبيرة تصدعون فيها بالحق ، وتبلغونها الموقف الشرعي فهذا أملنا فيكم وظننا بكم . وأملنا في الله عز وجل أن تلتحم صفوف المصلحين في هذه الأمة من علمائها ودعاتها ومجاهديها ليكونوا يدا واحدة في الإصلاح ومحاربة الفساد ورد شبه المفسدين في نحورهم ،
وعندئذ يزهق باطلهم ويرد كيدهم في نحورهم (( بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) [الروم:5]
وأخيرا: أرجوا من علمائنا الأجلاء أن يقبلوا هذه المناصحات ، ولو صدرت من العبد الفقير والابن الصغير ؛ فالحق يؤخذ من كل أحد .
ولكم في سيرة الإمام أحمد رحمه الله تعالى قدوة حيث استفاد في محنته من أعرابي عامي ، فقد ذكر الذهبي في السير (( عن أحمد بن أبي الحواري : حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، قال : قال أحمد بن حنبل : ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق قال : يا أحمد ، إن يقتلك الحق مت شهيدا ، وإن عشت عشت حميدا . فقوي قلبي )) .
2 – إلى دعاة الأمة ومجاهديها :
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله سبحانه عباده المؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) .
* وإن من لوازم الصدق ومقتضياته أن تكون الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله لأجل الله عز وجل وابتغاء مرضاته ، فلا تكون لأجل مال أو منصب أو جاه أو كسب شهرة أو التعصب لشيخ أو حزب أو طائفة ؛ لأن كل ذلك ذاهب وضائع وممحوق البركة في الدنيا والآخرة ، فحري بنا أن نحاسب أنفسنا ونحن في طريق الدعوة والجهاد ف سبيل الله . ما مدى
صدقنا في دعوتنا إلى الله سبحانه ؟ وهل هي خالصة لله وحده أم يشوبها ما يشوبها من أغراض الدنيا الفانية ؟
* وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يبادر الداعية إلى تصديق قوله وما يدعو إليه بفعله ، وأن لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، أو يرغب في فعل ولا ينوي القيام به ، أو أن يظهر للناس حرقة وغيرة على هذا الدين ، والأمر لا يتعدى اللسان والكلام حيث القلب مشحون بأمر الدنيا وشهواتها وغارق في وديانها .
إن كل ذلك مما ينافي الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل .
* وإن من لوازم الصدق أيضا في الدعوة إلى الله عز وجل سلامة قلب الداعية من الغل والحسد على إخوانه الآخرين من الدعاة ، وغنما يكن المحبة لكل مصلح يدعو إلى الخير ويتعاون معه في طاعة الله عز وجل ولا يحتقر جهده مهما قل . ولا تراه إلا حريصا وساعيا إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف ؛ فالداعية الصادق يكره الفرقة والاختلاف إذا لم يكن في أصول الدين وكلياته ، والدعاة الصادقون يرحم بعضهم بعضا ويرفق بعضهم ببعض ويتناصحون بينهم .
* كما أن الصدق مع الله سبحانه في الدعوة والجهاد يفرض على السلم أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه ويجاهد من أجله ، وهذا يلزم التفقه في الدين والبصيرة فيه بما قال الله عز وجل وقال رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفهمه الصحابة الكرام ? .
* وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه الحذر من كيد الأعداء المتربصين بهذا الدين وأهله من الكافرين والمنافقين ، وخاصة في زماننا هذا والذي تنوعت فيه أساليب المكر والخبث ، فحري بالداعية الصادق أن يتفطن لدسائس الأعداء ودجلهم ونفاقهم ولو ألبسوا ذلك كله لبوس الحكمة والمصلحة ودرء الفتن .
إن التنازل اليسير من الداعية إلى الله سبحانه لا يقف عند حد بل يتبعه تنازلات وتنازلات ؛ لأن أعداء هذا الدين لا يكتفون بالقليل من الداعية ، وقد حذر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - من هذا الخطر فقال : (( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ )) [ القلم: 8-9 ] ، وقال تعالى : (( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً )) [ الانسان:24]
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى :(/110)
(( والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى - صلى الله عليه وسلم - .. هي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله فهو صاحبها ، وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار . فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم ، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق ، والقائمين على الباطل .
فهما منهجان مختلفان .. وطريقان لا يلتقيان . فأما حين يغلبه الباطل بقوته وجمعه ، على قلة المؤمنين وضعفهم ، لحكمة يراها الله .. فالصبر حتى يأتي الله بحكمه ، والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح وهي الزاد المضمون لهذا الطريق .. إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق .. فالمحاولات كثيرة تلك التي حاولها المشركون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المساومة بالدعوة ، ولكن الله عصم منها رسوله ، وهي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما . محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلا عن استقامة الدعوة وصلابتها . ويرضوا بالحل الوسط الذي يغرونهم به في مقابل مغانم كثيرة .
ومن جملة الدعاة من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كليا . إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق .
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة . فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ، ولو بالتنازل عن جانب منها ..ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق ..وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء ولو يسير . وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل لا يملك أن يقف ، عندما سلم به أول مرة . لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء .والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها . فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر ، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل ، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان . فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر )).
* ومن لوازم الصدق في الدعوة أن يحذر الداعية من الكذب على إخوانه المسلمين والدعاة المصلحين ، ومن ذلك إشاعة الأخبار قبل التحقق من صحتها واستخدام الأساليب الملتوية والمراواغات بحجة السياسة والمصلحة ، كل هذا لا يتفق وصدق الداعية وسلامة قلبه .
* ومن لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يعتني كل منا بنفسه بالوسائل الشرعية للتربية ، وذلك في وسط بيئة صالحة معروفة بصحة الفهم وحسن القصد يتربى معها ، ويعد نفسه للتضحية في سبيل الله عز وجل وبذلالمال والنفس في ذلك ، وأن يوطن نفسه لابتلاءات الطريق ومشاقه ، والتي هي سنة من سنن الله عز وجل لتمحيص الصفوف ، قال تعالى : (( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )) [ العنكبوت: 1- 3 ] ؛
فلا يتبين الصادق في دعوته من الكاذب إلا بالابتلاء . نسأل الله عز وجل العافية والصبر عند البلاء .
إن الداعية الذي يهمل نفسه فلا يربيها ويعدها للبيع لله عز وجل يوشك أن ينهزم وتخذله نفسه أول هزة وأول اختبار ، مع أنه يحسب نفسه غير ذلك مما يعيشه – في حال الرخاء والأمن – من الحماس العاطفي والكلام الذي لا يجاوز التراقي .
يقول سيد رحمه الله تعالى : (( إن العقيدة وطريقها لشاقة بعيدة تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة . إن تكليف العقيدة هو جهد خطر ، تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب الخاوية . ولكنه الأفق العالي الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبيئة المهزولة . قال تعالى : (( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ )) [ التوبة: 42]
وأنني بهذه المناسبة أوصي نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين أن لا نتكلم في أمر أو نقدم على موقف من مواقف الدعوة حتى تتوفر فيه الشروط التالية :
1- الاطمئنان التام أنه الحق الذي يحبه الله تعالى ، وإعداد النفس لتحمل تبعاته .
2- الاطمئنان التام على أن القيام في هذا الأمر هو لله سبحانه وحده وابتغاء مرضاته .
3- الاستعانة بالله وحده في تحقيق هذا الأمر والثبات عليه ؛ إذ لا قدرة للعبد لحظة واحدة بدون عون الله وتوفيقه .
وإن عدم الالتفات للشروط السابقة هو الذي يوقعنا في عدم إتمام الأمر أو التخاذل وعدم الجدية في أخذه .(/111)
إن السبب في مثل هذه المواقف – والعلم عند الله سبحانه – هو أن أحد الشروط السابقة أو أكثر قد تخلف ، فإما أن الأمر الذي أقدم عليه لم يكن مقتنعا أنه الحق الذي يرضي الله ، أو أنه كان مقتنعا بأنه الحق لكن قومته لم تكن لله ، أو أ، استعانته بالله سبحانه في الدخول في هذا الأمر كانت ضعيفة ، أو أنه لم يوطن نفسه ويهيئها لتبعات كلمة الحق وإنما الأمر كلام فحسب .
إذن يا إخواني الدعاة : إن الأمر جد ليس بالهزل .
فإذا كنا بهذه الحالة في أمر يسير ، فكيف الحال بما هو أشد وأقسى ؟ !
نسأل الله عز وجل العون والثبات ، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد .
3 – إلى المربين في هذه الأمة :
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى الله سبحانه به عباده المؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) .
أيها المربون من آباء وأمهات ومعلمين وموجهين إن المسؤولية عظيمة والأمانة جسيمة .
وإن الصدق مع الله عز وجل يستلزم أن تكونوا قدوات صالحة لمن ولاكم الله تربيته وتعليمه ن فمعلوم أثر القدوة في التربية وأنها تفعل مالا يفعله كثير من وسائل التربية الأخرى ، وإن الصدق في الإيمان باللع عز وجل والالتزام بأخلاق هذا الدين العظيم والدعوة إلى الله سبحانه ، كل ذلك له أثره العظيم في تربية الأجيال وتعريفهم برسالة أمتهم التي ينتمون إليها والعقيدة التي يجتمعون عليها .
إن التربية لها معنى أوسع من التعليم وتلقين المعلومات ؛ فالتربية هي الجهد الذي يبذله المربون في كل مجتمع من آباء ومعلمين وغيرهم في إنشاء الأجيال القادمة على أساس العقيدة التي يؤمنون بها ، ومنحهم الفرصة الكافية لتشرب معاني الدين والتضحية من أجله والاعتزاز به بين الأمم .
فالأمة الجادة هي التي تربي أبناءها طبقا للعقيدة التي تدين بها لله تعالى وتسعى لنشرها بين الأمم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تعالى ، وهذه مهمة المربين في هذه الأمة فما أثقلها من تبعة وما أشرفها من رسالة .
* ومن لوازم الصدق أيها المربون الكرام أن تصدقوا مع من ولاكم الله تربيتهم وتعليمهم ؛ وذلك بتعليمهم الخير وربطهم بأبطال هذه الأمة ورعيلها الكرام ، وتحذيرهم من الشر وأهله وتبصيرهم بسبيل المجرمين وأفكارهم الخبيثة وتفنيدها والتحذير منها .
* ومن لوازم الصدق في التربية إعداد المناهج الكريمة المستمدة من
الكتاب والسنة وفهم الصحابة وفقه الواقع الذي تعيشه الأمة ، فعلى المسؤولين عن مناهج التعليم في المجتمعات المسلمة أمانة عظيمة وتبعة ثقيلة فليصدقوا مع الله عز وجل في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبنائها ، فلا يختاروا إلا ما فيه الخير والإصلاح وتنشئة الأجيال على العقيدة العظيمة لهذا الدين وأخلاقه السامقة . وأن يردوا ويسقطوا كل ما من شأنه إفساد العقيدة والأخلاق والأفكار والهمم ؛ فنحن أمة ذات رسالة عظيمة خالدة ينبغي للناشئة أن يدركوا رسالة أمتهم وأنها خير أمة أخرجت للناس ؛ لتنقذهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
أيها المربون من آباء ومعلمين : إن الله سبحانه سائلكم عما استرعاكم فأعدوا للسؤال جوابا (( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )) [ البقرة: 281] ، وتذكروا أثر العمل الطيب والسنة الحسنة حين تسري في هذه الأمة وينتشر الخير بسببها وتنالون أجر ذلك من كل من تأثر به ، والعكس من ذلك والعياذ بالله تذكروا أثر العمل السيئ والسنة السيئة حين تسري في أبناء الأمة
ويتربون عليها فتنالون وزر ذلك ووزر من تأثر به نعيذكم بالله من هذا المآل .
وهذا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ))
* ومن لوازم الصدق في التربية : أن يربط الأبناء والطلاب في حياتهم بالأهداف العالية النبيلة ولا يربطون بالتوافه من الأمور والأهداف الهابطة ؛ لأن النظرة السائدة اليوم في أكثر بيوت المسلمين ومدارسهم أن طلب العلم قد ربط بالمصلحة الدنيوية ,انه وسيلة للعيش ، ولا يوجد في جو المنزل أو جو المدرسة – إلا من رحم الله – من يقول للمتربي : إن لك أمة تنتظرك ، وإن لك دورا ينتظرك في الدعوة إلى التوحيد وهداية الناس بإذن الله تعالى والجهاد
في سبيله والذود عن حمى الأمة وعقيدتها .
إن هذا النوع من التربية قليل ، فعلى المربين الصادقين مع ربهم سبحانه أن يحيوا هذه المعاني عند إخوانهم المربين ، ويصبغوا بها المناهج المعدة لذلك ، وينشروها في صفوف أبنائهم وطلابهم حتى يخرج جيل قوي متماسك يشعر بانتمائه لهذا الدين ويشعر بمسؤوليته ؛ ليتولى هو بدوره إكمال الطريق وتربية الأجيال التي تأتي بعد ذلك .(/112)
* وبقيت كلمة أخيرة أوصي بها نفسي وأخواني الآباء ، ألا وهي الصدق مع الله سبحانه في جعل البيت محضنا من محاضن التربية الكريمة للأبناء والبنات والإخوان والأخوات والزوجات ؛ وذلك بعمارته بذكر الله عز وجل ووجود القدوات الصالحة وتطهيره من أسباب الرجس والفساد فـ (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن راعيته )) . إن العجب كل العجب من أناس أنعم الله عليهم بنعمة الأموال والأولاد ،ثم هم يخربون بيوتهم بأيديهم ويلقون بأنفسهم وأهليهم إلى النار ، والله تعالى يقول : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )) [ التحريم: 6 ] .
إن أحدنا لو رأى ابنه أو بنته أو أخاه أو أخته أو زوجته يتعرض أحدهم لهلاك في الدنيا بحريق أو غرق أو سقوط من عل لهبَّ مسرعا لإنقاذه ، وإن لم يكن قريبا منه صاح به محذرا من السقوط في المهلكة .
وإن الله سبحانه يحذرنا من نار تلظى لا تأتي نار الدنيا عندها إلا جزءا من سبعين جزءا منها ، ومع ذلك لا يتحرك الكثير منا في إنقاذ نفسه وأهله منها (( قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ )) [التوبة: 81] ، والأعجب من ذلك أن ترى بعض الظالمين لأنفسهم وأهليهم يجلب النار بنفسه ليحرق بها بيته وأهله ؛ فامتلأت أكثر بيوت المسلمين بأجهزة الفساد من أغان هابطة وأفلام ماجنة ومجلات عارية وقصص سافلة .
فهذه والله هي الخيانة وتضييع الأمانة ، وهذا والله مما ينافي الصدق مع الله سبحانه في أداء الأمانة ورعاية العهود . وما يدري المسكين أنه لو مات على هذه الحالة فإنه يموت غاشا لمن استرعاه الله من رعيته ؛ لأنه بهذه الحالة يصدق عليه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من عبد يسترعيه الله رعية ، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة )) .
ثم ألا يشعر هذا الظالم لنفسه ولرعيته أن وزر ما جلبه لبيته من آلات اللهو والفساد يبقى يتابعه ويحمله على ظهره في قبره ويوم القيامة لرب العالمين ، وذلك بقدر ما أفسدت هذه الأمور في نفوس أبنائه وأهله من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا . ألا فلنع خطورة هذا الأمر وأنه جد عظيم ، وأنه خيانة لله ورسوله : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) [ الأنفال:27 ] .
أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من الصادقين الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً )) [ الفرقان:74 ] .
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد .
4 – إلى الإعلاميين في هذه الأمة : أوصي نفسي وإياكم بما أوصى الله سبحانه به عباده المؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) [ التوبة:119 ] .
أيها المؤمنون من إعلاميي هذه الأمة : إني أخاطب فيكم عقيدتكم الإسلامية التي تحملونها بين جوانحكم والتي تحدد هويتكم بين بني البشر وترفع رؤوسكم بين بني الإنسان ، وأخاطب فيكم غيرتكم الإسلامية ومروءتكم العربية وأخلاقكم العريقة التي تميز المسلم عن غيره ، وأخاطب
فيكم الأمانة العظيمة التي حملكم الله إياها من خلال مسؤولياتكم الخطيرة التي أنتم فيها ، وأخاطب فيكم المسؤولية التي أناطتها الأمة بكم لتربوا أبناءها على الإيمان الصادق والعفة والطهارة والعزة والكرامة .
أيها الإعلاميون المؤتمنون على عقيدة الأمة وأخلاقها : اصدقوا مع ربكم سبحانه في الوفاء له بما عهد إليكم (( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً )) [ الاسراء:34 ] ، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [ الأنفال:27 ] ، (( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ )) [ النحل:91 ] .(/113)
واصدقوا مع أمتكم المسلمة التي أمنتكم على دينها وأعراضها وعقولها وأفكارها ؛ فلا تخونوا أمتكم وكونوا عند حسن ظنها بكم . إن إعلام أية أمة يعبر عن عقيدتها وهويتها ، وإذا أردنا أخذ صورة سريعة عن أي أمة أو مجتمع فلننظر إلى إذاعتها وتلفازها وصحفها وما ينشر فيها ؛ فإن ذلك يدلنا على ما يقوم عليه المجتمع من عقيدة وأخلاق . إن لكل أمة هوية ، فأين هويتنا الإسلامية في إعلامنا ؟! إن الإسلام ليس كلمة فحسب ، وليس عقيدة مستترة في القلب فحسب ، بل الإسلام هو الاستسلام لله عز وجل وحده في جميع شئون الحياة . قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )) [ البقرة:208 ] ، وقال سبحانه : (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )) [ الأنعام:163]
هذا هو الإسلام الذي جاء من عند الله عز وجل ، وإن الناظر في إعلام المجتمعات المسلمة اليوم ليأخذه الدوار والعجب وهو يرى التناقض الخطير والفصام النكد بين الهوية الإسلامية للقائمين عليه وبين ما يفرزه للمجتمع ويبرى عليه الأمة من قلب للحقائق ، وترويض للنفوس على النفاق والكذب وتشرب الفساد والرذائل ، وقتل لمعاني العقيدة الشاملة المستلزمة للإذعان
التام لله سبحانه في كافة أحوال العبد وكافة شؤون المجتمع .
فماذا يعني هذا التناقض وهذه الازدواجية ؟ إنه يعني أحد أمرين :
1 ـ غما أن يكون هناك جهل بحقيقة هذا الدين ويظن انه بالإمكان أن يكون المرء مسلماً بقلبه ولسانه فقط ثم يفعل بعد ذلك ما يشاء ويعمل ما يحلو له أن يعمل ما دام انه ينطق بالشهادتين والهوية التي يحملها هي الإسلام !! وهذه عقيدة المرجئة التي أفسدت في الأرض ودخل من خلالها العلمانيون الذين يفصلون الدين عن الحياة ويجعلونها عقيدة مستكنة في الضمير وبين جدران المساجد فحسب !!
2 ـ أو أن حقيقة الدين ومفهومه الواسع واضحة في أذهان القوم ولكنهم آثروا الحياة الدنيا ومناصبها وزخرفها على مرضاة الله سبحانه والدار الآخرة ؛ فاشتروا الحياة الدنيا الخسيسة بالدار الآخرة الباقية ، فما أشد خسارتهم وأكسد تجارتهم . ألا ذلك هو الخسران المبين .
وسواء كان الأمر الأول أو الثاني فإني أناشد كل إعلامي ينتسب إلى هذه الأمة المسلمة وقد ابتلاه الله عز وجل بمسؤولية ما في هذا المضمار ؛ أناشده بأن يصدق مع ربه سبحانه وأن يعد للموقف الرهيب بين يدي الله عز وجل عدته ؛ فإن الله سائله عن هذه الأمانة . نعم إن الله سيسأله عن أديان الناس وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم ماذا فعل بها من خلال مسؤوليته . نعم ليتذكر الموقف العصيب الذي سيقف فيه عاريا من كل شيء ، عاري الجسد وعاري الضمير وعاري التاريخ سيقف فردا ليس معه رئيسه ولا مرءوسه ولا والده ولا ولده (( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )) [عبس:34- 37 ] .
فماذا سيكون الجواب ؟ نعم ماذا سيكون جوابك إذا حاكمتك الأمة بأسرها على ما قدمت لها من كلمة مسموعة أو مرئية أو مقروءة كانت سببا في إضلال أبنائها ؟! أناشدك بما معك من الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا تفغل عن هذا اليوم الرهيب ، فوالله إنه لقريب
(( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ . يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)) [ الشورى:17- 18] .
وبعد هذا ما يسر الله سبحانه كتابته حول هذا الموضوع عسى الله أن ينفع به كاتبه وقارئه في الدنيا والآخرة ، وأطلب من الأخوان الذي يتفضلون بقراءة هذا البحث أن لا ينسوني من نصائحهم وتوجيهاتهم جزى الله الجميع خيرا .
(( فيا أيها القارئ والناظر فيه ، هذه بضاعة صاحبها المزجاة يسوقها إليك ، وهذا فهمه وعقله معروض بين عليك لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه ، ولك ثمرته وعليه عائدته ، فإن عدم منك دعاء ، فلا يعدم منك عذرا ، وإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح ، وقد : قد استأثر الله بالثناء وبالـ الحمد وولى الملامة الرجلا ))
(( وما كان في هذا البحث من حق وصواب فمن الله تعالى هو المان به فإن التوفيق بيده ، وما كان فيه من زلل فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله منه براء )) .
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ؛ أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم . اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة ، واجعلها لوجهك خالصة ، ولا تجعل لأحد فيها شيئا .(/114)
اللهم اهدنا صراطك المستقيم ؛ صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
***(/115)
وقفات حول الآية الكريمة والسابقون السابقون أولئك المقرّبون ) ... ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. أخوتي الكرام .. هذه وقفات أحب أن نقفها معاً حول الآية الكريمة:
قال الله تعالى : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّات النَّعِيم ).سورة الواقعة (آية 12)
من تفسير السعدي رحمه الله :
{ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } أي : السابقون في الدنيا إلى الخيرات، هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات . أولئك الذين هذا وصفهم، المقربون عند الله، في جنات النعيم، في أعلى عليين، في المنازل العاليات، التي لا منزلة فوقها .
.......
وشرح الشيخ بن باز رحمه الله . في إحدى فتاويه عندما شرح (حقيقة الإخلاص ) فقال :
والإحسان : هو أن تعبد الله كأنك تراه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وأهل هذه المرتبة هم السابقون المقربون المذكورون في قوله سبحانه في سورة الواقعة : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ الآية ، وبالله التوفيق .
..........
وفي شرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :: حول صفات المتقين المقرّبين : فقال :
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول اللّه تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته، ولابد له منه ) .
وهذا الحديث قد بين فيه أولياء اللّه المقتصدين، أصحاب اليمين والمقربين السابقين .
فالصنف الأول : الذين تقربوا إلى اللّه بالفرائض .
والصنف الثاني : الذي تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، وهم الذين لم يزالوا يتقربون إليه بالنوافل حتى أحبهم، كما قال تعالى .
وهذان الصنفان قد ذكرهم اللّه في غير موضع من كتابه كما قال : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } [ فاطر : 32 ] .
وكما قال اللّه تعالى : { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } [ المطففين : 22-28 ] .
قال ابن عباس : يشرب /بها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين مزجًا .
وقال تعالى : { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا } [ الإنسان : 17، 18 ] .
وقال تعالى : { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } [ الواقعة : 8-11 ].
وقال تعالى : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } [ الواقعة : 88-91 ] .
............
من مختصر بن كثير رحمه الله :
قوله تعالى : { وكنتم أزواجاً ثلاثة } أي ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف : قوم عن يمين العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، وهم جمهور أهل الجنة، وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال وهم عامة أهل النار، وطائفة سابقون بين يديه عزَّ وجلَّ وهم أحظى وأقرب من أصحاب اليمين، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهم أقل عدداً من أصحاب اليمين، لهذا قال تعالى :
{ فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة * والسابقون السابقون } ، وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم،
وهكذا ذكرهم في قوله تعالى : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه } الآية وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه، قال ابن عباس { وكنتم أزواجاً ثلاثة } قال : هي التي في سورة الملائكة { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } الآية .
وقال يزيد الرقاشي : سألت ابن عباس عن قوله : { وكنتم أزواجاً ثلاثة } قال : أصنافاً ثلاثة.(/1)
وقال مجاهد : { وكنتم أزواجاً ثلاثة } يعني فرقاً ثلاثة.
وقال ميمون بن مهران : أفواجاً ثلاثة، اثنان في الجنة وواحد في النار.
قال مجاهد : { والسابقون السابقون } هم الأنبياء عليهم السلام.
وقال السدي : هم أهل عليين.
وقال ابن سيرين { والسابقون السابقون } الذين صلوا إلى القبلتين.
وقال الحسن وقتادة : { والسابقون السابقون } أي من كل أمة.
وقال الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة، أنه قرأ هذه الآية { والسابقون السابقون أولئك المقربون } ثم قال : أولهم رواحاً إلى المسجد، وأولهم خروجاً في سبيل اللّه، وهذه الأقوال كلها صحيحة، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات، كما أمروا، كما قال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض } .
وقال تعالى : { سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } ، فمن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة، فإن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تُدان، ولهذا قال تعالى : { أولئك المقربون في جنات النعيم } .
وقال ابن أبي حاتم، قالت الملائكة : يا رب جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون، فاجعل لنا الآخرة، فقال : لا أفعل، فراجعوا ثلاثاً، فقال : لا أجعل من خلقت بيدي، كمن قلت له كن فكان؛ ثم قرأ عبد اللّه : { والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم } " رواه ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن عمرو موقوفاً " .
.....
وذكر القرطبي رحمه الله في كتاب: الجامع لأحكام القرآن فقال :
{ السابقون } ، فأصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة.
..........
وذكر ابن القيم رحمه الله -- في كتابه حادي الأرواح :
فقال : والسابقون السابقون واختلف في تقريرها على ثلاثة أقوال :
أحدها :أنه من باب التوكيد اللفظي ويكون الخبر قوله أولئك المقربون .
والثاني: أن يكون السابقون الأول مبتدأ والثاني خبر له على حد قولك زيد زيد اي الذي سمعت به هو زيد كما قال
أنا أبو النجم وشعري شعري وكقول الأخر : إذ الناس ناس والزمان زمان قال ابن عطية: وهذا قول سيبويه .
والثالث : أن يكون الأول غير الثاني ويكون المعنى السابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون يوم القيامة إلى الجنات والسابقون إلى الإيمان هم السابقون إلى الجنان وهذا اظهر والله أعلم.
فإن قيل فما تقول في الحديث الذي رواه الأمام أحمد والترمذي وصححه من حديث بريدة بن الحصيب قال أصبح رسول الله فدعا بلال فقال يا بلال بم سبقتني إلى الجنة فما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي ودخلت البارحة فسمعت خشخشتك امامي ..
فأتيت على قصر مريع مشرف من ذهب فقلت لمن هذا القصر قالوا لرجل من أمة محمد قلت أنا محمد لمن هذا القصر قالوا لعمر أبن الخطاب فقال بلال يا رسول الله ما أذنت قط إلا وصليت ركعتين وما أصابني حدث قط إلا توضأت عندها ورأيت أن لله على ركعتين فقال رسول الله فبذلك قيل نتلقاه بالقبول والتصديق ولا يدل على أن أحدا يسبق رسول الله فبذلك قيل نتلقاه بالقبول والتصديق ولا يدل على أن أحدا يسبق رسول الله إلى الجنة.
وأما تقدم بلال بين يدي رسول الله في الجنة فلأن بلالا كان يدعوا إلى الله أولا بالأذان فيتقدم أذانه بين يدي النبي فتقدم دخوله بين يديه كالحاجب والخادم وقد روى في حديث أن النبي يبعث يوم القيامة وبلال بين يديه ينادي بالأذان فتقدمه بين يديه كرامة لرسوله وأطهارا لشرفه وفضله لا سبقا من بلال بل هذا السبق من جنس سبقه إلى الوضوء ودخول المسجد ونحوه والله أعلم. ... ...(/2)
وقفات في الحجاب وأصول الاعتقاد
1 / 4
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد.
فلم يعد خافيًا على أحدٍ ما تشهدهُ مجتمعات المسلمين اليوم، من حملةٍ محمومةٍ من الذين يتبعون الشهوات على حجاب المرأة وحيائها، وقرارها في بيتها، حيثُ ضاق عطنهم، وأخرجوا مكنونهم، ونفذوا كثيرًا من مخططاتهم في كثيرٍ من مجتمعات المسلمين، وذلك في غفلةِ وقلة إنكارٍ من أهل العلم والصالحين، فأصبح الكثير من هذه المجتمعات تعجُّ بالسفور والاختلاط والفساد المستطير، الأمر الذي أفسد الأعراض والأخلاق.
وبقيت بقيةٌ من بلدان المسلمين لا زال فيها والحمد لله يقظة من أهل العلم، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، حالت بين دعاة السفور وبين كثيرٍ مما يرومون، وهذه سنةُ الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل، والمدافعة بين المصلحين والمفسدين.
ومن كيد المفسدين في مثل المجتمعات المحافظة، ووجود أهل العلم والغيرة، أنهم لا يجاهرون بنواياهم الفاسدة، ولكنَّهم يتسترون وراء الدين، ويُلبسون باطلهم بالحق واتباع ما تشابه منه، وهذا شأنُ أهل الزيغ، كما وصفهم الله عز وجل في قوله : (( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ )) (آل عمران: 7) .
وهُم أولُ من يعلم أن فساد أي مجتمع إنما يبدأ بإفساد المرأة واختلاطها بالرجال، ولو تأملنا في التاريخ، لوجدنا أن أوَّلَ ما دخل الفساد على كثير من الأمم، فإنما هو من باب الفتنة بالنساء،
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : (( ما تركت بعدي فتنةً هي أضر على الرجال من النساء )) [1]
وهذه حقيقة لا يمُاري فيها أحد، ومللُ الكُفر أوَّلُ من يعرف هذه الحقيقة، حيث إنَّهم من باب الفتنة بالنساء، دخلوا على كثير من مجتمعات المسلمين وأفسدوها، وحققوا أهدافهم البعيدة، وتبعهم في ذلك المهزومون من بني جلدتنا، ممن رضعوا من لبان الغرب وأفكاره ، ولكن لأنهم يعيشون في بيئة مسلمة، ولا زال لأهل العلم والغيرة حضورهم، فإنهم ـ كما سبق بيان ذلك ـ لا يتجرؤون بطرح مطالبهم التغريبيةِ بشكلٍ صريح، لعلمهم بطبيعة.
تدين الناس ورفضهم لأطروحاتهم وخوفهم من الافتضاح بين الناس، ولذلك دأبوا على اتباع المتشابهات من الشرع، وإخراج مطالبهم في قوالب إسلامية، وما فتئوا يُلبسون الحق بالباطل.
ومن هذه الطروحات التي أجلبوا عليها في الآونةِ الأخيرة، مطالبتهم في مجتمعاتٍ محافظة بكشف المرأة عن وجهها، وإخراجها من بيتها، معتمدين بزعمهم على أدلةٍ شرعية، وأقوالٍ لبعضِ العلماء في ذلك.
ولنا في مناقشةِ هؤلاءِ القوم المطالبين بكشف وجه المرأة المسلمة أمام الأجانب، واختلاطها بهم في مجتمعٍ محافظ، لا يعرف نساؤهُ إلا الحجاب الكامل، والبعد عن الأجانب، لنا في ذلك عدة وقفات :
الوقفة الأولى : (( إنَّ هناك فرقًا في تناول قضية الحجاب، وهل يدخلُ في ذلك الوجه أم لا ؟ بين أن يقع اختلاف بين العلماءَ المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحري الأدلة، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ، بين مضاعفةِ الأجر مع الشكر، وبين الأجرِ الواحد مع العذر، وبين من يتتبعُ الزلات، ويتحكمُ بالتشهي، ويرجِّحُ بالهوى، لأنَّ وراء الأكمةِ ما وراءها، فيُؤولُ حالهُ إلى الفسق ورقة الدين، ونقص العبودية وضعف الاستسلام، لشرع الله عز وجل.
وهُناك فرقٌ بين تلك الفتاوى المحلولة العقال، المبنيةِ على التجرئ لا على التحري، والتي يصدرها قومٌ لا خلاق لهم من الصحفيين، ومن أسموهم المفكرين، تعجُّ منهم الحقوقُ إلى الله عجيبًا، وتضجُّ منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجًا، يفرقون من تغطية الوجه لا لأنَّ البحث العلمي المجرد أدَّاهم إلى أنه مكروه، أو جائز، أو بدعة كما يرجفون ، ولكن لأنَّهُ يشمئزُّ منه متبوعيهم من كفار الشرق والغرب، فا للهمَّ باعد بين نسائنا وبناتنا وأخواتنا وبينهم كما باعدت بين المشرق والمغرب )) [2] .
ولك أن تُقدر شدَّة مكرِ القوم الذين يريدون من جانبهم أن يتبعوا التمدن الغربي، ثم يبررون فعلهم هذا بقواعد النظام الإسلامي الاجتماعي.
ولقد أُوتيت المرأة من الرخصة في النظام الإسلامي أن تبدي وجهها وكفيها، وما دعت إليه الحاجة أو الضرورة في بعض الأحوال، وأن تخرج من بيتها لحاجتها، ولكن هؤلاءِ يجعلون هذا نقطة البدء، وبداية المسير، ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب الحياء والاحتشام، فلا يقفُ الأمرُ بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين، بل يجاوزه إلى تعريةِ الشعر والذراع والنحر، إلى آخر هذه الهيئات القبيحة المعروفة، وهي الهيأة التي لا تخصُّ بها المرأة الأزواج والأخوات والمحارم فقط، بل يخرجن بكلِّ تبرجٍ من بيوتهن، ويمشين في الأسواق، ويخالطن الرجال في الجامعات ، ويأتين الفنادق والمسارح، ويتبسطن مع الرجال الأجانب.(/1)
ثم يأتي القوم فيحملون رخصةَ الإسلام للمرأة، في الخروج من البيت للحاجة، وهي الرخصة المشروطة بالتستر والتعفف، على أنَّها يحل لها أن تغدو وتروح في الطرقات، وتتردد إلى المنتزهات والملاعب والسينما في أبهى زينة، وأفتنها للناظرين، ثم يُتَّخَذُ إذن الإسلام لها في ممارسة أمورٍ غير الشؤون المنزلية ـ ذلك الإذن المقيد المشروط بأحوال خاصة ـ يتخذُ حجةً ودليلاً على أن تودِّع المرأة المسلمة جميع تبعات الحياة المنزلية، وتدخلُ في النشاط السياسي والاقتصادي والعمراني تمامًا، وحذو القُذَّة بالقذة، كما فعلت الإفرنجية.
وها هو ذا المودودي ـ رحمه الله ـ يصرخُ في وجوه هؤلاءِ الأحرار في سياستهم، العبيد في عقليتهم قائلاً : (( ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يُستخرج منهُ جواز هذا النمط المبتذل من الحياة؟ وإنَّكم ـ يا إخوان التجدد: إن شاءَ أحدكم أن يتبعَ غير سبيل الإسلام فهلا يجترئُ ويصرِّحُ بأنَّهُ يريدُ أن يبغي على الإسلام؟ ويتفلَّت من شرائعه؟ وهلا يربأ بنفسه عن هذا النفاق الذميم والخيانة الوقحة، التي تزيِّن له أن يتبع علناً ذلك النظام الاجتماعي ، وذلك النمطِ من الحياة الذي يحرِّمه الإسلام شكلاً وموضوعًا، ثم يخطو الخطوةَ الأولى في هذا السبيل، باسم اتباع القرآن، كي ينخدع به الناس ، فيحسبوا أنَّ خطواته التالية موافقةً للقرآن ))[3] أهـ.
_______________________
[1] البخاري في النكاح ( 5096 ) ، مسلم في الذكر ( 2740 ) .
[2] انظر عودة الحجاب 3 / 437 .
[3] انظر مقدمة عودة الحجاب للدكتور محمد إسماعيل المقدم 1 / ص22 ، 23
باختصار وتصرف يسير .
الوقفة الثانية
وهي نتيجة للوقفة الأولى، وذلك بأن ينظرَ إلى قضية الحجاب اليوم، وما يدورُ بينها وبين السفور من معارك، إلى أنَّها لم تُعد قضيةً فرعية ومسألةً خلافية فيها الراجح والمرجوح بين أهل العلم، ولكنَّها باتت قضيةً عقدية مصيرية، ترتبط بالإذعان والاستسلام لشرع الله عز وجل، في كلِّ صغيرة وكبيرة، وعدم فصلها عن شئونِ الحياة كلها، لأنَّ ذلك هو مقتضى الرضى بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا.
إن التشنيعَ على تغطيةِ المرأة لوجهها، والتهالك على خروجها من بيتها، واختلاطها بالرجال، ليست اليوم مسألة فقهية فرعية، ولكنَّها مسألة خطيرةً لها ما بعدها، لأنها تقومُ عند المنادين بذلك على فصل الدين عن حياة الناس، وعلى تغريب المجتمع، وكونها الخطوة الأولى أو كما يحلو لهم أن يعبروا عنها بالطلقة الأولى.
وإنَّ لنا في جعلِ قضية الحجابِ اليوم قضيةً أصوليةً كلية، مع أن محلها كتب الفروع، إنَّ لنا في ذلك أسوة في سلف الأمة، حيث صنفوا بعض المسائل الفرعية مع أصول الاعتقاد، لمَّا رأوا أنَّ أهل البدع يشنعون على أهل السنة فيها، ويفاصلون عليها؛ من ذلك ما ذكره الإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية، بقوله عن أهل السنة والجماعة : (( ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر )).
وعلَّق شارحُ الطحاوية على ذلك بقوله : (( وتواترت السنةُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسح على الخفين، وبغسل الرجلين، والرافضة تُخالفُ هذه السنة المتواترة )) [1] .
ومعلومٌ أنَّ المسحَ على الخفين من المسائل الفقهية، ولكن لأنَّ أهل البدع أنكروه وشنعوا على مخالفيهم فيه، نص العلماء عليه في عقائدهم.
إذاً فلا لومَ على من يجعل قضية الحجاب اليوم قضيةً أُصولية مصيرية، وذلك لتشنيعِ مبتدعةِ زماننا ومنا فقيهم عليه، ولحملتهم المحمومة لنزعه، وجرِّ المرأة بعد ذلك لما هو أفسد وأشنع من ذلك، وأنَّها لم تُعد مسألةً فقهية يتناقشُ فيها أهلُ العلم المتجردون لمعرفة الراجح فيها، وجوانب الحاجة والضرورة فيه.
الوقفة الثالثة :
لو أنَّ المنادين اليومَ بكشف وجهِ المرأة أمام غير المحارم، وكانوا في مجتمعٍ يعجُّ بالسفور والتعري الفاضح لأحسنا الظنَّ بهم، وقلنا : لعلَّ قصدهم ارتكاب أهون المفسدتين، والتدرج بالنساء في ردهنَّ إلى الحجاب الشرعي والحياءِ والحشمة شيئًا فشيئًا، حيثُ إنَّ المرأة التي تكشف وجهها وكفيها فقط في مجتمعٍ متعرٍّ متفسخ، هي بلا شك أحسنُ حالاً ودينًا ممن تتعدى ذلك إلى كشف ما هو أشد وأشنع.(/2)
أما وإنَّ الذين يُنادون اليومَ بنزع الحجاب عن الوجه، إنما يُوجِّهون نداءهم إلى مجتمعات محافظة، لم يعرف نساؤهُ إلاَّ الحشمة والحياء، وتغطيةَ الوجهِ والبعد عن الرجال الأجانب، فإنَّ هذا مما يثيرُ العجب، ويحيرُ العقل، ويضعُ استفهاماتٍ كثيرة على مطالبهم تلك، فماذا يريدون من ذلك؟ وماذا عليهم لو بقيت نساؤُهم وبناتهم وأخواتهم ونساءَ المسلمين على هذه الحشمة والعفة والحياء؟ ماذا يضيرهم في ذلك؟ ألا يشكرون الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة؟ ألا يعتبرون بما يرونه في المجتمعات المختلطة المتبرجة، حيث ضاعت قوامة الرجل وظهرَ الفساد، وهُتكت الأعراض ؟!إنَّ زماننا اليوم زمن العجائب، وإلاَّ فعلام يشرقُ قومنا بالفضيلة والطُهر والعفاف.
________
[1] شرح الطحاوية : ص 386 .
الوقفة الرابعة :
ليس المقصود في هذه الوقفات حشدَ الأدلةِ الموجبة لستر وجه المرأة وكفيها عن الرجال الأجانب، ووجوب الابتعاد عنهم؛ فهي كثيرة وصحيحة وصريحة والحمد لله، ويمكن الرجوع إليها في فتاوى ورسائل أهل العلم الراسخين، كرسالة (الحجاب) للشيخ ابن عثيمين- رحمه الله تعالى، وكتاب (عودة الحجاب) القسم الثالث للدكتور محمد بن إسماعيل المقدم- حفظه الله- الذي توسع في هذا الموضوع، وردَّ على شبهات المخالفين، وإنَّما المقصود في هذه المقالة ما ذُكر سابقًا في الوقفات الثلاث، من فضح نوايا المنادين بكشفِ الوجهِ والاختلاط بالرجال، وأنَّ وراءَ ذلك خطوات وخطوات من الفساد والإفساد.
ومع ذلك يحسنُ بنا في هذه الوقفة، أن نشيرَ إلى أن علماءَ الأمة في القديم والحديث - من أجاز منهم كشف الوجه ومن لم يجزه ـ كلهم متفقون ومجمعون على وجوب ستر وجه المرأة وكفيها، إذا وجدت الفتنة وقامت أسبابها، فبربكم أيُّ فتنة هي أشدُّ من فتنة النساء في هذا الزمان، حيث بلغت وسائل الفتنةِ والإغراء بهن، مبلغًا لم يشهده تاريخ البشرية من قبل، وحيث تفنن شياطين الإنس في عرضِ المرأة بصورها المثيرة في كلِّ شيء، في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وأخرجوها من بيتها بوسائل الدعاية والمكر والخداع.
فمن قال بعد ذلك : إنَّ كشف المرأة عن وجهها أو شيء من جسدها لا يثير الفتنة، فهو والله مغالطٌ مكابر، لا يوافقهُ في ذلك من له مسكت من دينٍ أو عقل أو مروءة.
وبعد التأكيد على أنَّ أهل العلم قاطبةً متفقون على وجوب تغطية الوجه إذا وجدت الفتنة، يتبين لنا أنَّ خلافهم في ذلك كان محصورًا فيما إذا أمنت الفتنة، ومع ذلك فتجدر الإشارة أيضًا إلى أنَّ هذا القدر من الخلاف بقي خلافًا نظريًّا إلى حَدٍّ بعيد، حيثُ ظل احتجاب النساء هو الأصل في الهيئة الاجتماعية، خلال مراحل التاريخ الإسلامي، وفيما يلي نُقُول عن بعض الأئمة تؤكد أنَّ التزام الحجاب كان أحد معالم »سبيل المؤمنين« في شتى العصور :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- : ((كانت سنة المؤمنين في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الحرة تحتجب، والأمة تبرز )) [1] أهـ.
وقال الإمام أبو حامد الغزالي- رحمه الله تعالى- (( لم يزل الرجال على مرِّ الزمان مكشوفي الوجوه، والنساء يخرجنَّ متنقبات )) [2] .
وقد يتعلق دعاة السفور أيضًا ببعض الحالات التي أذن الشارع للمرأة فيها بكشف وجهها لغير محارمها، كرؤيةِ الخاطب لمخطوبته، وعند التداوي إذا عدمت الطبيبة بشرط عدم الخلوة، وعند الشهادة أمام القاضي ونحوها، وهذا كله من يُسر الشريعة، وسماحة الإسلام، حيث رُخِّص للمرأة إذا اقتضت المصلحة الراجحة والحاجة الماسة، أن تكشف عن وجهها في مثل هذه الأحوال، وليس في هذا أدنى متعلقٌ لدعاة السفور، لأنَّ الأصل هو الحجاب الكامل، وهذه رخصٌ تزول إذا زالت الحاجة إليها.
____________
[1] - تفسير سورة النور : ص 65 .
[2] - إحياء علوم الدين 4 / 729 .(/3)
وقفات في تعاقب السنين
د.عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين (*) 5/1/1425
25/02/2004
ها نحن أولاء نودع عامًا هجريًّا بعد انقضائه، ونستقبل عامًا جديدًا..
بل إن هذا العام الخامس في بداية عِقْدٍ جديدٍ من تاريخ المسلمين، بعد أن شارفوا منتصف العقد الثالث (رُبْعَ قَرْنِ) من هذا القرن (الخامس عشر الهجري).
فالمسافر حين يجتاز مرحلة طويلة من الطريق فيحط الرحال، ويقف ليستريح، فيتلفت وراءه ليرى كم قطع؟ وينظر أمامه ليبصر كم بقي؟.
والتاجر تنتهي سنته؛ فيقيم موازينه ويحسب غلته، ليعلم ماذا ربح؟وماذا خسر؟".(1)
أينقضي عام ويدخل عام، وتمر الأيام والأعوام.. دون أن نقف عليها ساعة نستفيق من غفلتنا ونفكر ونعتبر؟
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) فما أحرانا أيها الإخوة الكرام أن نكون أشد حرصًا على أعمارنا وأوقاتنا من التجار والصناع وغيرهم . قال الإمام الحسن البصري-رحمه الله-: "أدركت أقوامًا كان أحدُهم أشحَ على عمره منه على درهمه". (2)
وفيما يلي أقف بعض الوقفات في تعاقب الأعوام والسنين :
1ـ التأريخ الهجري نقطة مضيئة في حياة الأمة :
أجمع الصحابة في عهد عمر بن الخطاب على اختيار التاريخ بهجرة النبي، لما في ذلك الحدث العظيم من نصر وتمكين وقيام دولة الإسلام في مدينة رسول الله ، وقد جرى على ذلك سلف الأمة، ولا يصح استعمال التاريخ الميلادي أو ما أشبهه استقلالاً، فالتاريخ الهجري مرتبطة به عبادات عديدة، كما أن له تاريخًا وثيقًا بتاريخ الأمة وهويتها.
2ـ معادلة معكوسة :
ينقضي العام فنظن أننا عشناه وزدنا عامًا، وفي الحقيقة قد فقدناه ونقصنا عامًا من أعمارنا، وربما يعجب من هذا الكلام ! وهو حق، قال الحسن البصري -رحمه الله-: "يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذَهَبَ يوم ذَهَبَ بعضك". (3)
فكل عام يمضي من أعمارنا نقترب به من الموت، ونهاية المطاف أشبه بالموظف الذي يأخذ إجازة ثلاثين يومًا، إذا قضى فيها عشرة أيام، يكون قد خسر منها عشرة أيام فصارت عشرين يومًا، فإذا انقضت الإجازة فكأنها لم تكن. (4)
3-الحذر من التسويف والتأجيل :
من الأمراض الاجتماعية الشائعة في مجتمعاتنا كثرة تأجيل الأعمال والتسويف في أدائها، حتى تمر الأيام والسنون الطويلة ولم نفعل شيئًا، ونحن لا ينقصنا العلم، بل ينقصنا الشروع في العمل بما نعلم .
وما أجمل الحكمة المشهورة : "لا تؤجل عمل اليوم إلى غد" . ومع ذلك كله فكثير من الناس يُسوفون ويُؤجلون، ويقولون سوف نعمل كذا، وسوف نتوب! وجاء عن بعض السلف : (أنذرتكم سوْفَ).
وأضرب لذلك مثالاً؛ تبدأ الدراسة فيقول الطالب : أذاكر غدًا -إن شاء الله-، ثم يأتي الغد فيقول بعد غد.. وهكذا يؤجل من يوم إلى يوم، ومن أسبوع إلى آخر حتى إذا اقترب موعد الامتحان، وأصبح أمامه وهو لم يذاكر؛ ندم أشد الندم على ما فات في تسويفه وتفريطه، ولات حين مناص.
وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوصي ألا يؤخر عمل اليوم إلى غد، خشية أن تجتمع الأعمال الكثيرة، فتضيع الواجبات. (5)
وكان عمر بن عبد العزيز-رحمه الله- حريصًا على أداء الواجبات والأعمال وعدم تأجيلها، وذات يوم قال لَهُ أحد أبنائه: لو أخرَّتَ عمل هذا اليوم إلى غد فاسترحت؛ فقال : قد أجهدَنا عمل يوم واحد، فما بالك بعمل يومين مجتمعين .
وقال الشاعر :
إن أنت لم تزرع وأبصرت حاصدًا ... ...
ندمت على التفريط في زمن البذر
4ـ استدراك ما يفوت من العمل واستغلال مواسم الخير :
كثير من الناس يُبذرون في أوقاتِهم، والوقتُ سريعُ الانقضاء، فلا نجدهُ حتى نفقدهُ، ولا يكادُ يبدأُ حتى ينقضي، فلا يعودُ أبدًا.
وإِنْ فات عملُ الخير في النهار؛ فالليلُ خلفة منه قال تعالى : (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا)، وكان من عمل النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا غلبه عن قيام الليل من نوم أو وجع، صَلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة . بمعنى أنه يُصليها في الضحى، أي يستدرك بالنهار ما فاته من الليل، وفي الحديث الصحيح قوله عليه الصلاة والسلام: "من نَامَ عن حزبِهِ، أو عن شيءٍ منه، فَقَرَأَهُ فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتِبَ لَهُ كأنَّمَا قَرَأَهُ من الليل"(6). وقال تعالى : (وجعلنا الليل والنهار آيتين فَمَحَونا آيَةَ الليل وَجَعلنَا آيَةَ النهَار مُبْصِرَةً لِتَبتغوا فَضلاً من ربكم ولتعلموا عَدَدَ السنينَ والحسابَ وَكُلَّ شَيءٍ فصلناه تفصيلاً). وكذلك استغلال مواسم الخيرات: استغلال شهر رمضان بالصيام والقيام، وصيام شهر الله المحرم، لا سيما عاشوراء، وصيام ست من شوال، وعشر ذي الحجة، وكذلك قيام الليل والإنفاق والبر والجود وسائر الطاعات.(7)
5ـ لا يأتي عامٌ إلا والذي يليه شرٌ منه.(/1)
بوب البخاري -رحمه الله- باب "لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه"، وذكر فيه حديث أنس: "لا يأتي زمان إلا والذي بعده أشرُّ منه حتى تلقوا ربكم" (8)،(9). قال ابن بطال : "هذا الخبر من أعلام النبوة لإخباره صلى الله عليه وسلم بفساد الأحوال، وذلك من الغيب الذي لا يُعلم بالرأي وإنما يُعلم بالوحي" (10). والمقصود لا يأتي زمان إلا والذي بعده أَشَرُّ، مثل كثرة الفتن وابتعاد الناس عن معين الشريعة وانغماسهم في المعاصي كلما مرت السنون والأعوام، وهذا من حيث الأعم .
ويقول عبد الله بن مسعود معلقًا على حديث "لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة": "لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالاً يفيده، ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علمًا من اليوم الذي مضى قبله؛ فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر فعند ذلك يهلكون". ومن طريق مسروق عن الشعبي -رحمهما الله- قال: "وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها، ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يُفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه".(11)
ومصداق ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : "إنَّ الله لا يقبضُ العلم انتزاعًا ينتزعُهُ من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناسُ رُؤوسًا جُهالاً فسُئلوا؛ فأفْتَوا بغير علم، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا" (12).
ففي الأعوام المنقضية القريبة فقدنا كوكبة من العلماء والفضلاء والدعاة، يتصدرهم : سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ مناع القطان، والشيخ عطية محمد سالم، والشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني، والشيخ أبو الحسن الندوي، والشيخ سيد سابق، والشيخ محمد بن صالح العثيمين وغيرهم..-رحم الله الجميع-، وإن أمة منها هؤلاء لأمة خيرٍ وَهُدى، وفي رحيلهم تبعات ومسؤوليات، وعبر وآيات، وما يعقلها إلا العالمون.
6ـ الحياة قصيرة وإن طالت في نظرنا :
الكل منا يعلم أن الحياةَ الدنيا لها أشكال كثيرة وألوان عديدة، ويريد أن يعب من لذائذها الكثير، ويستمتع بشهواتها، ويحرص على الاستمتاع بلحظاتها، لكن حياتنا الدنيوية متعتها زائلة، وشهواتها رخيصة مهما بذل الإنسان في أثمانها، وساعاتها قصيرة مهما طالت، وكل منا سيلقى حتفه وهلاكه ولو بعد حين .
قال مطرف بن عبد الله -رحمه الله-: "إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم فالتمسوا نعيمًا لا موت فيه" (13)، ولا ندري من يعيش يومًا آخر أَوْ عامًا جديدًا؛ بل لو تأملنا أعمارنا على اختلاف فيما بيننا لوجدنا أن عمرنا المنصرم سواءً أكان أربعين سنة أم ثلاثين أم عشرين.. أشبه بدقائق مرت مرور الكرام، وهكذا الحياة الدنيا قصيرة؛ فالحذر من التقصير!، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم-: "ما لي وللدنيا، إنما مَثَلي وَمَثَلُ الدنيا كمثل راكبٍ قَالَ في ظِلِّ شجرةٍ، ثم راحَ وتَرَكَهَا"، وعن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابرُ سبيل". وكان ابن عمر يقول : "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك" (رواه البخاري)(14) وخرجه الترمذي، وزاد فيه: "وعُدَّ نَفْسَكَ من أصحاب القبور". (15)
فالحذر الحذر من الاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها، قال أحد السلف: "لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد".(16)
فالإنسان المسلم يُؤمن بما بعد هذه الحياة الدنيا فيُدرك قيمة الزمن، ويُسخر ساعات هذه الحياة للبِرِّ والتقوى، وللعمل بما يُرضى الله تعالى (يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى اللهَ بقلبٍ سليم). (17)
7ـ دور الأمة في تسخير الأوقات :
إن الأمم تحسب أعوامها بمقدار ما تبنيه وتقدمه للبشرية جمعاء، فالسلف الصالح-رضوان الله تعالى عليهم- بنوا الحضارة الإسلامية في أزهى صورها في زمن قصير حتى أفاد من حضارتهم المجيدة الأمم الأخرى في الشرق والغرب، وشهد القاصي والداني بعظمة تلك الحضارة في ذلك الزمن القصير بعد ظهور الإسلام وانتشاره، وبقوة أولئك الأفذاذ المؤمنين بالله ورسوله، وسخروا إمكاناتهم العقلية والجسدية والزمنية لخدمة دينهم الذي ارتضاه الله لهم، فكانت أوقاتهم محسوبة منظمة، فلم يضيعوا فرصة، ولم يهدروا طاقة إلا فيما يبني أمتهم ويعلي مكانتهم بين الأمم والشعوب .(/2)
ولذا فالأمة التي لا تحسن الإفادة من الوقت لا تكون في مركز الصدارة والقيادة، وإنَّ مما يؤسف له أن غير المسلمين-في الوقت الحاضر- أشد حرصًا على الانتفاع بالوقت في العمل والبناء والجد والانضباط، أما المسلمون فهم أزهد الناس في الإفادة من أوقاتهم، فكثيرًا ما يمضونها في العبث والقيل والقال، وهم مسؤولون عن تضيع أوقاتهم ومغبونون بها، والناس عموما يعرفون قيمة الوقت، ولكن كثيرين لا يعرفون كيف يستغلونه، وذلك مصداق قول نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس:الصحة والفراغ" (رواه البخاري) (18) ، يقول ابن بطال-رحمه الله-معلقًا على الحديث: (كثيرٌ من الناس) "أي أن الذي يوفق لذلك قليل" (19). وجاء عن عمر بن الخطاب قوله : "إني لأكره أحدَكُم سُبهللاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخره" ومعنى سبهللاً : أي فارغًا.
يقول الوزير ابن هبيرة :
الوقتُ أنفسُ ما عنيت بحفظه ... ...
وأراهُ أسهل ما عليك يضيعُ
مع ملاحظة أن الوقت إذا لم يشغل بالخير شُغِلَ بالباطل، وكما يقال: إن الشيطان يسكن حيث يجد المكان فارغًا.
8ـ التخطيط للمستقبل :
من الأمور المهمة التي ينبغي أن نتوقف عندها في انقضاء الأعوام، مسألة التخطيط للمستقبل، كيف نخطط لمستقبل الأمة الإسلامية مستلهمين الأعوام الماضية، مستشرفين الأعوام القادمة، مقدرين حاجات الأمة وعجزها، ومحاولة سد هذه الثغرات في المستقبل؟ والجواب على ذلك يكمن في وضع الخطط العملية الإيجابية الممكن تحقيقها على مراحل وخطوات؛ فالتخطيط للمستقبل يقوم على الإفادة من أحداث الماضي-قربت أم بعدت- حتى يتكامل البناء الحضاري للأمة الإسلامية، وترجع قيمتها بين الأمم، وهناك دراسات تُعنى بالمستقبل برع فيها الغرب، فما أحرانا -نحن المسلمين- أن نعد العدة لمستقبل الأيام والسنين ونخطط لها ونبتعد عن الأعمال العشوائية والارتجالية في حياتنا.
(*)عضو هيئة التدريس في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالأحساء
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
[1] صور وخواطر للشيخ علي الطنطاوي ص5.
[2] شرح السنة للبغوي (14/225).
[3] حلية الأولياء للأصبهاني (2/148)
[4] انظر : صور وخواطر، ص6.
[5] انظر : تاريخ عمر بن الخطاب t لابن الجوزي ، ص151 .
[6] رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، رقم الحديث 747 .
[7] للإفادة : يراجع كتاب لطائف المعارف لابن رجب، فهو مفيد في الموضوع .
[8] تلقوا ربكم : أي حتى تموتوا .
[9] فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (13/19-20).
[10] المرجع السابق (13/21).
[11] المرجع السابق
[12] رواه البخاري، 3-كتاب العلم ح(100)، ومسلم،47-كتاب العلم، ح(2673).
[13] لطائف المعارف، ص32.
[14] ح(6416).
[15] ح(2333) .
[16] لطائف المعارف، ص18 .
[17] ( سورة الشعراء )
[18] ح(6412)
[19] فتح الباري (11/230)(/3)
وقفات في محطات
الأستاذ الشيخ : إسماعيل محمد ربعي
رئيس مركز ابن باز الخيري الإسلامي / فلسطين –الخليل
في كل صباح يُطل بنوره علينا ، تشرق فيه أرض بخيراتها ، وتفوح روائح العطر من نسماتها ، القلب يهفو إلى ظلال أشجارها ، ونسائم الربيع تطرب شادية ، ومياه العيون تترقرق صافية .
العصافير على أغصانها ترفرف شادية ، بكلمات العز والفخار صادية ، ومعاً سنرحل إلى هذه الأرض المباركة بعد ما طال غيابنا عنها ، إنها فلسطين المباركة ، صاحبة المجد التليد ، والأيام العصيبة التي تقف في وجوه أكبر المحن ، تصمد رغم الأعاصير والإحن .
بكل صدق وحق نقول : لقد كانت فلسطين محطة كبرى ليتخللها السائرون ، يتزوّدون منها ، وبعضهم يلطمونها على وجهها ، فما يزيدها إلاّ شموخاً وارتقاءً نحو المعالي كالجبال الراسيات العوالي .
ففيها قصص أهل فلسطين ، تزداد أيام الحنين ، وتترك على القلب لحظات مؤلمة جداً ، وأخرى مبشّرة مفرحة ، فتمتزج مرارة الألم مع ومضات البشرى .
فيغلب بريقها فقاعات الألم ، فتنير الدرب للحيارى التائهين في دهاليز الصحاري ، الذين يتخبطون في سراديب الظلام الدامس ، ألا هلمّوا إلى مراقي المجد الموعود ، هلمّوا إلى منارات الهداية التي لاح نورها ، وعمّا قريب سيُفكّ أسرها .
أحبّتي الأعزاء ..
لنقف في المحطات التالية لنتزوّد باللوازم لرحلة المجد ..
المحطة الأولى :
نحن كأمّة إسلامية عربية صاحبة رسالة سامية وتاريخ مشرِّف ، ينبغي ألاّ نطلب الجواهر والمرجان في قفار الصحاري ، فنرجع بخيبة الأمل ، بل الواجب على كل عامل فينا التدرج نحو الهدف بكل تؤدة ورباطة جأش ، ولننزل المحطة الأولى ومنها نتزوّد بأهم مصدر ، وأغلى مرغوب وأعزّ مطلوب ، وهو كتاب الرب العزيز الحميد ، فيه خبر من قبلنا ، وحكم ما بينِنا ، وهو حبل الله المتين ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن تبنّاه نُصِر ، ومن اعتز به عَزْ ، ومن تركه ذَلْ ، فلنعكف عليه ، دراسة منهجية ، وبنفوس صلبة قويّة ، لننهل من معينه الصافي ، فيثمر لدينا عملاً جاداً بناءً يتولد منه من تقوى الله عز وجل ، التي نتربى عليها ونربي أبناءنا ، ومن أصدق من الله حديثاً .
فلا ينبغي إهمال هذه اللحظة ، فلنحل حلالها ، ونحرّم حرامها ، ولنتجنب شبهاتها .
المحطة الثانية :
لا بد من الترادف في المحطات ، والتنسيق التام بين العاملين في كل محطة ، حتى نصل إلى بر الأمان ، حيث الرضوان من الرحمن ، ودخول دار السلامة ، فلا بد من العمل ، وإلاً لم ينفع العلم ، وكما قال أهل العلم ( اعملوا ما شئتم فلن تؤجروا حتى تعملوا ) .
فلك أخي الحبيب ، وأنت أختي المسلمة أن تسبقوا إلى المحطة الثانية ، وهي السنة النبوية ، فالسنة هي كل ما ورد عن الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم من قول او فعل أو تقرير ، والسنة هي الطريقة التي سار عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، والسنة أيضاً هي مفتاح القرآن العظيم ، فهي بوابة لفهم مجمله واستيضاح منهجه ، فكيف بنا لا نقف في هذه المحطة لنتزوّد ؟!! ونواصل السير ، فكم من قوم تركوا فذلّوا ، فأصبحت أعمالهم هباءً منثوراً . " وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورا. " الفرقان:23 ، والنبي صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى رضوان الله تعالى ، وهذه الدعوة مرتبطة بالمحطة الأولى ، فأقبلوا على موائدها كما يُقبل الظمآن على الماء البارد ، وكل من تمسّك بالسنة نجى ، ومن تركها ضل ، فإلى من يريدون الهداية ، هلموا إلى السنة ، لا تترددوا ولا تتقهقروا ، أسرعوا ....... فالمركب يسير نحو المحطة الثالثة .
المحطة الثالثة :
هي مشعل نور ، لأنها تزوّدت من الأولى والثانية ، فهي اتباع من لهم الخبرة التامة بغوائل الطريق ومصاعبه ومشاقه ، وهم أدرى الناس بالمحطات ، ومكان تواجدها ، لأنهم عبروها وخبروها ، خبرة تامة ، فينفون عنها العابثين اللاهين دوما ، ويُبعدون المخاطر عن كل من نزل بساحتهم ، ويُرشدون إلى محطات التقوية الأكيدة ، بُعداً عن محطات الوهم ، التي يظن أهلها أنهم وصلوا بها ، كالذي يحمل معه ماءً في الصحراء ، وينظر من بعيد إلى سراب فيظنه ماءً ، فيُلقي ما معه من ماء ، ويُهرول خلف السراب ، فإذا جاءه لم يجده شيئاً ، وندم حيث لا ينفع الندم ، فنحن يجب علينا أن نرتقي بأنفسنا نحو محطات معروفة ومنسقة ، حتى لا ننقطع في منتصف الطريق ، فنهلك كما هلك صاحب الماء في الصحراء .(/1)
فالصحابة هم أرباب المحطة ، ومن تبعهم بإحسان من أهل الملّة الحنيفية السمحاء ، فهم خبراؤها ، لم يذل ولن يضل من تبعهم ، فهم للخير ادلاّء ، وله حماة أقوياء ، فلا يسع عاقل التجاوز عن خبراتهم اتّكالاً إلى الهوى أو الوهم ، أو اعتماداً على سراب خادع ، فيهلك حيث ظنّ الوصول ، فكم من ضال وقع ، فأعياه النهوض ، لأنه ضلّ الطريق ، ولم يأت هذه المحطات ، فكم من جهابذة عقلاء ، خسروا حينما اتكلوا على أنفسهم ، ولم يُعرّجوا على كل المحطّات ، فاكتفوا ببعضها دون بعض .,
ومن شروط النجاة السير في المحطات المتسلسلة ، وخاصة بفهم المحطة الأخيرة ، والخلفاء على رأسهم ، فمن المحطة الثانية نفهم ( إرشادات على الطريق ) نقول للسائرين : ( عليكم بسُنّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ ) .
فيا تُرى أين نسير إن لم نسر بدليل؟ وكيف السبيل إلى قطع الطريق ، وتجاوز الهفوات إن لم نُعرّج على هذه المحطات .
فهذه المحطات تهدف إلى تصحيح المسار ، وترشيد العمل ، ورفع المستوى العلمي ، والوعي الدعوي لدى الدعاة ، مع الحرص على التأصيل الشرعي المبني على كتاب الله تعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومنهج السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، ومن سار على دربهم ، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين .
فلا يكفي أبداً أن نبقى لا نعرف من ديننا سوى الاسم ، ومن محطاتنا سوى الرسم ، والمتديّن منّا لا يقف في تديّنه على أرض صلبة ، نظراً للتحريفات الكثيرة التي أدخلها أهل الضلال من مشركين ووثنيين وكفار أينما كانوا وحيثما حلّوا فاربأ بنفسك يا صاح قبل حلول المزعجات ، والأمور المهلكات ، وكم في الكون من عبر تنادي .. هل من معتبِر !! فكل شيء أمام ناظِرَيْك يدعو إلى وحدانية الله تعالى لو عقِلْت ذلك ، وبهذا نكون قد عُدنا إلى ديارنا الحبيبة ، وحققنا الأماني العزيزة ، ورفعنا بالحق وللحق همماً قويةً ، وعلى الباطل عنيدة ، ديدنها الطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
أخي .. اركب وارحل قبل فوات الأوان
www.ibenbaz.org
info@ibenbaz.org(/2)
وقفات مع آية فاستقم كما أمرت ) ... ... ... ((فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ومالكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون)) [هود 112 - 113].
النصر والتمكين أمر تشرئب إليه أعناق الموحدين وتتوق إليه نفوسهم منذ أن بعث الله الأنبياء والمرسلين وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد توعد الواحد القهار أن ينصر حملة الحق وأن لا يخذلهم شريطة أن ينصروه وأن يتبعوا النور والهدى الذي أنزل إليهم.
والنص الذين بين أيدينا يوضح جملة من الأمور التي إذا لم يلتزم بها المؤمنون فإن ولاية الله ونصرته لن تكون في جانبهم.
أول هذه الأمور، الاستقامة كما أمرنا، والاستقامة هي الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشمال [1]، ولم يكتف الرب - جل وعلا - من ذكر الاستقامة مجردة بل أتبعها بقوله: ((كما أمرت))، لهذا نقل المفسرون [2] عن ابن عباس قوله: "ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الآية"، ولهذا قال: "شيبتني هود والواقعة وأخواتهما". وروي أن أصحابه قالوا له: لقد أسرع فيك الشيب، فقال: "شيبتني هود".
وعن أبي عبد الرحمن السُّلمي قال: سمعت أبا علي السَّرِي يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله: روي عنك أنك قلت: "شيبتني هود". فقال: "نعم". فقلت له: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء وهلاك الأمم فقال: "لا؛ ولكن قوله: ((فاستقم كما أمرت))".
هكذا أخبر الصادق المصدوق أن هذا الأمر من الله - سبحانه وتعالى - أدى به إلى أن يسرع إليه الشيب مما يبين ثقل التبعة المترتبة على الالتزام بمقتضيات الاستقامة خصوصاً في فترة كتلك التي نزلت فيها هذه الآيات، فترة الاستضعاف والشدة والمساومة على المبدأ.
فهذه الاستقامة يجب أن تكون أمر الله لا كما تهوى الأنفس أو كما يتطلبه واقع المجتمعات الجاهلية والكافرة، وهذا ما جاء موضحاً في موطن آخر في القرآن: ((فلذلك فادع واستقم كما أمرت)) [غافر/15].
وفي صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك: قال: "قل آمنت بالله ثم استقم". وذلك لأن الاستقامة شاملة لكل أمور الدين ويجب أن تصحب كل الأوامر والنواهي التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم -.
يقول البيضاوي [3] موضحاً هذا المعنى: "وهي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه والتعطيل. بحيث يبقى العقل مصوناً من الطرفين، والأعمال من تبليغ الوحي وبيان الشرائع كما أنزل، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط وإفراط مفوت للحقوق ونحوها وهي في غاية العسر".
وغاية العسر التي أشار إليها البيضاوي لا تعود إلى عسر الاستقامة في نفسها ولكن إلى قلة من يرعاها حق رعايتها بالثبات عليها أو بلوغ الكمال فيها [4]، ولعلو مقامها ومقام من يلتزم بها: ((إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا)) [فصلت/ 30].
الأمر الثاني: عدم الطغيان: والطغيان مجاوزة الحد، قال - تعالى -: ((إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية)). وقال أيضاً: ((فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى)). قال ابن كثير - رحمه الله - [5]: "يأمر الله - تعالى - رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد ونهى عن الطغيان وهو البغي فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك... ".
وعلى الرغم من أن معنى الاستقامة يتطلب عدم مجاوزة حدود الله والتكبر والتجبر على خلقه فإن المولى أفرد ذلك بالذكر ونهى عنه، وذلك - والله أعلم - لأن بعض النفوس من طبيعتها أن تجنح للتشدد والتنطع، ولا تكتفي بأوامر الشرع في مواجهة القسوة التي تتعرض لها على أيدي الجلاوزة المستكبرين، فاقتضى المقام تذكير الأصحاب والذين يأتون من بعدهم إلى أن تكون تصرفاتهم كلها محكومة بالشرع لا بردود الأفعال وفي ذلك أكبر دليل على خضوع هذه الأنفس ودينونتها لقيوم السماوات والأرض.
الأمر الثالث: النهي عن الركون إلى الذين ظلموا [6]، الركون لغة هو الميل والسكون [7]، وحقيقة هو الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به [8]، ومن ثم فإن معنى الركون يدور حول ألفاظ أربع هي: الميل، والسكون، والاطمئنان، والاعتماد، ولهذا ركز بعض المفسرين على المعنى الأول كالزمخشري ومن تبعه وهناك من شدد على المعنى الأخير وهو الاعتماد والاستناد كصاحب المنار. وعلى كل فإنهم على اختلاف تحريرهم لمعنى الركون، فإنهم متفقون على أنه كبيرة ومحرم.
قال القاسمي - رحمه الله - [9]: "قال بعض المفسرين اليمانيين: الآية صريحة بأن الركون إلى الظلمة محرم وكبيرة، لأنه - تعالى - توعد بالنار: ((فتمسكم النار))، "ومن أوجه الركون التي ذكرها المفسرون ما يلي:[10](/1)
1 - الميل إلى الظلمة في شيء من الدين، نقل هذا عن ابن عباس وتبعه في ذلك ابن جرير، يقول ابن كثير: "وقال ابن جرير عن ابن عباس ولا تميلوا إلى الذين ظلموا وهذا القول حسن أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم".
2 - الرضا بأعمالهم، قاله: أبو العالية.
3 - اللحوق بالمشركين، نقل ذلك عن قتادة.
4 - مداهنتهم، قال بذلك السدي وابن زيد.
5 - الدخول معهم في ظلمهم وإظهار الرضا بفعلهم، وإظهار موالاتهم.
وقال الزمخشري: "والنهي متناول للانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ومداهنتهم والرضا بأعمالهم والتشبه بهم والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله: ((ولا تركنوا))، فإن الركون الميل اليسير، وقوله: ((إلى الذين ظلموا))، أي إلى الذين وجد منهم الظلم ولم يقل إلى الظالمين" ا.ه.
وأختتم أقوال هؤلاء العلماء بالتنبيه إلى مسألتين:
1 - الأولى تتعلق بلجوء كثير من الدعاة إلى بلاد الغرب بسبب الاضطهاد الذي تعرضوا له على أيدي المستبدين من الحكام الظلمة، فوجد هؤلاء المضطهدون فسحة للحركة والتعبير عما لم يستطيعوا قوله في بلادهم، فأدى هذا الأمر ببعضهم إلى الإشادة بصنيع الغرب هذا وإبرازه والحديث عنه إلى حد التعظيم والتبجيل. حتى نطق قائلهم: إنهم يطبقون شورانا!!، وأدى بالبعض الآخر إلى الزهد في إخوانهم وأصبح معظم حله وترحاله إجراء مقابلة في تلك الإذاعة أو المحطة أو الصحيفة، أو مقابلة هذا المسؤول وذاك، ألا فلينتبه هؤلاء إلى ما ذكره العلماء في مسألة الركون إلى الظلمة وليعرضوا كل أعمالهم وأقوالهم على الشرع قبل الإقدام عليها.
2 - الثانية هي الاستناد إلى الحكام الظلمة والتردد على أبوابهم وننقل هاهنا كلاماً ذكره الزمخشري عن الزهري - رحمه الله - لما خالط السلاطين، فكتب إليه أخ له في الدين قائلاً: "عافانا الله وإياك، أبا بكر من الفتن، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله بما فهمك الله من كتابه وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء. قال الله - سبحانه -: ((لتبيننه للناس ولا تكتمونه))، واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك. اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاءهم، وسلماً يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الشك بك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك... فداو دينك فقد دخله سقم، وهيء زادك فقد حضر السفر البعيد... وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء... والسلام" ا.ه.
لقد كان علماء السلف يشددون في النكير على التردد على أبواب السلاطين ويعتبرون ذلك منقصة للعالم، قال الأوزاعي [11]: "ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور أميراً، وقال محمد بن مسلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء". وهذه الأقوال تتعلق بسلاطين زمانهم الذين لم ينحوا شريعة الإسلام من الحكم والسياسة ولم يرتموا في أحضان اليهود والنصارى ويوالوهم كما يفعل حكام زماننا اليوم، فكيف سيكون حال وأقوال أولئك الرجال إذا كتب لهم العيش إلى زمن المنافقين والمرتدين الذين سلطهم الله على رقاب المسلمين؟!
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
[1] - الجامع لأحكام القرآن 9/107.
[2] - انظر في ذلك تفسير القرطبي والزمخشري.
[3] - تفسير المنار 12/166.
[4] - تفسير المنار 12/ 169.
[5] - تفسير ابن كثير 2/443.
[6] - قيل في الذين ظلموا أنهم أهل الشرك، وقيل عامة فيهم وفي العصاة، وهذا هو الصحيح في معنى الآية، وأنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي وأهل البدع وغيرهم فإن صحبتهم كفر ومعصية (القرطبي 9/108).
[7] - لسان العرب 13/185.
[8] - تفسير القرطبي 9/108.
[9] - محاسن التأويل 9/ 3490.
[10] - المصدر السابق.
[11] - يراجع في ذلك تفسير الزمخشري. ... ...
... ...(/2)
وقفات مع الأباء والأمهات
* شكوى: ابني يأكل كثيرًا ـ زاد حجمه وطوله عني ـ ينشغل بشده بمظهره ينام كثيرًا.
* أخرى: يفكر ويسرح كثيرًا ـ يمكث في الحمام فترات طويلة ـ يغلق الباب على نفسه ـ يستحم بطريقة مبالغ فيها [لم يعتد عليها] ـ يجلس على الإنترنت فترات طويلة ـ يسهر حتى الفجر أمام الجهاز.
* وأيضًا أخرى: ابني غير أصحابه ـ لا يقبل عليهم كلمة ـ يعارض بشدة ـ يرفع صوته .
يسيء أدبه ـ يسهر في الخارج كثيرًا ـ لا يحترم أحدًا.
* وأخرى كذلك: ابني يحب ... ابني يعاكس ... ابني لديه صور فاضحة ... بين كتبه ... ابني يتبادل المواقع الإباحية.... مع زملائه.
لا أظن أحدًا سيدخل باب البحث عن المشاكل إلا وسيكون له نصيب أو حظ في شكل من الأشكال السابقة من المشاكل أو ما يتفرع عنها، ونوع آخر ممن سيدخلون هذا الباب إنما يدخلون من باب الوقاية خير من العلاج وبدافع حرصهم الشديد على أبنائهم.
عفوًا أيها الأب... عفوًا أيتها الأم:
هل تدعو لولدك حقًا؟... هل تدعين لولدك حقًا؟
الإجابة بالطبع هي نعم.
لكن أسأل هنا عن دعاء بشكل آخر، إنه دعاء مليء بحرقة القلب ودمعة العين ولجوء النفس إلى الله تعالى وفقرها، إنه دعاء ليلي صادق لا يشعر به إلا رب السماوات، ثم هو دعاء مستمر طوال الأزمة وقبلها وبعدها.
من حقق الفقرة السابقة كما وصفناها فليصحبنا الآن ونحن نحاول أن نفهم أبناءنا، ونحاول التعرف عليهم لنستطيع التعامل معهم والتجاوز بهم عبر محن الحياة المتلاطمة والمصائب التي تحيط بأبنائنا من كل لون وشكل.
ولنتذكر أن الله تعالى بيده الأمر كله في كلمتين: {كُنْ فَيَكُونُ} وأي عناء وجهد سيبذل في الحل [البحث عنه وتنفيذه] سيهون بشدة إذا أحيط بالدعاء وطلب العون من الله تعالى طلبًا صادقًا:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
أخي الأب .. أختي الأم, تنبهوا معي:
أولاً: أبناؤنا كيان بشري ليسوا آلات أو أدوات.
مفهوم العبارة السابقة ينبهنا أننا نتعامل مع كائن حي خليط من فكر ومشاعر وجسد مادي، وأن هذا الخليط يمر بمراحل مختلفة من النمو والنضج.
نحن قد لا نتذكر الكثير عن أنفسنا فيها، لأننا تجاوزناها سواء بصورة سليمة أو مشوهة , سليمة نحرص على عبور أولادنا إياها بنفس الطريقة، أو مشوهة في بعض جوانبها فنطلب لأولادنا الحماية منها.
هذا الكائن الحي الخليط لا يصح بصورة من الصور التعامل معه بطريقة الأزرار والفتح والغلق لأن هذا الخليط المتميز يمر بمراحل مختلفة من النمو، فما يصلح معه في مرحلة لا يصلح في أخرى.
والخلاصة في هذه النقطة فلينتبه الأبوان إلى ضرورة تفهم الابن أو الابنة ومعرفة الدوافع والاحتياجات والتفاعلات النفسية تجاه الأحداث والمواقف وأن تتوافر لديهم قدرة عالية من المرونة في التعامل فعفوًا.
'أبناؤنا كيان بشري ليسوا آلات أو أدوات'.
ثانياً: هل أبناؤنا في أزمة حقيقية أم أزمة عابرة؟
وهنا نوضح الفرق بين الأزمة الحقيقية والأزمة العابرة.
فالأزمة الحقيقية: هي التي نفاجأ بأبنائنا في قلبها ولا نجد لدينا يقينًا أننا زرعنا فيهم من الأخلاق والمبادئ والقيم والقواعد ما هو كفيل بصيانتهم ووقايتهم.
والأزمة العابرة: هي التي يصحبها يقين أننا نجحنا بفضل الله تعالى وحده في تربية أبنائنا على ما يقيهم شر الانحراف ويحفظ لهم الثبات.
إن الكثير من الأباء والأمهات في أشد الحاجة إلى توضيح القواعد الأساسية التي تضبط التعامل مع الأبناء والبنات.
ولكي يتم ذلك لا بد من توضيح النموذج المقابل الذي يتعامل مع الابن، فأم تشكو من عصبية ولدها وكثرة صراخه وانتقاده واعتراضه، ولا تخبرنا أنها في الأصل شديدة العصبية والصراخ في البيت، ولا تتفاهم مع زوجها إلا بهذه الطريقة ثم بعد ذلك تطلب منا حلاً لهذه المشكلة الغريبة، تغفل أنها سبب رئيسي في هذه المشكلة، قد لا يمكن حل مشكلة الابن إلا بحل مشكلة الأم أو قد تشتكي الأم ويكون الأب هو صاحب هذا الخلق وهكذا.
* عندما نفاجأ بأبنائنا في أزمة ـ أيًا كان شكلها وحجمها ـ ونفاجئ أننا لم ننجح في زرع ثوابت أو قواعد تعصمهم من أزمتهم تلك أو على الأقل نضمن بنسبة ولو متوسطة وجود رادع يردعهم ويحفظهم، فهم إذن في أزمة حقيقية، فلا نعرف كيف سيتصرفون وإلى أين سيتجهون ومن سيستشيرون؟؟
أما إذا وجدنا أبناءنا في أزمة، ورأينا في أنفسنا قدرًا من الطمأنينة إلى ما قد رسخناه في أنفسهم من مبادئ وثوابت تجعلهم يحسنون التصرف في هذه المواقف ويكون جل ما يحتاجون منا هو لطيف التوجيه وقليل الإشارة وعميق الدعاء فأبناؤنا في أزمة لكنها عابرة بإذن الله تعالى.
وإلى حين اللقاء عن قريب بإذن الله تعالى لكم منا أرق التحيات وأطيب التمنيات
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/1)
وقفات مع العيد
رئيسي :آداب :الثلاثاء26رمضان 1425هـ - 9 نوفمبر 2004 م
الحمد لله، وبعد،،،
فهذه رسالة ميسرة تحتوي على وقفتين يسيرتين:
الوقفة الأولى: ماذا بعد رمضان؟
الوقفة الثانية: أحكام العيد وآدابه وسننه.
أما الوقفة الأولى: ماذا بعد رمضان ؟
لقد كان شهر رمضان ميدانا يتنافس فيه المتنافسون، تروضت فيه النفوس على الفضيلة، وتربت فيه على الكرامة، وترفعت عن الرذيلة، وتعالت عن الخطيئة، واكتسبت فيه كل هدى ورشاد، ومسكين ذاك الذي أدرك هذا الشهر ولم يظفر من مغانمه بشيء، ما حجبه إلا الإهمال والكسل، والتسويف وطول الأمل .
وإن الأدهى من ذلك والأمر أن يوفق بعض العباد لعمل الطاعات، والتزود من الخيرات حتى إذا انتهى الموسم على أعقابهم نكصوا، وذلك جناية مخزية، قيل لبشر:إن قوما يتعبدون ويجتهدون في رمضان، فقال:'بئس القوم لا يعرفون لله حقا إلا في شهر رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها' .
إننا ندعو هؤلاء بكل شفقة وإخلاص إلى مراجعة أنفسهم، وتأمل أوضاعهم قبل فوات الأوان، إننا ننصحهم بألا تخدعهم المظاهر، ولا يغرهم ما هم فيه من الصحة والعافية، والشباب والقوة، فما هي إلا سراب سرعان ما يزول، فالصحة سيعقبها السقم، والشباب يلاحقه الهرم، والقوة آيلة إلى الضعف، فاستيقظ يا هذا من غفلتك، وتنبه من نومتك، فالحياة قصيرة وإن طالت، والفرحة ذاهبة وإن دامت .
ليعلم أولئك أن استدامة العبد على النهج المستقيم، والمداومة على الطاعة من أعظم البراهين على القبول قال تعالى:{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[99]}[سورة الحجر]. فيجب أن تستمر النفوس على نهج الهدى والرشاد كما كانت في رمضان، فنهج الهدى لا يتحدد بزمان، وعبادة الرب وطاعته يجب أن لا تكون قاصرة على رمضان . قال الحسن البصري:'إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، ثم قرأ :{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[99]}[سورة الحجر]'.
فإن انقضى رمضان؛ فبين أيديكم مواسم تتكرر:
- فالصلوات الخمس من أَجلّ الأعمال، وأول ما يحاسب عليها العبد، يقف فيها العبد بين يدي ربه مخبتًا متضرعًا .
- ولئن انتهى صيام رمضان، فهناك صيام النوافل كالست من شوال، والاثنين والخميس، والأيام البيض، وعاشوراء، وعرفة، وغيرها .
-ولئن انتهى قيام رمضان، فقيام الليل مشروع في كل ليلة:{ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ[17]}[سورة الذاريات].
- ولئن انتهت صدقة، أو زكاة الفطر، فهناك الزكاة المفروضة، وهناك أبواب للصدقة والتطوع والجهاد كثيرة.
ولتعلم يا أخي المسلم أن من صفات عباد الله المداومة على الأعمال الصالحة:{ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ[23]}[سورة المعارج]. و {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ[9]}[سورة المؤمنون].
سبيل النجاة في كيفية المداومة على العمل الصالح؟
لابد أولًا: من العزيمة الصادقة على لزوم العمل، والمداومة عليه، أيا كانت الظروف والأحوال، وهذا يتطلب منك ترك العجز والكسل، ولذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من العجز والكسل؛ لعظيم الضرر المترتب عليهما، فاستعن بالله تعالى ولا تعجز .
ثانيًا: القصد القصد في الأعمال، ولا تحمل نفسك مالا تطيق: ولذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: [خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ] رواه البخاري ومسلم.
والبركة في المداومة، فمن حافظ على قراءة جزء من القرآن كل يوم؛ ختمه في شهر، ومن صام ثلاثة أيام في كل شهر؛ فكأنه صام الدهر كله، ومن حافظ على ثنتي عشرة ركعة في كل يوم وليلة بنى الله له بيتًا في الجنة ... وهكذا بقية الأعمال .
ثالثًا: عليك أن تتذكر أنه لا يحسن بمن داوم على عمل صالح أن يتركه: فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ] رواه البخاري ومسلم .
رابعًا: استحضر ما كان عليه أسلافنا الأوائل: فهذا حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم تخبرنا أم المؤمنين عَائِشَةَ قَالَتْ:' كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً'رواه مسلم. وترك صلى الله عليه وسلم اعتكاف ذات مرة، فقضاه صلى الله عليه وسلم في شوال.(/1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: [ يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ] قَالَ:' مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ'رواه البخاري ومسلم. إن معرفة مثل هذه الأخبار تدفعك إلى المداومة على العمل الصالح، ومحاولة الاقتداء بنهج السلف الصالح.
الوقفة الثانية: أحكام العيد وآدابه:
أولًا: احمد الله تعالى أن أتم عليك النعمة بصيام هذا الشهر وقيامه: وأكثر من الدعاء بأن يتقبل الله منك الصيام والقيام، وأن يغفر لك زللك، روي عن علي بن أبي طالب أنه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان:' يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه'.
ثانيًا: الفرح بالعيد: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: [ دَعْهُمَا] فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا. رواه البخاري ومسلم. وقد استنبط بعض أهل العلم من هذا الحديث مشروعية التوسعة على العيال في أيام العيد بأنواع ما يحصل لهم من بسط النفس، وترويح البدن من كلف العبادة، وأن إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين .
ثالثًا: التكبير: يشرع التكبير من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد، قال تعالى:{...وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[185]}[سورة البقرة]. ويستحب للرجال رفع الصوت بالتكبير في الأسواق، والدور، والطرق، والمساجد، وأماكن تجمع الناس، إظهارًا لهذه الشعيرة، وإحياء لها، واقتداء بسلف هذه الأمة، ويربى النشء على هذا، ويعلمون سببه .
رابعًا: زكاة الفطر: شرع الله تعالى عقب إكمال الصيام زكاة الفطر، وفرضت طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، ومقدارها صاع من طعام من غالب قوت البلد كالأرز والبر والتمر عن كل مسلم، لحديث ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:' فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ' رواه البخاري ومسلم، ويسن إخراجها عن الجنين لفعل عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، ولا يجوز إخراجها نقودًا على القول الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لأن ذلك مخالف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب تحري الفقراء والمساكين لدفعها إليهم . ووقت إخراجها الفاضل يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز تقديمها قبل ذلك بيوم أو يومين .
خامسا:الغسل والزينة: يستحب للرجال الاغتسال والتطيب، ولبس أحسن الثياب للعيد، أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:' يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ...'رواه البخاري ومسلم. وكان ابن عمر يلبس في العيد أحسن ثيابه .
سادسًا: الأكل قبل صلاة العيد: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:' كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْدُو يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَأْكُلَ تَمَرَاتٍ' وَفي رواية:'وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا' رواه البخاري .
سابعًا: التبكير في الخروج لصلاة العيد: لقوله تعالى:{...فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ...[48]}[سورة المائدة]. والعيد من أعظم الخيرات، وقد بوب البخاري في 'صحيحه' [بَاب: التَّبْكِيرِ إِلَى الْعِيدِ] ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ الْبَرَاءِ: ' إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ' قال الحافظ ابن حجر:' وَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ بِشَيْءٍ غَيْرِ التَّأَهُّبِ لِلصَّلَاةِ وَالْخُرُوجِ إِلَيْهَا , وَمِنْ لَازِمِهِ أَنْ لَا يُفْعَلَ قَبْلَهَا شَيْءٌ غَيْرُهَا فَاقْتَضَى ذَلِكَ التَّبْكِيرَ إِلَيْهَا' .(/2)
والذي رجحه المحققون من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: أن صلاة العيد واجبة ولا تسقط إلا بعذر، والنساء يشهدن العيد مع المسلمين حتى الحيض، ويعتزل الحيض المصلى . لحديث أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ:' أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى الْعَوَاتِقَ وَالْحُيَّضَ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ' رواه البخاري ومسلم .
ثامنًا: المشى إلى المصلى: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:' مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى الْعِيدِ مَاشِيًا' رواه الترمذي وحسنه، وقال:'والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم يستحبون أن يخرج الرجل ماشيًا'. وقال ابن المنذر:'المشي إلى العيد أحسن وأقرب إلى التواضع ولا شيء على من ركب'.
تاسعًا: التهنئة بالعيد: عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ:' كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اِلْتَقَوْا يَوْمَ الْعِيدِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك'.
عاشرًا: مخالفة الطريق: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:' كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ'رواه البخاري. قال ابن القيم:'وكان صلى الله عليه وسلم يخرج ماشيا، وكان صلى الله عليه وسلم يخالف الطريق يوم العيد، فيذهب من طريق ويرجع من آخر، قيل: ليسلم على أهل الطريقين، وقيل: لينال بركته الفريقان، وقيل: ليقضي حاجة من له حاجة منهما، وقيل: ليظهر شعائر الإسلام في سائر الفجاج والطرق، وقيل: ليغيظ المنافقين برؤيتهم عزة الإسلام وأهله، وقيام شعائره، وقيل: لتكثر شهادة البقاع؛ فإن الذاهب إلى المسجد والمصلى إحدى خطواته ترفع درجة وتحط خطيئة، حتى يرجع إلى منزله، وقيل- وهو الأصح- : إنه لذلك كله، ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله منها'.
الحادي عشر: اجتماع العيد والجمعة في يوم واحد: إذا اجتمعا في يوم واحد سقطت الجمعة عمن صلى العيد، والأولى أن يصلي العيد والجمعة طلبًا للفضيلة، وتحصيلًا لأجريهما .
الثاني عشر: مخالفات في أيام العيد:
1- التكبير الجماعي بصوت واحد، أو الترديد خلف شخص يقول : 'الله أكبر'.
2- اعتقاد مشروعية إحياء ليلة العيد ويتناقلون أحاديث لا تصح .
3- تخصيص يوم العيد لزيارة المقابر والسلام على الأموات .
4- اختلاط النساء بالرجال في بعض المصليات والشوارع والمنتزهات .
5- بعض الناس يجتمعون في العيد على الغناء واللهو والعبث، وهذا لا يجوز .
6- كثرة تبرج النساء، وعدم تحجبهن، وحري بالمسلمة المحافظة على شرفها وعفتها أن تحتشم، وتستر؛ لأن عزها وشرفها في دينها وعفتها.
7- خروج النساء لصلاة العيد متزينات متعطرات وهذا لا يجوز .
8- الإغراق في المباحات من لبس وأكل وشرب حتى تجاوزوا الأمر إلى الإسراف في ذلك، قال تعالى:{...وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ[31]}[سورة الأعراف].
9- البعض يظهر عليه الفرح بالعيد لأن شهر رمضان انتهى، وتخلص من العبادة فيه، وكأنها حمل ثقيل على ظهره، وهذا على خطر عظيم .
10- بعض الناس يتهاون في أداء صلاة العيد، ويحرم نفسه الأجر فلا يشهد الصلاة، ودعاء المسلمين وقد يكون المانع من حضوره سهره الطويل .
11- بعض الناس أصبح يحيي ليالي العيد وأيامه بأذية المسلمين في أعراضهم، فتجده يتابع عورات المسلمين، وسيلته في ذلك سماعة الهاتف، أو الأسواق التي أصبحت تعج بالنساء، وهن في كامل زينتهن .
12- هناك من يجعل العيد فرصة له لمضاعفة كسبه الخبيث، وذلك بالغش والخديعة، والكذب والاحتيال، وأكل أموال الناس بالباطل، فتجده لا يتورع عن بيع ما حرم الله من المأكل والمشروبات، والملهيات، ووسائل هدم البيوت والمجتمعات .
13- من الملاحظات التي تتكرر في مناسبات الأعياد وليالي رمضان، عبث الأطفال والمراهقين بالألعاب النارية، التي تؤذي المصلين، وتروع الآمنين، وكم جرت من مصائب وحوادث !! فهذا أصيب في عينه، وذاك في رأسه، والناس في غفلة من هذا الأمر .
وأخيرا قد قيل: من أراد معرفة أخلاق الأمة فليراقبها في أعيادها، إذ تنطلق فيه السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها، والمجتمع السعيد الصالح هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة، وتمتد فيه مشاعر الإخاء إلى أبعد مدى، حيث يبدو في العيد متماسكًا متعاونًا متراحمًا تخفق فيه القلوب بالحب والود والبر والصفاء .(/3)
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم الصيام والقيام وسائر الطاعات، وأعاد علينا وعلى أمة الإسلام هذا الشهر بالقبول والغفران، والصحة والسلام، والأمن والأمان، وعز الإسلام وارتفاع راية الدين ودحر أعداء الملة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه .
من رسالة:'وقفات مع العيد' للشيخ/ محمد بن عبد الله الهبدان(/4)
وقفات مع المقاطعة
المصدر/المؤلف: خالد بن عثمان السبت ... أرسلها لصديق
عرض للطباعة
عدد القرّاء: 1885
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وبعد..
فهذه وقفات مع هذا الحدث، قصدت بها المذاكرة معكم معاشر الغُيّرُ على عِرْض رسول الله ، فأسأل الله أن ينفع بها.
الوقفة الأولى:
إن ما رأيناه أو طرق أسماعنا من تحرك واسع تداعى الناس فيه إلى الذب عن نبينا الكريم عليه الصلاة والسلام سواء كان ذلك بإلقاء الخطب أو المحاضرات، أو عقد الندوات، أو الدعوة إلى مقاطعة الدينمارك والنرويج تجارياً، حتى ضحّى كثير من خيار التجار المسلمين ببعض ما بأيديهم نصرة لدينهم فنسأل الله أن يعوضهم خيراً، إلى غير ذلك من الجهود الطيبة يُعد من العمل الصالح الذي يدل على إيمان نابض، وغيرة شرعية على عرض صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام يُحمدون عليها ويُثابون.
الوقفة الثانية:
في مثل هذه الأحداث والتداعيات يحتاج الناس إلى مرجعية موثوقة يتلقون منها التوجيه لتحقيق الأهداف وتنتفي المفاسد والمحاذير، ولايصح بحال من الأحوال أن يكون كل أحد في مقام الموجه عبر وسائل ينشئها عبر الجوال أو غير ذلك من الوسائل فتحملهم الغيرة على ارتكاب بعض المحاذير والمخالفات الشرعية كما سنبين.
الوقفة الثالثة:
يجب على المسلم التثبت والتريث فلا يُقدِم على أمر حتى يتبينه، ويتوثق منه، وذلك أننا بحاجة إلى تمييز كثير مما يرد إلينا من رسائل أو ما يُنشر في الشبكة العنكبوتية أو ما نسمعه في المجالس، أو غير ذلك مما يتعلق بجوانب متعددة فمن ذلك:
1 - التحقق من نسبة المنتج إلى أولئك كي لا نقع في شيء من الظلم لأحد من المسلمين أو غيرهم، وهنا قد تدخل المنافسات بين الشركات ويبدأ تصفية الحسابات فنُصيب قوما بجهالة.
2 - قد يكون لهم شراكة في بعض المنتجات ثم زالت وتحول الأمر إلى غيرهم، وهو أمر لا بد من معرفته لئلا نُلحق بأحد ضررا من هذه الجهة.
3 - ربما كان التصنيع برمته في بلاد المسلمين إلا أن المصنع حصل على ترخيص من شركة هناك فمثل هذا تكون المقاطعة فيه عقابا لصاحب المصنع وهذا غير مراد.
4 - الاندفاع غير المنضبط قد يحمل صاحبه على دعوة الناس إلى أمور لا يُقرون عليها، كمن يدعو على توحيد الصيام والدعاء في يوم بعينه، أو يدعو إلى نشر رسالة مكذوبة يزعُم مختلقها أنه رأى الرسول ـ ويذكر أموراًـ ويطالب بنشرها إلى عشرة أشخاص وأنه سيرى بعد أربعة أيام -إن فعل- أمراً يسرّه، وإن لم يفعل رأى أموراً تسوؤه.
وقد يدعو بعضهم إلى مظاهرة (في البلاد التي لاتسمح بذلك)، أو أذية للأشخاص الذين ينتسبون إلى ذلك البلد لمجرد انتسابهم إليها دون أن يكون لهم جرم. وهذا كله لايسوغ، بل يؤدي إلى مفاسد أعظم كما لا يخفى.
5 - التحقق من صحة الأخبار التي تصل إلينا، ولايسوغ أن ننشر شيئاً من ذلك إلا بعد التأكد من صحته.
6 - التوثق والتحري فيما قد يُنشر في بلاد أخرى من هذه الرسومات أو غيرها فنفرق بين من فعل ذلك على وجه الاستهزاء والمكابرة، وبين من فعله قاصدا بذلك نقل الخبر (مع عدم إقرار هذا الصنيع).
الوقفة الرابعة:
ينبغي أن يكون لدينا أهداف واضحة ومطالبات محددة، فهذه المقاطعة إلى أي مدى ستنتهي؟ هل نكتفي باعتذار الرسام، أو الصحيفة، أو لابد من اعتذار الحكومة، أو نطالب مع ذلك كله بمحاكمة الرسامين ورئيس التحرير، أو نطالب بتسليمهم لمحاكمتهم شرعاً وإقامة حكم الله فيهم؟
الوقفة الخامسة:
لا ينبغي تخذيل الناس وتوهين عزائمهم تارة بدعوى عدم جدوى المقاطعة، وتارة بأن ذلك لم يقع حينما أهينت أوراق المصحف، إلى غير ذلك مما قد يُقال. لكن ينبغي أن يُعلم أن آثار المقاطعة ظهرت جلية على ألسنة القوم وفي اقتصادهم، وأما القول بأن هذا التحرك لم يقع عندما اُعتدي على القرآن الكريم فنقول: إن الضعف والتفريط في جانب لا يعني أن نفرط في الجوانب الأخرى، فإذا حصل تقصير في الانتصار للقرآن فليس معنى ذلك أن نخذل الناس عن الانتصار لرسول الله .
الوقفة السادسة:
التحليل والتحريم إنما يكون من قبل الشارع، ولا يجوز أن نُلزم الناس بأمر لم يُلزمهم الله به، فلا يسوغ إطلاق عبارات نُحرم فيها بيع بضائع هؤلاء أو نوجب شرعا مقاطعة منتجاتهم، ومعلوم أن البيع والشراء مع الكفار جائز شرعاً حتى الحربي منهم، لكن نقول: المقاطعة الاقتصادية في هذا العصر سلاح مؤثر، ومن هنا نحث الناس على ذلك لكن لا نقول بوجوبه أو نؤثم من عاملهم.
الوقفة السابعة:(/1)
الحذر الحذر من رد باطلهم بباطل مثله، وإنما ذكرت ذلك لما رأيت إحالة في أحد المنتديات على رابط يتضمن إساءة لعيسى عليه السلام، وهذا جرم عظيم قد يفعله بعض من لا خلاق له من اليهود ونحوهم، وقد تصدّر بعض هذه الحماقات من جهلة لا يراقبون الله في أقوالهم وأفعالهم. كما ذكر شيخ الإسلام (الفتاوى 6/25-26) عن بعضهم أنه ربما أعرض عن فضائل علي وأهل البيت لما رأى غلو الرافضة فيهم وتنقصهم للشيخين -رضي الله عن الجميع- ونُقِلَ عن بعض الجهلة أنه قال:
سُبَّوا عليّا كما سبُّوا عتيقكم *** كفر بكفر، وإيمان بإيمان
كما ذكر أن بعض المسلمين يعرض عن فضائل موسى وعيسى عليهما السلام بسبب اليهود والنصارى، حتى حُكي عن بعض الجهال أنهم ربما شتموا المسيح عليه السلام حين سمعوا النصارى يشتمون نبينا محمداً في الحرب.
الوقفة الثامنة:
إذا كان المطلوب هو مقاطعتهم لما يحصل من جراء ذلك من تأثير اقتصادي عليهم، فإن هذا يتوجه إلى من يستورد منهم البضائع وقد لا يرتدع بعض هؤلاء إلا إذا رأى بضاعته التي استوردها كاسدة في الأسواق. لكن من عُلم منه الصدق بأنه عزم على عدم الاستيراد منهم مستقبلاً، أو أنه لا يشتري هذه البضائع من مستورديها في المستقبل، فهل نطالب مثل هؤلاء بإتلاف ما بحوزتهم من بضائع قد صُنعت في تلك البلاد؟ فهذا موضع ينبغي التفريق فيه بين هذه الأحوال، والله أعلم.
الوقفة التاسعة:
علينا أن نوحد الجهد لتكون المقاطعة حالياً للدنيمارك والنرويج، دون أن نشتت ذلك بالمطالبة بتوسيع نطاقها، وإلا فإن ذلك سيؤدي إلى تلاشيها، ولكن يمكن بعد أن تتحقق أهداف المقاطعة أن يُنظر في توجيهها لغيرهم.
الوقفة العاشرة:
لا يجوز للمسلم في مثل هذه الأمور أن يكون جسراً ومعبراً لتلك الرسومات، فيساعد على نشرها حينما يتحدثُ عن هذا الموضوع بعرضها على الناس فيسيء وهو لا يشعر.
الوقفة الحادية عشرة:
ينبغي استغلال هذا الحدث داخل المجتمعات الإسلامية، وخارجها. أما الداخل فبمطالبة الناس بالتمسّك بسنّة النبي واتباعها، وبإحياء سيرته بينهم، وبيان حقوقه وما إلى ذلك، عبر دروس ومحاضرات وخطب وبرامج ومسابقات، إضافة إلى إحياء عقيدة الولاء والبراء، وبيان عداوة الكفار، وبطلان ما يتشدقون به من التسامح واحترام الأديان... إلخ. وأما في المجتمعات الكافرة فبتعريفهم بمحاسن دين الإسلام، وشمائل نبي الهدى ، وسيرته العطرة.
الوقفة الثانية عشرة:
وافق وقوع هذه المقاطعة لدولة ليست قوية، كما أنها قليلة السكان، وما يستورد منها قليل أيضا مقارنة ببعض الدول الشرقية أو الغربية، وهي فرصة مناسبة للجميع بأن يُظهروا تضامنهم ويُوحدوا وجهتهم، وبهذا يمكنهم أن يبعثوا رسالة واضحة للعالم أجمع أنهم لا يقبلون المساس بدينهم ومعتقداتهم ومقدساتهم، وأنهم أمة حية صاحبة رسالة تعيش وتموت من أجلها.
وبهذا أيضا يمكن أن نستعيد قدراً من الثقة لدى المسلمين بعد أن توالت عليهم الهزائم في مختلف الميادين فيحصل شيء من الشعور بالعزة الإيمانية، ومن هنا يمكن نشتت بعض الجهود الرامية إلى إغراق الأمة بالمشكلات، والشبهات، والشهوات، لتكون أمة لاهية عابثة لا هدف لها في هذه الح(/2)
وقفات مع تحول البنوك الربوية إلى إسلامية
عبد الله بن حميد الفلاسي
</TD
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:-
أصبحت البنوك الإسلامية منافساً قوياًً للبنوك الربوية في العالمين العربي والإسلامي، إلى الحد الذي جعل الأخيرة تقوم بإنشاء فروع للمعاملات الإسلامية، حيث برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة تحوّل البنوك الربوية إلى بنوك تتعامل وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
وتعتبر البنوك الربوية أفضل من أخذ في اعتباره أن هناك توجهات في المجتمع بدأت تطالب بالمعاملات الموافقة للشريعة، وبدأ كثير من الناس بتحويل حساباتهم إلى البنوك الإسلامية، للابتعاد عن المعاملات المحرمة، والوقوع في الإثم، ولذا تعتبر دوافع تحول بعض البنوك الربوية إلى إسلامية – في الغالب - لها أبعاد ربحية وتجارية بحتة، بسبب ما حققته البنوك الإسلامية من نتائج إيجابية، وارتفاع معدلات الربحية وعوائد عمليات التمويل مقارنة بعوائد التمويل الربوي.
وأن هذه المصارف التي تعلن التحول للتمويل الإسلامي يجب أن تكون موضع دعم وتأييد وتوجيه وترشيد، لا موضع استنكار واتهام، وخاصة البنوك التي تريد أن تتحول من العمل الربوي إلى العمل الإسلامي، هذه التي ينبغي تشجيعها، والتعاون معها على البر والتقوى.
أما البنوك المصرة على مزاولة الربا، لكنها بجانب ذلك تزاول شيئاً من المعاملات الإسلامية، ومزاولتها للعمل الإسلامي ليس من باب التوبة والاستغفار، لكن من باب التزود والاستكثار، فمقصودها منه الكسب والمنافسة التجارية، فهذه لابد من مقاطعتها، وعدم العمل فيها، أو التعامل معها، ولو في المعاملات الإسلامية.
وتتمثل الأسباب في تشجيع البنوك الربوية التي تتحول إلى إسلامية فيما يلي:-
السبب الأول: كان الناس يسلمون على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأغراض شتى، ولم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يسألهم: أسلمتم لله أم للدنيا؟ وذلك لأن الإسلام يقود صاحبه إذا اتبعه إلى إحسان العمل وإخلاص النية، فعن جابر – رضي الله عنه- بإسناد صحيح أن وفد ثقيف لما بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- اشترطوا ألا صدقة عليها ولا جهاد، فقبل منهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال: "سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا".
السبب الثاني: لأن هذا صد عن سبيل الله وعن التوبة من الكبائر. وقاعدة الشرع هي تيسير طريق التوبة بكل ما يمكن، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "ومن تدبر أصول الشرع علم أنه يتلطف بالناس في التوبة بكل طريق"، فمهما صاحب عملية التحول من ثغرات أو نواقص فمصيرها إن شاء الله إلى الزوال.
وتحتاج عملية التحول إلى بنك يقدم خدمات مصرفية وفقاً لأسس الشريعة الإسلامية لعدة خطوات جوهرية، أهمها:-
1. التخلص من نسبة الربا الموجودة في رؤوس أموال البنوك الربوية ، وفقاً لقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ)) [سورة البقرة: 278-279].
2. تشكيل هيئة للفتوى والرقابة الشرعية تقوم بالإفتاء الشرعي بشأن كل أعمال البنك وعملياته، ويكون لها حق منع أي معاملة تتعارض وأحكام الشريعة الإسلامية.
3. مواءمة نظام الحاسب الآلي ليعمل وفق الخدمات المصرفية الإسلامية، وتحضير نماذج الحسابات والعقود حسب أسس الشريعة الإسلامية، بناء على اتفاق يبرم بين البنك وعملائه بعد موافقتهم.
4. تدريب الموظفين على أساليب العمل الجديدة، وقد يلجأ البنك إلى تغيير اسمه إلى اسم آخر يعبّر عن هويته الجديدة.
ويستغرق في العادة تحول البنك التقليدي إلى إسلامي مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، نظراً للإجراءات الفنية والقانونية التي لا يمكن للبنك التقليدي أن يتخطاها إلا خلال عدة سنوات، بل إن محاولة التحول السريع والمفاجئ قد يترتب عليه انهيار البنك.
وفي الختام فإن ما يعرف اليوم بتحول البنوك الربوية إلى إسلامية يعتبر نجاحاً للاقتصاد الإسلامي، غير أن من الواجب على المسلمين الحذر من مكر تلك البنوك وخداعها، ويحصل الحذر بالتأكد التام من مشروعية تعاملاتها التي تسميها إسلامية.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/1)
وقفات مع حجة النبي صلى الله عليه وسلم
(الحلقة الأولى)
د / بندر بن نافع العبدلي أستاذ الحديث وعلومه /جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم 4/11/1423
07/01/2003
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده اللَّه فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّه الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّه كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) .
وبعد :
فإن الحج مدرسةٌ إيمانية ، وصلة تربوية ، يزداد به المرء إيماناً، ويزداد إحساناً وإيقاناً ، يُحس فيه بالراحة والطمأنينة والأنس، مع وجود المشقة والعناء والتعب ، لا سيما مع أعداد الحجاج الهائلة من جميع أنحاء المعمورة،يؤدي المسلم فيه هذه الشعائر بروحٍ عالية،ونفسٍ مطمئنة ، وحاله تقول:حبذا لو طالت أيام الحج.
في أيام الحج صور وعظات ، وعبر وآيات ، واكتساب علم وخبرات ، وحصول منافع ودفع سيئات ، ودوام ذكر وعبرات ، قال تعالى: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّه فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ).
هذه المدرسة الإيمانية لابد من تقويمها ، حتى تؤدى على وفق ما جاء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ليتحقق موعود اللَّه فيها بمغفرة الذنوب والسيئات.
وقد كنت منذ عام أتدبر حجة النبي صلى الله عليه وسلم التي سردها جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه ، وما فيها من العبر والعظات والآيات ، لا سيما وأن بعض أهل العلم قد استنبط منها أكثر من مائة فائدة.
والواقع أن المتأمل لحجته صلوات اللَّه وسلامه عليه ربما يقف على مئات الفوائد.
قال النووي رحمه اللَّه - عن حديث جابر الآتي -: " وهو حديث عظيم ، مشتمل على جمل من الفوائد ونفائس من مهمات القواعد، وهو من أفراد مسلم ، لم يروه البخاري في "صحيحه" ، ورواه أبو داود كرواية مسلم، قال القاضي : وقد تكلم الناس على ما فيه من الفقه وأكثروا ، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءاً كبيراً، وخرج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً ، ولو تقصى لزيد على هذا القدر قريب منه" (1).
فحري بالمسلم أن يعتني بحجة النبي صلى الله عليه وسلم ويتدبر ما فيها ، حتى يكون حجه مطابقاً لحجه صلى الله عليه وسلم .
ولقد أحسن الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه اللَّه حيث جعل هذا الحديث مدخلاً له في شرح مناسك الحج في كتابه "حجة النبي صلى الله عليه وسلم " .
فلأهمية هذه الحجة رأيت أن أُدوِّن ما ظهر لي منها ، وهي جُلُّ الفوائد وأهمها ، وسميتها " وقفات مع حجة النبي صلى الله عليه وسلم " ، وإلا فلو تتبعت الفوائد كلها لطال البحث ، ولصعب على الناظر فيه إدراكه.
كتبت هذه الوقفات رجاء النفع بها ، ولتذكير الأمة بحجة نبيهم صلى الله عليه وسلم وربطهم بها ، وطلباً لثواب اللَّه والوصول إلى دار كرامته.
واللَّهَ أسأل أن يجعل عملي صالحاً ولوجهه خالصاً ، وأن يجمعنا مع نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم ، وأن ينفع بهذه الوقفات إنه جواد كريم.
نص حديث جابر الطويل(/1)
روى مسلم في " صحيحه " من طريق حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بن محمد ، عن أبيه قال: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، فَسَأَلَ عَنْ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ ، فَقُلْتُ : أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الأَعْلَى ، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الأَسْفَلَ ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلامٌ شَابٌّ ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِي سَلْ عَمَّا شِئْتَ ، فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى ، وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلاةِ ، فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفًا بِهَا ، كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا ، وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ فَصَلَّى بِنَا ، فَقُلْتُ : أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ، ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ ، كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ ، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ أَصْنَعُ ؟ قَالَ : اغْتَسِلِي ، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ ، نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ ، وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ ، فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ : "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ، لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ " ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ ، قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَسْنَا نَنْوِي إِلاَّ الْحَجَّ ، لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ ، اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ، ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلام فَقَرَأَ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) ، فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَكَانَ أَبِي يَقُولُ وَلا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) ، وَ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ) ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الصَّفَا قَرَأَ : ( إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا ، فَرَقِيَ عَلَيْهِ ، حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ : "لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ " ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى ، حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا ، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ فَقَالَ: لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ ، وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ ، وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ، فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ(/2)
لأَبَدٍ ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الأُخْرَى ، وَقَالَ : "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ " ، مَرَّتَيْنِ "لا بَلْ لأَبَدٍ أَبَدٍ" ، وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مِمَّنْ حَلَّ ، وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ : إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا ، قَالَ : فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ : فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ ، مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ : صَدَقَتْ صَدَقَتْ ، مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ ؟ قَالَ : قُلْتُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ ، قَالَ : "فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ فَلا تَحِلُّ" ، قَالَ : فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةً ، قَالَ : فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا ، إِلاّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ .(/3)
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى ، فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَلا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا ، حَتَّى إِذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ : " إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَلا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا ، رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ ، كِتَابُ اللَّهِ ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي ، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟"، قَالُوا : نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ : "اللَّهُمَّ اشْهَدْ ! اللَّهُمَّ اشْهَدْ " ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ أَذَّنَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ ، فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ ، وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى : "أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ"، كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً مِنْ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً ، حَتَّى تَصْعَدَ ، حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ، وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ ، حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا ، فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ ، وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا ، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ ، فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ مِنْ الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ ، يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنْ الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ ، حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً ، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى ، حَتَّى أَتَى(/4)
الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا ، مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ ، فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ ، وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ ، فَأَكَلا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ ، فَقَالَ : "انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! فَلَوْلا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ"، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ .
ثم ساق بسنده من طريق حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، حَدَّثَنَا محمد بن جَعْفَرُ عن أبيه قال : أَتَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ : وَكَانَتْ الْعَرَبُ يَدْفَعُ بِهِمْ أَبُو سَيَّارَةَ عَلَى حِمَارٍ عُرْيٍ ، فَلَمَّا أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، لَمْ تَشُكَّ قُرَيْشٌ أَنَّهُ سَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ، وَيَكُونُ مَنْزِلُهُ ثَمَّ ، فَأَجَازَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُ ، حَتَّى أَتَى عَرَفَاتٍ فَنَزَلَ.
الوقفة الأولى: شدة متابعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له، واقتدائهم به:
لقول جابر رضى اللَّه عنه :"فقدم المدينة بشر كثير ،كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ويعمل مثل عمله".
وقال أيضاً:"حتى إذا استوت به ناقته على البيداء ، نظرت إلى مدِّ بصري بين يديه ، من راكبٍ وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ،ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزلُ القرآن، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ".
وقد دل على ذلك قوله تعالى :( لقد كان لكم في رسول اللَّه أسوة حسنة لمن كان يرجوا اللَّه واليوم الآخر ) آية (21) سورة الأحزاب .
وقال:( قل إن كنتم تحبون اللَّه فاتبعوني يحببكم اللَّه ويغفر لكم ذنوبكم ) آية(31)سورة آل عمران.
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإقتداء به في الحج ، فقال: "خذوا عني مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " أخرجه مسلم قال القرطبي رحمه اللَّه :"وهذا أمر على الإقتداء به ، وحوالة على فعله الذي وقع به البيان لمجملات الحج في كتاب اللَّه " (2).
وفي الحج أمثلة كثيرة على ذلك :
1- ففي" الصحيحين "عن عابس بن ربيعة رحمه اللَّه قال:"رأيت عمر يقبل الحجر ، ويقول : إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ، ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك" (3).
ولمسلم : عن عبد اللَّه بن سرجس رضي اللَّه عنه قال: "رأيت الأصلع - يعني عمر بن الخطاب - يقبل الحجر ويقول :واللَّه إني لأُقبّلك، وإني أعلم أنك حجر ، وأنك لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبلتك "(4).
قال ابن الجوزي رحمه الله: "وفي هذا الحديث من الفقه أن عمر نبّه على مخالفة الجاهلية فيما كانت عليه من تعظيم الأحجار ، وأخبر أني إنما فعلت ذلك للسنة ، لا لعادة الجاهلية ، وفيه بيان متابعة السنة ، وإن لم يوقف لها على علل ، على أنه قد ذكرت علتان في تقبيل الحج لمسه "(5).
وقال النووي رحمه اللَّه :"وأما قول عمر رضي اللَّه عنه : لقد علمت أنك حجر،وإني لأعلم أنك حجر ، وإنك لا تضر ولا تنفع ، فأراد به بيان الحث على الإقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تقبيله ، ونبه على أنه لولا الإقتداء به لما فعله ، وإنما قال : وإنك لا تضر ولا تنفع ، لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار ، وتعظيماً ورجاء نفعها، وخوف الضرر بالتقصير في تعظيمها ، وكان العهد قريباً بذلك، فخاف عمر رضي اللَّه عنه أن يراه بعضهم يقبله ، ويعتني به فيشتبه عليه"(6).
وقال الطبري رحمه الله : "أراد عمر رضي اللَّه عنه أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لا لأن الحجر ينفع ويضر بذاته ، كما كانت الجاهلية تعتقده في الأوثان "(7).
قلت : ففي هذا الحديث دليل على شدة متابعة عمر رضي اللَّه عنه للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قبل الحجر مع كونه لا يضر ولا ينفع ، لكن لكون النبي صلى الله عليه وسلم فعله فإننا نفعله .(/5)
وفيه دليل على أن الأصل في أفعاله صلى الله عليه وسلم أنها له ولأمته ، وأن الأصل التأسي به فيها ، ما لم يرد دليل يقتضي تخصيصه بها .
واعلم أن السنة هو استلام الحجر الأسود وتقبيله في الطواف إن تيسر ، فإن شق استلمه بيده وقبّل يده ، لما روى مسلم عن نافع قال : "رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ،ثم قبّل يده ، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعله ""(8).
وروى أيضاً عن أبي الطفيل رضي اللَّه عنه قال:رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ، ويستلم الركن بمحجن معه ، ويقبل المحجن""(9).
فإن شق استلامه باليد أو بشيء ، أشار إليه ، لما روى البخاري عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: " طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير ، كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبَّر ""(10).
فهذه ثلاث صفات وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم .
• ثم اعلم أنه يشرع أن يقول عند ابتداء الطواف :"بسم اللَّه واللَّه أكبر".
لما روى عبد الرزاق والبيهقي وغيرهما بسند صحيح :"أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كان إذا استلم الركن قال:"بسم اللَّه واللَّه أكبر""(11).
2 - في "الصحيحين " والترمذي وغيرهم ، عن أبي الطفيل قال:"كنت مع ابن عباس ، ومعاوية لا يمر بركن إلا استلمه ، فقال له ابن عباس : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستلم إلا الحجر الأسود والركن اليماني ، فقال معاوية : ليس شيء من البيت مهجوراً" . هذه رواية الترمذي .
وفي رواية مسلم : " أنه سمع ابن عباس يقول :لم أر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستلم إلا الركنين اليمانيين" .
وفي رواية البخاري : عن أبي الشعثاء جابر بن زيد قال: "ومن يتّقي شيئاً من البيت ؟ وكان معاوية يستلم الأركان : فقال له ابن عباس : إنه لا يستلم هذان الركنان ، فقال : ليس شيء من البيت مهجورا ، وكان ابن الزبير يستلمهن كلُّهن ".
• وفي "الصحيحين" عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال :"لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين ".
ففي هذين الحديثين دليل على شدة متابعة الصحابة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا سيما إنكار ابن عباس رضي اللَّه عنهما لمعاوية ، واحتجاجه صحابه بقوله :"ليس شيء من البيت مهجورا ".
قال الشافعي رحمه اللَّه ـ في الجواب عن هذه الحجة ـ :"بأنا لم ندع استلامهما هجراً للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به ؟ ولكنا نتبع السنة فعلا أو تركاً ، ولو كان ترك استلامهما هجراً لهما ، لكان ترك استلام ما بين الأركان هجراً لها ، ولا قائل به" ا.هـ"(12).
والحكمة من عدم مشروعية استلام الركن الشمالي والغربي ، لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم عليه الصلاة السلام . فقد ثبت في "الصحيحين " عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال :" ما أُرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللًذين يليان الحِجر ، إلا أن البيت لم يُتمم على قواعد إبراهيم ""(13).
قال النووي رحمه اللَّه : "قال القاضي أبو الطيب : أجمعت أئمة الأمصار والفقهاء على أنهما لا يستلمان ، قال : وإنما كان فيه خلاف لبعض الصحابة والتابعين ، وانقرض الخلاف ، وأجمعوا على أنهما لا يستلمان "ا.هـ.
والاستلام للركن اليماني : هو إمرار اليد اليمنى عليه من غير تكبير، فإن شق استلامه لم يشر إليه ولم يكبر ، لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال العلماء :" ويسن أن يستلم الحجر والركن اليماني كل مرة، لقول ابن عمر رضي اللَّه عنهما :"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طَوْفه ". قال نافع : وكان عبد اللَّه بن عمر يفعله "(14). أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح"(15).
3- وفي " صحيح مسلم "عن وبرة بن عبد الرحمن قال:" كنت جالساً عند ابن عمر ، فجاءه رجل فقال : أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف ؟ فقال : نعم ، قال :فإن ابن عباس يقول : لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف ؟ فقال ابن عمر : فقد حجّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف ، فبِقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقاً".
فهذا الذي قاله ابن عمر رضي اللَّه عنهما فيه إثبات طواف القدوم للحاج إذا كان مفرداً أو قارناً ، وهو مشروع قبل الوقوف بعرفة ، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم .
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه اللَّه : "وأما قول ابن عباس فيحمل على أنه أراد بذلك من قدم مكة متأخراً ، وقد دخل وقت الوقوف ، فحينئذ نقول :محافظة على الوقوف أولى من دخول مكة ، وطوافه وسعيه، لأن الوقت الآن وقت للوقوف "ا.هـ"(16).(/6)
4- وأخرج البخاري عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهم قال : " كتب عبد الملك إلى الحجاج : أن لا تخالف ابن عمر في الحج ، فجاء ابن عمر ـ وأنا معه ـ يوم عرفه حين زالت الشمس ، فصاح عند سُرادق الحجاج ، فخرج وعليه ملحفة معصفرة ، فقال : مالك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال :الرواح إن كنت تريد السنة ، قال: هذه الساعة ؟ قال نعم ، قال:فأنظرني حتى أُفيض على رأسي ، فنزل حتى خرج الحجاج ، فسار بيني وبين أبي ، فقلت :إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة ، وعجِّل الوقوف ، فجعل ينظر إلى عبد اللَّه ، فلما رأى عبد اللَّه ذلك ، قال: صدق".
وفي رواية :"أن الحجاج عام نزل بابن الزبير ، سأل عبد اللَّه كيف تصنع في الموقف يوم عرفة ؟ فقال سالم : إن كنت تريد السنة ، فهجِّر بالصلاة يوم عرفة ، فقال عبداللَّه : صدق ، إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة ، فقلت لسالم : أفعل ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ فقال سالم : وهل يتبعون بذلك إلا سنته".
ففي هذا الحديث دليل على شدة متابعة الصحابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أخبر سالم الحجاج بما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله في عرفة ، فقال له: " إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة ، وعجَّل الوقوف "وتصديق ابن عمر له.
وفي الحديث دليل على احترام العلماء للأمراء ،وعدم مخالفتهم ،وكذا رجوع الأمراء للعلماء وسؤالهم .
الوقفة الثانية: استحباب الغسل عند الإحرام :
لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس لما ولدت :"اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي ".
وفي "صحيح مسلم " عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : نَفِست أسماء بنت عميس بمحمد بن أبي بكر بالشجرة ، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبا بكر يأمرها أن تغتسل وتُهلّ ".
وفيه أيضاً عن جابر رضي اللَّه عنه قال : أقبلنا مهلين مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحج مفرد، وأقبلت عائشة رضي اللَّه عنها بعمرة ، حتى إذا كنا بسرف عَركت، وفيه:فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن هذا أمر كتبه اللَّه على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج""(17).
وقد روى الترمذي عن خارجة بن زيد ، عن أبيه ، "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرَّد لإهلاله واغتسل " .
قال الترمذي :" هذا حديث حسن غريب " .
قلت : الحديث إسناده ضعيف ، وله شواهد متعددة بها يتقوى"(18).
وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال :"من السنة أن يغتسل إذا أراد أن يحرم ، وإذا أراد أن يدخل مكة " رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم .
ففي هذه الأحاديث : دليل على استحباب الغسل عند الإحرام للرجل والمرأة سواءً كانت طاهراً ، أو حائضاً أو نفساء .
قال الإمام أحمد :"ويغتسل الرجل والمرأة إذا أرادا أن يهلا ، ويغتسلان إذا أرادا أن يدخلا الحرم ، فإن لم يفعلا فلا بأس ".
وقال في رواية أخرى :"والحائض إذا بلغت الميقات ، فتغتسل وتصنع ما يصنع الحاج غير أنها لا تطوف بالبيت ، ولا بالصفا والمروة ، ولا تدخل المسجد أعجب إليَّ.." "(19).
والمراد بالاغتسال كما يغتسل للجنابة ، فيتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يغسل رأسه حتى يرويه بالماء، ثم يفيض الماء على سائر بدنه ، وهذه صفة الغسل الكامل ، وهي أفضل .
قال النووي رحمه اللَّه :" اتفق العلماء على أنه يستحب الغسل عند إرادة الإحرام بحج أو عمرة أو بهما، سواء كان إحرامه من الميقات الشرعي ، أو غيره، ولا يجب هذا الغسل ، وإنما هو سنه متأكدة يكره تركها ، نص عليه الشافعي في الأم ، واتفق عليه الأصحاب " .
ثم ذكر استحباب الاغتسال للحائض والنفساء ، قال :"ويغتسلان بنية غسل الإحرام ، كما ينوي غيرهما ""(20) .
وقد جعل ابن حزم رحمه اللَّه الغسل عند الإحرام للنفساء فرضاً واجباً ، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عميس به "(21).
قلت : الجمهور على استحبابه ، وهو الصواب .
• فإن لم يجد الماء ،فقد استحب بعض أهل العلم أن يتيمم ،لأنه غسل مشروع فناب التيمم عنه كالواجب ، قاله القاضي أبو يعلى.
والصحيح أنه لا يستحب ، قال ابن قدامه : " لأنه غسل مسنون فلم يستحب التيمم عند عدمه ، كغسل الجمعة ، وما ذكره ـ يعني القاضي ـ منتقض بغسل الجمعة ونحوه من الأغسال المسنونة ، والفرق بين الواجب والمسنون أن الواجب يراد لإباحة الصلاة ، والتيمم يقوم مقامه في ذلك ، والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة ، والتيمم لا يحصِّل هذا ، بل يزيد شعثاً وتغييراً "(22).
قال العلماء : " ويسن للمحرم تنظفٌ بأخذ شعر وظفر وقطع رائحة كريهة، لئلا يحتاج إليه في إحرامه فلا يتمكن منه ، وتطيب في بدنه بمسك أو بخور .." (23).
قلت : أما التنظُّف بأخذ الشعر والظفر ، فلم يرد فيه دليل خاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، اللَّهم إلا أن يقال إن ذلك داخل في جملة اغتساله .
ثم يقال :إذا لم يكن محتاجاً لأخذ شعر وظفر ، فلا يسن له حينئذٍ أخذ شيء منها ،أما إذا كان محتاجاً فلا بأس .(/7)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه : " وإن احتاج إلي التنظيف ، كتقليم الأظفار ، ونتف الإبط، وحلق العانة ، ونحو ذلك، فعل ذلك ، وهذا ليس من خصائص الإحرام ، وكذلك لم يكن له ذكر فيما نقله الصحابة ، لكنه مشروع بحسب الحاجة ، وهكذا يشرع لمصلي الجمعة والعيد على هذا الوجه " (24).
وأما التطيُّب ، فقد ثبت في السنة :
ففي "الصحيحين " عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : " كنت أطيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله بالماء قبل أن يطوف بالبيت ".
وقالت : " كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفارق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو محرم".
وفي رواية لمسلم : " كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم يتطيب بأطيب ما يجد ، ثم أرى وبيص الدُّهن في رأسه ولحيته بعد ذلك " .
قال النووي رحمه اللَّه : " وفيه دلاله على استحباب الطيب عند إرادة الإحرام ، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام ، وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام "(25).
وقولها : " كنت أطَّيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " المراد تطييب بدنه ، لا ثيابه، لقولها: " ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته " .
وأما ثياب الإحرام فينهى عن تطييبها ، لما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما مرفوعاً : ".. ولا يلبس ثوباً مسَّه زعفران أو ورس" .
فائدة : قال ابن مفلح رحمه اللَّه : " ويتوجّه أنه يستحب أن يستقبل القبلة عند إحرامه ، صح عن ابن عمر " (26).
قلت : ثبت في"صحيح البخاري " (27)عن نافع قال : " كان ابن عمر رضي اللَّه عنهما إذا صلى الغداة بذي الحليفة ، أمر براحلته فرحلت، فإذا استوت به استقبل القبلة ، ثم يلبي .." وبوب عليه البخاري : باب الإهلال مستقبل القبلة .
الوقفة الثالثة :إظهاره صلى الله عليه وسلم توحيد اللَّه عز وجل في شعائر الحج
1- فمن ذلك : التلبية ، فقد قال جابر رضي اللَّه عنه : " فأهل بالتوحيد : لبيك اللَّهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة ، لك والملك لا شريك لك " .
أطلق جابر رضي اللَّه عنه على هذه التلبية بأنها توحيد ، وهذا حق فإنها تشتمل على أنواع التوحيد كلها .
ففي قوله "والملك" إثبات توحيد الربوبية ، وإثبات توحيد الربوبية مستلزم لإثبات الألوهية .
وفي قوله : " لبيك لا شريك لك " إثبات توحيد الألوهية ، لا شريك له عز وجل في ملكه ، ولا شريك له في عبادته ، فنفي الشريك عنه يتضمن إفراده بالعبادة .
وفي قوله : " إن الحمد والنعمة" إثبات توحيد الأسماء والصفات فالحمد : وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم .
والنعمة : أي الإنعام ، فالنعمة للَّه ، وهى من صفات الأفعال .
وفي قوله : " لا شريك لك " إثبات الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل (28).
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله : " ولهذا قال جابر رضي الله عنه: فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ، لأن قول الملبي : لبيك اللهم لبيك ، التزام لعبودية ربه ، وتكرير لهذا الالتزام بطمأنينة نفس وانشراح صدر ، ثم إثبات جميع المحامد وأنواع الثناء والملك العظيم لله تعالى ، ونفي الشريك عنه في ألوهيته وربوبيته وحمده وملكه ، وهذا حقيقة التوحيد..." (29) .
وقد روى مسلم عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال :كان المشركون يقولون : لبيك لا شريك لك ، قال: فيقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " ويلكم قدٍ قدٍ " ، فيقولون : إلا شريكاٌ هو لك ، تملكه وما ملك ، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت .
وقوله " قدٍ قدٍ" يعني يكفي يكفي ، اقتصروا على هذا ، لكنهم يزيدون على هذا قولهم " إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ".
قال القرطبي رحمه اللَّه : قوله : " قدٍ قدٍ" أي : حسبكم التوحيد ، ينهاهم عن الشريك " (30).
فاللَّه عز وجل هو المعبود ، وهو المرجو ، وهو المدعو وحده لا إله إلا هو في ربوبيته ، وألوهيته وأسمائه وصفاته ، وهو الملجأ والمعاذ (وإذا مسكم الضر فإليه تجأرون ) ، من الذي دعاه فردَّه ! ، ومن الذي لجأ إليه وتضرع إليه وانكسر بين يديه ولم يدفع الضراء والبأساء عنه ! فسبحانه من إله ما أحكمه وأحلمه وألطفه بعباده .
ومن كانت هذه أوصافه فلا يجوز صرف نوع من أنواع العبادة لغيره. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اللَّه : " من صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير اللَّه فهو مشرك كافر "(31).
* والتلبية معناها : الإجابة للَّه ، والإقامة على طاعته ، فكأنه يقول : إجابه لك بعد إجابه وإقامة على طاعتك ، وفسَّرها بعضهم بمضمونها : "أنا مقيم على طاعتك وإجابة أمرك "(32).
وقد أمر اللَّه عز وجل عبده وخليله إبراهيم أن ينادي في الناس بالحج ، قال تعالى :( وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعل كل ضامر يأتين من كل فج عميق ) .آية رقم (27) سورة الحج .(/8)
روى ابن الجوزي بسنده عن مجاهد رحمه اللَّه قال : " لما قيل لإبراهيم عليه السلام : (وأَذِّن في الناس بالحج ) ، قال : يا رب كيف أقول ؟ قال : قل: يا أيها الناس أجيبوا ربكم ، فصعد الجبل فنادى : أيها الناس أجيبوا ربكم ، فأجابوه: لبيك اللَّهم لبيك ، فكان هذا أول التلبية"(33).
والأفضل لزوم هذه التلبية ، لأنها تلبية النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن زاد عليها ما ورد عن الصحابة فلا بأس .
ولذا قال جابر رضي اللَّه عنه : " وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئاً ، ولزم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تلبيته " .
وروى أبو داود وابن ماجه عنه قال : " والناس يزيدون ذا المعارج ونحوه من الكلام ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع فلا يقول لهم شيئاً " .
وقد روى مسلم عن نافع قال : " فكان عبد اللَّه بن عمر يزيد فيها لبيك لبيك ، لبيك وسعديك والخير بيديك ، والرغباء اليك والعمل " .
وفي رواية له : أن عمر رضي اللَّه عنه كان يقولها بعد التلبية "(34).
وعن أنس أنه كان يزيد : " لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً " ذكره النووي"(35).
قال الشافعي رحمه اللَّه : " ولا أضيق على أحد في مثل ما قال ابن عمر ، ولا غيره من تعظيم اللَّه ودعائه مع التلبية ، غير أن الاختيار عندي أنه يفرد ما روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ""(36).
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه اللَّه : " وإن زاد على ذلك... جاز كما كان الصحابة يزيدون ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسمعهم ، فلم ينههم""(37).
* ويستحب للرجل رفع صوته بالتلبية ، لما روى البخاري عن أنس رضي اللَّه عنه قال : " وسمعتهم ـ يعنى الصحابة ـ يصرخون بها صراخا""(38).
وروى الخمسة عن خلاد بن السائب ، عن أبيه رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال " إسناده جيد .
وروى ابن أبي شيبة عن حميد بن بكر قال : " كنت مع ابن عمر فلبى حتى أسمع ما بين الجبلين ". قال ابن حجر : " إسناده صحيح" (39).
وسيأتي حديث : "أفضل الحج العج والثج" .
أما المرأة فتخفيها بقدر ما تسمع رفيقتها ، لأنه يخشى عليها في رفع صوتها من الفتنة .
قال الفقهاء رحمهم اللَّه :" ويسن أن يذكر نُسُكه فيها "(40).
بمعنى أنه إذا كان قد أحرم بعمرة فيقول في أثناء تلبيته بين فترة وأخرى:لبيك اللَّهم عمرة ، وإن كان قد أحرم بحج :لبيك اللَّهم حجاً ، وإن كان قد أحرم بحج وعمرة : لبيك اللَّهم عمرة وحجا .
• وتتأكد التلبية في مواطن : روى ابن أبي شيبة من طريق خيثمة قال: "كانوا يستحبون التلبية عند ست : دبر الصلاة ، وإذا استقلت بالرجل دابته ، وإذا صعد شرفاً ، أو هبط وادياً ، أو لقي بعضهم بعضاً". ولم يذكر السادسة(41).
وكذا إذا سمع ملبياً ، أو أقبل ليل أو نهار ، أو فعل ما نُهي عنه(42).
قال النووي رحمه اللَّه : " ويستحب أن يكرر التلبية كل مرة ثلاث مرات فأكثر ، ويواليها ولا يقطعها بكلام ، فإن سُلِّم عليه رد السلام باللفظ ، ويكره السلام عليه في هذه الحال ، وإذا لبى صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسأل اللَّه تعالى ما شاء لنفسه ، ولمن أحبه وللمسلمين ، وأفضله سؤال الرضوان والجنة ، والاستعاذة من النار "(43).
قلت : ورد في ذلك حديث رواه الشافعي ، والدارقطني عن خزيمة بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من التلبية في حج أو عمرة سأل اللَّه رضوانه والجنة ، واستعاذ برحمته من النار ".
لكن إسناده ضعيف (44).
2- تكبيره اللَّه عز وجل عند استلام الحجر ، وكذا عند الإشارة إليه كما تقدم ، وهذا يدل على أن استلامه من شعائر اللَّه ، وأن المسلم يفعله اقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى اللَّه عنه حينما استلم الحجر وقبّله : " واللَّه إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك ".
وحينئذٍ : فاستلام الحجر الأسود والركن اليماني من شعائر اللَّه ، وعليه فلا يجوز التمسح بشيء من الأبنية والأحجار والأضرحة وغيرها ، لأن ذلك مخالف لشرع اللَّه ، ولأنها ليست من شعائر اللَّه .
3- قراءته سورتي الإخلاص في ركعتي الطواف ، وذلك لما تشتمل عيه هاتان السورتان من توحيد الربوبية ، وتوحيد الألُوهية .
ففي السورة الأولى : البراءة من دين المشركين ، وإفراد اللَّه بالعبادة.
وفي السورة الثانية : إفراد اللَّه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص.
وبقراءة المسلم لهما اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، يعرف ربه ويخلص له العبادة ، ويتبرأ من عبادة ما سواه .(/9)
4ـ توحيده اللَّه عز وجل وتكبيره وتهليله على الصفا . قال جابر رضي اللَّه عنه " فلما دنا من الصفا قرأ : (إن الصفا والمروة من شعائر اللَّه) أبدأ بما بدأ اللَّه به،فبدأ بالصفا فرقي عليه ، حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحَّد اللَّه وكبَّره، وقال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير ، لا إله إلا اللَّه وحده، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ".
وذلك لأن الصفا والمروة من شعائر اللَّه ، فليوطن نفسه على فعل هذه العبادة بامتثال أمر اللَّه ، والانقياد له ، ونفي الشريك عنه .
ولذا فإن الساعي بينهما ، يمتثل أمر اللَّه عز وجل ، ويقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ويظهر حال سعيه ذله وخضوعه وفقره لربه عز وجل ، وليعلم بإعلانه لهذا الذكر على الصفا والمروة أنه لا يجوز السعي في غيرهما ، لأنه ليس عبادة للَّه ، ثم إن صرف هذه العبادة لغير اللَّه شرك (45).
5- تكبيره اللَّه عز وجل وتوحيده عند المشعر الحرام . قال جابر رضي اللَّه عنه : " ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ، فدعاه وكبَّره وهللَّه ووحَّده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً".
وهذا إظهار بيِّن منه صلوات اللَّه وسلامه عليه لتوحيد اللَّه عز وجل وتعظيمه، وأنه إنما وقف في هذا الموقف امتثالاً لأمر اللَّه تعالى في قوله: (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللَّه عند المشعر الحرام )الآية (198) من سورة البقرة .
6- تكبيره اللَّه عز وجل مع كل حصاة يرميها .
قال جابر رضي اللَّه عنه : " ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها ".
وكذلك فعل عند رمي الجمرات الثلاث أيام التشريق ، فروى البخاري عن سالم بن عبد اللَّه ، عن أبيه عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمرة التي يلي مسجد منى يرميها بسبع حصيات ، يكبر كلما رمى بحصاة ،....ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات ، يكبر كلما رمى بحصاة ....ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات ، يكبر عند كل حصاة ..".
قال شيخنا ـ قدس اللَّه روحه ـ : " وبهذا تُعرف الحكمة من رمي الجمرات ،... فالحكمة إقامة ذكر اللَّه ، وتعظيم اللَّه عز وجل ، وتمام التعبد، لأن كون الإنسان يأخذ حصى ويضرب به هذا المكان يدل على تمام انقياده ، إذ أن النفوس لا تنقاد إلى شيء إلا بعد أن تعرف المعنى الذي من أجله شرع ، وأما ما يذكر من أن الرمي هنا لإغاظة الشيطان ، فإن هذا لا أصل له" (46).
7ـ ذبح الهدي تقرباً إلى اللَّه عز وجل ، وذكر اسمه تعالى عليها .
امتثالاً لقوله تعالى : (فاذكروا اسم اللَّه عليها صوافَّ ) آية (36) من سورة الحج ، والذبح عبادة من أجل العبادات ، فلا يجوز صرفها لغير اللَّه، قال اللَّه تعالى : (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للَّه رب العالمين، لا شريك له ويذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) آية (162ـ 163) الأنعام .
قال مجاهد : " النسك : الذبح في الحج والعمرة ".
وقال سعيد بن جبير : (ونسكي ): ذبحي (47).
وبوَّب الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب "التوحيد" على هذه الآية : باب ما جاء في الذبح لغير اللَّه (48).
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه اللَّه : " ووجه مطابقة الآية للترجمة : أن اللَّه تعالى تعبّد عباده ، بأن يتقربوا إليه بالنسك ، كما تعبَّدهم بالصلاة ، وغيرها من أنواع العبادة ،....
ثم قال : فإذا تقرّب إلى غير اللَّه بالذبح ، أو غيره من أنواع العبادة فقد جعل للَّه شريكاً في عبادته، وهو ظاهر في قوله :(لا شريك له)...(49).
وقال تعالى : ( فصل لربك وانحر ) آية (2) الكوثر .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه اللَّه : " أمره اللَّه أن يجمع بين هاتين العبادتين ، وهما الصلاة والنسك ، الدالتان على القرب والتواضع ، والافتقار وحسن الظن ، وقوة اليقين ، وطمأنينة القلب إلى اللَّه وإلى عِدته.." (50).
وقد ثبت في "صحيح مسلم " عن علي رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " لعن اللَّه من ذبح لغير اللَّه"(51).
ولتعظيم الذبح ، وكونه عبادة للَّه ، يقول المسلم عند ذبحه : " بسم اللَّه واللَّه أكبر".
قال اللَّه عز وجل : (والبدن جعلناها لكم من شعائر اللَّه لكم فيها خير فاذكروا اسم اللَّه عليها صواف ، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ، كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ، لن ينال اللَّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ، كذلك سخرها لكم لتكبروا اللَّه على ما هداكم وبشر المحسنين ) الآيات (36ـ 37) من سورة الحج .
________________________________________
(1) -"شرح صحيح مسلم "(8/170).
(2-"المفهم "(3/399).
(3) -البخاري (1597)،ومسلم (1270/251).
(4)-"صحيح مسلم "رقم (1270/250).(/10)
(5)-"مثير العزم الساكن" (1/370).
(6) -"شرح صحيح" مسلم (9/16)
(7) -"سبل السلام" (2/418) .
(8) -صحيح مسلم (1268)،(1272).
(9) -"صحيح البخاري" (1613).
(10) -"صحيح البخاري" (1613).
(11)-"مصنف عبد الرزاق "(8894)، وأحمد في "مسائله " رواية أبي داود ص (146)، والبيهقي (5/79) من طرق عن نافع عنه.قال شيخ الإسلام في"شرح العمدة" كتاب المناسك(2/432) "رواه الطبراني بإسناد جيد".وقال ابن حجر في "التلخيص " (2/247) "وسنده صحيح" .
(12)-"زاد المعاد "(2/227) ،فتح الباري (3/474).
(13)-"صحيح البخاري " (1583) ، ومسلم (1333).
(14)- الروض "المربع " بحاشية العنقري (1/502) .
(15)- سنن أبي أبو داود (2/176)ح(1876)، والنسائي (5/231)، وأحمد (2/18، 115) من طريق عبد العزيز بن أبي روّاد ، عن نافع، عن ابن عمر. ولفظ النسائي :"في كل طواف".
(16) - من تعليقه على "صحيح مسلم " (8/217).
(17)-" صحيح مسلم " ( 1209) و(1213)
(18)-"سنن الترمذي" (2/181) ح (830) من طريق عمر بن يعقوب المدني ، عن ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن خارجه . وعبد الله بن يعقوب مجهول الحال ، كما قال ابن حجر في " التقريب " ص(559) .
(19) -"شرح العمدة "لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ كتاب المناسك (1/400).
(20)- "المجموع "(7/212ـ213)
(21) -"المحلي "(7/82) .
(22) -"المغني" (5/76) .
(23)-"الروض المربع " بحاشية العنقري (1/467) .
(24) -"مجموع الفتاوي " (26/109) .
(25)- " شرح صحيح مسلم" (8/98) .
(26)- "الفروع "(3/296) .
(27) -برقم (1553) .
(28)- بتصرف من "الشرح الممتع " (8/124ـ 125).
(29)- "المجموعه الكاملة لمؤلفات الشيخ" ـ قسم الفقه (2/474).
(30)- " المفهم "(3/269).
(31)- "الأصول الثلاثة "ـ ضمن مجموع مؤلفات الشيخ (1/188)-.
(32)-" الروض المربع " بحاشية العنقري (1/471) .
(33) -"مثير العزم الساكن" (1/204) رقم (93).
(34)- " صحيح مسلم " برقم (1184) .
(35)- المرجع السابق .
(36)-الأم (2/156).
(37)-مجموع الفتاوى (26/115).
(38)- فتح الباري (3/408).
(39)-فتح الباري (3/408).
(40)-"الروض والمربع " بحاشية العنقري (1/472).
(41)-"نصب الراية" (3/33).
(42)-"المغني" (5/106) .
(43)-"شرح صحيح مسلم" (8/91).
(44)-لأن في إسناده : صالح بن محمد بن زائدة ، وهو ضعيف ، كما في " التقريب" ص (448) .
(45) "الخطب المنبرية للفوزان " (4/308) .
(46) "الشرح الممتع "(7/357) .
وقد ذكر ابن الجوزي في " مثير العزم الساكن " (1/284) ما ورد في أصل رمي الجمرات ، وهو أثر ابن عباس رضي الله عنهما ، أخرجه البيهقي (5/153) ، والحاكم (1/466) ، وأشار إليه الشنقيطي رحمه الله في "تفسيره" ـ كما في "خالص الجمان" ص (222) .
(47) " تفسير الطبري " (12/284) .
(48) "كتاب التوحيد" ـ ضمن مجموع مؤلفات الشيخ ـ (35) .
(49) "فتح المجيد" (1/266).
(50) مجموع الفتاوى (16/531).
(51) " صحيح مسلم " (1978) .
وقفات مع حجة النبي صلى الله عليه وسلم (الحلقة الثانية)
د / بندر بن نافع العبدلي أستاذ الحديث وعلومه /جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم 23/11/1423
26/01/2003
الوقفة الرابعة : أنه تجلى فيها مواقف الدعاء للَّه عز وجل . منها :
1- في الطواف :
لم يذكر جابر رضي اللَّه عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً.
لكن ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول بين الركنين ـ الركن اليماني والحجر الأسود ـ : (ربنا آتنا في الدنيا حسنه ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ) أخرجه أبو داود بسند فيه ضعف (1).
قال الشافعي رحمه الله - بعد ذكره لهذا الحديث- : "وهذا من أحب ما يقال في الطواف إلي، وأحب أن يقال في كله "(2).
وروى البيهقي عن عمر أنه كان يقول في الطواف : " ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار "(3).
قال النووي رحمه اللَّه:" وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا أنها العبادة والعافية،وفي الآخرة الجنة والمغفرة "(4).
وقال القرطبي : " والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين نِعَم الدنيا والآخرة ، وهذا هو الصحيح ، فإن اللفظ يقتضي هذا كله..."(5).
وقال ابن كثير رحمه اللَّه: " الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة ، وزوجة حسناء وولد بار ، ورزق واسع ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ومركب هنيء ، وثناء جميل ، إلى غير ذلك مما شملته عباراتهم ، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا .
وأما الحسنة في الآخرة : فأعلاها دخول الجنة ، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات ، وتيسير الحساب ، وغير ذلك من أمور الآخرة ، وأما الوقاية من عذاب النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم وترك الشبهات "(6).
قلت : هذا الدعاء هو الذي حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بين الركنين ، وأما في بقية الطواف فلم يحفظ عنه شيء .(/11)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه : " وليس فيه - يعني الطواف- ذكر محدود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا بأمره ، ولا بقوله ، ولا بتعليمه، بل يدعوا فيه بسائر الأدعية الشرعية ، وما يذكره كثير من الناس من دعاء معين تحت الميزاب، ونحو ذلك فلا أصل له "(7).
وحينئذٍ فللطائف أن يدعو اللَّه بما شاء من خيري الدنيا والآخرة، وليحرص على الأدعية الجامعة ، المأثورة منها وغيرها ، وليكثر من سؤال اللَّه عز وجل صلاح قلبه ، وصلاح ذريته.
ولو قرأ ما تيسر من القرآن في طوافه ، أو سبَّح اللَّه عز وجل وكبَّره وهللَّه، فحسن .
ففي "صحيح مسلم " عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "لأن أقول : سبحان اللَّه، والحمد للَّه ، ولا إله إلا اللَّه ، واللَّه أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس ".
وفيهما عنه رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان اللَّه وبحمده ، سبحان اللَّه العظيم ".
ومن الخطأ ما يرتكبه بعض الطائفين من تخصيص دعاء معين لكل شوط ، وذلك بقراءة الأدعية المكتوبة ، التي ربما دعا بها ، وهو لا يعرف معناها ، وربما يكون فيها أخطاء تغيَّر المعنى ، ومع ذلك يرددها وهو لا يشعر ، وقد سمعنا من ذلك عجائب .
2- دعاؤه على الصفا والمروة :
قال جابر رضي اللَّه عنه : " فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة ، فوحَّد اللَّه وكبَّره ...ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات... حتى أتى المروة ففعل على المروة، كما فعل على الصفا".
واختار الإمام أحمد رحمه اللَّه أن يدعو بدعاء ابن عمر رضي اللَّه عنهما"(8)، وهو مارواه مالك في "الموطأ" عن نافع مولى ابن عمر ، أنه سمع ابن عمر رضي اللَّه عنهما يدعو على الصفا يقول : " اللَّهم إنك قلت (ادعوني أستجب لكم )وإنك لا تخلف الميعاد ، وإني أسألك كما هديتني للإسلام : أن لا تنزعه مني ، حتى تتوفَّاني وأنا مسلم ".
ورواه أبونعيم ، وأحمد في "مسائله" رواية أبي داود ، والبيهقي مطولاً بلفظ: " اللَّهم اعصمني بدينك وطواعيتك ، وطواعية رسولك ، اللَّهم جنبني حدودك، اللَّهم اجعلني ممن يحبك ، ويحب ملا ئكتك، ويحب رسلك، ويحب عبادك الصالحين ، اللَّهم حببني إليك، وإلى ملائكتك ، وإلى رسلك ، وإلى عبادك الصالحين ، اللَّهم يسِّرني لليسرى، وجنبني العسرى، واغفرلي في الآخرة والأولى ، واجعلني من أئمة المتقين، اللَّهم إنك قلت : (ادعوني أستجب لكم ) وإنك لا تخلف الميعاد ، اللَّهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه ، ولا تنزعه مني حتى تقبضني وأنا عليه، اللَّهم لا تقدمني إلى العذاب ، ولا تؤخَّرني إلى الفتن".
قال نافع : كان ابن عمر يدعو بدعاء كثير ، حتى يملنا ونحن شباب(9).
فإن دعا بهذا فحسن ، وإلا دعا بما أحب .
ويكرر الذكر والدعاء ثلاث مرات ، لقول جابر رضي اللَّه عنه : " قال مثل ذلك ثلاث مرات ".
3- دعاؤه في عرفه :لم يحفظ عنه عليه الصلاة والسلام دعاءً معيناً لعرفة ، إلا ما سيأتي.
قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه : " ولم يعيَّن النبي صلى الله عليه وسلم لعرفة دعاء ولا ذكراً، بل يدعو الرجل بما شاء من الأدعية الشرعية ، وكذلك يكبر ويهلل، ويذكر اللَّه تعالى ، حتى تغرب الشمس "(10).
قال العلماء : " ويكثر من الاستغفار والتضرع والخشوع ، وإظهار الضعف والافتقار ، ويلح في الدعاء ، ولا يستبطيء الإجابة ".
ويستحب أن يكون حال دعائه رافعاً يديه ، لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأن يكون مستقبل القبلة ، لقول جابر : " واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ".
ومن الأدعية المختارة :
"لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد وهو على كل شيء قدير " لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . أخرجه احمد والترمذي(11).
" اللَّهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل " "اللَّهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والبخل والهرم وعذاب القبر ، اللَّهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللَّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، ومن دعوة لا يستجاب لها ".
"اللَّهم اكفني بحلالك عن حرامك ، وأغنني بفضلك عمن سواك " " اللَّهم إني أسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم ، والغنيمة من كل بر ، والفوز بالجنة ، والنجاة من النار ".
" اللَّهم لك الحمد كالذي نقول ، وخيراً مما نقول ، اللَّهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ، وإليك مآبي ، ولك رب تراثي ، اللَّهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، ووسوسة الصدر ، وشتات الأمر ، اللَّهم إني أعوذ بك من شر ما تجيء به الريح ".
" اللَّهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني ".
" اللَّهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ، وتحوَل عافيتك ، وفجاءة نقمتك ، وجميع سخطك " .(/12)
" اللَّهم إني أسألك الهدى ، والتقى ، والعفاف والغنى ".
" اللَّهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر ".
"اللَّهم اهدني وسددني " "اللَّهم إني أسألك الهدى والسداد ".
" اللَّهم أصلح نيتي وذريتي ، اللَّهم اجعلهم عوناً لي على طاعتك ".
"اللَّهم الهمني رشدي وقني شر نفسي " .
وإن دعا بما شاء من خيري الدنيا والآخرة فلا بأس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه : " وأما توقيت الدعاء فيه ، فليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء مؤقت ، إلا أن أصحابنا قد استحبوا المأثور عنه في الجملة ...ثم ذكر ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده..." اهـ(12).
قلت : كلها أحاديث ضعيفة ، لكن أجودها ما صح موقوفاً عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما :
وهو ما أخرجه أحمد في "مسائله" رواية أبي داود ص(149) عن إسماعيل بن علية ، عن التيمي ، عن أبي مجلز ، قال : كان ابن عمر يقول: " اللَّه أكبر وللَّه الحمد ، اللَّه أكبر وللَّه الحمد ، اللَّه أكبر وللَّه الحمد، لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، اللَّهم اهدني بالهدى ، وقني بالتقوى ، واغفر لي في الآخرة والأولى " ، ثم يرد يديه فيسكت كقدر ما كان إنسانٌ قارئاً بفاتحة الكتاب ، ثم يعود فيرفع يديه ، ويقول مثل ذلك ، فلم يزل يفعل ذلك حتى أفاض".
وأخرجه الطبراني في"الدعاء" من طريق حماد بن سلمة ، عن عاصم الأحول، عن عبد اللَّه بن الحارث : أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كان عشية عرفة يرفع صوته:لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ..فذكره بنحوه مطولاً(13).
4- دعاؤه في مزدلفة :
قال جابر رضي اللَّه عنه : " حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة فدعاه وكبَّره وهللَّه ووحَّده..".
ولم يحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ودعاء معين ، لكن له أن يدعو بما أحب ، ويكثر من التهليل والتكبير والتحميد ، وسؤال اللَّه العفو والعافية في الدنيا والآخرة .
قال النووي رحمه اللَّه : " ويكثر من قوله : اللَّهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنه وقنا عذاب النار ، ويدعو بما أحب ، ويختار الدعوات الجامعة، والأمور المبهمة ، ويكرر دعواته"(14).
واستحب فقهاء الحنابلة رحمهم اللَّه أن يكون من دعائه في مزدلفة : " اللَّهم كما وقّفتنا فيه وأريتنا إياه ، فوفِّقنا لذكرك كما هديتنا ، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك ، وقولك الحق : (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللَّه عند المشعر الحرام ، واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا اللَّه إن اللَّه غفور رحيم)(15).
5- دعاؤه عند الجمرة الأولى والثانية :
وهذا وإن لم يذكره جابر ، فقد ذكره ابن عمر رضي اللَّه عنهم .
روى البخاري عنه: " أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات ، ثم يكبَّر على أثر كل حصاة ، ثم يتقدم فيسهل ، فيقوم مستقبل القبلة قياماً طويلا ، فيدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الجمرة الوسطى كذلك ، فيأخذ ذات الشمال فيسهل ، ويقوم مستقبل القبلة قياماً طويلاً ، فيدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ، ولا يقف عندها ، ويقول : هكذا رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل "(16).
وروى ابن أبي شيبة عن عطاء قال : " كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة " وإسناده صحيح ، كما قال ابن حجر (17).
ولم يحفظ عنه عليه الصلاة والسلام في هذا الموطن دعاء معين ، فيدع المسلم بما شاء من خيري الدنيا والآخرة ، ويحرص على الأدعية الجامعة ، وقد تقدم شيء منها .
* الوقفة الخامسة : مخالفته للمشركين في حجته :
وذلك في مواضع منها :
1ـ وقوفه بعرفة :
قال جابر رضي اللَّه عنه : " ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ، وأمر بقبة من شعر، تضرب له بنمرة ، فسار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام ، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ...".
وفي"الصحيحين" عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : كانت قريش ومن دان دينها ، يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمّون الحُمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفة ، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ، فيقف بها ، ثم يفيض منها ، فذلك قوله عز وجل : (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ).
وفي رواية: قال هشام بن عروة ، فحدثني أبي عن عائشة قالت : "الحُمْس: هم الذين أنزل اللَّه فيهم : (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) قالت : كان الناس يفيضون من عرفات ، وكان الحُمْس يفيضون من المزدلفة ، يقولون : لا نفيض إلا من الحرم ، فلما نزلت : (أفيضوا من حيث أفاض الناس ) رجعوا إلى عرفات".(/13)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه اللَّه : " ومعناها : ثم أفيضوا أيها الحجاج من مكان أفاض جنس الناس منه ، قديماً وحديثاً وهو عرفة ، لا من مزدلفة (18).
وقال شيخنا رحمه اللَّه : " وإنما يقفون بالمزدلفة حميَّة الجاهلية ، يقولون : نحن أهل الحرم ، ولا يمكن أن نخرج في حجنا عن الحرم، والناس يقفون في عرفة ، وعرفة من الحل "(19).
2- دفعه من عرفة بعد غروب الشمس .
قال جابر رضي اللَّه عنه : " فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلاً ، حتى غاب القرص ".
وقد كانوا في الجاهلية يدفعون قبل أن تغرب الشمس ، إذا صارت الشمس على الجبال ، كالعمائم على رؤوس الرجال دفعوا ، اغتناماً لوقت السفر ، أي:الإضاءة (20).
3- دفعه من مزدلفة قبل طلوع الشمس
قال جابر رضي اللَّه عنه: " فلم يزل واقفاً ـ يعني عند المشعر الحرام ـ حتى أسفر جداً ، فدفع قبل أن تطلع الشمس ".
وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : " إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ، ويقولون : أشرق ثبير ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم ، ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس " أخرجه البخاري .
زاد أحمد وابن ماجه : " أشرق ثبير كيما نغير".
وثبير : جبل عند مكة ، والمعنى : ادخل أيها الجبل في الشروق، أي: في نور الشمس ، لأنهم كانوا لا يفيضون من هناك إلا بعد ظهور نور الشمس على الجبال .
وقولهم : "كيما نغير" أي : ندفع للنحر (21).
قال شيخنا ـ قدس اللَّه روحه ـ : " ومن هنا نعرف أنه يجب علينا أن نخالف المشركين في هديهم ، وألا نوافقهم ، لا سيما فيما يتعلق بالعبادة "(22).
* الوقفة السادسة : أنه كان في حجته يرفق بأمته .
ويظهر ذلك في مواضع منها :
1- قال جابر رضي اللَّه عنه : " ودفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - يعني من مزدلفة - وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مَوْرك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينةَ السكينةَ..."
وفي "الصحيحين" عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجراً شديداً وضربا ، وصوتاً للإبل، فأشار بسوطه إليهم ، وقال: " أيها الناس ، عليكم بالسكينة ، فإن البر ليس بالإيضاع ".
والإيضاع ضرب من سير الإبل سريع (23).
وفيهما عن عروة قال: سئل أسامة بن زيد ـ وأنا جالس ـ كيف كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع حين دفع ؟ فقال : كان يسير العنق ، فإذا وجد فجوة نص ".
قال هشام بن عروة :والنص فوق العنق .
قال المهلب : " إنما نهاهم عن الإسراع إبقاءً عليهم ، لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة "(24).
وهذا يدل على شدة رأفته ورحمته بأمته عليه الصلاة والسلام ، كما وصفه جل وعلا بقوله : (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) آية (128) من سورة التوبة.
وقد حث عليه الصلاة والسلام أمته على الرفق واللين ، فقد روى أبوداود وأحمد عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: " ...لينوا بأيدي إخوانكم".
وذلك لأن اللين والرفق يجلب المحبة والمودة ، ويبعد الشحناء والبغضاء والقسوة .
2- قول جابر رضي اللَّه عنه : " فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم ، فقال: " انزعوا بنى عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، فناولوه دلواً فشرب منه ".
ومعناه : لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ، ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ، ويدفعونكم على الاستقاء لاستقيت معكم ، لكثرة فضيلة هذا الاستقاء (25).
وهذا يدل على شدة رأفته ورحمته بهم ، لكونه خاف أن يزدحم الناس على زمزم لو نزع منها وشرب ، ولعدوه من مناسك الحج .
3- قوله صلى الله عليه وسلم : " نحرت ههنا ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم، ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ، ووقفت ههنا وجمع كلها موقف ".
قال النووي رحمه اللَّه : " في هذه الألفاظ بيان رفق النبي صلى الله عليه وسلم بأمته ، وشفقته عليهم في تنبيههم على مصالح دينهم ودنياهم ، فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر لهم الأكمل والجائز، فالأكمل موضع نحره ووقوفه، والجائز كل جزء من أجزاء المنحر ، وجزء من أجزاء عرفات ، وخيرهن أجزاء المزدلفة وهي جمع "(26).
وقال شيخنا رحمه اللَّه : " والحكمة من قوله : " وقفت ههنا وعرفة كلها موقف ، ليبين للناس أن الموقف لا يختص بمكان معين من عرفة كلها موقف ، وكأنه يقول للناس على رسلكم : كل يقف في مكانه"(27).
4- إذنه للضعفة بالدفع من مزدلفة قبل طلوع الفجر ، وهذه وإن لم يذكرها جابر رضي اللَّه عنه ، فقد ذكرها غيره : فعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : " استأذنت سودة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أن تدفع قبله، وكانت ثقيلة ثبطة فأذن لها ".(/14)
وفي رواية: قالت : ودِدت أني استأذنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة، فأُصلي الصبح بمنى ، فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس".
وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: " بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الثقل - أو قال : في الضعفة - من جمع بليل " متفق عليهما .
وفيهما عن أسماء رضي اللَّه عنها أنها قالت : " إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أذن للظعن " .
والظعن : جمع ظعينة وهي المرأة(28)، وذلك لأن الغالب علي المرأة الضعف وعدم القدرة على مزاحمة الرجال
فكان عليه الصلاة والسلام يأذن للضعفة من أهله ، والظُّعن بالدفع قبل الفجر رأفة بهم ورحمة ، لئلا يواجهوا زحمة الناس والرجال، فيلحقهم التعب والمشقة حينئذٍ .
*الوقفة السابعة : خطبته العظيمة في الموقف التي قرر فيها قواعد الإسلام وشرائعه ، ومبانيه العظام :
فقد قال عليه الصلاة والسلام : " إن دماءكم وأموالكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مستَرضعاً في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول رباً أضع ربانا ، ربا عباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ، فاتقوا اللَّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان اللَّه ، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه ، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب اللَّه ، وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلّغت وأدّيت ونصحت ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللَّهم اشهد ، اللهم اشهد ثلاث مرات".
دلت هذه الخطبة على أمور :
منها : تحريم الاعتداء على الدماء والأموال ، لقوله : " إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ".
وقد قرَّر اللَّه عز وجل ذلك في كتابه في أكثر من آية .
قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم ، ولا تقتلوا أنفسكم إن اللَّه كان بكم رحيما ، ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على اللَّه يسيرا ) آية (29و30) من سورة النساء .
قال القرطبي رحمه اللَّه : " اعلم أن كل معاوضة تجارةٌ على أي وجه كان العِوض ، إلا أن قوله (بالباطل) أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعاً من رباً أو جهالة ، أو تقدير عوض فاسد ، كالخمر والخنزير وغير ذلك ، وخرج منها كل عقد جائز لا عوض فيه ، كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب.." (29)اهـ.
وقال تعالى : (قل تعالوا أتل ما حرَّم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ، ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإيَّاهم ، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) آية (151) من سورة الأنعام .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه" رواه مسلم .
وقال : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " متفق عليه .
واعلم أن أصول تحريم الأموال ثلاثة : الربا والغرر والظلم .
أما الربا : فسيأتي بيانه .
وأما الغرر : فهو كل عقد يكون فيه أحد المتعاقدين بين الغنم والغرم.
وأما الظلم : فهو الاستيلاء على المال بغير حق ، ويدخل تحته أنواع كثيرة .
ومنها : إبطال أفعال الجاهلية وبيوعها التي لم يتصل بها قبص ، ومع إبطاله لها ، خالفها وبيَّن ضدها ، مما لا غنى لمسلم عن معرفتها.
وقد جمع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه اللَّه المسائل التي خالف فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية في رسالة مستقلة ، وذكر فيها مائة مسألة .
قال القرطبي رحمه اللَّه : قوله "ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع " يعني به : الأمور التي أحدثوها ، والشرائع التي كانوا أشرعوها في الحج وغيره ، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد".
قال: وربا الجاهلية موضوع ، الرِّبا : الزيادة والكثرة لغة ، ثم إنهم كانت لهم بيوعات يسمونها : بيع الربا(/15)
، منها : أنهم كانوا إذا حلَّ أجل الدين يقول الغريم لرب الدين : أنظرني وأزيدك ، فينظره إلى وقت آخر على زيادة مقرّرة ، فإذا حلّ ذلك الوقت الآخر قال له أيضاً كذلك، وربما يؤدي ذلك إلى استئصال مال الغريم في نزر يسير كان أخذه أوّل مرة ، فأبطل اللَّه ذلك ، وحرَّمه ، وتوعّد عليه بقوله تعالى :( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ...الآيات) ، وردّهم فيه إلى رؤوس أموالهم ، وبلَّغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرآناً وسنة ، ووعظ الناس ، وذكَّرهم بذلك في ذلك الموطن مبالغة في التبليغ ، وبدأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بربا العباس لخصوصيته بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتدي الناس به قولا وفعلا ً ، فيضعون عن غرمائهم ما كان من ذلك "(30).
ومنها : وصيته بالنساء ، حيث قال : " فاتقوا اللَّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة اللَّه ، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه " .
وقد ثبت في "الصحيحين " عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " استوصوا بالنساء خيراً ، فإن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء ".
وحينئذٍ فينبغي للمرء أن يعاشر امرأته بالمعروف ، امتثالاً لقوله تعالى:( وعاشروهن بالمعروف ) قال القرطبي رحمه اللَّه : " وذلك توفية حقها من المهر والنفقة ، وألا يعبِّس في وجهها بغير ذنب ، وأن يكون منطلقاً في القول ، لافظاً ولا غليظاً ، ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها ".
ثم قال : وقال بعضهم . هو أن يتصنع لها كما تتصنع له ..، قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : "إني أحب أن أتزيّن لامرأتي ، كما أحب أن تتزين المرأة لي ، قال ابن عطية : وإلى معنى الآية ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " فاستمتع بها وفيها عوج " أي : لا يكن منك سوء عشرة مع اعوجاجها ، فعنها تنشأ والمخالفة ، ويقع بها الشقاق ، وهو سبب الخلع"(31).
وقال ابن كثير رحمه اللَّه : " وعاشروهن بالمعروف : أي طيبِّوا أقوالكم لهن ، وحسِّنو أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم ، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله ، كما قال تعالى : ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف )، وقال صلى الله عليه وسلم " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي " ، وكان من أخلاقه أنه جميل العشرة ، دائم البشر ، يداعب أهله، ويتلطف بهم ، ويوسعهم نفقة ، ويضاحك نساءه ، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي اللَّه عنها يتودد إليها بذلك ..." (32).
ولذا قال عليه الصلاة والسلام : " لا يفَرْك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر ، أو قال غيره " رواه مسلم .
ومعنى لا "يفرك "أي لا يبغض ، والمعنى : لا ينبغي له ذلك ، بل يغفر سيئتها لحسنتها ، ويتغاضى عما يكره لما يحب .
وقد ذكر القرطبي رحمه اللَّه رجلاً من أهل العلم والفضل يقال له : أبو محمد بن أبي زيد ، كانت له زوجة سيئة العشرة ، وكانت تقصّر في حقوقه ، وتؤذيه بلسانها، فيقال له في أمرها ، ويعذل بالصبر عليها ، فكان يقول : أنا رجل اكمل اللَّه عليّ النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني ، فلعلها بُعثت عقوبة على ذنبي ، فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها "(33).
ومنها : إشارته لبعض حقوق الزوجين ، حيث قال : " ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرّح ، ولهن عليكم رزقهن ، وكسوتهن بالمعروف "
فذكر عليه الصلاة والسلام حقوق الزوج على زوجته ، وحقوقها عليه .
فمن حقوق الزوج على زوجته : ما ذكره بقوله " ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه".
قال القرطبي رحمه اللَّه : " معنى هذا : لا يدخلن منازلكم أحداً تكرهونه ، ويدخل في ذلك الرجال ، والنساء ، الأقرباء والأجانب ، قال: ولا يفهم من هذا الكلام : أنه النهي عن الزنا ، فإن ذلك يحرم مع من يكرهه الزوج ، ومع من لا يكرهه "(34).
وقال النووي رحمه الله : " وهذا حكم المسألة عند الفقهاء : أنها لا يحل لها أن تأذن لرجل أو امرأة ولا محرم ولا غيره ، في دخول منزل الزوج ، إلا من علمت أو ظنت أن الزوج لا يكرهه ، لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه ، أو ممن أذن له في الإذن في ذلك، أو عرف رضاه باطِّراد العرف بذلك ونحوه ، ومتى حصل الشك في الرضا ولم يترجح شيء ، ولا وجدت قرينة لا يحل الدخول ولا الإذن "(35).
وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحق في حديث أبي هريرة مرفوعاً : "لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد ألا بإذنه ، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه" متفق عليه.
فإن خالفن ، فقد قال : " فاضربوهن ضرباً غير مبرّح ".
أي : غير شديد ولا شاق ، لأن المقصود تأديبها لا إهلاكها .(/16)
وفيه دليل على جواز ضرب الرجل امرأته للتأديب . لقوله تعالى (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ) آية (34) من سورة النساء .
قال القرطبي رحمه اللَّه : " والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبرح ، وهو الذي لا يكسر عظماً ، ولا يشين جارحة كاللَّكْزة ونحوها ، فإن المقصود منه الصلاح لا غير ، فلا جرم إذا أدّى إلى الهلاك وجب الضمان "(36).
ومن حقوق الزوجة على زوجها : ما ذكره بقوله : " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
فمن حقوقها على زوجها : وجوب النفقة عليها وكسوتها بالمعروف، قال النووي رحمه اللَّه : " وذلك ثابت بالإجماع " .
وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على ذلك :
فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " دينار أنفقته في سبيل اللَّه ، ودينار أنفقته في رقبة ، ودينار تصدقت به على مسكين ، ودينار أنفقته على أهلك ، أعظمها أجراً الذي أنفقته على هلك" رواه مسلم .
وفي حديث سعد بن أبي وقاص الطويل ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : "وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللَّه إلا أُجِرت بها ، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك" متفق عليه .
فإن لم ينفق عليها ، فلها أن تأخذ من ماله بغير علمه بالمعروف ، لما في "الصحيحين" عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : قالت هند امرأة أبي سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه ، وهو لا يعلم ؟ قال : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
قال الفقهاء رحمهم اللَّه : " وإذا أعسر الزوج بنفقة القوت ، أو أعسر بالكسوة ، أو ببعضها ، أو أعسر بالمسكن ، أو صار لا يجد النفقة إلا يوماً دون يوم ، فلها فسخ النكاح من زوجها المعسر ، لحديث أبي هريرة مرفوعاً في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: " يُفَرَّق بينهما " رواه الدارقطني ، فيفسخ فوراً ، أو متراخياً بإذن الحاكم، ولها الصبر مع منع نفسها " (37).
ومنها : حثُّه صلى الله عليه وسلم على الاعتصام بكتاب اللَّه .
لقوله : " وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب اللَّه ".
كتاب الله هو القرآن الكريم ، وهو العصمة إذا اعتصم به الإنسان عصم من الضلال في الدنيا ، ومن الشقاء في الآخرة .
وهذا القرآن وصفه اللَّه عز وجل بأنه مبارك ، فقال :(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكَّر أولوا الألباب ) آية (29) من سورة ص .
فهو مبارك في آثاره ، ومبارك في تأثيره ، ومبارك في ثوابه .
مبارك في آثاره : فتح المسلمون به مشارق الأرض ومغاربها ، لما كانوا مستمسكين به حقاً .
ومبارك في تأثيره : كم من إنسان هداه اللَّه لمّا سمع آيات من القرآن تتلى .
ومبارك في ثوابه : لقوله صلى الله عليه وسلم " من قرأ حرفاً من القرآن فله حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول ألم حرف ، ولكن ألف حرف ، ولام حرف ، وميم حرف " رواه الترمذي .
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على العناية بالقرآن ، فقال : " اقرؤا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه " رواه مسلم .
فينبغي للمسلم أن يعتني بكتاب الله تلاوة وحفظاً وفهماً وتدبراً وعملاً .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الاعتناء بالقرآن ، فقد كان له حزب يومياً من القرآن لا يخل به (38).
وكذلك سلفنا الصالح رضوان الله عليهم ، سئلت أخت مالك بن أنس عن شغل مالك في البيت ؟ فقالت : المصحف والتلاوة .
ولما حضرت عبد الله بن يزيد الأودي الكوفي الوفاة بكت ابنته ، فقال : يا بنية لا تبكي ، فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة (39) .
وقال الذهبي رحمه الله في ترجمة واصل بن عبد الرحمن أبي حرّة الرقاشي : " وكان من أولياء الله تعالى. قال الطيالسي : كان أبو مرة يختم كل ليلتين " (40).
وكان أبي بن كعب يختم القرآن في كل ثمان ، وكان تميم الداري يختمه في كل سبع ، وكان الأسود بن يزيد يختم القرآن في كل ست (41).
وينبغي مع الإكثار من تلاوته ، العناية بتدبر معانيه ، والعمل بما فيه، فإن في تدبر القرآن الهدى والنور ، والفلاح في الدنيا والآخرة .
قال ابن القيم رحمه الله :
فتدبر القرآن إن رمت الهدى فالعلم تحت تدبر القرآن
وقد أنكر الله عز وجل على أقوام لم يتدبروا كتابه بقوله :( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) آية(82) من سورة النساء .
وقال : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) آية (24) من سورة محمد .
ومنها : إشارته إلى العناية بالسنة ، لقوله : " وأنتم تُسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلَّغت وأدَّيت ونَصحت ".
وهذا كقوله تعالى :(ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ) آية (65) من سورة القصص .
قال القرطبي رحمه اللَّه : " أي يقول اللَّه ، لهم : ما كان جوابكم لمن أُرسل إليكم من النبيين لما بلَّغوا رسالاتي "(42).(/17)
وقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون اللَّه فاتبعوني يحببكم اللَّه ويغفر لكم ذنوبكم واللَّه غفور رحيم ) آية (31) من سورة آل عمران .
وقال :( فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى اللَّه والرسول إن كنتم تؤمنون باللَّه واليوم الآخر ) آية (59) من سورة النساء.
قال النووي رحمه اللَّه : " قال العلماء : معناه إلى الكتاب والسنة ".
وقال تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم ) آية (63) من سورة النور .
وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دعوني ما تركتكم ، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم "متفق عليه .
وروى البخاري عنه أن رسول اللَّه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قيل : ومن يأبى يا رسول اللَّه ؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".
وروى مسلم عن جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول واللَّه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً ، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها ، وأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تفلّتون من يدي".
ومنها : إشارته بإصبعه لعلو الباري جل جلاله ، لقوله: " فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ، وينكتها إلى الناس : اللَّهم اشهد اللَّهم اشهد ، ثلاث مرات ".
وعلو اللَّه عز وجل من صفاته الثابتة له بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
أما الكتاب ففي قوله تعالى :( وهو العلي العظيم) .
وأما السنة : فكما في هذا الحديث .
وقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته إذا سجد : " سبحان ربي الأعلى " رواه مسلم من حديث حذيفة .
وأجمع السلف على إثبات العلو للَّه، وهو علو حقيقي يليق به تعالى.
وقسَّم أهل العلم علو اللَّه إلى قسمين : علو ذات ، وهو ما تقدم .
وعلو صفة بمعنى أن صفاته تعالى عليا ، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه (43).
________________________________________
(1) -"سنن أبي داود" (1892)، والنسائي في "الكبرى" (3934)، وعبد الرازق (8963)، وأحمد(3/411) وغيرهم من طريق ابن جريج ، حدثني يحيي بن عبيد، مولى السائب ، عن أبيه ، عن عبد اللَّه بن السائب رضي اللَّه عن أنه سمع النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود فذكره .
وفي إسناده : عبيد مولى السائب ، وهو مجهول ، لم يروي عنه سوى ابنه يحيي انظر : تحرير التقريب (2/424) .
(2) -"الأم "(2/173) .
(3) -"سنن البيهقي" (5/84).
(4)-"شرح مسلم "(17/13).
(5) -"تفسير القرطبي" (2/432).
(6)- "تفسير ابن كثير" (1/251) .
(7)-"مجموع الفتاوى" (26/122).
(8)-"المغني "(5/234)، "مسائل الإمام أخمد"رواية ابنه عبد اللَّه ص(214) .
(9)-مالك في "الموطأ" (1/372) ، ومن طريقه البيهقي (5/94) باللفظ المختصر . وأبو نعيم في"الحلية" (1/308)، وأحمد في "مسائله" رواية أبي داود ص(146) رقم (697)، والبيهقي (5/94) باللّفظ المطول .
قال ابن حجر في"التلخيص" (2/251): " قال الضياء : إسناده جيد"
(10)-"مجموع الفتاوي" (26/132).
(11)- وإسناده ضعيف ، لكن له شواهد يتقوى بها .
(12) -"شرح العمدة "ـ كتاب المناسك ـ (2/506) .
(13)-"الدعاء" للطبراني (878) .
(14)-"المجموع" (8/141).
(15)-"المغني"(5/283) ، "شرح منتهى الإرادات" (2/557).
(16)- "صحيح البخاري "(1752) .
(17)- "فتح الباري" (3/584) .
(18)-"مسائل الجاهلية" رقم (64).
(19)-من تعليقه على "صحيح مسلم "(8/196).
(20)-"الشرح الممتع" (7/335).
(21)-"جامع الأصول" (3/248).
(22)-من تعليقه على "صحيح البخاري "(3/531) من فتح الباري .
(23)- "جامع الأصول" (3/250) .
(24)- "فتح الباري" (3/533) .
(25) -"شرح صحيح مسلم " للنووي (8/194).
(26)-المصدر السابق (8/195).
(27)-من تعليقه على "صحيح مسلم" (معلق بخط يدي بحاشية شرح صحيح مسلم (8/195).
(28)- "جامع الأصول" (3/266) .
(29)-"تفسير القرطبي "(5/152).
(30)-"المفهم" (3/333).
(31) -"تفسير القرطبي "(5/97).
(32)-"تفسير القرآن العظيم "(1/477).
(33)-"تفسير القرطبي" (5/98) .
(34)-"المفهم " (3/334).
(35)-"شرح صحيح مسلم "(8/184).
(36)-"تفسير القرطبي "(5/172).
(37)-"الروض المربع " بحاشية العنقري (3/233).
(38) -"زاد المعاد" (1/482)
(39)- "سير أعلام النبلاء " (9/44) .
(40) -"ميزان الاعتدال " (4/329) .
(41)-"فضائل القرآن " لابن كثير ص (250-251)
(42)-"الجامع الأحكام القرآن "(13/304).
(43) -انظر: "التعليق المختصر على كتاب لمعة الاعتقاد" لشيخنا رحمه اللَّه ص(25ـ26).
وقفات مع حجة النبي صلى الله عليه وسلم (الحلقة الثالثة)
د/ بندر بن نافع العبدلي أستاذ الحديث وعلومه/جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم 1/12/1423
02/02/2003(/18)
*الوقفة الثامنة :اختياره صلى الله عليه وسلم لأصحابه أفضل الأنساك وهو التمتع :
لقوله : " حتى إذا كان آخر طوافِهِ على المروة فقال : لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسُق الهدي ، وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة ، فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول اللَّه ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبدٍ أبد ".
ولمسلم عن جابر أيضا قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مهلَّين بالحج، معنا النساء والولدان ، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت ، وبالصفا والمروة ، فقال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : من لم يكن معه هديٌ فليحلل ، قال : قلنا : أي الحل ؟ قال : الحل كله ، قال: فأتينا النساء ، ولبسنا الثياب ، ومسسنا الطيب ، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج ".
وفي رواية له قال : " قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال :قد علمتم أني أتقاكم للَّه ، وأصدقكم وأبركم ، ولولا هديي لأحللت كما تحلُّون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى فحِلُّوا ، فحَللنا وسمعنا وأطعنا ".
فهذا تصريح من النبي صلى الله عليه وسلم في تفضيل التمتع على غيره من الأنساك ، لقوله: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي " ،ولم يمنعه من الحل إلا سوق الهدي ، ولأن التمتع أيسر على الحاج ، حيث يتمتع بالتحلل بين الحج والعمرة ، وهذا هو الذي يوافق مراد اللَّه عز وجل حيث قال سبحانه :( يريد اللَّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) آية (185) من سورة البقرة .
ولذا قال الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره : " وأفضلها - أي الأنساك - التمتع "(1).
وكان ابن عباس رضي اللَّه عنهما يرى وجوب التمتع ، فعن عطاء قال : " كان ابن عباس يقول : لا يطوف حاج ولا غير حاج إلا حل ، وكان يقول: هو بعد المعرّف وقبله ، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين أمرهم أن يحلّوا في حجة الوداع " رواه مسلم .
وروى أيضاً أن رجلاً من بني الهجيم قال لابن عباس : ما هذه الفتيا التي تشغَّفت أو تشغبت بالناس : أن من طاف بالبيت فقد حل ؟ فقال : سنة نبيكم وإن رغمتم "(2)
وروى عبد الرازق عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس قال : " من جاء مهلاً بالحج ، فإن الطواف بالبيت يصيَّره إلى عمرة شاء أو أبى ، قلت : إن الناس ينكرون ذلك عليك ، قال : هي سنة نبيكم وإن رغمتم ".
قال ابن القيم رحمه اللَّه : " وصدق ابن عباس ، كل من طاف بالبيت ممن لا هدي معه من مفرد ، أو قارن ، أو متمتع ، فقد حل إما وجوباً وإما حكماً ، هذه هي السنة التي لا راد لها ولا مدفع ...
فهكذا هذا الذي طاف بالبيت إما أن يكون قد حل حكماً ، وإما أن يكون ذلك الوقت في حقه ليس وقت إحرام ، بل هو وقت حِل ليس إلا ، ما لم يكن معه هدي ، وهذا صريح السنة "(3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه : " فثبت بهذا أن المتعة أفضل من حجة مفردة ، ومن القِران بين العمرة والحج من وجوه:
أحدها: أنها آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه أمرهم بها عيناً بعد أن خيَّرهم عند الميقات بينها وبين غيرها ، فعُلم أنه لم يكن يَعلم أولاً فضل المتعة حتى أمره اللَّه بها ، وحضّه عليها فأمر أصحابه بها ، وحضهم عليها..
الثاني : أن المسلمين حجوا معه متمتعين جميعهم ، إلا من ساق الهدى وكانوا قليلاً ، وذلك بأمره ، وأمره أبلغ في الإيجاب والاستحباب من فعله، لو كان الفعل معارضاً له .
الثالث:أن هذه الحجة حجة الوداع لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين قبلها ولا بعدها ، وفيها أكمل اللَّه الدين ، وأتم النعمة ، وأُحييت مشاعر إبراهيم ، وأُميت أمر الجاهلية ، فلم يكن اللَّه تعالى يختار لرسوله ، وللمؤمنين من السبل إلا أقومها ، ومن الأعمال إلا أفضلها ، وقد اختار لهم المتعة "(4).
فتبين بهذا أن التمتع أفضل الأنساك ، ولكن يقال : أما الوجوب فإنه خاص بالصحابة ، لأنهم هم المخاطبون بالأمر .
وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم لسراقة : "بل لأبد الأبد ".
*الوقفة التاسعة : صور من تواضعه صلى الله عليه وسلم في حجته :
منها :
1- إردافه لصغار الصحابة في تنقلاته بين المشاعر .
ففي مسيره من عرفة إلى مزدلفة أردف أسامة بن زيد رضي اللَّه عنه وهو مولى ، قال جابر : " فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً ، حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم " .
وفي مسيرة من مزدلفة إلى منى أردف الفضل بن عباس ، قال جابر: " فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن عباس " .
وفي هذا دليل على تواضعه صلى الله عليه وسلم ، إذ يوجد في الصحابة من هو أكبر وأعلم من أسامة والفضل ، كأبي بكر وعمر وغيرهما ، ومع ذلك اختار عليه الصلاة والسلام صغار الصحابة ليردفهم .(/19)
2 - شربه صلى الله عليه وسلم من ماء زمزم ، حين شرب من الدلو الذي يشرب منه الناس .
قال جابر : " فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم ، فقال : انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، فناولوه دلواً فشرب منه ".
وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى ، فقال العباس : يا فضل اذهب إلى أمِّك فأت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها ، فقال: اسقني ، قال : يا رسول اللَّه إنهم يجعلون أيدهم فيه ، قال : اسقني ، فشرب منه ، ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها ، فقال : اعملوا فإنكم على عمل صالح ، ثم قال : لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه ، يعني عاتقه وأشار إلى عاتقه " رواه البخاري .
ففي هذا دليل على تواضعه صلوات اللَّه وسلامه عليه .
قال ابن حجر في "الفتح" : " وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ، وحرص أصحابه على الإقتداء به ، وكراهة التقذُّر والتكرُّه للمأكولات والمشروبات"(5).
وفي قوله : " فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ، فناولوه دلواً فشرب منه " .
قال النووي رحمه اللَّه :"معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ، ويزدحمون عليه ، بحيث يغلبونكم ، ويدفعونكم عن الاستسقاء لاستقيت معكم ، لكثرة فضيلة هذا الاستقاء " .
* وفي كلام جابر المتقدم : دليل على استحباب الشرب من ماء زمزم والتضلع منه ، وله فضائل جمة (6).
وفي "صحيح مسلم"من حديث أبي ذر ـ في قصة إسلامه ـ فقال : يعني النبي صلى الله عليه وسلم : " متى كنت ها هنا ؟ قلت : كنت هاهنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم ، قال : فمن كان يطعمك ، قال : قلت : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم ، فسمنت حتى تكسَّرت عكن بطني ، وما أجد على بطني سخفة جوع ، قال : إنها مباركة إنها طعام طعم " . زاد الطيالسي : " وشفا سقم" .
وإن أحب أن يدعو عند شربه له بما ورد عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما فلا حرج ، وهو ما رواه عكرمة عنه قال: كان ابن عباس إذا شرب من زمزم قال : " اللَّهم إني أسألك علماً نافعاً ، ورزقاً واسعاً ، وشفاء من كل داء " أخرجه الدارقطني .
وإلا فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند شربه له دعاءً معيناً .
الوقفة العاشرة : تطبيقه لأوامر اللَّه عز وجل في حجته ، وامتثاله لها:
1- قراءته الآية عند مقام إبراهيم .
قال جابر رضي اللَّه عنه : " ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام ، فقرأ : (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) .
وفي هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطبق أوامر اللَّه في حجته .
وقال ابن القيم رحمه اللَّه : " وقراءته الآية المذكورة بيان منه لتفسير القرآن ، ومراد اللَّه منه بفعله صلى الله عليه وسلم "(7).
وقال شيخنا رحمه اللَّه : " وقد استدل بعض العلماء بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم للآية على أن ركعتي الطواف واجبة ، وهذا له حظٌ من النظر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر به الآية ، الدالة على الوجوب للأمر بها "(8).
2- قراءته الآية لما دنا من الصفا .
قال جابر رضي اللَّه عنه : " ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ : ( إن الصفا والمروة من شعائر اللَّه ) أبدأ بما بدأ اللَّه به ، فبدأ بالصفا فرقى عليه .." .
ففي هذا دليل أيضاً على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يفعل ذلك طاعة للَّه ، وامتثالاً لأمره سبحانه .
قال شيخنا ـ قدس اللَّه روحه ـ : " ولم يقرأ الآية حين صعد ، بل حين دنا ، إشارة إلى أنه إنما سعى ، لأن اللَّه تعالى جعل السعي من شعائر اللَّه ، وإشارة أخرى إلى أنه بدأ من الصفا ، لأن اللَّه بدأ بذكره ، من أجل أن يُشعر نفسه ويوطِّنها أنه إنما فعل ذلك امتثالاً لأمر اللَّه ، ولا يقال هذا الذكر مرة أخرى ـ يعني عند المروة ـ ، والمتعيِّن أنه لم يكمل الآية ، لأن الصحابة نقلوا كل ما سمعوه ".
االوقفة الحادية عشرة : إهداؤه صلى الله عليه وسلم مائة بدنه ، شكراً للَّه عز وجل ، وطلباً لثوابه ، نحر منها ثلاثاً وستين بيده .
قال جابر : " ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثاً وستين بيده ، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر ، وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فُجعِلت في قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها ، وشَرِبا من مرقها " .
فتطوَّع النبي صلى الله عليه وسلم بهذا العدد ، دليل على فضيلة إراقة الدماء .
قال النووي رحمه اللَّه : " وفيه استحباب تكثير الهدي ، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة مائة بدنه "(9).
وقد روى الترمذي وابن ماجه ، عن أبي بكر رضي اللَّه عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الحج أفضل ؟ قال : "العج والثج"(10).
والعج : رفع الصوت بالتلبية ، والثج : سيلان دماء الهدي والأضاحي ، يقال : ثَجّه يثجُّه ثجاً(11).(/20)
فكلما أكثر الحاج من الهدي ، كان أعظم لأجره وثوابه وتقواه ، قال جل وعلا : ( لن ينال اللَّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) آية (37) من سورة الحج.
والنبي صلوات اللَّه وسلامه عليه كان بإمكانه أن يهدي بأقل من ذلك ، لكنه أراد زيادة أجره وثوابه ورفعة درجاته .
قال العلماء رحمهم اللَّه في نحره صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وستين بيده : " إن هذا من الحكمة الإلهية أن ينحر ثلاثاً وستين بيده ، ويعطي علياً ما بقي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره الشريف ثلاثاً وستين سنه ، وكان آخر هديه ثلاثٌ وستون بدنه"(12).
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبعث بالهدي إلى مكة ، وهو في المدينة ، ففي" الصحيحين" ، وغيرهما عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : "فتلت قلائد هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ثم أشعرها وقلَّدها ، ثم بعث بها إلى البيت ، وأقام بالمدينة فما حرم عليه شيء كان له حل " .
وفيهما " أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي اللَّه عنها : إن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما قال : من أهدى هدياً حرم عليه ، ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه ، قالت عمرة : قالت عائشة رضي اللَّه عنهما : ليس كما قال ابن عباس ، أنا فتلت قلائد هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيديَّ ، ثم قلَّدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيديه ، ثم بعث بها مع أبي ، فلم يحرُم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيء أحله اللَّه له حتى نحر الهدي " .
قال النووي رحمه اللَّه : " فيه دليل على استحباب الهدي إلى الحرم ، وإن لم يذهب إليه يستحب له بعثه مع غيره .....ثم قال : وفيه أن من بعث هديه لا يصير محرماً ، ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم ، وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة "(13).
وقال ابن حجر رحمه الله : " ـ وأستفيد من ذلك ـ يعني من قصة زياد ـ وقت البعث ، وأنه كان في سنة تسع عام حج أبوبكر بالناس ، ثم أشار إلى قول ابن التين ، وأنها ذكرت ذلك ، لئلا يظن ظان أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ ، فأرادت إزالة هذا اللبس "(14).
* والهدي في الأصل إنما يلزم المتمتع ، قال ابن المنذر : " أجمع أهل العلم على أن من أهل بعمرة في أشهر الحج من أهل الآفاق من الميقات ، وقدم مكة ففرغ منها ، وأقام بها ، وحج من عامه ، أنه متمتع ، وعليه الهدي إن وجد ، وإلا فالصيام "(15).
وقد نص اللَّه عز وجل على ذلك ، قال تعالى : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ) آية (196) من سورة البقرة .
وقال ابن عمر رضي اللَّه عنهما : "تمتع الناس مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، فلما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال للناس : " من لم يكن منكم أهدى ، فليطف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، وليقصِّر ، ثم ليهل بالحج ويهدي ، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع لأهله " متفق عليه .
وقاس العلماء رحمهم اللَّه القارن على الممتع في لزوم الهدي ، قال ابن قدامه : " لا نعلم في وجوب الدم على القارن خلافاً ، إلا ما حكي عن داود أنه لا دم عليه ، روي ذلك عن طاوس "(16).
وأما المفرد فلا دم عليه ، لكن يستحب له أن يتطوع به ، لاجتماع الزمان والمكان الفاضلين ، وقد قال الفقهاء رحمهم اللَّه : " وتضاعف الحسنة والسيئة بمكان وزمان فاضل " (17).
والدم الواجب في الهدي شاة ، أو سبع بقرة، أو سبع بدنه .
• وفي قول جابر المتقدم : دليل على أن الأفضل أن يتولى الإنسان ذبح هديه بيده ، تذلُّلاً للَّه وتعبداً له ، لأن هذا النحر أو الذبح ليس للأكل فقط ، بل هو قربة بنفسه ، كما قال عز وجل : ( لن ينال اللَّه لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) آية (37) من سورة الحج .
فإن شق عليه الذبح بنفسه ، وكَّل مسلماً في ذبحها وحضرها .
ويقول عند الذبح : "بسم اللَّه واللَّه أكبر ، اللَّهم هذا منك ولك ، اللَّهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك "(18).
وإن كانت أُضحية قال : " بسم اللَّه واللَّه أكبر ، اللَّهم هذا منك ولك ، اللَّهم هذا عني وعن أهل بيتي ، اللَّهم تقبل مني ...".
• وفي قول جابر أيضاً : دليل على استحباب الأكل من الهدي ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل بدنه ببضعة فجعلت في قدر ، فأكل من لحمها وشرب من مرقها هو وعلي رضي اللَّه عنه .
وقد قال اللَّه عز وجل : (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) آية (28) من سورة الحج .
ومصرف الهدي فقراء الحرم ، ولذا قال الفقهاء رحمهم اللَّه : " وكُل هدي أو إطعام فلمساكين الحرم "(19).
ومساكين الحرم : هم من كان داخل حدود الحرم ، سواء كان من أهله ، أو وارد إليه من الآفاقيين .
ومع ذلك فحكمه حكم الأضحية يقسِّمه أثلاثاً : ثلث يأكله ، وثلث يهديه ، وثلث يتصدق به .(/21)
ولا يجوز ذبحه إلا في الحرم ، وكذا توزيع لحمه لمساكين الحرم خاصة .
االوقفة الثانية عشرة : حلول البركة في وقته صلى الله عليه وسلم أيام حجته:
قال جابر رضي اللَّه عنه : " حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات ... ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بيده .... ثم ركب فأفاض إلى مكة فصلى بمكة الظهر ..."
كل هذه الأعمال العظيمة في ذلك اليوم العظيم ، لم تكن لتتحقق بزمن يسير وهو ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر ، لولا حلول البركة في وقته صلوات اللَّه وسلامه عليه .
ومن تأمل سيرته عليه الصلاة والسلام عموماً ، وحجته خصوصاً تبين له حلول البركة العظيمة في حياته وحجته
وفي هذا دليل على أنه ينبغي للعبد أن يعتني بساعات عمره ، وأن يحرص عليها، وأن يحاول جاهداً على استغلالها بما يعود عليه نفعه في دينه ودنياه .
هذه هي أبرز الوقفات التي ظهرت لي من حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، على أن المتأمل قد يظهر له أكثر من ذلك ، وأسأل الله تعالى أن ييسِّر جمع ما يتعلق بهذه الحجة من فوائد ودروس وعبر ، إنه جواد كريم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
لطائف متفرقة
1ـ قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه : " أما الحاج عن الغير لأن يوفي دينه، فقد اختلف فيها العلماء أيّهما أفضل ، والأصح أن الأفضل الترك ، فإن كون الإنسان يحج لأجل أن يستفضل شيئاً من النفقة ليس من أعمال
حتى قال الإمام أحمد : ما أعلم أحداً كان يحج عن أحدٍ بشيء .
ولو كان هذا عملاً صالحاً لكانوا إليه مبادرين ، والارتزاق بأعمال البر ليس من شأن الصالحين ...
ثم قال شيخ الإسلام : " ولا يستحب للرجل أن يأخذ مالاً يحج به عن غيره ، إلا لأحد رجلين :
إما رجل يحب الحج ، ورؤية المشاعر ، وهو عاجز ، فيأخذ ما يقضي به وطره الصالح ، ويؤدي به عن أخيه فريضة الحج .
أو رجل يحب أن يبرئ ذمة الميت عن الحج ، إما لصلة بينهما أو لرحمة عامة بالمؤمنين ونحو ذلك .
ثم قال : " وجماع هذا أن المستحب أن يأخذ ليحج ، لا أن يحج ليأخذ...ففرق بين من يكون الدين مقصوده والدنيا وسيلة ، ومن تكون الدنيا مقصوده والدين وسيلة ، والأشبه أن هذا ليس له في الآخرة من خلاق"(20)
2-أنه ينبغي للحاج أن يحضر قلبه ، ويستشعر ذله وخضوعه بين يدي ربه عز وجل في جميع شعائر الحج .
ففي حال الطواف يتذكر ذله وخضوعه لربه وافتقاره إليه ، وكذا عند سعيه بين الصفا والمروة .
قال ابن كثير رحمه اللَّه: " الساعي بينهما -يعني بين الصفا والمروة- ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى اللَّه في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنوبه " (21).
وكذا عند تلبيته ، يستحضر وهو يكرر قوله " لبيك اللَّهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " يستحضر أنه مجيب للَّه ، مقيم على طاعته ، معترف بنعمته ، مقر بوحدانيته ،.
وقد كان بعض السلف يلبي وعيناه تذرفان .
وكذا عند وقوفه بعرفه ، ومزدلفة ، وعند رمي الجمار وغيرها ، ففي كل مشعر من المشاعر يستحضر فقره وذله وخضوعه لربه ، ويتذكر حال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته حينما وقفوا بهذه الأماكن ، وتضرعوا لربهم فيها، فإن ذلك مما يزيد في إيمانه ، ويقوي محبته لربه عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، بخلاف من يقوم بهذه الشعائر بقلبٍ غافل لاهٍ ، يذهب مع الناس أينما ذهبوا ، ويتبعهم أينما توجهوا ، لم تحلّ في قلبه السكينة والطمأنينة ، ولا على جوارحه الوقار والاستشعار ، وكأن هذه المناسك حملاً ثقيلاً يريد أن يلقيها عن كاهله ويرجع إلى أهله .
3- ما ورد في حج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
"في الصحيحين" واللفظ لمسلم ، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرّ بوادي الأزرق ، فقال: أيُّ وادٍ هذا ؟ فقالوا : هذا وادي الأزرق ، قال : " كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثنية ، وله جؤار إلى اللَّه بالتلبية " ، ثم أتى على ثنية هرشى ، فقال : أيُّ ثنية هذه ؟ قالوا : ثنية هرشى ، قال : " :كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة ، عليه جبة من صوف ، خطام ناقته خلبة ، وهو يلبي".
وروى الأزرقي ، وابن الجوزي عن ابن إسحاق قال : " لم يبعث اللَّه نبياً بعد إبراهيم إلا وقد حج "(22).
4- اختلف العلماء رحمهم اللَّه هل حج النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة ، مع اتفاقهم على أنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة هي حجة الوداع .
وقد روى مسلم في "صحيحه" عن أبي إسحق قال : سألت زيد بن أرقم كم غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سبع عشرة ، قال : وحدثني زيد ابن أرقم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة ، وأنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة حجة الوداع ، قال أبو إسحاق :وبمكة أخرى .(/22)
قلت: هذا مقطوع ، لأنه من قول أبي إسحاق وهو تابعي ، لكن روي الترمذي ، عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه ، قال : "حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر ، وحجة بعدما هاجر معها عمرة...".
قال الترمذي : " هذا حديث غريب من حديث سفيان ، لا نعرفه إلا من حديث زيد بن الحباب ...
وسألت محمداً عن هذا ، فلم يعرفه من حديث الثوري ، عن جعفر، عن أبيه، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأيته لم يَعُد هذا الحديث محفوظاً ، وقال : إنما يروى عن الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن مجاهد مرسلاً "(23).
قلت : فالحديث معلول ولا يصح .
قال ابن العربي : " فإن قيل : رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل أن يفرض الحج ، فعلى أيّ ملة كان ، فإن الناس اختلفوا فيه ؟ قلنا : قد بيّنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على شرعة أحد ، وأنه كان على الفطرة سليما عن الريبة ، سليماً عن البدعة ، سليماً عن المعصية ، مسدوداً عليه باب المخالفة لما يكره اللَّه بتوفيق اللَّه له ذلك وتيسيره ، حتى جاء أمر اللَّه ، فلما بعث اللَّه نبينا وقص عليه أمر الرسل ، وأعلمه حالهم وشرائعهم ، وتفصيل الكائنات، ورأى الأنبياء حجاجاً كإبراهيم ، مصلين ، حج فتطوع ، فجرى على الطريقة المثلى بتوفيق اللَّه تعالى حتى فرضه اللَّه علينا وعليه...." (24).
5- فائدة :سأل الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه اللَّه ، الشيخ ابن عرفة حين اجتماعه به في مصر عن ماء زمزم : لِمَ لم يكن عذباً ؟ فقال ابن عرفه في جوابه : إنما لم يكن عذباً ليكون شربه تعبداً لا تلذذاً . فاستحسن ابن حجر جوابه وطرب به . انتهى (25).
6- قال الشيخ ابن جاسر رحمه اللَّه : " وكلام الحنابلة صريح في أن المزاحمة التي تؤذي الغير أقل أحوالها الكراهة ، وعن عبد اللَّه بن الحارث قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعمر رضي اللَّه عنه : " يا أبا حفص إنك رجل قوي فلا تزاحم على الركن ، فإنك تؤذي الضعيف ، ولكن إن وجدت خلوة فاستلمه ، وإلا فكبر وامض "رواه الشافعي وأحمد وغيرهما ، وهو مرسل جيد ،فظهر مما تقدم أن المزاحمة على الحجر بحيث يحصل منها إيذاء لنحو ضعيف منهيٌ عنها للآثار المتقدمة ، وأما فعل عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما فليس بحجة ، لا سيما وقد خالفه والده عمر رضي اللَّه عنه ، وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وغيرهم من الصحابة واللَّه أعلم"(26).
قلت : فظهر خطأ أولئك القوم الذين يتزاحمون على تقبيل الحجر ، ويؤذي بعضهم بعضا ، وربما تلفظ بعضهم بألفاظ قبيحة .
نسأل اللَّه السلامة والعافية.
7- قال العلماء : الحج المبرور : هو الذي اشتمل على الصفات التالية:
أ ـ أن يكون خالصاً للَّه .
ب ـ أن يكون بمال حلال . فإن لم يكن بمال حلال فليس بمبرور وقد قيل :
إذا حججت بمال أصله سحت ... ...
فما حججت ولكن حجت العير
ما يقبل اللَّه إلا كل صالحة ... ...
ما كل من حج بيت اللَّه مبرورا
جـ - أن يقوم فيه بفعل المأمور .
د - أن يجتنب فعل المحظور .
وقد سئل الحسن البصري رحمه اللَّه : ما الحج المبرور ؟ قال : هو أن يرجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة (27).
8 - فائدة :لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إحرام المرأة في وجهها " ، وإنما هو قول بعض السلف .
9- قال ابن الجوزي رحمه اللَّه : " اعلم أن غض البصر عن الحرام واجب ، ولَكم جلب إطلاقه من آفة ، خصوصاً في زمن الإحرام وكشف النساء وجوههن ، فينبغي لمن يتقي اللَّه عز وجل أن يزجر هواه في مثل ذلك المقام تعظيماً للمقصود ، وقد فسد خلق كثير بإطلاق أبصارهم هنالك "(28).
10- قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه اللَّه : " فمن المعلوم أن الذي يوالي بين العُمَر من مكة في شهر رمضان أو غيره أولى بالكراهة ، فإنه يتفق في ذلك محذوران :
أحدهما : كون الاعتمار من مكة ، وقد اتفقوا على كراهة اختيار ذلك ، بدل الطواف .
والثاني : الموالاة بين العُمَر ، وهذا اتفقوا على عدم استحبابه ، بل ينبغي كراهته مطلقاً فيما أعلم لمن لم يعتض عنه بالطواف ، وهو الأقيس، فكيف بمن قدر على أن يعتاض عنه بالطواف ؟!
بخلاف كثرة الطواف ، فإنه مستحب مأمور به ، لا سيما للقادمين، فإن جمهور العلماء على أن طوافهم بالبيت أفضل لهم من الصلاة بالمسجد الحرام ، مع فضيلة الصلاة بالمسجد الحرام "(29).
وقال طاؤوس بن كيسان رحمه الله : " لا أدري الذين يعتمرون من التنعيم يؤجرون أو يعذبون ، قيل له : فلِم يعذبون ؟ قال : لأنه يدع البيت والطواف ، ويخرج إلى أربعة أميال ، ويجيء أربعة أميال ، قد طاف مائتي طواف ، وكلما طاف كان أعظم أجراً من أن يمشي في غير ممشى"(30).
قلت : فظهر خطأ أولئك القوم الذين يكرِّرون العمرة في سفرة واحدة من التنعيم ، فإن هذا العمل ليس بمشروع ، وهو إلى الكراهة أقرب ، كما قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .(/23)
________________________________________
(1)-"الروض المربع" بحاشية العنقري(1/469) .
(2) -"صحيح مسلم "(1245)، (1244).
(3-"زاد المعاد "(2/186) .
(4-"شرح العمدة "ـ كتاب المناسك (1/442) .
(5)- "فتح الباري "(3/492) .
(6) -انظر : "مثير العزم الساكن" لابن الجوزي (2/49) .
(7)-"زاد المعاد "(2/227) .
(8)-من تعليقه على "صحيح مسلم "(16/ 176) من شرح مسلم للنووي.
وانظر : "المغني" (5/232) ، "وفتح الباري" (487) .
(9)-"شرح مسلم "(8/192) .
(10) -" سنن الترمذي "(827)، وابن ماجه (2924) ، والدارمي (1/459) ح(1743) ، والبزار (71) ، وابن خزيمة (2631) ، والحاكم (1/451)، والبيهقي (5/42) من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن الضحاك بن عثمان ، عن محمد ابن المنكدر ، عن عبد الرحمن بن يربوع ، عن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه .
قال الترمذي : " حديث أبي بكر حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي فديك ، عن الضحاك بن عثمان ، ومحمد بن المنكدر لم يسمع من عبد الرحمن ابن يربوع ، وقد روي محمد بن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع ، عن أبيه ، غير هذا الحديث ".
وأخرجه الترمذي أيضاً ، والبيهقي (5/42-43) عن ضرار بن صُرد، عن ابن أبي فديك به . وفيه : عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع ، عن أبيه .
قال الترمذي : " وأخطأ فيه ضرار ، ثم قال : سمعت أحمد بن الحسن يقول : قال أحمد بن حنبل : مَن قال في هذا الحديث : عن محمد بن المنكدر ، عن ابن عبد الرحمن بن يربوع ، عن أبيه ، فقد أخطأ .
قال : وسمعت محمداً يقول : ذكرت له حديث ضرار بن صرد ، عن ابن أبي فديك فقال : هو خطأ ، فقلت : قد روى غيره عن ابن أبي فديك أيضاً مثل روايته ، فقال : لا شيء ، إنما رووه عن ابن أبي فديك ، ولم يذكروا فيه عن سعيد بن عبد الرحمن ، ورأيته يضعِّف ضرار بن صرد ".
فالحديث في إسناده ضعف واضطراب .
وانظر : "العلل" للدار قطني (1/279) ، "التلخيص الحبير" (2/255) .
(11)-"النهاية "لابن الأثير (1/207) .
(12)-من تعليق شيخنا على "صحيح مسلم " (8/192) من شرح النووي .
(13)-"شرح مسلم" (9/70) .
(14)-"فتح الباري "(3/547) .
(15)-"المغني" (5/350ـ351) .
(16)- الروض المربع بحاشية العنقري (1/487) ، "المغني" (5/350-351).
(17)- "الروض المربع " بحاشية العنقري (1/498) .
(18)-"الاختيارات" لشيخ الإسلام ابن تيميه ص(120).
(19)-"المغني "(5/449) .
(20)-"مجموع الفتاوي "(26/19ـ 20) .
(21)-"تفسير ابن كثير "(1/205).
(22)-"أخبار مكة "للأزرقي (1/68)، "مثير العزم الساكن "لابن الجوزي (2/126) .
(23)-"سنن الترمذي "(2/168) .
(24)-"عارضة الأحوذي "(4/32) .
(25)-"مفيد الأنام "ص(365) .
(26)-"مفيد الأنام "ص(242) .
(27)- " تفسير القرطبي" (4/142) .
(28)-"مثير العزم الساكن " (1/407) .
(29-"مجموع الفتاوي "(26/290) .
(30)-"سبل السلام "(2/375)(/24)
وقفات مع حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم
الدكتور عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف
إن الحديث عن نبينا وحبيبنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث تنشرح له صدور أهل الإيمان، وتتشوق له نفوس الصالحين، ويدفع العاملين إلى الاستقامة على الصراط المستقيم، كيف لا وهو - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم، وخاتم النبيين، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قد خصه الله - تعالى - بخصال رفيعة كثيرة انفرد بها عن بقية الأنبياء السابقين - عليهم السلام - فهو أول من يعبر على الصراط يوم القيامة، وأول من يقرع باب الجنة ويدخلها، وله المقام المحمود ولواء الحمد، وهو أول شافع ومشفع. وفي هذه السطور أستعرض معك - أخي القارئ - شيئاً من الحقوق الواجبة علينا تجاه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -:
1- يمكن - ابتداءً - أن نجعل حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بهذه العبارة الجامعة التي سطرها الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قائلاً: "ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع" (1).
2- وإن من أهم ما يجب علينا تجاه حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن نحقق محبته اعتقاداً وقولاً وعملاً، ونقدمها على محبة النفس والولد والناس أجمعين. قال - تعالى -: ( قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ) [التوبة: 24].
يقول القاضي عياض عن هذه الآية: "فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها - صلى الله عليه وسلم - إذ قرَّع - سبحانه - من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وأوعدهم بقوله - تعالى -: ( فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ) ثم فسَّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله" (2).
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين » (3).
وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان - وذكر منها - أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» (4).
ولقد ضرب الصحابة - رضي الله عنهم - أروع الأمثلة في صدق وتمام المحبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول للعباس: « أن تُسْلم أحب إليَّ من أن يسلم الخطاب؛ لأن ذلك أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
وسئل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كيف كان حبكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان - والله - أحب إلينا من أموالنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ. وكان عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يقول: ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه.
ولا شك أن لمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم - علامات، منها كثرة ذكره له، فمن أحب شيئاً أكثر ذكره، ومنها كثرة شوقه إلى لقائه، فكل حبيب يحب لقاء حبيبه. ومنها محبته لمن أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم وسبهم، فمن أحب شيئاً أحب من يحبه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحسن والحسين: اللهم إني أحبهما فأحبهما. ومن علامة حبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - شفقته على أمته، ونصحه لهم، وسعيه في مصالحهم، ورفع المضارّ عنهم، كما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم - بالمؤمنين رءوفاً رحيماً (5).
3- ومن أهم وأكثر علامات محبته -صلى الله عليه وسلم - : متابعته والاقتداء به، يقول القاضي عياض - رحمه الله -: "اعلم أن من أحب شيئاً آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه، وكان مدّعياً، فالصادق في حب النبي - صلى الله عليه وسلم - من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به، واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وشاهد هذا قوله - تعالى -: ( إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران: 31] (6).
كما أن من متابعته - صلى الله عليه وسلم - التمسك بسنته والحذر من الابتداع في دين الله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) (7).(/1)
يقول ابن رجب في شرح هذا الحديث: "فهذا الحديث يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل عليه أمره فهو غير مردود، والمراد بأمره ها هنا دينه وشرعه، فالمعنى إذاً: أن مَن كان عمله خارجاً عن الشرع ليس متقيداً بالشرع فهو مردود" (8).
4- ومن حقه - صلى الله عليه وسلم -: أن الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال: ( وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ) [الفتح: 9].
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: "التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار"(9).
ويقول أيضاً: "أما انتهاك عِرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه منافٍ لدين الله بالكلية العرض متى انتُهك سقط الاحترام والتعظيم، فسقط ما جاء به من الرسالة، فبطَل الدين، فقيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله، وإذا كان كذلك وجب علينا أن ننتصر له ممن انتهك عرضه" (10).
وقد قال الله - تعالى -: ( إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)[الكوثر: 3]، فأخبر - سبحانه - أن شانئه (مبغضه) هو الأبتر،، والبتر: القطع، فبيَّن - سبحانه - أنه هو الأبتر بصيغة الحصر والتوكيد..ومما قال ابن تيمية عن هذه الآية الكريمة الجامعة: "إن الله - سبحانه - بتر شانئ رسوله من كل خير، فيبتر ذكره - وأهله - وماله، ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحاً لمعاد، ويبتر قلبه فلا يعي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله، ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصراً ولا عوناً، ويبتره من جميع القُرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعماً، ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره، فقلبه شارد عنها".
وقال أبو بكر بن عياش: أهل السنة يموتون ويحيى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكان لهم نصيب من قوله: ( ورَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[الشرح: 4].وأهل البدعة شَنَأُوا ما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم - فكان لهم نصيب قوله: ( إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)(11، 12).
5- ولقد تحققت العقوبات، ووقعت المثُلات في حق مَن أبغض الرسول -صلى الله عليه وسلم - أو تنقصَّه بسب أو استهزاء، أو افتراء. وقد عرف من ذلك حالات عديدة منها:
أ- من ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس - رضي الله عنه -، قال: كان رجل نصراني، فأسلم وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي e فعاد نصرانياً، فكان يقول: لا يدري محمد إلا ما كتبتُ له، فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا فألقوه، فحفروا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه.
ب- ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية "عن أعداد من المسلمين العدول في الفقه والخبرة، عما جربوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس، فإذا تعرَّض أهله لسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والوقيعة في عرضه، فعجلنا، وتيسر، ولم يكد يتأخر إلا يوماً أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة، حتى إن كنا لَنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظاً عليهم بما قالوا فيه" (13).
ج- ومن العقوبات التي حلت بمن انتقص الرسول e ولو تعريضاً - في هذا الزمان ما ذكره الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - عن أحد خطباء مصر، وكان فصيحاً متكلماً مقتدراً وأراد هذا الخطيب أن يمدح أحد أمراء مصر عندما أكرم طه حسين، فقال في خطبته: جاءه الأعمى (14).
فما عبس بوجهه وما تولى!، فما كان من الشيخ محمد شاكر - والد الشيخ أحمد شاكر - إلا أن قام بعد الصلاة، يعلن للناس أن صلاتهم باطلة، وعليهم إعادتها؛ لأن الخطيب كفر بما شتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أحمد شاكر: "ولكن الله لم يدعْ لهذا المجرم جرمه في الدنيا، قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسمُ بالله لقد رأيته بعيني رأسي - بعد بضع سنين، وبعد أن كان عالياً منتفخاً، مستعزّاً بمَن لاذ بهم من العظماء والكبراء - رأيته مهيناً ذليلاً، خادماً على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه، فما كان موضعاً للشفقة، ولا شماتة فيه؛ فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيت من عبرة وعظة" (15).(/2)
6- وفي نهاية هذه المقالة أقول: إن مما حباً للرسول -صلى الله عليه وسلم - والتصاقاً بهديه وسيرته، أن نسعى إلى محاسبة أنفسنا ومعرفة أخطائنا، فإذا اكتشفنا عيوباً، فسنجد في هديه - صلى الله عليه وسلم - العلاج الناجع لهذه الأدواء التي حلت بنا، وإليك أمثلة على ذلك:
فإذا كان أحدنا مقصراً في جانب النوافل والعبادات - مثلاً - فليتذكر أن رسول الله e كان يصلي حتى تتورم قدماه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وقد يكون أحدنا متصفاً بالجبن والهلع، ألا فليعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر أنس بن مالك - رضي الله عنه - كان من أشجع الناس، وقد قال علي - رضي الله عنه -: إنا كنا إذا حمي البأس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولما كان البعض منا مشغوفاً بحب الدنيا والتكالب عليها، ومن ثم فلينظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان من أزهد الناس في الدنيا، حتى قالت عائشة: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أياما تباعاً - من خبز حتى مضى لسبيله (16).
وقد نلمس في أنفسنا وغيرنا جفاءً مع الناس وسوء معاملة، وقد قال أنس: خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي أُفٍّ قط، وما قال لشيء صنعته لِمَ صنعته؟ ولا لشيء تركته لم تركته؟ وصدق الله - تعالى - عندما قال - سبحانه - في شأنه -: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) [آل عمران: 159].
وأخيراً فقد يتلبس أحدنا بأَثَرَة وأنانية، فلا يهتم إلا بنفسه وشخصه مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ». هذا الحديث الذي يبين ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الموالاة والرحمة والإشفاق لأهل الإيمان، عن جرير قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة، متقلدي السيوف، عامتهم من مُضر، بل كلهم من مضر، فتمعَّر (تغير) وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذّن وأقام، ثم خطب فقال: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ.. ) إلى آخر الآية( إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء: 1]، والآية التي في الحشر (يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) [18] تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثويه، من صاع بُره، من صاع تمره حتى قال: « ولو بشق تمرة »، قال: فجاء رجل من الأنصار كادت كفه تعجز عنها، بل لقد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله e يتهلل (يستنير) كأنه مُذْهَبَة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سن الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينتقص من أجورهم شيء » (17).
أسأل الله أن يرزقنا تمام التأسي برسول الله e وأن يحشرنا مع زمرته.
-----------------------------------------------------------
المصادر:
1- مجموعة مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 1/190.
2- الشفا، 2/563.
3- رواه البخاري ومسلم.
4- رواه البخاري ومسلم.
5- انظر تفصيلاً لتلك العلامات في كتاب الشفا للقاضي عياض، 2/571-577.
6-الشفا، 2/571.
7-رواه البخاري ومسلم.
8- جامع العلوم والحكم، 1/177.
9- الصارم المسلول، 422.
10- الصارم المسلول، 211.
11- الفتاوى، 16/526-528 باختصار.
12- الصارم المسلول، 457-458.
13- الصارم المسلول، 117.
14- يعني طه حسين، ومن المعلوم أن طه حسين كان أعمى البصر والبصيرة، انظر: (طه حسين في ميزان الإسلام) للأستاذ أنور الجندي.
15- كلمة الحق، 176-177.
16- رواه مسلم.
17- رواه مسلم.
6/8/1425 هـ
20– 09 - 2004
http://www.islamlight.net المصدر:(/3)
وقفات مع سورة الفاتحة ...
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمَّد وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنَّ سورةَ الفاتحة التي يقرؤها المسلم في صلاته بعدد ركعات الصَّلوات؛ لقوله فيما رواه البخاري من حديث عبادة: « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب... » يدلُّ هذا على عظيم شأن هذه السُّورة وجليل قدرها، وأنَّه ينبغي للمسلم أن يتأمَّل معانيها فلحكمةٍ بالغةٍ شرع الله تكرارها في الصَّلوات من بين سور القرآن آية.
أسماء سورة الفاتحة:
سورة الفاتحة: فقد سمَّاها النَّبي صلَّى الله عليه وسَّلم: « فاتحة الكتاب » ؛ وذلك لأنَّها أوَّل ما يقرأ من القرآن الكريم.
أم القرآن: وهكذا سمَّاها النَّبيُّ وأنها سمَّيت أم القرآن والله أعلم؛ لأنَّ معاني القرآن الكريم ترجع إلى هذه السُّورة فهي تشمل المعاني الكلِّية والمباني الأساسَّية التي يتكلَّم عنها القرآن.
السبع المثاني: وذلك لأنَّها سبع آيات تقرأ مرَّة بعد مرَّة.
القرآن العظيم: وقد سمَّاها الرَّسول ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : « هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته » .
سورة الحمد: لأنَّها بدأت بحمد الله عزَّ وجلَّ.
الصلاة: كما سمَّاها الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي: « قسَّمت الصَّلاة بيني وبين عبدي نصفين » ؛ وذلك لأنَّها ذكرٌ ودعاء.
احتواؤها على أسماء الله الحسنى:
في هذه السُّورة ذكر الله عزَّ وجلَّ خمسةً من أسمائه الحسنى:
الله - الربَّ - الرحمن - الرَّحيم - المالك.
أولاً: الله: وهو الإسم الأعظم لله عزَّ وجلَّ ( على قول طائفة من أهل العلم ) الذي تلحق به الأسماء الأخرى، ولا يشاركه فيه غيره.
من معاني اسم الله: أنَّ القلوب تألهه ( تحنُّ إليه ) وتشتاق إلى لقائه ورؤيته، وتأنس بذكره.
من معاني لفظ الجلالة: أنَّه الذي تحتار فيه العقول فلا تحيط به علماً، ولا تدرك له من الكنه والحقيقة إلا ما بيّن سبحانه في كتابه أو على لسان رسوله، وإذا كانت العقول تحتار في بعض مخلوقاته في السَّماوات والأرض، فكيف بذاته جلَّ وعلا.
ومن معاني الله: أنَّه الإله المعبود المتفرد باستحقاق العبادة، ولهذا جاء هذا الإسم في الشَّهادة، فإنَّ المؤمن يقول: ( أشهد أن لا إله إلا الله ) ولم يقل مثلاً: أشهد أن لا إله إلا الرحمن.
ثانياً: الربُّ: فهو ربُّ العالمين، ربُّ كلَّ شيء وخالقه، والقادر عليه، كلُّ من في السماوات والأرض عبدٌ له، وفي قبضته، وتحت قهره.
ثالثاً ورابعاً: الرَّحمن، الرَّحيم: واسم الرَّحمن كاسم الله لا يسمَّى به غير الله ولم يتَّسم به أحد. فالله والرحمن من الأسماء الخاصة به جلًّ وعلا لا يشاركه فيها غيره أمَّا الأسماء الأخرى فقد يسمَّى بها غير الله كما قال سبحانه عن نبيَّه: { بِالْمُؤمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة:22].
والرَّحمن والرَّحيم مأخوذان من الرَّحمة.
الرَّحمن: رحمة عامَّة بجميع الخلق. والرَّحيم: رحمة خاصَّة بالمؤمنين.
وفي تكرار الإنسان بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في جميع شؤونه، ولم يقل أحد ( بسم الله العزيز الحكيم ) مع أنَّه حقٌّ إشارة إلى قول الله سبحانه في الحديث القدسي: « إنَّ رحمتي سبقت غضبي » وكثيراً ما كان الرَّسول يعلِّم أصحابه الرَّجاء فيما عند الله، وأن تكون ثقةُ الإنسان بالله وبرحمته أعظم من ثقته بعلمه، قال صلى الله عليه وسلم : « لن يُدخلَ أحداً الجنَّة عَمَلُهُ، ولا أنا إلا أنْ يتغمَّدني اللهُ برحمتِهِ » .
فهذه الأسماء الثَّلاثة: الله، الربُّ، الرحمن: هي أصول الأسماء الحُسْنى، قاسم الله: متضمِّنٌ لصفات الألوهيَّه. واسم الرَّبِّ: متضمِّنٌ لصفات الرُّبوبيَّة. واسم الرَّحمن: متضمِّنٌ لصفات الجود والبرِّ والإحسان.
فالرُّبوبية: من الله لعباده. والتَّأليه: منهم إليه. والرَّحمة: سببٌ واصلٌ بين الرَّبِّ وعباده.
خامساً: المالك: وذلك في قوله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ أي يوم يدان النَّاس بعملهم، وفيه ثناء على الله، وتمجيد له، وفيه تذكيرٌ للمسلم بيوم الجزاء والحساب.
قوله تعالى: { الْحَمْدُ للهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } :
الحمد: هو الثَّناء على المحمود بأفضاله وإنعامه. المدح: هو الثَّناء على الممدوح بصفات الجلال والكمال.
فالحمد ثناءٌ على الله تعالى بما أنعم عليك وما أعطاك، فإذا قيل: إنَّ فلاناً حمد، فمعناه: أنّه شكره على إحسان قدَّمه إليه؛ لكن إذا قيل: مدحه، فلا يلزم أن يكون مدحه بشيء قدَّمه، بل بسبب، مثلاً بلاغته، وفصاحته، أو قوته إلى غير ذلك.
فالحمد فيه معنى الشُّكر ومعنى الاعتراف بالجميل، والسُّورة تبدأ بالاعتراف، والاعتراف فيه معنى عظيمٌ؛ لأنَّه إقرارٌ من العبد بتقصيره وفقره وحاجته واعترافٌ لله جلَّ وعلا بالكمال والفضل والإحسان وهو من أعظم ألوان العبادة.(/1)
ولهذا قد يعبد العبد ربَّه عبادة المعجب بعمله فلا يُقبل منه؛ لأنَّه داخله إعجابٌ لا يتَّفق مع الاعتراف والذُّل، فلا يدخل العبد على ربِّه من بابٍ أوسع، وأفضل من باب الذُّلِّ له والانكسار بين يديه، فمن أعظم معاني العبادة: الذُّلُّ له سبحانه. ولهذا كان النَّبيُّ كثير الاعتراف لله تعالى على نفسه بالنَّقص والظُّلم فكان صلى الله عليه وسلم يقول: « اللهمَّ، إنِّي ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وأنَّه لا يغفر الذُّنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنّك أنت الغفور الرَّحيم » .
فبدء السُّورة بـ { الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فيه معنى الاعتراف بالنِّعمة، ولا شكَّ أنَّ عكس الاعتراف هو الإنكار والجحود، وهو الذَّنب الأوَّل لإبليس الذي استكبر عن طاعة الله، فإذا قال العبد: { الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } تبرَّأ من هذا كلَّه فيقول: ( أعترف بأنِّي عبدٌ محتاجٌ فقيرٌ ذليلٌ مقصِّرٌ، وأنَّك الله ربِّي المنعمُ المتفضِّلُ ).
قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } :
{ إِيَّاكَ } : تقديمٌ للضَّمير. إشارة للحصر والتخصيص، وفيه معنى الاعتراف لله تعالى بالعبوديَّة، وأنَّه لا يُعْبَدُ إلا الله وهو أصلُ توحيد الألوهية وما بعث به الرُّسل؛ لأنَّ قضيَّة الرُّبوبيَّة وهي الاعتراف بالله عزَّ وجلَّ أمر تفطر به النُّفوس، والانحراف فيه لا يقاس بما حصل في موضوع الشِّرك في توحيد الألوهية، ولذا ينبغي أن نعتني كثيراً بدعوة النَّاس إلى توحيد الألوهية وإفراد الله بالعبادة؛ لأنَّه أصل الدَّين.
وقوله: { إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فيه إثبات الاستعانة بالله، ونفيها عمَّن سواه يعني لا نطلب إلا عونك، فلا نستعين بغيرك، ولا نستغني عن فضلك؛ ولهذا قال تعالى في الحديث القدسي: « هذا بيني وبين عبدي » فقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } فهو حقُّ الله تعالى على العبد، فيقرُّ به وأمَّا قوله: { إِيَّاكَ نَستْعِينُ } فهو استعانة العبد بالله عزَّ وجلَّ على ذلك؛ إذ لا قوام له حتَّى على التَّوحيد فضلاً عن غيره من أمور الدُّنيا والآخرة إلا بعون الله. قال تعالى: { وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ } [الأعراف:34].
قوله تعالى: { اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ } :
سؤال هداية يتضمَّن معاني متنوعةً:
المعنى الأوَّل: ثبِّتْنا على الصِّراط المستقيم، حتَّى لا ننحرف، أو نزيغ عنه؛ لأنه من الممكن أنْ يكون الإنسان اليوم مهتدياً وغداً من الظَّالمين.
المعنى الثَّاني: قوِّ هدايتنا، فالهداية درجاتٌ، والمهتدون طبقاتٌ، منهم من يبلغ درجة الصِّديقيَّة، ومن هم دون ذلك، وبحسب هدايتهم يكون سيرهم على الصِّراط، فإنَّ لله تعالى صراطين: صراطاً في الدُّنيا وصراطاً في الآخرة، وسيرك على الصِّراط الأخروي - الذي هو الجسر المنصوب على متن جهنَّم يمشي النَّاس على قدر أعمالهم - بقدر سيرك على الصِّراط الدُّنيوي: فالصِّراط الدُّنيوي هو طريق الله بطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه، قال تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } [الشُّورى:53،52].
فقوله: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } يعني: قوِّ هدايتنا، وزد إيماننا، وعلِّمنا، فالعلم من الإيمان، وكلَّما ازداد العبد التزاماً بالصِّراط المستقيم ازداد علمه قال تعالى: { فَأَمَّا الّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [التَّوبة:124] فزيادة الإيمان هي زيادة ثبات على الصِّراط، قال تعالى: { الَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدى } [محمد:17].
فمن الممكن أنْ يكون الإنسان مهتدياً ثمَّ يزداد من الهداية بصيرةً وعلماً ومعرفةً وصبراً فهذا من معاني قوله: { اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ } .
المعنى الثَّالث: أنَّ الصِّرلط المستقيم هو أن يفعل العبد في كلِّ وقت ما أُمِرَ به في ذلك الوقت من علمٍ وعملٍ، ولا يفعل ما نُهِىَ عنه بأن يجعلَ الله في قلبه من العلوم والإرادات الجازمة لفعل المأمور، والكراهات الجازمة لترك المحظور ما يهتدي به إلى الخير، ويترك الشَّرَّ، وهذا من معاني الهداية إلى الصَّراط المستقيم.
حقيقة الهداية:
قولك: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } أي يا ربِّ دُلَّني على ما تحبُّ وترضى في كلِّ ما يواجهني من أمور هذه الحياة، ثمَّ قوِّني وأعنِّي على العمل بهذا الَّذي دللتني عليه، وسرُّ الضَّلال يرجع إلى فقد أحد هذين الأمرين ( العلم والعمل ) والوقوع في ضدها.(/2)
أولاً: الجهل: فإنَّ الإنسان قد توجد عنده الرَّغبة في عمل الخير لكنَّه يجهل الطريقة الشَّرعيَّة لتحصيله، فيسلك طرقاً مبتدعة، ويجهد نفسه فيها بلا طائلٍ، وهو يحسب أنَّه يحسن صنعاً؛ بسبب قلَّة العلم، فعندما يقول العبد: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فهو يسأل ربَّه أنْ يعلمه، ويدُلَّه فلا يبقى في ضلال الجهل متخبطاً.
ثانياً: الهوى: فقد يكون الإنسان عالماً لكن ليس لديه العزيمة، تجعله ينبعث للعمل لهذا العلم، ويغلبه الهوى فيترك الواجب، أو يرتكب المحرَّم عامداً مع علمه بالحكم، لضعف إيمانه ولغلبة الشَّهوة وتعجل المتعة الدُّنيويَّة.
قوله تعالى: { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضَّالِّينَ } :
هذا تأكيدٌ للمعنى السّضابق وتفصيلٌ له، فقوله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يعني الذي حازوا الهداية التَّامَّة ممن أنعم الله عليهم من النَّبيِّين والصدِّيقين، والشُّهداء، والصَّالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
ثمَّ قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هم الذي عرفوا الحقَّ وتركوه اليهود ونحوهم، قال تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَةُ اللهُ وغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ } [المائدة:60].
فالمغضوب عليهم من اليهود أو غيرهم: لم يهتدوا إلى الصَّراط المستقيم، وسبب هدايتهم هو الهوى، فاليهود معهم علمٌ لكن لم يعملوا به.
وقدَّم الله تعالى المغضوب عليهم على الضَّالِّين؛ لأنَّ أمرهم أخطر وذنبهم أكبر؛ فأنَّ الإنسان إذا كان ضلاله بسبب الجهل فإنَّه يرتفع بالعلم، وأمَّا إذا كان هذا الضَّلال بسبب الهوى فإنَّه لا يكاد ينزع عن ضلاله. ولهذا جاء الوعيد الشَّديد في شأن من لا يعمل بعمله.
وقوله تعالى: الضَّالِّينَ هما الذين تركوا الحقَّ جهلٍ وضلال كالنَّصارى، ولا يمنع أنْ يكون طرأ عليهم بعد ذلك العناد والإصرار.
الطُّرق الثَّلاثة: إنَّنا الآن أمام ثلاثة طرق:
الأوَّل: الصِّراط المستقيم: وطريقتهم مشتملةٌ على العلم بالحقِّ والعمل به يقول تعالى: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ } [التوبة:33] يعني العلم النَّافع والعمل الصَّالح.
الثَّاني: طريق المغضوب عليهم: من اليهود ونحوهم وهؤلاء يعرفون الحقَّ ولا يعملون به.
الثَّالث: طريق الضَّالَّين: هؤلاء يعملون لكن على جهلٍ ولهذا قال بعض السَّلف: ( من ضلَّ من عباد هذه الأمَّة ففيه شبه من النَّصارى ) كبعض الفرق الصُّوفَّية التي تعبد الله على جهلٍ وضلالة.
وفي الختام أسأل الله تعالى أنْ يجعلنا ممن هدوا إلى الصِّراط المستقيم، ورزقوا العلم النَّافع والعمل الصَّالح وجُنِّبوا طريق المغضوب عليهم والضَّالِّين آمين .(/3)
وقفات مع صدر وختام سورة طه
د. عبد الله بن مقبل القرني
الحمد لله والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للأنام نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - وعلى آله وصحبه والتابعين له بإحسان أما بعد:
فإن سورة (طه) من السور المكية التي نزلت بمكة وخوطب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخطاب له ولأمته - عليه السلام -، واشتملت على بيان وظيفته ومهمته - عليه السلام - وضرب له فيها المثل بمن سبقه بالرسالة حيث تضمنت طرفاً من قصة موسى ثم آدم - عليهم السلام -. وبالنظر في بدء السورة وختامها كانت هذه الوقفات:
1) تبدأ هذه السورة بخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - (طه*مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) وبيان أن القرآن منزل من الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم ينزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليشقى به أو بسببه.
2) بيان وظيفته وحدود تكاليفه وهي الدعوة إلى الله وتذكير عباد الله (إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى)، ليتذكر به مَن يخاف عقاب الله، فيتقيه بأداء الفرائض واجتناب المحارم.
3) أن هذا القرآن منزل من الله الذي خلق الأرض والسموات العلى (تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى) (طه: 4).
4)التذكير باسم من أسماء الله وصفة من صفاته (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) أي ارتفع وعلا استواء يليق بجلاله وعظمته.
5) بيان عظمة الله وسعة ملكه (لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ) أي له - سبحانه – ما حوت السماوات (وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) وما اشتملت عليه الأرض ومايقع بين السماوات والأرض (وَمَا تَحْتَ الثَّرَى)وما تحت الأرض لله خَلْقًا ومُلْكًا وتدبيرًا.
6)ويخبر- تبارك وتعالى -عن سعة علمه بقوله: (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) وإن تجهر - أيها الرسول - بالقول، فتعلنه أو تخفيه، فإن الله لا يخفى عليه شيء، يعلم السر وما هو أخفى من السر مما تحدِّث به نفسك.
7) ثم بين - سبحانه - أنه (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) الله الذي لا معبود بحق إلا هو، له وحده الأسماء الكاملة في الحسن، ومن أحصاها ودعا بها وهو مؤمن دخل الجنة.
8) وأن أمر الخلق بعد ذلك إلى الله الواحد الذي لا إله غيره المهيمن على ظاهر الكون وباطنه الخبير بظواهر القلوب وخوافيها.
9) وبين المطلع والختام تعرض قصة موسى - عليه السلام - من حلقة الرسالة إلى حلقة اتخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر مفصلة مطولة. بدأً من الآية (9) (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى) إلى الآية (98)
10) تعقبها الإشارة في آيتين (99/100) إلى ما تضمنته السورة من قصص (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ) وما امتن به - تعالى -من إنزال القرآن (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) والوعيد لمن أعرض عنه بالشقاء (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً).
11) وتعرض السورة لجانب من قصة آدم - عليه السلام - (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) من الآية (115).
12) ثم يأتي التصريح بالوعيد بالشقاء الدنيوي لمن أعرض عن كتاب الله في قوله - تعالى -: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (124).
13) ثم يمضي السياق حتى يأتي ختام السورة(130-135) بادئاً بالأمر للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ما يلقاه في هذه الحياة (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) أي فاصبر - أيها الرسول - على ما يقوله المكذبون عنك من أباطيل كقولهم ساحر كاهن شاعر.
14) ويأتي الأمر بتنزيه الله جل في علاه (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (130) وفي هذا أمر للنبي - عليه السلام - بذكر الله وتنزيهه، وفي هذه الآية إشارة إلى الصلوات الخمس وسبِّح بحمد ربك في صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، وصلاة العصر قبل غروبها، وصلاة العشاء في ساعات الليل، وصلاة الظهر والمغرب أطراف النهار; كي تثاب على هذه الأعمال بما تَرْضى به.
15) ويعقبه النهي له - عليه السلام - عن النظر فيما أنعم به على العباد (وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) والمعنى: ولا تنظر إلى ما مَتَّعْنا به هؤلاء المشركين وأمثالهم من أنواع المتع، فإنها زينة زائلة في هذه الحياة الدنيا، متعناهم بها; لنبتليهم بها، مع كونه أزهد الخلق صلوات الله وسلامه عليه. وما أشد حاجتنا إلى هذا التوجيه.(/1)
16) ويتبعه الوعد الكريم من الرب الرحيم (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) أي: ورزق ربك وثوابه خير لك مما متعناهم به وأدوم; حيث لا انقطاع له ولا نفاد.
17) ويأت الأمر بقول الله - تعالى -: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) والمعنى: وَأْمُرْ - أيها النبي - أهلك بالصلاة، واصطبر على أدائها، والأمر أبلغ وأعظم من مجرد الأمر بالصبر.
18) ولعلمه - سبحانه - بخفايا النفوس وما يشغل العبد عن طاعة الرب قال: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) أي لا نسألك مالا، نحن نرزقك ونعطيك. والعاقبة الصالحة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى.
19) ثم يأتي تبيين قول المكذبين (وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى) أي وقال مكذبوك - أيها الرسول -: هلا تأتينا بعلامة من ربك تدلُّ على صدقك، أولم يأتهم هذا القرآن المصدق لما في الكتب السابقة من الحق؟
20) ثم جاء التهديد والوعيد والتذكير في قوله - تعالى -: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) أي: ولو أنَّا أهلكنا هؤلاء المكذبين بعذاب من قبل أن نرسل إليهم رسولا وننزل عليهم كتابًا لقالوا: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا من عندك، فنصدقه، ونتبع آياتك وشرعك، مِن قبل أن نَذلَّ ونَخزى بعذابك.
21) وتختم السورة بقوله- تبارك وتعالى -: (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا) أي: قل - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين بالله: كل منا ومنكم منتظر دوائر الزمان، ولمن يكون لنصر والفلاح، فانتظروا، (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) مَن أهل الطريق المستقيم، ومَن المهتدي للحق منا ومنكم؟
22) ويلاحظ المتدبر لمطلع السورة وختامها أن جو السورة من مطلعها إلى ختامها خطاب رخي شجي ندي بذلك المد الذاهب مع الألف المقصورة في فواصل وتذييل الآيات كلها تقريبا.
23) يقول الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: وقد جاءت خاتمة هذه السورة كأبلغ خواتم الكلام لإيذانها بانتهاء المحاجة وانطواء بساط المقارعة. ومن محاسنها: أن فيها شبيه رد العجز على الصدر لأنها تنظر إلى فاتحة السورة. وهي قوله (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى) لأن الخاتمة تدل على أنه قد بلغ كل ما بعث به من الإرشاد والاستدلال، فإذا لم يهتدوا به فكفاه انثلاج صدر أنه أدى الرسالة والتذكرة فلم يكونوا من أهل الخشية فتركهم وضلالهم حتى يتبين لهم أنه الحق.
http://www.olamaalshareah.net المصدر:(/2)
وقفات نبوية في حل الخلاف
وليد شلبي * 16/5/1424
16/07/2003
إذا كانت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تمثل لنا - نحن المسلمين- المصدر الثاني من مصادر التشريع ، والتطبيق العملي لأحكام القرآن وتشريعاته؛ فإنها ما زالت إلى الآن المعين الذي لا ينضب للقدوة العملية للدعاة في كيفية تحركهم بدعوتهم بين الناس ـ كل الناس ـ مسلمين و غير مسلمين ، مؤثرين فيهم بفعلهم قبل قولهم . وإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم هو القدوة لنا " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً " فإنه يتعين علينا أن نحسن التعامل مع السيرة وأن نحسن قراءتها ودراستها ومدارستها ، لنعرف كيف نستخرج منها العبر والعظات ولنعرف كيفية تعامل المصطفى صلى الله عليه وسلم مع الأحداث ، والأساليب التي اتبعها لعلاج المشكلات التي اعترضت الدعوة، وسنتناول هنا أسلوبه صلى الله عليه وسلم في حل الخلاف .
فقضية الخلاف وأسسه وآليات حله تمثل للدعاة قضية هامة وحيوية، وينبغي أن تكون في دائرة اهتمام جميع العاملين في الحقل الإسلامي . قد تكون هذه القضية شائكة في بعض الأحيان ، لكنها تحتاج لوقفة للدراسة والتأمل؛ لتجنب أي آثار سلبية قد تنجم عن عدم سلامة آليات حل ذلك الخلاف، فينبغي أن يظل الخلاف طبيعياً ما دمنا نتفق على الأسس والثوابت الشرعية اللازمة لإدارة الخلاف بصورة صحيحة.
ومن هنا يبرز السؤال الأهم : ما هي الأسس الشرعية لحل الخلاف داخل الصف الإسلامي ؟ وأعني بالصف الإسلامي العمل الإسلامي بجميع عناصره . إن الصف الذي يعمل لوجه الله وابتغاء مرضاته ويسعى لهدف سامٍ هو "تحكيم الإسلام في الأرض ونشره"، الصف الذي فيه ـ أو يفترض ـ مجموعة من خيرة المجتمع عقائدياً وأخلاقياً وعلمياً وفكرياً؛ لهو في حاجة ماسة لمستوى رفيع في حل خلافاته سواء بين الأفراد وبعضها، أو بين الأفراد والقيادة، أو حتى بين القيادات وبعضها .
إن هذه القضية تعد من أهم وأخطر قضايا العمل الإسلامي وتحتاج منا للدراسة المتأنية؛ لنضع الأسس والثوابت والآليات، حتى تكلل الجهود بالنجاح وتؤتي أفضل النتائج، وحتى توحد الصفوف والجهود، فلنتدارس سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ونأخذ منها العبر والعظات، لتكون لنا نبراساً يضيء الطريق .
سنتحدث هنا عن ثلاثة مواقف للنبي صلى الله عليه وسلم لنرى كيفية تعامله الأمثل لحلها ووضعه للأسس الصحيحة التي يُحل بها الخلاف، ويبقى على الدعاة الاستفادة من هذه الأسس وتجذيرها وتأصيلها في النفوس ونشرها، ومن ثم يبقى علينا أن نضع الآليات المناسبة للزمان والمكان ليسمح باحتواء الخلاف وعدم تصعيده، فالحديث سيكون عن الأسس والثوابت التي اتبعها المصطفى صلى الله عليه وسلم في إدارته للخلاف؛ لنتعلم منها ونقتدي بها .
الموقف الأول
موقف بعض الأنصار من غنائم حنين وما وجدوه في أنفسهم من توزيع النبي صلى الله عليه وسلم وعطائه الجزيل لقريش وبعض قبائل العرب . وعدم إعطائهم منها ، حتى قالوا : إن هذا لهو العجب يُعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم .(/1)
"لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا لقريش وبعض قبائل العرب ولم يكن للأنصار منها شيء؛ وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم جدةً وألماً حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فخرج سعد وجمع الأنصار في تلك الحظيرة فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله أثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار ما قالة بلغني عنكم وجدةٌ وجدتموها عليّ في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله وعالة فأغناكم الله وأعداء فألف الله بين قلوبكم، قالوا: بلى لله ورسوله المن والفضل، ثم قال ألا تجيبونني يا معشر الأنصار، قالوا بماذا نجيبك يا رسول الله، لله و لرسوله المن والفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم؛ أتيتنا مكذَّبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفرقوا (السيرة النبوية ج5/ص 176/ 177 بتصرف يسير)
لقد اتبع المصطفى صلى الله عليه وسلم في حل هذه القضية منهجاً غاية في الرقي والسمو والشفافية، ولابد لنا من وقفات مع هذا المنهج الفريد؛ لنتعلم كيف يُحل الخلاف مهما كان حجمه؛ فالموقف جد خطير أن يجد بعض الصحابة في أنفسهم من فعل للرسول صلى الله عليه وسلم وهم الذين آمنوا به وصدقوه وناصروه. ولكنها الطبيعة البشرية التي تعامل معها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأحسن ما يكون . وسنذكر هنا بعض الأسس المستفادة من هذا الموقف لنتبعها عند حل خلافاتنا.
أولاً : الاستماع الدقيق للرأي الآخر وعدم تسفيهه أو الحكم عليه قبل سماعه:
فلقد استمع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى سيدنا سعد بن عبادة وهو يروي القضية كاملة ثم اتخذ قراره بجمع الصحابة ليناقشهم فيما قالوا؛ فلا ينبغي على القائد أن يتخذ قرارات من مصدر معلومات دون التأكد من صاحب القضية، إنها قضية التبين والتحقق، بالرغم من أن سيدنا سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ يُعد من أطراف القضية ومن أصحابها، ولكنه الدرس النبوي الكريم لوضع الأسس السليمة لحماية المجتمع، فهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم فأين نحن منه صلى الله عليه وسلم؟ فهو يتخذ هذه الخطوات ليعلمنا ويرشدنا ويرسم لنا خطوط النجاة، فلابد من تقبل الرأي الآخر والتعامل معه باهتمام وعدم إهماله، وذلك كبداية للحل.
ثانياً : سعة صدر القيادة:
لم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصفهم بأية صفة تنقص من إيمانهم، أو حتى تشكك فيه، ووضح بنفسه ما يمكن أن يجول بخاطر أي منهم "أما لو شئتم لقلتم ، فلصدقتم ولصُدِّقتم" فأية سعة صدر؟ وأية عظمة هذه؟ إنها عظمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلم نسمع أنها عدم ثقة في القيادة وقراراتها . إن الاختلاف في رأي أو قرار ما لا يعني عدم الثقة في القيادة مهما كان هذا الرأي ، ما دام في دائرته الشرعية ولم يخرج عنها.
ثالثاً : التزام أدب الخطاب والرقي به:
حيث بدأ المصطفى صلى الله عليه وسلم بعرض ملخص للقضية من وجهة نظر الأنصار " يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم ... " ثم ذكرهم بفضل الله عليهم " ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله ؟! " ثم بدأ الحوار " ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ..؟" فما دام الحوار بهذا الرقي فلابد أن يكون الرد مناسباً له" لله ورسوله المن والفضل " فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بتذكيرهم بفضلهم، وذلك لنزع ما قد يكون في صدورهم من بذور الخلاف، ثم يأتي دور إبراز الحقيقة وتجليتها لهم؛ فيكون الرد الطبيعي والمنطقي لهذه المقدمات " رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً وحظاً "
إن التزام أدب الحوار في حل المشكلة سيقصر من وقت حلها وسيسرع في الحل الفوري لها، فلا مجال للصراخ والصوت المرتفع . إنها نتاج العقيدة الراسخة في النفوس.
رابعاً : التذكير بالمسلمات كبداية للحل:(/2)
فعندما ذكرهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بفضل الله عليهم ثم بفضله صلى الله عليه وسلم عليهم، وبعد ذلك جهودهم في نصرة الله ورسوله؛ أظهر لهم الحقيقة، فكانت كل هذه الخطوات متدرجة مع النفس لتقبل الحل وتنحي المجادلة العقيمة، فلنبدأ أولى خطوات الحل بالمسلمات ونقاط الاتفاق ثم نقاط الاختلاف؛ حتى نجد أرضية مشتركة للتفاهم على الحل .
خامساً : التذكير بالفضل وعدم نسيانه:
فلنؤلف قلوب إخواننا ببعض محاسنهم ومناقبهم في بداية الحل ، حتى نهيئ النفوس لتقبل الحل ولرسوخه في ذات الوقت، فلو بدأنا بالسلبيات سواء عامة أو شخصية؛ لتوسعت دائرة الخلاف وتباعدت الرؤى .
سادساً : سرعة الحل:
فلقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم موعداً في الحال للاجتماع بهم ومناقشة الأمر معهم ، وهذا ما ينبغي عمله تجاه أي مشكلة في بدايتها وعدم تمييعها أو الاستهانة بها . إن التهاون في سرعة حل الخلاف في بدايته سيتسبب في خلل قد يكون أكبر من الخلاف ذاته . أما سرعة اتخاذ خطوات الحل فستئد أية فرصة لتصعيد الخلاف.
سابعاً : الإيجابية والمصارحة من كل الأطراف:
فلابد هنا من وقفة مع إيجابية سيدنا سعد بن عبادة عندما ذهب إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم في إيجابية رائعة لنقل الصورة بغرض الحل، فلابد من إيجابية الجندي والقائد لسرعة الحل. كما في موقفه عندما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم " فأين أنت من ذلك يا سعد؟" قال يا رسول الله ما أنا إلا من قومي" أي روعة وأي عظمة يسطرها التاريخ بأحرف من نور ، فمن يجامل إذا لم يجامل الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ ولكن المسألة هنا ليست مجاملة ، إنها إيجابية وتحديد موقف ومصارحة ومكاشفة من الجندي لقائده . فلم يتردد الجندي بالبوح بما في أغوار نفسه، ولم يتردد القائد أو يجد في نفسه من سماع رأي الجندي واعتباره وعدم إهماله ، أو الضغط عليه لتغيره . ففي سرعة تبليغ سيدنا سعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالوضع درس للجندي حيال المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقه لحماية الصف ووحدته، وضرورة تقديره للموقف، وسرعة إبلاغه لقائده، وفي ذات الوقت عليه إيضاح رأيه دون أي وجل أو تردد .
الموقف الثاني
هو ما حدث في صلح الحديبية فلقد كان معظم الصحابة رضوان الله عليهم رافضين لهذا الصلح، وضاقت صدورهم بشروط قريش المجحفة لهم . ولنرى كيفية تعامل المصطفى صلى الله عليه وسلم مع هذا الحدث ...
أولاً : استقراء الأحداث وبعد النظر:
فكل الشروط كانت ظالمة للمسلمين وغير منصفة لهم، ولكن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يرى بفراسته وبُعد نظره أموراً أخرى تلوح في الأفق. ويمكن استغلالها والاستفادة منها لنشر الدين، وهنا تنزل قوله تعالى: "إنا فتحنا لك فتحاً مبينا " فلقد سماه الله فتحاً، وفي هذا تأييد لموقف النبي صلى الله عليه وسلم ولفراسته.
وهنا يبرز درس هام؛ فعند الاختلاف في موقف يحق للقيادة الاستئثار برأي ما، إذا كانت ترى مصلحة أكبر أو ترى أبعاداً لا يراها الجنود، فحينئذ لابد من رأي واحد يجتمع عليه الصف.
ثانياً : احتواء الموقف :
فعندما اعترض سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال : يا رسول الله ألست رسول الله ؟ قال : بلى، قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى، قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى . قال : فعلام نُعطي الدنية في ديننا ؟ قال : أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ولن يضيعني .
فحرصُ الرسول صلى الله عليه وسلم على احتواء الموقف وعدم تصعيده؛ جعله يجيب عن كل أسئلة سيدنا عمر برحابة صدر، ثم رده للثوابت والحقائق التي لا خلاف عليها ، وذلك حفاظاً على وحدة الصف وعدم تشعب المواقف. فواجب القيادة السماع برحابة صدر، وواجب الجندي إبداء الرأي بوضوح تام والاستفهام عما يُستشكل عليه فهمه . ثم عليه بعد ذلك الالتزام بما تقرره القيادة .
كما يتضح ذلك عندما رفض سيدنا على ـ كرم الله وجهه ـ أن يمحو كلمة "رسول الله " فقام الرسول صلى الله عليه وسلم بمحوها بيده الشريفة ، لأنه لا وقت للنقاش واحتواء الموقف هو الأولى .
ثالثاً : قبول المشورة :
فعندما أشارت السيدة أم سلمة رضي الله عنها بالحل أخذ به ، فقالت " أخرج يا رسول الله وابدأهم بما تريد فإذا رأوك فعلت اتبعوك . فقدم عليه الصلاة والسلام إلى هديه فنحره ودعا الحلاق فحلق رأسه، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا " فالرسول صلى الله عليه وسلم استمع للمشورة وأخذ بها دون أدنى غضاضة في نفسه وكان في هذه المشورة الخير والفلاح . وهنا تجدر الإشارة لعظم دور المرأة فلا ينبغي أن نستصغر دورها؛ فقد يكون عاملاً حيوياً في درء الفتنة، فلقد رفعت السيدة أم سلمة حرجاً عظيماً عن المسلمين بمشورتها الصائبة الحكيمة وأخرجتهم من دائرة عدم الامتثال لأمر الرسول بسداد رأيها، وساعدت بذلك في إيجابية في حل الخلاف.
رابعاً : إيجابية الجندي :(/3)
فعندما ذهب سيدنا عمر إلى سيدنا أبي بكر، وقال له : أو ليس برسول الله ؟ قال : بلى . قال : أولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى ؟ قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى . قال : فعلام نُعطي الدنية في ديننا ؟ قال أبو بكر: يا عمر : الزم غرزه ( أي أمره ) فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله .
فهنا واجب الجندي المخلص ، أن يسمع لأخيه ويحتويه ويُخرج الشحنة التي بداخله، ثم يرده إلى الأصول التي لا خلاف عليها، فالجندي هو حائط الصد والدفاع الأول الذي يحمي الصف، فبيده أن يحمي الصف من خلافات كثيرة وكبيرة ومن مشاكل عديدة في مهدها، وذلك إذا أخلص لله واتقاه، ورد أخوه للصواب رداً جميلاً، وكان عوناً لأخيه على الشيطان ، لا أن يكون عوناً للشيطان على أخيه والصف في ذات الوقت.
الموقف الثالث
هو موقف الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية سيدنا حاطب بن أبي بلتعة عند فتح مكة . فلو صُنف هذا الموقف باصطلاحات العصر الحديث لكان (الخيانة العظمى) و(إفشاء أسرار عسكرية). وهاتان التهمتان هما أقصى ما يمكن أن يُحاكم عليهما إنسان في العصر الحديث ولهما أقسى عقوبة . فلنرى كيف تعامل معها المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم ونستخلص منها بعض العبر :
أولاً : التحري الدقيق وعدم الأخذ بالشبهات :
وهذا ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم حين أرسل بعض الصحابة لإحضار الخطاب من المرأة . فلقد أعلمه ربه بالحقيقة والجميع على يقين من ذلك، ولكنه الدرس الذي أراد لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نتعلمه، فلابد من التحري الدقيق وعدم الأخذ بالشبهات وأن تكون البينة على من ادعى، فإذا كان ذلك من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فإنه ممن دونه أولى وأوجب . إنه درس في الأخذ بالأسباب، وبذل الجهد والمشقة لمعرفة الحقيقة وإقرار العدل في أي خلاف ، فعلى كل قائد مهما كان موقعه أن يُجهد نفسه في التحري الدقيق عن الحقيقة.
ثانياً : إبداء الرأي والدفاع عن النفس :
لقد سمع المصطفى صلى الله عليه وسلم من حاطب دفاعه كله وأعطاه الفرصة الكاملة لذلك، وما كان صلى الله عليه وسلم في حاجة لذلك ولكنه القدوة صلى الله عليه وسلم يرسم لنا الطريق، فلنستمع جيداً إلى صاحب المشكلة وليقل كل ما يريد ليدافع به عن نفسه ويبرر لما قام به من عمل ـ من وجهة نظره ـ دون الحجر عليه، وهذا في الواقع واجب على القيادة أن تطلب الاستيضاح ثم تنظر فيه، وتحكم عليه بعد ذلك.
ثالثاً : أخذ العذر مأخذ الجد :
فإذا اعتذر فرد عن خطأ ما وأبدى عذراً تقبله القيادة؛ فليُفتح له باب الرجعة، ولا نوصد في وجهه الأبواب . فخطأ حاطب جسيمٌ، ومع ذلك قبل الرسول صلى الله عليه وسلم اعتذاره ورده للصف رداً جميلاً، ورفض أن يعتبره من المنافقين .
رابعاً : عدم نسيان الفضل والسبق :
فإذا أخطأ إنسان فلابد أن يقدر الخطأ بقدره ، وإذا كانت هناك أدنى فرصة لإعادته للصف وعدم إبعاده أو ابتعاده؛ فيكون ذلك أولى، خصوصاً إذا كان له فضل وسبق . لا نريد أن نقلب ظهر المجن لمن يُخطئ، وأن ننسى كل ما قدم وذلك ما دام الخطأ لم يتكرر ولم يُصر عليه، ولا بد من اعتبار لحظات الضعف البشري وعدم تجاهلها، فليس الأفراد بملائكة أخيار ولا أنبياء معصومين . ويظل للخطأ دائرته التي لا ينبغي تجاوزها.
وقد نزل في هذا الموقف قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة .." (الممتحنة 1) . ولقد اعتبر بعض العلماء هذه الآية منقبة عظيمة لحاطب رضي الله عنه لأن في ذلك شهادة له بالإيمان .
ويقول صاحب الظلال في تفسير هذه الآية : " وأول ما يقف الإنسان أمامه هو فعلة حاطب ، وهو المسلم المهاجر ، وهو أحد الذين أطلعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سر الحملة ...، وفيها يكشف عن مخبئات النفس البشرية العجيبة ، وتعرض هذه النفس للحظات الضعف البشري مهما بلغ من كمالها وقوتها ، وأن لا عاصم إلا الله من هذه اللحظات فهو الذي يعين عليها(/4)
ثم يقف الإنسان مرة أخرى أمام عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يعجل حتى يسأل : " ما حملك على ما صنعت؟" في سعة صدر وعطف في لحظة الضعف الطارئة في نفس صاحبه، وإدراك ملهم بأن الرجل قد صدق ومن ثم يكف عن صاحبه : " صدق لا تقولوا إلا خيرا " .. ليعينه وينهضه من عثرته، فلا يطارده بها، ولا يدع أحداً يطارده . بينما نجد الإيمان الحاسم الجازم في شدة عمر " إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه " فعمر ـ رضي الله عنه ـ إنما ينظر إلى العثرة ذاتها فيثور لها حسه الحاسم وإيمانه الجازم؛ أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظر إليها من خلال إدراكه الواسع الشامل للنفس البشرية على حقيقتها ، ومن كل جوانبها ، مع العطف الكريم الملهم الذي تنشئه المعرفة الكلية في موقف المربي الكريم العطوف المتأني الناظر إلى جميع الملابسات والظروف . ثم يقف أمام كلمات حاطب ، وهو في لحظة ضعف ، ولكن تصوره لقدر الله وللأسباب الأرضية هو التصور الإيماني الصحيح ... ذلك حين يقول : " أردت أن تكون لي عند القوم يد ... يدفع الله بها عن أهلي ومالي " .. فالله هو الذي يدفع ، وهذه اليد لا تدفع بنفسها ، إنما يدفع الله بها . ويؤكد هذا التصور في بقية حديثه وهو يقول :" وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع .. الله .. به من أهله وماله " . فهو الله حاضر في تصوره ، وهو الذي يدفع لا العشيرة، إنما العشيرة أداة يدفع الله بها " الظلال .
فهذه بعض المواقف من السيرة النبوية المطهرة لعلنا نتأسى ونقتدي بها في حياتنا، ونتبع منهج النبي صلى الله عليه وسلم في معالجته لبعض الخلافات التي نعدها الآن ـ من منظورنا ـ جسيمة وربما مستعصية على الحل؛ فإذا بالمصطفى صلى الله عليه وسلم يتعامل معها بشفافية وروح المربي الملهم ، ويرسخ فينا بعض الجوانب التي يجب علينا اتباعها في مختلف جوانب حياتنا .
* كاتب مهتم بالشئون الإسلام(/5)
وقفة تدبر مع آية من كتاب الله العزيز
د. حياة بنت سعيد با أخضر
يقول - تعالى - في سورة النور في معرض ذكره - سبحانه - لحادثة الإفك: {إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور: 19].
معنى الإشاعة: الانتشار. وشاع الحديث: إذا ظهر في العامة.
معنى الفاحشة: الفاحشة مأخوذة من الفحش.
يقول ابن فارس ـ في كتابه المقاييس ـ: الفاء، والحاء، والشين كلمة تدل على قُبح في شيء وشناعة. وقال ابن منظور في لسان العرب: الفحش والفحشاء: القبيح من القول والفعل، وجمعهما الفواحش. والفحشاء: اسم الفاحشة، والفاحش: ذو الفحش والخنا من قول أو فعل، وكثيراً ما ترد الفاحشة بمعنى الزنا.
وخلاصة ما سبق: أن الفاحشة: ما ينفر عنه الطبع السليم، ويستنقضه العقل المستقيم.
ولنا وقفات مع هذه الآية، نستشعر من خلالها ما يجري في مجتمعنا المسلم من ظواهر تعين على انتشار الفاحشة.
* الوقفة الأولى: تفسير الآية:
يقول الشيخ السعدي - رحمه الله -: الفاحشة: أي الأمور الشنيعة المستعظمة، فيحبون أن تشتهر الفاحشة: {فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] أي موجع للقلب والبدن؛ وذلك لغشه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشر لهم، وجرأته على أعراضهم؛ فإذا كان هذا الوعيد لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة واستحلاء ذلك بالقلب؛ فكيف بما هو أعظم من ذلك من إظهاره ونقله، وسواء كانت الفاحشة صادرة أم غير صادرة؟ وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم كما صان دماءهم وأموالهم. وأمَرهم بما يقتضي المصافاة أن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}؛ فلذلك علّمكم وبيّن لكم ما تجهلونه. ولنقرأ وقفة الرازي - رحمه الله - في موسوعة التفسير الكبير؛ حيث عقب على قوله - تعالى -: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فقال: فهو حسن الموقع بهذا الموضع؛ لأن محبة القلب كامنة، ونحن لا نعلمها إلا بالأمارات. أما الله - سبحانه - فهو لا يخفى عليه شيء؛ فصار هذا الذكر نهاية في الزجر؛ لأن من أحب إشاعة الفاحشة، وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله - تعالى - يعلم ذلك منه. وإن علمه - سبحانه - بذلك الذي أخفاه كعلمه بالذي أظهره، ويعلم قدر الجزاء عليه، كما تدل الآية على أن العزم على الذنب العظيم عظيم، وأن إرادة الفسق فسق؛ لأنه - تعالى - علق الوعيد بمحبة إشاعة الفاحشة، ثم ختم الرازي - رحمه الله - تفسيره لهذه الآية بقوله: قال أبو حنيفة - رحمه الله -: المصابة بالفجور لا تُسْتَنْطَق؛ لأن استنطاقها إشاعة الفاحشة، وذلك ممنوع منه(1).
ونقرأ تعليق: صاحب الظلال - رحمه الله - على هذه الآية؛ إذ يقول: والذين يرمون المحصنات ـ وبخاصة أولئك الذين تجرؤوا على رمي بيت النبوة الكريم، إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة والنظافة، وعلى إزالة التحرج من ارتكاب الفواحش؛ وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة شائعة فيها؛ وبذلك تشيع الفاحشة في النفوس لتشيع بعد ذلك في الواقع؛ من أجل هذا وصف الله - تعالى - الذين يرمون المحصنات بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة؛ وذلك جانب من منهج التربية، وإجراء من إجراءات الوقاية، يقوم على علم تام بالنفس البشرية، وتكيُّف مشاعرها واتجاهاتها، ومن ثم يعقِّب الله - تعالى - بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، ومن ذا الذي يعلم أمر هذه النفس إلا الذي خلقها؟ ومن ذا الذي يدبر أمر هذه الإنسانية إلا الذي يبصرها ويعلم بها؟ ومن ذا الذي لا يخفى عليه شيء إلا العليم الخبير؟
* الوقفة الثانية:
من خلال ما سبق نعلم أن مجرد حب إشاعة الفاحشة يؤدي بصاحبه إلى وقوع العقاب الأليم عليه في الدنيا والآخرة. ونلاحظ أن الله - تعالى - لم يقل بأن عقوبتهم بالعذاب فقط وإنما وصفه بالأليم، ولن نستطيع أن نتخيل أبداً مدى ألم هذا العقاب، ومن ثم علينا ألا نستخف به، ونراه هيناً وهو عند الله عظيم، كما أن هذا العقاب لا يتوقف على حياة واحدة في الدنيا، بل يمتد إلى الآخرة ليشهد عقابه الأليم أهل القيامة، ويظل ينتظر الأمل بشفاعة قد تنجيه من هذا العذاب؛ فأي شؤم يطال محبي إشاعة الفاحشة بين الذين آمنوا في الدنيا والآخرة، وهو يتقلب في عذاب أليم قاده إليه قلبه لمّا أحب ما أبغض الله! وهذا يقودنا للوقفة الثالثة.
* الوقفة الثالثة:(/1)
إذا كان ما سبق من عقاب أليم إنما خصص لمن أحب بقلبه إشاعة الفاحشة؛ فكيف بمن ساهم في نشرها بين الذين آمنوا بكل قوة وبذل مادي ومعنوي، ورصد لذلك الجوائز المغرية، والمسابقات الملفتة للنظر بفحشها ومجونها، وهيأ الأماكن المترفة، ونشر الصفحات والمجلات المتعددة، والمواقع المشبوهة، في تسابق محموم بغيض حاقد؟ فكلما ظهرت قناة تبعتها قنوات أخرى، وكلما أنشئت مجلة ماجنة نافستها مجلات على النهج نفسه، وكلما سطَّر قلم مجوناً وفحشاً تنافس معه متنافسون، وكلما ظهر صاحب فحش من الجنسين في أي مجال شيطاني؛ قام شياطين الإنس ببعث المئات من أمثالهم، وأصبح هؤلاء هم النجوم التي يهتدي بها بعض شباب المسلمين في حياتهم ليزدادوا ظلاماً وتيهاً.
* الوقفة الرابعة:
مما يدمي القلب، ويشعله خوفاً من نزول عذاب متتابع فوق أنواع العقوبات التي نكابدها أنّ حب إشاعة ونشر ودعم الفاحشة بين الذين آمنوا إنما يبلغ أَوْجَهُ وقوته في مواسم العبادات وذروة الأوقات التي يمنّ الله الرحيم بها علينا لنكفر عن السيئات، ونزداد في الحسنات، ونعيش في نعيم نسائم الرحمات، وهي أوقات رمضان المبارك، وعيد الفطر، والأيام العشرة الأولى من ذي الحجة، وأيام عيد الأضحى المبارك، فنجد الشياطين وقد أجلبت علينا بخيلها ورجلها لتقدم كل ما يحطم ويقتل معاني الحب، والذل والخضوع والطاعة والاستسلام لله - تعالى -، وتجعل من المسلم عبداً ممسوخاً لشهواته ولذَّاته، لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا من العبادة إلا رسمها، ولا من الحب لله إلا نطق اللسان فقط، فينقلب المسلمون إلى أهل الإرجاء الذين يجعلون الإيمان قولاً واعتقاداً فقط؛ أما العمل فلا دخل له في ذلك، فنتحول إلى قطعان تهرف بما لا تعرف، تنساق إلى مذابحها في عقيدتها وهي ضاحكة مستبشرة. فأي حقد يصبه علينا أعداء ديننا، ونحن نراهم يتقاسمون الأدوار فيما بينهم وبأموالنا، ووقودهم شبابنا ونساؤنا، وقبل ذلك ديننا، كل منهم قد علم دوره جيداً فأتقنه وبلّغه؛ فأصبحنا أمة أحبت إشاعة الفاحشة؛ فأي عذاب ينتظر الجميع؟!
* الوقفة الخامسة:
هذه الآية إن كانت تهديداً ووعيداً لمن أحب إشاعة الفاحشة؛ فهناك حديث صحيح يبين لنا عقوبات نشر الفاحشة إذا شاعت؛ فعن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر المهاجرين! خمس إذا ابتُليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخِذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا الزكاة إلا مُنعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمُطَروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم»(1). وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير»(2).
هذه العقوبات المتوالية في الدنيا، وما عند الله أعظم.
* الوقفة السادسة:
هناك مظاهر في مجتمعنا تعين على نشر الفاحشة بين أفرادنا، وإن كان فاعلوها لم يقصدوا ذلك. وهي: بيع وشراء ولبس الحجاب المتبرج الذي يكشف أكثر مما يحجب، فنجد المسلمة، وقد لبست من الحجاب أنواعاً تغري الرجال، وتوقعهم في زنا النظر المتكرر، ومن ثم الكلام، وقد تصل الأمور إلى ما هو ما أبعد من ذلك، وهذه المسلمة تصر على إظهار مفاتنها أمام الجميع بلا حياء في كل مكان؛ لما ترتدي الملابس الفاضحة في كل مناسبتها؛ فهي تشجع غيرها على مجاراتها، وتقليدها مسلكها، وتثير في نفوس بعضهم مشاعر شاذة، ونظرات خاصة لا يرضاها الله - تعالى -.
كذلك من هذه المظاهر المعينة على إشاعة الفاحشة جلب العمالة لبلادنا من الرجال بلا زوجاتهن، ومن النساء بلا أزواجهن لسنوات أقلها سنتان؛ مما يشجع كثير من هؤلاء النساء على اقتراف الفاحشة بالتراضي، أو مع غيرهم بوسائل الاغتصاب المعروفة، وصحفنا ودوائرنا الحكومية لا تخلو أحياناً من أخبار يندى لها الجبين المسلم الحر، وهذا أمر بدهي وفطري؛ فهذا عمر - رضي الله عنه - جعل للمجاهد فترة محددة يبتعد فيها عن زوجته، حتى لا يكلفهما ما لا يطيقان من مشاق تصطدم مع حاجاتهما الضرورية الفطرية؛ فيكف بهؤلاء؟ أليسوا بشراً مثلنا؟
وأختم ما سبق بأن القرآن العظيم ما أنزله الله - تعالى - إلا لنتدبره؛ فهل تدبرناه؟ وهل سألنا الله دائماً ألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا؟ نعوذ بك اللهم من جَلَد الفاجر، وعجز الثقة..اللهم آمين.
----------------------------------------
(*) أستاذ مساعد بمعهد اللغة العربية لغير الناطقين بها بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.(/2)
(1) تفسير الرازي من تفاسير الرأي، وعليه ملاحظات، ولذا أُثِرَ عن بعض العلماء في التوعية منه أن فيه كل شيء إلا التفسير وهي مبالغة في القول، إلا أنه لا يخلو من الفوائد لمزيد من الرأي حوله أنظر (التفسير والمفسرون) للشيخ محمد حسين الذهبي، - رحمه الله -. ـ البيان ـ.
(1) صحيح سنن ابن ماجه، كتاب الفتن ـ وقال عنه الألباني - رحمه الله - : حديث حسن. وذكره في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
(2) صحيح سنن ابن ماجه، كتاب الفتن. وقال عنه الألباني - رحمه الله -: حديث صحيح.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:(/3)
وقفة مسافر
أخي المسلم :
انك في هذه الحياة الدنيا من حين استقرت قدمك على الأرض وأنت مسافر إلي الله عز وجل ، مسافر إلى الدار الآخرة ، وان مدة سفرك هي عمرك الذي كتبه الله عز وجل لك ، والأيام والليالي مراحل هذا السفر ، فكل يوم وليلة مرحلة من هذه المراحل ، فلا تزال تطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر .
قطعت شهور العمر لهوا وغفلة
فلا رجب وافيت فيه بحقه
ولا في ليالي عشر ذي الحجة الذي
فهل لك أن تمحي الذنوب بعبرة
وتستقبل العام الجديد بتوبة
ولم تحترم فيما أتيت المحرّما
ولا صمت شهر الصوم صوما متمما
مضى كنت قواما ولا كنت محرما
وتبكي عليها حسرة وتندما
لعلك أن تمحوا بها ما تقد ما
أخي المسافر :
قبل أيام قلائل انتهى عامك الهجري المنصرم ، وطوى سجله وختم عمله ، و ها أنت على باب عام جديد الله اعلم بحالك فيه ، فهنيئا لمن احسن فيما مضى واستقام وويل لمن أساء وارتكب الإجرام .
سؤال مسافر :
أخي المسافر : تعال معي لنسأل أنفسنا عن هذا العام كيف قضيناه ؟ ولنفتش كتاب أعمالنا كيف أمليناه ؟ لنراجع أعمالنا في تصديق إيماننا بالله تعالى ، لننظر في إقامة صلاتنا ، لنتدبر في فرائض الله تعالى علينا كيف قمنا بها وهل أديناها حق الأداء ؟ لنتدبر فيما نهى الله عز وجل عنه ، وحذر عباده من التجرؤ عليه ، هل ابتعدنا عنه و اجتنبناه ؟ لننظر في حق الله تعالى علينا هل أديناه ؟لننظر في حق العباد هل وافيناه ؟ فان كان خيرا فالحمد لله على نعمه ، وان كان غير ذلك تبنا إلى الله واستغفرناه .
كم يتمنى المرء تمام شهره وهو يعلم أن ذلك ينقص من عمره .. كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره .. وشهره يهدم سنته .. وسنته تهدم عمره ..كيف يفرح من يقوده عمره إلى اجله ..وتقوده حياته إلي موته ؟
وما هذه الأيام إلا مراحل يحث بها داع إلي الموت قاصد
واعجب شيء لو تأملت أننا منازل تطوى والمسافر قاعد
في النفس والكون آيات
أخي المسافر :
انظر حولك إلى هذه الشمس ، كل يوم تطلع من مشرقها وتغرب من مغربها ففي طلوعها وغروبها إيذان بان هذه الحياة ليست دائمة ، وإنما هي طلوع ثم غروب ، انظر إلى هذه الشهور كيف تهل فينا بأهلة صغيرة كما يولد الطفل، ثم تنموا رويدا رويدا ، كما تنمو الجسام حتى إذا تكامل نموها أخذت بالنقص والاضمحلال . وهكذا عمر الإنسان ، فاعتبروا يا ا ولى الأبصار ، انظر إلى هذه الأعوام تتجدد عاما بعد عام ، فإذا دخل العام الجديد نظرت إلى آخره نظرة البعيد ، ثم تمر الأيام والليالي سراعا ، فينصرم العام كلمح البصر ، فإذا أنت في آخر العام . وهكذا عمرك يا أخي تتطلع إلي آخره تطلع البعيد ، فإذا بك قد هجم عليك الموت ( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد )ربما يؤمل الإنسان بطول العمر، ويتسلى بحبل الأماني ، فإذا بحبل الأماني قد انصرم ، وببناء الأماني قد انهدم .
عبارات وعبرات
أخي المسافر :
استمع إلى كلام رسولك صلى الله عليه وسلم وهو يبين لك حقيقتك في هذه الحياة ، وأهمية الاستعداد ليوم المعاد ، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) ...وكان ابن عمر يقول : ( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك ) رواه البخاري .
* قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه :( إنكم تغدون وتروحون إلى اجل قد غيب عنكم علمه ، فان استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وانتم في عمل صالح فافعلوا )
* وقال عمر رضي الله عنه ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أعمالكم قبل أن توزن لكم ، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية )
* وقال الحسن البصري رحمه الله :( ابن آدم إنما أنت بين مطيتين يوضعانك ، يوضعك النهار إلى الليل و الليل إلى النهار ، حتى يسلمانك إلى الآخرة ، فمن اعظم منك يا ابن آدم خطرا ؟)
* قال داود الطائي ( إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك بهم إلى آخر سفرهم ، فان استطعت أن تقدم في كل مرحلة زاد لما بين يديها فافعل ، فان انقطاع السفر عن قريب ، والأمر اعجل من ذلك )
* وقال بعضهم ( لم يزل الليل و النهار سريعين في نقص الأعمار ، وتقريب الآجال ، هيهات قد صحبا نوحا وعادا وثمودا و قرونا بين ذلك كثيرا ، فاصبحوا قدموا على ربهم ، و وردوا على أعمالهم ، واصبح الليل والنهار غضين جديدين لم يبلهما ما مرا به ، مستعدين لمن بقي بمثل ما ا صابا به من مضى )
* وكتب الأوزاعي إلى أخ له ( أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب واعلم انه يسار بك في كل يوم وليلة فأحذر الله ،والمقام بين يديه ، وان يكون آخر عهدك به .. والسلام )
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أرى مثل الموت حقا كأنه إذا ما تخطته الأماني باطل
وما اقبح التفريط في زمن الصبا فكيف به والشيب للرأس شامل(/1)
ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيام وهن قلائل
انتبه
أخي المسافر :
الغنيمة الغنيمة في اغتنام الأعمار ، قبل تصّرم الليالي و الأيام ، فها أنت بين عام راحل لا تدري بما رحل عنك ومضى ولا تدري أحصلت فيه على غضب من الله أم رضا وبين عام قادم لا تدري ما ابرم فيه من القضاء ، ولا تدري أفي الأجل فسحة ؟ أم قد بعد وانقضى ، وانك على يقين من سيئات أعمال هي عليك معدودة ، وفي شك من صالحات أعمال مقبولة هي أم مردودة ، فعلام الغفلة يا أخي عن تدارك الخلل ،والإعراض عن إصلاح النية والعمل ، كأنك اتخذت من الموت عهدا وأمانا ؟
كلا والله لقد ضرب لك بأخذ أمثالك أمثالا ، ووعظك لو اتعظت فما ترك لقائل مقالا ، وهذا كتاب الله يتلى عليك صباحا ومساءا ، و زواجره عبرة تخاطبك بالنصائح كفاحا ، اصمت الأسماع عن المواعظ وسدت، أم قست القلوب من كثرة الذنوب فاسودت ، فاعمل لما بين يديك فلمثل هذا فليعمل العاملون .( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ).
تمر ساعات أيامي بلا ندم
ما احلم الله عني حيث أمهلني
أنا الذي اغلق الأبواب مجتهدا
دعني أنوح على نفسي واندبها
دعني أسح دموعا لا انقطاع لها
ولا بكاء ولا خوف ولا حزن
وقد تماديت في ذنبي ويسترني
على المعاصي وعين الله تنظرني
واقطع الدهر بالتسبيح والحزن
فهل عسى عبرة مني تخلصني
كيف تستقبل عامك الجديد :
بالتوبة النصوح
عقد القلب على المحافظة على الطاعات
العزم على ترك المنهيات
رد الحقوق إلى أهلها واستحلالهم منها
الإقبال على أهل الصلاح ومجالسهم
ترك رفقاء السوء
كثرة سؤال الله العصمة والتوفيق والسداد
الصدق مع الله في الإقبال عليه
مسك الختام:
قال الفضيل بن عياض لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة . قال : فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ . فقال الرجل : إنا لله و إنا إليه راجعون . قال الفضيل : أتعرف تفسيره تقول : إنا لله و إنا إليه راجعون !! فمن علم انه لله عبد وانه إليه راجع فليعلم انه موقوف ، ومن علم انه موقوف ، فليعلم انه مسئول ، فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة . قال: ما هي ؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك فيما مضى ، فانك إن أسأت فيما بقى ، أخذت بما مضى وما بقى والأعمال بالخواتيم .
نسأل الله أن يحسن ختامنا و إياك .. وان يختم لنا بجنات عرضها السماوات والأرض .. انه ولي التوفيق ..
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى اله وصحبه أجمعين ..(/2)
وقفة مع الحداثة العربية
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة لدى عدد من الكتَّاب المسلمين في مواقع مختلفة من العالم الإسلامي عن " الآخر "، بحيث أصبح من الحق أن نتساءل لماذا هذا الحرص على الآخر، والآخر ليس بحاجة إلى حرصنا عليه، ولا هو حريص علينا. ولماذا تُثار هذه القضية والآخر يدير المجازر في ديارنا غير عابئ بأحد.
فمن قائل يجب أن نقسط مع الآخر، ومن قائل يجب أن نعترف به. ونتساءل ولِمَ لَمْ يكن الأمر على عكس ذلك بأن يقسط الآخر معنا ويعدل معنا، فهو الظالم المعتدي المنِكر لحقوقنا. ومن قائل يجب أن ننفتح عليه ! وهل هناك انفتاح أكثر مما نحن فيه، فُتِحَتْ له القلوب والديار ! إنَّ الآخر بجميع صوره وأشكاله لم يجد في تاريخه أرحم ولا أعدل من الإسلام.
نحن المسلمين اليوم نجابه أخطاراً تحيق بنا من كلّ ناحية. وإن أبسط أنواع التفكير يجب أن تدفعنا جميعاً لندرس نهجاً عمليّاً يعين الأمةعلى الخروج مما يُكاد لها ويُمْكرُ بها، و" الحداثة " لا تُقَدِّمُ لنا النهج والخطة، لا لفظاً ولا معنىً.
إننا بحاجة إلى أن نضبط فكرنا ونهجنا بقواعد الإيمان وحقائق الإسلام ونور الكتاب والسنّة، وفيه كلُّ ما يعين ويُنير الدرب والطريق.
يجب أن لا يدفعنا الإحباط و" الهوان " إلى أن نتلمس النجاة عند " الآخر "، إن سبيل النجاة بيّنه الله لنا وفصَّله، ليبتدئ من ذاتنا حين نتجه إلى الله ونغيُّر ما بأنفسنا، ولننطلق على صراط مستقيم.
إنَّ الإسلام، والإسلام وحده، مصطلحاً ومعنىً ونهجاً، هو الذي يُعلّمنا كيف نحترم أنفسنا وكيف نقسط مع أهل الأرض كلّها، وكيف نتعامل مع شعوب الأرض نحمل رسالة الله، نبلّغهم إياها ونتعّهدهم عليها، بها نخاصم وبها نرضى وبها نتعاون.
مهما شعرنا بعجزنا وضعفنا وهواننا، فإن لحظة الرجوع الصادق إلى الله تحيي في نفوسنا الأمل، وتبعث فينا القوة والعزيمة، وترسم لنا الدرب والأهداف والوسائل والأساليب، في صورة عبادة لله، ووفاء بالأمانة التي حملها الإنسان والتي سيحاسَبُ عليها بين يدي الله.
ولقد كثر الحديث عن " الحداثة " في المجتمعات الإسلامية وطال مداه زمناً غير قليل، والمسلمون في جدال بين رافض وقابل وراغب على استحياء وبين مَنْ يحاول استحداث حداثة راشدة لتقاوم " الحداثة الهجينة " الزاحفة.
خلال ذلك كله، والمسلمون في جدل وحوار، استطاعت " الحداثة الهجينة" اقتحام أسوار الأمة والنفاذ إلى مواقع شتى والتسلّل إلى قلوب كثير من الناس في أقطار شتى من العالم الإسلامي، وتثبيت أقدامها في المواقع : في الإعلام والأدب والفكر. وهذا هو العالم الإسلامي أمامكم !
ولم تكن " الحداثة " وحدها تصارع، وإنما كان معها العلمانية الزاحفة علينا بوسائل الإعلام، ومعها الأدب العلماني والفكر العلماني، ومعها المؤسسات الدولية الداعمة لها، والجيوش الزاحفة كذلك، قوى كثيرة تتساند في هذا الصراع بين أمواج الدماء وتطاير الأشلاء والجماجم في ديار المسلمين المختلفة.
ولقد نهجت هذه القوى " الحداثية العلمانيّة " خطة مكر أصابت نجاحاً، حيث استفادت من ضعف المسلمين وجهلهم بحقيقة إسلامهم، وكثرة تنازلاتهم، وميلهم إلى المهادنة، أو الاستسلام. فسارت على خطّة شيطانيّة حذَّرنا القرآن الكريم منها بقوله سبحانه وتعالى :
( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خُطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحدٍ أبداً ولكنَّ ا لله يُزكّي من يشاء والله سميع عليم )
[ النور : 21 ]
سياسة الخطوة خطوة ! سياسة ماكرة كان قد صرَّح بها كسينجر وزير الخارجية الأمريكي حتى أصبحت خصيصة من خصائص سياسته. وهي سياسة يعتمدها المعتدي في فرض أفكاره وآرائه، وسياسة يعتمدها المعتَدَى عليه في تنازله. فالمعتدي الغازي يطرح بعض أفكاره ومصطلحاته، فَتُرْفض أولاً بضجيج عالٍ وغضبة هائلة. ثمَّ يصرُّ المعتدي ويضاعف جهده ولا يتراجع، حتى يرى بعض الرافضين بدؤوا يستحسنون بعض فكره ومصطلحه، ثم ينتقلون إلى التأييد والبحث عن المسوّغات، فيطرح المعتدي فكره بصورة أوسع مع ما يملكه من زخارف وزينة، أو تهديد وتحذير. حتى نجد من أصبح داعية لفكره لا يقف عند حد التأييد. هذه الصورة واقعية نشهدها جليّة في كثير من ديار المسلمين، حتى أصبحت العلمانية والحداثة الهجينة هي نهج مطبق في دارٍ ودارٍ ودارٍ. والصورة تتكرر : رفض، استحسان، تأييد، دعوة ودعم. فحشدوا لذلك جنوداً كثيرين ظاهرين ومستترين. خطوة خطوة في التنازل أيضاً.(/1)
عندما ظهرت الاشتراكية وقعت هذه الخُطا الشيطانية حتى صرنا ننادي " بالاشتراكية الإسلامية ". وكذلك مع الديمقراطية ! أُلّفت كتب تقول إنها إسلامية، ودعوا إلى " الديمقراطية الإسلامية "، دون أن يجدوا شعاراتها المزخرفة مطبقة في ديار أصحابها ولا في ديار تابعهيم. أين الديمقراطية ؟! لقد تكّشفت في أحداث واقعية وتبيّن أنها أشدّ أنواع الديكتاتوريات : إما أن تقبل ما أفرضه عليك، وإما أنت عدوٌّ ستُقْتل وتُسْتَباح ديارك وأموالك وأعراضك ! إنك إرهابيّ !
وجاءت العَلْمانية Secularism، والعِلْمانيّة Scientism، فنشط بعض المسلمين ليجعلوا منها " علمانية إسلامية ". وكأننا كلما جاء من الغرب فكر ومصطلح هرعنا إليه لنضع على المصطلح طلاء إسلامياً يُخْفي سوءاته. ولكن السوءاتِ تظل تتكشَّف مهما وضعت من طلاء !
وجاءت "الحداثة " كذلك، فمرت بنفس مراحل خطوات الشيطان، حتى أصبح من بين المسلمين دعاةٌ صريحون يدعون إلى حداثة الغرب . كنتُ في أحد البلاد العربية أتحاور مع داعية مسلم يقول : ما رأيك، حتى نحارب الحداثة نأخذ بعض أفكارها ومصطلحها ونتألفهم بذلك على الإسلام ! فقلت له : أخشى أن تصبحوا أنتم حداثيين، والحداثيون يُصرُّون على حداثتهم ويرفضون إسلامكم، لتبنِّيكم شعاراتهم وأفكارهم ! ومصطلحاتهم.
وفي لقاء مع دعاة إسلاميين أخذوا يهاجمون شعر الأستاذ عمر بهاء الأميري وآخرين، ولما سألتهم من الشاعر الذي يعجبهم ! قالوا : محمود درويش! فقلت أهذا الذي يقول : " … وفي سنة 1961م دخلتُ الحزب الشيوعي، فتحدّدت معالم طريقي " وينسى الذين يتغنّون بشعره قوله : " نامي فعين الله نائمة وأسرار الشحارير "!
في مواقف كثيرة رأينا كيف أن بعض المسلمين استُدْرِجوا خطوةً خطوةً حتى أصبحوا دعاة للاشتراكية والديمقراطية والعلمانية والحداثة. ولقد بلغ الأمر أحياناً إلى عدم استحسان نقد الحداثيين أو فكرهم أو مصطلحهم، وإلى أن أصبح بين أيدي الحداثيين والعلمانيين إعلام واسع.
وبين يدي مقالة أخي د. وليد قصّاب في مجلة الحرس الوطني العدد (262) السنة الخامسة والعشرون. صفر 1425هـ ـ أبريل نيسان 2004م، بعنوان : " الحداثة المنشودة " قضية للحوار.
آخذ على الموضوع عنوانه : " الحداثة العربيّة "، فهل القضية قضيّة قوميّةٌ وهل الميزان ميزان قومي ؟! وهل الحداثة التي يطرحها أهلها يطرحونها على أساس قومي أم على أساس عام للناس كافة ؟! وحتى نجابه هذه " الحداثة الهجينة " الموجّهة للناس كافة فعلينا أن نجعل منطلقنا وميزاننا عالميّاً لكل إنسان وشعب وأرض، ولا يوجد غير الإسلام لهذا التوجّه الإنساني العام، ليكون هو المصطلح والمفهوم والميزان. لقد منَّ الله على العرب بالإسلام ليكون هو شعار المبادئ ومصطلحها ودينها ورسالتها ونهجها. وما عرف تاريخ الإسلام في الفكر والأدب والشعر إلا الإسلام عقيدةً وديناً وشعاراً، مهما وقع من تفلّت في بعض المبادئ.
لقد ظلّ الشعراء كأبي تمام والمتنبي وغيرهما يجعلون من الإسلام تدفق عاطفتهم ومصطلحهم في أشعارهم.
ولفظة " الحداثة " نفسها تحتاج إلى وقفة لنرى مدى ضرورة استخدامها، وقد طلع بها " الحداثيون " أولاً وجعلوا منها مصطلحاً لفكر محدد عندهم، حتى اشتهروا به والتصقوا به والتصق بهم.
وعند العودة إلى الكتاب والسنة نجد أن هذا المصطلح لم يَعدْ يناسب النهج الإسلامي بعد أن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، واستقرَّ الإسلام ديناً للأمة كلّها.
فكلمة حَدَثَ وأحدثَ وحديث وحداثة لها معانٍ متعددة في المعاجم. ولكن من الناحية الفكرية، وحسب ما أتت به الآيات والأحاديث، غلب عليها معنى ضد القديم الثابت عليه الناس. فإن كان هذا القديم باطلاً فكلمة محدَث تدلّ على الحق الذي جاء يلغي الباطل السائد والممتدّ، كما في قوله سبحانه وتعالى :
( وما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلا كانوا عنه معرضين )
[ الشعراء : 5]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدَث إلا استمعوه وهم يلعبون )
[ الأنبياء : 2]
ذلك أن الذكر الذي جاءهم محدثٌ ضد القديم الذي هم عليه. والقديم الذي هم عليه باطل، والذكر المحدَثُ هو من عند الله، وهو الحق.
أما عندما استقرَّ الإسلام وأصبح دين الأمة، فقد تغير استعمال هذه اللفظة مع بقاء مدلولها أنها ضد القديم الثابت في الأمة.
وفي الحديث الذي يرويه أبو داوود والترمذي وابن ماجه يرد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( … إيَّاكم ومحدَثات الأمور فكل محدَثة بدعة وكلُّ بدعة ضلالة ) (1)
وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عندما دخل المدينة، يأتي قوله :
( … وأنه لا يحلُّ لمؤمن أقرَّ بما جاء في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحْدِثاً أو يؤويه وأنَّ من نصره أو آواه، فإنَّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة. ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل ).(2)(/2)
ولذلك أصبحت كلمة " أحدث " و" محدث " تدل على أمر مرفوض شرعاً، غير مقبول، ولا مجال لتزيينه وزخرفته، لأنها منذ أول استعمالها هي ضد القديم. والقديم الثابت الممتد بعد أن استقرَّ الإسلام هو الإسلام. فمن أحدث فقد أتى بما يخالف الإسلام، والمحدَث : الأمر المنكر الذي يرفضه الإسلام.
وفي لسان العرب :
الحديث : نقيض القديم.
محدَثات الأمور : ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها.
المحدثة : ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع.
يتضح من ذلك أن لفظة الحداثة اليوم، كما أتى بها أهل الحداثة العلمانيون، تعني ما خالف الكتاب والسنة. وما أتى به أهل الأهواء، وما لم يكن عليه السلف الصالح من الأمة.
وإني أخشى أن يكون في مصطلح " الحداثة الراشدة " بعض التناقض على ضوء ما أسلفنا. فأنَّى تكون الحداثة راشدة بعد أن استقرَّ الإسلام، وحملت من المعاني ما يخالف الإسلام، وقد استخدمت الأمة المسلمة كلمة الراشدة مقترنة بالخلافة الإسلامية والخلفاء الراشدين. فلا يليق بنا أن نلصق هذه اللفظة الكريمة بلفظة عليها خلاف وقد التصقت بها الفتنة والانحراف.
وأن استخدام هذا المصطلح في أحسن حالاته هو شِعارٌ خالٍ من النهج لدينا، وأما شعار " الحداثة الهجينة " فقد ملأ الدنيا ممارسة وتطبيقاً وإعلاماً. وهو يحمل النهج الخبيث. ولكنه نهج ظهر في الواقع. فكيف نقابل النهج بشعار، ونهجنا هو الإسلام.
ولقد أورد الكاتب في كلمته أقوال عدد من الكتَّاب , وقد استخدمت لفظة " الحداثة " عندهم بصورة متباينة بين هذا وذاك. فمن قائل : " إن الحداثة ضد التكلس والجمود "، فمن أين أتى هذا المعنى ومن أي معجم ؟! إلا إذا أردنا أن نطرح المعاجم واستخدامات الكتاب والسنة لها. ومن قائل : " إن الحداثة تعني المعاصرة ". ومن قائل : " إنها لا تطال الثوابت في هذه الأمة " وقد طالتها من أول هذه الكلمة حيث تجاوزت ما حدّده الرسول صلى الله عليه وسلم من معانٍ لكلمة "الحداثة، وأحدث، ومحدَث "على صورة رسالة ربانية محددة المفهوم والمصطلح.
ويقول الدكتور وليد حفظه الله : الحداثة في هذا الخطاب لا تلغي الآخر، ولا تتنكّر له … الخ وأقول من هو الآخر الذي يجب أن لا نلغيه ؟! ولعله الغرب العلماني ؟! إن هذا الآخر هو الذي ألغانا وتنكَّر واعتدى وأفسد.
ويقول د. قصاب : بل هي منفتحة عليه مقتبسة منه ….! وكنت أتمنى أن يحصر ذلك في العلوم والصناعة وما شابهها. ففي الفكر والأدب نحن الأغنى، ونحن الذين يجب أن نقدّم لهم رسالتنا. من الخطأ أن يكون موقفنا موقف الآخذ المقتبس الحذر فقط، الذي ليس لديه شيء يُعْطيه. نحن أُمِرْنا بالكتاب والسنّة أن نبلّغ رسالة الله، وبذلك فقط نكون خير أمة أخرجت للناس. قبل أن نفكر ماذا نأخذ، علينا أن نفكر ماذا يجب أن نعطي !
وكلام أحمد عبد المعطي حجازي يدور وينطلق من نظرة إقليمية قومية، لم يخطر بباله أن الإسلام له موقف ورأي. وأما الإقليمية فما هو مستندها لتحدد موقفاً عالمياً يصغي له الآخرون. مضت قرون ونحن نصرخ من منطلق إقليمي وقومي، فما أصغوا لنا إلا أن يزيدوا تفتت الأمة المسلمة التي كادت تَنْسى رسالتها.
والقول بأن هذه الحداثة لا تتنافى مع الأصالة، قول يحتاج إلى مراجعة، فحسب ما أوضحت قبل قليل فإن الحداثة، بعد أن استقرَّ الإسلام، أصبحت بنصِّ حديث رسول الله عليه وسلم مخالفة للإسلام. ومن يقول : " إن الحداثة كما تأكَّد عبر التاريخ لا تقوم إلا على الأصالة "، كلام يحتاج إلى مراجعة. فمنذ متى عُرفت الحداثة في التاريخ حتى نستشهد به على الأصالة، ومن الذي استخدمها، وما هو رأي الإسلام فيها مصطلحاً وفكراً، وما هو تاريخها ؟! الذين استخدموا الحداثة في التاريخ تنكروا لكل أصالة كانت عند قومهم.
ومن قائل : " في تراثنا أشياء إيجابية يجب أن نحافظ عليها..الخ " الموقف لا يقف عند كلمة " التراث "، والذي لدينا أعظم من لفظة تراث ! إنه دين وذكر من عند الله، أعظم من كل شيء، إليه يجب أن تُرّدَّ قضايانا كلّها صغيرها وكبيرها. إن تراثنا قائم على الدين لا تستطيع " الحداثة " بأيّ مفهوم لها أن تتعرَّض له. فالمؤمنون الذين عرفوا دينهم والتزموه هم وحدهم يدرسون التراث بردّه إلى منهاج الله، وليس إلى الحداثة.
إننا نفهم من كلمة " تُراثنا " ما يرتبط بالدين، ولا ننظر فيما كان خارجاً عن الدين في وقته. تراثنا ديننا الكتاب والسنة واللغة العربية وما يرتبط بذلك من نشاط حق. فالقول بأن في تراثنا أشياء إيجابية هو تهوين لشأن هذا الكنز العظيم الذي منَّ الله به علينا.(/3)
والقول : إن تراثنا الأدبي وتراث الأمم الأخرى عرف مجددين عظاماً، أحدثوا وطوّروا …! إن الربط بين تراثنا وتراث الأمم الأخرى خطوة "حداثية " فتُراثنا هو كما بيّنت أعلاه، أما تراث غيرنا فكله نابع من الوثنيّة اليونانية والرومانية وما أسموه علم اللاهوت ثم المذاهب التي لا تكاد تحصر في الفكر والأدب، من هيجل وكانت وماركس وأنجلز والعشرات من أمثالهم. وكذلك استخدام كلمة أحدثوا " خطوة حداثية أخرى، مخالفة لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي عرضناه قبل قليل. فكلمة " أحدث " أصبح معناها في نصِّ الأحاديث، وفي جميع المعاجم : جاء بما يخالف الإسلام والكتاب والسنة.
لقد اختلطت الاصطلاحات اختلاطاً عجيباً بين الحداثة والأصالة والنافع والضار. بأسلوب عائمٍ لا يحدد ميزاناً ولا منهجاً، ومهما حاولنا أن نضع " للحداثة الراشدة " منهجاً أو ميزاناً فلن نفلح، وسنجد أنفسنا عدنا إلى الإسلام كله. فالإسلام وحده يغنينا عن هذه المصطلحات، فهو الذي يرسم الفكر والأدب والكلمة كلّها.
ويقول الدكتور اليافي : أنا مع التطور والتجديد والحداثة الشعرية إلى آخر المدى شريطة أن يتمَّ ذلك ضمن خصوصيتي القومية وتراثي الثقافي ولغتي العربية "، أشعر بذلك اختلاط المصطلحات وتناقض التعبير. فالدكتور اليافي حصر القضية كلّها في خصوصيته القومية، حيث لا نجد أي ذكر للإسلام، مجرَّد ذكر ! إصرار على القومية والخصوصية بصورة متكررة. ثم يطرح ألفاظاً عائمة : تراثي الثقافي ! ما هو وما حدوده ؟ وما علاقته بالأمة ؟! التطور والتجديد، والحداثة الشعرية، إلى آخر المدى ! انفلات لم يعد يجد له ضابطاً ! إنها خطوة حداثيّة من خطوات الحداثة الهجينة، ولا يمكن أن تمثّل بهذا التناقض والانفلات أيَّ خطوة راشدة.
وهل الحداثة الراشدة " التي يدور حولها المقال خاصة بالأدب، أم بالفكر، أم الدين كله، أم العلوم، أم الصناعة ؟! ما هو مداها ودائرتها ؟! فإن كانت في مجال الأدب فحسَبَ ما ورد في المقال، فقد فتحنا الباب كلّه للحداثة الهجينة بعد أن قبلنا حداثة الشعر إلى أبعد مدى ! وفتحنا الباب لنأخذ عن الغرب ونقتبس من أدب له تاريخ وتطور ونظريّة وارتباط مختلف كل الاختلاف عن أدبنا وتاريخه ونظريته. إن الأدب الغربي كان منطلقه الوثنية، مشتتاً بين لغات متعددة، ومصالح متضاربة، وأدبنا نشأ في حضن الإيمان والتوحيد واللغة العربية ، ومضى أكثر من ألف وخمسمائة من السنين محافظاً على لغة واحدة لم تمسّها الحداثة، وعلى رابطة ربَّانيّة إيمانيّة، ظلَّت في أسوأ الظروف تطلق دفقتها الغنيّة!
اختلطت مصطلحات : الحداثة، والقومية، والإنسانية، والأصالة، والنمو، والتطور، والتجديد، وغيرها اختلاطاً عائماً لم يعد لأيٍّ منها مفهومٌ محدّدٌ قابلٌ للتطبيق، ولا منهجٌ جليٌّ يُحْكَمَ له أو عليه. إنها كلها شعارات يتيه الإنسان بينها. نحن لسنا بحاجة إلى مصطلح الحداثة، ففيه شبهة واضطراب واختلاط ولغتنا غنيّة بالمصطلحات، لنجد المصطلح المناسب بعد أن نضع نهجاً نريد أن نتبعه دون تصورات عائمة. نضع النهج ثم نضع له المصطلح، وليس العكس.
فبالنسبة للأدب ظهر مصطلح الأدب الإسلامي الذي يشقُّ طريقاً منهجيّاً، يغنينا عن مصطلح الحداثة في الأدب، وإلا فليلْغَ مصطلح الأدب الإسلامي، أو الأدب الملتزم بالإسلام ! ولتتوقّف رابطة الأدب الإسلامي عن عملها، وتتولى الحداثة لتضع لها نهجاً وتتولى الأمر.
لفظة الحداثة، لم تعد تعني التطور والنمو، ولا الرشاد والوعي، ولا التجديد. ونحن لسنا بحاجة لها وقد أغنانا الله عنها ومنَّ علينا بخير منها. والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة : إذا كنا بحاجة إلى حداثة راشدة تنطلق من أصالتنا، من ذاتنا، من حاجتنا، فلماذا لم نفكّر بها إلا بعد ما ظهرت الحداثة الهجينة، كما سبق أن ظهرت الاشتراكية الهجينة، والديمقراطية الهجينة، فما أفلح الطلاء الإسلامي، وظلّت سوءاتها غير مستورة. وكذلك الحداثة، لا أظنُّ أن الأصباغ ستفلح معها.
الإسلام هو الذي يعطي الآخر حقوقه ويعدل معه، وليست الحداثة. الإسلام هو الذي يبيّن لنا ما نأخذ وما ندع، وكيف نتعامل مع الآخر، وهو الذي يدفعنا إلى أن نعطي له لا أن نقف عند الأخذ، أن ندعوه إلى الإسلام. الإسلام هو الذي يرسم لنا نهجاً ويضع مصطلحاً.
الإسلام، والكتاب والسنة، كلُّ ذلك ليس مجرّد تراث نحتاج إلى أن نعيد النظر فيه. الإسلام هو الماضي والحاضر والمستقبل، هو القديم والجديد وهو منهج حياة كاملة لكل زمان وكل مكان.
الخلاف حول ما طرحته الحداثة الهجينة وإقبال بعضهم عليه، وإدبار آخرين، وملاينة آخرين، أشغل وقتنا، وما كان إلا لأننا لم نردَّ أمورها كلّها إلى الكتاب والسنّة ردّاً أميناً صادقاً، فكان الاختلاف والتمزّق والحيرة.(/4)
و" الحداثة " بلفظها وفكرها باب فتنة وابتلاء، يتكرر مثله في حياة المسلمين ابتلاءً منه سبحانه وتعالى وتمحيصاً منه لعباده، لتقوم الحجّة يوم القيامة لهذا أو ذاك. أو على هذا وذاك. إنها فتنة لفظة وفتنة فكر. فلنجتنب الفتن كلها. عسى الله أن يهدينا سواء السبيل.
(1) أبو داود : 34/6/4607 ـ الترمذي : 24/16/2676 ـ ابن ماجه : المقدمة : 35.
(2) د. محمدحميد الله : مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ، ـ دار الإرشاد ـ بيروت ، ط3 ، ص : (44 بند 22 ).(/5)
وقفة مع المحبة في ضوء القرآن الكريم.
الحمد لله الذي جعل طاعته والخضوع له على صدق محبته دليلاً،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وجميع عباده المؤمنين عليه صلاة تبلغ السماء وسلم تسليماً كريماً وبعد:
اعلم رحمك الله بأن الغاية القصوى والذروة العليا والمطلب الأسنى والمقصود الأعظم أن يحظى العبد بمحبة الله له ومن أحبه الله هانت عليه المشاق وانقلبت عليه المخاوف في حقه أماناً وانقشعت عنه سحائب الظلمات وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان وعَمُرَ قلبه بالسرور والأفراح وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب.(تحفة الذاكرين-الجواب الكافي-طريق الهجرتين،لابن القيم-رحمه الله- بتصرف يسير.)
إن الآيات القرآنبة التي جاءت دالة على المحبة ،بينت محبة الله لعباده تفضلاً وكرماً، ودلت على وجوب محبة العباد لربهم تقرباً وطاعة، وجوب محبة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وجوب محبة المؤمنين بعضهم لبعض والآيات في هذا الموضوع كثيرة جداً ولكن بتقسيها تقسيماً موضوعياً نستطيع معرفتها بشكل أوضح وذلك كالتالي:-
* الآيات الدالة على محبة الله -سبحانه –ومنها على سبيل المثال لا الحصر :
(وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) البقرة/195
(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) البقرة/222
(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) آل عمران/31
(إن الله يحب المقسطين) الممتحنة/ 8
*الآيات الدالة على محبة العباد لربهم ولرسوله – صلى الله عليه وسلم- ومنها:
(والذين آمنوا أشد حباً لله) البقرة/165
(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) آل عمران/31
(فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه…) المائدة/54
*الآيات الدالة على المحبة عند العباد عموماً سواء كانت لأعمال صالحة أو غير ذلك ومنها:
(زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين…) آل عمران/14
(لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران/92
(وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب) الصف/13
والآن أحبتي الكرام نقف مع بعض هذه الآيات وقفات تفسيرية وتربوية نستجلي منها الفوائد والعبر من خلال كلام المفسرين وأهل العلم.
يقول الله تعالى:( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) آل عمران/31
يقول ابن كثير -رحمه الله – "هذه الآية الكريمة حاكمةٌ على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي وقال الحسن البصري وغيره من السلف :زعم أقوام أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية"(ابن كثير366/1)
ويقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - :"يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- هي اتباعه –صلى الله عليه وسلم- فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر؛إذ لوكان محباً له لأطاعه ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة ومنه قول الشاعر:
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع" (أضواء البيان217/1).
وقول تعالى :(ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) المائدة/54
يقول الشوكاني-رحمه الله -: "ثم وصف سبحانه هؤلاء القوم بهذه الأوصاف العظيمة المشتملة على غاية المدح ونهاية الثناءمن كونهم يحبون الله وهو يحبهم ومن كونهم (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) "
(فتح القدير75/2).
يقول سيد قطب-رحمه الله- : " والصورة التي يرسمها الله للعصبة المختارة هنا صورة واضحة السمات قوية الملامح وضيئة جذابة : (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) …فالحب والرضى المتبادل هو الصلة بينهم وبين ربهم…الحب…هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش هو الذي يربط القوم بربهم الودود، وهنا- في صفة العصبة المؤمنة المختارة لهذا الدين- يرد ذلك النص العجيب : ( يحبهم ويحبونه) ويطلق شحنته كلها في هذا الجو، الذي يحتاج إليه قلب المؤمن وهو يضطلع بهذا العبء الشاق، شاعراً أنه الاختيار والتفضل والقربى من المنعم الجليل." (في ظلال القرآن918-919/2).
والكتاب العزيز -كما أسلفت – مليءٌ بالآيات الدالة على هذه المنزلة العظيمة والوقوف عليها جميعاً يحتاج إلى بحث مطول ولكن المراد هنا أن نقف مع هذه المنزلة الجليلة والدرجة الرفيعة وقفة سريعة لتذكير النفس بهذه المرتبة العلية.(/1)
يقول ابن القيم –رحمه الله- : "قال أبو بكر الكتاني: جرت مسألة في المحلة بمكة أعزها الله تعالى -أيام الموسم – فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سناً فقالوا :هات ما عندك ياعراقي فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال : عبد ذاهب عن نفسه ،متصل بذكر ربه ،قائم بأداء حقوقه ،نظر إليه بقلبه ،أحرقت قلبه أنوار هيبته ، وصفا شربه من كأس وده ،وانكشف له الجبارمن أستار غيبه، فإن تكلم فبالله ،وإن نطق فعن الله ، وإن تحرك فبأمر الله ، وإن سكن فمع الله فهو بالله ولله ومع الله ،فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد" (مدارج السالكين 18/3).
فإذا غرست شجرة المحبة في قلبك ،وسقيتها بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب-صلى الله عليه وسلم- أثمرت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بإذن ربه أصلها ثابت في قرار القلب وفرعها متصل بسدرة المنتهى.
إذاً فحب الله ورسوله-صلىالله عليه وسلم- وحب المؤمنين في الله معنىً عظيم وصفة نبيلة إذا اتصف بها العبد وحققها سَعِدَفي الدنيا والآخرة ، وفي ختام هذه الوقفة السريعة مع هذه المنزلة العظيمة أسأل من الله أن يجعل حبه في قلوبنا أعظم من كل شيْ وحب رسوله –صلى الله عليه وسلم- وأن يحببنا إلى المؤمنين ويحببهم إلينا ، وأن يكون ذلك فيه سبحانه وتعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
وقفة مع النفس بعد الحج
د. خالد بن سعود الحليبي 23/12/1426
23/01/2006
ها نحن أولاء نصل إلى نهاية هذه الرحلة الإيمانية، في مواكبة هذه الأيام المباركة، مع المسلمين في كل مكان، وفي أثر الحجيج خصوصاً، الذين بدؤوا رحلة العودة، ولا تزال قوافلهم تتواصل، بعد أن غنم المقبول منهم ثواباً، ربما كان أسعد ثواب لقيه في حياته، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم : (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ).
وأحببت في هذا المقال أن أقف وقفة أرجو أن تكون صادقة؛ لتكون أبقى في القلوب والأذهان، نعيشها على مدى الشهور كما عشناها خلال هذا الموسم العظيم.
إن من أهم أسرار الحج أنه يربطنا بقدوتنا العظمى محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- الذي قال: (خذوا عني مناسككم)، فالمسلم الذي راح يسأل ويتحرى أن يكون حجه كله وفق الهدي النبوي الكريم، يرجو ألاّ يحيد عنه، رجاء قبوله، ينبغي له كذلك أن يتأسّى به في حياته كلها، فالله تعالى يقول في محكم التنزيل: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163].
إنها آية عظيمة تضع المسلم أمام حقيقة ربما غفل عنها في خضم الحياة، وهي أن حياة الإنسان كلها، بل ومماته يجب أن يكونا وفق نهجه وهديه كما هو شأن صلاته وعبادته المحضة، يتقفى في ذلك كله أثر الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- فلا يستعير منهجاً لماله من جهة، ومنهجاً لأسرته من جهة ثانية، ومنهجاً لفكره من جهة ثالثة، ولا يدع لله إلا ركعات ربما لا يدري ماذا قال فيها، وصياماً فقد حقيقته، وحجاً جهل أسراره، فعاشه بجسده ولم يعشه بقلبه، فإن "لا إله إلا الله" منهج متكامل للحياة كلها بلا استثناء. يقول الشاعر عمر أبو ريشة معتذراً إلى الله بعد حجه:
أسألُ النفسَ خاشعاً: أترى ... ...
طهرت بردي من لوثة الأدرانِ
كم صلاةٍ صلّيت لم يتجاوز ... ...
قدسُ آياتها حدودَ لساني
كم صيامٍٍ عانيت جوعي فيه ... ...
ونسيتُ الجياعَ من إخواني
كم رجمت الشيطانَ والقلبُ مني ... ...
مرهقٌ في حبائل الشيطانِ
رب عفواً إن عشت دينيَ ألـ ... ...
ـفاظاً عجافاً، ولم أعشه معاني
ومن أسرار الحج كذلك أنه يعطي صورة رائعة للوحدة التي يجب على المسلمين أن يسعوا إلى تحقيقها، فها هم أولاء قد تجمعوا من كل فج عميق، أبيضهم وأسودهم، شرقيهم وغربيهم، عربيهم وعجميهم، غنيهم وفقيرهم، لا تجمع بينهم سوى رابطة الدين، وحب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- يرتدون لباساً واحداً، ويهتفون هتافاً واحداً، ويرجون رباً واحداً. قد ضحوا بأنفسهم فعرضوها لمخاطر الأسفار، وضحوا بأموالهم فأنفقوها راضية بها نفوسهم، وضحوا بأوقاتهم فاقتطعوا منها أياماً وربما شهوراً، وضحوا بقربهم من أهلهم وديارهم وأسواقهم فتركوها في سبيل الله، وضحوا بجمالياتهم التي كانوا يحرصون عليها، فتجرّدوا من كل زينة ليبقوا أياماً معدودات بلباس الإحرام المتواضع، الذي لا مباهاة فيه بين رجل وآخر، ولا مدعاة فيه لعجب أو رياء أو خيلاء، وتلك تربية للنفس على بذل كل شيء من أجل إرضاء خالقها تعالى ومحبته، ليس في الحج وحده، بل في سائر أيام العمر.
ومن أسراره ومنافعه تربية النفس على العفاف والأدب العالي، فإن الله تعالى يقول: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ...)[البقرة: من الآية197]، فإن من أراد أن يعمل بهذه الآية فعليه ألاّ يتدنى إلى الرفث، ولا يتدنس بالفسوق، ولا ينطق بالفحش، بل ولا يشغل نفسه بالجدل والنقاش الذي لا طائل وراءه، ولا ينظر نظرة مريبة، ومن يلزم نفسه بهذا كله في أيام الحج، فإن أثر ذلك سيبقى له بإذن الله بعده، ولو درساً يتذكره كلما مالت به السبل، أو اشتط به الطريق. ثبّتنا الله جميعاً على صراطه المستقيم.
لعل تلك بعض المنافع التي أشار إليها الله تعالى في كتابه العزيز: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ...)(الحج: 27-28].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/1)
وقفة مع ركن عظيم
د.محمد إياد العكاري
alakkaridc@hotmail.com
تداعت أفكارٌعديدة ودارت في خلدي بعد أن تساءلت عن شعيرة الإسلام العظيمة في أمة الإسلام ومنا فعها لها بعد أن أضحت للأسف مزقأ وشتاتاً وفرقاً وشيعاَ تلك الشعيرة التي جمع الله سبحانه وتعالى أبا الأنبياء بدعوته "وَأذ ن فىَ اُلنَّاسِ بِاُلْحَجّ ِ يَأْ تُوكَ رِجالاً وَعَلَى كُلّ ِضَامِر يأْ تِينَ من كُلّ فَجٍ عَميِقٍ"الحج 27
مع آ خر الرسل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام عندما حج حجة الوداع وعلم الناس منا سكهم وخطب فيهم خطبته الشهيرة تلك المشكاة المشعة التي أسرجت من نور النبوة متذكراً فيها قوله : "ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌُ عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلد كم هذا"
لنستشعر من عرفات الله حرمات عظيمة للناس يجب ألا تمس لتكون كرامة الإنسان وتكريمه هي محورٌ أساسيٌ مهمٌ في ديننا العظيم ثم لنستشعر ابتداءً رباط الأنبياء وتسلسلهم مع بعضهم البعض وارتباطهم بعقيدة التوحيد الخا لصة من لدن آدم عليه السلام مروراً بأبي الأنبياء ابراهيم عليه السلام وحتي خاتم الأ نبياء والمرسلين .
هذه الشعيرة التي تمثل ظاهرة قوةٍ للمسلمين ومؤتمراًعا لمياً لهم منذ حجة الوداع وحتى اليوم ليجمعواكلمتهم، ويوحدوا صفوفهم، ويعتصموا بحبل لله المتين مستشعرين وحدة الهدف والمصير والسبيل والغاية،فيتناصرون ويرصون صفوفهم وليتهم يفعلون !!
فأي مؤتمر عظيم جمعهم المولى سبحانه ليستفيد وامنه في شؤون دينهم ووحدة كلمتهم ومصيرهم وإذا ابتدأنا بالإحرام هذا اللباس الذي يئتزر به الحاج ليرينا مايجب أن يكون عليه المسلم نقاءً وصفاءً، طهراً وبياضاً أجل هوذاك ويوحي كذلك من طرفٍ خفيٍ بالنهاية والختام ساعة يضمنا الكفن الأبيض لنستشعر قيمة الدنيا فنتذكرحالنا معها ليسعى كل امرئٍ إلى حسن خاتمته ومصيره ثم إذاتأملنا الكعبة المشرفة في الطواف لرأيناها كوكباً دُرِّيا يطوف حوله النقاء والطهر من كل بقعةٍ وأرضٍ وجنسٍ ولون لنرى العظمة والجمال والروعة والجلا ل حيث البقعة المباركة وفي قصة السعي بين الصفا والمروة وتفجر ماء زمزم بعد سعي أمنا هاجر زوجة سيدنا ابراهيم عليه السلام حياة للقلوب، وبشرى للأرواح بتفجرماء زمزم بعد الكد والسعي والبذل والجهد بغدوها ورواحها سبعة أشواط بين الصفا والمروة.
ثم في الرجم كأ نما يذكرنا المولى سبحانه بما يجب أن يكون عليه حالنا مع إبليس اللعين ليذكرنا كيف حاول إبليس ثني ابراهيم عليه السلام عن طاعة ربه في تنفيذ مارآه في منامه لذلك كان الرجم لنكون متيقظين لكيده ،منتبهين لمكره فسيخرج لنا في دروب الحياة ويزين لنا الباطل هذا شأنه أما شأننا فاتخاذه عدواًهومانتعلمه في الحج برجمه والله سبحانه يقول:
"إنَّ الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير"فاطر6
وفي الأضحية والكبش الذي نزل من السماء فداءً لسيدنا اسماعيل تذ كرةً وذكرى لنابأن نكون كما كان سيدنا إبراهيم عليه السلام على استعدادٍ للتضحية والفداء بأعزِّما نملكفي سبيل الله لأن الله يريد لنا الخير واليسر ولا يريد بنا العسر ليفدى من السماء بكبش أجل ماأعظم ذكريات الحج وما أروع يوم عرفة هذا اليوم الذي يتجلى فيه ربنا سبحانه و يباهي ملائكته ليقول انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً ثم ليسألهم ماجاء بعبادي وهوبهم أعلم؟!فيقولون :جاؤوا يلتمسون رضوانك والجنة فيقول سبحانه أشهد نفسي وخلقي أني قد غفرت لهم ولوكانت ذنوبهم عدد أيام الدهروعدد رمل عالج فهنيئاً لمن حج والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة ...
حقاً إنها وقفاتٌ وعظات ومنافع أجل ليشهدوا منافع لهم ويذكروا الله في أيامٍ معلومات"ذَلكَ وَمَنَ يُعظّم شَعَر اللّهِ فإنها مِن تِقِوى اُلقُلوبِ -لَكُمْ فِيها منَافَعُ إِلى أجَلِ مُّسَمى ثُمَّ مَحِلُّهَا إَلى الْبَيتِ الْعَتِيقِ -ولِكُلِّ أمةٍجَعَلْناَ مَنَسَكاَ لّيذْكُرواْسم اُلله مَا رزَقهُم من بَهِيمةِ الأنْعَمفإِ لَهُكُم إِلَهُ ُ وَاحِدُ ُفَلَهُ أَسْلمُواْ وبَشّر المخْبِتِينَ الحج 32-33-34 أجل هي الشعيرة العظيمة لهذه الأمة فهل تستفيد منها أروع استفادة لخدمة المسلمين وقضاياهم وتوحيد صفهم ووحدة كلمتهم وبث روح الإخاء فيما بينهم وتوعيتهم بأمور دينهم وقضاياهم أم تضيع هذا المؤتمر العظيم والتظاهرة الحاشدة لأمة الإسلام؟!
آمل لأمتنا كل رشدٍ وبر،ووحدةٍ وخير،وعزٍ ونصر ينبعث متلألئاً في دربها مشرقاً في أيامها والسلا(/1)
وقفة مع نهاية العام ... ... ...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم… أما بعد:
أخي الحبيب، لقد وقفت أمام يوميتي لأنزع آخر ورقة بها، آخر يوم من عمر العام المنصرم 1425هـ، وعلى غير عادتي تثاقلت يدي هذه المرة وهي تمتد إليها، وانتابني إحساس نبّه في وجداني شعوراً، ما كنت أعيره اهتماماً على مدى أكثر من 350 يوماً قد انتهت، لقد أحسست بإشفاق عليها، وقد تراءت لي كأنها تحتضر، وترنو إلى يدي في فزع وذل، كأنها تطلب مني أن أمهلها لحظات تودّع فيها هذه الحياة، فعدلت عن نزعها، ورحت أتأمل هذه الورقة الأخيرة، واعترتني رهبة عندما عرفت أنني في الحقيقية بنزعها قد نزعت حزمة من أيام عمري، لأطوي بها سجلّي الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وبما فيها من خير وشر.
أخي الحبيب، إن هذه اليومية المحتضرة تشبه عمر أي مخلوق، وإنها تتناقص أيامها مثلما تتناقص أعمارنا يوماً بعد يوم، وكما يتناقص بتراكمات الحقب والسنين عمرُ الزمان، وكل المخلوقات في تناقص مطرد حتى تنتهي إلى الزوال { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن:26-27]، إن كل المخلوقات تنتهي أعمارها، وتمضي حيث شاء الله لها، وتطوى، إلا هذا المخلوق (الإنسان) فإنه الوحيد الذي يبقى متبوعاً بعد رحيله من هذه الدنيا، وموقوفاً للحساب والجزاء.
عدت من ذهولي، وأخذت استحث ذاكرتي القاصرة، علّها تسترجع بعض ما رسب وعلق بها من أحداث العام المنصرم، قبل أن تغمرها دوائر النسيان، ووقفت طويلاً استعرض ذلك الشريط الطويل (العمر)، يا سبحان الله العظيم، إنه شريط عجيب حقاً، فقد اكتظ اكتظاظاً، وأفعم إفعاماً، لقد اكتظ بالحوادث المختلفة، والأحداث المتباينة، والأعمال الحقيرة والجليلة، عنّي وعن غيري ممن لا حصر لهم، من الذين مرّوا أمام عدسة هذا الشريط بالصوت والصورة.
لقد تذكرت هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وما كان فيها من أحداث، وما أحوجنا -أخي الحبيب- ونحن نستقبل عاماً هجرياً جديداً أن نعيش بقلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وواقعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكة المكرمة إلى المدينة النبوية والتي حوت على الكثير من الدروس والعبر منها على سبيل المثال لا الحصر، قيمة الزمن وأهميته.
فلقد جاهد النبي صلى الله عليه وسلم في سبيل الله حق الجهاد، منذ أنزل الله عليه قوله تعالى: { يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . قُمْ فَأَنذِرْ . وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [المدثر:1-4]، فكان صلى الله عليه وسلم يواصل الليل مع النهار والسر مع الإعلان، وما كان يخشى في الله لومة لائم، ولا كان يردعه عن تبليغ الدعوة تهديد قريش ووعيدها.
واستجاب له منذ البداية صدّيق الأمة أبوبكر من الرجال، ومن الصبيان علي بن أبي طالب، ومن النساء زوجته خديجة بنت خويلد. واستجاب لأبي بكر: عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم.
وتعهد صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتربية والتعليم فكان يجمعهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم فيعلمهم ما ينز ل عليه من القران الكريم، ويأمرهم بحسن الأخلاق ويحذرهم من الفسق والشرك والعصيان، وكان صلى الله عليه وسلم قدوة لهم في جميع أقواله وأفعاله.
وكان للوقت قيمة كبرى عندهم، فكانوا يستغلون أوقاتهم في طاعة الله وفي التزود من علم الرسول صلى الله عليه وسلم وفضله، وكانت العقيدة في نفوسهم أهم من المال والأهل والولد، وعندما خيّروا بين الوطن والقبيلة ورغد الحياة وبين خشونة العيش والغربة والتشرد اختاروا صحبة رسول الله والهجرة في سيل الله.
لقد صدق الصحابة رضوان الله عليهم ما عاهدوا الله عليه، وعندما ابتلاهم الله صبروا وضربوا أروع الأمثلة في الفداء والتضحية، وعندما نادى منادي الجهاد كانوا يتسابقون على الموت في سبيل الله ولسان حالهم يقول { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [طه: 84]
وبعد ثلاثة عشر عاماً من البذل والتضحية أكرم الله جل وعلا محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، بالنصر وجاءهم من جهة المدينة.
13 عاماً كانت محسوبة بأيامها ولياليها وساعاتها.
13عاماً لا يهنأ المسلمون فيها بلذيذ الطعام والشراب، ولا يصرفهم عن ذكر الله حب الدنيا والتثاقل إلى الأرض.
13 عاماً من العمل الجاد، والتخطيط الدقيق، والتربية الرائعة.
فأين نحن اليوم - أخي الحبيب - من سيرة الرسول وأصحابه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.(/1)
لقد انسلخ عام كامل من أعمارنا.. انسلخ بثوانيه ودقائقه وساعاته وأيامه، فماذا قدمنا فيه من أعمال صالحة ندخرها ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد؟
إن الجواب أخي الحبيب على هذا السؤال مخجل، ومخجل جداً، ولكن لابد من الاعتراف بالأمر الواقع، فالواحد منا يخرج من بيته في الصباح الباكر، ويمضي سحابة يومه في مدرسته أو جامعته أو عمله، ويعود إلى بيته آخر النهار وقد أضناه التعب فيتناول طعام الغداء ويرتاح قليلاً ثم يمضي بقية اليوم وأول الليل في المذاكرة أو قضاء الأمور المعيشية، ثم ينام، ثم يعود في الصباح وهكذا وهكذا، إنها والله حياة ليست فيها دقائق مخصصة لقراءة القرآن ولتعلم أحكام ديننا وليست فيها دقائق مخصصة لقيام الليل وصلاة السنن والنوافل وليست فيها دقائق مخصصة لحضور مجالس الذكر والمحاضرات وليست فيها أيام لصيام الإثنين والخميس وليست فيها دقائق لبذل المعروف وقضاء حوائج الناس.
أخي الحبيب، لقد شغلتنا دنيانا عن طاعة ربنا، ونحن الذين حذرنا جل وعلا منها، قال تعالى { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ. وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ. وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون:9-11]
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" [ رواه البخاري/ الجامع الصحيح 6416].
وقال صلى الله عليه وسلم: « لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به » [السلسلة الصحيحة 946]
سوف يسألنا مالك يوم الدين يوم الحشر عن أعمارنا، هل أفنيناها في الأعمال الصالحة والطاعات، أم أفنيناها في اللهو والغفلة والعبث؟ ويسألنا سبحانه وتعالى عن أجسامنا هل أبليناها بالصيام والقيام وغض البصر وحفظ السمع واللسان، أم أبليناها في تناول ما لذ وطاب من الطعام والشراب؟ والسائل جلّ وعلا يعرف خفايا أمورنا، ولا يعجزه شي ء في الأرض ولا في السماء.
قال تعالى { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [المجادلة:7]
أخي الحبيب، إن الكثير من أبناء المسلمين في معظم البلاد العربية والإسلامية يحتفلون بذكرى الهجرة في كل سنة، ولكن للأسف الشديد القليل جداً منهم الذي يعرف الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة، فالله عز وجل في كتابه العزيز قد أنحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في مكة يصلون ويصومون فقط، ولا يستطيعون أن يفعلوا أكثر من ذلك من مظاهر الدين لأنهم كانوا تحت سلطة قريش ولا قوة لهم عليها، ثم هم لم يهاجروا إلى قلعة الإسلام ليكونوا من جنودها ويظهروا شعائر دينهم بكل راحة، فأنزل الله فيهم قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [النساء:97]
فالحكمة أخي الحبيب من الهجرة هي أن الإسلام لا يكتفِ من أهله بالصلاة والصوم فقط، بل يريد منهم مع ذلك أن يطبقوا كل أوامر الله عز وجل وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم الظاهرة والباطنة في أنفسهم وفي كل أمور حياتهم اليومية، كما قال تعالى { يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [البقرة:208] والسلم هو الإسلام، وقال تعالى { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام:162]
أخي الحبيب، إن الهجرة باقية لم تنتهِ بعد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: « لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها » [رواه أبو داود والنسائي، صحيح الإرواء 1208](/2)
وعن عبد الله بن عمير عن أبيه عن جده، أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أفضل الهجرة؟ قال: « من هجر ما حرم الله » . [ مشكاة المصابيح 3833 ]
وقال صلى الله عليه وسلم في حجه الوداع: « ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم. والمسلم ؟ من سلم الناس من لسانه ويده. والمجاهد؟ من جاهد نفسه في طاعة الله. والمهاجر؟ ( وهنا الشاهد ) من هجر الخطايا والذنوب » [السلسلة الصحيحة 549]
فلابد من الهجرة من ترك الصلاة مع الجماعة والنوم عن الصلوات إلى الصلاة على وقتها مع الجماعة في الصف الأول. ولابد من الهجرة من قراءة المجلات والجرائد التافهة إلى قراءة القرآن الكريم وتدبر آياته.
ولابد من الهجرة من سماع الأغاني والتلذذ بالغيبة إلى سماع القرآن والمحاضرات المفيدة.
ولابد من الهجرة من النظر المحرم في المجلات والأسواق والقنوات إلى النظر في كتاب الله وسنة رسوله وسيرته وعظمة الله في مخلوقاته.
ولابد من الهجرة من الكذب والغيبة والكلام البذيء إلى ذكر الله عز وجل ودعائه والتلذذ بمناجاته.
ولابد من الهجرة من الجلسات الفارغة والتافهة إلى مجالس الذكر وحضور المحاضرات النافعة.
ولابد من الهجرة من أصدقاء السوء سواء كانوا من الأقارب أو من زملاء الدراسة والعمل، الذين يصدون الإنسان عن سلوك طريق الالتزام والهداية، إلى الإخوة الصالحين الذين يدلون على الخير ويعينون المسلم عليه.
وباختصار لا بد من الهجرة من كل ما يغضب الله، إلى كل ما يرضي الله، ومن كل معصية يبغضها الله إلى كل طاعة يحبها الله.
أخي الحبيب، إن بداية العام الهجري الجديد فرصة لكل واحد منّا لكي يفتح صفحة جديدة مع الله عز وجل، صفحة بيضاء نقية، يعاهد الله فيها أن يسلك طريق الالتزام والهداية، يعاهد الله فيها أن يكون كتاب الله عز وجل جليسه، وذكر الله عز وجل أنيسه، وقيام الليل وصيام النهار سبيله، والأخ الصالح في الله نديمه.
صفحة يعاهد الله فيها أن يترك كل معصية تبغضه، وكل أغنية ماجنة من القرآن تحبسه، وكل نظرة محرمة للقلب تقتله، وكل جليس سيء من الله يبعده.
بهذا وهذا وحده نحيي ذكرى الهجرة الشريفة، ونحقق مقاصدها، وهذا هو الفلاح الذي يدعونا إليه المؤذن خمس مرات في كل يوم عندما يدعونا إلى الوقوف بين يدي الله عز وجل.
اللهم اجعل عامنا القادم أفضل من عامنا الماضي بتوفيقنا لطاعتك وترك معصيتك يا رب العالمين، اللهم اجعل عامنا القادم فرصة لقبولنا في قافلة العائدين إليك والمنيبين إليك يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصدر: طريق الإسلام
...(/3)
وقفة مع نهج الدعوة الإِسلاميّة
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
إننا نقدّم هذه السلسلة من كتب الدعوة ودراستها، نصحاً خالصاً لوجه الله، نصحاً لكلّ مسلم، ولكلّ أسرة، ولكل حركة إسلامية، وللمسلمين بعامة، ولكل من يريد أن يبحث عن سبيل ينجو به عند الله من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة، إذا صدقت النيّة وصحَّت العزيمة.
لقد أصبح جليّاً أنّ واقع المسلمين يتعرّض إلى خطر حقيقي لا وَهْمَ فيه ولا خيال. ولقد أصبح واضحاً أن جهود قرن كامل أو أكثر لم تستَطِع أن تدفع الكوارث والفواجع والهزائم عن المسلمين.
ولقد نصحنا قبل اليوم، قبل عشرات السنين، نصحاً خالصاً لله، ونبّهنا إلى الخطر المقبل بوضوح، وعرضنا كلّ ما نستطيع بيانه مع الأدلّة والبينة والحجة، من منهاج الله ومن الواقع الذي يُدرَس من خلال منهاج الله. ولو أنّنا نستطيع أن نسترجع ذلك، لرأينا أن النُذُرَ كانت واضحة قويّة، وأن القوارع كانت مدويّة، وأن النصيحة كانت بالغة. ولكن الله يقضي ما يشاء، وقضاؤه الحق، وقدره غالب، وحكمته بالغة، وكتاب الله بيّن حجّة عليْنا جميعاً.
ولابد أن نذكر أنفسنا بحقائق أساسيّة يُبْنى عليها الفكر والتصوّر :
أولاً : إن الله يقضي بالحق، وإنه لا يظلم أبداً.
ثانياً : إن كل ما يجري من أمر صغير أو كبير، فإنه يتمّ بأمر الله وقضائه الحقِّ، وقدرِه الغالب، وحكمتِه البالغة.
ثالثاً : على أساس من ذلك، فما أصابنا من هوان وقوارع وهزائم هو بما كسبت أيدينا. فنحن ظلمنا أنفسنا لم يظلمنا الله أبداً :
( إن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون )
[ يونس : 44 ]
رابعاً : إنَّ أول واجب بعد ذلك هو الوقفة الإيمانية، لنراجع بها مسيرتنا، وندرس أخطاءنا، على أن يكون ذلك من خلال منهاج الله قرآناً وسنّة ولغة عربيّة.
خامساً : إن أول نتائج الوقفة الإيمانية على أساس من منهاج الله، هو أن التقصير عام ، والخطأ شامل، والتوبة النصوح واجبة على كل من يريد النجاة، أو يطلب النصر من عند الله، أو يبغي صلاح الحال.
سادساً : أن يَتْبَع التوبةَ النصوحَ وضعُ نهج عام وخُطَّة شاملة، ينبع ذلك من منهاج الله ويُلَبِّي حاجة الواقع، ويعالج أهم مشكلاته، ليكون أساس لقاء المؤمنين المتقين العاملين، على طريق بناء الأمّة المسلمة الواحدة، ومعالجة ما نعانيه من خلل وتقصير وأَمراض.
من خلال هذا التصور، ومن خلال هذه الوقفة، كانت هذه الدراسات التي تقدّم نهجاً ينمو ويتكامل ويتناسق مع الممارسة والمتابعة. فهي خلاصة تجربتي في الحياة، وتجربتي في الدعوة الإسلامية، خلال فترة قرابة خمسين عاماً، تحمل من المعاناة والابتلاء ما حملته، وتحمل من فضل الله ورحمته، وإنّ فضل الله عظيم ورحمته واسعة. فإن أصبتُ في شيء فالفضل كله لله وحده، وإِن أخطأت فهو مني ومن الشيْطان، أسأل الله التوبة والمغفرة.
وهذا النهج وهذه الدراسات ليست مجرّد أفكار نظرية، أو آراء متناثرة. إنه أولاً : نهج مترابط يقوم على نظرية عامة تربط جميع أجزاء النهج. وثانياً : إنه نهج يحمل معه المناهج التطبيقية بتفصيلاتها ونماذجها العملية، كما يحمل الدراسات لكل بند من بنوده وعنصر من عناصره، ويحمل نماذج من دراسات عن القضايا الفكرية في الواقع وعن أحداثه، ليردّ ذلك كله إلى منهاج الله، وليقدِّم فقه هذه القضيّة أو تلك، فقهاً قائماً على منهاج الله وعلى وعي القضيّة من خلال منهاج الله. ويدخل في ذلك الأدب الملتزم بالإسلام و" النصح الأدبي " الملتزم بالإسلام، النصح الذي يسمّى عادة " بالنقد الأدبي ". ويدخل في ذلك دراسة أهم مذاهب الأدب في الغرب والردّ عليها من خلال الكتاب والسنة. ويدخل في ذلك الشعر في دواوينه وملاحمه، ليكون صورة تطبيقية للدور الذي نفهمه من الكتاب والسنة للشعر في ميدان الحياة. ويدخل في ذلك أهم قضايا العالم الإِسلامي الفكريّة وأهمَّ أحداثه. إنه نهجٌ يطبَّق في واقع الحياة، وتُرْصَد نتائج تطبيقه على أسس إيمانيّة، وعلى قدر ما تسمح به الإمكانات والظروف والأحوال.
وبالرغم من ضيق الإمكانات إِلا أن النتائج كانت مطمئِنة. فقد كشف هذا النهج أثناء التطبيق أهم مشكلات واقعنا اليوم، وأهم وسائل علاجها. وكشف الضعيف ليبقى في مرحلة العلاج، والقويَّ ليَتقدَّم، والمُنَافِق ليَنْزَاح. ومن أهم ما حقَّقه هو تغيير حقيقي لما بالنفس، وتغيير لما في الفكر، وكذلك الموقف والسُّلوك، فيما دقَّ وجلّ. ولكن التغيير مستمرّ مدى الحياة حتى يلقى المسلم ربه، وذلك بفضل من الله وحده، يهدي من يشاء ويُضلُّ من يشاء.
لقد رسم النهجُ الطريقَ لمن يريد أن يسير وينطلق : أهدافٌ ربّانيّة ثابتة محدَّدة، وصراط مستقيم بيّنه الله لنا وفصّله، والهدف الأكبر والأسمى ـ الجنة، أهداف مشرقة، والدرب جليٌّ واحد لا سبيل سواه :
صراط مستقيمٌ حتى لا يضلّ عنه أحد، وسبيل واحد حتى لا يُختلفَ عليه ! فلِمَ التفرّق والتمزق والصراع ؟ ! أعلى لعاعة من الدنيا ؟ !(/1)
• القضيّة الأُولى، القضيَّة الرئيسة، الحقيقة الكبرى في الكون والحياة، الهدف الرباني الثابت الأول في الدعوة الإسلامية، القضية الأولى في كلِّ ذلك، هي قضية الإيمان والتوحيد. فهي التي تقرِّر مصير كل إنسان في الدار الآخرة !
• إنها القضية الأُولى الرئيسة في حياة كل إِنسان، وحياة كل شعب، وحياة البشريّة كلها !
• إنها القضية التي لم تنلْ الجهد الحق العادل في واقعنا اليوم، ولا البذل الوافي ! وهي القضيّة التي أصابها الخلل والانحراف عند بعض الناس دون أن يشعروا بذلك أو مع شعورهم به.
• إنها القضيّة التي انفصلت عنها القضايا المادية الاقتصاديّة والسياسية والاجتماعية والأدبيَّة وغيرها، حتى أصبحت هذه تدرس وتعالج وحدها، وتلك تدرس وتعالج وحدها، وأصبح التصوّر المادّي هو الغالب على معظم القضايا، وأصبحت قضية الإيمان والتوحيد أقرب إلى الشعار منها إلى الجوهر الذي يحكم كلَّ القضايا في الحياة.
• إنها القضيّة التي يجب البدء بها، لتُدْرَس نواحي الخلل الحقيقية في واقع الناس وتُدْرس وسائل معالجتها، ويوضع النهج العمليّ التطبيقي لمعالجتها. إن معالجة أيّ قضية مهما كان نوعها في واقع الحياة، أو معالجة أيّ خلل، لا يمكن أن ينجح إذا لم يبدأ العلاج هناك، في قضية الإيمان والتوحيد بعمل منهجي محدّد :
دراسة نواحي الخلل وتحديدها، تحديد وسائل العلاج،وضع منهج عملي تطبيقي للعلاج.
• إنها القاعدة الصلبة التي يقوم عليها : العاطفة والشعور، الفكر، النهج والتخطيط، السعي والعمل.
• قضية الإيمان والتوحيد ليست قضيّة شعار فحسب، ولا قضيّة عاطفة فحسب، ولا هي قضيّة فكريّة فحسب، ولا هي قضيّة فلسفيّة، إنها قضيّة حقّ يقوم عليه الكون كله. إنها تجمع العاطفة الواعية الصادقة، والفكر اليقظ الصادق، والنيّة الخالصة لله الواعية التي تحدّد الهدف والدرب إليه والوسائل والأساليب، ليكون ذلك كله ربّانياً.
• إنها القضيّة التي تجعل المعركة الأولى للإنسان في نفسه، في داخله، في ذاته، ليجاهد نفسه جهاداً ممتداً في حياته كلها، مع مجاهدة العاطفة والفكر والنيّة والنهج والتخطيط والعمل والسعي.
• إنها القضيّة التي تمتدُّ مع كل خطوة ومرحلة وهدف على صراط مستقيم إلى الهدف الأكبر والأسمى، تمتدّ ولا تنفصل عن أي عاطفة أو فكر أو عمل، تمتدّ امتداد الحياة، مع كلّ نبضة وخفقة.
من أجل ذلك كله، من أجل هذه القضية الكبرى، راقب نفسك أيها المسلم الداعية واسألها أسئلة كثيرة، نذكر بعضاً منها :
ـ هل تؤْثر الدار الآخرة على الدنيا ؟! واعلم أن الله يعلم ما في نفسك !
ـ هل طهّرت نفسك من الحسد والحقد، ومن الكبر والغرور ؟ !
ـ هل تخلّصت من العصبيات الجاهلية بكل أنواعها : العائلية والإِقليمية والقومية والحزبيّة ؟!
ـ هل أصبح لديك ميزان إيماني محدّد تزن به الرجال والأمور ؟! هل تطبّقه فعلاً ؟!
ـ هل نيّتك ترافقك في كل عمل تقوم به، نيّة خالصة لله، نيّة واعية يقظة، تعرف هدفها ودربها ووسائلها وأساليبها، لتكون هذه كلُّها ربّانيّة ؟!
ـ هل أنت تجاهد نفسك حق الجهاد، حق المجاهدة على علم بمنهاج الله ؟!
ـ هل أنت واثق أن ولاءك الأول لله وحده، وعهدك الأول مع الله وحده، وحبك الأكبر هو لله ولرسوله، وأنّ كل موالاة في الدنيا وكلّ عهد وكل حبّ ينبع من الولاء الأول والعهد الأول والحب الأكبر ويرتبط بها.
ـ هل أنت تصاحب منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ـ صحبة منهجيّة صحبة عمر وحياة ؟!
ـ هل أنت تدرس هذا النهج دراسة جادة حتى تعيه، فإذا آمنت به التزمته التزام عهد وصدق ووفاء ؟!
لا بدّ أن تسأل نفسك وتحاسبها، وتدرس الخلل فيها والأخطاء، وتبدأ بمعالجتها. ولقد قدمنا في كتب الدعوة النهج العمليّ التفصيلي لمحاسبة النفس من ناحية، ولتذكيرك بذلك أيها المسلم من ناحية ثانية.
كيف يمكن أن ينزل المسلمون الميدان يحملون ما في النفوس من خلل واضطراب، وعيوب وانحراف ؟ !
كيف يمكن أن يتحقق النَّصر ونحْن نحمل في أعماق النفوس آفات الكبر والغرور والحقد، وحبّ الدنيا و زهوتها والسمعة فيها، والعصبيات الجاهلية التي تحوّل حتى الصداقات والأرحام إلى عصبيات قاتلة، تمزّق الصفوف والقلوب والجهود ؟ !
كيف تكون التقوى في القلوب إذا امتلأت القلوب بهذه العلل وذلك الخلل ؟! كيف يمكن أن ينمو في القلب تقوى وقد حجزتها الأمراض ؟ ! وكيف تنشأ الخشية من الله إذا غمر القلوب حبُّ الدنيا والجري اللاهث خلف سرابها وأوهامها ؟ !
حاسب نفسك أيها المسلم، وأَعِنْ أخاك على محاسبة نفسه، ولا تدفعه إلى الغرور والهلاك ! حاسب نفسك وجاهدها قبل فوات الفرصة.
حاسبوا أنفسكم أيها المسلمون على نهج بيّن مفصَّل، وتناصحوا بالحق على أساس من منهاج الله ! واحذروا أن يفتنكم الشيطان بما يزيّنه لكم من زخرف كاذب ومتاع زائل وباطل مكشوف.(/2)
تناصحوا بالحق، ولا تخفوا العيوب والأخطاء حتى تتراكم، وحتى تحجب الرؤية الأمينة الصادقة، فيتسلَّل الشيطان وجنوده من الإنس والجن إلى القلوب فيفتنها ! ويتسلل أعداء الله بمكر تكاد تزول منه الجبال ! ويتسلّل باطلهم حتى يحسبه بعْضهم حقّاً !
ونعيد كذلك ونؤكِّد أننا نقدِّم هذه الدراسات خالصة لوجه الله، بريئهً من أيّ عصبية حزبيّة، نتوجّه بها إلى كل مسلم، إلى كلّ أسرة، إِلى كلِّ حركة إسلاميّة، إلى المسلمين بعامة، إلى العامل والتاجر والموظف، إلى كلّ مستوى. ذلك أنّ الموت حقٌّ على كل إنسان، وأنّ مصير كلِّ إنسان إِما إلى جنّة وإما إلى نار، وأن الحياة الدنيا دار ابتلاء وتمحيص، وأنها الفرصة الوحيدة لمراجعة مسيرة وتصحيح أخطاء. إنها الفرصة الوحيدة للتأمُّل والتفكّر، والتوبة والاستغفار، والإنابة والخشوع بين يدي الواحد القهّار.
إنها الفرصة الوحيدة لنغيّر ما بأنفسنا ونغيِّر مسيرتنا لتستقيم على أمر الله، عسى أن تلتقي القلوب والسواعد في صف واحد كالبنيان المرصوص، في لقاء المؤمنين، في أمّة مسلمة واحدة.
( حتى إذا جاء أحدهم الموتُ قال ربِّ ارجعون. لعلّي أعمل صالحاً فيما تركتُ كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إِلى يوم يبعثون )
[ المؤمنون : 100،99 ]
( وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون )
[ الأنعام : 32 ]
( ولو ترى إذا وقِفوا على النار فقالوا يا ليتنا نردّ ولا نكذّبَ بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين. بل بدالهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين. ولو ترى إذ وقِفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى ورّبنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون )
[ الأنعام : 27ـ 30 ]
( ويوم يعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلا. يا ويلتا ليتني لم اتخذ فلاناً خليلاً. لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً )
[ الفرقان : 27 ـ 29 ]
أيها المسلم ! تفكّر وتدبّر قبل أن يأتيك الموت، وهو آتيك لا محالة، وأصلح من نفسك، وانهض إلى مسؤولياتك والتكاليف الربانيّة التي ستُحاسَبُ عليها بين يدي الله.
واذكر هذه الآيات الكريمة وتدبّر حقائقها قبل فوات الفرصة عليك :
( كلُّ نفس ذائقة الموت وإنما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )
[ آل عمران : 185 ]
( كلُّ نفسٍ ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )
[ الأنبياء : 35 ]
( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا. ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً )
[ النساء : 78، 79 ]
نصحٌ خالص لوجه الله ! فكِّر أيها المسلم وتأمّل ! واطلب سبيل النجاة فإنه أمامك ممتدٌّ مشرق لا يضلّ عنه مؤمن عاقل !
نصيحة خالصة لوجه الله، نهدف منها أن تكون أَساساً متيناً يساهم في بناء لقاء المؤمنين وبناء الأُمَّة المسلمة الواحدة صفّاً كالبنيان المرصوص. فلعلَّك أيها المسلم المؤمن تدرك أهمية هذه القضيّة وخطورتها ومنزلتها في الدنيا والآخرة، فتصبّ جهدك الأمين ليساهم في جمع القلوب والنفوس والكلمة على صراط مستقيم !
إننا لا نملك إلا أن :
• نقدم دراسات منهجيّة نابعة من الكتاب والسنة، ملبّيةً لحاجة الواقع، تبيّن الدرب والأهداف والوسائل والأساليب.
• ندعو ونبيّن بصدق وجلاء، ونذكّر ونلحُّ.
• نتعهّد من يستجيب على نهج معلن مفصّل، ونعين، وننصح، ونذكّر، وندرّب، حتى ينهض لمسؤوليّته والتكاليف الربانية، ثم يدعو ويبلّغ ويتعهد.
• نسعى بكل جهد وصبر إلى أن تلتقي القلوب والنفوس والعزائم في صفّ واحد كالبنيان المرصوص على نهج موحَّدٍ مفصَّل لا فتنة فيه ولا انحراف.
• كل ذلك يتمُّ على مراحل وخطوات مترابطة.
• أساس ذلك كله صدق الإيمان والتوحيد وصفاؤهما، وإخلاص النيّة الواعية اليقظة، وكذلك مصاحبة منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربيّة ـ صحبة منهجيّة، صحبة عمر وحياة لا تتوقف، ليعرف كل فرد مسؤولياته وحدوده، ولتعرف الأمة كلها مسؤولياتها التي تحاسَب عليها يوم القيامة، ويحاسَب كلُّ فرد.
لا نملك إلا هذا ! وأما الهداية فمن عند الله، يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء، على حكمة بالغة، وحق تام، وقدر غالب. فله الأمر كله(/3)
وقفة ورأي مع قصيدة كعب بن زهير البردة "
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لا أقصد هنا لأن أُحلّل قصيدة كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ " بانت سعاد …."، في توبته ودخوله الإسلام ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا أقصد كذلك شرحها وتفسير أبياتها ومعاني ألفاظها . الذي أقصده هنا هو بيان رأي لي في مطلع القصيدة الذي دار الخلاف الواسع حوله في تاريخ الأدب والنقد ، وبيان رأي في محور القصيدة الرئيسة التي نعرضها .
ولقد نالت هذه القصيدة شهرة واسعة ، وتصدّى عدد كبير من علماء المسلمين لشرحها ، ومنهم من خمّسها وشطرها . ويذكر الدكتور محمود حسن زيني في تحقيقه لشرح أبي البركات ابن الأنباري لهذه القصيدة أن مكتبة " جلبي عبد الله أفندي " باستنابول تحتوي على شروح مخطوطة مجهولة لهذه القصيدة ، وأن هناك خمسة شروح لهذه القصيدة في مكتبة " لاله لي " باستنابول ، وتحتفظ مكتبة " أسعد أفندي" باستنابول بمجموعة هائلة من شروح لهذه القصيدة ، عدّد المحقق منها تسعة وثلاثين شرحاً مع ذكر أسماء الشارحين وتاريخ ذلك . ثم ذكر عدد المشطرين والمخمسين وأسماءَهم وتاريخ عملهم .
ولقد حقق الدكتور محمود أبو ناجي شرح هذه القصيدة لجمال الدين محمد ابن هشام الأنصاري ( 708-761هـ ) .
ولقد ذكر الدكتور محمد بن سعد بن حسين هذه القصيدة وذكر مناسبتها وبعض التعليقات حولها في كتابه " المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة " . ولا بدّ أن نذكر مناسبة هذه القصيدة وقصّتها ، ليكون ذلك عوناً لنا على فهم القصيدة من ناحية ، وعلى بيان رأينا فيها من ناحية أخرى .
1- مناسبة القصيدة :
كان زهير بن أبي سلمى قد رأى في آخر حياته وهو نائم أن سبباً من السماء مُدَّ له ، وكان كلّما حاول الإمساك به قبض عنه . فلّما أصبح روى هذه الرؤيا لابنيه كعب وبجير ، ثمّ فسَّرها بأنه سيظهر نبيٌّ داعية لدين جديد ، وطلب من ولديه اتباعه ، فلّما ظهر الإسلام جاء " بجير " رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه ، وتأخّر كعب عن ذلك . ويقول أبو الفرج : خرج كعب وبجير ابنا زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغا " أبرق العزّاف " . فقال كعب لبجير : الحق الرجل ، وأنا مقيم هاهنا ، فانظر ما يقول لك . فقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسمع منه وأسلم . فلّما بلغ ذلك كعباً قال :
فهل لك فيما قلتُ ويحك هل لكا ... ... ألا أبلغا عنّي بُجيراً رسالة
على أيّ شيء غير ذلك دلّكا ... ... فبيّن لنا إن كنتَ لستَ بفاعل
عليه وما تُلفي عليه أباً لكا ... ... على خُلُقٍ لم أُلفِ يوماً أباً له
ولا قائلٍ إما عثرتَ : لعاً لكا ... ... فإن أنت لم تفعلْ فلستُ بآسفٍ
وأنهلك المأمون منها وعلّكا ... ... سقاك أبو بكر بكأسٍ رويّةٍ
وتأتي هذه الأبيات بروايات مختلفة في المصادر المتعددة التي ترويها ، وأرسل كعب بهذه الأبيات إلى أخيه بجير ، فأبلغ بجير بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله " وذلك عند انصرافه من الطائف .
وهذا هو حكم الله ورسوله ، ذلك لأنّ هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يصدر إلا عن كافر أعلن حربه على الله ورسوله ، وعلى رسالة الإسلام ، وكان الشعر آنذاك أهمّ وسائل الحرب والخصومة ، لشدّة أثر الشعر في نفوس العرب ، وبين لنا خطورة أمر الشعر في معركة الإسلام آنذاك ، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنّ الله عز وجل أنزل في الشعراء ما أنزل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل " [ رواه أحمد ] (1)
نعم! هكذا كان الشعر في معركة الإسلام : " …. والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل " . وسيظل للكلمة دورها الخطير في معركة الإسلام على مرِّ العصور . فكتب بجير إلى أخيه كعب أبياتاً منها :
تلوم عليها باطلاً وهي أحزمُ ... ... من مبلغ كعباً فهل لك في التي
فتنجو إذا كان النجاء وتسلمُ ... ... إلى الله لا العزّى ولا الّلات وحده
ثمّ كتب له : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمك ، وأنه قتل رجلاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه ، وأن من بقي من الشعراء كابن الزّبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كلّ وجه ، وما أحسبك ناجياً . فإن كان إلى نفسك حاجة فطر إليه ، فإنه يقبل من أتاه تائباً ، ولا يطالبه بما تقدّم الإسلام " .(/1)
فلما بلغ كعباً الكتابُ ، ضاقت عليه الأرض ، وأتى مزينة لتجيره ، فأبت ذلك عليه ، فحينئذ ضاقت عليه الأرض وأشفق على نفسه ، وأرجف به من كان من عدوّه ، وقالوا إنه مقتول . فقال هذه القصيدة التي عرفت بالبردة ، وجاء بها النبي صلى الله عليه وسلم تائباً مسلماً . ذلك أنه خرج حتى قدم المدينة ، ودخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وجلس بين يديه ، فوضع يده في يده ، ثمّ قال : يا رسول الله ! إن كعب بن زهير قد جاءك ليستأمن منك تائباً مسلماً . فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به ؟ قال : نعم ! قال : أنا يا رسول الله كعب بن زهير . فقال : الذي يقول ما قال . ثمّ أقبل على أبي بكر فاستنشده الشعر. فأنشده أبو بكر" سقاك به المأمون به كأساً روّية …"! فقال كعب : لم أقل هكذا . وإنما قلت :
وأنهلك المأمون منها وعلّكا ... ... سقاك أبو بكر بكأسٍ رويّةٍ
فقال رسول الله : مأمون والله ! ووثب عليه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ! دعني وعدوّ الله أضرب عنقه . فقال : دعه عنك فإنه قد جاء تائباً نازعاً . فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم . ثم قرأ قصيدته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى وصل إلى قوله :
مُهَنَّدٌ من سيوف الله مسلول ... ... إنّ الرسول لنور يستضاء به
رمى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه ، وبذل بعد ذلك معاوية رضي الله عنه عشرة آلاف درهم ليشتريها من كعب ، فقال كعب : ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً . ولما مات كعب اشتراها معاوية بعشرين ألف درهم .(2)
2- أهمّ ما قيل عن مطلع القصيدة وما فيه من شبهة الغزل :
يقول الدكتور محمد بن سعد بن حسين في كتابه " المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة " : " ولم يستحسن البعض بدء كعب قصيدته بالغزل ، وهو يمدح أشرف الخلق وخاتم المرسلين ، غير أن تلك عادة العرب فهم يبدأون قصيدهم بالنسيب في أيّ مقام كان ، فهو منهج لا غبار عليه ". ثم يقول : " على أن بعضاً من شيوخنا فسّروا ذلك وبيّنوه على وجه من الرمز والإشارة . فمن ذلك ما ذكره أستاذنا الدكتور عبد السلام سرحان في كتابه " مختارات من روائع الأدب " ، حيث قال : وسعاد هذه فتاة خيالية اخترعها خياله وفراها تصوّره ليبدأ على حبّها إنشاده ويوالي في ذكرها إنشاده ، ويرتبع في مرابعها بخير تقديم على عادة الشعراء في شعرهم القديم . ولكن الملاحظ أنه وصفها بعدم الولاء ورماها بعدم الوفاء وتحدّث عن أنها هجرته وقطعت حبل وصله ، وأبلت أسباب ودّه ، واختفت عنه في مكان بعيد لا يمكن الوصول إليه إلا على ظهور العتاق النجيبات المسرعات في السير المغذّات في الرحيل … ثم انتقل إلى وصف أمله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنه ويغفر له زلته ويؤمنه على سعاد التي كنّى بها ـ فيما أرى ـ عن راحته وهناءته التي افتقدها زمناً طويلاً فكانت تهرب منه، وتفرّ أمامه ، وتبعد عنه ، فيحاول أن يركب إليها سفائن الصحراء … حتى وجدها أخيراً في طريق الأمل والرجاء وعرف أنها تقيم لدى سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه " .
ويقول الدكتور محمد بن سعد بن حسين : " وهذا رأي جديد وهو عندي حريّ بالتقديم والتقدير ، إذ أنه ينزع بمطلع القصيدة عن التغزّل في موقف ومقام يجب أن ينزها عن مثل هذا "(3)
3- وقفة ورأي :
إنَّ الوقفة التي أريد أن أقفها مع مطلع هذه القصيدة والرأي الذي أُقدّمه حول محورها وموضوعها ينطلقان من تصوّر رسمته أحداث القصيدة وأبياتها ومناسبتها ، حين نردّ ذلك إلى منهاج الله ، وحين نفهم الواقع والأحداث من خلال منهاج الله .
إني أومن أن مطلع القصيدة ومحورها يحملان موضوعاً ينأى عن التشبيب والغزل ، في موقف ينافي التّغزّل وأسبابه ، مهما كان عادة الشعراء العرب من افتتاح قصائدهم . فهذا موقف جديد لم يعرفه شعراء العرب ، خارج عن عادتهم التي ألفوها . وهو موقف أجلّ من كلّ موقف عرفه شاعر قبل ذلك . وكان كعب ابن زهير يدرك ذلك حقَّ الإدراك ، ويُدرك أنّ عليه أن يتخيّر أطيب أسلوب يخاطب به النبوة الخاتمة ، وأطهر كلمة يقولها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم . فلا يُعقل أن يبتدئ إيمانه بعظمة الإسلام بالتشبيب بفتاة حقيقية أو خيالية .
وكذلك فلم يكن النسيب عادة مفروضة في مطلع كلّ قصيدة عند العرب ، فكثير من الشعراء لم يبدأوا به ، واختاروا أسلوباً آخر أقرب للمناسبة والجوّ الذي تقال فيه . وذلك نحو معلقة لبيد بن ربيعة العامري :
بمنىً تأبَّد غَولها فرجامها ... ... عفت الديار محلُّها فمقامها
خلَقاً كما ضَمِنَ الوُحيَّ سلامها ... ... فمدافع الريَّان عُري رسمها
حِججٌ خَلَونَ حلالُها وحرامها ... ... دمنٌ تجرَّم بعد عهد أنيسها
ولذلك لسنا ملزمين أن نفترض أن قصيدة كعب يجب أن تبدأ بالغزل والتشبيب لمجرّد اتباع قاعدة التزمها بعضهم ولم يلتزمها آخرون .(/2)
وأمر آخر ! وهو أن كعباً كان في حالة نفسية قلقة مضطربة خائفة ، وفي معاناة شديدة قاسية ، وفي عزلة مهلكة وخطر حقيقي يتهدد حياته ، فأنّى له أن يُفكّر في الغزل والتشبيب في هذه الظروف ، وأنّى له أن يفكّر في النساء وغرامهن ولهوهنّ و وصف أجسامهنّ ؟! كلا ! إننا نؤمن أنه كان في حالة فكرية نفسية تبعده كلّ البعد عن أجواء الغزل والنسيب والتشبيب .
ونؤمن كذلك أن القصيدة لا بدّ أن تخرج من حقيقة المعاناة التي يمرّ بها ، وأن تعرض القضية الحقيقية الجديدة التي يعيش بها ، وأن تصور هذه المعاناة وتلك الحقيقة تصويراً أميناً يعبق بالصدق وجلاء الشعور ووضوح الموقف ، حتى يلمس رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمة التصوير وعبقرية الفنّ المؤثر ، وأمانة الصدق الفوّاح من كلماتها ، لتكون هي الرسالة الحقيقية التي يريد أن يبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال تصوير فنّي مبدع متميز . ولعلّ الله سبحانه وتعالى أعان كعباً في ذلك ، فجاءت القصيدة روعةً فنيّة وإبداعاً عبقرياً ، شغل الأدباء المسلمين على مرّ العصور ، وآثار إعجاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
نودُّ أن ننفي أولاً وجود فتاة حقيقية كان يُحبّها كعب ، فجعل حبّه هذا مطلع القصيدة . ننفي ذلك لأنه لو كان هنالك هذا الحبّ في حياته لعرف قبل ذلك ، ولتغزَّلَ بها قبل هذا الموقف ، ولدار بها شعره ، ولو كان مطلع القصيدة يشير إلى غزل حقيقي في فتاة حقيقية لنهاه رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما نعتقد ونؤمن . فمن ذا الذي يجرؤ أن يعرض حبّه وغزله وتشبيبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في موقف التائب العائذ برسوله ، النازع إلى الإسلام بعظمته وجلاله .
ونودّ أن ننفي كذلك أن كعباً ذكر في مطلع قصيدته فتاة غير حقيقية ، اخترعها خياله ليتغزّل بها جرياً على عادة أو اتباعاً لقاعدة .
فكما ذكرنا قبل قليل فهذه لم تكن عادة ملزمة للشعراء ، وكان أمام كعب أساليب أخرى يتخيّر منها أطيبها وأطهرها . وكذلك فإنّ جوّه النفسي والخطر الذي كان يتهدّده ، كان كافياً ليبعد عن قلبه النساء والغزل والتشبيب وهماً أو خيالاً أو حقيقة .
لا بدّ أن يختار كعب أسلوباً يناسب إيمانه الجديد ، نابعاً منه لا من التقاليد الجاهلية التي تركها ، أسلوباً يناسب مقام النبوة وعظمة رسالة الإسلام ، وأنّى للغزل والتشبيب والنسيب أن يلائم ذلك .
ولا بدّ لنا ، من أجل فهم القصيدة ومطلعها ومحورها، أن نعيش مع كعب رضي الله عنه لحظات نتابع فيها نفسيته وفكره ، وخوفه وقلقه ، وأحلامه وآماله، من خلال الأحداث التي سبق عرضها ، والأخطار التي أحدقت به ، والمصير الذي آل إليه .
لقد كان كعب شاعراً جاهلياً . وكانت الجاهلية بكلّ أعرافها وأفكارها ملكت عليه نفسه ، حتى ظنّ أنها هي الحق وهي التي تستحق الحبّ والولاء .
ولقد بلغ من ذلك من نفسه حدّاً دفعه إلى أن يتنكّر لوصية أبيه ويرفض رأي أخيه ، ثم يرتكب الإثم العظيم الذي لا يصدر إلا عن كافر محارب لله ولرسوله ، حين هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم هجاءً أعلن فيه رفضه للإسلام وتمسّكه بجاهليته ودنياه وأهوائه ونزواته ، وما ورثه عن آبائه من هذه الجاهلية . لقد كان هذا هو حبّه الأول الذي ملك عليه نفسه ، وحدّد على أساسه موقفه ورأيه وكلمته . هذه هي النقطة الهامة الأولى التي تنكشف لنا من حياة كعب ، ومن قصيدته كما سنبين . ولا بدّ لكعب أن يُشير إلى هذه المرحلة من حياته في قصيدته ويعلن توبته منها ، فكيف عبّر عن ذلك ؟!(/3)
ثمّ بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه ، فربّما استهان بذلك أول الأمر . ولكنه حين لجأ إلى مزينة لتجيره من خطر الموت الذي يتهدّده ، أبت عليه . وانتشر الخبر بأنه مقتول وشاع بين الناس وتخلّوا عنه . وتخلّى عنه أخوه ، وشعر أنه وحيد . لقد لجأ إلى حبّه الأول الذي كان عليه ، حبّ الدنيا والجاهلية ، ولجأ إلى روابطها ومواثيقها وعهودها ، فخذلته ، وأخذت تبتعد عنه شيئاً فشيئاً . وكان قلبه ما زال معلقاً بها ، " متيّماً بها " ، أضناه حبّها فهو " متبول " ، كأنه لا يستطيع انفكاكاً عنها " لم يُفدَ مكبول " ! وهذه هي النقطة الثانية الهامة في نفسية كعب ، حين أخذ يدرك أن هذه الجاهلية التي كانت تمثّل حبّه الأول أخذت تغيب عنه مع ما كانت تحمل من جمال لها في نفسه ، كأنها الغادة الجميلة " الهيفاء " التي يزهو جمالها ويبدو في صوتها " أغنّ " ، وفي طرفها : " غضيض الطرف مكحول " ، وفي قوامها مقبلة ومدبرة : " هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة " ، وفي اعتدال طولها " لا يشتكي قصر منها ولا طول " وفي ثغرها وأسنانها : " تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت …." هذا الجمال كلّه الذي كان يحسّه في دنيا الجاهلية لم يسعفه وهو في حالة الخطر ، فنقضت الجاهليةُ عهدها، وكانت عنده أثيرة لولا نقضها لعهدها وتخليها عنه . ولكنها هي الجاهلية التي أخذ يكتشف مساوئها ومساوئ دنياها. إنها الدنيا المملوءة بالخيانة والغدر وعدم الوفاء، مما يرمي بالفواجع والكذب والإخلاف : " فجع وولع وإخلاف وتبديل "، حتى كأن هذه الصفات طبيعة ممزوجة بدمها لا تستطيع الخلاص منها : " لكنّها خُلّة قد سيط من دمها "!
هاتان القضيتان الهامتان اللتان لا بدّ أن يُشير كعب ، أو أي شاعر في موقفه إليهما ، تمثلان الأبيات الثلاثة عشر الأولى من القصيدة .
إن البيت الأول ، مطلع القصيدة ، يعلن فيه ابتعاد دنيا الجاهلية وغيابها عنه، مع ما كان يحمل لها من حبّ لم يكن قد تحرّر منه بعد :
متيّمٌ إثرها لم يُفْد مكبولُ (4)
... بانت سعادُ فقلبي اليوم متبول
ثمّ أخذ في وصف جمال هذه الجاهلية ، وصفاً يمثلها فيه بفتاة جميلة القوام، واعتدال الطول ، والصوت ، والطرف ، والثغر وغير ذلك . ويستحق هذا الوصف الخمسة الأبيات التالية :
إلا أغنّ غضيض الطّرف مكحولُ (5)
... وما سعادُ غداة البين إذ رحلوا
لا يشتكي قِصرٌ منها ولا طُولُ (6)
... هيفاء مُقبلة عجزاء مُدْبرةٌ
كأنّه مُنْهلٌ للرّاح مَعْلولُ (7)
... تجلو عَوارضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتسمت
صافٍ بأبطح أضحى وهو مشمولُ (8)
... شُجّتْ بذي شَبَمٍ من ماء محنِيةٍ
مِنْ صَوب غاديةٍ بيضٌ يَعَاليلُ (9)
... تنفي الرّياحُ القذى عنه وأفْرطهُ
فما كان هنالك فتاة في حياته رَحَلتْ عنه ، وتركته وهو يُحبّها إلا الجاهلية التي كان عليه ، الجاهليّة ، ثمّ هي بعد ذلك إشارة إلى حبّه الجديد الذي صار إليه ، الإسلام كما سنرى .
وإذا كانت هذه الأبيات تمثّل في ظاهرها غزلاً وتعبيراً عن حبّه لسعاد التي بانت ، حبّه الذي نرى أنه يمثّل حبّه للجاهلية التي أخذت تبتعد عنه حقيقة لا مجازاً ، فإن الأبيات التي تليها والتي يتابع فيها كعب حديثه عن سعاد ، تمثّل وصفاً أقرب ما يكون لحال الدنيا ، دنيا الجاهلية وما تحملها من غدر وكذب وإخلاف ، دنيا الجاهلية التي أخذت تتكشّف له سوآتها وشرورها ومصائبها من فجْعٍ وولع وإخلاف وتبديل . فلنعش مع هذه الأبيات لحظات :
بوعْدها أو لوأنّ النصحً مقبولُ (10)
... فيالها خُلّة لو أنّها صَدقتْ
فجْعٌ وولْعُ وإخلافٌ وتبديلُ (11)
... لكنّها خُلّة قد سِيطَ من دَمِها
كما تلوّن في أثوابها الغولُ (12)
... فما تدومُ على حالٍ تكون بها
إلا كما يمسكُ الماءَ الغرابيلُ ... ... وما تمسّك بالعهد الذي زعمتْ
إنّ الأمانيّ والأحلام تضليلُ ... ... فلا يغرنّكَ ما منّتْ وما وعدتْ
وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ ... ... كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مثلاً
هذه هي أوصاف " سعاد " التي ذكر جمالها في المقطع السابق . وواضح هنا أنّ هذا الوصف لسعاد أقرب لوصف الدنيا وحالها ، دنيا الجاهلية وما حملت إليه من مصائب ( فجعٌ ) ، وغدر وكذب ( ولعٌ ) ، وإخلاف وتضليلُ . وكأنّه بلغه وصف القرآن الكريم للدنيا :
( يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً إنّ وعد الله حقٌّ فلا تَغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور ) [ لقمان : 33 ]
فكأنّه سمع هذه الآية وأمثالها في كتاب الله ، فقال : " فلا يغرنّك ما منّت وما وعدت " إنّها الدّنيا ، وإنّ هذا الوصف أقرب ما يكون للدنيا وفتنتها وغرورها ، وما فيها من أمانيّ وأحلام لا تزيد عن غرور وتضليل .
إنّ " سعاد " في هذه الأبيات وفي الأبيات السابقة واحدة ، استمرّ وصفها على الحالين ، ليمثّل كلّ من هذين الوصفين مرحلة مرّ بها كعب .(/4)
أمّا المقطع الأول فيمثّل مرحلة المعاناة وهو يرى ابتعاد الجاهلية وروابطها كلّها ، حتى أُخوّة الرحم لم تثبت معه على باطله ، ولا قبيلة مزينة رضيت بأن تجيره ، ولا أحد من الناس . وكان قلبه ما زال معلّقاً بها ، بفتنتها وضلالها الذي عبّر عنها بفتنة الجسد الظاهري .
والمقطع الثاني يصف " سعاد " نفسها . فإذا كان المقطع الأول وصف فتنة الزخرف الظاهري ، فإنه في المقطع الثاني يصف حقيقة الجاهلية التي انكشفت له بشرورها وفسادها وضلالها . كلّ كلمة في هذا المقطع تُشير إلى دنيا الجاهلية التي قرّر هجر باطلها : " خُلّة " حيث اختار كعب هذه اللفظة المناسبة لهذا التصوير ، " سيط من دمها " : أي مزج وخلط وخرج من دمها ، من حقيقتها ، فجع وولع وإخلاف وتبديل ، فما تدوم على حال ، أمانيّ ، أحلام ، تضليل .
إن كلمة " سعاد " تعبّر عن حبّه الذي كان يملأ قلبه ، حبّه الذي تكشّف فساده وضلاله ، لينتقل منه إلى حبّ عظيم كريم ، حبّ صادق ، أخذ يملك عليه نفسه . وإنه ليعبّر عن هذا الحبّ الجديد أيضاً بلفظة " سعاد " ، في المقطع الثالث من القصيدة ، المقطع الذي يعبّر عن هذه النُّقلة الكبيرة التي انتقلها من الجاهلية إلى الإيمان والتوحيد .
إنّه يُعبّر عن ذلك بأجمل أسلوب وأدّق تعبير . فانظر في البيت الأول من هذا المقطع الذي يمثّل حالته الثالثة التي انتقل إليها :
إلا العتاق النجيبات المراسيلُ ... ... أمست سعادُ بأرض لا يُبلِّغها
هناك أصبح حبّه ! هناك في مكان بعيد اشتدّ شوقه إليه ، فلا يصلح له إلا النوق العتاق ( الكريمة ) ، النجيبات ( قوية الحركة ) ، المراسيل ( السريعة ) .
فإذا كان كعب قد عبّر عن حبّه الجديد لله ولرسوله وللإسلام بكلمة " سعاد "، فما أحراه أن يُعبّر بها أيضاً عن تعلّقه السابق بالجاهلية وحبّه لها . إنّ اشتراك الحبّ القديم والحبّ الجديد باسم " سعاد " في الحالين :
في مطلع القصيدة : بانت سعاد …. ، ثم في مطلع بيان حبّه الجديد : أمست سعاد … ، إن هذا الاشتراك في التعبيرين : بانت سعادُ ، وأمست سعادُ ، هذا كلّه يُوحي لنا بأنّ " سعاد " ترمز أولاً إلى حبّه الأول الذي بان عنه وغاب وهجره ، ولا شيء أقرب إلى ذلك من حبّه للجاهلية ودنياها ، وترمز بعد ذلك إلى حبّه الجديد ، حبّ الله ورسوله ، حبّ الإيمان والتوحيد ، حبّ الإسلام .
بعد أن بلغ كعباً كتابُ أخيه يُعْلمه بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه ، وبعد أن تخلّت عنه مزينة ، وتخلّى عنه أخوه ورأى روابط الجاهلية كلّها انحلّت ، وغابت ، ورأى الدنيا وتقلّب أوضاعها ، والفجع والكذب والإخلاف ، أخذت كلمات أخيه تدوّي في أذنه دويّاً لا ينقطع ، يدعوه فيه إلى النجاة بالتوبة والتوجُّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : " …. فإن كان إلى نفسك حاجة فَطِرْ إليه ، فإنه يقبل من أتاه تائباً ….." .
لا شكّ أن كعباً أخذ يراجع نفسه ليرى الخطر المحدق ، وليرى عظمة الإسلام الذي أخذ منه أخاه . ولعلّ كلمات أبيه ووصيته عاودته حين أوصى ولديه باتباع النبيّ الداعية الذي سيظهر .
إنّها صدمة نفسية هائلة هزّته هزّاً عنيفاً : لا رحم ولا صديق ، ولا منفذ للنجاة ، معاناة نفسية هائلة يجب أن نقدّرها حقّ قدرها ونحن ندرس هذه القصيدة !
لقد كانت رحمة الله كبيرة واسعة في هذه اللحظات ، حتى شرح الله صدره للإيمان واستقرّ بقلبه حبّ الله ورسوله ، وعرف أنّه الحقّ الذي لا حقّ سواه ، وأنّ الجاهلية باطل لا خير معها . فالجاهلية أشبه ما تكون بالفتاة الجميلة في مظهرها ، القبيحة كلّ القبح في مخبرها ، كما فصّلنا قبل قليل .
لا شكّ أنّه مرّ بمرحلة فيها معاناة وتأمّل وتردد . فوصف لنا هذه المرحلة من المعاناة في الأبيات الستة الأولى ، حين كان قلبه ما زال معلقاً بحبّ الجاهلية ودنياها . حتى إذا تكشّف له سوء مخبرها ، وشرّ فتنتها ـ اندفع يصف فساد الجاهلية ويمثلها بفتاة لا وفاء لها ولا وعد لها ، مع مطلع البيت السابع : " فيا لها خلّة لو أنها صدقت …." وإنك لتحسّ بهذه الأبيات أنها تصف الدنيا ، دنيا الجاهلية ، دنيا الفجع والولع والإخلاف والتبديل ، ويختم ذلك بالبيت المشهور :
وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ ... ... كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مثلاً
هنا نفض يديه من الجاهلية ، وانكشفت له الحقائق جلية ، وانشرح صدره للإيمان ، وتعلّق قلبه بحبّ الله ورسوله ، واشتدّ شوقه إلى لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنّه يريد أن يفعل كما قال أخوه : " … فطر إليه … " . نعم اشتدّ الشوق به كثيراً حتى ودّ لو يطير . ولكنّه أدرك أنه بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافة بعيدة لا يقطعها إلا النوق العتاق الكريمة السريعة القويّة :
إلا العتاق النجيبات المراسيلُ ... ... أمست سعادُ بأرض لا يُبلِّغها
لها على الأين إرقال وتبغيلُ (13)
... ولن يُبلِّغها إلاعذافرةٌ
عُرضتها طامسُ الأعلام مجهولُ(14)
... من كلّ نضّاحةِ الذّفرى إذا عرِقتْ(/5)
إذا توقّدت الحزّاز والميلُ (15)
... ترمي الغيوبَ بعيني مُفردٍ لهقٍ
في دفّها عن بنات الفحْل تفضيلُ(16)
... ضخمٌ مُقلَّدُها فَعْم مقيّدها
في دَفّها سَعَةٌ قُدّامُها ميلُ(17)
... غلباء وجناء علكوم مذكّرة
فبعد أن أعلن حبّه الجديد ، وأشار إلى أنه هناك ( في المدينة المنورة ) ، في مكان لا يبلغه إلا الإبل القوية السريعة ، أخذ يصف هذه الإبل وصفاً دقيقاً ليُعبّر عن عظيم الرحلة التي يريدها وأهميتها وخطورتها ، فلا تصلح لها الإبل الضعيفة . ويتابع الإبل القوية هذه في ثمانية عشر بيتاً . ومن خلال هذا الوصف الدقيق ، الوصف الذي بلغ به درجة عالية من الفنّ والجمال ، فإنّه يُعبّر عن شدّة شوقه للقيا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك بوصف السرعة الهائلة التي تمضي بها الإبل .
ذوابلٍ مَسّهنَّ الأرض تحليلُ (18)
... تَخدّي على يَسَراتٍ وهي لاحقة
لم يقهنَّ رؤوس الأكْم تنعيلُ (19)
... سُمر العُجايات يَتْركن الحصى زيماً
وقد تَلفّح بالقُور العساقيلُ (20)
... كأنّ أوب ذراعيها وقد عرقتْ
قامت فَجاوبها نُكْدٌ مثاكيلُ (21)
... شدّ النهار ذراعا عيطل نَصَفٍ
لما نعى بكرها الناعون معقولُ(21)
... نوّاحةٌ رخْوة الضبعين ليس لها
مُشَفَّقٌ عن تراقيها رَعَابيلُ(22)
... تفْري اللّبان بكفّيها ومِدْرعها
تصوير رائع لشدة سرعة الإبل في رحلتها إلى النبوة الخاتمة . تصوير يحمل القوة والحركة وجمال الصورة وتناسق الألفاظ وقوة السبك والتركيب وجمال اللحن .
إنها تُسرع ( تخدي ) على قوائم خفاف ( يسرات ) كأنّها الرماح الصلبة (ذوابل ) لا تكاد تمسُّ الأرض من شدّة سرعتها ، وكأنّها تمسُّ الأرض مسّاً خفيفاً جدّاً تحلّة القسم . وكأن أعصاب قوائمها ( العُجايات ) رماح سمر لقوتها وصلابتها ، إذا مسّت الحصى فرّقته بقوتها ورجوعهما من شدّة السرعة ، وقد عرقت لا من التعب لأنها قوية ، بل من شدّة الحر الذي بلغ حدّاً انتشر السّراب ( العساقيل ) على الجبال الصغيرة ( القور ) ، فكأنّها تلفّعت به أو التحفت به ، كأنّ سرعة تقلّب ذراعيها مع هذا الحَرّ ومع هذه السرعة ، حين اشتدّ النهار بحرّه سرعة ذراعي المرأة الطويلة ( ذراعا عيطل ) المتوسطة السنّ ( نصَف ) في لطمها على خدّيها لفقدها ولدها ، يجاوبها نساء لا يعيش لهنّ أولاد . فالنُّكد جمع نكداء وهي التي لا يعيش لها ولد . والمثاكيل جمع مثكال وهي كثيرة الثكل ، المرأة النوّاحة ، مسترخية العضدين ( رِخوة الضبعين ) ، فقدت صوابها ( معقول ) لمّا بلّغها الناعون موت ولدها البكر ، فاشتدّ لطمها لخدّيها . إنها صورة مليئة بالحركة ، كأنّك تشاهد بعينيك سرعة هذه الإبل إلى المدينة المنورة .
ويصف كعب شدّة الحرّ وقوّة احتمال الناقة القوية بأبيات في غاية الدقة والصورة والجمال . ثمّ يصف قوّة أمله برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرّق أصحاب الجاهلية عنه ، ليعود ويذكرنا بأسباب تركه ذلك الحب الغادر الضال ، حبّ الجاهلية التي انكشفت له ، وليذكرنا بإقباله على الإسلام بعزم ويقين وصدق، ليكون هذا هو حبّه الحقّ الجديد . إنه يؤكد لنا عظمة النقلة الهائلة التي انتقلها من الكفر إلى الإيمان .
إنّك يا ابن أبي سُلمى لمقتول(23)
... تسعى الغُواة جَنَابيْها وقولُهمُ
أي يسير الوشاة حول " سعاد " ( جنابيها ) ليمنعوا هذا الحبّ العظيم ، وليثبّطوا عزيمة كعب بأنه مقتول .
لا أُلْهَيِنَّك إنّي عنك مشغولُ ... ... وقال كلّ صديق كنتُ آمله
فكُلُّ ما قدّر الرحمن مفعولُ ... ... فقلتُ خلّوا سبيلي لا أبالكم
يوماً على آلة حدباء محمولُ ... ... كُلّ ابن أُنثى وإن طالت سلامته
والعفو عند رسول الله مأمولُ ... ... نُبّئْتُ أنَّ رسول الله أوعدني
في كفّ ذي نَقِمَاتٍ قيلُه القيلُ ... ... حتى وضعْتُ يميني ما أُنَازِعُهُ
ويمضي في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقول البيت الذي يفيض عذوبةً ونوراً :
مُهَنَّدٌ من سُيوف الله مسلولُ ... ... إن الرسول لنورٌ يُستضاء به
ثم يمدح قريشاً والمهاجرين مدحاً كريماً عالياً . ولكنّه نظّم بعد ذلك قصيدة خاصة بمدح الأنصار .
لقد أفرغ كعبٌ كلّ طاقته الفنية في هذه القصيدة ، ليمثّل أهمّ رحلة قام بها في حياته وأعظم نُقلة انتقلها . لقد حشدت الأحداث شحنات هائلة في فكره وتأمله، وشحنات هائلة في عاطفته ووجدانه ، وتحرّكت موهبته بقوّة عظيمة لتطلق الومضة الفنيّة الرائعة بين الشحنتين ، شحنة الفكر وشحنة العاطفة .
ولقد جمعت الموهبة في هذه الومضة عناصر الجمال الفنّي كلّها : عظمة الموضوع ، وروعة الأسلوب ، وقوّة الصياغة ، ومتانة السبك . حشدت الموهبة عناصر الجمال الفنّي يعبق منها الإيمان والتوحيد المغروس في فطرته حين أفاق واستيقظ وعرف الحق ، فأصبح الإيمان يروي ريّاً دافقاً تلك العناصر الفنية ، حتى تزهر وتعبق فوّاحة في هذه الرائعة الفنية .(/6)
وربما يشعر القارئ أن كثيراً من الكلمات غريبة عليه . نعم ! إنها بعيدة عن معجم عصرنا اليوم . ولكنّها مع ذلك ظلّت تحتفظ حتى اليوم بجمال موسيقاها وعذوبة انسيابها وجمال ترابطها . يحسّ القارئ المؤمن الذي يعرف لغة القرآن ، يحسّ بها ولو لم يدرك معناها ، وتظلّ لا تنبو عن السمع في جوّ حاشد من الصور المتلاحقة بألوانها الزاهية ، وحركتها الحيّة كأنّك تراها أمام عينيك ، وفي حلاوة الجرس والنغم الشّادي .
إن هذه القصيدة الرائعة تصف رحلته كلّها بجميع مراحلها وصفاً حيّاً دقيقاً. إنّها تمضي على نسق واحد من الإبداع لا تهبط أبداً ، ولا تضعف .
وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبدي إعجابه الشديد فيخلع بردته على كعب من أجل أبيات من النسيب ، الوصف و المديح . ولكنّي أعتقد أن الفكرة الرائعة التي تعرضها القصيدة في ألفاظ قوية وتعبيرات غنيّة ووقع فنّي مؤثّر ، هي التي أثارت إعجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . إنها تمثّل رحلته من الجاهلية إلى الإسلام ، ومن الكفر إلى الإيمان . إنّها تمثّل حبّاً كان يتعلق به ثمّ هجره وتركه وغاب عنه ، وحبّاً عظيماً يستحقّ الجهد والعناء والبذل والصبر انتقل إليه وأقبل عليه . إنّها تمثّل رحلته النفسية ومعاناته أروع تمثيل وأدقّه . لا يُعقل أن يكون شاغله في هذه المعاناة النفسية حبّ فتاة حقيقية أو خيالية.
من هنا ، من هذا التصوّر تأخذ قصيدة ( بانت سعاد ) روعتها وإبداعها ، وتحمل البركة من بردة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لتتحلّى به حلية تمضي إلى أبد الدهر .
إن هذا المعنى عميق في القصيدة ، يكاد يحسّ به المسلم لو لم يدركه تمام الإدراك ، يحسّ المسلم أنّ في القصيدة فكرة عظيمة استحقت إعجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلينا نحن أن نبحث عن هذه الفكرة العظيمة . إنها نقلة واسعة من الجاهلية إلى الإيمان ، إنها جاهلية تبتعد وتغيب ، وإيمان يقبل عليه كعب بلهفة وشوق ، ويظلّ وصف الناقة يمثّل هذا الشوق العظيم واللهفة العظيمة والإيمان واليقين .
إنّ القصيدة ، بإيجاز ، تُعبّر عن حبّ تعلّق به فترة ، ثمّ غاب عنه وابتعد فاكتشف بذلك غدره وإخلافه وما يحمله من مآس وفواجع . فترك هذا الحبّ كلّه ، ما هو حبّ فتاة ، ولا بالغرام والغزل إنّه حبّ الجاهلية ، حبّ الدنيا وشهواتها ، مثّل ذلك كلّه بفتاة أسماها " سعاد " .
وكان تركه للجاهلية باب هداية له من الله ، حين شرح الله صدره للإيمان ، فرأى الحبّ العظيم ، حبّ الله ورسوله ، وإيثار الآخرة على الأولى . إنّه حبّ عظيم ملك عليه نفسه ، وأثار شوقه ، فهاجت لهفته للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . حبّ قديم يفارقه وحبّ جديد يقبل عليه .
بهذا التصوّر تكون القصيدة قد رسمت لنا معاناته النفسية التي مرّ بها، وقاسى منها . ترسمها لنا بمراحلها وحالاتها حتى انتهت إلى اليقين والإيمان .
وهي تمثّل النُقلة العظيمة الهائلة من جاهلية إلى إيمان ، نقلة هائلة ، ورحلة هائلة . على أبدع ما يكون التصوير .
وبذلك أرى أن هذه القصيدة ترتفع إلى مستوى عال من الأدب العالمي ، الأدب الإنساني .
________________________________________
(1) أحمد : المسند 3/456، الفتح : 19/276 .
(2) سيرة ابن هشام : ج2 ، ص( 501-515) . د. محمود حسن زيني : تحقيقه لشرح أبي البركات ابن الأنباري لقصيدة كعب بن زهير ، ط1 1400هـ ـ 1980م ، ص (83-90) . د. محمود حسن أبو ناجي لشرح جمال الدين بن محمد الأنصاري لقصيدة كعب ، ط3 ، 1404هـ ـ 1984م ، ص ( 32-37 ) . د . محمد بن سعد بن حسين " المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة " ط1، 1406هـ 1986م ، ص: ( 14-20) .
(3) المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة ، ط1 1406هـ ـ 1986م ، ص : 19-20 .
(4) متبول : أسقمه الحبُّ وأضناه ، متيّم : ذليل مستبعد ، لم يُفد : لم يخلِّص ، مكبول : مقيّد .
(5) أغنّ : في صوته غنّة ، غضضيض : فاتر ، مكحول : من الكَحَل : وهو سواد يعلو جفون العين من غير اكتحال .
(6) هيفاء : ضامرة البطن دقيقة الخصر ، عجزاء : كبيرة العجز .
(7) عوارض : الأسنان كلّها أو الضواحك منها ، ظلّم : ماء الأسنان وبياضها وبريقها ، منهل : مُسْقى ، الراح : الخمر .
(8) شجّت : مُزجت ، ذي شبم : ماء شديد البرودة ، مَحنية : منعطف الوادي حيث يكون ماؤه أبرد وأصفى ، الأبطح : المسيل الواسع الذي فيه الحصى ، أضحى : صار إلى وقت الضحى قبل اشتداد الشمس ، مشمول ك ضربته ريح الشمال .
(9) القذى : ما يقع في الماء من تبن أو عود أو كدر ، أفرطه : سبق إليه وملأه ، الصوب : المطر ، الغادية : السحابة تمطر غدوة ، يعاليل : الحباب الذي يعلو وجه الماء أبيض اللون ، لا مفرد له .
(10) خُلّة : الصديقة ، يوصف بها المؤنث والمذكر وغيرهما والمفرد وغيره .
(11) سيط : مُزج وخلط ، فجع : مصائب وفواجع . ولع : غدر و كذب .(/7)
(12) الغول : يزعمون أن الغول تُرى في الفلاة بألوان شتى فيتبعها من يراها ، فيضلّ الطريق فيهلك .
(13) عُذافرة : الناقة الصلبة العظيمة ، الأين : التعب ، الإرقال والتبغيل : ضربان من السير .
(14) نضّاحة : كثيرة رشح العرق ، الذّفرى : النقرة التي خلف أذن الناقة ، وهي أول ما يعرق منها ، عُرضتها : همتها وقوّتها على السفر ، طامس العلام : الدارس المتغير من العلامات التي يُهتدى بها .
(15) الغيوب : آثار الطريق التي غابت معالمها ، مُفرد : الثور الوحشيّ الذي تفرّد في مكان ، لهق : أبيض ، الحزّاز : الأمكنة الكثيرة الحصى الغليظة مفردها حزيز ، الميل : جمع ميلاء وهي العقدة من الرمل .
(16) مُقلّد : موضع القلادة من العنق ، فعمّ : ممتلئ ، مقيّدها : موضع القيد أي قوائمها ، بنات الفحل : الإناث من الإبل المنسوبة للفحل المعدّ للضراب ، يُشير إلى ضخامة جسمها كلّه ، وقوتها على السير .
(17) غلباء : غليظة العنق ، وجناء : عظيمة الوجنتين ، علكوم : شديدة ، مذكّرة : عظيمة الخلقة تشبه الذكران من الأباعر ، في دفّها سعة : واسعة الجنيتين ، قدّامها ميل : طويلة العنق .
(18) تخدّي ك تسرع ، يسرات : القوائم الخفاف ، ذوابل : حمع ذابل وهي الرمح الصلب ، تحليل : تحلة القسم أي قليل .
(19) العجايات : الأعصاب المتصلة بالحافر ، زيماً : متفرّقاً ، تنعيل : شد النعل على ظفر الدابة ليقيها الحجارة . الأكم : الأراضي المرتفعة .
(20) أوب : الرجوع وسرعة التقلب ، تلفّح : اشتمل والتحف . القور : جمع قارة وهي الجبل الصغير . العساقيل : السراب .
(21) شدّ النهار ك ارتفاعه وشدة الحرارة ، عيطل ، الطويلة ، نصف : المتوسطة في السنّ فتكون أقوى في حركتها ، نكد : جمع نكداء وهي التي لا يعيش لها ولد . مثاكيل : جمع مثكال وهي كثيرة الثكل .
(21) نوّاحة : كثيرة النوح ، رخوة الضبعين : مسترخية العضدين .
(22) تفري : تقطع ، اللباب : الصدر ، المدرع : القميص ، رعابيل : جمع رعبول أي قطع متفرقة .
(23) الغُواة : الوشاة المفسدون ، جنابيها : حواليها .(/8)
وقفة ورأي مع قصيدة كعب بن زهير " البردة "
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
لا أقصد هنا لأن أُحلّل قصيدة كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ " بانت سعاد …."، في توبته ودخوله الإسلام ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا أقصد كذلك شرحها وتفسير أبياتها ومعاني ألفاظها . الذي أقصده هنا هو بيان رأي لي في مطلع القصيدة الذي دار الخلاف الواسع حوله في تاريخ الأدب والنقد ، وبيان رأي في محور القصيدة الرئيسة التي نعرضها .
ولقد نالت هذه القصيدة شهرة واسعة ، وتصدّى عدد كبير من علماء المسلمين لشرحها ، ومنهم من خمّسها وشطرها . ويذكر الدكتور محمود حسن زيني في تحقيقه لشرح أبي البركات ابن الأنباري لهذه القصيدة أن مكتبة " جلبي عبد الله أفندي " باستنابول تحتوي على شروح مخطوطة مجهولة لهذه القصيدة ، وأن هناك خمسة شروح لهذه القصيدة في مكتبة " لاله لي " باستنابول ، وتحتفظ مكتبة " أسعد أفندي" باستنابول بمجموعة هائلة من شروح لهذه القصيدة ، عدّد المحقق منها تسعة وثلاثين شرحاً مع ذكر أسماء الشارحين وتاريخ ذلك . ثم ذكر عدد المشطرين والمخمسين وأسماءَهم وتاريخ عملهم .
ولقد حقق الدكتور محمود أبو ناجي شرح هذه القصيدة لجمال الدين محمد ابن هشام الأنصاري ( 708-761هـ ) .
ولقد ذكر الدكتور محمد بن سعد بن حسين هذه القصيدة وذكر مناسبتها وبعض التعليقات حولها في كتابه " المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة " . ولا بدّ أن نذكر مناسبة هذه القصيدة وقصّتها ، ليكون ذلك عوناً لنا على فهم القصيدة من ناحية ، وعلى بيان رأينا فيها من ناحية أخرى .
1- مناسبة القصيدة :
كان زهير بن أبي سلمى قد رأى في آخر حياته وهو نائم أن سبباً من السماء مُدَّ له ، وكان كلّما حاول الإمساك به قبض عنه . فلّما أصبح روى هذه الرؤيا لابنيه كعب وبجير ، ثمّ فسَّرها بأنه سيظهر نبيٌّ داعية لدين جديد ، وطلب من ولديه اتباعه ، فلّما ظهر الإسلام جاء " بجير " رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه ، وتأخّر كعب عن ذلك . ويقول أبو الفرج : خرج كعب وبجير ابنا زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغا " أبرق العزّاف " . فقال كعب لبجير : الحق الرجل ، وأنا مقيم هاهنا ، فانظر ما يقول لك . فقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسمع منه وأسلم . فلّما بلغ ذلك كعباً قال :
ألا أبلغا عنّي بُجيراً رسالة
... ...
فهل لك فيما قلتُ ويحك هل لكا
فبيّن لنا إن كنتَ لستَ بفاعل
...
...
على أيّ شيء غير ذلك دلّكا
على خُلُقٍ لم أُلفِ يوماً أباً له
...
...
عليه وما تُلفي عليه أباً لكا
فإن أنت لم تفعلْ فلستُ بآسفٍ
...
...
ولا قائلٍ إما عثرتَ : لعاً لكا
سقاك أبو بكر بكأسٍ رويّةٍ
...
...
وأنهلك المأمون منها وعلّكا
وتأتي هذه الأبيات بروايات مختلفة في المصادر المتعددة التي ترويها ، وأرسل كعب بهذه الأبيات إلى أخيه بجير ، فأبلغ بجير بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله " وذلك عند انصرافه من الطائف .
وهذا هو حكم الله ورسوله ، ذلك لأنّ هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يصدر إلا عن كافر أعلن حربه على الله ورسوله ، وعلى رسالة الإسلام ، وكان الشعر آنذاك أهمّ وسائل الحرب والخصومة ، لشدّة أثر الشعر في نفوس العرب ، وبين لنا خطورة أمر الشعر في معركة الإسلام آنذاك ، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنّ الله عز وجل أنزل في الشعراء ما أنزل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل " [ رواه أحمد ] (1)
نعم! هكذا كان الشعر في معركة الإسلام : " …. والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل " . وسيظل للكلمة دورها الخطير في معركة الإسلام على مرِّ العصور . فكتب بجير إلى أخيه كعب أبياتاً منها :
من مبلغ كعباً فهل لك في التي
... ...
تلوم عليها باطلاً وهي أحزمُ
إلى الله لا العزّى ولا الّلات وحده
...
...
فتنجو إذا كان النجاء وتسلمُ
ثمّ كتب له : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمك ، وأنه قتل رجلاً بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه ، وأن من بقي من الشعراء كابن الزّبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كلّ وجه ، وما أحسبك ناجياً . فإن كان إلى نفسك حاجة فطر إليه ، فإنه يقبل من أتاه تائباً ، ولا يطالبه بما تقدّم الإسلام " .(/1)
فلما بلغ كعباً الكتابُ ، ضاقت عليه الأرض ، وأتى مزينة لتجيره ، فأبت ذلك عليه ، فحينئذ ضاقت عليه الأرض وأشفق على نفسه ، وأرجف به من كان من عدوّه ، وقالوا إنه مقتول . فقال هذه القصيدة التي عرفت بالبردة ، وجاء بها النبي صلى الله عليه وسلم تائباً مسلماً . ذلك أنه خرج حتى قدم المدينة ، ودخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وجلس بين يديه ، فوضع يده في يده ، ثمّ قال : يا رسول الله ! إن كعب بن زهير قد جاءك ليستأمن منك تائباً مسلماً . فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به ؟ قال : نعم ! قال : أنا يا رسول الله كعب بن زهير . فقال : الذي يقول ما قال . ثمّ أقبل على أبي بكر فاستنشده الشعر. فأنشده أبو بكر" سقاك به المأمون به كأساً روّية …"! فقال كعب : لم أقل هكذا . وإنما قلت :
سقاك أبو بكر بكأسٍ رويّةٍ
... ...
وأنهلك المأمون منها وعلّكا
فقال رسول الله : مأمون والله ! ووثب عليه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ! دعني وعدوّ الله أضرب عنقه . فقال : دعه عنك فإنه قد جاء تائباً نازعاً . فغضب كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم . ثم قرأ قصيدته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى وصل إلى قوله :
إنّ الرسول لنور يستضاء به
... ...
مُهَنَّدٌ من سيوف الله مسلول
رمى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه ، وبذل بعد ذلك معاوية رضي الله عنه عشرة آلاف درهم ليشتريها من كعب ، فقال كعب : ما كنت لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً . ولما مات كعب اشتراها معاوية بعشرين ألف درهم .(2)
2- أهمّ ما قيل عن مطلع القصيدة وما فيه من شبهة الغزل :
يقول الدكتور محمد بن سعد بن حسين في كتابه " المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة " : " ولم يستحسن البعض بدء كعب قصيدته بالغزل ، وهو يمدح أشرف الخلق وخاتم المرسلين ، غير أن تلك عادة العرب فهم يبدأون قصيدهم بالنسيب في أيّ مقام كان ، فهو منهج لا غبار عليه ". ثم يقول : " على أن بعضاً من شيوخنا فسّروا ذلك وبيّنوه على وجه من الرمز والإشارة . فمن ذلك ما ذكره أستاذنا الدكتور عبد السلام سرحان في كتابه " مختارات من روائع الأدب " ، حيث قال : وسعاد هذه فتاة خيالية اخترعها خياله وفراها تصوّره ليبدأ على حبّها إنشاده ويوالي في ذكرها إنشاده ، ويرتبع في مرابعها بخير تقديم على عادة الشعراء في شعرهم القديم . ولكن الملاحظ أنه وصفها بعدم الولاء ورماها بعدم الوفاء وتحدّث عن أنها هجرته وقطعت حبل وصله ، وأبلت أسباب ودّه ، واختفت عنه في مكان بعيد لا يمكن الوصول إليه إلا على ظهور العتاق النجيبات المسرعات في السير المغذّات في الرحيل … ثم انتقل إلى وصف أمله في رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنه ويغفر له زلته ويؤمنه على سعاد التي كنّى بها ـ فيما أرى ـ عن راحته وهناءته التي افتقدها زمناً طويلاً فكانت تهرب منه، وتفرّ أمامه ، وتبعد عنه ، فيحاول أن يركب إليها سفائن الصحراء … حتى وجدها أخيراً في طريق الأمل والرجاء وعرف أنها تقيم لدى سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه " .
ويقول الدكتور محمد بن سعد بن حسين : " وهذا رأي جديد وهو عندي حريّ بالتقديم والتقدير ، إذ أنه ينزع بمطلع القصيدة عن التغزّل في موقف ومقام يجب أن ينزها عن مثل هذا "(3)
3- وقفة ورأي :
إنَّ الوقفة التي أريد أن أقفها مع مطلع هذه القصيدة والرأي الذي أُقدّمه حول محورها وموضوعها ينطلقان من تصوّر رسمته أحداث القصيدة وأبياتها ومناسبتها ، حين نردّ ذلك إلى منهاج الله ، وحين نفهم الواقع والأحداث من خلال منهاج الله .
إني أومن أن مطلع القصيدة ومحورها يحملان موضوعاً ينأى عن التشبيب والغزل ، في موقف ينافي التّغزّل وأسبابه ، مهما كان عادة الشعراء العرب من افتتاح قصائدهم . فهذا موقف جديد لم يعرفه شعراء العرب ، خارج عن عادتهم التي ألفوها . وهو موقف أجلّ من كلّ موقف عرفه شاعر قبل ذلك . وكان كعب ابن زهير يدرك ذلك حقَّ الإدراك ، ويُدرك أنّ عليه أن يتخيّر أطيب أسلوب يخاطب به النبوة الخاتمة ، وأطهر كلمة يقولها بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم . فلا يُعقل أن يبتدئ إيمانه بعظمة الإسلام بالتشبيب بفتاة حقيقية أو خيالية .
وكذلك فلم يكن النسيب عادة مفروضة في مطلع كلّ قصيدة عند العرب ، فكثير من الشعراء لم يبدأوا به ، واختاروا أسلوباً آخر أقرب للمناسبة والجوّ الذي تقال فيه . وذلك نحو معلقة لبيد بن ربيعة العامري :
عفت الديار محلُّها فمقامها
... ...
بمنىً تأبَّد غَولها فرجامها
فمدافع الريَّان عُري رسمها
...
...
خلَقاً كما ضَمِنَ الوُحيَّ سلامها
دمنٌ تجرَّم بعد عهد أنيسها
...
...
حِججٌ خَلَونَ حلالُها وحرامها
ولذلك لسنا ملزمين أن نفترض أن قصيدة كعب يجب أن تبدأ بالغزل والتشبيب لمجرّد اتباع قاعدة التزمها بعضهم ولم يلتزمها آخرون .(/2)
وأمر آخر ! وهو أن كعباً كان في حالة نفسية قلقة مضطربة خائفة ، وفي معاناة شديدة قاسية ، وفي عزلة مهلكة وخطر حقيقي يتهدد حياته ، فأنّى له أن يُفكّر في الغزل والتشبيب في هذه الظروف ، وأنّى له أن يفكّر في النساء وغرامهن ولهوهنّ و وصف أجسامهنّ ؟! كلا ! إننا نؤمن أنه كان في حالة فكرية نفسية تبعده كلّ البعد عن أجواء الغزل والنسيب والتشبيب .
ونؤمن كذلك أن القصيدة لا بدّ أن تخرج من حقيقة المعاناة التي يمرّ بها ، وأن تعرض القضية الحقيقية الجديدة التي يعيش بها ، وأن تصور هذه المعاناة وتلك الحقيقة تصويراً أميناً يعبق بالصدق وجلاء الشعور ووضوح الموقف ، حتى يلمس رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمة التصوير وعبقرية الفنّ المؤثر ، وأمانة الصدق الفوّاح من كلماتها ، لتكون هي الرسالة الحقيقية التي يريد أن يبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال تصوير فنّي مبدع متميز . ولعلّ الله سبحانه وتعالى أعان كعباً في ذلك ، فجاءت القصيدة روعةً فنيّة وإبداعاً عبقرياً ، شغل الأدباء المسلمين على مرّ العصور ، وآثار إعجاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
نودُّ أن ننفي أولاً وجود فتاة حقيقية كان يُحبّها كعب ، فجعل حبّه هذا مطلع القصيدة . ننفي ذلك لأنه لو كان هنالك هذا الحبّ في حياته لعرف قبل ذلك ، ولتغزَّلَ بها قبل هذا الموقف ، ولدار بها شعره ، ولو كان مطلع القصيدة يشير إلى غزل حقيقي في فتاة حقيقية لنهاه رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما نعتقد ونؤمن . فمن ذا الذي يجرؤ أن يعرض حبّه وغزله وتشبيبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في موقف التائب العائذ برسوله ، النازع إلى الإسلام بعظمته وجلاله .
ونودّ أن ننفي كذلك أن كعباً ذكر في مطلع قصيدته فتاة غير حقيقية ، اخترعها خياله ليتغزّل بها جرياً على عادة أو اتباعاً لقاعدة .
فكما ذكرنا قبل قليل فهذه لم تكن عادة ملزمة للشعراء ، وكان أمام كعب أساليب أخرى يتخيّر منها أطيبها وأطهرها . وكذلك فإنّ جوّه النفسي والخطر الذي كان يتهدّده ، كان كافياً ليبعد عن قلبه النساء والغزل والتشبيب وهماً أو خيالاً أو حقيقة .
لا بدّ أن يختار كعب أسلوباً يناسب إيمانه الجديد ، نابعاً منه لا من التقاليد الجاهلية التي تركها ، أسلوباً يناسب مقام النبوة وعظمة رسالة الإسلام ، وأنّى للغزل والتشبيب والنسيب أن يلائم ذلك .
ولا بدّ لنا ، من أجل فهم القصيدة ومطلعها ومحورها، أن نعيش مع كعب رضي الله عنه لحظات نتابع فيها نفسيته وفكره ، وخوفه وقلقه ، وأحلامه وآماله، من خلال الأحداث التي سبق عرضها ، والأخطار التي أحدقت به ، والمصير الذي آل إليه .
لقد كان كعب شاعراً جاهلياً . وكانت الجاهلية بكلّ أعرافها وأفكارها ملكت عليه نفسه ، حتى ظنّ أنها هي الحق وهي التي تستحق الحبّ والولاء .
ولقد بلغ من ذلك من نفسه حدّاً دفعه إلى أن يتنكّر لوصية أبيه ويرفض رأي أخيه ، ثم يرتكب الإثم العظيم الذي لا يصدر إلا عن كافر محارب لله ولرسوله ، حين هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم هجاءً أعلن فيه رفضه للإسلام وتمسّكه بجاهليته ودنياه وأهوائه ونزواته ، وما ورثه عن آبائه من هذه الجاهلية . لقد كان هذا هو حبّه الأول الذي ملك عليه نفسه ، وحدّد على أساسه موقفه ورأيه وكلمته . هذه هي النقطة الهامة الأولى التي تنكشف لنا من حياة كعب ، ومن قصيدته كما سنبين . ولا بدّ لكعب أن يُشير إلى هذه المرحلة من حياته في قصيدته ويعلن توبته منها ، فكيف عبّر عن ذلك ؟!(/3)
ثمّ بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه ، فربّما استهان بذلك أول الأمر . ولكنه حين لجأ إلى مزينة لتجيره من خطر الموت الذي يتهدّده ، أبت عليه . وانتشر الخبر بأنه مقتول وشاع بين الناس وتخلّوا عنه . وتخلّى عنه أخوه ، وشعر أنه وحيد . لقد لجأ إلى حبّه الأول الذي كان عليه ، حبّ الدنيا والجاهلية ، ولجأ إلى روابطها ومواثيقها وعهودها ، فخذلته ، وأخذت تبتعد عنه شيئاً فشيئاً . وكان قلبه ما زال معلقاً بها ، " متيّماً بها " ، أضناه حبّها فهو " متبول " ، كأنه لا يستطيع انفكاكاً عنها " لم يُفدَ مكبول " ! وهذه هي النقطة الثانية الهامة في نفسية كعب ، حين أخذ يدرك أن هذه الجاهلية التي كانت تمثّل حبّه الأول أخذت تغيب عنه مع ما كانت تحمل من جمال لها في نفسه ، كأنها الغادة الجميلة " الهيفاء " التي يزهو جمالها ويبدو في صوتها " أغنّ " ، وفي طرفها : " غضيض الطرف مكحول " ، وفي قوامها مقبلة ومدبرة : " هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة " ، وفي اعتدال طولها " لا يشتكي قصر منها ولا طول " وفي ثغرها وأسنانها : " تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت …." هذا الجمال كلّه الذي كان يحسّه في دنيا الجاهلية لم يسعفه وهو في حالة الخطر ، فنقضت الجاهليةُ عهدها، وكانت عنده أثيرة لولا نقضها لعهدها وتخليها عنه . ولكنها هي الجاهلية التي أخذ يكتشف مساوئها ومساوئ دنياها. إنها الدنيا المملوءة بالخيانة والغدر وعدم الوفاء، مما يرمي بالفواجع والكذب والإخلاف : " فجع وولع وإخلاف وتبديل "، حتى كأن هذه الصفات طبيعة ممزوجة بدمها لا تستطيع الخلاص منها : " لكنّها خُلّة قد سيط من دمها "!
هاتان القضيتان الهامتان اللتان لا بدّ أن يُشير كعب ، أو أي شاعر في موقفه إليهما ، تمثلان الأبيات الثلاثة عشر الأولى من القصيدة .
إن البيت الأول ، مطلع القصيدة ، يعلن فيه ابتعاد دنيا الجاهلية وغيابها عنه، مع ما كان يحمل لها من حبّ لم يكن قد تحرّر منه بعد :
بانت سعادُ فقلبي اليوم متبول
... ...
متيّمٌ إثرها لم يُفْد مكبولُ (4)
ثمّ أخذ في وصف جمال هذه الجاهلية ، وصفاً يمثلها فيه بفتاة جميلة القوام، واعتدال الطول ، والصوت ، والطرف ، والثغر وغير ذلك . ويستحق هذا الوصف الخمسة الأبيات التالية :
وما سعادُ غداة البين إذ رحلوا
... ...
إلا أغنّ غضيض الطّرف مكحولُ (5)
هيفاء مُقبلة عجزاء مُدْبرةٌ
...
...
لا يشتكي قِصرٌ منها ولا طُولُ (6)
تجلو عَوارضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتسمت
...
...
كأنّه مُنْهلٌ للرّاح مَعْلولُ (7)
شُجّتْ بذي شَبَمٍ من ماء محنِيةٍ
...
...
صافٍ بأبطح أضحى وهو مشمولُ (8)
تنفي الرّياحُ القذى عنه وأفْرطهُ
...
...
مِنْ صَوب غاديةٍ بيضٌ يَعَاليلُ (9)
فما كان هنالك فتاة في حياته رَحَلتْ عنه ، وتركته وهو يُحبّها إلا الجاهلية التي كان عليه ، الجاهليّة ، ثمّ هي بعد ذلك إشارة إلى حبّه الجديد الذي صار إليه ، الإسلام كما سنرى .
وإذا كانت هذه الأبيات تمثّل في ظاهرها غزلاً وتعبيراً عن حبّه لسعاد التي بانت ، حبّه الذي نرى أنه يمثّل حبّه للجاهلية التي أخذت تبتعد عنه حقيقة لا مجازاً ، فإن الأبيات التي تليها والتي يتابع فيها كعب حديثه عن سعاد ، تمثّل وصفاً أقرب ما يكون لحال الدنيا ، دنيا الجاهلية وما تحملها من غدر وكذب وإخلاف ، دنيا الجاهلية التي أخذت تتكشّف له سوآتها وشرورها ومصائبها من فجْعٍ وولع وإخلاف وتبديل . فلنعش مع هذه الأبيات لحظات :
فيالها خُلّة لو أنّها صَدقتْ
... ...
بوعْدها أو لوأنّ النصحً مقبولُ (10)
لكنّها خُلّة قد سِيطَ من دَمِها
...
...
فجْعٌ وولْعُ وإخلافٌ وتبديلُ (11)
فما تدومُ على حالٍ تكون بها
...
...
كما تلوّن في أثوابها الغولُ (12)
وما تمسّك بالعهد الذي زعمتْ
...
...
إلا كما يمسكُ الماءَ الغرابيلُ
فلا يغرنّكَ ما منّتْ وما وعدتْ
...
...
إنّ الأمانيّ والأحلام تضليلُ
كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مثلاً
...
...
وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ
هذه هي أوصاف " سعاد " التي ذكر جمالها في المقطع السابق . وواضح هنا أنّ هذا الوصف لسعاد أقرب لوصف الدنيا وحالها ، دنيا الجاهلية وما حملت إليه من مصائب ( فجعٌ ) ، وغدر وكذب ( ولعٌ ) ، وإخلاف وتضليلُ . وكأنّه بلغه وصف القرآن الكريم للدنيا :
( يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً إنّ وعد الله حقٌّ فلا تَغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور ) [ لقمان : 33 ]
فكأنّه سمع هذه الآية وأمثالها في كتاب الله ، فقال : " فلا يغرنّك ما منّت وما وعدت " إنّها الدّنيا ، وإنّ هذا الوصف أقرب ما يكون للدنيا وفتنتها وغرورها ، وما فيها من أمانيّ وأحلام لا تزيد عن غرور وتضليل .
إنّ " سعاد " في هذه الأبيات وفي الأبيات السابقة واحدة ، استمرّ وصفها على الحالين ، ليمثّل كلّ من هذين الوصفين مرحلة مرّ بها كعب .(/4)
أمّا المقطع الأول فيمثّل مرحلة المعاناة وهو يرى ابتعاد الجاهلية وروابطها كلّها ، حتى أُخوّة الرحم لم تثبت معه على باطله ، ولا قبيلة مزينة رضيت بأن تجيره ، ولا أحد من الناس . وكان قلبه ما زال معلّقاً بها ، بفتنتها وضلالها الذي عبّر عنها بفتنة الجسد الظاهري .
والمقطع الثاني يصف " سعاد " نفسها . فإذا كان المقطع الأول وصف فتنة الزخرف الظاهري ، فإنه في المقطع الثاني يصف حقيقة الجاهلية التي انكشفت له بشرورها وفسادها وضلالها . كلّ كلمة في هذا المقطع تُشير إلى دنيا الجاهلية التي قرّر هجر باطلها : " خُلّة " حيث اختار كعب هذه اللفظة المناسبة لهذا التصوير ، " سيط من دمها " : أي مزج وخلط وخرج من دمها ، من حقيقتها ، فجع وولع وإخلاف وتبديل ، فما تدوم على حال ، أمانيّ ، أحلام ، تضليل .
إن كلمة " سعاد " تعبّر عن حبّه الذي كان يملأ قلبه ، حبّه الذي تكشّف فساده وضلاله ، لينتقل منه إلى حبّ عظيم كريم ، حبّ صادق ، أخذ يملك عليه نفسه . وإنه ليعبّر عن هذا الحبّ الجديد أيضاً بلفظة " سعاد " ، في المقطع الثالث من القصيدة ، المقطع الذي يعبّر عن هذه النُّقلة الكبيرة التي انتقلها من الجاهلية إلى الإيمان والتوحيد .
إنّه يُعبّر عن ذلك بأجمل أسلوب وأدّق تعبير . فانظر في البيت الأول من هذا المقطع الذي يمثّل حالته الثالثة التي انتقل إليها :
أمست سعادُ بأرض لا يُبلِّغها
... ...
إلا العتاق النجيبات المراسيلُ
هناك أصبح حبّه ! هناك في مكان بعيد اشتدّ شوقه إليه ، فلا يصلح له إلا النوق العتاق ( الكريمة ) ، النجيبات ( قوية الحركة ) ، المراسيل ( السريعة ) .
فإذا كان كعب قد عبّر عن حبّه الجديد لله ولرسوله وللإسلام بكلمة " سعاد "، فما أحراه أن يُعبّر بها أيضاً عن تعلّقه السابق بالجاهلية وحبّه لها . إنّ اشتراك الحبّ القديم والحبّ الجديد باسم " سعاد " في الحالين :
في مطلع القصيدة : بانت سعاد …. ، ثم في مطلع بيان حبّه الجديد : أمست سعاد … ، إن هذا الاشتراك في التعبيرين : بانت سعادُ ، وأمست سعادُ ، هذا كلّه يُوحي لنا بأنّ " سعاد " ترمز أولاً إلى حبّه الأول الذي بان عنه وغاب وهجره ، ولا شيء أقرب إلى ذلك من حبّه للجاهلية ودنياها ، وترمز بعد ذلك إلى حبّه الجديد ، حبّ الله ورسوله ، حبّ الإيمان والتوحيد ، حبّ الإسلام .
بعد أن بلغ كعباً كتابُ أخيه يُعْلمه بأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه ، وبعد أن تخلّت عنه مزينة ، وتخلّى عنه أخوه ورأى روابط الجاهلية كلّها انحلّت ، وغابت ، ورأى الدنيا وتقلّب أوضاعها ، والفجع والكذب والإخلاف ، أخذت كلمات أخيه تدوّي في أذنه دويّاً لا ينقطع ، يدعوه فيه إلى النجاة بالتوبة والتوجُّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : " …. فإن كان إلى نفسك حاجة فَطِرْ إليه ، فإنه يقبل من أتاه تائباً ….." .
لا شكّ أن كعباً أخذ يراجع نفسه ليرى الخطر المحدق ، وليرى عظمة الإسلام الذي أخذ منه أخاه . ولعلّ كلمات أبيه ووصيته عاودته حين أوصى ولديه باتباع النبيّ الداعية الذي سيظهر .
إنّها صدمة نفسية هائلة هزّته هزّاً عنيفاً : لا رحم ولا صديق ، ولا منفذ للنجاة ، معاناة نفسية هائلة يجب أن نقدّرها حقّ قدرها ونحن ندرس هذه القصيدة !
لقد كانت رحمة الله كبيرة واسعة في هذه اللحظات ، حتى شرح الله صدره للإيمان واستقرّ بقلبه حبّ الله ورسوله ، وعرف أنّه الحقّ الذي لا حقّ سواه ، وأنّ الجاهلية باطل لا خير معها . فالجاهلية أشبه ما تكون بالفتاة الجميلة في مظهرها ، القبيحة كلّ القبح في مخبرها ، كما فصّلنا قبل قليل .
لا شكّ أنّه مرّ بمرحلة فيها معاناة وتأمّل وتردد . فوصف لنا هذه المرحلة من المعاناة في الأبيات الستة الأولى ، حين كان قلبه ما زال معلقاً بحبّ الجاهلية ودنياها . حتى إذا تكشّف له سوء مخبرها ، وشرّ فتنتها ـ اندفع يصف فساد الجاهلية ويمثلها بفتاة لا وفاء لها ولا وعد لها ، مع مطلع البيت السابع : " فيا لها خلّة لو أنها صدقت …." وإنك لتحسّ بهذه الأبيات أنها تصف الدنيا ، دنيا الجاهلية ، دنيا الفجع والولع والإخلاف والتبديل ، ويختم ذلك بالبيت المشهور :
كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مثلاً
... ...
وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ
هنا نفض يديه من الجاهلية ، وانكشفت له الحقائق جلية ، وانشرح صدره للإيمان ، وتعلّق قلبه بحبّ الله ورسوله ، واشتدّ شوقه إلى لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كأنّه يريد أن يفعل كما قال أخوه : " … فطر إليه … " . نعم اشتدّ الشوق به كثيراً حتى ودّ لو يطير . ولكنّه أدرك أنه بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافة بعيدة لا يقطعها إلا النوق العتاق الكريمة السريعة القويّة :
أمست سعادُ بأرض لا يُبلِّغها
... ...
إلا العتاق النجيبات المراسيلُ
ولن يُبلِّغها إلاعذافرةٌ
...
...
لها على الأين إرقال وتبغيلُ (13)
من كلّ نضّاحةِ الذّفرى إذا عرِقتْ
...
...(/5)
عُرضتها طامسُ الأعلام مجهولُ(14)
ترمي الغيوبَ بعيني مُفردٍ لهقٍ
...
...
إذا توقّدت الحزّاز والميلُ (15)
ضخمٌ مُقلَّدُها فَعْم مقيّدها
...
...
في دفّها عن بنات الفحْل تفضيلُ(16)
غلباء وجناء علكوم مذكّرة
...
...
في دَفّها سَعَةٌ قُدّامُها ميلُ(17)
فبعد أن أعلن حبّه الجديد ، وأشار إلى أنه هناك ( في المدينة المنورة ) ، في مكان لا يبلغه إلا الإبل القوية السريعة ، أخذ يصف هذه الإبل وصفاً دقيقاً ليُعبّر عن عظيم الرحلة التي يريدها وأهميتها وخطورتها ، فلا تصلح لها الإبل الضعيفة . ويتابع الإبل القوية هذه في ثمانية عشر بيتاً . ومن خلال هذا الوصف الدقيق ، الوصف الذي بلغ به درجة عالية من الفنّ والجمال ، فإنّه يُعبّر عن شدّة شوقه للقيا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك بوصف السرعة الهائلة التي تمضي بها الإبل .
تَخدّي على يَسَراتٍ وهي لاحقة ذوابلٍ مَسّهنَّ الأرض تحليلُ (18)
سُمر العُجايات يَتْركن الحصى زيماً لم يقهنَّ رؤوس الأكْم تنعيلُ (19)
كأنّ أوب ذراعيها وقد عرقتْ وقد تَلفّح بالقُور العساقيلُ (20)
شدّ النهار ذراعا عيطل نَصَفٍ قامت فَجاوبها نُكْدٌ مثاكيلُ (21)
نوّاحةٌ رخْوة الضبعين ليس لها لما نعى بكرها الناعون معقولُ(21)
تفْري اللّبان بكفّيها ومِدْرعها مُشَفَّقٌ عن تراقيها رَعَابيلُ(22)
تصوير رائع لشدة سرعة الإبل في رحلتها إلى النبوة الخاتمة . تصوير يحمل القوة والحركة وجمال الصورة وتناسق الألفاظ وقوة السبك والتركيب وجمال اللحن .
إنها تُسرع ( تخدي ) على قوائم خفاف ( يسرات ) كأنّها الرماح الصلبة (ذوابل ) لا تكاد تمسُّ الأرض من شدّة سرعتها ، وكأنّها تمسُّ الأرض مسّاً خفيفاً جدّاً تحلّة القسم . وكأن أعصاب قوائمها ( العُجايات ) رماح سمر لقوتها وصلابتها ، إذا مسّت الحصى فرّقته بقوتها ورجوعهما من شدّة السرعة ، وقد عرقت لا من التعب لأنها قوية ، بل من شدّة الحر الذي بلغ حدّاً انتشر السّراب ( العساقيل ) على الجبال الصغيرة ( القور ) ، فكأنّها تلفّعت به أو التحفت به ، كأنّ سرعة تقلّب ذراعيها مع هذا الحَرّ ومع هذه السرعة ، حين اشتدّ النهار بحرّه سرعة ذراعي المرأة الطويلة ( ذراعا عيطل ) المتوسطة السنّ ( نصَف ) في لطمها على خدّيها لفقدها ولدها ، يجاوبها نساء لا يعيش لهنّ أولاد . فالنُّكد جمع نكداء وهي التي لا يعيش لها ولد . والمثاكيل جمع مثكال وهي كثيرة الثكل ، المرأة النوّاحة ، مسترخية العضدين ( رِخوة الضبعين ) ، فقدت صوابها ( معقول ) لمّا بلّغها الناعون موت ولدها البكر ، فاشتدّ لطمها لخدّيها . إنها صورة مليئة بالحركة ، كأنّك تشاهد بعينيك سرعة هذه الإبل إلى المدينة المنورة .
ويصف كعب شدّة الحرّ وقوّة احتمال الناقة القوية بأبيات في غاية الدقة والصورة والجمال . ثمّ يصف قوّة أمله برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرّق أصحاب الجاهلية عنه ، ليعود ويذكرنا بأسباب تركه ذلك الحب الغادر الضال ، حبّ الجاهلية التي انكشفت له ، وليذكرنا بإقباله على الإسلام بعزم ويقين وصدق، ليكون هذا هو حبّه الحقّ الجديد . إنه يؤكد لنا عظمة النقلة الهائلة التي انتقلها من الكفر إلى الإيمان .
تسعى الغُواة جَنَابيْها وقولُهمُ إنّك يا ابن أبي سُلمى لمقتول(23)
أي يسير الوشاة حول " سعاد " ( جنابيها ) ليمنعوا هذا الحبّ العظيم ، وليثبّطوا عزيمة كعب بأنه مقتول .
وقال كلّ صديق كنتُ آمله لا أُلْهَيِنَّك إنّي عنك مشغولُ
فقلتُ خلّوا سبيلي لا أبالكم فكُلُّ ما قدّر الرحمن مفعولُ
كُلّ ابن أُنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمولُ
نُبّئْتُ أنَّ رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمولُ
حتى وضعْتُ يميني ما أُنَازِعُهُ في كفّ ذي نَقِمَاتٍ قيلُه القيلُ
ويمضي في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يقول البيت الذي يفيض عذوبةً ونوراً :
إن الرسول لنورٌ يُستضاء به مُهَنَّدٌ من سُيوف الله مسلولُ
ثم يمدح قريشاً والمهاجرين مدحاً كريماً عالياً . ولكنّه نظّم بعد ذلك قصيدة خاصة بمدح الأنصار .
لقد أفرغ كعبٌ كلّ طاقته الفنية في هذه القصيدة ، ليمثّل أهمّ رحلة قام بها في حياته وأعظم نُقلة انتقلها . لقد حشدت الأحداث شحنات هائلة في فكره وتأمله، وشحنات هائلة في عاطفته ووجدانه ، وتحرّكت موهبته بقوّة عظيمة لتطلق الومضة الفنيّة الرائعة بين الشحنتين ، شحنة الفكر وشحنة العاطفة .
ولقد جمعت الموهبة في هذه الومضة عناصر الجمال الفنّي كلّها : عظمة الموضوع ، وروعة الأسلوب ، وقوّة الصياغة ، ومتانة السبك . حشدت الموهبة عناصر الجمال الفنّي يعبق منها الإيمان والتوحيد المغروس في فطرته حين أفاق واستيقظ وعرف الحق ، فأصبح الإيمان يروي ريّاً دافقاً تلك العناصر الفنية ، حتى تزهر وتعبق فوّاحة في هذه الرائعة الفنية .(/6)
وربما يشعر القارئ أن كثيراً من الكلمات غريبة عليه . نعم ! إنها بعيدة عن معجم عصرنا اليوم . ولكنّها مع ذلك ظلّت تحتفظ حتى اليوم بجمال موسيقاها وعذوبة انسيابها وجمال ترابطها . يحسّ القارئ المؤمن الذي يعرف لغة القرآن ، يحسّ بها ولو لم يدرك معناها ، وتظلّ لا تنبو عن السمع في جوّ حاشد من الصور المتلاحقة بألوانها الزاهية ، وحركتها الحيّة كأنّك تراها أمام عينيك ، وفي حلاوة الجرس والنغم الشّادي .
إن هذه القصيدة الرائعة تصف رحلته كلّها بجميع مراحلها وصفاً حيّاً دقيقاً. إنّها تمضي على نسق واحد من الإبداع لا تهبط أبداً ، ولا تضعف .
وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبدي إعجابه الشديد فيخلع بردته على كعب من أجل أبيات من النسيب ، الوصف و المديح . ولكنّي أعتقد أن الفكرة الرائعة التي تعرضها القصيدة في ألفاظ قوية وتعبيرات غنيّة ووقع فنّي مؤثّر ، هي التي أثارت إعجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . إنها تمثّل رحلته من الجاهلية إلى الإسلام ، ومن الكفر إلى الإيمان . إنّها تمثّل حبّاً كان يتعلق به ثمّ هجره وتركه وغاب عنه ، وحبّاً عظيماً يستحقّ الجهد والعناء والبذل والصبر انتقل إليه وأقبل عليه . إنّها تمثّل رحلته النفسية ومعاناته أروع تمثيل وأدقّه . لا يُعقل أن يكون شاغله في هذه المعاناة النفسية حبّ فتاة حقيقية أو خيالية.
من هنا ، من هذا التصوّر تأخذ قصيدة ( بانت سعاد ) روعتها وإبداعها ، وتحمل البركة من بردة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لتتحلّى به حلية تمضي إلى أبد الدهر .
إن هذا المعنى عميق في القصيدة ، يكاد يحسّ به المسلم لو لم يدركه تمام الإدراك ، يحسّ المسلم أنّ في القصيدة فكرة عظيمة استحقت إعجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلينا نحن أن نبحث عن هذه الفكرة العظيمة . إنها نقلة واسعة من الجاهلية إلى الإيمان ، إنها جاهلية تبتعد وتغيب ، وإيمان يقبل عليه كعب بلهفة وشوق ، ويظلّ وصف الناقة يمثّل هذا الشوق العظيم واللهفة العظيمة والإيمان واليقين .
إنّ القصيدة ، بإيجاز ، تُعبّر عن حبّ تعلّق به فترة ، ثمّ غاب عنه وابتعد فاكتشف بذلك غدره وإخلافه وما يحمله من مآس وفواجع . فترك هذا الحبّ كلّه ، ما هو حبّ فتاة ، ولا بالغرام والغزل إنّه حبّ الجاهلية ، حبّ الدنيا وشهواتها ، مثّل ذلك كلّه بفتاة أسماها " سعاد " .
وكان تركه للجاهلية باب هداية له من الله ، حين شرح الله صدره للإيمان ، فرأى الحبّ العظيم ، حبّ الله ورسوله ، وإيثار الآخرة على الأولى . إنّه حبّ عظيم ملك عليه نفسه ، وأثار شوقه ، فهاجت لهفته للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم . حبّ قديم يفارقه وحبّ جديد يقبل عليه .
بهذا التصوّر تكون القصيدة قد رسمت لنا معاناته النفسية التي مرّ بها، وقاسى منها . ترسمها لنا بمراحلها وحالاتها حتى انتهت إلى اليقين والإيمان .
وهي تمثّل النُقلة العظيمة الهائلة من جاهلية إلى إيمان ، نقلة هائلة ، ورحلة هائلة . على أبدع ما يكون التصوير .
وبذلك أرى أن هذه القصيدة ترتفع إلى مستوى عال من الأدب العالمي ، الأدب الإنساني .
(1) أحمد : المسند 3/456، الفتح : 19/276 .
(2) سيرة ابن هشام : ج2 ، ص( 501-515) . د. محمود حسن زيني : تحقيقه لشرح أبي البركات ابن الأنباري لقصيدة كعب بن زهير ، ط1 1400هـ ـ 1980م ، ص (83-90) . د. محمود حسن أبو ناجي لشرح جمال الدين بن محمد الأنصاري لقصيدة كعب ، ط3 ، 1404هـ ـ 1984م ، ص ( 32-37 ) . د . محمد بن سعد بن حسين " المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة " ط1، 1406هـ 1986م ، ص: ( 14-20) .
(3) المدائح النبوية بين المعتدلين والغلاة ، ط1 1406هـ ـ 1986م ، ص : 19-20 .
(4) متبول : أسقمه الحبُّ وأضناه ، متيّم : ذليل مستبعد ، لم يُفد : لم يخلِّص ، مكبول : مقيّد .
(5) أغنّ : في صوته غنّة ، غضضيض : فاتر ، مكحول : من الكَحَل : وهو سواد يعلو جفون العين من غير اكتحال .
(6) هيفاء : ضامرة البطن دقيقة الخصر ، عجزاء : كبيرة العجز .
(7) عوارض : الأسنان كلّها أو الضواحك منها ، ظلّم : ماء الأسنان وبياضها وبريقها ، منهل : مُسْقى ، الراح : الخمر .
(8) شجّت : مُزجت ، ذي شبم : ماء شديد البرودة ، مَحنية : منعطف الوادي حيث يكون ماؤه أبرد وأصفى ، الأبطح : المسيل الواسع الذي فيه الحصى ، أضحى : صار إلى وقت الضحى قبل اشتداد الشمس ، مشمول ك ضربته ريح الشمال .
(9) القذى : ما يقع في الماء من تبن أو عود أو كدر ، أفرطه : سبق إليه وملأه ، الصوب : المطر ، الغادية : السحابة تمطر غدوة ، يعاليل : الحباب الذي يعلو وجه الماء أبيض اللون ، لا مفرد له .
(10) خُلّة : الصديقة ، يوصف بها المؤنث والمذكر وغيرهما والمفرد وغيره .
(11) سيط : مُزج وخلط ، فجع : مصائب وفواجع . ولع : غدر و كذب .
(12) الغول : يزعمون أن الغول تُرى في الفلاة بألوان شتى فيتبعها من يراها ، فيضلّ الطريق فيهلك .(/7)
(13) عُذافرة : الناقة الصلبة العظيمة ، الأين : التعب ، الإرقال والتبغيل : ضربان من السير .
(14) نضّاحة : كثيرة رشح العرق ، الذّفرى : النقرة التي خلف أذن الناقة ، وهي أول ما يعرق منها ، عُرضتها : همتها وقوّتها على السفر ، طامس العلام : الدارس المتغير من العلامات التي يُهتدى بها .
(15) الغيوب : آثار الطريق التي غابت معالمها ، مُفرد : الثور الوحشيّ الذي تفرّد في مكان ، لهق : أبيض ، الحزّاز : الأمكنة الكثيرة الحصى الغليظة مفردها حزيز ، الميل : جمع ميلاء وهي العقدة من الرمل .
(16) مُقلّد : موضع القلادة من العنق ، فعمّ : ممتلئ ، مقيّدها : موضع القيد أي قوائمها ، بنات الفحل : الإناث من الإبل المنسوبة للفحل المعدّ للضراب ، يُشير إلى ضخامة جسمها كلّه ، وقوتها على السير .
(17) غلباء : غليظة العنق ، وجناء : عظيمة الوجنتين ، علكوم : شديدة ، مذكّرة : عظيمة الخلقة تشبه الذكران من الأباعر ، في دفّها سعة : واسعة الجنيتين ، قدّامها ميل : طويلة العنق .
(18) تخدّي ك تسرع ، يسرات : القوائم الخفاف ، ذوابل : حمع ذابل وهي الرمح الصلب ، تحليل : تحلة القسم أي قليل .
(19) العجايات : الأعصاب المتصلة بالحافر ، زيماً : متفرّقاً ، تنعيل : شد النعل على ظفر الدابة ليقيها الحجارة . الأكم : الأراضي المرتفعة .
(20) أوب : الرجوع وسرعة التقلب ، تلفّح : اشتمل والتحف . القور : جمع قارة وهي الجبل الصغير . العساقيل : السراب .
(21) شدّ النهار ك ارتفاعه وشدة الحرارة ، عيطل ، الطويلة ، نصف : المتوسطة في السنّ فتكون أقوى في حركتها ، نكد : جمع نكداء وهي التي لا يعيش لها ولد . مثاكيل : جمع مثكال وهي كثيرة الثكل .
(21) نوّاحة : كثيرة النوح ، رخوة الضبعين : مسترخية العضدين .
(22) تفري : تقطع ، اللباب : الصدر ، المدرع : القميص ، رعابيل : جمع رعبول أي قطع متفرقة .
(23) الغُواة : الوشاة المفسدون ، جنابيها : حواليها .(/8)
وقفتنا مع الفرق.....الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز ...
...
22-02-2004
الحمد لله رب العالمين ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ،ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد :
فلا يخفى على مسلم ما يعانيه المسلمون في شتى بقاع الأرض ،وطبيعي أن يلقى المسلمون عداوة ظاهرة من الكافرين قال تعالى :( الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) النساء –75- فهذه الآية تبين أصل العداوة بين المؤمنين والكافرين فهما حزبان لا يلتقيان الحزب الأول يقاتل في سبيل الله ، والآخر يقاتل في سبيل الشيطان وكلاً منهما يبذل أموالاً وأرواحاً في سبيل نصر وليه ، ولكن الغريب أن يصبح أولياء الله أحزاباً متناحرة بعضهم يكيد لبعض ، بل ووصل الحال في بعضهم أنهم أغمدوا سيوفهم ضد أعداء الله وأشهروها مشحونة بالغيظ ضد إخوانهم ،كفوا ألسنتهم عن اليهود والنصارى وأطلقوها سليطة على إخوانهم ، وهذا من أكبر المصائب التي تواجه الأمة ،وهو سبب مباشر لضعفها وفشلها قال تعالى :(وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) . الأنفال – 46- فالآية الكريمة تدل على حقائق تلمسها الأمة وتعايشها ، وتعتصر قلوب المؤمنين حزناً وألماً على مصابها ،فالله سبحانه ينهى الأمة عن التنازع ، وليس المقصود بالتنازع الاقتتال فحسب بل يشمل الخلافات الفكرية وغيرها كما في قوله تعالى : ( حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ ) الأنفال –152- وهذه الآية الكريمة نزلت في حق المسلمين يوم أحد فبين الله سبحانه أن سبب فشلهم ما كان منهم في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ،ولم يكن تنازعهم رضي الله تعالى عنهم اقتتالاً بالسيوف بل مخالفة بعضهم لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل على أن لفظ التنازع يدل على الخلاف وما فوقه ، وتنازع الأمة يؤدي إلى فشلها ،وها هي الأمة تتخبط في ظلمات الفشل والضعف وذهاب القوة والمنعة وتتشرذم في دياجير الذل والهوان حتى باتت لا يرى لها بصيص من الأمل في النجاة ، وإن كنا نعتقد جازمين أن العاقبة لها فذلك وعد الله سبحانه والله لا يخلف الميعاد ، ولكننا نتحدث عن واقع نعايشه واقع أصبح فيه الشر عائماً ، والفتن مائجة ، والخير متوارياً إلا في مسائل محدودة أو من وراء جدر خوفاً من بطش أولي الأمر الذين يحتضنون كل ما هو كيد للأمة وعقيدتها ، وهذا ما جعل كثيراً من الفرق الإسلامية تتطلع نحو الخروج من هذا الواقع المشؤوم لتحيى حياة إسلامية بعيداً عن الجاهلية ومتعلقاتها ، ولكن أنى ؟! وقد اختارت كل فرقة لنفسها طريقاً مغايراً لما عليه باقي الفرق ، بل تقف حيالهم بين الغلو والتفريط ناهيك عن الحقد والبغض والحسد الذي لا يكاد يفتر عنها، وتجتر في كبر واستعلاء مواقفها النبيلة المشرفة ،وتتغنى بإخلاص أفرادها وبطولاتهم مع وقوفها على قول الله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً *انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً ) . النساء- 49 -50.
ولو تدبرت الفرق كلام الله سبحانه في وصفه للمؤمنين لأدركت أنها في منأى عن هذه الصفات ، فالله سبحانه ذكر وصف المؤمنين في كثير من الآيات ،من هذه الصفات قوله تعالى : (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) . الفتح –29 .(/1)
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حقاً أشداء على الكفار رحماء بينهم ، لا أشداء على أنفسهم رحماء على الكفار ، بل كانوا عباداً قائمين راكعين ساجدين ، متحابين متعاطفين متراحمين ،ولم يكونوا متكلمين متشدقين يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ،بل بلغت المحبة فيهم أنهم كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة كما في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) . الحشر –9 .
فأين هذه الفرق من هذا الوصف ؟ أين هي من قوله صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . مسلم
أين هي من قوله صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) . البخاري
أجل أين هذه الفرق التي ملئت المعمورة من هذه النصوص الثابتة المحكمة التي لا يفهم منها إلا ظاهرها ، أين هي من الأخوة الإيمانية الصادقة التي تربطها العقيدة ، ألم يقل الله تعالى في حق المؤمنين : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) . الحجرات –10 .وإنما أداة حصر تفيد القصر ، فهل حقاً هذا هو مثل المؤمنين هذا الزمان ؟ أهذا هو مثل الفرق الإسلامية ؟ هل التعاون قائم بينها استجابة لقول الله تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) . المائدة –2 .
كلا ورب الكعبة قد انسلخت هذه الفرق عن هذه الصفات إلا فيما يتعلق بمصالحها وعلاقاتها بأفرادها ،ولا يخفى الحال على كل مستبصر واقع الأمة بعين العقل والإيمان ،وإنما يخفى على من أعمت العصبية الحزبية بصيرته وطبع الحقد والحسد على قلبه وأصبح ينظر إلى غيره بعين الكبر والاستعلاء فالله نشكو حالنا وما ألم بنا ، ومن هنا ندرك أهمية وحدة الصف ، والتعاون البناء بين المؤمنين لذا نجد كتاب ربنا سبحانه يشدد على التفرق والاختلاف ويبن عواقبه ومصير أصحابه قال تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) . آل عمران –103 .فهذا خطاب من الله سبحانه للمؤمنين كل المؤمنين وهو خطاب عام يأمر الله سبحانه به المؤمنين أن يعتصموا بحبله جميعاً ولا يتفرقوا ،ويذكرهم بما كان منهم في الجاهلية من عصبية وقبلية وكيف أنعم عليهم بنعمة الإيمان التي أخرجت منهم العصبية النتنة وأدخلتهم في الإيمان الذي يؤاخي بين المؤمنين ويرفع منهم العصبية وكل مظاهر الجاهلية ثم يشدد عليهم بعد ذلك لأن لا يتبعوا اليهود والنصارى فيقعوا بما وقعوا فيه : (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). آل عمران –105 . وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من التفرق والاختلاف وأمرهم بلزوم الجماعة في كثير من الأحاديث الصحيحة منها ما رواه ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار ) .وفي حديث آخرعن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال : ( خطبنا عمر بالجابية فقال يا أيها الناس إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد الشاهد ولا يستشهد ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة من سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن ).(/2)
رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. ومن المعلوم اضطراراً أن المقصود بالجماعة جماعة المسلمين وليس الجماعات الكثيرة المتفرقة التي لا تزيد الإسلام إلا وهن على وهن ،وتقطع عليهم أسباب النصر والتمكين إلا تلك التي ارتضت لنفسها السير على منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص ،الجماعة التي وصفها صلى الله عليه وسلم بقوله :( تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة .قيل من هي يا رسول الله ؟ قال هي التي تكون على ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) . وبهذا تعلم أخي المسلم عاقبة التفرق والاختلاف ، وأهمية توحد الأمة وترابطها واعتصامها بكتاب ربها سبحانه وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ،والله نسأل أن يهدينا سواء السبيل وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه ولينا ونعم النصير
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
بقلم الشيخ /إبراهيم بن عبد العزيز
10/ جمادى الآخرة- 1423هـ(/3)
وقفة في تاج محل
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
رَجِّع قصيدك في الزَّمَان وغَرِّدِ
واعْبِقْ بِطيبكَ في الحّياةِ وَجَدِّدِ
مَا أَنتَ إلاَّ سَيِّدٌ مِنْ أُمَّةٍ
طَلَعَتْ عَلَى الدُّنْيا بأَعظْم سَيِّد(1)
حَمَلَتْ رِسَالَتَها إلى الدُّنياهُدىً
لِتصُدَّ كُلَّ مُكَابِرٍ مُتَمَرِّدِ
وَمَضَتْ مَعَ التَّاريخ تَرْفَعُ بالهُدى
مَجْداً و بالإِيمانِ أَشرف مَحْتِدِ
هي أُمَّةُ الإِسْلاَم ! تَنشُرُ نُورَه
وتَدُقُّ أَبْوابَ الجِنَانِ وتَفتَدي
أَ "جَهَانُ" ! هَذاَ الصَّرْح كيف بَنيْتَهُ
غَرَّتْك مِنْ دُنْياكَ زَهْوَةُ سُؤددِ
فلأيِّ مَجْدٍ يا " جَهَانُُ " رَفَعْتهُ
ولأَيِّ معنىً في الحَياة ومَقْصدِ
عِشْرونَ عَاماً أو تَزِيدُ صَبَبْتها
في سَاحِه مَالاً وأَنَّةَ مُجْهَد(2)
دُنْيا تَمُرُّ كَأنَّها الظلُّ الذي
يُطوَى عَلى عَجَلٍ ، وتُفقَدُ مِنَ يَدِ
أَمَّا " الجِنَان " فَإِنَّها الحقُّ الذي
يُوفي بِكُلِّ مُطيَّبٍ و مُخَلَّدِ (3)
*
*
*
أصِفُ الجَمالَ وَ لَسْتُ أنْكرُ حَقَّه
وَكَأنَّه قبسٌ ووَمضَةُ فَرقَدِ
يَا " تاجُ " مِنْ أَيِّ الجِنَانِ حَمَلْتَها
هذي الغِراسَ وأيُّ ريٍّ مُرفِدِ
يَا " تاجُ " مِنَ أيِّ المعَادِنِ صُغْتَها
هذي الجَوَاهِر لُؤلُؤاً في عَسْجَدِ(4)
لمَّا رَآكَ الحُسْنُ قَالَ هُنَا خُلِقْـ
ـتُ وُهذه صُوَري و هذا مَوْلدِي
مَا كُنْتُ قبلَ اليَومِ إلاَّ شُعْلةَ المُشْتـ
ــاقِ أوْ أَمَلَ الهَوَى المتَجدِّد(5)
وأظلُّ بَعْدَ اليَومِ لَحْناً شَيِّقاً
بِفَم الزَّمَانِ و ذِكرَياتٍ للغَدِ
أَمَّا هُنَا فَأنا الذي أُجْلَى عَلى
سَاحَاتِه زَهْوَ الجَمالِ المفرَدِ
*
*
*
يَا لَلجدَار ! يَكَادُ يَرْوِي قِصَّةً
ويُعِيدُ في أَسْماعِنا خَفْقَ اليَد(6)
نَظَمَتْ يَدُ النَّحَّاتِ فيه آيةً
مَا بَيْنَ يَاقُوتٍ وبَيْنَ زُمُرُّدِ
وتَكادُ تَلْمَحُ فِيه أطْيَافَ الهَوى
أَشْوَاقَ سَيِّدةٍ ودَمْعَةَ سَيِّد(7)
يَمْضي الزَّمَانُ يُعِيدُ في دَقَّاتِهِ
أَصْدَاءَ أَضلاَعٍ وَ خَفْقَةَ أَكْبُدِ
وَزَخَارِفٍ مَاجَتْ كَأنَّ زهُورَها
نَفَحتْ عَلَيْكَ شذاً ورَوعَةَ مَشْهَدِ
وكأنَّما الألوان بَيْنَ ورُوُدِها
أَطْيافُ رَفْرَفَةٍ و هَمْسَةُ خُرَّدِ
وكأنَّها دُنْيَا تَمُوجُ بِهَا الصَّدى
آياتُ تارِيخٍ مَضى و مُجدَّدِ
*
*
*
" أَجْراَ " ! وفي جَنبيك خَفْقَةُ عَاشقٍ
ثَاوٍ وخفقةُ عاشِقٍ مُتمرِّد(8)
أُصْغي ! كأنَّ علَى رُبَاكِ خُطى الصِّبَا
ورفيفَ أَجْنِحةِ الهَوَى المتوَقَّد
وكأنَّ زَقْزَقَةَ الطُّيورِبدَوْحِهَا
نَغَمٌ أَعَادَ رُؤى الشَّبَابِ الأغْيَدِ(9)
قَبْرَانِ قَدْ جَمَعَا الهوَى في آيَةٍ
للذَّاكِرين وعِبْرةٍ للمُهْتَدي
أَغَفَتْ هُنا " مُمتَازُ " ! يا مَثْوى نأَى
رَجِّع صَدى وأعِدْ بَيَانَك واشْهَدِ
وَ "جَهَانُ" في غَزَواته يَطوي المُنَى
ما بين خَفْقَةِ أَضلُع و مُهَنَّدِ(10)
غابا ! فَأينَ الشّوقُ ؟! أيْنَ نَدَاوَةٌ
رفَّتْ عَلَيْه ؟! وأَيْنَ صَفْو المورِدِ؟!
طُوِيَتْ صَحَائِفُ وانْقَضَتْ في قصَّةٍ
سَلَفَتْ على قَدَرٍ لَهَا مُتَرَصِّدِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ديوان مهرجان القصيد .
(1) ما أنت إلا سيد : هو شاه جَهان أحد ملوك دولة المغول المسلمة ، وهو الذي أمر ببناء " تاج محلّ " ليضمَّ قبرين : قبراً لزوجته التي توفّيت وكان يهيم بها حباً ، وقبراً له . وكانت أجرا عاصمة ملكه واسم زوجته " ممتاز " .
(2) استغرق البناء كله (22) عاماً وعمل فيه عشرون ألف شخص .
(3) " الجنان " الدار الآخرة .
(4) على جدران المبنى وجدران القبرين رسمت أشكال زهور من قطع صغيرة من الحجار الكريمة الملونة .
(5) أي لم يكن أحد يحلم أو يتمنى حبّاً أعظم ، ولا شوقاً لشيء في الدنيا أعظم من هذا التقدير للحب .
(6) لقد رَسَّم " النحّاتُ " على جدران القبرين وبعض الجُدران الأخرى أشكالاً من الزهور الجميلة بألوان زاهية جميلة من قطع صغيرة من الأحجار الكريمة المختلفة ، كما صنع زخارف مختلفة ، كلها بيده ، يُركبها من هذه الحجارة ، مستخدماً أدواته . الخفق : ضرب الشيء بالدرّة أو الأداة .
(7) أشواق سيدة : شَوق "ممتاز" لزوجها وحبها له وهو غائب عنها في غزواته . دمعة سيد : دمعة شاه جَهَان على زوجته ممتاز التي ماتت في غيابه وهي تضع مولودهما الرابع عشر .
(8) "أجرا" عاصمة ملك شاه جهان ، وفيها تاج محل . عاشق ثاوٍ : ممتاز التي توفيت . عاشق متمرد : شاه جهان الذي كان في الحرب .
(9) الأغْيَد : الناعم .
(10) إشارة إلى الحب ( خفقة أضلع ) ، وإلى الحرب ( خفق مهنّد ) .(/1)
وقلبٌ في الأزمات يعود
فيصل بن سعود الحليبي * 7/2/1424
09/04/2003
مهما بلغ المسلم في بعده عن الله تعالى إلا أنه يحتفظ ببقية إيمان في قلبه ، ربما ران عليها الإثم وما كسبته الجوارح من المعصية فحال ذلك دون توبتها إلى باريها ؛ { كلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ، وربما قيدتها أقفال الشهوات والشبهات ؛ فمنعها ذلك من الانتفاع بما يحيي النفس ويوقظها ؛ { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ، وربما أصيبت بعمى البصيرة فمنعها ذلك من اقتفاء الصراط السوي ومال بها عن جادّته ؛ }فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } ، إنها بقية إيمان غفلت ؛ لكن شرع لها التذكير ليقشع عنها ذلك الران فتنتفع بالذكرى، ويفكها من تلك الأقفال لتنطلق من قيدها إلى ميدان السعادة ، ويجلي بصرها عن ذلكم العمى لترى نور الهداية .
والقلوب في استجابتها لنداء الرحمن أنواع : فقلب تنفعه الكلمة الطيبة حينما تنساب من قلب ناصح مخلص حكيم ، وفيه يقول الله تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } ، ويقول سبحانه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } .
وقلب تكون أغلال المعصية عليه أشد ، حتى تصمه عن سماع الذكرى وإن كان سميعًا ، وتغشي بصره أن يرى النور ولو كان بصيرًا ، وفيه يقول الله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ(20)ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(21)إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ(22)وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } .
غير أن بقية الإيمان في هذا القلب كانت محلاً لنداء الله لها بأن تحيى بنداءات الله ورسوله صلى الله عليه وسلم :
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
إن هذا النوع من القلوب وإن استثقل الذكرى القولية أو ما شابهها ، فلا ينبغي أن نستبعد حياته من جديد بنوع آخر من التذكير ، التي يتمثل في وقوع المصائب أو حلول الكوارث والحروب ، فقط إنها تحتاج لفتة دعوية أخرى مشحونة بالأمل ، فليست القلوب سواء ، وليس أعظم من الشرك طغيانًا وفسادًا ، ومع هذا فالله يحكي عن المشركين رجوعهم إليه حينما تحل بهم النوائب ، فاقرأ إن شئت قوله سبحانه : { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ، وإنما كان رجوعًا مؤقتًا لفقدان الإيمان في قلوبهم بالكلية قبل البلاء {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } .
نعم لقد جعل الله تعالى الأزمات فرصة لمن حجز نفسه عن سماع الخير أن يعود إليه ويتذكر ويخشى ، يقول سبحانه : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ
يَتَضَرَّعُونَ } .
والفرصة في حال البأساء والضراء ليست في حق المقصرين ـ وكلنا مقصر ـ بل إنها فرصة للدعاة أيضًا لينالوا من أجور النصح والتوجيه حينما يقومون بواجبهم تجاه من شط عن نبع الإيمان الصافي ، ليبذلوا كل وسيلة حكيمة لينة لإخوانهم هؤلاء فيمدونهم بأقداح الطهارة والسعادة الإيمانية ، بعدما تجرعوا سموم المعاصي والفواحش ، فيبينون لهم عظمة الله تعالى ، وفضل دينهم وجلالة قدره ، ويرسمون لهم أسهل الطرق للطاعة وتجنب المعصية ، موضحين لهم ثمار ذلك كله في عبارة سهلة ميسرة ، مصحوبة بشفقة ورحمة وحكمة ، وكلي أمل أنهم سيجدون منهم قلوبًا في مثل هذه الأحوال العصيبة أقرب إلى الإنابة ، وأسرع في الاستجابة ، وليس هذا فحسب ، بل ربما عادوا مع إنابتهم بشوق إلى خدمة دينهم وأمتهم ، حتى ترخص منهم الأنفس ، وتجود منهم الدماء .
ولنا في قصة توبة أبي محجن الثقفي ـ رحمه الله ـ شاهد وعبرة ، فلقد كان أبو محجن الثقفي لا يزال يُجلد بسبب شربه الخمر ، فلما أكثر منه سجنوه وأوثقوه ، فلما كانت معركة القادسية ، فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا في المسلمين ، فأرسل إلى زوجة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: إن أبا محجن يقول لكِ : إن خليتِ سبيله وحملتِه على هذا الفرس ، ودفعتِ إليه سلاحًا ليكونن أول من يرجع إليكِ إلا أن يُقتل ، وأنشأ يقول :
كفى حزنًا أن تلتقي الخيل بالقنا ... ...
وأُترك مشدودًا عليَّ وَثاقيا
إذا قمت عنَّاني الحديد وغُلِّقَت ... ...
مصاريع من دوني تصم المناديا
ولله عهد لا أخيس بعهده ... ...(/1)
لئن فُرجت أن لا أزور الحوانيا
فحلّت عنه قيوده ، وحُمل على فرس كان في الدار، وأُعطي سلاحًا ، ثم خرج يركض حتى لحق بالمسلمين في المعركة ، فأبلى بلاء لفت أنظار سعد رضي الله عنه فجعل يتعجب ويقول : مَنْ ذاك الفارس ؟ قال : فلم يلبثوا إلا يسيرًا حتى هزمهم الله ، ورجع أبو محجن وردَّ السلاح وجعل رجليه في القيود كما كان ، فجاء سعد ، فقالت له امرأته : كيف كان قتالكم ؟ فجعل يخبرها ويقول : لقينا ولقينا ، حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق ، لولا أني تركت أبا محجن في القيود لقلت : إنها بعض شمائل أبي محجن ، فقالت : والله إنه لأبو محجن ، كان أمره كذا وكذا ، فقصّت عليه قصته .
فدعا به ، فحلّ قيوده ، وقال له ـ فاتحًا له باب التوبة ـ : لا نجلدك على الخمر أبدًا ، قال أبو محجن : وأنا والله لا أشربها أبدًا !!
وأخيرًا : دعونا نحوَّل أزماتنا اليوم إلى ساحات عمل دعوية جادة ، نؤلف فيها القلوب على الإيمان ، وننادي الأنفس إلى السعادة ، ونوقظ الضمائر على نور الهداية ، ونستثير الهمم لحماية الدين وأهله وأرضه .
* محاضر بكلية الشريعة بالأحسا(/2)
وقولوا للناس حسنا مالك إبراهيم بابكر*
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) متفق عليه؛ أي ما يتفكر فيها أهي خير أم لا؟!.
الكلمة أمانة ربانية، ومسؤولية اجتماعية؛ يحاسب عليها العبد، وتسطر في سجل حياته؛ لتكون له سمة بعد مماته؛ يحمد عليها إن كانت حسنة، وتظل خالدة في ذاكرة التاريخ؛ يدعو له الناس بالخير ما تذكروها؛ باعتبارها صدقة جارية.. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: (الكلمة الطيبة صدقة).
وعلى ذات النسق تكون الكلمة غير الحسنة وصمة للإنسان في حياته، ووبالا عليه، وربما تجلب له متاعب الدهر، ولعنة الألسن من قبل المجتمع كلما تذكروا أثرها السيئ في وجدانهم.
ولذا حرص الإسلام في بناء القيم والسلوك أن يكون القول بين الناس حسنا، والتخاطب بينهم بالكلمة الطيبة؛ حتى تجني الأمة ثمار ذلك محبة، وترابطا وإخاءا.. فالمؤمن كما في الحديث: (ليس بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيئ).
كل ذلك ليس من صفات وقيم المجتمع الإسلامي، والهدي النبوي؛ فالمؤمن حقاً يعلم أمانة الكلمة، ويقدر مسؤوليتها أمام ربه في حياته وبعد مماته.
فالكلمة سلاح ذو حدين؛ فرب كلمة يلقيها الإنسان فترسم البسمة على الوجوه، وتغرس الفرحة والسعادة في القلوب، وتصون المجتمع من الانزلاق في بؤر الخلافات والتناحر؛ فتحقن دماء الأمة، وتصون كرامتها؛ وبذلك تسمو بصاحبها إلى أسمى المقامات في الدنيا والآخرة.
ورب كلمة يطلقها الإنسان فتوقظ الفتنة والبغضاء في النفوس، وترسم البؤس في الوجوه؛ فتشعل نار الفرقة والشتات بين الناس؛ وبذلك تكون وبالا، وخزيا، وندامة لصاحبها؛ فيهوي بها في دار الخسران والهلاك.
وصدق مربي البشرية وهاديها إلى الصراط المستقيم (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات!!.. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم).. أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وما أكثر الكلمات التي يطلقها الناس في زماننا هذا ولا يلقون لها بالا، ولا يحاسبون أنفسهم عند قولها أهي خير أم لا؟!، وما هي عاقبتها؟!.
فالكلمة كالسهم؛ إذا انطلق فلن يعود؛ فعلى باريها أن يحدد المقصود والهدف بدقة؛ فمن الحكمة أن يراجع الإنسان نفسه عند كل كلمة قبل أن يقولها، وأن يختار الأسلوب الأمثل، والزمان المناسب لها؛ فلكل مقام مقال!!..
وهكذا نجد من هدي سيد الحكماء، وطبيب القلوب صلى الله عليه وسلم أن وضع لنا تلك المعاني والقيم في أبهى صورها، وأجل مراقيها في منهج تربوي؛ ويعود بالأعرابي إلى أن يقول حسنا؛ لكي ينزع الغضب من قلوب أصحابه تجاهه.
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي يوما؛ يطلب منه شيئا؛ فأعطاه.. ثم قال له: (أحسنت إليك؟) قال: (لا، ولا أجملت)!!.. فغضب المسلمون؛ وقاموا إليه؛ فأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن كفوا، ثم دخل منزله؛ فأرسل إلى الأعرابي، وزاده شيئا؛ ثم قال: (أحسنت إليك؟) قال: (نعم؛ فجزاك الله من أهل، ومن عشيرة خيرا)!!.. فقال عليه الصلاة والسلام: (إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك؛ فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي؛ حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك)!!.. قال: (نعم).. فلما كان للغداة جاء؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأعرابي قال ما قال؛ فزدناه؛ فزعم أنه رضي؛ أكذلك؟) فقال الأعرابي: (نعم؛ فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا).
الله!!.. فما أعظم تلك المعاني التربوية، والحكمة المحمدية التي حقنت دماء الأعرابي من كلمة قالها وهو لا يضع لها بالا!، وما أكرم خلق نبي الهدى الذي ساق الأعرابي نفسه إلى أن يقول حسنا؛ ليشفي غضب المسلمين مما قاله لنبيهم صلى الله عليه وسلم!.
صلى الله عليك يا رسول الله وسلم، يا أعظم مصلح للبشرية، وهاديها إلى معاني البر والإحسان.
لو أن إنساناً تخير ملة *** ما اختار إلا دينك الفقراء
المصلحون أصابع جمعت يدا *** هي أنت بل أنت اليد البيضاء
نعم إنه خلق النبي الذي أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه؛ قائلا له: (ولو كن فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين).
وهكذا نجد المنهج الرباني - الذي جاء به الأنبياء والمرسلون جميعا - يدعو إلى اتباع منهج المعروف في القول، والتخاطب بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن..
حتى مع أولئك الذين تجبروا وتكبروا على الله، وعاثوا في الأرض فسادا؛ قال تعالى لموسى وهو يُعِدُّه للتخاطب مع الطاغية فرعون لعنه الله تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى).(/1)
وقال تعالى؛ مخاطبا بني إسرائيل: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً).
إذا فما أحوج الدعاة، والقادة، والمصلحين، وأهل التربية لاتباع تلك المعاني والقيم؛ لإرساء دعائم مجتمع تسوده الألفة، والمحبة، وتعطر حياته الكلمات الطيبات، وأريج نفحاتها التي تسكن الود في القلوب!، وما أجمل القول عندما يكون حسنا فإنه يذهب غيظ الغضب من القلوب، ويفجر ينابيع الخير؛ فيفيض على الأمة خيرا، ونماءا، ووفاءا، وعطاءا!.
فهلاّ اتخذنا تلك المعاني والقيم منهجاً في تحدثنا ومخاطبتنا لبعضنا البعض؛ وأعرضنا عن أولئك الذين لا يقيمون للكلمات وزنا في حياتهم؛ امتثالاً لقوله تعالى: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
يخاطبني السفيه بكل قبح**فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما**كعود زاده الإحراق طيبا
والله من وراء القصد..(/2)
وقولوا للناس حسنا
مالك إبراهيم بابكر*
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب) متفق عليه؛ أي ما يتفكر فيها أهي خير أم لا؟!.
الكلمة أمانة ربانية، ومسؤولية اجتماعية؛ يحاسب عليها العبد، وتسطر في سجل حياته؛ لتكون له سمة بعد مماته؛ يحمد عليها إن كانت حسنة، وتظل خالدة في ذاكرة التاريخ؛ يدعو له الناس بالخير ما تذكروها؛ باعتبارها صدقة جارية.. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم القائل: (الكلمة الطيبة صدقة).
وعلى ذات النسق تكون الكلمة غير الحسنة وصمة للإنسان في حياته، ووبالا عليه، وربما تجلب له متاعب الدهر، ولعنة الألسن من قبل المجتمع كلما تذكروا أثرها السيئ في وجدانهم.
ولذا حرص الإسلام في بناء القيم والسلوك أن يكون القول بين الناس حسنا، والتخاطب بينهم بالكلمة الطيبة؛ حتى تجني الأمة ثمار ذلك محبة، وترابطا وإخاءا.. فالمؤمن كما في الحديث: (ليس بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيئ).
كل ذلك ليس من صفات وقيم المجتمع الإسلامي، والهدي النبوي؛ فالمؤمن حقاً يعلم أمانة الكلمة، ويقدر مسؤوليتها أمام ربه في حياته وبعد مماته.
فالكلمة سلاح ذو حدين؛ فرب كلمة يلقيها الإنسان فترسم البسمة على الوجوه، وتغرس الفرحة والسعادة في القلوب، وتصون المجتمع من الانزلاق في بؤر الخلافات والتناحر؛ فتحقن دماء الأمة، وتصون كرامتها؛ وبذلك تسمو بصاحبها إلى أسمى المقامات في الدنيا والآخرة.
ورب كلمة يطلقها الإنسان فتوقظ الفتنة والبغضاء في النفوس، وترسم البؤس في الوجوه؛ فتشعل نار الفرقة والشتات بين الناس؛ وبذلك تكون وبالا، وخزيا، وندامة لصاحبها؛ فيهوي بها في دار الخسران والهلاك.
وصدق مربي البشرية وهاديها إلى الصراط المستقيم (محمد بن عبد الله) صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات!!.. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم).. أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وما أكثر الكلمات التي يطلقها الناس في زماننا هذا ولا يلقون لها بالا، ولا يحاسبون أنفسهم عند قولها أهي خير أم لا؟!، وما هي عاقبتها؟!.
فالكلمة كالسهم؛ إذا انطلق فلن يعود؛ فعلى باريها أن يحدد المقصود والهدف بدقة؛ فمن الحكمة أن يراجع الإنسان نفسه عند كل كلمة قبل أن يقولها، وأن يختار الأسلوب الأمثل، والزمان المناسب لها؛ فلكل مقام مقال!!..
وهكذا نجد من هدي سيد الحكماء، وطبيب القلوب صلى الله عليه وسلم أن وضع لنا تلك المعاني والقيم في أبهى صورها، وأجل مراقيها في منهج تربوي؛ ويعود بالأعرابي إلى أن يقول حسنا؛ لكي ينزع الغضب من قلوب أصحابه تجاهه.
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي يوما؛ يطلب منه شيئا؛ فأعطاه.. ثم قال له: (أحسنت إليك؟) قال: (لا، ولا أجملت)!!.. فغضب المسلمون؛ وقاموا إليه؛ فأشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم أن كفوا، ثم دخل منزله؛ فأرسل إلى الأعرابي، وزاده شيئا؛ ثم قال: (أحسنت إليك؟) قال: (نعم؛ فجزاك الله من أهل، ومن عشيرة خيرا)!!.. فقال عليه الصلاة والسلام: (إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي من ذلك؛ فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي؛ حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك)!!.. قال: (نعم).. فلما كان للغداة جاء؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الأعرابي قال ما قال؛ فزدناه؛ فزعم أنه رضي؛ أكذلك؟) فقال الأعرابي: (نعم؛ فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا).
الله!!.. فما أعظم تلك المعاني التربوية، والحكمة المحمدية التي حقنت دماء الأعرابي من كلمة قالها وهو لا يضع لها بالا!، وما أكرم خلق نبي الهدى الذي ساق الأعرابي نفسه إلى أن يقول حسنا؛ ليشفي غضب المسلمين مما قاله لنبيهم صلى الله عليه وسلم!.
صلى الله عليك يا رسول الله وسلم، يا أعظم مصلح للبشرية، وهاديها إلى معاني البر والإحسان.
لو أن إنساناً تخير ملة *** ما اختار إلا دينك الفقراء
المصلحون أصابع جمعت يدا *** هي أنت بل أنت اليد البيضاء
نعم إنه خلق النبي الذي أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه؛ قائلا له: (ولو كن فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين).
وهكذا نجد المنهج الرباني - الذي جاء به الأنبياء والمرسلون جميعا - يدعو إلى اتباع منهج المعروف في القول، والتخاطب بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن..
حتى مع أولئك الذين تجبروا وتكبروا على الله، وعاثوا في الأرض فسادا؛ قال تعالى لموسى وهو يُعِدُّه للتخاطب مع الطاغية فرعون لعنه الله تعالى: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى).(/1)
وقال تعالى؛ مخاطبا بني إسرائيل: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً).
إذا فما أحوج الدعاة، والقادة، والمصلحين، وأهل التربية لاتباع تلك المعاني والقيم؛ لإرساء دعائم مجتمع تسوده الألفة، والمحبة، وتعطر حياته الكلمات الطيبات، وأريج نفحاتها التي تسكن الود في القلوب!، وما أجمل القول عندما يكون حسنا فإنه يذهب غيظ الغضب من القلوب، ويفجر ينابيع الخير؛ فيفيض على الأمة خيرا، ونماءا، ووفاءا، وعطاءا!.
فهلاّ اتخذنا تلك المعاني والقيم منهجاً في تحدثنا ومخاطبتنا لبعضنا البعض؛ وأعرضنا عن أولئك الذين لا يقيمون للكلمات وزنا في حياتهم؛ امتثالاً لقوله تعالى: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
يخاطبني السفيه بكل قبح**فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما**كعود زاده الإحراق طيبا
والله من وراء القصد..(/2)
وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ
قال تعالى: ( وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ )
تساهم الكلمة إلى حد بعيد في إحياء الأمة الإسلامية ، وبخاصة إذا ما تسربت إلى القلوب فاستقرت فيها ..
فالكلمة الصادقة الصادرة من القلب تثير عواطف النفوس ، وتحيي موات القلوب ، وتدفع إلى التغيير بإذن الله .
ومن هنا كان افتقاد فقه الكلمة وأدب الحوار من الأمور التي تُفقد الدعوات روحها وتأثيرها ، وتؤدي بالمجتمعات إلى التفكك والانهيار .
وفي هذا المقال نحاول الوقوف على بعض من هذا الفقه .. فقه الكلمة .. القرآن ومسؤولية الكلمة :
يقول الله تعالى : [ وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ .. ]
يقولوا التي هي أحسن ( على وجه الإطلاق وفي كل مجال فيختاروا أحسن ما يقال ليقولوه ، بذلك يتقون أن يفسد الشيطان ما بينهم من مودة ، فالشيطان ينزغ بين الإخوة بالكلمة الخشنة تفلت وبالرد السيء يتلوها ، فالشيطان يتلمس من الإنسان سقطات فمه وعثرات لسانه ، فيغري بها العداوة والبغضاء بين المرء وأخيه ، والكلمة الطيبة تسد عليه الثغرات ، وتقطع عليه الطريق ، وتحفظ حرم الإخوة آمناً من نزغاته ونفثاته ) [1]
وهذا من أدب وفقه الكلمة بين المرء وأخيه . هذا فيما بين المؤمنين ، والأمر يتسع ليشمل ما بين المسلمين والمشركين
فالمؤمنون مأمورون بقول : ( الكلمة التي هي أحسن وألا يخاشنوا المشركين )
ذلك ( أن الشيطان ينزغ بينهم ) : يهيج بينهم المراء والشر ، فلعل المخاشنة بهم تفضي إلى العناد وازدياد الفساد فيأمر الله تعالى عباده أن يقولوا الكلمة الطيبة وألا يصرحوا لهم بأنهم من أهل النار ، فإنه يهيجهم على الشر ، بل يداروهم ويحتملوا منهم .
وروى أن المشركين أفرطوا في إيذاء المسلمين فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية .
وقيل شتم عمر - رضي الله عنه - رجل منهم فهم به فأمره الله بالعفو [2] ( وهو أن يقول للكافر إذا تشطط : هداك الله ، يرحمك الله . وهذا قبل أن يؤمروا بالجهاد ) [3]
وهذا أيضاً من أدب وفقه الكلمة
وربما اتسع الأمر ليشمل المشركين أنفسهم
وكأن المعنى : ( قل لعبادي الذين اعترفوا بأني خالقهم وهم يعبدون الأصنام يقولوا التي هي أحسن من كلمة التوحيد والإقرار بالنبوة ) [4] ، وهكذا يؤكد الله -عز وجل- على أهمية ومسؤولية الكلمة لما لها من عظيم الأثر في حياة البشرية . يقول سبحانه : [ وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ] [الأنعام 152] ، فيأمر الله تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب أو البعيد [5] ، ( ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى ) [6] .
الرسول القدوة .. والكلمة :
والمتتبع لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجد الأحاديث تتوالى وتترى في الحض على مكارم الأخلاق وبلوغ التي هي أحسن ، ففيها ( الكلمة الطيبة صدقة ) [7] ، وفيها الربط بين الإيمان والخير من القول فهو القائل - صلى الله عليه وسلم - : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) [8] ، وفي سيرته الكريمة - صلى الله عليه وسلم - التنفير من إساءة استخدام الكلمة فيقول - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون , والمتشدقون ، والمتفيهقون ) [9] ، والقيامة هي التي يعمل مخافة السوء فيها العاملون ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحبيب الذي يبغى القرب منه المحبون فكيف لا يحسنون استخدام الكلمة وهي أمامهم وسيلة القرب والنجاة حتى يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن النجاة : ( أمسك عليك لسانك ) [10] ، ويقول : ( من يتكفل لي ما بين لحييه ورجليه ، أتكفل له بالجنة ) [11] ، ويقول - عليه الصلاة والسلام- : ( أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً ، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه ) [12] .
هكذا يرفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قيمة الكلمة ويثقل ميزانها .. ويبلغ الأمر منتهاه في تحديد مسؤولية الكلمة في قوله : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها - أي يتفكر أنها خير أم لا - يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ) [13] ، وهكذا كانت سيرته - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم أحسن ، وإذا صمت أبلغ ، حتى كان هذا الخلق هو ما عايشه أصحابه منه فيقول أنس - رضي الله عنه - : ( خدمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين فما قال لي أفٍ قط ، ولا قال لشيء فعلته : لِمَ فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلته ؟ وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً .. ) [14] .
وهكذا ربى أصحابه الكرام فعرفوا للكلمة حقها ، وحفظوا لها قدرها(/1)
فكان لسانهم منهم دائماً على بال حتى : ( يضع أبو بكر الصديق - رضي الله عنه- الحصاة في فيه ويمنع نفسه عن الكلام ، وكان يشير إلى لسانه ويقول هذا الذي أوردني الموارد ..
وحتى يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان ..
ويقول الحسن : ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه [15]
ويقول ابن عمر - رضي الله عنه - : إن أحق ما طهر الرجل لسانه
وحتى يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : (من مزح استُخِفّ به ) .
هكذا كانوا ، وبهذا حفظ لهم التاريخ تلك العلامات المضيئة على صفحته
وهكذا يجب أن يكون كل من يريد أن يحمل تبعة التمكين لدين الله في الأرض .
الدعاة والموعظة الحسنة إن الله سبحانه يدفع عباده دائماً - والدعاة إليه منهم خاصة - ليقولوا التي هي أحسن ، وأن يتخلقوا بالقول اللين
فنجده سبحانه يأمر موسى وهارون -عليهما السلام- وهما مرسلان إلى أعتى الطواغيت ، أن يتخلقا به فيقول : [ فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ][طه 244]
( فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم ، ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة ، ومن شأنه إنه يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان ) [16]
وهكذا فمن أدب وفقه الكلمة أن تعرف وتحسن كيف تدعو .
ثم الله سبحانه تعالى يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ذلك التوجيه الكريم ، ولمن كان يرجو الله واليوم الآخر في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة .
فيقول سبحانه : [ ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ][النحل 125]
فاللسان هو وسيلة البيان ، ووسيلة البلاغ ، ولكن لا بد لهذا البيان وذلك البلاغ من أدب وفقه
( والله تعالى يرسي هنا القواعد والمبادئ ويعين الوسائل والطرائق ، ويرسم المنهج لمن كان في موضع البلاغ .. فمن الحكمة النظر في أحوال الخاطبين وظروفهم والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة ، والطريقة التي يخاطبهم بها ، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها ..
والموعظة الحسنة تدخل إلى القلوب برفق ، وتتعمق المشاعر بلطف ، ذلك والجدل بالتي هي أحسن ، بلا تحامل على المخالف ، ولا إزراء به ولا تقبيح يجعله يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل ، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق ) [17] .
( وهكذا فالناس دائماً في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة سمحة وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم ، وضعفهم ، ونقصهم .. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية ، والعطف والسماحة والود والرضاء ..
وهكذا كان قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو القدوة ، وهكذا كانت حياته مع الناس ما غضب لنفسه قط ولا ضاق صدره بضعفهم البشري
[ ولَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ ][آل عمران 159] ) [18]
أي ( فاعف عنهم فيما يختص بك واستغفر لهم فيما لله تعالى ) [19] .
فما أحوج الدعاة إلى الله إلى أن يعوا مسؤوليتهم ويحملوا تبعتهم وأن يضيئوا طريقهم بهديه - صلى الله عليه وسلم - .
كلمة أخيرة إن الكلمة وسيلة البلاغ ، وإن للكلمة لفقهاً ..
فعلى من يقف في موقف البلاغ أن يعي ( أن المبلغ عن الله (بين الله وعباده) يجب أن يكون أداة صالحة .
ولذلك يقول ابن القيم في قول الله : [ واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ][طه 41] بمعنى الاصطفاء لموسى ، قال ابن عباس : اصطفيتك لوحي ورسالتي . وكون المبلغ عن الله أداة صالحة فإنها لا يجب أن تتجاوز حدود الأداة والسبب ، فسببية الدعاة إلى الله تحمي الدعاة من ثلاثة أخطار :
أولاً : خطر الغرور ، إذا تحققت الاستجابة . والاعتقاد أن الداعية مجرد سبب في الهداية يحميه من هذا الشعور .
ثانياً : خطر اليأس ، إذا كان الإعراض . ذلك أن الداعية يشعر أنه أدى ما عليه وأن الأمر بيد الله .
والأمر الثالث : هو خطر الخروج بالدعوة عن موضعها بملاحقة من لا يستحقون الدعوة ، وإهمال دعوة من يستحقون الدعوة .
ويجب على الداعية المبلغ عن الله أن يجمع كل سنن التأثير في النفس البشرية ..
سنة العمل : فلا يخالف قوله عمله
وسنة القدوة : فيكون هو النموذج العملي للمنهج ،
وسنة المنفعة : وهو تأليف القلوب وإقامة الحجة مثلما جاء من قصة أصحاب الأخدود ،
التواضع ف ( أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعجب جماعة من جهال أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال ونظروا إلى الضعفاء والخصوم بمعنى التحقير والازدراء ، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ) [20]
وسنة القوة : إذ أن التخلف والضعف يصدان عن اتباع الحق [21] .(/2)
ويجب على الداعية ( أن يتلطف في إبلاغ الحق وأن يمهد له ، وإن كان ثمة شيء فيه شديد الغرابة على واقع الناس ومفهومهم فلا يفجأهم به )
( فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر السبيبة وبلوغه السن الذي لا يولد فيه لمثله من العادة ، فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة المسيح وولادته من غير أب ، فإن النفوس لما أنست بولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب ) [22] .
كذلك على الداعية أن يتسلل في إبلاغ الحق تسللاً منطقياً فلا يتقدم بأحكام ثم يأتي لها بحيثيات ولكن يقدم المقدمات فتأتي بعدها نتائجها في غاية اليسر بلا اعتساف ولا عنت ، ثم عليه أن يراعي التدرج في إبلاغ الحق فالتدرج سمة الجماعة المسلمة في نموها وتأمل قوله تعالى : [ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ ][الفتح 29] [23] ، كذلك على الداعية ألا يكتم شيئاً من العلم ، وأن يختار لدعوته ما يناسبها ويحقق أهدافها عن طريق البيان الذي لا يدع الحق ملتبساً على الناس ، وإذا أحس من نفسه عدم القدرة على ذلك أحال من يحدثهم إلى ما يستبينون به الحق من كتب ، أو رسائل ، أو عالم يقدر على البيان والبلاغ المبين ، هذا كله من أدب وفقه الكلمة ومسؤوليتها ..
أخي الداعية .. قد يكون الحسن أن تدعو إلى الله وإلى دين الله ولكن الأحسن أن تدعو إليه على بصيرة فتراعي الكيف والحال والمكان والزمان ..
ما أحوجنا اليوم لذلك الفقه النادر ( فقه الكلمة ) حتى يكون لدعوتنا الأثر الطيب .. وحتى تؤدي كلماتنا وظيفتها الاجتماعية .. ولنكون قبل ذلك وبعده متخلقين بخلق القرآن الكريم الذي يأمرنا : [ .. وقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَتِي هِيَ أَحْسَنُ ).
مجلة البيان(/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فإن من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن بعث فيها أفضل رسله خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه أفضل كتبه وأكملها وأقومها وأشملها لخيري الدنيا والآخرة.
ولقد امتن الله عز وجل بهذه النعمة العظيمة على هذه الأمة في أكثر من آية؛ كما في قوله سبحانه: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (آل عمران:164).
ووصف رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين؛ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
ووصف كتابه الكريم بأنه يهدي للتي هي أقوم، وأنَّ فيه تبيانًا لكل شيء وهدى ورحمة؛ قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)(1) (الإسراء:9).
وقال سبحانه: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل: من الآية89).
وصدق الله العظيم، ومن أصدق من الله حديثاً؛ فإن المتأمل في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم يجد هذه المعاني العظيمة واضحة وضوح الشمس، حيث لا يخفى على من له أدنى بصيرة ما تضمنه كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى والرحمة والشمول لكل مصالح العباد، مع مراعاة لكل جوانب النفس البشرية ومخاطبتها بمنهج متوازن وميزان قسط وعدل لا يطغى فيه جانب على جانب، ولا يرجح فيه طرف على آخر.
ولا غرابة في ذلك فهو صادر عن الله عز وجل، وما صدر عن الله تعالى فهو الكامل الشامل المتوازن؛ لأنه صدر عن الكامل في صفاته وأفعاله، الذي لا حدود لكماله، العالم بمصالح خلقه، والحكيم الذي يضع الشيء في موضعه الذي يجب أن يوضع فيه، الرحيم الذي يرحم عباده بما يأمرهم به من خير وينهاهم عنه من شر؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وإن من أبرز سمات هذا المنهج الرباني الهادي للتي هي أقوم أنه متسم بالشمول والتوازن والوسطية والعدل؛ ولذلك امتن الله عز وجل على هذه الأمة التي أنزل إليها كتابه الكريم ومنهجه القويم بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143).
ويتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن هذه السمة البارزة في هذا الدين فيقول: «وهو - مِنْ ثَمَّ - شامل متوازن منظور فيه إلى كل جوانب الكينونة البشرية أولاً، ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقها أخيرًا، ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشري، وإلى توازن هذه الأطوار جميعًا. بما أن صانعه هو صانع هذا الإنسان .. الذي خَلق، والذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؛ فليس أمامه - سبحانه - مجهول بعيد عن آفاق النظر من حياة هذا الجنس، ومن كل الملابسات التي تحيط بهذه الحياة، ومن ثَمَّ فقد وضع له التصور الصحيح الشامل لكل جوانب كينونته، ولكل أطوار حياته، المتوازن مع كل جوانب كينونته ومع كل أطوار حياته، الواقعي المتناسق مع كينونته ومع كل ظروف حياته.
وهو - مِنْ ثَمَّ - الميزان الوحيد الذي يرجع إليه الإنسان في كل مكان وفي كل زمان؛ بتصوراته وقيمه، ومناهجه ونظمه، وأوضاعه وأحواله، وأخلاقه وأعماله ليعلم أين هو من الحق، وأين هو من الله. وليس هنالك ميزان آخر يرجع إليه، وليس هنالك مقررات سابقة ولا مقررات لاحقة يرجع إليها في هذا الشأن، إنما هو يتلقى قيمه وموازينه من هذا التصور، ويكيِّف بها عقله وقلبه، ويطبع بها شعوره وسلوكه، ويرجع في كل أمر يعرض له إلى ذلك الميزان: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء: من الآية59)»(2) ا.هـ.(/1)
وقال الإمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9): «ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهدًا برب العالمين جل وعلا يهدي للتي هي أقوم؛ أي الطريقة التي هي أسدُّ وأعدل وأصوب ... وقال الزجاج والكلبي والفراء: للحال التي هي أقوم الحالات، وهي توحيد الله والإيمان برسله.
وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها؛ فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم، لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خير الدنيا والآخرة»(3).
وقد جعلت عنوان هذه الرسالة الآية الكريمة من سورة البقرة؛ وهي قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وذلك لأنطلق منها في بيان عظمة هذا الدين وشموله، وبركته وخيره على البشرية، موضحًا في هذه الدراسة إن شاء الله تعالى بعضًا من جوانب عدله، ووسطيته وتوازنه في عقائده وأحكامه، وما فيه من الميزان الحق، واليسر والخير والتوافق مع العقل السليم والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
ونظرًا لبعدنا عن تدبر كتاب ربنا عز وجل وانشغالنا عن ذلك بمناهج بشرية جاهلة ظالمة؛ بعضها يضخم جانب العقل، والبعض الآخر يضخم جانب الروح، وبعضها يقدس أقوال الرجال وآراءهم، وغير ذلك من مصادر التلقي المنحرفة؛ كل ذلك نشأ عنه مناهج ومواقف معوجة غير متوازنة؛ بعضها ينزع إلى الغلو والإفراط، وبعضها ينزع إلى الجفاء والتفريط. والخير كله والعدل والشمول والتوزان موجود في كتاب ربنا عز وجل الذي: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) وصدق الله العظيم في وصف المناهج البشرية بقوله سبحانه: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: من الآية82).
ولقد ظهرت في واقعنا المعاصر مواقف وأفكار مضطربة وغريبة على منهج الكتاب والسنة، ومخالفة لمنهج السلف الصالح أصحاب القرون المفضلة. ولو أن هذه المواقف صدرت عن طوائف الضلال والبدع لكان الأمر غير مستغرب لأن كل إناء بما فيه ينضح، ولكن المستغرب صدورها من بعض المنتسبين والداعين إلى طريقة السلف الصالح؛ مما أدى إلى تشويه الحق أو لبسه بالباطل، كما أدى إلى مزيد من الفرقة والاختلاف بين أصحاب المنهج الحق الواحد.
وفي ضوء كل ما سبق تأتي هذه الرسالة الجديدة من سلسلة الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم لبيان عظمة هذا الدين، وشموله وكماله، وتوازنه وعدله، وأثر ذلك في توازن وضبط الأفكار والحركات والمواقف ودفعها إلى فعل الخير المثمر في الدنيا والآخرة.
وقد دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع الهام أمور كثيرة أشير فيما يلي إلى أهمها:
الأمر الأول:
ما ظهر في حياة كثير من الناس من المخالفة لحد الاعتدال في هذا الدين - سواء إلى الغلو أو إلى التقصير - ويتضح هذا في كثير من جوانب الدين سواء ما كان منه في جانب الاعتقاد؛ كمفهوم الإيمان، والقدر، والأسماء والصفات، والتوكل والخوف والرجاء، أو ما كان منه في جانب العبادة والنسك ما بين غال ومقصر، أو في جانب الأخلاق والسلوك ما بين مُفرِّط ومُفْرِط.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وكلا طرفي الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها، والأخلاق الفاضلة كلها وسط بين طرفي إفراط وتفريط، وكذلك الدين المستقيم وسط بين انحرافين، وكذلك السنة وسط بين بدعتين»(4).
الأمر الثاني :
ما ظهر في هذه الأزمنة المتأخرة من فهم منحرف لمعنى (الوسطية)(5) والأمة الوسط؛ حيث أصبحنا نقرأ ونسمع من بعض المنتسبين للعلم والدعوة تفسيرًا غريبًا لمفهوم الوسطية في هذا الدين يخالف المفهوم الشرعي الصحيح لها. وقد أثمر هذا المفهوم المنحرف للوسطية عندهم إلى تمييع الدين وأحكامه وعدم أخذه بقوة وجد، وهذا بدوره أدى إلى بعض التنازلات في ثوابت هذا الدين وأخلاقه وقيمه؛ زاعمين أن هذا من الوسطية والمرونة والتيسير، وبخاصة في هذا الزمان الذي كثر فيه الفساد وكثرت فيه الضغوط، فلا بد من التوسط في أخذ هذا الدين حتى لا ينفر الناس منه.(/2)
وهذا المفهوم المنحرف لمعنى الوسطية له ما يفسره، لكن ليس له ما يبرره، وقد انطلق بعض من يدعو إلى هذه الأفكار من الفهم الخاطئ للتشديد والتيسير؛ حيث يرى بعضهم أن الالتزام بهذا الدين وأخذه بقوة كما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيعه كثير من الناس في هذا الزمان، وأن دعوة الناس إلى ذلك هو من التشديد والغلو المنافي للوسطية، ولذلك أصبحنا نسمع من بعض العوام بل من بعض الدعاة من َيصِمْ بعض أبنائه أو إخوانه الملتزمين بالسنة الصحيحة في عبادتهم وسلوكهم بأنه متشدد أو متطرف. وهذا كله إنما نشأ من الفهم المنحرف للوسطية والتشديد والتيسير؛ فلا بد إذن من تحرير مفهوم الوسطية كما جاء عن السلف الصالح رضي الله عنهم.
الأمر الثالث:
وهو فرع عن الذي قبله، ألا وهو:
ظهور ما يسمى بأنصاف الحلول أو الحلول الوسطية من قبل بعض المشتغلين بالدعوة. ويقصدون بالحلول الوسطية أن لا يبقى الدعاة في مواقفهم المتصلبة القوية من الطواغيت والبراءة منهم ومن شركهم؛ لأن مثل هذه المواقف لم تجر إلا الضرر على الدعوة والقضاء على أهلها، فكان لا بد من التنازل عن بعض هذه المواقف المتصلبة ومد الجسور مع أعداء الدعوة والاتفاق معهم على حلول وسط ينتفع منها الطرفان ويتنازل كل منهما للآخر ويسمون ذلك وسطية، ولا يخفى ما في هذه الممارسات من انحراف لمفهوم الوسطية عن معناها الشرعي الذي هو العدل والقسط المرضي لله تعالى، فهل التنازل عن جوانب من العقيدة أو الأحكام هو من صفات الأمة الوسط التي اختصها الله تعالى بسبب وسطيتها بالشهادة على الناس؟! وهل هذا التنازل هو ما يرضي الله تعالى؟!.
الأمر الرابع:
في مقابل المفهوم المتميع للوسطية ظهرت بعض التفسيرات الغالية للوسطية؛ وذلك بتبرير بعض المواقف المتشددة الغالية بأنها من صفات الأمة الوسط المأمورة بأخذ الدين بقوة؛ مما نتج عنه مواقف ومعالجات خاطئة لظاهرة الاختلاف الحاصل بين الدعاة وطلبة العلم. وما نشأ ذلك إلا بسبب فقدان التوازن والوسطية في بعض الأخلاق والمعاملات؛ ومن ذلك التطرف في معالجة الأخطاء: ما بين غالٍ في الحب والتقدير لبعض الأشخاص فلا يرى أخطاءهم إلا بمنظار الحسن والتبرير، وغالٍ في الكره والخصومة فلا يرى إلا الأخطاء، وما كان من صواب فيسيء الظن بصاحبه.
وإن مثل هذه المواقف - فوق أنها فاقدة للتوازن والوسطية والعدل - يدخل فيها الهوى وحظ النفس، والوسط والعدل بين هذين الطرفين. ولا أبالغ إذا قلت إن الفُرقة الحاصلة اليوم بين أهل السنة إنما يعود السبب الأكبر فيها إلى فقدان الوسطية والعدل والتوزان في علاج الخلاف.
ولعل في هذه الدراسة مساهمة أقدمها لنفسي ولجميع المنتسبين لأهل السنة والجماعة؛ حتى نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر نحب الألفة والاجتماع، ونكره الفرقة والاختلاف، ولنكون من الأمة الوسط العادلة الشاهدة على الناس، وبخاصة في هذه الأزمنة التي تكالب فيها الأعداء على المسلمين من كل صوب، ورموهم عن قوس واحدة، فتعينت المحافظة على وحدة الصف الداخلي في مواجهة العدو الخارجي المخالف لنا في أصل الملة وليس في مسألة أو مسائل فرعية؛ لأن الفقه في الدين ومقاصد الشريعة، والتحلي بالعدل والإنصاف يفرضان على المسلمين تآلفهم وتحمل خلافاتهم الجزئية أمام الطامة الكبرى التي يريدها الكفار بالإسلام والمسلمين.
والمقصود أن غياب الوسطية واضطراب الميزان يقود إلى الإجحاف ومجانبة الرفق في تقويم الرجال والكتب والمواقف، وعدم إعذار من له عذر، وهذا بدوره يقود إلى التفرق والتعصب والغلو والعدوان. وعند فقد الميزان والوسطية والعدل تصبح الكبائر التي يعملها الشخص أو من معه في طائفته من اللمم والصغائر، وتنقلب الصغائر والاجتهادات الخاطئة إلى كبائر حينما تقع من الآخرين.
وهذه الظواهر لا يشك أحد في وجودها اليوم بين بعض العاملين في حقل الدعوة؛ وسببها غياب الميزان الحق والوسطية والعدل التي هي من أبرز سمات هذا الدين، ومن أخص خصائص هذه الأمة الوسط التي اختارها الله عز وجل لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولتكون شاهدة على الناس.
الأمر الخامس :
ظهور بعض المتحمسين للدعوة والغيرة على الدين ممن لم يكن لهم علم كافٍ بمقاصد الشريعة، وبمبدأ الموازنات في الشريعة الإسلامية؛ حيث ركَّزت طائفة منهم النظر في المفاسد المترتبة على الأخذ ببعض القضايا المستجدة دون مراعاة لما فيها من المصالح، وطائفة أخرى ركزت على ما فيها من المصالح بغض النظر عن ما يترتب عليها من المفاسد وكلا الطرفين مذموم. والحق هو الموازنة؛ فما كانت محصلته الخير والصلاح في الدين أو الدنيا أُخذ به ولو كانت فيه مفاسد قليلة ترجح بها كثرة المصالح كمًا أو كيفًا. وما كان محصلته الفساد والشر فإنه يترك ولو ظهرت فيه بعض المصالح التي ترجح بها كثرة المفاسد كمًا أو كيفاً.(/3)
والمقصود أن ظاهرة الأحادية في النظرة والتعصب لها توجد اليوم من بعض الغيورين، وهي بدورها توقع أصحابها في مصادمة دائمة مع إخوانهم الدعاة، بل قد توقعهم في مصادمة مع بعضهم البعض أو مع أنفسهم.
والوسطية والعدل والتوازن في الأخذ بمبدأ الموازنات هو أصل عظيم في تشريع الأحكام والحكم على النوازل، ورحم الله من قال: «ليس الفقيه من يعلم الخير من الشر، ولكن الفقيه من يعلم خير الخيرين وشر الشرين».
الأمر السادس:
إن الإلمام بخاصية العدل والتوازن والوسطية في أحكام الله عز وجل الكونية منها والشرعية لمن أكبر العون على معرفة سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا تتغير، والتي تتسم بصفة الاطِّراد والثبات والشمول والتوازن. وهذا بدوره يقود إلى معرفة السنن الربانية في تغير المجتمعات سواء من سوء إلى حُسن أو عكس ذلك. وما أحوج الأمة اليوم إلى إدراك هذه السنن الربانية؛ وبخاصة دعاتها وعلماؤها ومجاهدوها الذين يقع عليهم عبء المسؤولية وثقل الأمانة في إنقاذ الأمة - بإذن الله تعالى - مما هي فيه من ذلة وشقاء وفساد.
وفي إدراك هذه السنن المطَّردة المتوازنة هداية إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير كما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، وفي المقابل فإنه عندما يكون الجهل أو الغفلة عن هذه السنن الربانية فإن ذلك مؤذن بالانحراف عن المنهج الصحيح للدعوة والتغيير والإصلاح.
الأمر السابع:
إن الحديث عن سمة الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين وأحكامه وأخلاقه ليبعث في النفس الغبطة والفرح والسرور، والفخر بدين الإسلام، وهذا بدوره يورث في النفس تعظيم الله عز وجل وحمده وشكره، وتعظيم دينه وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم الذي هدانا الله به إلى صراطه المستقيم؛ وبخاصة عندما ننظر إلى المناهج البشرية المضطربة التي فقدت هذه الخاصية فذهبت بها الأهواء تارة ذات اليمين، وتارة ذات الشمال. كما أن ذلك يبث في النفس الطمأنينة والثبات على هذا الدين، ويدفع المسلم إلى الدعوة لهذا الدين وإيصاله إلى الناس لينعموا به في الدنيا وتسعد حياتهم به وبما فيه من العدل والتوازن والشمول والكمال، ولتكمل سعادتهم في الدار الآخرة في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن خاصية التوازن في دين الإسلام: «... وقد صانته هذه الخاصية الفريدة من الاندفاعات هنا وهناك، والغلو هنا وهناك، والتصادم هنا وهناك؛ هذه الآفة التي لم يسلم منها أي تصور آخر. سواء التصورات الفلسفية، أو التصورات الدينية التي شوهتها التصورات البشرية بما أضافته إليها أو نقصته منها، أو أوَّلته تأويلاً خاطئًا وأضافت هذا التأويل الخاطئ إلى صلب العقيدة»(6).
وأكتفي بهذه البواعث التي دفعت إلى كتابة هذه الرسالة لتدل على غيرها من البواعث التي لم تذكر، والتي لا تبعد عما سبق، وإنما هي تفريعات لها.
وسيكون البحث في هذه الرسالة من خلال الأبواب والفصول التالية إن شاء الله تعالى:
الباب الأول : تفسير آية سورة البقرة (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) وما في معناها من الآيات والأحاديث.
الباب الثاني : مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وأمره.
وتحته فصلان:
الفصل الأول : من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره.
الفصل الثاني : من مظاهر العدل والتوزان في أمر الله عز وجل وشرعه.
وتحته مباحث :
المبحث الأول: من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الاعتقاد.
المبحث الثاني: من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى.
المبحث الثالث: من مظاهر العدل والوسطية والتوزان في العبادات.
المبحث الرابع: من مظاهر العدل والوسطية والتوزان في الأخلاق والمعاملات.
الخاتمة .
____________
(1) انظر ما كتبه الإمام الشنقيطي - رحمه الله تعالى - من كلام طويل ونفيس عند هذه الآية في تفسيره المبارك «أضواء البيان»: (3/372-417).
(2) «خصائص التصور الإسلامي»: (ص 49، 50).
(3) «أضواء البيان»: (3/372)، باختصار.
(4) «روضة المحبين» (ص 220).
(5) سيأتي إن شاء الله تعالى بيان المعنى الصحيح لمفهوم (الوسطية) في مبحث قادم.
(6) «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»: (ص 136).
الباب الأول
تفسير قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)
المقصود من استعراض أقوال السلف من تفسير هذه الآية هنا هو الوقوف على المعنى الحق لمفهوم (الوسطية) والأمة الوسط؛ وذلك حتى ننطلق من هذا المعنى الصحيح في ذكر الأمثلة والمظاهر المتنوعة لهذه السمة المميزة للإسلام وأهله.
وقد ورد تفسير (الأمة الوسط) في السّنة النّبويَّة، كما ذكر لها المفسرون عدّة معانٍ، وتفصيل ذلك كما يلي:(/4)
1- روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فتشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا فذلك قوله - جلَّ ذكره -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143). والوسط: العدل)(1).
2- وروى الطبري بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143) قال: «عدولاً»(2).
وقد ساق الطبري عددًا من الرِّوايات في هذا المعنى. ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوبًا إلى بعض الصَّحابة والتَّابعين؛ كأبي سعيد ومجاهد وغيرهما، حيث فسَّروها ب «عدولاً».
وكذلك نقل تفسير ابن عباس لها: «جعلكم أمة عدولاً».
وقال ابن زيد: هم وسط بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الأمم(3).
وقال الإمام الطبري: «وأمّا الوسط فإنه في كلام العرب: الخيار، يُقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرّفع في حسبه.
وهو وسط في قومه وواسط؛ قال زهير بن أبي سُلمى في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظَمِ
قال: وأنا أرى أن الوسط في هذا الموضع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطَّرفين، مثل وسط الدّار.
وأرى أن الله - تعالى ذكره - إنّما وصفهم بأنَّهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلوّ فيه، غلوّ النَّصارى الذين غلوا بالتَّرهُّب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه ولا هم أهل تقصير فيه، تقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربِّهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها.
وأمَّا التأويل فإنَّه جاء بأن الوسط العدل - كما سبق - وذلك معنى الخيار، لأنَّ الخيار من الناس عدولهم»(4).
3- قال ابن كثير(5): وقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). الوسط هنا: الخيار والأجود، كما يُقال في قريش: أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا.
ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصّلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصّحاح وغيرها.
وروى الإمام أحمد(6) عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة فيُقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيُقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد فيُقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، قال: فذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). قال الوسط: العدل، فتُدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم» وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة(7).
4- قال صاحب المنار: «(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143). وهو تصريح بما فهم من قوله: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (البقرة: من الآية213). أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمّة وسطًا.
قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار؛ وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنّقص عنه تقصير وتفريط، وكلُّ من الإفراط والتَّفريط ميْلٌ عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما»(8).
5- وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143): «أي: عدلاً وخيارا، وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطًا في كل أمور الدّين؛ وسطًا في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود، بأن آمنوا بهم كلُّ على الوجه اللائق بذلك.
ووسطًا في الشّريعة؛ لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى.
وفي باب الطّهارة والمطاعم؛ لا كاليهود الذين لا تصحّ لهم صلاة إلاّ في بِيَعِهِمْ وكنائسهم، ولا يطهّرهم الماء من النجاسات، وقد حرّمت عليهم طيِّبات عقوبة لهم.
ولا كالنصارى الذي لا يُنجسّون شيئًا ولا يحرّمون شيئًا، بل أباحوا ما دبَّ ودرج.
بل طهارتهم - أي هذه الأمة - أكمل طهارة وأتمّها، وأباح لهم الطيّبات من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وحرَّم عليهم الخبائث من ذلك.
فلهذه الأمّة من الدّين أكمله، ومن الأخلاق أجلّها، ومن الأعمال أفضلها.(/5)
ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا: (أُمَّةً وَسَطاً) كاملين معتدلين، ليكونوا: (شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ). بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على النَّاس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم»(9).
6- وقال سيد قطب - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها؛ فيقرر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها؛ ويزين ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة .. وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها لتعرفها، ولتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادًا لائقًا.
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي..
«أمة وسطًا» في التصور والاعتقاد لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.
«أمة وسطًا» في التفكير والشعور؛ لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة. ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول؛ ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب؛ وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، وفي تثبت ويقين.
«أمة وسطًا» .. في التنظيم والتنسيق .. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب؛ وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان .. ولكن مزاج من هذا وذاك.
«أمة وسطًا» .. في الارتباطات والعلاقات .. لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة؛ ولا تطلقه كذلك فردًا أثرًا جشعًا لا هم له إلا ذاته .. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادمًا للجماعة، والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.
«أمة وسطًا» .. في المكان .. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعًا، وتشهد على الناس جميعًا؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء...»(10).
7- ويستدل الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً… الآية) (البقرة: من الآية143) على وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم فيقول: «ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمة خيارًا عدولاً؛ هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم، وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوه بهم، ورفع ذكرهم، وأثنى عليهم؛ لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر ملائكته أن تصلي عليهم، وتدعو لهم وتستغفر لهم.
والشاهد المقبول عند الله الذي يشهد بعلم وصدق؛ فيخبر بالحق مستندًا إلى علمه به، كما قال تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: من الآية86).
فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقًا من غير علمه به، وقد يعلمه ولا يخبر به، فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم ...»(11).
وبعد استعراض ما سبق من أقوال المفسرين يتبين لنا فهمٌ واضحٌ محددٌ لمعنى الوسطية المذكورة في صفة هذه الأمة وكونها أمة وسطًا.
وهذا الفهم يتحدد في معنيين هما:
الأول: الخيرية والأفضلية.
الثاني: التوازن والعدل والقيام بالحق، والبينية بين الإفراط والتفريط.(/6)
وكلا المعنيين داخل في الآخر؛ فإن الخيرية والأفضلية لم تتصف بها هذه الأمة إلا لكونها قائمة بالعدل والقسط والحق، ولكونها وسطًا بين الغالي والجافي. وكل من قام بالعدل والحق فهو الأولى بصفة الخيرية والفضل.
والوسطية والعدل والبينية تقتضي أن يكون هناك طرفان مذمومان يكتنفان الوسط والعدل.
أحدهما: ينزع إلى الغلو والإفراط.
والآخر: ينزع إلى التفريط والإضاعة والجفاء.
وفي هذا المعني يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «... وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط، ولا يبالي بأيهما ظفر: زيادة أو نقصان»(12).
ويحسن بنا في هذا المقام أن نتعرض لمفهوم الغلو والإفراط، ومفهوم الجفاء والتفريط بعد أن اتضح لنا معنى الوسط والعدل والتوازن.
أولاً : الغلو والإفراط :
قال الجوهري: «وغلا في الأمر يغلو غلوًّا أي: جاوز فيه الحد»(13).
وقال في اللسان: «وغلا في الدين والأمر يغلو غلوًّا: جاوز حده، وقال في التنزيل (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء: من الآية171).... وقال بعضهم: غلوت في الأمر غلوًّا وغلانية وغلانيًا إذا جاوزت فيه الحد وأفرطت فيه ... ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النبت: ارتفع وعظم»(14).
وقد جاء في القرآن الكريم النهي عن الغلو في الدين في أكثر من موضع؛ ومن ذلك:
قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) (النساء: من الآية171).
قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «... والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد، ومنه: غلا السعر. وقال الزجاج: الغلو: مجاوزة القدر في الظلم ... وغلو النصارى في عيسى قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة»(15).
وقوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (المائدة:77).
قال الإمام الطبري - رحمه الله تعالى -: «لا تُفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل. فتقولوا فيه: هو الله أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبدالله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه»(16).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والنصارى أكثر غلوًا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن»(17).
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في آية المائدة: «أي: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ولا تُطْروا من أُمِرْتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله»(18).
كما جاء النهي عن الزيادة والتكلف في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (صّ:86).
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: «أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: ما أسألكم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرًا تعطونيه من عَرَض الحياة الدنيا (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي: وما أزيد على ما أرسلني الله به ولا أبتغي زيادة عليه، بل ما أُمِرْتُ به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه، وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة»(19).
وأما في السنة فقد وردت أحاديث كثيرة تنهى عن الغلو والتشديد في الدين، وذكر بعضها هنا يساعد في فهم معنى الغلو وحدوده.
الحديث الأول: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، غداة جمع: (هلمّ القط لي الحصى)، فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلمَّا وضعهنَّ في يده قال: (نعم بأمثال هؤلاء وإيّاكم والغلوّ في الديّن فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدّين)(20).
الحديث الثاني: عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطّعون). قالها ثلاثًا(21).
قال النَّوويُ: «هلك المتنطّعون: أي المتعمِّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم»(22).
الحديث الثالث: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول: "لا تشدِّدوا على أنفسكم فيُشدِّد الله عليكم؛ فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيار (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) (الحديد: من الآية27)"(23).(/7)
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في تعليقه على هذا الحديث: «فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين؛ وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه؛ إما بالقَدَر وإما بالشرع؛ فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل فيلزمه الوفاء به.
وبالقدر: كفعل أهل الوسواس؛ فإنهم شددوا على أنفسهم فشدد عليهم القدر حتى استحكم ذلك وصار صفة لازمة لهم»(24).
الحديث الرابع: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)(25).
قال ابن رجب - رحمه الله تعالى -: «والتسديد: العمل بالسداد؛ وهو القصد والتوسط في العبادة؛ فلا يقصر فيما أمر به ولا يتحمل ما لا يطيقه»(26).
الحديث الخامس: عن عبدالرحمن بن شبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اقرؤا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به، ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه)(27).
الحديث السادس: عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فحمد الله وأثنى عليه وقال: (ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؛ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(28).
وعند البخاري: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(29).
ومن خلال الأحاديث السابقة يتبين لنا معنى الغلو وحده وأنه مجاوزة الحد وتعدي ما أمر الله به، أو فعل ما لم يشرعه الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
«ومن الألفاظ المرادفة لمعنى الغلو: الإفراط. وهو يشترك مع الغلو في كونه مجاوزة للحد، وان كان كل واحد منهما يحمل معنى أبلغ من الثاني في بعض ما يستعمل فيه؛ فالذي يشدد على نفسه بتحريم بعض الطيبات أو بحرمان نفسه منها يكون وصف الغلو ألصق به، والذي يعاقب من اعتدى عليه عقوبة يتعدى بها حدود مثل تلك العقوبة يكون وصف الإفراط ألصق به من الغلو»(30).
والمقصود أن كلاًّ من الغلو والإفراط خروج عن الوسطية.
ثانيًا : التفريط والجفاء :
بعد ما تعرفنا على معنى الغلو والإفراط، وأنه مجانب للوسطية، نقف في هذه الفقرة لنتعرف على الطرف الآخر المقابل له، ألا وهو التفريط والإضاعة والذي هو الآخر مجانب للوسطية والعدل والميزان المستقيم. فما معنى التفريط؟
قال في اللسان: «التفريط: هو التضييع. وقال الزجاج: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: من الآية28) أي: كان أمره التفريط وهو تقديم العجز، وفرط في الأمر يفرط فرطًا. أي: قصَّر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط»(31). ا.هـ.
وقال الجوهري: «فرَّط في الأمر فرطًا: أي قصر فيه وضيعه حتى فات، وكذلك التفريط»(32).
وقد وردت مادة (فرط) في القرآن في عدَّة مواضع:
قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) (الأنعام: من الآية31).
قال الطبري: يقول: يا ندامتنا على ما ضيَّعنا فيها.
قال السّديّ: أما (يَا حَسْرَتَنَا). فندامتنا على ما فرَّطنا فيها، فضيَّعنا من عمل الجنة(33).
وقال القرطبي: وفرَّطنا معناه ضيَّعنا، وأصله التقدّم؛ يقال: فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه: (أنا فرطكم على الحوض)(34) ... ومنه في الدعاء للصبي: اللهم اجعله فَرَطًا لأبويه؛ فقولهم: (فَرَّطْنَا). أي: قدَّمنا العجز. وقيل: «فرّطنا» أي: جعلنا غيرنا الفارط السَّابق لنا إلى طاعة الله وتخلّفنا(35).
وقال تعالى في سورة الأنعام - أيضًا -: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية38).
قال الطبريّ: معناه: ما ضيَّعنا إثبات شيء منه.
وقال ابن عبَّاس: ما تركنا شيئًا إلاّ قد كتبناه في أمّ الكتاب.
وقال ابن زيد: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ). قال: لم نغفل، ما من شيء إلاّ وهو في الكتاب(36).
وقال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (الأنعام: من الآية61).(/8)
قال الطبريّ: قد بيَّنَّا أنَّ معنى التَّفريط: التَّضييع فيما مضى قبل، وكذلك تأوّله المتأوِّلون في هذا الموضع.
قال ابن عبَّاس: «لا يُفرّطون». لا يضيِّعون.
وكذلك قال السّديّ: «لا يفرّطون». لا يضيِّعون(37).
وفي سورة يوسف: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) (يوسف: من الآية80).
قال الطبريّ: ومن قبل فعلتكم هذه تفريطكم في يوسف، يقول: أولم تعلموا من قبل هذا تفريطكم في يوسف(38).
قال القاسميّ: (فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ). قصَّرتم في شأنه(39).
وبالتعرف على معنى التفريط نكون قد أحطنا علمًا بالطرفين المذمومين المخالفين للوسطية والعدل، وهما: طرف الغلو والإفراط، وطرف التفريط والتقصير، وأن الميزان العدل وسط بينهما في كل الأمور.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - مبينًا منهج السلف القائم على العدل والوسط: «والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرًا - وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسُّنة - فإن الشيطان يَشُمُّ قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية للبدعة، وإعراضًا عن كمال الانقياد للسُّنة أخرجه عن الاعتصام به؛ وإن رأى فيه حرصًا على السُّنة، وشدة طلب لها لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها؛ فأمره بالاجتهاد والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها، قائلاً له: إن هذا خير وطاعة، والزيادة والاجتهاد فيها أكمل؛ فلا تفتر مع أهل الفتور، ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها؛ فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج عن هذا الحد، فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر.
وهذا حال الخوارج الذين يَحْقِر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السُّنة إلى البدعة؛ لكن هذا إلى بدعة التفريط، والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان. إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، وهي الإفراط. ولا يبالي بأيهما ظفر زيادة أو نقصان»(40).
ويقول - رحمه الله تعالى - في موطن آخر: «وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان فإما إلى غلو ومجاوزة وإما إلى تفريط وتقصير، وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم، وهذان المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذَّر السلف منهما أشد التحذير وخوَّفوا من ابتلي بأحدهما بالهلاك. وقد يجتمعان في الشخص الواحد كما هو حال أكثر الخلق؛ يكون مقصرًا مفرطًا في بعض دينه، غاليًا متجاوزًا في بعضه، والمهدي من هداه الله»(41) ا.هـ.
تنبيه :
ما دام أن الوسطية سمة بارزة في هذا الدين، وأنه قائم على العدل والوسط والتوزان بين طرفي الغلو والتقصير، فإنه ينبغي الحذر ونحن في صدد الحديث عن الغلو والجفاء من أن نقع في الغلو في فهمنا للغلو والإفراط، أو في فهمنا للتفريط والتقصير. ذلك أن بعض الناس قد يفسر التمسك بالدين عقيدة وعبادة وشريعة وأخذ ذلك كله بقوة والالتزام بالسنة، قد يفسر ذلك بالغلو والتشديد وهذا غلط وغلو في الغلو؛ ففرق بين الملتزم بدينه المتمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الثابت على عقيدته في ضوء الكتاب والسنة وبين من يشدد على نفسه بأمور لم تشرع في هذا الدين، أو يتجاوز حدود الله عز وجل في الآخرين قاصدًا بذلك التدين والتعبد لله تعالى.
فالأول ممدوح ومحبوب لله عز وجل، وأهله هم المتقون القابضون على دينهم قبض الجمر أيام الصبر والفتن، وهم أهل الله عز وجل وخاصته، وهم الطائفة المنصورة مهما قال عنهم المخالفون أو المخذلون ورموهم به من صفات الغلو والتنطع والتطرف؛ فإنهم كما جاء وصفهم في حديث الطائفة المنصورة: «لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله»(42).
أما الفئة التي غلت في دين الله تعالى وتعبدت لله تعالى بما لم يأذن به سبحانه أو بما يسخط الله تعالى فهي الفئة التي يصدق عليها وصف الغلو والتطرف والتنطع.
وفي مقابل من يغلو في فهم الغلو فإن هناك من يغلو في فهم التفريط والتقصير؛ وذلك بأن ينظر إلى بعض اجتهادات الراسخين في العلم وما يفتون به في بعض النوازل والمستجدات مما هو قائم على الموازنة عند تزاحم المفاسد والمصالح، مما ينتج عنه ترك لبعض الأوامر أو لبعض السنن أو فعل لبعض المنهيات؛ فينظر الغالي في فهم التقصير والتفريط إلى هذه الاجتهادات على أنها إضاعة وتفريط وتقصير في أمر هذا الدين، دون أن ينظر إلى ما يقابل ذلك من مصالح عظيمة فيها حفظ مقاصد الدين والشريعة.(/9)
وعلى كل حال فإن مسألة الموازنات في المصالح والمفاسد شأنها عظيم ولا يصلح أن يشتغل بها إلا الراسخون في العلم، المجتهدون الربانيون الذين حباهم الله رسوخًا في العلم والتقوى، وحماهم من الهوى وأغراض الدنيا؛ فهؤلاء هم الذين تتبع الأمة فتاواهم ومواقفهم لأنهم وإن بدا للوهلة الأولى أن في فتاواهم تقصيرًا، فإنهم قد انطلقوا في تقريرها من ضوابط شرعية دقيقة، ومن تجرد وإخلاص. فمثل هذه الفتاوى لا يقال عنها إنها تفريط وتقصير، وإنما هي من العدل والحق إن شاء الله تعالى. نعم لو أن من يتصدى لذلك كان من غير المعروفين بالرسوخ في العلم أو من المعروفين بالهوى وحظوظ الدنيا؛ فإن فتاواهم في الغالب تنطلق من هوى أو دون ضوابط شرعية، وحينئذ يصدق على أمثال هؤلاء وصفهم بالتفريط والإضاعة.
ذكر بعض الآيات التي ورد فيها القيام بالقسط والأمر به:
الآية الأولى: قوله تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18).
الآية الثانية: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:135).
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «فأمر سبحانه بالقيام بالقسط - وهو العدل - في هذه الآية، وهذا أمر بالقيام به في حق كل أحد عدوًا كان أو وليًّا، وأحق ما قام له العبد بقصدٍ: الأقوال والآراء والمذاهب؛ إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره.
فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد لأمر الله، مُنافٍ لما بعث به رسوله.
والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته وأمنائه بين أتباعه، ولا يستحق اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده. وأولئك هم الوارثون حقًا، لا من يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه معيارًا على الحق وميزانًا له، يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته، فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل أحد؟ وهو في هذا الباب أعظم فرضًا، وأكبر وجوبًا»(43).
الآية الثالثة: قوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا) (هود: من الآية1121).
«فالاستقامة: الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف ... وإنه لمما يستحق الانتباه هنا أن النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة، لم يكن نهيًا عن القصور والتقصير، إنما كان نهيًا عن الطغيان والمجاوزة ... والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته كالتفريط والتقصير»(44).
الآية الرابعة: قوله تعالى: (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (الشعراء:182، 183).
وهذه الآية وإن كانت في قوم شعيب الذين كانوا ينقصون المكيال لكنها تشمل كل وزن بالقسطاس والعدل في أي أمر حسي أو معنوي.
وفي هذا المعنى أيضًا قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (المطففين:1-3)، وهي وإن كانت في المكيال والميزان لكنها تحذر من التطفيف في كل شيء وتنهى عن أن يكون للرجل معياران: إن كان لنفسه ومن يحب وفَّى، وإن كان لغيره أو خصمه نقصه وبخسه حقه، وإنما الواجب أن يكون للمرء معيار واحد؛ وهو الميزان العدل مع من يحب ومن يبغض.
الآية الخامسة: قوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: من الآية25).(/10)
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - عند قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ): «وهو النقل الصدق، (وَالْمِيزَانَ) وهوالعدل؛ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة، كما قال تعالى: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) (هود: من الآية17)، وقال تعالى: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم: من الآية30)، وقال تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) (الرحمن:7). ولهذا قال في هذه الآية (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: من الآية25) أي بالحق والعدل وهو: اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به؛ فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) (الأنعام: من الآية115) أي صدقًا في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي؛ ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات والمنازل العاليات والسرر المصفوفات: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (الأعراف: من الآية43)»(45).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على النفس»(46).
والآيات في ذكر العدل والقسط والأمر به ومدح أهله وذم أهل الجور والعدوان وأهل الإضاعة والتفريط كثيرةٌ جدًا، وليس المقصود استقصاؤها في هذا المقام، وإنما المراد الإشارة إلى أن العدل والحق هو أصل هذا الدين وسمته الرئيسة، وهو الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل حتى يقوم أعظم العدل وهو عبادة الله عز وجل وتوحيده بلا ند ولا شريك، ثم العدل مع الخلق وإعطاؤهم حقوقهم وعدم بخسهم أشياءهم، ثم العدل مع النفس دون غلو ولا إفراط، ودون تقصير ولا تفريط. فما أعظمه من دين، وما أجله من تشريع جاء لإسعاد الناس وإخراجهم من ظلمات الشرك والبغي والعدوان إلى نور التوحيد والعدل والقسطاس المستقيم؛ فنحمده سبحانه على الهداية لهذا الدين القويم العظيم ونسأله عز وجل أن يثبتنا عليه وأن يميتنا عليه، وأن يجعلنا من الداعين إلى سبيله المستقيم، وأن يكتب على أيدينا إخراج من يشاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادته وحده سبحانه، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
_____________
(1) البخاري (4487)، وقال الحافظ في الفتح: (8/22) قوله: (الوسط: العدل) هو مرفوع من نفس الخبر وليس بمدرج من قول بعض الرواة كما وهم فيه بعضهم.
(2) تفسير الطبري: (2/7)، والحديث رواه الترمذي: (5/190)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2361).
(3) تفسير الطبري: (2/7).
(4) تفسير الطبري: (2/6).
(5) عمدة التفسير عن ابن كثير: (1/263) تحقيق: أحمد شاكر.
(6) المسند: (3/32).
(7) سبق تخريجه عند البخاري، والترمذي (ص 17) من هذا الكتاب، وهو عند ابن ماجة برقم (4284).
(8) تفسير المنار: (2/4).
(9) تفسير السعدي: (1/157).
(10) في ظلال القرآن: (1/131).
(11) بدائع التفسير: (1/369).
(12) مدارج السالكين: (2/342)، ط. دار طيبة.
(13) مختار الصحاح: (6/2448).
(14) لسان العرب: مادة (غلا).
(15) انظر زاد المسير: (2/260).
(16) تفسير الطبري: (6/316).
(17) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/289).
(18) تفسير ابن كثير: (2/82).
(19) تفسير ابن كثير عند الآية (86) من سورة: ص.
(20) النسائي: (5/268) برقم (3057)، وابن ماجة: (3029)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1283).
(21) مسلم: (2670).
(22) شرح مسلم للنووي: (16/220).
(23) أبو داود: (4904)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود: (1049).
(24) عن كتاب إغاثة اللهفان: (1/132).
(25) البخاري: (39).
(26) المحجة في سير الدلجة: (ص 51).
(27) أحمد: (3/428)، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (1168).
(28) مسلم: (1401).
(29) البخاري: (5063).
(30) انظر الوسطية في ضوء الكتاب والسنة، للدكتور ناصر العمر.
(31) لسان العرب: مادة (فرط).
(32) مختار الصحاح: (3/1148).
(33) انظر تفسيرالطبري: (7/178).
(34) أخرجه البخاري في الرقاق: (6575)، ومسلم في الفضائل: (2297).
(35) انظر تفسير القرطبي: (6/413).
(36) انظر تفسير الطبري: (7/188).
(37) انظر تفسير الطبري: (7/218).
(38) المصدر نفسه: (13/35).
(39) انظر تفسير القاسمي: (9/3579).
(40) مدارج السالكين: (2/342)، ط. دار طيبة.
(41) الروح لابن القيم: (545)، دار إحياء العلوم.
(42) أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم (4252)، وبنحوه عند مسلم في الإمارة (1924)، وغيرهما.
(43) بدائع التفسير: (2/81، 82).(/11)
(44) في ظلال القرآن: (4/1931) باختصار.
(45) تفسير ابن كثير: عند الآية (25) من سورة الحديد.
(46) مجموع الفتاوى: (10/99).
الباب الثاني
من مظاهر العدل والتوزان في خلق الله تعالى وأمره
قال الله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54). فالخلق خلقه والأمر أمره، وهو الحكيم الخبير الذي أحسن كل شيء خلقه، والذي قام خلقه وأمره على الحق والعدل والميزان المستقيم.
قال تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ) (الملك: من الآية3)، وقال تعالى: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (الأحقاف:3)، وقال عن كتابه الكريم المتضمن لأمره وشرعه: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:41،42)، وقال أيضاً عن شمول كتابه الكريم: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: من الآية89)، وقال سبحانه عن إتقانه لمخلوقاته: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل: من الآية88).
ومناسبة إيراد الآيات السابقة لموضوع البحث هو ما تضمنته هذه الآيات من ذكر شمول علم الله عز وجل وبديع صنعه وحكمته البالغة في خلقه وأمره وشرعه، وما فيها من الدقة والتناسق والتوازن والعدل وقيام ذلك كله بالحق وللحق.
يتحدث الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54) فيقول: «فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره، ... ولهذا يقرن سبحانه بينهما عند ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته؛ إذ هما مصدر الخلق والأمر ...»(1).
وقال في موطن آخر: «فانظر حكمة الله عزّ وجلّ في خلقه وأمره فيما خلقه وفيما شرّعه تجد مصدر ذلك كله الحكمة البالغة التي لا يختلّ نظامها ولا ينخرم أبدًا ولا يختلّ أصلاً، ومن الناس مَن يكون حظّه من مشاهدة حكمة الأمر أعظم من مشاهدة حكمة الخلق، وهؤلاء خواصّ العباد الذين عقلوا عن الله أمره ودينه، وعرفوا حكمته فيما أحكمه، وشهدت فطنهم وعقولهم أن مصدر ذلك حكمة بالغة وإحسان ومصلحة أريدت بالعباد في معاشهم ومعادهم، وهم في ذلك درجات لا يحصيها إلاّ الله.
ومنهم من يكون حظّه من مشاهدة حكمة الخلق أوفر من حظّه من حكمة الأمر؛ وهم أكثر الأطباء الذين صرفوا أفكارهم إلى استخراج منافع النبات والحيوان وقِواها وما تصلح له مفردة ومركّبة؛ وليس لهم نصيب في حكمة الأمر إلاّ كما للفقهاء من حكمة الخلق بل أقلّ من ذلك.
ومنهم مَن فتح عليه بمشاهدة الخلق والأمر بحسب استعداده وقوّته فرأى الحكمة الباهرة التي بهرت العقول في هذا وهذا؛ فإذا نظر إلى خلقه وما فيه من الحكم ازداد إيمانًا ومعرفًة وتصديقًا بما جاءت به الرّسل، وإذا نظر إلى أمره وما تضمنه من الحكم الباهرة ازداد إيمانًا ويقينًا وتسليمًا، لا كمَن حجب بالصنعة عن الصانع، وبالكواكب عن مكوكبها، فعمي بصره وغلظ عن الله حجابه؛ ولو أعطى علمه حقه لكان من أقوى الناس إيمانًا لأنه اطّلع من حكمة الله وباهر آياته وعجائب صنعته الدالّة عليه وعلى علمه وقدرته وحكمته على ما خَفِيَ عن غيره. ولكن من حكمة الله أيضًا أن سلب كثيرًا من عقول هؤلاء خاصيّتها، وحجبها عن معرفته وأوقفها عند ظاهر من العلم بالحياة الدّنيا - وهم عن الآخرة هم غافلون - لدناءتها وخسّتها وحقارتها، وعدم أهليّتها لمعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأسرار دينه وشرعه والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وهذا باب لا يطّلع الخلق منه على ما له نسبة إلى الخافي عنهم منه أبدًا؛ بل علم الأوّلين والآخرين منه كنقرة العصفور من البحر، ومع هذا فليس ذلك بموجب للإعراض عنه واليأس منه بل يستدلّ العاقل بما ظهر له منه على ما وراءه»(2).
ويتحدث سيد قطب - رحمه الله - عن منهج الله القائم على العلم المطلق والحكمة البالغة في الخلق والشرع فيقول: «إن شريعة الله تمثل منهجًا شاملاً متكاملاً للحياة البشرية؛ يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية؛ في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها ..(/12)
وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة الإنسانية .. ومن ثم لا يفرط في شيء من أمور هذه الحياة، ولا يقع فيه ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني، ولا أي تصادم مدمر بين هذا النشاط والنواميس الكونية؛ إنما يقع التوازن والاعتدال والتوافق والتناسق .. الأمر الذي لا يتوافر أبدًا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرًا من الأمر، وإلا الجانب المكشوف في فترة زمنية معينة، ولا يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل الإنساني، ولا يخلو من التصادم المدمر بين بعض ألوان النشاط وبعض، و [من] الهزات العنيفة الناشئة عن هذا التصادم.
وهو منهج قائم على العدل المطلق .. أولاً: لأن الله يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق وكيف يتحقق .. وثانيًا: لأنه - سبحانه - رب الجميع؛ فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع، وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من الهوى والميل والضعف - كما أنه مبرأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط - الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان ذي الشهوات والميول، والضعف والهوى - فوق ما به من الجهل والقصور - سواء كان المشرع فردًا، أو طبقة، أو أمة، أو جيلاً من أجيال البشر .. فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها؛ فوق أن لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد ..
وهو منهج متناسق مع ناموس الكون كله؛ لأن صاحبه هو صاحب هذا الكون كله، صانع الكون وصانع الإنسان؛ فإذا شرع للإنسان شرع له كعنصر كوني، له سيطرة على عناصر كونية مسخرة له بأمر خالقه؛ بشرط السير على هداه، وبشرط معرفة هذه العناصر والقوانين التي تحكمها .. ومن هنا يقع التناسق بين حركة الإنسان وحركة الكون الذي يعيش فيه، وتأخذ الشريعة التي تنظم حياته طابعًا كونيًا، ويتعامل بها لا مع نفسه فحسب، ولا مع بني جنسه فحسب! ولكن كذلك مع الأحياء والأشياء في هذا الكون العريض الذي يعيش فيه ولا يملك أن ينفذ منه، ولا بدَّ له من التعامل معه وفق منهاج سليم قويم»(3).
وبعد هذه المقدمة المجملة عن سمة الشمول والتوزان والحق والعدل في خلق الله عز وجل وشرعه ندخل في تفصيل مظاهر هذا الشمول والتوازن والعدل والوسطية من خلال هذين الفصلين:
الفصل الأول : من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره.
الفصل الثاني : من مظاهر العدل والتوازن في أمر الله عز وجل وشرعه.
وتحته مباحث:
المبحث الأول: من مظاهر العدل والتوازن في أبواب الاعتقاد.
المبحث الثاني: من مظاهر العدل والتوازن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى.
المبحث الثالث: من مظاهر العدل والتوازن في العبادات.
المبحث الرابع: من مظاهر العدل والتوازن في المعاملات والأخلاق.
_____________
(1) بدائع التفسير: (2/218).
(2) مفتاح دار السعادة: (1/244، 245).
(3) في ظلال القرآن: (2/890).
الفصل الأول
من مظاهر العدل والتوازن في خلق الله تعالى وتقديره
قال الله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: من الآية2).
قال القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «أي قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد لا عن شهوة وغفلة، بل جرت المقادير على ما خلق الله إلى يوم القيامة وبعد القيامة؛ فهو الخالق المقدر فإياه فاعبدوه»(1).
وقال الشنقيطي - رحمه الله تعالى - في أضواء البيان عند هذه الآية: «قد جاء أيضًا في غير هذا الموضع كقوله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى:2،3)، وقوله تعالى: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ) (الرعد: من الآية8)، وقوله تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49) إلى غير ذلك من الآيات.
وقال ابن عطية: تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والإتقان»(2).
وقال سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «أي قدَّر حجمه وشكله، وقدَّر وظيفته وعمله، وقدَّر زمانه ومكانه، وقدَّر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير. وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه لمما يدعو إلى الدهشة حقًا، وينفي فكرة المصادفة نفيًا باتًا، ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير، وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: من الآية2). يقول كريسي موريسون رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان (الإنسان لا يقوم وحده).(/13)
(... ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان - مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره - من السيطرة على العالم، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر. وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك، ماثلاً في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات.
والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان. منذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا كسياج وقائي. ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا، وزاحم أهل المدن والقرى، وأتلف مزارعهم، وحال دون الزراعة.ولم يجد الأهالي وسيلة تصده عن الانتشار؛ وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت، يتقدم في سبيله دون عائق!
وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيراً حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار، ولا تتغذى بغيره، وهي سريعة الانتشار، وليس لها عدو يعوقها في استراليا. وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار. ثم تراجعت، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد.
وهكذا توافرت الضوابط والموازين، وكانت دائماً مجدية»(3).
ويقول في موطن آخر في الظلال: «إن التوازن ملحوظ في ملكوت السموات والأرض جميعًا ... إنه ملحوظ في بناء الذرة كما هو ملحوظ في بناء المجرة! وملحوظ في التوازن بين الأحياء وبين الأشياء سواء، ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائمًا لحظة، فمن الذي يمسك بعجلة التوازن الكبرى في السموات والأرض جميعًا»(4).
ثم يذكر رحمه الله تعالى - بعض صور هذه الموازنات والتقديرات الدقيقة الحكيمة فيقول: «ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى شيء من هذا التوازن في علاقات بعض الأحياء ببعض. إذ كنا قد أشرنا بشيء من التفصيل في سور أخرى إلى التناسق في بناء الكون، وفي ظروف الأرض ...
إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد، لأنها قليلة البيض، قليلة التفريخ، فضلاً على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة. وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار، ولو كانت مع عمرها الطويل كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها. أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان، وللقيام بأدوارها الأخرى، ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض!
بغاث الطير أكثرها فراخا وأم الصقر مُقِلاّتٌ نَزور
وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث.
الذبابة تبيض ملايين البويضات. ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين. ولو كانت تعيش بضعة أعوام، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه؛ ولغدت حياة كثير من الأجناس - وأولها الإنسان - مستحيلة على وجه هذه الأرض. ولكن عجلة التوازن التي لا تختل في يد القدرة التي تدبر هذا الكون، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه!
والميكروبات - وهي أكثر الأحياء عددًا، وأسرعها تكاثرًا، وأشدها فتكًا - هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمرًا. تموت بملايين الملايين من البرد، ومن الحر، ومن الضوء، ومن أحماض المعدات، ومن أمصال الدم، ومن عوامل أخرى كثيرة. ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان. ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء!
وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء. وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع. فكثرة العدد سلاح، وقوة البطش سلاح، وبينهما ألوان وأنواع.
الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها، والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل، ومن ثم يندر فيها السام!
والخنفساء - وهي قليلة الحيلة - مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة، تصبها على كل من يلمسها، وقاية من الأعداء!
والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز، والأسود مزودة بقوة البأس والافتراس!
وهكذا كل حي من الأحياء الصغار والكبار على السواء.
وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام .. الإنسان والحيوان والطير وأدنأ أنواع الأحياء سواء ..
البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي تلصق بالرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة، تمزق جدار الرحم حولها وتحوله إلى بركة من الدم المناسب لامتصاصها ونموها! والحبل السري الذي يربط الجنين بأمه ليتغذى منها حتى يتم وضعه، روعي في تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله، دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء إليه بما قد يؤذيه.(/14)
والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائلاً أبيض مائلاً إلى الاصفرار. ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض. وفي اليوم التالي للميلاد يبدأ اللبن في التكوين. ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوماً بعد يوم، حتى يصل إلى حوالي ليتر ونصف في اليوم بعد سنة، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات. ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل؛ بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير مكوّناته، وتتركز مواده، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى، بل يوماً بعد يوم بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو)(5)»(6).(/15)
واختم الكلام في هذا الباب عن مظاهر الحكم الباهرة والتوازن والعدل والإتقان في خلق الرحمن ببعض ما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه النفيس مفتاح دار السعادة؛ حيث أطال النفس في تعداد هذه الصور وعجائب صنع الله تعالى وحكمته فيها. ومن ذلك قوله - رحمه الله تعالى -: «أعِد الآن النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية، مَن الذي دبّرك بألطف التدبير وأنت جنين في بطن أُمك في موضع لا يد تنالك ولا بصر يدركك ولا حيلة لك في التماس الغذاء ولا في دفع الضر؟ فمن الذي أجرى إليك من دم الأُم ما يغذوك كما يغذو الماء النبات، وقلب ذلك الدم لبنًا ولم يزل يغذّيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسّب والطلب، حتى إذا كمل خلقك، واستحكم وقوي أديمك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الضياء، وصَلُبت عظامك على مباشرة الأيدي والتقلّب على الغبراء هاج الطّلق بأُمك، فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء، فركضك الرّحم ركضة من مكانك كأنه لم يضمّك قطّ ولم يشتمل عليك؟!. فيا بُعد ما بين ذلك القبول والاشتمال حين وُضِعت نطفة، وبين هذا الدّفع والطّرد والإخراج، وكان مبتهجًا يحملك فصار يستغيث ويعجّ إلى ربك من ثقلك. فمَن الذي فتح لك بابه حتى ولجت، ثم ضمّه عليك حتى حفظت وكملت، ثم فتح لك ذلك الباب ووسّعه حتى خرجت منه كلمح البصر لم يخنقك ضيقه ولم تحبسك صعوبة طريقك فيه؟!. فلو تأمّلت حالك في دخولك من ذلك الباب وخروجك منه لذهب بك العجب كل مذهب. فمَن الذي أوحى إليه أن يتضايق عليك وأنت نطفة حتى لا تفسد هناك؟ وأوحى إليه أن يتسع لك وينفسح حتى تخرج منه سليماً إلى أن خرجت فريدًا وحيدًا ضعيفًا لا قشرة ولا لباس ولا متاع ولا مال، أحوج خلق الله وأضعفهم وأفقرهم، فصرف ذلك اللبن الذي كنت تتغذّى به في بطن أُمك إلى خزانتين معلّقتين على صدرها تحمل غذاءك على صدرها كما حملتك في بطنها، ثم ساقه إلى تينك الخزانتين ألطف سَوق على مجارٍ وطرق قد تهيّأت له؛ فلا يزال واقفًا في طرقه ومجاريه حتى تستوفي ما في الخزانة فيجري وينساق إليك؛ فهو بئر لا تنقطع مادتها، ولا تنسدّ طرقها يسوقها إليك في طريق لا يهتدي إليها الطوّاف ولا يسلكها الرجال؟! فمَن رقّقه لك وصفّاه، وأطاب طعمه، وحسّن لونه، وأحكم طبخه أعدل إحكام، لا بالحارّ المؤذي ولا بالبارد الرديء، ولا المرّ ولا المالح ولا الكريه الرائحة؟! بل قلبه إلى ضرب آخر من التغذية والمنفعة خلاف ما كان في البطن فوافاك في أشدّ أوقات الحاجة إليه، على حين ظمأ شديد وجوع مُفرِط جمع لك فيه بين الشراب والغذاء، فحين تولد قد تلمّظت وحرّكت شفتيك للرضاع؛ فتجد الثدي المعلّق كالإداوة قد تدلّى إليك وأقبل بدره عليك، ثم جعل في رأسه تلك الحلمة التي هي بمقدار صغر فمك؛ فلا يضيق عنها، ولا تتعب بالتقامها، ثم نقب لك في رأسها نقبًا لطيفًا بحسب احتمالك، ولم يوسّعه فتختنق باللبن ولم يضيّقه فتمصه بكلفة، بل جعله بقدر اقتضته حكمته ومصلحتك، فمَن عطف عليك قلب الأم ووضع فيه الحنان العجيب والرحمة الباهرة حتى تكون في أهنأ ما يكون من شأنها وراحتها ومقيلها؛ فإذا أحسّت منك بأدنى صوت أو بكاء قامت إليك، وآثرتك على نفسها على عدد الأنفس، منقادة إليك بغير قائد ولا سائق إلاّ قائد الرحمة وسائق الحنان، تودّ لو أن كل ما يؤلمك بجسمها وأنه لم يطرقك منه شيء، وأن حياتها تُزاد في حياتك؟! فمَن الذي وضع ذلك في قلبها حتى إذا قوي بدنك، واتّسعت أمعاؤك، وخشنت عظامك، واحتجت إلى غذاء أصلب من غذائك ليشتدّ به عظمك ويقوى عليه لحمك وضع في فيك آلة القطع والطّحن؛ فنصب لك أسنانًا تقطع بها الطعام وطواحين تطحنه بها؟! فمَن الذي حبسها عنك أيام رضاعك رحمة بأُمّك ولطفًا بها، ثم أعطاكها أيام أكلك رحمة بك وإحسانًا إليك ولطفًا بك؟!. فلو أنك خرجت من البطن ذا سنّ وناب وناجذ وضرس، كيف كان حال أُمك بك؟ ولو أنك منعتها وقت الحاجة إليها كيف كان حالك بهذه الأطعمة التي لا تسيغها إلاّ بعد تقطيعها وطحنها؟ وكلما ازددت قوًة وحاجًة إلى الأسنان في أكل المطاعم المختلفة زِيدَ لك في تلك الآلات حتى تنتهي إلى النواجذ؛ فتطيق نهش اللحم، وقطع الخبز، وكسر الصلب، ثم إذا ازددت قوًة زِيدَ لك فيها حتى تنتهي إلى الطواحن التي هي آخر الأضراس؛ فمَن الذي ساعدك بهذه الآلات، وأنجدك بها، ومكّنك بها من ضروب الغذاء؟ ثم إنه اقتضت حكمته أن أخرجك من بطن أُمك لا تعلم شيئًا، بل غبيًّا لا عقل ولا فهم ولا علم، وذلك من رحمته بك، فإنك على ضعفك لا تحتمل العقل والفهم والمعرفة، بل كنت تتمزّق وتتصدّع، بل جعل ذلك ينتقل فيك بالتدريج شيئًا فشيئًا؛ فلا يصادفك ذلك وهلةً واحدًة، بل يصادفك يسيرًا يسيرًا حتى يتكامل فيك. واعتبر ذلك بأن الطفل إذا سُبِيَ صغيرًا من بلده ومن بين أبويه ولا عقل له فإنه لا يؤلمه ذلك، وكلما كان أقرب إلى العقل كان أشقّ عليه وأصعب، حتى إذا كان عاقلاً فلا تراه إلاّ(/16)
كالواله الحيران. ثم لو ولدت عاقلاً فهيمًا كحالك في كبرك تنغّصت عليك حياتك أعظم تنغيص، وتنكّدت أعظم تنكيد؛ لأنك ترى نفسك محمولاً رضيعًا معصّبًا بالخِرَق، مربّطًا بالقمط، مسجونًا في المهد عاجزًا ضعيفًا عمّا يحاوله الكبير؛ فكيف كان يكون عيشك مع تعلّقك التامّ في هذه الحالة؟ ثم لم يكن يوجد لك من الحلاوة واللطافة والوقع في القلب والرحمة بك ما يوجد للمولود الطفل، بل تكون أنكد خلق الله وأثقلهم وأعنتهم وأكثرهم فضولاً، وكان دخولك هذا العالم وأنت غبي لا تعقل شيئًا، ولا تعلم ما فيه أهله محض الحكمة والرحمة بك والتدبير، فتلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة ثم لا يزال يتزايد فيك العقل والمعرفة شيئًا فشيئًا حتى تألف الأشياء وتتمرّن عليها، وتخرج من التأمّل لها والحيرة فيها وتستقبلها بحُسْن التصرّف فيها والتدبير لها والإتقان لها. وفي ذلك وجوه أُخَر من الحكمة غير ما ذكرناه. فمَن هذا الذي هو قيّم عليك بالمرصاد يرصدك حتى يوافيك بكل شيء من المنافع والآراب والآلات في وقت حاجتك، لا يقدّمها عن وقتها، ولا يؤخرها عنه؟»(7).
وقال أيضاً رحمه الله: «ثم تأمّل حكمة الله عزّ وجلّ في الحفظ والنسيان الذي خصّ به نوع الإنسان، وما له فيهما من الحِكَم، وما للعبد فيهما من المصالح؛ فإنه لولا القوة الحافِظة التي خصّ بها لدخل عليه الخلل في أموره كلها، ولم يعرف ما له وما عليه، ولا ما أخذ ولا ما أعطى ولا ما سمع ورأى، ولا ما قال ولا ما قيل له، ولا ذكر مَن أحسن إليه ولا مَن أساء إليه ولا مَن عامله ولا مَن نفعه فيقرب منه، ولا مَن ضرّه فينأى عنه، ثم كان لا يهتدي إلى الطريق الذي سلكه أول مرة ولو سلكه مرارًا، ولا يعرف علمًا ولو درسه عمره، ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئًا على ما مضى، بل كان خليقًا أن ينسلخ من الإنسانية أصلاً؛ فتأمّل عظيم المنفعة عليك في هذه الخِلال وموقع الواحدة منها فضلاً عن جميعهنّ. ومن أعجب النِّعَم عليه نعمة النسيان؛ فإنه لولا النسيان لَمَا سَلاَ شيئًا، ولا انقضت له حسرة، ولا تعزّى عن مصيبة، ولا مات له حزن، ولا بطل له حقل، ولا تمتّع بشيء من متاع الدنيا مع تذكّر الآفات، ولا رجا غفلة عدو ولا نقمة من حاسد؛ فتأمّل نعمة الله في الحفظ والنسيان مع اختلافهما وتضادّهما، وجعله في كل واحد منهما ضربًا من المصلحة»(8).
وقال أيضاً في موضع آخر: «ثم تأمّل بعد ذلك أحوال هذه الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول، وما فيها من المصالح والحكم؛ إذ لو كان الزمان كله فصلاً واحدًا لفاتت مصالح الفصول الباقية فيه، فلو كان صيفًا كله لفاتت مصالح الشتاء، ولو كان شتاءً لفاتت مصالح الصيف، وكذلك لو كان ربيعًا كله أو خريفاً كله؛ ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف وبطون الأرض والجبال، فتتولّد مواد الثمار وغيرها وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء؛ فيحصل السّحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الأرض وأهلها واشتداد أبدان الحيوان وقوتها، وتزايد القوى الطبيعية واستخلاف ما حلّلته حرارة الصيف من الأبدان. وفي الربيع تتحرّك الطبائع وتظهر المواد المتولّدة في الشتاء فيظهر النبات، ويتنوّر الشجر بالزهر، ويتحرك الحيوان للتناسل. وفي الصيف يحتدّ الهواء ويسخن جدًّا، فتنضج الثمار وتنحلّ فضلات الأبدان والأخلاط التي انعقدت في الشتاء، وتغور البرودة وتهرب إلى الأجواف ولهذا تبرد العيون والآبار، ولا تهضم المعدة الطعام التي كانت تهضمه في الشتاء من الأطعمة الغليظة لأنها كانت تهضمها بالحرارة التي سكنت في البطون، فلما جاء الصيف خرجت الحرارة إلى ظاهر الجسد وغارت البرودة فيه. فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان وصفا الهواء وبرد فانكسر ذلك السَّموم، وجعله الله بحكمته برزخًا بين سموم الصيف وبرد الشتاء لئلا ينتقل الحيوان وهلة واحدة من الحرّ الشديد إلى البرد الشديد، فيجد أذاه ويعظم ضرره، فإذا انتقل إليه بتدرج وترتب لم يصعب عليه؛ فإنه عند كل جزء يستعدّ لقبول ما هو أشدّ منه حتى تأتي جمرة البرد بعد استعداد وقبول؛ حكمة بالغة وآية باهرة. وكذلك الربيع برزخ بين الشتاء والصيف يتنقل فيه الحيوان من برد هذا إلى حرّ هذا بتدرج وترتيب فتبارك الله ربّ العالمين وأحسن الخالقين»(9).(/17)
وقال: «ومن آياته الباهرة هذا الهواء اللطيف المحبوس بين السماء والأرض يدرك بحسّ اللمس، عند هبوبه يدرك جسمه، ولا يرى شخصه؛ فهو يجري بين السماء والأرض والطير محلقة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حرّكه بحركة الرحمة فجعله رخاءً ورحمةً وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحًا للسّحاب يلقحه بحمل الماء كما يلقح الذّكر الأُنثى بالحمل. وتسمى رياح الرحمة المبشّرات والنشر والذاريات والمرسلات والرخاء واللواقح. ورياح العذاب العاصف والقاصف - وهما في البحر - والعقيم والصرصر وهما في البرّ.
وإن شاء حرّكه بحركة العذاب فجعله عقيمًا، وأودعه عذابًا أليمًا، وجعله نقمًة على من يشاء من عباده فيجعله صرصرًا ونحسًا وعاتيًا ومفسِدًا لما يمرّ عليه.
وهي مختلفة في مهابها؛ فمنها صِبًا ودبور وجنوب وشمال، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف؛ فريح ليّنة رطبة تغذّي النبات وأبدان الحيوان، وأخرى تجفّفه، وأخرى تهلكه وتعطبه، وأخرى تشدّه وتصلبه، وأخرى تُوهنه وتُضعفه. ولهذا يخبر سبحانه عن رياح الرحمة بصيغة الجمع لاختلاف منافعها وما يحدث منها؛ فريح تُثير السّحاب وريح تلقحه وريح تحمله على متونها وريح تغذّي النبات»(10).
«فإذا تأمّلت السّحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جوً صافٍ لا كدورة فيه، وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء، وهو مع لينه ورخاوته حامِل للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى أن يأذن له ربّه وخالقه في إرسال ما معه من الماء؛ فيرسله ويُنزله منه مقطّعًا بالقطرات كل قطرة بقدر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته، فيرشّ السّحاب الماء على الأرض رشًّا، ويرسله قطرات مفصّلة لا تختلط قطرة منها بأخرى، ولا يتقدّم متأخّرها، ولا يتأخّر متقدّمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتُمزَج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة»(11).
«ثم تأمّل الحكمة في خلق النار على ما هي عليه من الكمون والظهور؛ فإنها لو كانت ظاهرة أبدًا كالماء والهواء كانت تحرق العالم وتنتشر ويعظم الضرر بها والمفسدة، ولو كانت كامنة لا تظهر أبدًا لفاتت المصالح المترتبة على وجودها؛ فاقتضت حكمة العزيز العليم أن جعلها مخزونة في الأجسام يُخرِجها ويُبقيها الرجل عند حاجته إليها، فيُمسكها ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه، فلا يزال حابسها ما احتاج إلى بقائها فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خبت بإذن ربّها وفاطِرها فسقطت المؤنة والمضرّة ببقائها. فسبحان مَن سخّرها وأنشأها على تقدير محكم عجيب اجتمع فيه الاستمتاع والانتفاع والسلامة من الضرر؛ قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (الواقعة:71)، إلى قوله: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الواقعة:74) فسبحان ربنا العظيم لقد تعرّف إلينا بآياته وشفانا ببيّناته وأغنانا بها عن دلالات العالمين فأخبر سبحانه أنه جعلها تذكرة بنار الآخرة، فنستجير منها، ونهرب إليه منها، ومتاعًا للمقوين وهم المسافرون النازلون بالقواء، والقواء هي الأرض الخالية وهم أحوج إلى الانتفاع بالنار للإضاءة والطبخ والخبز والتدفئة والأنس وغير ذلك»(12).(/18)
«ثم تأمّل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدّر بأن يكون طائرًا في الجو خفّف جسمه، وأدمج خلقته، واقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين، ومن الأصابع الخمس على أربع، ومن مخرج البول والزبل على حد واحد يجمعهما جميعًا، ثم خُلق ذا جؤجؤ محدود ليسهل عليه اختراق الهواء كيف توجّه فيه كما يجعل صدر السفينة بهذه الهيئة ليشقّ الماء بسرعة وتنفذ فيه، وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران، وكسى جسمه كله الريش ليتداخله الهواء فيحمله. ولمّا قدّر أن يكون طعامه اللحم والحبّ يبلعه بلعًا بلا مضغ نقّص من خلقه الأسنان وخلق له منقارًا صلبًا يتناول به طعامه فلا يتفسّخ من لقط الحبّ ولا يتعقّف من نهش اللحم. ولمّا عَدِمَ الأسنان، وكان يزدرد الحبّ صحيحًا واللحم عريضًا أُعين بفضل حرارة في الجوف تطحن الحبّ وتطبخ اللحم فاستغنى عن المضغ، والذي يدلّك على قوّة الحرارة التي أُعين بها أنك ترى عجم الزبيب وأمثاله يخرج من بطن الإنسان صحيحًا وينطبخ في جوف الطائر حتى لا يُرَى له أثر. ثم اقتضت الحكمة أن جُعل يبيض بيضًا ولا يلد ولادة، لئلا يثقل عن الطيران؛ فإنه لو كان مما يحمل ويمكث حمله في جوفه حتى يستحكم ويثقل لأثقله وعاقه عن النهوض والطيران. وتأمّل الحكمة في كون الطائر المُرسَل السائح في الجوّ يُلهَم صبر نفسه أسبوعًا أو أُسبوعين باختياره قاعدًا على بيضه حاضنًا له، ويحتمل مشقّة الحبس؛ ثم إذا خرج فراخه تحمّل مشقّة الكَسْب وجَمْع الحبّ في حوصلته، وبزق فراخه وليس بذي رَوِيّة ولا فكرة في عاقبة أمره ولا يؤمل في فراخه ما يؤمل الإنسان في ولده من العَوْن والرفد وبقاء الذّكر. فهذا من فعله يشهد بأنه معطوف على فراخه لعلّة لا يعلمها هو ولا يفكر فيها من دوام النسل وبقائه»(13).
«ثم تأمّل الحكمة في شجرة اليقطين والبّطيخ كيف لمّا اقتضت الحكمة أن يكون حملها ثمارًا كبارًا جعل نباته منبسطًا على الأرض، إذ لو انتصب قائمًا كما ينتصب الزرع لضعفت قوته عن حمل هذه الثمار الثقيلة ولنقصت قبل إدراكها وانتهائها إلى غاياتها، فاقتضت حكمة مُبدعها وخالقها أن بسطه ومدّه على الأرض ليلقي عليها ثماره، فتحملها عنه الأرض فترى العرق الضعيف الدقيق من ذلك منبسطًا على الأرض وثماره مبثوثة حواليه كأنها حيوان قد اكتنفها جراؤها فهي تُرضعهم. ولمّا كان شجر اللوبياء والباذنجان والباقلاء وغيرها مما يقوى على حمل ثمرته أنبته الله منتصبًا قائمًا على ساقه، إذ لا يلقى من حمل ثماره مؤونة ولا يضعف عنه»(14).
سؤال وجوابه :
قد يسأل سائل بعد ما تعرفنا على بعض آيات الله عز وجل في الآفاق وفي الأنفس، وما فيها من العجائب والحكم الباهرة: ما علاقة ذلك بموضوع هذه الرسالة الموسومة بقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: من الآية143)؟
والجواب: أن في ذلك تنبيهًا إلى عظمة الخالق عز وجل وكماله وشمول علمه وحكمته لكل شيء، وأن هذه الآيات الباهرة في خلقه وتقديره هي مقتضى علمه عز وجل وعزته وقدرته ورحمته وعدله وحكمته. وأن مَنْ هذه صفاته - سبحانه وتعالى - هو الذي أنزل الكتاب الحكيم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وضمَّنه من الأوامر والنواهي والشرائع الكاملة الكفيلة بكل خير ورحمة للعباد، وأن من التزم بها وقام بحقها في نفسه ومع الناس فهو من الأمة الوسط التي اختارها الله عز وجل لتكون شاهدة على الناس ومبلغة دين الله إليهم.
والمقصود أن الأمة الوسط ما استحقت هذا الوصف - الذي هو العدل والقيام بالحق والميزان المستقيم - إلا لكونها امتثلت لما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا، ومن مقتضياتها ما نراه في النفس والآفاق والأوامر والنواهي من الحِكَم العظيمة والمصالح العامة.
ففي ذكر حكمته سبحانه في خلقه وتقديره، وما يشتمل عليه من الإتقان والتوازن والعدل زيادة إيمان ويقين وبينة على أن الأمة المتبعة لما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هي الأمة الوسط الخيار التي تقوم بالعدل وبالحق؛ فكما أن خلق الله عز وجل وتقديره هو الحق والوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فكذلك الملتزم بأوامر الخالق عز وجل وشرعه هو من الأمة الوسط؛ وذلك للزومه شرع الله عز وجل الوسط العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وصدق الله العظيم: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: من الآية54)؛ فالكل صادر منه سبحانه، فالخلق خلقه والأمر أمره والشرع شرعه، وما صدر عن الله عز وجل فهو الحق والعدل والخير وفيه الحكمة والمصلحة.(/19)
أما ما سوى الله عز وجل من المخلوقين الضعاف الجهلة الظلمة، محدودي الزمان والمكان والعقل، فلا يصدر منهم إلا ما يناسب صفاتهم من الجهل والظلم والهوى، فيا عجبًا ممن يؤثر شرع المخلوق الضعيف وقوانينه ونظمه الجائرة على شرع الله عز وجل المبرأ من النقص والجهل والظلم، ومن أجل ذلك نرى أن الدول والمجتمعات التي التزمت بغير ما أنزل الله تعالى وحكمت أهواءها قد جاءت أقوالها وأفعالها ونظمها ومواقفها مجانبة للوسطية والعدل والحق، وحل مكان ذلك الظلم والطغيان والإفراط أو التفريط، مما أفرز للناس حياة تعيسة كلها ظلم وشقاء وقلق واضطراب.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، ونسأله سبحانه أن يثبتنا على دين الحق وأنا يعيننا على أداء واجب دعوة الناس إلى هذا الدين حتى يهنأوا في ظلاله في الدنيا ويفوزوا بالنعيم المقيم في الدار الآخرة.
_____________
(1) تفسير القرطبي: (13/3).
(2) أضواء البيان: (6/267).
(3) في ظلال القرآن: (5/2548-2549) بتصرف واختصار.
(4) في ظلال القرآن: (3/1406).
(5) عن كتاب الله والعلم الحديث، عبدالرزاق نوفل: (ص 46-48).
(6) في ظلال القرآن: (6/3437، 3438).
(7) مفتاح دار السعادة: (265-267).
(8) المصدر نفسه: (1/288).
(9) المصدر نفسه: (1/215).
(10) المصدر نفسه: (1/207).
(11) المصدر نفسه: (1/208).
(12) المصدر نفسه: (1/223).
(13) المصدر نفسه: (1/254).
(14) المصدر نفسه: (1/238).
الفصل الثاني
من مظاهر العدل والتوازن في أمر الله عز وجل وشرعه
في الفصل السابق كان الحديث عن مظاهر العدل والحق والتوازن في خلق الله عز وجل وآياته الباهرة في الآفاق والأنفس.
وفي هذا الفصل وما تحته من المباحث سيكون الكلام - إن شاء الله تعالى - عن بعض مظاهر العدل والحق والوسطية في أمر الله عز وجل وشرعه.
وأول ما أمر الله عز وجل به: توحيده سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. والتوسط واضح فيه بكونه وسطًا بين الغلو والتفريط، كما يتضح التوسط والعدل في ما شرعه سبحانه من الأحكام في العبادات والمعاملات.
وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله تعالى -: «الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد من غير مشقة عليه ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال كتكاليف الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والزكاة، وغير ذلك مما شرع ابتداء على غير سبب ظاهر اقتضى ذلك، أو لسبب يرجع إلى عدم العلم بطريق العمل؛ كقوله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ) (البقرة: من الآية219)، (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) (البقرة: من الآية219) وأشباه ذلك.(/20)
فإن كان التشريع لأجل انحراف المكلف، أو وجود مظنة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطرفين، كان التشريع رادًّا إلى الوسط الأعدل؛ لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه؛ فِعْلَ الطبيب الرفيقِ: يحمل المريضَ على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوة مرضه وضعفه؛ حتى إذا استقلت صحته هيأ له طريقًا في التدبير وسطًا لائقًا به في جميع أحواله، أوَلا ترى أن الله تعالى خاطب الناس في ابتداء التكليف خطاب التعريف بما أنعم عليهم من الطيبات والمصالح التي بثها في هذا الوجود لأجلهم، ولحصول منافعهم، ومرافقهم التي يقوم بها عيشهم، وتكمل بها تصرفاتهم؛ كقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ) (البقرة: من الآية22)، وقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) (إبراهيم: من الآية32) إلى قوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم: من الآية34)، وقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) (النحل:10) إلى آخر ما عدّ لهم من النعم، ثم وُعدوا على ذلك بالنعيم إن آمنوا، وبالعذاب إن تمادَوا على ما هم عليه من الكفر. فلما عاندوا وقابلوا النعم بالكفران، وشكوا في صدق ما قيل لهم، أقيمت عليهم البراهين القاطعة بصدق ما قيل لهم وصحته. فلما لم يلتفتوا إليها لرغبتهم في العاجلة أُخبروا بحقيقتها، وأنها في الحقيقة كلا شيء؛ لأنها زائلة فانية، وضربت لهم الأمثال في ذلك؛ كقوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) (يونس: من الآية24)، وقوله: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (محمد: من الآية36)... بل لما آمن الناس وظهر من بعضهم ما يقتضي الرغبة في الدنيا رغبة ربما أمالته عن الاعتدال في طلبها، أو نظرًا إلى هذا المعنى، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ مما أخافُ عليكم مَا يُفْتَح لكم من زهرات الدنيا»(1). ولمّا لم يظهر ذلك ولا مظنته قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف: من الآية32)، وقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً) (المؤمنون: من الآية51)... ولمّا ذم الدنيا ومتاعها همَّ جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أن يتبتّلوا ويتركوا النساء واللذة والدنيا وينقطعوا إلى العبادة، فرد ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «من رغب عن سنتي فليس مني»(2)، ودعا لأناس بكثرة المال والولد بعد ما أنزل الله: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن: من الآية15).
والمال والولد هي الدنيا: وأقر الصحابة على جمع الدنيا والتمتع بالحلال منها، ولم يُزهِّدهم ولا أمرهم بتركها، إلا عند ظهور حرص أو وجود منع من حقه، وحيث تظهر مظنة مخالفة التوسط بسبب ذلك. وما سواه فلا ... فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط، فإن رأيت ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف، فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف الآخر. فطرف التشديد - وعامة ما يكون في التخويف والترهيب والزجر - يُؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدين.
وطرف التخفيف - وعامة ما يكون في الترجية والترغيب والترخيص - يُؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التشديد. فإذا لم يكن هذا ولا ذاك رأيت التوسط لائحًا، ومسلك الاعتدال واضحًا، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه.
وعلى هذا : إذا رأيت في النقل من المعتبرين في الدين من مال عن التوسط فاعلم أن ذلك مراعاة منه لطرف واقع أو متوقع في الجهة الأخرى؛ وعليه يجري النظر في الورع والزهد وأشباههما وما قابلها، والتوسط يعرف بالشرع، وقد يعرف بالعوائد وما يشهد به معظم العقلاء كما في الإسراف والإقتار والنفقات)(3).
______________
(1) رواه مسلم: (1052).
(2) سبق تخريجه: (ص 29).
(3) الموافقات: (2/100-114) باختصار، ط. دار الفكر.
المبحث الأول
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن
في أبواب الاعتقاد وأصول الدين(/21)
لقد اعترى جانب العقيدة في هذا الدين ما اعترى غيره من الانحراف عن المنهج الوسط العدل الذي أراده الله عز وجل في أبواب العقيدة، وتراوح هذا الانحراف بين الغلو والإفراط وبين التفريط والتقصير. وسلَّم الله عز وجل من شاء من عباده المؤمنين من الانحراف إلى أحد هذين الطرفين، ورزقهم الاستقامة والعدل وطريق الأمة الوسط. وهم أهل السنة والجماعة والاتباع للكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم.
ومن مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الاعتقاد ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عن أهل السنة والجماعة وأنهم وسط في دين الله عز وجل بين الغالي والجافي؛ قال رحمه الله تعالى:
«[ 1 ] وهذه الفرقة الناجية «أهل السنة» وهم وسط في النحل؛ كما أن ملة الإسلام وسط في الملل؛ فالمسلمون وسط في أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين؛ لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.
ولا جفوا عنهم كما جفت اليهود؛ فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، وكلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كذبوا فريقًا وقتلوا فريقًا.
بل المؤمنون آمنوا برسل الله وعزروهم ونصروهم ووقروهم وأحبوهم وأطاعوهم، ولم يعبدوهم ولم يتخذوهم أربابًا، كما قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:79، 80).
[ 2 ] ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في «المسيح»؛ فلم يقولوا هو الله ولا ابن الله ولا ثالث ثلاثة، كما تقوله النصارى، ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتانًا عظيمًا، حتى جعلوه ولد بغية كما زعمت اليهود، بل قالوا هذا عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه.
[ 3 ] وكذلك المؤمنون «وسط في شرائع دين الله»؛ فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء ويمحو ما شاء ويثبت، كما قالته اليهود كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (البقرة: من الآية142)، وبقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ) (البقرة: من الآية91).
ولا جوزوا لأكابر علمائهم وعبادهم أن يغيروا دين الله، فيأمروا بما شاءوا وينهوا عما شاءوا، كما يفعله النصارى، كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة: من الآية31).
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله ما عبدوهم؟ قال: «ما عبدوهم؛ ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم»(1).
[ 4 ] والمؤمنون قالوا: «لله الخلق والأمر» فكما لا يخلق غيرُه لا يأمر غيرُه.
وقالوا: سمعنا وأطعنا؛ فأطاعوا كل ما أمر الله به، وقالوا: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة: من الآية1). وأما المخلوق فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى ولو كان عظيمًا.
[ 5 ] وكذلك في صفات الله تعالى؛ فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة؛ فقالوا: هو فقير ونحن أغنياء، وقالوا: يد الله مغلولة، وقالوا: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت، إلى غير ذلك.
والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به؛ فقالوا: إنه يخلق ويرزق، ويغفر ويرحم، ويتوب على الخلق ويثيب ويعاقب.
والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى، ليس له سمي ولا ند، ولم يكن له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء؛ فإنه رب العالمين وخالق كل شيء، وكل ما سواه عباد له فقراء إليه: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم:93- 95).(/22)
[ 6 ] ومن ذلك أمر الحلال والحرام؛ فإن اليهود كما قال الله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (النساء: من الآية160)؛ فلا يأكلون ذوات الظفر؛ مثل الإبل والبط. ولا شحم الثرب والكليتين؛ ولا الجدي في لبن أمه. إلى غير ذلك مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما؛ حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعًا. والواجب عليهم مئتان وثمانية وأربعون أمرًا، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يؤاكلوا الحائض ولا يجامعوها في البيوت.
وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح، ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم.
ولهذا قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29).
وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف:156، 157).
وهذا باب يطول وصفه.
[ 7 ] وهكذا أهل السنة والجماعة في الفِرَق؛ فهم في «باب أسماء الله وآياته وصفاته» وسط بين «أهل التعطيل» الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه؛ حتى يشبهوه بالعدم والموات، وبين «أهل التمثيل» الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف وتمثيل.
[ 8 ] وهم في «باب خلقه وأمره» وسط بين المكذبين بقدرة الله؛ الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء؛ وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل؛ فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: من الآية148).
فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير؛ فيقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات.
ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبورًا؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارًا لما يفعله؛ فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله(2).
[ 9 ] وهم في «باب الأسماء والاحكام والوعد والوعيد» وسط بين الوعيدية؛ الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية.
فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته.
[ 10 ] وهم أيضاً في «أصحاب رسول الله» صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وسط بين الغالية الذين يغالون في علي رضي الله عنه، فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبيًا أو إلهًا، وبين الجافية الذين يعتقدون كفره، وكفر عثمان رضي الله عنهما، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما. ويستحبون سب علي وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة علي رضي الله عنه وإمامته(3).(/23)
[ 11 ] وكذلك في سائر «أبواب السنة» هم وسط؛ لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان»(4) ا.هـ.
ويضاف إلى ما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - من الأمثلة على الوسطية والتوازن في أبواب الاعتقاد ما يلي:
[ 12 ] التوازن بين الخوف والرجاء:
وهذا كثير في القرآن الكريم والسنة الصحيحة؛ فقلما تأتي آيات الوعيد والتخويف وذكر عظمة الله عز وجل وبطشه إلا ويسبقها أو يلحقها ذكر آيات الوعد والرجاء، وذكر رحمة الله تعالى وبره ولطفه.
ومن نزع إلى آيات الخوف والوعيد ونسي آيات الوعد والرجاء فإنه مجانب للعدل والوسطية وفيه شبه من الخوارج الوعيدية. ومن نزع إلى آيات الرجاء والوعد ونسي آيات الوعيد والتخويف، فإنه أيضاً يعد مجانبًا للعدل والوسط وفيه شبه من المرجئة.
والمذهب الوسط الحق هو مذهب أهل السنة والاتباع الذين يجمعون بين الأدلة كلها ويقبلون على الله عز وجل بجناحي الخوف والرجاء: خوف يسوقهم ورجاء يحدوهم. ويفصل القول في التوازن بين موجبات الخوف والرهبة وموجبات الأنس والرجاء الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - فيقول: «والتوازن في علاقة العبد بربه بين موحيات الخوف والرهبة والاستهوال، وموحيات الأمن والطمأنينة والأنس؛ فصفات الله الفاعلة في الكون، وفي حياة الناس والأحياء، تجمع بين هذا الإيحاء وذاك في توازن تام.
ويقرأ المسلم في كتاب الله الكريم من صفات ربه ما يخلع القلوب ويزلزل الفرائص، ويهز الكيان، من مثل قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: من الآية24).
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) (غافر:19).
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (قّ:16).
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )(البقرة: من الآية235).
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(البقرة: من الآية196).
(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (القلم:44،45).
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (البروج:12).
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) (آل عمران: من الآية4).
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102).
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً) (المزمل:11-14).
وصور العذاب في مشاهد القيامة رعيبة رعيبة ... ويقرأ المسلم كذلك من صفات ربه ما يملأ قلبه طمأنينة وراحة، وروحه أنسًا وقربًا، ونفسه رجاء وأملا: من مثل قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) (البقرة: من الآية186).
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) (النمل: من الآية62).
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) (مريم:96).
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) (البروج:14).
(وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة: من الآية207).
(وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) (الكهف:2، 3).
وصور النعيم في مشاهد القيامة رخية رخية!
ومن هذا وذاك يقع التوازن في الضمير بين الخوف والطمع، والرهبة والأنس، والفزع والطمأنينة، ويسير الإنسان في حياته، يقطع الطريق إلى الله، ثابت الخطو، مفتوح العين، حي القلب، موصول الأمل، حذرًا من المزالق، صاعدًا أبدًا إلى الأفق الوضيء. لا يستهتر ولا يستهين، ولا يغفل ولا ينسى. وهو في الوقت ذاته شاعر برعاية الله وعونه، ورحمة الله وفضله؛ وأن الله لا يريد به السوء، ولا يود له العنت، ولا يوقعه في الخطيئة ليتشفى بالانتقام منه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.(/24)
وحين نوازن بين هذا التصور وتصور الإغريق لكبير آلهتهم، القاسي الحسود الشهوان العربيد، المضطغن الحقود. أو تصور الإسرائيليين المنحرف لإلههم الغيور المتعصب، البطاش المتهور. أو تصور أرسطو لإلهه المترفع الذي لا يُعني نفسه بأمر الخلق على الإطلاق؛ ولا يفكر إلا في ذاته، لأنها أشرف الذوات، ولا يليق بالإله أن يفكر إلا في أشرف ذات! أو تصور الماديين لإلههم «الطبيعة» الصماء العمياء الخرساء! عندئذ تبدو قيمة هذا الجانب المتوازن في التصور الإسلامي، وأثره الواقعي في حياة البشر، وأثره كذلك في منهج حياتهم وأخلاقهم ونظامهم العملي»(5).
ولذلك فالمسلم السوي العدل هو الذي لا ييأس ولا يقنِّط الناس من رحمة الله تعالى، كما أنه لا يأمن ولا يؤمِّن الناس من مكر الله تعالى؛ قال الله عز وجل: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: من الآية87)، وقال في موضع آخر: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:99).
وبهذا التوازن المنضبط يسير العبد إلى ربه عز وجل محبًا له، خائفًا منه ومن عقابه، طامعًا وراجيًا في ثواب ربه سبحانه، محسنًا الظن به عز وجل. ولذا نجد أن من هذا شأنه يسعى بالعمل والكدح في فعل ما يحبه الله عز وجل، وترك ما يسخطه حبًا لله تعالى، وخوفًا من عقابه، ورجاء ثوابه. أما إذا تغلب جانب على آخر فإن النتيجة ترك العمل أو ضعفه، وإساءة الظن بالله تعالى.
وهنا مسألة وقع فيها شطط وانحراف عن العدل والوسط، ولها مساس بالخوف والرجاء؛ ألا وهي ما وقع فيه طائفة من الصوفية الذين يزعمون محبتهم لله عز وجل حتى قال قائلهم: (ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك ولكن حبًا لك).
وفي مقابل هؤلاء أناس ضعفت محبتهم لله تعالى، وتعبدوا لله تعالى بالخوف والرجاء فقط، ولولا ذلك لم يعبدوا ربهم، وهؤلاء أيضاً جانبوا العدل والوسط. وهَدَى الله عز وجل أهل السنة والاتباع إلى المنهج الحق العدل فجعلوا أصل عبادتهم محبة الله عز وجل، وجعلوا الخوف سائقهم، والرجاء حاديهم؛ فتعبدوا لله تعالى بمحبته وخوفه ورجائه.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فما حفظت حدود الله ومحارمه، ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته. فمتى خلا القلب من هذه الثلاث فسد فسادًا لا يرجى صلاحه أبدًا، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه»(6).
وقال قبل ذلك: «ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالرجاء والخوف والمحبة فهو مؤمن»(7).
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة: «القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه. فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر. ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف. هذه طريقة أبي سليمان وغيره؛ قال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإن غلب عليه الرجاء فسد.
وقال غيره: أكمل الأحوال: اعتدال الخوف والرجاء، وغلبة الحب. فالمحبة هي المركب، والرجاء حادٍ، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه»(8).
ويقول أيضًا: «وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء؛ فكل محب راجٍ خائف بالضرورة، فهو أرجى ما يكون لحبيبه أحب ما يكون إليه. وكذلك خوفه؛ فإنه يخاف سقوطه من عينه، وطرد محبوبه له وإبعاده، واحتجابه عنه؛ فخوفه أشد خوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة؛ فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه، فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من: ألطاف محبوبه، وبره وإقباله عليه، ونظره إليه بعين الرضى، وتأهيله في محبته، وغير ذلك مما لا حياة للمحب، ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه. فرجاؤه أعظم رجاء، وأجَلُّه وأتمُّه.
فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة. فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء؛ وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه، لكن خوف المحب لا يصحبه وحشة؛ بخلاف خوف المسيء، ورجاء المحب لا يصحبه علة؛ بخلاف رجاء الأجير. وأين رجاء المحب من رجاء الأجير؟ وبينهما كما بين حاليهما»(9).
ويُقَسِّم الناس في مواقفهم من عبادة الله عز وجل مبينًا الموقف العدل والمواقف المنحرفة فيقول: «فالناس في هذا المقام أربعة أقسام:
أحدهم: من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه؛ فهؤلاء أعداؤه حقًا، وهم أهل العذاب الدائم. وعدم إرادتهم لثوابه إما لعدم تصديقهم به، أو إما لإيثار العاجل عليه، ولو كان فيه سخطه.(/25)
والقسم الثاني: من يريده ويريد ثوابه؛ وهؤلاء خواص خلقه. قال الله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (الأحزاب:29). فهذا خطابه لخير نساء العالمين، أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الإسراء:19)، فأخبر أن السعي المشكور: سعي من أراد الآخرة. وأصرح منها: قوله لخواص أوليائه - وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم - في يوم أحد: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (آل عمران: من الآية152) فقسمهم إلى هذين القسمين اللذين لا ثالث لهما.
وقد غلط من قال: فأين من يريد الله؟ فإن إرادة الآخرة عبارة عن إرادة الله تعالى وثوابه؛ فإرادة الثواب لا تنافي إرادة الله.
والقسم الثالث: من يريد من الله، ولا يريد الله؛ فهذا ناقص غاية النقص. وهو حال الجاهل بربه، الذي سمع أن ثَمَّ جنة ونارًا؛ فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق، لا يخطر بباله سواه ألبتة. بل هذا حال أكثر المتكلمين، المنكرين رؤية الله تعالى، والتلذذ بالنظر إلى وجه في الآخرة، وسماع كلامه وحبه، والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله. وهم عبيد الأجرة المحضة. فهؤلاء لا يريدون الله تعالى وتقدس ...
القسم الرابع: - وهو محال - أن يريد الله ولا يريد منه؛ فهذا هو الذي يزعم هؤلاء أنه مطلوبهم(10)، وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة، وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام. وهو أن يكون الله مراده، ولا يريد منه شيئًا ...»(11).
ويقول في موطن آخر وهو يشرح قول الهروي في منزلة الأدب: (وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: منع الخوف أن يتعدى إلى اليأس، وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن ... إلخ): «يريد أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله؛ فإن هذا الخوف مذموم.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: (حد الخوف: ما حجزك من معاصي الله؛ فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه).
وهذا الخوف الموقع في الإياس: إساءة أدب على رحمة الله التي سبقت غضبه وجهلٌ بها.
وأما (حبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن): فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى الحد الذي يأمن معه العقوبة؛ فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وهذا إغراق في الطرف الآخر.
بل حد الرجاء: ما طَيَّبَ لك العبادة، وحملك على السير؛ فهو بمنزلة الرياح التي تسير السفينة، فإذا انقطعت وقفت السفينة، وإذا زادت ألقتها إلى المهالك، وإذا كانت بقدر أوصلتها إلى البغية»(12).
[ 13 ] الوسط والتوازن بين التوكل على الله عز وجل وفعل الأسباب:
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «وهذا موضع انقسم فيه الناس طرفين ووسطًا. فأحد الطرفين عطَّل الأسباب محافظة على التوكل.
والثاني: عطَّل التوكل محافظة على السبب، والوسط: علم أن حقيقة التوكل لا تتم إلا بالقيام بالسبب، فتوكل على الله في نفس السبب. وأما من عطَّل السبب وزعم أنه متوكل فهو مغرور مخدوع متمنٍ؛ كمن عطَّل النكاح والتسري وتوكل في حصول الولد، وعطل الحرث والبذر وتوكل في حصول الزرع، وعطل الأكل والشرب وتوكل في حصول الشبع والري؛ فالتوكل نظير الرجاء، والعجز نظير التمني.
فحقيقة التوكل أن يتخذ العبد ربه وكيلاً له قد فوض إليه، كما يفوض الموكل إلى وكيله العالم بكفايته ونهضته، ونصحه وأمانته، وخبرته وحسن اختياره. والرب سبحانه قد أمر عبده بالاحتيال وتوكل له أن يستخرج له من حيلته ما يصلحه؛ فأمره أن يحرث ويبذر ويسعى ويطلب رزقه في ضمان ذلك كما قدَّره سبحانه ودبره واقتضته حكمته، وأمره أن لا يعلق قلبه بغيره، بل يجعل رجاءه له وخوفه منه وثقته به وتوكله عليه، وأخبره أنه سبحانه الملي بالوكالة الوفي بالكفالة.
فالعاجز من رمى هذا كله وراء ظهره، وقعد كسلان طالبًا للراحة مؤثرًا للدعة؛ يقول: الرزق يطلب صاحبه كما يطلبه أجله، وسيأتيني ما قدر لي على ضعفي، ولن أنال ما لم يقدر لي مع قوتي، ولو أني هربت من رزقي كما أهرب من الموت للحقني.
فيقال له: نعم هذا كله حق، وقد علمت أن الرزق مقدر فما يدريك كيف قدر لك؟ بسعيك أم بسعي غيرك؟ وإذا كان بسعيك فبأي سبب ومن أي وجه؟ وإذا خفي عليك هذا كله فمن أين علمت أنه يقدر لك إتيانه عفوًا بلا سعي ولا كد؟ فكم من شيء سعيت فيه فقدر لغيرك، وكم من شيء سعى فيه غيرك فقدر لك رزقًا! فإذا رأيت هذا عيانًا فكيف علمت أن رزقك كله بسعي غيرك؟(/26)
وأيضًا فهذا الذي أورَدَتْه عليك النفس يجب عليك طرده في جميع الأسباب مع مسبباتها حتى في أسباب دخول الجنة والنجاة من النار، فهل تعطلها اعتمادًا على التوكل أم تقوم بها مع التوكل؟ بل لن تخلو الأرض من متوكل صبر نفسه لله وملأ قلبه من الثقة به ورجائه وحسن الظن به، فضاق قلبه مع ذلك عن مباشرة بعض الأسباب فسكن قلبه إلى الله واطمأن إليه ووثق به، وكان هذا من أقوى أسباب حصول رزقه، فلم يعطل السبب، وإنما رغب عن سبب إلى سبب أقوى منه فكان توكله أوثق الأسباب عنده؛ فكان اشتغال قلبه بالله وسكونه إليه وتضرعه إليه أحب إليه من اشتغاله بسبب يمنعه من ذلك، أو من كماله؛ فلم يتسع قلبه للأمرين فأعرض عن أحدهما إلى الآخر.
ولا ريب أن هذا أكمل حالاً ممن امتلأ قلبه بالسبب، واشتغل به عن ربه. وأكمل منهما من جمع الأمرين؛ وهي حال الرسل والصحابة؛ فقد كان زكريا نجارًا، وقد أمر الله نوحاً أن يصنع السفينة، ولم يكن في الصحابة من يعطل السبب اعتماداً على التوكل، بل كانوا أقوم الناس بالأمرين؛ ألا ترى أنهم بذلوا جهدهم في محاربة أعداء الدين بأيديهم وألسنتهم، وقاموا في ذلك بحقيقة التوكل، وعمروا أموالهم وأصلحوها وأعدوا لأهليهم كفايتهم من القوت اقتداء بسيد المتوكلين صلوات الله وسلامه عليه وآله»(13).
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: (بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:5):
«فالأمر له من قبل ومن بعد، وهو ينصر من يشاء؛ لا مقيد لمشيئته سبحانه. والمشيئة التي تريد النتيجة هي ذاتها التي تيسر الأسباب. فلا تعارض بين تعليق النصر بالمشيئة ووجود الأسباب. والنواميس التي تصرف هذا الوجود كله صادرة عن المشيئة الطليقة. وقد أراد الله عز وجل أن تكون هناك سنن لا تتخلف؛ وأن تكون هناك نظم لها استقرار وثبات. والنصر والهزيمة أحوال تنشأ عن مؤثرات، وفق تلك السنن التي اقتضتها تلك المشيئة الطليقة.
والعقيدة الإسلامية واضحة ومنطقية في هذا المجال؛ فهي ترد الأمر كله إلى الله؛ ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب الطبيعية التي من شأنها أن تظهر النتائج إلى عالم الشهادة والواقع. أما أن تتحقق تلك النتائج فعلاً أو لا تتحقق فليس داخلاً في التكليف؛ لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله. ولقد ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل يصلي قائلاً: «توكلت على الله»، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعقلها وتوكل»(14). فالتوكل في العقيدة مقيد بالأخذ بالأسباب، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله»(15).
ومما له علاقة بمسألة الأسباب فعلاً أو تركًا: ذلك الخلاف القديم والجديد في النظر إلى الأسباب والمبالغة في أثرها والتعلق بها، أو إلغائها وإنكارها؛ فكان الناس فيها طرفين مذمومين منحرفين، وهدى الله عز وجل من شاء من عباده إلى الموقف الوسط العدل فيها.
ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «والناس في الأسباب والقوى والطبائع ثلاثة أقسام:
منهم: من بالغ في نفيها وإنكارها، فأضحك العقلاء على عقله. وزعم أنه بذلك ينصر الشرع، فجنى على العقل والشرع، وسلط خصمه عليه.
ومنهم: من ربط العالم العلوي والسفلي بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار، ومدبر لها يصرفها كيف أراد؛ فيسلب قوة هذا ويقيم لقوة هذا قوة تعارضه، ويكف قوة هذا عن التأثير مع بقائها، ويتصرف فيها كما يشاء ويختار.
وهذان طرفان جائران عن الصواب.
ومنهم: من أثبتها خلقًا وأمرًا، وقدرًا وشرعًا. وأنزلها بالمحل الذي أنزلها الله به من: كونها تحت تدبيره ومشيئته، وهي طوع المشيئة والإرادة، ومحل جريان حكمها عليها. فيقوِّي سبحانه بعضها ببعض، ويبطل - إن شاء - بعضها ببعض، ويسلب بعضها قوته وسببيته، ويُعريها منها، ويمنعه من موجبها مع بقائها عليه؛ ليعلم خلقه أنه الفعَّال لما يريد، وأنه لا مستقل بالفعل والتأثير غير مشيئته، وأن التعلق بالسبب دونه كالتعلق ببيت العنكبوت، مع كونه سببًا.
وهذا باب عظيم نافع في التوحيد، وإثبات الحِكَم يوجب للعبد - إذا تبصر فيه - الصعود من الأسباب إلى مسببها، والتعلق به دونها، وأنها لا تضر ولا تنفع إلا بإذنه، وأنه إذا شاء جعل نافعها ضارًا وضارها نافعًا ودواءها داءً وداءها دواءً. فالالتفات إليها بالكلية شرك مناف للتوحيد، وإنكار أن تكون أسبابًا بالكلية قدح في الشرع والحكمة. والإعراض عنها - مع العلم بكونها أسبابًا - نقصان في العقل. وتنزيلها منازلها، ومدافعة بعضها ببعض، وتسليط بعضها على بعض، وشهود الجمع مع تفرقها، والقيام بها هو محض العبودية والمعرفة، وإثبات التوحيد والشرع والقدر والحكمة. والله أعلم»(16).
[ 14 ] التوازن بين طلاقة المشيئة الإلهية وثبات السنن الكونية:(/27)
وهذه الصورة من التوازن لها علاقة بالصورة السابقة، ولكن آثرت إفرادها في صورة مستقلة لأهميتها؛ وذلك أن الناس فيها طرفان ووسط.
الطرف الأول: من قصر نظره على ثبات السنن الكونية، واعتمد على ذلك اعتمادًا كليًا دون أن ينظر إلى طلاقة المشيئة الإلهية، وغفل عن أن الله سبحانه الذي ثبَّت هذه السنن وجعلها مطردة حاسمة قادر متى شاء وكيف شاء أن يخرق هذه السنن؛ لأنه الفعال لما يريد، والقادر على كل شيء. وهذا الطرف الذي أفرط في النظر إلى ثبات السنن الكونية مثله مثل من أفرط في فعل الأسباب وتعلق بها كما في الصورة السابقة.
الطرف الثاني: من نظر إلى طلاقة المشيئة الإلهية ولم يعتبر بثبات السنن الكونية وترتب النتائج على الأسباب، فأفرط في نظرته لطلاقة المشيئة الإلهية مما جعله يفرِّط في الأخذ بالأسباب والانتفاع من السنن الكونية، بل اعتمد على الخوارق دون بذل الجهد والعمل. وهذا مثله في الصورة السابقة مثل من ترك الأخذ بالأسباب زاعمًا أنه متوكل على الله تعالى.
والوسط: من نظر إلى ثبات السنة الكونية وعمل في ضوئها وبذل الأسباب الممكنة دون أن يتعلق بها أو بكونها لا تنخرق أبدًا. بل يؤمن بأن الله عز وجل يخرقها متى شاء لمن بذل الأسباب والجهد واستنفد ما في وسعه من العمل والجهد والجهاد؛ كما هي حال النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام؛ حيث بذلوا الجهد والعمل في سبيل الله عز وجل، واستحقوا أن ينصرهم الله عز وجل بجند من عنده، ويخرق لهم من السنن الثابتة ما يظن الناس أنها لا تنخرق وهذا هو ما في القرآن الكريم؛ حيث ذكر الله عز وجل أن له سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول وفي ضوئها يعمل الناس وتنضبط حركاتهم وأعمالهم، ويكيفون حياتهم وفقها كما قال تعالى: (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: من الآية43).
وفي مواطن أخرى من القرآن يذكر الله سبحانه أنه فعال لما يريد، وأنه متى شاء سبحانه خرق هذه السنن لمن شاء من عباده كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (النحل:40)، وقوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران:40)، وقوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ) (آل عمران: من الآية47)، وقوله تعالى: (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء:68-70). وغيرها من الآيات التي تقرر نفوذ مشيئة الله عز وجل وعدم تقيدها بقيد ما مما يخطر على قلب بشر مما يحسبه الناس قانونًا لازمًا لا فكاك منه.
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - : «وبين ثبات السنن وطلاقة المشيئة الإلهية يقف الضمير البشري على أرض ثابتة مستقرة؛ يعمل فيها وهو يعلم طبيعة الأرض، وطبيعة الطريق، وغاية السعي، وجزاء الحركة. ويتعرف إلى نواميس الكون، وسنن الحياة، وطاقات الأرض، وينتفع بها وبتجاربه الثابتة فيها بمنهج علمي ثابت. وفي الوقت ذاته يعيش موصول الروح بالله، معلق القلب بمشيئته؛ لا يستكثر عليها شيئاً، ولا يستبعد عليها شيئًا، ولا ييئس أمام ضغط الواقع أبدًا. يعيش طليق التصور، غير محصور في قوالب حديدية، يضع فيها نفسه، ويتصور أن مشيئة الله - سبحانه - محصورة فيها! وهكذا لا يتبلد حسه، ولا يضمُر رجاؤه، ولا يعيش في إلف مكرور!
والمسلم يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها. ويعمل وفق السُّنَّة، لأنه مأمور بمراعاتها، لا لأنه يعتقد أن الأسباب والوسائل هي المنشئة للمسببات والنتائج؛ فهو يرد الأمر كله إلى خالق الأسباب، ويتعلق به وحده من وراء الأسباب، بعد أداء واجبه في الحركة والسعي والعمل واتخاذ الأسباب طاعة لأمر الله.
وهكذا ينتفع المسلم بثبات السنن في بناء تجاربه العلمية وطرائقه العملية، في التعامل مع الكون وأسراره وطاقاته ومدخراته؛ فلا يفوته شيء من مزايا العلوم التجريبية والطرائق العملية. وهو في الوقت ذاته موصول القلب بالله، حي القلب بهذا الاتصال، موصول الضمير بالمشاعر الأدبية الأخلاقية، التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه، وتسمو بالحياة الإنسانية إلى أقصى الكمال المقدر لها في الأرض، وفي حدود طاقة الإنسان»(17).
[ 15 ] التوازن والوسطية في تكفير المعين :
إن مسألة تكفير المعين مسألة خطيرة وذلك من جهتين:
الأولى: من جهة تكفير المعين الذي لا يستحق التكفير بمجرد شبهات لا ترتقي إلى القطع بتكفيره.
الثانية: عدم تكفير المعين المقطوع بكفره والحكم بإسلامه.(/28)
وبناء على ذلك فإن الناس في تكفير المعين طرفان مذمومان ووسط محمود.
الطرف الأول: من غلا وأفرط في تكفير المعين بمجرد تلبسه بأمر مكفر دون أن ينظر إلى توفر الشروط في تكفيره وانتفاء الموانع. بل إن مجرد التلبس بقول، أو عمل مكفرين، فإنه عند هذا الفريق من الناس كافر بعينه مهما وجد من الموانع من ذلك؛ كالإكراه أو التأول، أو الخطأ أو غير ذلك من العوارض الشرعية..
الطرف الثاني: من فرَّط وتساهل في عدم تكفير المعين حتى أدى به الأمر إلى القول بأنه لا يجوز تكفير المعين مهما أتى بناقض من نواقض الإسلام ما لم يعتقد الكفر ويقصده قصدًا، مهما توفرت الشروط، وانتفت الموانع. وهذا جفاء وتضييع وتفريط ويؤول إلى أنه لا مرتد في الإسلام، وبالتالي لا حاجة إلى وجود أحكام المرتد في الفقه الإسلامي.
الموقف الوسط العدل: من فرَّق بين الكفر ومرتكب الكفر، وفصَّل في ذلك وقال: إن من تلبس بمكفر أو ناقض من نواقض الإسلام فإن المتعين في حقه أن ينظر إلى حال هذا المعيَّن فإذا لم تتوفر الشروط في تكفيره أو وجد مانع من تكفيره؛ كالإكراه والخطأ وغيرهما؛ فإنه لا يجوز تكفيره والحالة هذه. أما إذا رؤي أن شروط تكفيره متوفرة ولا يوجد مانع شرعي من تكفيره فإنه يحكم بتكفيره بعينه وتطبق عليه أحكام المرتد. وهذا التفصيل هو شأن الراسخين في العلم، الذين هم وسط بين الغالي والجافي، نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم. وبهذا الموقف العدل يسلم المسلم من تكفير من لم يستحق التكفير، كما يسلم من جعل الكافر أو المرتد في عداد المسلمين.
[ 16 ] التوازن والوسط بين الدنيا والآخرة :
قال الله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77).
يقول السعدي - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «... أي قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرك من الأموال فابتغ بها ما عند الله، وتصدق ولا تقتصر على مجرد نيل الشهوات وتحصيل اللذات. (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) أي لا نأمرك أن تتصدق بجميع مالك وتبقى ضائعًا، بل أنفق لآخرتك، واستمتع بدنياك استمتاعًا لا يثلم دينك ولا يضر آخرتك»(18).
وقال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «وقوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، أي: استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات، التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة، (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)، أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، ولزَوْرك عليك حقًا، فآت كل ذي حق حقه»(19).
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) .. وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم. المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة، ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة. بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفًا، كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس، وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها؛ فتنمو الحياة وتتجدد، وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة، فلا ينحرفون عن طريقها، ولا يُشغلون بالمتاع عن تكاليفها. والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم، وتقبل لعطاياه، وانتفاع بها، فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى.
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان، ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة، التي لا حرمان فيها، ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة»(20).
والناس في نظرهم للدنيا والآخرة طرفان ووسط:
الطرف الأول: من جعل همه للدنيا وقصر نظره عليها، وكأنه مخلد فيها. وهو وإن كان يؤمن بالآخرة إلا أنه فصلها عن الدنيا ونظر إلى أنه لا يمكن الجمع بين الدنيا والآخرة؛ فإما أن ينصرف إلى الدنيا وإما إلى الآخرة، واستدل أصحاب هذا الطرف بالنصوص التي فيها الحث على العمل والكسب ونسوا الأدلة الأخرى.
الطرف الثاني: يشارك الطرف الأول في فهمه للدنيا والآخرة؛ وذلك باستحالة الجمع بين الدنيا والآخرة، ويفترق عنه في أنه انصرف إلى الآخرة وانقطع عن الدنيا وأهلها، وترك الدنيا لأهل الفساد يعيثون فيها ويفسدون، واستدل أصحاب هذا الطرف بالآيات التي تحث على الزهد في الدنيا.(/29)
الطرف العدل والوسط: وهم أهل الحق الذين عملوا بالآية التي سبق شرحها في سورة القصص، وعملوا بكل الآيات والأحاديث الواردة في العمل والإصلاح في الدنيا، وكذلك التي وردت في التحذير من الدنيا والاستعداد للآخرة؛ فجمعوا بين النصوص، وتوجهوا إلى الدنيا بعمارتها وإصلاحها، ومدافعة المفسدين فيها، وعدُّوها مزرعة الآخرة فجعلوها في أيديهم لا في قلوبهم، ونظروا إليها على أنها ممر ومحطة للتزود منها للآخرة، وأنها فانية لا تساوي شيئًا في مقابل النعيم الأبدي في الدار الآخرة.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والناس أقسام:
أصحاب «دنيا محضة»: وهم المعرضون عن الآخرة.
وأصحاب «دين فاسد»: وهم الكفار والمبتدعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات والزهادات.
و «القسم الثالث»: وهم أهل الدين الصحيح؛ أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب والسنة والجماعة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق»(21).
ويقول الشيخ سفر الحوالي - حفظه الله تعالى -:
«وأهل السنة والجماعة وسط حتى في حياتهم العملية:
فمن أهل السنة والجماعة من كان يلي القضاء، ومن كان بلي بعض المناصب، ومن كان ذا مال وسعة وفضل. وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الكاملة؛ فقد كان فيهم أهل الثراء والغنى، كما كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا أهل الفاقة والفقر، وأهل الصبر والزهد، وكان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل العبادة والذكر، كما كان فيهم أهل الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومَنْ بعدَهم حصل عندهم الاضطراب في ذلك؛ فبعضهم مال إلى الدنيا، وركن إليها، ولم يتحرز من قبول أي ولاية، ولم يتحرز من قبول أي منصب، ولا في التوسع في الدنيا والأخذ منها، وقالوا: هذه خيرات وطيبات أحلها الله؛ فتوسعوا في ذلك توسعًا أخرجهم عما كان عليه السلف من التقلل من الدنيا والرغبة في الآخرة، وصدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى.
ومنهم طائفة مالت إلى العكس: فأخذوا بالزهد وتركوا متاع الحياة الدنيا، حتى أنهم حرَّموا الطيبات، أو على الأقل نظروا إلى من يأخذ شيئًا من الطيبات بأنه خارج عن الصواب وعن إصابة الحق.
فهذا الأمر وإن كان أمرا واقعيًا - أي في التطبيق العملي - إلا أنه يوصلنا ويدلنا على توسط أهل السنة والجماعة فيه.
خاصية عظمى يتميز بها أهل السنة والجماعة: وهي أنهم يدخلون في الإسلام كله ويجمعون الدين كله»(22).
ويجلي هذه الحقيقة سيد قطب - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «لقد افترق طريق الدنيا وطريق الآخرة في تفكير كثير من الناس وضميرهم وواقعهم؛ بحيث أصبح الفرد العادي - وكذلك الفكر العام للبشرية الضالة - لا يرى أن هنالك سبيلاً للالتقاء بين الطرفين. ويرى على العكس أنه إما أن يختار طريق الدنيا فيهمل الآخرة من حسابه، وإما أن يختار طريق الآخرة فيهمل الدنيا من حسابه، ولا سبيل إلى الجمع بينهما في تصور ولا واقع؛ لأن واقع الأرض والناس وأوضاعهم في هذه الفترة من الزمان توحي بهذا.
حقيقة: إن أوضاع الحياة الجاهلية البعيدة عن الله، وعن منهجه للحياة اليوم تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الآخرة، وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية والمثل الخلقية والتصورات الرفيعة والسلوك النظيف الذي يحض عليه الدين. كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة، والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع، والكسب في مضمار المنافع؛ لأنها وسائل لا يمكن أن تكون نظيفة ولا مطابقة للدين والخلق، ولا مرضية لله سبحانه. ولكن تراها ضربة لازب! ترى أنه لا مفر من هذا الحال التعيس؟ ولا سبيل إلى اللقاء بين طريق الدنيا وطريق الآخرة؟
كلا إنها ليست ضربة لازب! فالعداء بين الدنيا والآخرة، والافتراق بين طريق الدنيا وطريق الآخرة ليس هو الحقيقة النهائية التي لا تقبل التبديل، بل إنها ليست من طبيعة هذه الحياة أصلاً، إنما هي عارض ناشئ من انحراف طارئ!(/30)
إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة، وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا، وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة، كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا، وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض، كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي. هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية؛ ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضيه للناس؛ فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة. والخلافة عمل وإنتاج، ووفرة ونماء، وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم كما يقول الله في كتابه الكريم ...
والمنهج الإسلامي - بهذا - يجمع بين العمل للدنيا والعمل للآخرة في توافق وتناسق؛ فلا يفوِّت على الإنسان دنياه لينال آخرته، ولا يفوِّت عليه آخرته لينال دنياه؛ فهما ليسا نقيضين ولا بديلين في التصور الإسلامي ... إن هذا الفصام النكد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة في حياة الناس، وبين العمل للدنيا والعمل للآخرة، وبين العبادة الروحية والإبداع المادي، وبين النجاح في الحياة الدنيا، والنجاح في الحياة الأخرى؛ إن هذا الفصام النكد ليس ضريبة مفروضة على البشرية بحكم من أحكام القدر الحتمية! إنما هو ضريبة بائسة فرضتها البشرية على نفسها وهي تشرد عن منهج الله، وتتخذ لنفسها مناهج أخرى من عند أنفسها معادية لمنهج الله في الأساس والاتجاه.
وهي ضريبة يؤديها الناس من دمائهم وأعصابهم في الحياة الدنيا، فوق ما يؤدونه منها في الآخرة وهو أشد وأنكى.
إنهم يؤدونها قلقًا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر، من جراء خواء قلوبهم من طمأنينة الإيمان وبشاشته وزاده وريه، إذا هم آثروا اطراح الدين كله، على زعم أن هذا هو الطريق الوحيد للعمل والإنتاج والعلم والتجربة، والنجاح الفردي والجماعي في المعترك العالمي! ذلك أنهم في هذه الحالة يصارعون فطرتهم، يصارعون الجوعة الفطرية إلى عقيدة تملأ القلب، ولا تطيق الفراغ والخواء. وهي جوعة لا تملؤها مذاهب اجتماعية، أو فلسفية، أو فنية على الإطلاق، لأنها جوعة النزعة إلى إله.
وهم يؤدونها كذلك قلقًا وحيرة وشقاء قلب وبلبلة خاطر إذا هم حاولوا الاحتفاظ بعقيدة في الله، وحاولوا معها مزاولة الحياة في هذا المجتمع العالمي الذي يقوم نظامه كله وتقوم أوضاعه وتقوم تصوراته، وتقوم وسائل الكسب فيه ووسائل النجاح على غير منهج الله، وتتصادم فيه العقيدة الدينية والخلق الديني، والسلوك الديني، مع الأوضاع والقوانين والقيم والموازين السائدة في هذا المجتمع المنكود.
وتعاني البشرية كلها ذلك الشقاء، سواء اتبعت المذاهب المادية الإلحادية، أو المذاهب المادية التي تحاول استبقاء الدين عقيدة بعيدة عن نظام الحياة العملية، وتتصور - أو يصور لها أعداء البشرية - أن الدين لله، وأن الحياة للناس! وأن الدين عقيدة وشعور وعبادة وخلق، والحياة نظام وقانون وإنتاج وعمل!
وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة ضريبة الشقاء والقلق والحيرة والخواء لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة، بل ينسق.
ولا يجوز أن تخدعنا ظواهر كاذبة، في فترة موقوتة؛ إذ نرى أممًا لا تؤمن ولا تتقي، ولا تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرة الإنتاج عظيمة الرخاء.
إنه رخاء موقوت حتى تفعل السنن الثابتة فعلها الثابت، وحتى تظهر كل آثار الفصام النكد بين الإبداع المادي والمنهج الرباني. والآن تظهر بعض هذه الآثار في صور شتى:
- تظهر في سوء التوزيع في هذه الأمم؛ مما يجعل المجتمع حافلاً بالشقاء، وحافلاً بالمخاوف من الانقلابات المتوقعة نتيجة هذه الأحقاد الكظيمة. وهو بلاء على رغم الرخاء!..
- وتظهر في الكبت والقمع والخوف في الأمم التي أرادت أن تضمن نوعًا من عدالة التوزيع، واتخذت طريق التحطيم والقمع والإرهاب ونشر الخوف والذعر لإقرار الإجراءات التي تأخذ بها لإعادة التوزيع وهو بلاء لا يأمن الإنسان فيه على نفسه ولا يطمئن ولا يبيت ليلة في سلام!
- وتظهر في الانحلال النفسي والخلقي الذي يؤدي بدوره - إن عاجلاً أو آجلاً - إلى تدمير الحياة المادية ذاتها. فالعمل والإنتاج والتوزيع: كلها في حاجة إلى ضمانة الأخلاق. والقانون الأرضي وحده عاجز كل العجز عن تقديم الضمانات لسير العمل كما نرى في كل مكان!(/31)
- وتظهر في القلق العصبي والأمراض المنوعة التي تجتاح أمم العالم - وبخاصة أشدها رخاء ماديًا - مما يهبط بمستوى الذكاء والاحتمال، ويهبط بعد ذلك بمستوى العمل والإنتاج، وينتهي إلى تدمير الاقتصاد المادي والرخاء! وهذه الدلائل اليوم واضحة وضوحاً كافياً يلفت الأنظار!
- وتظهر في الخوف الذي تعيش فيه البشرية كلها من الدمار العالمي المتوقع في كل لحظة في هذا العالم المضطرب؛ الذي تحوم حوله نذر الحرب المدمرة. وهو خوف يضغط على أعصاب الناس من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فيصيبهم بشتى الأمراض العصبية. ولم ينتشر الموت بالسكتة وانفجار المخ والانتحار كما انتشر في أمم الرخاء»(23) ا.هـ.
[ 17 ] العدل والتوازن في الولاء والبراء :
الولاء والبراء صلب عقيدة التوحيد؛ فكلمة التوحيد نصفها براءة من الشرك وأهله؛ وذلك من قول: (لا إله). والنصف الآخر ولاء لله عز وجل وعبودية له سبحانه؛ وذلك من قول: (إلا الله)؛ فالعبد لا يصح توحيده إلا بعبادة الله عز وجل وموالاته، ومحبة ما يحبه ومن يحبه سبحانه، والبراءة من كل ما يعُبد من دون الله تعالى، وبغض ما يبغضه ومن يبغضه عز وجل. ولقد حصل في عقيدة الولاء والبراء - كما في غيرها من أبواب الاعتقاد - غلو وجفاء، فكان الناس في فهم الحب والولاء طرفان ووسط:
الطرف الأول: من غلا وأفرط في فهمه للمحبة والولاء؛ حيث غلا في الحكم على من وقع في موالاة الكفار، ولم يفرق بين الموالاة المكفرة وغير المكفرة، بل عدَّ أي نوع من أنواع الموالاة للكفار ردة وكفر. كما أن هذا الطرف لم يفرق بين المداراة والمداهنة؛ فعدَّ أي صورة من صور المداراة والتقية مداهنة وموالاة، كما غلا في بغضه للمخالف فتبرأ منه كما يتبرأ من الكفار.
الطرف الثاني: من فرَّط في فهمه وتطبيقه لهذه الشعيرة العظيمة، ووقع في موالاة الكفار ومداهنتهم بحجة المداراة والتقية، ولم يفرق بين المحرم منها والمخرج من الملة، بل هي عنده إما جائزة أو محرمة لا تخرج من الملة.
الموقف الوسط: وهو موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ وهو وجوب محبة الله عز وجل، ومحبة ما يحبه من الإيمان والأعمال الصالحة، ومحبة من يحبه سبحانه من أنبيائه وأتباعهم من المؤمنين، وبغض ما يبغضه الله عز وجل من الشرك والكفر والفسوق والعصيان، والبراءة ممن يبغضه الله عز وجل من أهل الشرك والكفر والعصيان، ولكنهم يفرقون بين الكافر والعاصي في الموالاة؛ فهم يتولون المؤمنين الأتقياء ويحبونهم من كل وجه ولا يتبرأون منهم من أي وجه، ويتبرأون من كل كافر ومشرك ومنافق من كل وجه، ولا يوالونهم من أي وجه، وأما المؤمن العاصي المصر على فسقه فهم لا يتبرأون منه بإطلاق، ولا يتولونه باطلاق، بل يتولونه الولاء العام للمؤمنين بما معه من الإيمان، ويتبرأون منه من وجه بما يصر عليه من الفسوق والعصيان.
كما أنهم لا ينظرون إلى موالاة الكفار بحكم واحد، بل يرون أن موالاة الكفار تنقسم إلى: ولاء مكفر مخرج من الملة؛ وهو تولي الكفار ومحبتهم لدينهم، أو مظاهرتهم ونصرتهم على المسلمين، وولاء دون الكفر وهو ما لم يكن توليًا ومحبة ونصرة للكفار؛ فهم لم يعدوا جميع صور موالاة الكفار كفرًا أكبرًا كالطرف الأول، ولم يعدوها جميعها من الأمور المحرمة غير المكفرة كالطرف الثاني؛ فهم وسط بين الطرفين كما أنهم يفرقون بين المداراة والتقية المشروعة وبين المداهنة والتقية المحرمة؛ فلا يلغون المدارة والتقية مطلقًا، ولا يفتحونها على مصراعيها حتى توقعهم في المداهنة والموالاة المحرمة للكفار.
كما أنهم وسط في بغضهم ومحبتهم؛ فلا يغلون في حبهم للأشخاص حتى يقدسونهم أو يخلعون عليهم ثوب العصمة، ولا يغلون في بغضهم للأشخاص حتى يقعوا في ظلمهم وبخسهم حقهم أو اتهامهم بما لا يقولونه أو يعتقدونه أو يعملونه، ولا يتجاهلون حسناتهم وجهادهم وبلاءهم.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أحبب حبيبك هونًا ما عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما»(24).
وأعرض فيما يلي بعض الأمثلة لفقد التوازن في الحب أو البغض:
ذكر الذهبي - رحمه الله تعالى - في السير أن محمد بن يحيى النيسابوري أخذه الحزن على أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - ودفعه حبه لأن يقول: ينبغي لكل أهل دار بغداد أن يقيموا عليه النياحة في دورهم.
علق الذهبي على هذا بقوله: (تكلم الذهلي بمقتضى الحزن لا بمقتضى الشرع)(25).
ومن ذلك أن إمام الحرمين أبا المعالي - شيخ الشافعية بنيسابور - حين مات غلقت الأسواق، وكسر أربعمائة من تلاميذه محابرهم وأقلامهم وجلسوا عامًا لا يغطون رؤوسهم، يطوفون في البلد نائحين عليه مبالغين في الصياح والجزع. قال الذهبي: (هذا كان من زي الأعاجم لا من فعل العلماء المتبعين)(26).(/32)
ومن ذلك قول من قال في الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: (عندنا بخراسان يظنون أن أحمد لا يشبه البشر؛ يظنون أنه من الملائكة) وقول الآخر: (نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة). علق الذهبي على هذا الغلو منصفًا المحب والمحبوب بقوله: (هذا غلو لا ينبغي، لكن الباعث له حب ولي الله في الله)(27).
ومن صور غلو المخالفين في البغض:
التهوين من شأن مخالفهم والحط من قدره إلى درجة لا تعقل ولا تليق؛ ومن ذلك أن فقيهًا من فقهاء العراق - وهو من أهل الرأي - لما رجع من الحج أراد أن يبشر أهل الكوفة بتقدمهم في علوم الشريعة على من خالفهم فقال: (أبشروا يا أهل الكوفة؛ فإني قدمت على أهل الحجاز، فرأيت عطاء وطاووسًا ومجاهدًا، فصبيانكم بل صبيان صبيانكم أفقه منهم). يقول المغيرة - راوي هذه الواقعة -: (فرأينا أن ذاك بغي منه)(28).
وقد يدفع البغض أصحاب الغلو إلى الافتراء والبهتان؛ ومن ذلك أنه نسب البعض إلى ابن كُلاّب - رأس المتكلمين في البصرة - الذي كان يرد على المعتزلة والجهمية أنه إنما ابتدع ما ابتدعه - من القضايا الكلامية - ليدس دين النصارى في ملتنا، وأنه أرضى أخته بذلك. يقول الذهبي في إنصاف الرجل: (وهذا باطل، والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة)(29).
ومن الافتراء على أهل العلم ما دُسَّ على ابن بطوطة في كتابه من أنه سمع ابن تيمية يقول على منبر مسجد دمشق الأموي: (إن الله ينزل كل ليلة ..) قال: كنزولي هذا، ونزل على المنبر. افتروا ذلك على ابن تيمية لتأييد دعواهم فيما ينسبونه إلىه من التشبيه والتجسيم، مع أن ابن تيمية كان في سجن قلعة دمشق أثناء مرور ابن بطوطة بدمشق(30).
وفي واقعنا المعاصر صور وأمثلة مؤذية من الغلو وفقدان العدل في الحب أو البغض، وهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى ذكر وتفصيل، وإن كان سيأتي لها ذكر في مبحث العدل والتوازن مع المخالف إن شاء الله تعالى.
[ 18 ] العدل والتوازن في الموقف من العقل :
أهل السُّنة وسط في نظرتهم للعقل بين الذين غلو في العقل وعظموه وأدخلوه في غير مجاله، وظنوا أنه يمكن أن يقدم على النقل، وردوا الأحاديث الصحيحة بزعم مخالفتها للمعقول، وبين الطرف المقابل لهؤلاء؛ وهم الذين وقعوا في الطرف المناقض حتى للعقل الفطري البدهي؛ فابتعدوا عن تعليل الأحكام الشرعية وإظهار الحكمة فيها، أو قبلوا بالخرافات والأساطير المصادمة لبدهية العقول. وكلا الطرفين ابتعد عن منهج أهل السُّنة، وهدى الله السلف وأتباعهم لما اختُلف فيه من الحق بإذنه؛ حيث أعطوا العقل مكانته اللائقة به، ولم يعارضوا به النصوص، وإنما وجَّهوه لتدبرها، والاستنباط منها، والتسليم بما لم تحط به العقول منها. والقرآن مليء بالاستدلالات العقلية، والبراهين النظرية؛ كالأقيسة والأمثال، ومليء بالنصوص التي تذم المعطلين لعقولهم كما في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، وكما في قوله تعالى - وفي أكثر من آية -: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم: من الآية24)، وقوله: (أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يّس: من الآية68)(31).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «ولما أعرض كثير من أرباب الكلام والحروف، وأرباب العمل والصوت، عن القرآن والإيمان: تجدهم في العقل على طريق كثير من المتكلمة؛ يجعلون العقل وحده أصل علمهم، ويفردونه، ويجعلون الإيمان والقرآن تابعين له.
والمعقولات عندهم هي الأصول الكلية الأولية، المستغنية بنفسها عن الإيمان والقرآن.
وكثير من المتصوفة يذمون العقل ويعيبونه، ويرون أن الأحوال العالية، والمقامات الرفيعة، لا تحصل إلا مع عدمه، ويقرون من الأمور بما يُكذِّب به صريح العقل.
ويمدحون السكر والجنون والوله، وأمورًا من المعارف والأحوال التي لا تكون إلا مع زوال العقل والتمييز، كما يصدقون بأمور يعلم بالعقل الصريح بطلانها ممن لم يعلم صدقه، وكلا الطرفين مذموم.
بل العقل شرط في معرفة العلوم، وكمال وصلاح الأعمال، وبه يكمل العلم والعمل؛ لكنه ليس مستقلا بذلك؛ لكنه غريزة في النفس، وقوة فيها بمنزلة قوة البصر التي في العين؛ فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس والنار.
وإن انفرد بنفسه لم يبصر الأمور التي يعجز وحده عن دركها، وإن عزل بالكلية كانت الأقوال والأفعال مع عدمه أمورًا حيوانية، قد يكون فيها محبة، ووجد، وذوق، كما قد يحصل للبهيمة.
فالأحوال الحاصلة مع عدم العقل ناقصة، والأقوال المخالفة للعقل باطلة.(/33)
والرسل جاءت بما يعجز العقل عن دركه، لم تأت بما يعلم بالعقل امتناعه، لكن المسرفون فيه قضوا بوجوب أشياء وجوازها، وامتناعها لحجج عقلية بزعمهم اعتقدوها حقًا، وهي باطل، وعارضوا بها النبوات وما جاءت به، والمعرضون عنه صدقوا بأشياء باطلة، ودخلوا في أحوال وأعمال فاسدة، وخرجوا عن التمييز الذي فضل الله به بني آدم على غيرهم»(32).
مسألة: تتعلق بدور العقل في معرفة حسن الأشياء وقبحها:
وهذه أيضًا من المسائل التي ضل فيها طرفان عن الحق، وهدى الله عز وجل أتباع السلف إلى الحق فيها. فكان الناس فيها طرفان مذمومان ووسط عدل محمود.
الطرف الأول: من غلا وأفرط في دور العقل واستقلاليته في معرفة قبح الأشياء وحسنها، حتى آل بهم الأمر إلى أن الثواب أو العقاب عليها ثابت بالعقل وليس متوقف على الشرع وإبلاغ الرسل.
الطرف الثاني: من فرَّط ونفى أن يكون للعقل دور في التحسين والتقبيح وإنما ذلك متوقف على الشرع.
الوسط العدل: يثبتون دور العقل في معرفة الحسن والقبيح؛ أما العقاب والثواب عليها فمتوقف على الشرع وإبلاغ الرسل.
وقد أفاض الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في ذكر الأدلة التي يرد بها على الفريقين المذمومين: الغلاة والجفاة، وبخاصة على النفاة منهم؛ فقال - رحمه الله تعالى -: «فاعلم أن هذا مقام عظيم زلت فيه أقدام طائفتين من الناس: طائفة من أهل الكلام والنظر، وطائفة من أهل السلوك والإرادة.
فنفى لأجله كثير من النظار التحسين والتقبيح العقليين، وجعلوا الأفعال كلها سواء في نفس الأمر، وأنها غير منقسمة في ذواتها إلى حسن وقبيح، ولا يميز القبيح بصفة اقتضت قبحه، بحيث يكون منشأ القبح، وكذلك الحسن، فليس للفعل عندهم منشأ حسن ولا قبح، ولا مصلحة ولا مفسدة، ولا فرق بين السجود للشيطان والسجود للرحمن في نفس الأمر، ولا بين الصدق والكذب، ولا بين السفاح والنكاح، إلا أن الشارع حرَّم هذا وأوجب هذا؛ فمعنى حسنه كونه مأمورًا به، لا أنه منشأ مصلحة، ومعنى قبحه كونه منهيًّا عنه، لا أنه منشأ مفسدة، ولا فيه صفة اقتضت قبحه، ومعنى حسنه أن الشارع أمر به لا أنه منشأ مصلحة، ولا فيه صفة اقتضت حسنه.
وقد بينا بطلان هذا المذهب من ستين وجهًا في كتابنا المسمى «تحفة النازلين بجوار رب العالمين»(33) وأشبعنا الكلام في هذه المسألة هناك. وذكرنا جميع ما احتج به أرباب هذا المذهب وبينا بطلانه.
فإن هذا المذهب - بعد تصوره، وتصور لوازمه - يجزم العقل ببطلانه. وقد دل القرآن على فساده في غير موضع، والفطرة أيضاً وصريح العقل.
فإن الله سبحانه فَطَر عباده على استحسان الصدق والعدل، والعفة والإحسان، ومقابلة النعم بالشكر. وفَطَرَهم على استقباح أضدادها. ونسبة هذا إلى فطرهم وعقولهم كنسبة الحلو والحامض إلى أذواقهم، وكنسبة رائحة المسك ورائحة النَّتْن إلى مشامِّهم، وكنسبة الصوت اللذيذ وضده إلى أسماعهم. وكذلك كل ما يدركونه بمشاعرهم الظاهرة والباطنة فيفرقون بين طيبه وخبيثه، ونافعه وضاره.
وقد زعم بعض نفاة التحسين والتقبيح أن هذا متفق عليه، وهو راجع إلى الملائمة والمنافرة، بحسب اقتضاء الطباع، وقبولها للشيء، وانتفاعها به، ونفرتها من ضده.
قالوا: وهذا ليس الكلام فيه، وإنما الكلام في كون الفعل مُتَعَلّقًا للذم والمدح عاجلاً، والثواب والعقاب آجلا. فهذا الذي نفيناه، وقلنا: إنه لا يعلم إلا بالشرع. وقال خصومنا: إنه معلوم بالعقل، والعقل مقتضٍ له.
فيقال: هذا فرار من الزحف؛ إذ ههنا أمران متغايران لا تلازم بينهما:
أحدهما: هل الفعل نفسه مشتمل على صفة اقتضت حسنه وقبحه، بحيث ينشأ الحسن والقبح منه؛ فيكون منشأ لهما أم لا؟
والثاني: أن الثواب المرتب على حسن الفعل، والعقاب المرتب على قبحه، ثابت - بل واقع - بالعقل، أم لا يقع إلا بالشرع؟
ولما ذهب المعتزلة ومن وافقهم إلى تلازم الأصلين استطلتم عليهم، وتمكنتم من إبداء تناقضهم وفضائحهم، ولما نفيتم أنتم الأصلين جميعًا استطالوا عليكم، وأبدوا من فضائحهم وخلافكم لصريح العقل والفطرة ما أبدوه؛ وهم غلطوا في تلازم الأصلين، وأنتم غلطتم في نفي الأصلين.
والحق الذي لا يجد التناقض إليه السبيل: أنه لا تلازم بينهما، وأن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة. والفرق بينهما كالفرق بين المطعومات والمشمومات والمرئيات. ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي. وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحًا موجبًا للعقاب مع قبحه في نفسه؛ بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل. فالسجود للشيطان والأوثان، والكذب والزنا، والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها؛ والعقاب عليها مشروط بالشرع.(/34)
فالنفاة يقولون: ليست في ذاتها قبيحة، وقبحها والعقاب عليها إنما ينشأ بالشرع. والمعتزلة تقول: قبحها والعقاب عليها ثابتان بالعقل. وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل، والعقاب متوقف على ورود الشرع؛ وهو الذي ذكره سعد بن علي الزنجاني من الشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية وحكوه عن أبي حنيفة نصًّا. لكن المعتزلة منهم يصرحون بأن العقاب ثابت بالعقل.
وقد دل القرآن أنه لا تلازم بين الأمرين، وأنه لا يعاقب إلا بإرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن وقبيح. ونحن نبين دلالته على الأمرين:
أما الأول: ففي قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء: من الآية15)، وفي قوله: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: من الآية165)، وفي قوله: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) (الملك: من الآيتين 8، 9)؛ فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل، بل للنذُر. وبذلك دخلوا النار ...
وأما الأصل الثاني: وهو دلالته على أن الفعل في نفسه حسن وقبيح فكثير جداً كقوله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:28- 33)؛ فأخبر سبحانه أن فعلهم فاحشةٌ قبل نهيه عنه. وأمر باجتنابه بأخذ الزينة. و «الفاحشة» ههنا هي طوافهم بالبيت عُراة - الرجال والنساء- غير قريش. ثم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) أي لا يأمر بما هو مناف للحكمة.
ثم قال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)، ولو كان كونها فواحش إنما هو لتعلق التحريم بها، وليست فواحش قبل ذلك، لكان حاصل الكلام: قل إنما حرم ربي ما حَرَّم. وكذلك تحريم الإثم والبغي؛ فكون ذلك فاحشة وإثمًا وبغيًا بمنزلة كون الشرك شركًا؛ فهو شرك في نفسه قبل النهي وبعده.
فمن قال: إن الفاحشة والقبائح والآثام إنما صارت كذلك بعد النهي، فهو بمنزلة من يقول: الشرك إنما صار شركًا بعد النهي، وليس شركًا قبل ذلك.
ومعلوم أن هذا وهذا مكابرة صريحة للعقل والفطرة؛ فالظلم ظلم في نفسه قبل النهي وبعده، والقبيح قبيح في نفسه قبل النهي وبعده، والفاحشة كذلك، وكذلك الشرك؛ لا أن هذه الحقائق صارت بالشرع كذلك.
نعم الشارع كساها بنهيه عنها قبحًا؛ فكان قبحها من ذاتها، وازدادت قبحًا عند العقل بنهي الرب تعالى عنها، وذَمّه لها، وإخباره ببغضها وبغض فاعلها. كما أن العدل والصدق والتوحيد، ومقابلةَ نِعمَ المنعم بالثناء والشكر: حسن في نفسه، وازداد حسنًا إلى حسنه بأمر الرب به، وثنائه على فاعله. وإخباره بمحبته ذلك ومحبة فاعله»(34).
[ 19 ] العدل والتوازن في الإخلاص لله تعالى :
الإخلاص شرط في صحة الأعمال وقبولها عند الله عز وجل. والإخلاص عمل قلبي تبدو آثاره على الأعمال الظاهرة، وهو كغيره من الأعمال يكتنفه طرفان مذمومان والوسط العدل بينهما. إذن فالإخلاص فيه طرفان ووسط.
الطرف الأول: طرف الإفراط والتقصير: وأهله هم الذين تتعرض بعض أعمالهم إلى ما يقدح في الإخلاص وابتغاء وجه الله تعالى؛ كأن يريدوا ببعض أعمالهم الدنيا من مال أو منصب أو شهرة وثناء، أو غير ذلك ما يقدح في الإخلاص.(/35)
الطرف الثاني: طرف الغلو والإفراط: وهم الذين يراعون الإخلاص، ويحرصون على أن تكون أعمالهم ابتغاء وجه الله تعالى، ويحاسبون، ويدققون على أنفسهم في ذلك إلى أن يتجاوزوا العدل الوسط فيه بحيث يصل بهم الحال إلى التشكيك في نواياهم ونوايا الناس، أو يتركون بعض الأعمال الصالحة ظنًا منهم بعدم الإخلاص فيها، أو صعوبة تحقيقه، حتى يؤول الأمر بهم إلى السلبية والقعود عن أعمال البر والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهذا من تزيين الشيطان ومداخله الخطيرة؛ حيث يتحول الإخلاص إلى عمل سلبي يعوق عن فعل الخير.
الوسط والعدل: وهم الذين يجاهدون أنفسهم في تحقيق الإخلاص في جميع أقوالهم وأعمالهم، ويندفعون إلى كل عمل يرضي الله عز وجل، ولا يلتفتون إلى وساوس الشيطان في ترك ما يحبه الله عز وجل خشية عدم الإخلاص لله تعالى، أو صعوبة تحقيقه. وهم متوازنون في ذلك حيث يرون أن الإخلاص عملٌ قلبيٌ إيجابي يدفع المرء إلى فعل كل ما يستطيعه مما يحبه الله عز وجل ابتغاء مرضات الله تعالى، لا أنه عمل سلبي يحول بين المرء وفعل الطاعات ومجاهدة الفساد والمفسدين.
[ 20 ] العدل والتوازن في تحقيق شروط الاجتماع والائتلاف :
إن المتأمل في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد نصوصًا كثيرة بعضها يأمر بالاجتماع والائتلاف على الحق، وبعضها ينهى عن التفرق والتنازع، ويحذر من عواقب التفرق في الدنيا والآخرة. وأكتفي هنا بذكر الآيات الواردة في سورة آل عمران والتي جمعت بين الأمر بالاجتماع والاعتصام بحبله وبين النهي عن التفرق والاختلاف:
قال الله عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً...) (آل عمران: من الآية103) إلى قوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105).
وأمر الاجتماع والائتلاف كغيره من الأمور السابقة يكتنفه طرفان مذمومان والوسط العدل المتوازن بينهما.
الطرف الأول: طرف التقصير والتفريط في تحقيق شروط الاجتماع والائتلاف. وهم الذين يحرصون على اجتماع المسلمين - وبخاصة أهل العلم والدعوة - دون أن يراعوا اختلاف العقائد والنحل. وهذا الطرف من الناس لا يمتنع عنده أن يجتمع أهل القبلة من المسلمين ويتحدوا فيما بينهم دونما مراعاة لتوجهات وعقائد المجتمعين؛ فيمكن أن يجتمع أهل السنة والجماعة مع أهل البدع والأهواء، كالصوفية المبتدعة أو الخوارج أو المرجئة أو المعتزلة، بل إن بعض الحريصين على جمع الكلمة لا مانع عنده من الاجتماع والتقارب مع أهل البدع الكفرية كالشيعة الرافضة والعلمانيين المنافقين. ولنا أن نتصور هذا الاجتماع المشكل من خليط من العقائد: كل عقيدة تضاد الأخرى، وكل حزب بما لديهم فرحون، وكل فرقة لها مصادر تلقِّيها واستدلالها. فماذا عسى أن يثمر مثل هذا الاجتماع إلا المر والحنظل؛ لأنه لن ينتج عنه إلا تنازلات أو مزايدات تخرم أصول أهل السنة والجماعة وثوابتهم.
نعم؛ قد تمر بأهل السنة والاتباع ظروفٌ طارئة يضطرون فيها إلى أن يتحالفوا أو يجتمعوا مع بعض أهل القبلة المبتدعة - لا مع الكفرة الملاحدة - في دفع خطر داهم من قبل الكفار على بلاد المسلمين، أو في دفع منكر وفساد يتفق على دفعه الجميع. وهذا الاجتماع طارئ ومؤقت وفي مهمة معينة، لا أنه دائم وثابت أو أن فيه تنازلاً لأهل البدع أو سكوتًا عن بدعهم.
الطرف الثاني: الغالي والمفْرِط في تحقيق ضوابط الاجتماع؛ وذلك بأن يحَجِّر واسعًا، ويتشدد في وضع الشروط والضوابط التي تؤول بأهله إلى أن يرسموا لأنفسهم كيانًا معينًا مغلقًا يرون أنه هو الحق، وهو الممثل لكيان أهل السنة والاتباع؛ فمن دخله كان منهم ومن أخل بشيء من ضوابط الدخول فهو خارج عن دائرة أهل السنة وما كان عليه سلف الأمة. ولا يخفى ما في هذه النظرة من الغلو والإعجاب بالنفس؛ لأن أصحاب هذا الطرف سيجدون أنفسهم في دائرة ضيقة تمثل أهل السنة عندهم، وغيرهم خارج هذه الدائرة مستحقون للتبديع والتحذير منهم. وحجة هذا الطرف أن من تلبس بأي بدعة دقت أو جلت، وسواء كانت في العقائد أو الأعمال، وسواء كان المتلبس بها جاهلاً أو مقلدًا؛ كل أولئك مبتدعة ولا يجوز الاجتماع معهم. وقد يكون هذا المتلبس ببدعة دقيقة يعتقد ويتبع ما كان عليه سلف الأمة في جميع أموره غير أنه تلبس ببدعة أو بدعتين؛ فهذا عندهم من المفارقين، وقد تكون المخالفة في مسألة اجتهادية أو تدور بين راجح ومرجوح وليست في مسألة أصولية، ومع ذلك نجد أن هذا الطرف من الناس يفارق عليها، وينابذ صاحبها. وهذا من الغلو والإفراط المؤديين إلى مزيد من الفرقة والتخاصم والتدابر.(/36)
الموقف المتوازن وهو الوسط العدل: وهم الذين يحرصون على الاجتماع والائتلاف بين أهل السنة، دون أن يكون ذلك على حساب العقيدة وثوابتها؛ فهم ليسوا كالطرف الأول المفرِّط في ضوابط الاجتماع الشرعية بل يخالفوهم في ذلك؛ فلا يرون الاجتماع مع أهل البدع المعروفين بأصولهم البدعية وبالدعوة إليها، ولو كانوا من أهل القبلة - كالخوارج والمعتزلة والمرجئة وغيرهم - فضلاً عن أن يكونوا من الخارجين عن الملة كفرق الباطنية من رافضة وغيرهم. ومع ذلك فهم لا يذهبون إلى رأي الطرف الغالي المفرِط في تحقيق شروط الاجتماع، بل إنهم يرون الاجتماع مع كل منتسب لأهل السنة والجماعة غير متبنٍ لأصل من أصول أهل البدع، ولو تلبس ببدعة من البدع جهلاً منه أو تقليدًا. فهذا عند الطرف العدل يعد من أهل السنة والجماعة جملة، وإن خالفهم في مسألة جزئية من مسائل الاعتقاد؛ فمثل هذا يقال إنه من أهل السنة بالجملة مخالف لهم في بدعته التي هو عليها؛ وعندها لا يُفَارق عليها ما دام أنه لم ينطلق في مخالفته تلك من أصول أهل البدع، مع الاجتهاد في نصحه وإزالة الشبهة عنه.
كما أنهم من باب أولى لا يجعلون المسائل الاجتهادية التي يخالفون فيها غيرهم سببًا في الافتراق، بل يرون الاجتماع مع المنتسبين لأهل السنة والاتباع ولو اختلفوا معهم في فرع أو أكثر من فروع الأحكام. فما زال العلماء من القديم وفي عصرنا يختلفون في أحكامهم واجتهاداتهم، ومع ذلك فقد كانوا إخوانًا متآلفين لم يتفرقوا بسبب اختلافاتهم.
ومن الفقه بمقاصد الشريعة المحافظة على الكليات ولو تخلفت بعض الجزئيات؛ أما أن يعكس الأمر فيحافظ على جزئي، ولو أدى إلى ذهاب الكلي، فهذا غلط وقلة فقه بمقاصد الشريعة. وبناء على ذلك فإن الاجتماع أصل كلي فلا يُفرَّط فيه ولا يضيع بمحافظتنا على جزئي فرعي. أما إذا أدى الاجتماع إلى ذهاب الكليات والتنازل عن الثوابت فهذا اجتماع باطل وهو كالزبد يذهب جفاءً؛ لأنه مبني على شفا جرف هار.
______________
(1) أخرجه الطبري في التفسير: (14/210)، ورواه مختصرًا الترمذي في تفسير سورة براءة، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبدالسلام بن حرب.
(2) وقد توسع الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى - في هذه المسألة المهمة بكلام نفيس حيث قال: (والتوازن بين مجال المشيئة الإلهية الطليقة، ومجال المشيئة الإنسانية المحدودة، وهي القضية المشهورة في تاريخ الجدل في العالم كله، وفي المعتقدات كلها، وفي الفلسفات والوثنيات كذلك باسم قضية «القضاء والقدر» أو «الجبر والاختيار». والإسلام يثبت للمشيئة الإلهية الطلاقة ويثبت لها الفاعلية التي لا فاعلية سواها ولا معها وفي الوقت ذاته يثبت للمشيئة الإنسانية الإيجابية ويجعل للإنسان الدور الأول في الأرض وخلافتها. وهو دور ضخم، يعطي الإنسان مركزًا ممتازًا في نظام الكون كله، ويمنحه مجالاً هائلاً للعمل والفاعلية والتأثير، ولكن في توازن تام مع الاعتقاد بطلاقة المشيئة الإلهية، وتفردها بالفاعلية الحقيقية، من وراء الأسباب الظاهرة؛ وذلك باعتبار أن النشاط الإنساني هو أحد هذه الأسباب الظاهرة وباعتبار أن وجود الإنسان ابتداء، وإرادته وعمله، وحركته ونشاطه، داخل في نطاق المشيئة الطليقة، المحيطة بهذا الوجود وما فيه ومن فيه.
ويقرأ الإنسان في القرآن الكريم: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51)، (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (النساء: من الآية78)...
ويقرأ كذلك في الجانب الآخر: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11)، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الأنفال: من الآية53)، (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14، 15)، (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7- 10)، (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ) (النساء: من الآية111).(/37)
ثم يقرأ بعد هذا وذلك: (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر:54-56)، (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان: 29، 30)، (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ) (آل عمران: 165، 166).
يقرأ الإنسان أمثال هذه المجموعات المنوعة الثلاثة؛ فيدرك منها سعة مفهوم «القدر» في التصور الإسلامي، مع بيان المجال الذي تعمل فيه المشيئة الإنسانية في حدود هذا القدر المحيط.
لقد ضربت الفلسفات والعقائد المحرفة في التيه - في هذه القضية - ولم تعد إلا بالحيرة والتخليط بما في ذلك من خاضوا في هذه القضية من متكلمي المسلمين أنفسهم .. ذلك أنهم قلدوا منهج الفلسفة الإغريقية أكثر مما تأثروا بالمنهج الإسلامي في علاج هذه القضية.
في التصور الإسلامي ليست هناك «مشكلة» في الحقيقة، حين يواجَه الأمر بمفهوم هذا التصور وإيحائه:
إن قدر الله في الناس هو الذي ينشئ ويخلق كل ما ينشأ وما يُخلق من الأحداث والأشياء والأحياء .. وهو الذي يصرّف حياة الناس ويكيّفها. شأنهم في هذا شأن هذا الوجود كله كل شيء فيه مخلوق بقدر، وكل حركة تتم فيه بقدر. ولكن قدر الله في الناس يتحقق من خلال إرادة الناس وعملهم في ذات أنفسهم، وما يحدثونه فيها من تغييرات. (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11)، وكون مرد الأمر كله إلى المشيئة الإلهية المطلقة، لا يبطل هذا ولا يعطله. فالأمران يجيئان مجتمعين أحياناً في النص القرآني الواحد، كما رأينا في المجموعة الثالثة من هذه النماذج، ونحن إنما نفترض التعارض والتناقض حين ننظر إلى القضية بتصور معين نصوغه من عند أنفسنا عن حقيقة العلاقة بين المشيئة الكبرى وحركة الإنسان في نطاقها. إلا أن المنهج الصحيح: هو ألا نستمد تصوراتنا في هذا الأمر من مقررات عقلية سابقة. بل أن نستمد من النصوص مقرراتنا العقلية في مثل هذه الموضوعات، وفيما تقصه علينا النصوص من شأن التقديرات الإلهية في المجال الذي لا دليل لنا فيه غير ما يطلعنا الله عليه منه؛ فهو قال: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً) (المزمل: من الآية19)، وهو قال: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (الإنسان: من الآية30)، وهو قال: (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة:14، 15)، وهو قال: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (الأنعام: من الآية125)، وهو قال في الوقت نفسه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت:46).
فلا بد إذن - وفق تصور المسلم لإلهه وعدله في جزائه، وشمول مشيئته وقدره - من أن تكون حقيقة النسب بين مدلولات هذه النصوص في حساب الله من شأنها أن تسمح للإنسان بقدرٍ من الإيجابية في الاتجاه والعمل، يقوم عليه التكليف والجزاء دون أن يتعارض هذا القْدر مع مجال المشيئة الإلهية المطلقة، المحيطة بالناس والأشياء والأحداث .. كيف؟
كيفيات فعل الله كلها، وكيفيات اتصال مشيئته بما يراد خلقه وإنشاؤه كلها .. ليس في مقدور العقل البشري إدراكها. والتصور الإسلامي يشير بتركها للعلم المطلق، والتدبير المطلق - مع الطمأنينة إلى تقدير الله وعدله ورحمته وفضله - فالتفكير البشري المحدود بحدود الزمان والمكان، وبالتأثرات الوقتية والذاتية، ليس هو الذي يدرك مثل هذه النِّسَب وهذه الكيفيات، وليس هو الذي يحكم في العلاقات والارتباطات بين المشيئة الإلهية والنشاط الإنساني. إنما هذا كله متروك للإرادة المدبرة المحيطة والعلم المطلق الكامل. متروك لله الذي يعلم حقيقة الإنسان، وتركيب كينونته، وطاقات فطرته وعمله الحقيقي، ومدى ما فيه من الاختيار، في نطاق المشيئة المحيطة، ومدى ما يترتب على هذا القدر من الاختيار من جزاء.(/38)
وبهذا وحده يقع التوازن في التصور، والتوازن في الشعور، والاطمئنان إلى الحركة وفق منهج الله، والتطلع معها إلى حسن المصير ... إن الله قادر طبعًا على تبديل فطرة الإنسان - عن طريق هذا الدين أو عن غير طريقه - أو خلقه بفطرة أخرى. ولكنه شاء أن يخلق الإنسان بهذه الفطرة، وأن يخلق الكون على هذا النحو الذي نراه. وليس لأحد من خلقه أن يسأله لماذا شاء هذا؟ لأن أحدًا من خلقه ليس إلهًا! وليس لديه العلم والإدراك - ولا إمكان العلم والإدراك - للنظام الكلي للكون، ولمقتضيات هذا النظام في طبيعة كل كائن في هذا الوجود، وللحكمة الكامنة في خلقه كل كائن بطبيعته التي خلق عليها.
والله وحده هو الذي يعلم؛ لأنه وحده هو الذي خلق الكون ومن فيه وما فيه، وهو وحده الذي يرى ما هو خير فينشئه ويبقيه،وهو وحده الذي يقدر أحسن وضع للخلق فينشئه فيه: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: من الآية14).
[عن كتاب خصائص التصور الإسلامي ومقوماته: ص 143-150] مختصرًا.
(3) فهم وسط بين هؤلاء وأولئك؛ فيحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ويوالونهم ويترضون عنهم، ولا يغلون فيهم ولا يخرجونهم عن منزلتهم التي هم عليها.
(4) مجموع الفتاوى: (3/370-375).
(5) خصائص التصور الإسلامي: (ص 160-162) باختصار.
(6) مجموع الفتاوى: (10/21).
(7) مجموع الفتاوى: (10/21).
(8) مدارج السالكين: (2/145) ط دار طيبة.
(9) مدارج السالكين: (2/227، 228) ط دار طيبة.
(10) وهم الذين يدَّعون أنهم يعبدون الله حبًا له لا رجاءً لثوابه ولا خوفًا من عقابه!!
(11) مدارج السالكين: (2/297-299) ط دار طيبة.
(12) مدارج السالكين: (3/214) ط دار طيبة.
(13) الروح: (ص 541، 542).
(14) رواه الترمذي: (2649)، وصححه الألباني برقم (2044) في صحيح سنن الترمذي.
(15) في ظلال القرآن: (5/2758).
(16) مدارج السالكين: (1/440، 441) ط دار طيبة.
(17) خصائص التصور الإسلامي: (ص 141، 142).
(18) تفسير السعدي: (4/40).
(19) تفسير ابن كثير عند الآية: (77) من سورة القصص.
(20) في ظلال القرآن: (5/2711).
(21) مجموع الفتاوى: (10/622، 623).
(22) عن رسالة للشيخ غير مطبوعة بعنوان: (وسطية أهل السنة والجماعة).
(23) في ظلال القرآن: (2/931 - 934) باختصار.
(24) رواه الترمذي في البر والصلة باب الاقتصاد في الحب والبغض، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (178).
(25) نزهة الفضلاء: (ص 814).
(26) نزهة الفضلاء: (ص 1311).
(27) نزهة الفضلاء: (815، 816).
(28) نزهة الفضلاء: (ص 486).
(29) سير أعلام النبلاء: (11/174).
(30) انظر (فقه الائتلاف) للأستاذ محمود الخزندار -رحمه الله تعالى-: (ص 330).
(31) انظر كتاب (فاستقم كما أمرت): (ص 170، 171) للمؤلف.
(32) مجموع الفتاوى: (3/338، 339).
(33) لعله يعني الكتاب المطبوع اليوم باسم: (مفتاح دار السعادة)؛ حيث ذكر فيه ابن القيم أكثر من ستين وجهًا على بطلان هذا المذهب.
(34) مدارج السالكين: (1/420-427) باختصار، ط. دار طيبة.
المبحث الثاني
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله تعالى
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول هذا الدين؛ ومنه الجهاد في سبيل الله تعالى الذي هو: ذروة سنامه، والطريق إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله عز وجل. وخيرية هذه الأمة وعزتها متوقفان على القيام بشعيرة الأمر والنهي والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال الله عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: من الآية110).
ومن أجل القيام بها على الوجه المشروع المرضي لله تعالى جاءت الآيات والأحاديث التي ترسم معالمها وضوابطها وتحذر عن الانحراف بها يمينًا وشمالاً، وتهدي إلى الوسطية والعدل الذي هو سمة بارزة للأمة الوسط التي هي خير أمة أخرجت للناس.
وقد افترق الناس في القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى طرفين ووسط.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين قاموا بهذه الشعيرة وباشروا الأمر والنهي دون مراعاة للضوابط الشرعية للأمر والنهي، ودون النظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، ودون مراعاة لأحوال الزمان أو المكان أو الأشخاص، بل قد يصل بهم الإفراط إلى الخروج على الأمة بالسيف، كما حصل ذلك من الخوارج، والمعتزلة ومن تأثر بهما.(/39)
ويتحدث الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن شمول الشريعة وكمالها وخيريتها ويضرب لذلك أمثلة فيقول: «فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعَاش والمعاد، وهي عَدْل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلُّها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجوْرِ، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العَبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عَدْل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي مَنْ استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، وبها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة.
وكلُّ خير في الوجود فإنما هو مستفَاد منها، وحاصل بها. وكل نقص في الوجود، فسببه من إضاعتها. ولولا رسومٌ قد بقيت لخَرِبت الدنيا، وطُوِى العالم، وهي العصمة للناس، وقِوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا. فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خَرابَ الدنيا، وطَىَّ العالم رفع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول الله وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة:
المثال الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر، ليحصل بإنكاره من المعروف ما يُحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسُوغ إنكارُه، وإن كان الله يبغضه، ويمقت أهله ... ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه منكر أكبر منه ... فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه؛ فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة: موضع اجتهاد، والرابعة محرَّمةُ. فإذا رأيت أهلَ الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كَرْمي النُّشَّاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك، وإذا رأيت الفُسَّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكاء وتَصْديِة، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخِفْت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدَع والضلال والسحرة، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع»(1).
الطرف الثاني: أهل التفريط والتقصير: وهم الذين قعدوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وآثروا الراحة على الدعوة والجهاد، وبرروا ذلك باجتناب الفتن التي تترتب على الأمر والنهي كما حصل ذلك من المرجئة وأهل الفجور.
الموقف الوسط المتوازن: وهو الذي عليه أهل الاستقامة؛ أهل السنة والجماعة الذين قاموا بشعيرة الأمر والنهي مراعين في ذلك الضوابط الشرعية والنظر في الموازنة بين المفاسد والمصالح، وحَذِروا وحذَّروا من الخروج على جماعة المسلمين بالسيف، ومع ذلك فهم يصدعون بالحق من دون سيف ولا عصا؛ ولو أصابهم في ذلك من الأذى ما أصابهم؛ قال الله عز وجل: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) (لقمان: من الآية17).
وعن هذين الطرفين المذمومين - طرف الإفراط وطرف التفريط - يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتال أئمة الجور، وأمر بالصبر على جورهم، ونهى عن القتال في الفتنة، فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلمًا، ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنًّا أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك»(2).
أما عن الوسط بين هذين الطرفين فيقول رحمه الله تعالى: «ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السنة والشريعة، والنهي عن البدعة والضلالة بحسب الإمكان، كما دل على وجوب ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة.(/40)
وكثير من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك؛ فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بفتنة؛ فإما أن يؤمر بهما جميعًا أو ينهى عنهما جميعًا، وليس كذلك، بل يؤمر وينهى ويصبر عن الفتنة، كما قال تعالى: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) (لقمان: من الآية17).
وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»(3)، فأمرهم بالطاعة ونهاهم عن منازعة الأمر أهله، وأمرهم بالقيام بالحق. ولأجل ما يُظَنُّ مِنْ تعارض هذين تَعْرِض الحيرة في ذلك لطوائف الناس. والحائر الذي لا يدري - لعدم ظهور الحق، وتمييز المفعول من المتروك - ما يفعل إما لخفاء الحق عليه أو لخفاء ما يناسب هواه عليه»(4) ا.هـ.
أما الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن كان يدخل في الكلام السابق عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا أنه من المهم أن يفرد بكلام خاص عن الوسط والطرفان المذمومان اللذان بكتنفانه وبخاصة في واقعنا المعاصر الذي اختلفت فيه الرؤى حول الجهاد في سبيل الله عز وجل: ما بين قاعد عاجز لا يفكر في الاستعداد وإعداد العدة للجهاد، وما بين متسرع ومطالب بجهاد الكفر وأهله دونما الحصول على الحد الأدنى من القدرة والبيان الذي تستبان فيه سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين. وبين هذين الطرفين يقع الموقف العدل المتوازن.
ويتحدث سيد قطب - رحمه الله - عن هذين الطرفين المذمومين فيقول: «وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته، إلى جانب سماحته وتغاضيه؛ هذه في موضعها، وتلك في موضعها. وطبيعة الموقف وحقيقة الواقعة هي التي تحدد هذه وتلك ..
ورؤية هاتين الصفحتين - على هذا النحو - كفيلة بأن تنشئ التوازن في شعور المسلم؛ كما تنشئ التوازن في النظام الإسلامي - السمة الأساسية الأصيلة - فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفًا وحماسة وشدة واندفاعًا فليس هذا هو الإسلام! وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام - كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! - فيجعلون الأمر كله سماحة وسلمًا وإغضاء وعفوًا؛ ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين - وليس دفعًا عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة، وليس تأمينًا لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة، وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله؛ من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء .. فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام»(5).
ولمزيد من التفصيل يمكن القول بأن الناس في موقفهم من الجهاد في سبيل الله تعالى طرفان ووسط:
الطرف الأول: هو من نظر إلى أحوال المسلمين اليوم وضعفهم وعجزهم عن مواجهة أعدائهم فرأى استحالة الجهاد في هذا الزمان، ورضي بالأمر الواقع ولم يسع للإعداد والاستعداد، وتجاوز تبرير ضعفه وموقفه إلى التشنيع على الحركات الجهادية التي قامت للدفاع عن المسلمين في بقاع الأرض؛ كما في كشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين وغيرها.
ويستند أصحاب هذا الرأي إلى هديه صلى الله عليه وسلم مع المشركين في مكة؛ حيث أُمِرَ بكف اليد والصبر. وهذا الاستدلال صحيح في حد ذاته فيما لو نظر أصحاب هذا الرأي إلى أنها مرحلة مؤقتة يسعون فيها إلى بذل الجهد في الدعوة والإعداد لتغيير النفوس وشحذ الهمم وتربيتها على التضحية والبذل في سبيل الله عز وجل.
أما أن ينظر لهذه المرحلة وكأنها دائمة فيستسلم للواقع وتُستمرأ الذلة، وتفتر الهمم ولا يحصل الإعداد للجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فهذا مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مع كف اليد يربي الصحابة على التوحيد الخالص، والصبر في سبيل الله عز وجل، ويعد النفوس للتضحية بالمال والوطن والنفس في سبيل الله عز وجل؛ وهذا مطلوب لذاته كما أنه من أعظم العدة والزاد لما يُنتظر من الهجرة والجهاد في سبيل الله عز وجل. ويلحق بأصحاب هذا الرأي أولئك المهزومون الذين وقفوا مع المراحل الأولى للدعوة وفرضية الجهاد، وحاولوا تقييد النصوص التي تأمر بجهاد الكفار أينما ثُقِفُوا بنصوص المراحل السابقة التي فيها الأمر بجهاد الدفع ورد الأعداء فحسب.(/41)
وفي ذلك يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى -: «إن هذه النصوص التي يلتجئون إليها نصوص مرحلية تواجه واقعًا معينًا. وهذا الواقع المعين قد يتكرر وقوعه في حياة الأمة المسلمة، وفي هذه الحالة تطبق هذه النصوص المرحلية لأن واقعها يقرر أنها في مثل تلك المرحلة التي واجهتها تلك النصوص بتلك الأحكام، ولكن هذا ليس معناه أن هذه هي غاية المنى، وأن هذه هي نهاية خطوات هذا الدين .. إنما معناه أن على الأمة المسلمة أن تمضي قدمًا في تحسين ظروفها، وفي إزالة العوائق من طريقها حتى تتمكن في النهاية من تطبيق الأحكام النهائية الواردة في السورة الأخيرة، والتي كانت تواجه واقعًا غير الواقع الذي واجهته النصوص المرحلية»(6) ا.هـ.
الطرف الثاني: وأصحاب هذا الطرف يرون أن آية السيف التي نزلت في سورة براءة قد نسخت كل مراحل الجهاد السابقة؛ سواء في كف اليد أو المسالمة مع الكفار، أو عقد صلح أو هدنة معهم .. إلخ، ونظروا إلى أن قتال الكفار والمرتدين اليوم فرض دون أن ينظروا إلى أحوال المسلمين وضعفهم، ودون أن ينظروا إلى تحقيق شرائط الجهاد من: القدرة، وإقامة الحجة على الناس بالبيان الكافي لسبيل المؤمنين، والتعرية التامة لسبيل المجرمين؛ ليكفر من كفر ويهلك من هلك عن بينة، ويؤمن من آمن ويحيى من حيى عن بينة؛ ودون أن يكون هناك الإعداد المعنوي الروحي للمجاهدين علمًا وعملاً وعبادة وأخلاقًا ودعوة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمَّن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون»(7) ا.هـ.
وقد جاء موقف هذا الطرف الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأخيرة من مراحل فرض الجهاد في مقابل موقف الطرف السابق الذي لم ينظر إلا إلى المرحلة الأولى - وهي كف اليد - ولم يُعِدّ للمراحل الجهادية التي تلت كف اليد والصبر على أذى الكفار.
الموقف الوسط المتوازن: وهو الموقف العدل الذي أحسب أنه الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة والجهاد؛ حيث رأى أن واقع المسلمين اليوم وما يعيشونه من ذلة ومهانة وتسلط أعدائهم عليهم وذهاب دولتهم هو أشبه ما يكون بحال الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة؛ حيث الاستضعاف وتسلط الكفار. ولكن أصحاب هذا الموقف فارقوا الموقف الأول الذي رضخ للواقع في أنهم لم يرضوا بالاستسلام للواقع، ولم يرضوا بالذل والمهانة؛ بل قاموا باتباع أثر النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الظروف حيث جاهد وصبر وبلَّغ التوحيد الخالص للناس وأوضح سبيل المجرمين وحذر منها، وربى أصحابه رضي الله عنهم على التوحيد ومقتضياته، وأعدهم علمًا وعملاً للجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى؛ فصبروا وصابروا، وهجروا الخلان والأوطان، واستعذبوا ذلك في سبيل الله عز وجل؛ حتى إذا علم الله عز وجل صدق ذلك منهم هيأ لهم المراحل التالية من مراحل الجهاد في سبيله سبحانه، وهيأ لهم الأنصار والدولة التي ينطلقون منها للجهاد في سبيل الله عز وجل، ففتحوا الدنيا ونشروا أنوار التوحيد ورسالة الإسلام في كل مكان قدروا عليه حتى أصبح الدين كله لله، وصارت كلمة الله هي العليا وكلمة الكافرين هي السفلى.
كما فارقوا الموقف الثاني بالصبر وعدم العجلة في جهاد الطلب للكفار والمرتدين قبل الإعداد الشامل لذلك والبيان التام لسبيل المؤمنين وسبيل المجرمين.
تنبيه:
ليس المقصود بالطرف الثاني تلك الحركات الجهادية التي تدافع اليوم عن المسلمين في أفغانستان والشيشان وكشمير وفلسطين وغيرها؛ فهذا جهاد دفع لا يشترط فيه ما يشترط لجهاد الطلب؛ وإنما المقصود هم أولئك الذين يرون مواجهة الأنظمة الطاغوتية في بلدان المسلمين دون الحصول على الحد الأدنى من الإعداد والقدرة، وقبل وضوح راية الكفر وأهلها وراية أهل الإيمان في تلك البلدان للناس؛ مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهًا لوجه أمام إخوانهم المسلمين الذين غرر بهم ولبس عليهم الأمر.
____________
(1) إعلام الموقعين: (3/5-7) باختصار.
(2) الآداب الشرعية: (1/177).
(3) البخاري في الفتن، باب قوله صلى الله عليه وسلم: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» ح (7056)، ورواه مسلم في الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ح (1709) .
(4) الاستقامة: (1/41، 42).
(5) في ظلال القرآن: (2/734).
(6) في ظلال القرآن: (3/1581).
(7) الصارم المسلول: (2/414).
المبحث الثالث
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في العبادات(/42)
والمقصود بالعبادات هنا: تلك العبادات التي بين العبد وربه - سبحانه - كما هو الحاصل في شعائر التعبد؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر وقراءة القرآن وغيرها، مما لا يدخل في معاملات الخلق. وهذا من باب التقسيم الفني فقط، وإلا فكل أعمال العبد وحركاته ومعاملاته ينبغي أن تكون كلها عبادة لله تعالى، وأن يكون فيها العبد مستسلمًا لربه خاضعًا لشرعه؛ قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162، 163).
وأول ما نبدأ به في وسطية هذا الدين في العبادات تلك الوسطية العامة البارزة والتوازن المنضبط في تشريع العبادات وأحكامها ويسرها، ولكي تبرز هذه السمة بصورة واضحة فلا بد من التعرض للمناهج الأخرى السائدة فيما يتعلق بالعبادة تفريطًا أو إفراطًا؛ وذلك كما يلي:
«المنهج الأول: ويمثله اليهود في تفريطهم وجفائهم؛ فلو تأملنا في التوارة - بعد تحريفها - لوجدنا تقديس المادة غلب على بنودها، فلا تقرأ في أسفار التوارة ذكراً للآخرة، حتى ما ورد فيها من وعد ووعيد فإنما هو متعلق بالدنيا فقط، فلا يعمل الشخص إلا لتحقيق كسب عاجل، أو خوفاً من عقوبة عاجلة، بل بلغوا وطبقوا ماديتهم حتى في معرفة الله، فقالوا: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) (النساء: من الآية153)، وقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) (البقرة: من الآية55).
ووفقًا لهذا التصور المادي الدنيوي أغرق هؤلاء في تقديس المحسوسات، واتخذوها طريقًا للرقي، وأصبحت القيم المادية محور الحياة، وتحول الإنسان في نظر هؤلاء إلى آلة تتحرك، ومعدة تهضم، وكائن يلهو. وقد وصفهم القرآن الكريم، وبين مدى تعلقهم بالحياة الدنيا وحرصهم عليها فقال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) (البقرة: من الآية96). أيَّ حياة؛ حتى لو كانت حياة البهائم ونحوها؛ وذلك لأنهم يخشون الموت: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (البقرة: من الآية95)؛ لأنهم ربطوا غايتهم بالدنيا، فعلمهم للدنيا وعبادتهم لمآرب دنيوية! فإذا انتهت الدنيا فقد فاتهم كل شيء فهم بهذا أغرقوا في الشهوات، وعبَّدوا أنفسهم للماديات، فهم كمشركي قريش الذين قالوا: (مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) (الجاثية: من الآية24)، وهذا المنهج يمثل التفريط في أسوأ صوره وحالاته، ولذلك أمرنا الله أن نستعيذ منه في كل صلاة، ونسأله أن يجنبنا إياه: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) (الفاتحة: من الآية7).
أما المنهج الثاني: وهو المنهج القائم على الروحانيات؛ وذلك بإعلائها وتمجيدها، والإغراق في مفهوم العبادة والرهبنة، ويمثل هذا المنهج النصارى، وهو منهج الإفراط والغلو وابتداع النصارى رهبانية قاسية على النفس: تحرم الزواج، وتكبت الغرائز، وتمنع كل أنواع الزينة وطيبات الرزق، وترى ذلك رجسًا من عمل الشيطان، وبالغوا في العبادة، وأخرجوها عن كيفيتها، وعن المراد منها، وأصبحت رهبانية غالية مشوهة، مؤذية للأجساد، ابتدعوها من أنفسهم، بلا حجة ولا برهان؛ (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) (الحديد: من الآية27)....
وهذا المنهج يمثل الإفراط والغلو، وهو الوجه الثاني من وجوه الانحراف عن الصراط المستقيم، ولذلك أُمِرْنا بأن نسأل الله أن يجنبنا إياه: (وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7)»(1).
إذن فشريعة الإسلام وسط وعدل في العبادات بين المنهج القائم على التفريط والجفاء، وبين المنهج القائم على الغلو والإفراط والرهبانية.
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «ولهذا كان السلف يحذرون من هذين الصنفين؛ قال الحسن: هو المبتدع في دينه والفاجر في دنياه، وكانوا يقولون: احذروا صاحب دنيا أغوته دنياه، وصاحب هوى متبع لهواه، وكانوا يأمرون بمجانبة أهل البدع والفجور.
فالقسم الأول: أهل الفجور؛ وهم المترفون المنعمون أوقعهم في الفجور ما هم فيه.
والقسم الثاني: المترهبون؛ أوقعهم في البدع غلوهم وتشديدهم. هؤلاء استمتعوا بخلاقهم، وهؤلاء خاضوا كما خاض الذين من قبلهم؛ وذلك أن الذين يتبعون الشهوات المنهي عنها، أو يسرفون في المباحات ويتركون الصلوات والعبادات المأمور بها يستحوذ عليهم الشيطان والهوى فينسيهم الله والدار الآخرة، ويفسد حالهم، كما هو مشاهد كثيرًا منهم.(/43)
والذين يحرمون ما أحل الله من الطيبات - وإن كانوا يقولون: إن الله لم يحرم هذا، بل يلتزمون أن لا يفعلوه؛ إما بالنذر وإما باليمين، كما حرم كثير من العباد والزهاد أشياء - يقول أحدهم: لله عليّ أن لا آكل طعامًا بالنهار أبدًا، ويعاهد أحدهم أن لا يأكل الشهوة الملائمة، ويلتزم ذلك بقصده وعزمه، وإن لم يحلف ولم ينذر. فهذا يلتزم أن لا يشرب الماء، وهذا يلتزم أن لا يأكل الخبز، وهذا يلتزم أن لا يشرب الفُقَّاع(2)، وهذا يلتزم أن لا يتكلم قط، وهذا يَجُبُّ نفسه، وهذا يلتزم أن لا ينكح ولا يذبح. وأنواع هذه الأشياء من الرهبانية التي ابتدعوها على سبيل مجاهدة النفس، وقهر الهوى والشهوة.
ولا ريب أن مجاهدة النفس مأمور بها، وكذلك قهر الهوى والشهوة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله، والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله)(3) لكن المسلم المتبع لشريعة الإسلام هو المحرم ما حرمه الله ورسوله؛ فلا يحرم الحلال ولا يسرف في تناوله؛ بل يتناول ما يحتاج إليه من طعام أو لباس أو نكاح، ويقتصد في ذلك، ويقتصد في العبادة؛ فلا يحمل نفسه ما لا تطيق»(4).
ولمزيد من البيان لهذه الوسطية والعدل والتوازن في العبادات أذكر بعض النماذج والمظاهر الدالة على ذلك؛ وذلك فيما يلي:
النموذج الأول :
عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ قال أحدهم: أما أنا فإني أُصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)(5).
يقول صاحب كتاب الوسطية في القرآن: «فهذا موقف من مواقف الغلو يجلي لنا سبب هذه النزعة: وهو الرغبة الصادقة في التزود من الخير التي دفعتهم للسؤال عن أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته، فلما علموا، رأوا أن ذلك قليل فقالوا ما قالوا.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا الاتجاه فبادر بعلاجه، وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه؛ فبين أنها ليست بالتضلع من أعمال والتفريط في أخرى، ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله، وهذا هو عين الوسطية والحكمة والاستقامة والاعتدال والعدل»(6).
ويعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هذا الحديث وأمثاله فيقول: «والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة؛ كلاهما يخرج على سواء فطرته ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له، وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل. وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير.
من أجل هذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام. أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها وقال: (فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك؛ وأقام له عليها نظامًا بشريًا لا تُدَمَّرْ فيه طاقة واحدة من طاقات البشر. إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف؛ ولا اعتداء من إحداها على الأخرى. فكل اعتداء يقابله تعطيل. وكل طغيان يقابله تدمير»(7).
النموذج الثاني :
عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مُرْهُ فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه)(8). فهذا يدل على سماحة ويسر الشريعة.
النموذج الثالث :
«آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع طعامًا فقال: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن. قال: فصليا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان)(9).
النموذج الرابع :(/44)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة فقال: (من هذه؟) فقلت: امرأة لا تنام تُصلي. قال: (عليكم من العمل ما تطيقون؛ فوالله لا يمل الله حتى تملوا)، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه»(10). وهذا توجيه نبوي كريم نحو الاعتدال والتوسط.
النموذج الخامس :
عن أنس رضي الله عنه، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وحبل مدود بين ساريتين. فقال: (ما هذا؟) قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به. فقال: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد)(11).
«فهذا الحديث يدل على أن النساء لم يكن أقل حرصًا من الرجال على التزود من الخير، والتنافس في أعمال البر، وقد تجلى ذلك في هذه النزعة الجامحة نحو العبادة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقر هذا الجموح الضار، فعمد إلى الزجر عنه، وأمر بالوسط النافع»(12).
ولنستمع الآن إلى تعليق الإمام النووي النافع حول هذين الحديثين حيث يقول: «فيه دليل على الحث على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمق، وليس الحديث مختصاً بالصلاة بل هو عام في جميع أعمال البر ... وفي هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم ورأفته بأمته؛ لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط والقلب منشرحًا، فتتم العبادة...)(13).
ويلاحظ في النماذج السابقة التحذير من الغلو والإفراط، وأنه قد ينتهي بصاحبه إلى الانقطاع والتوقف، أو الزيادة على ما لم يشرعه الله عز وجل، وبالتالي يصبح مردوداً على صاحبه.
وفي مقابل الغلو نهى الله عز وجل عن التفريط والإضاعة للصلاة، فقال تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59).
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره لهذه الآية: «لما ذكر الله تعالى حزب السعداء، وهم الأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره، المؤدّين فرائض الله، التاركين لزواجره، ذكر أنه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ). أي قرون أخر. (أَضَاعُوا الصَّلاةَ). وإذا أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع؛ لأنها عماد الدين وقوامه، وخير أعمال العباد، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها؛ فهؤلاء سيَلْقَوْن غيًّا أي: خسارة يوم القيامة»(14).
النموذج السادس :
في قوله تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (الإسراء: من الآية110).
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «قال الإمام أحمد(15): حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم، متوارٍ بمكة: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا). قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فلما سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن وسبّوا من أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ)؛ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، (وَلا تُخَافِتْ بِهَا) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن، حتى يأخذوه عنك. (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً). أخرجاه في الصحيحين(16) من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به.
وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس: نزلت في الدعاء»(17).
وقال القرطبي: «روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها في قوله عز وجل: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) قالت: أنزل هذا في الدعاء»(18).
والشاهد أن هذه الآية تأمر بالتوسط بين أمرين منهي عنهما؛ وهما الجهر الشديد أو المخافتة والإسرار؛ (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً).
النموذج السابع :
في قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ) (الأعراف:205).
قال القرطبي: « (وَدُونَ الْجَهْرِ): أي دون الرفع في القول؛ أي أسمع نفسك؛ كما قال: (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) أي بين الجهر والمخافتة»(19).
النموذج الثامن :
في قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف:55).(/45)
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى -: «لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت؛ إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم؛ وذلك أن الله تعالى يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً)، وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحًا رضي فعله فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً) (مريم:3) وقال ابن جريج: يُكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روى عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): في الدعاء ولا في غيره. وقال أبو مجلز: (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ): لا يسأل منازل الأنبياء. وقال أحمد: حدثنا عبدالرحمن ابن مهدي، حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق، سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سعدًا سمع ابنًا له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها ونحوًا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال: لقد سألت الله خيرًا كثيرًا وتعوذت به من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء» وفي لفظ: «يعتدون في الطهور والدعاء» وقرأ هذه الآية: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) الآية، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل(20) ورواه أبو داود من حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن ابن لسعد عن سعد فذكره والله أعلم، وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نعامة أن عبدالله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها؛ فقال: يا بني، سل الله الجنة وعُذْ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور)(20)»(21).
النموذج التاسع :
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»(22)، والناس مع الرخص الشرعية طرفان ووسط.
الطرف الأول: من يتمادى في أخذ الرخصة، ويسترسل معها حتى يخرج بها عن المقصود الشرعي.
الطرف الثاني: من يتشدد في الورع حتى يترك الرخص الشرعية ويشدد على نفسه.
الوسط: وهو الذي يعظم أمر الله عز وجل ونهيه؛ فلا يعارضهما بترخص جاف ولا يعرضهما لتشديد غال ويزهد في رخص الله عز وجل.
ويفصل هذا الأمر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - فيقول: «فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارَضا بترخُّص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال؛ فإن المقصود هوالصراط المستقيم الموصل إلى الله - عز وجل - بسالكه.
وما أمَرَ الله - عز وجل - بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما تقصير وتفريط، وإما إفراطٌ وغُلُوٌّ، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، فإنه يأتي إلى قلب العبد فيشامه: فإن وجد فيه فتورًا وتوانيًا وترخيصًا؛ أخذه من هذه الخطة، فثبَّطه، وأقعده، وضربه بالكسل والتواني والفتور، وفتح له باب التأويلات والرخاء، وغير ذلك، حتى ربما ترك العبدُ المأمورَ جملة.
وإن وجد عنده حذرًا وجدًّا، وتشميرًا ونهضة، وأيس أن يأخذه من هذا الباب؛ أمره بالاجتهاد الزائد، وسوَّل له أن هذا لا يكفيك، وهمتك فوق هذا، وينبغي لك أن تزيد على العاملين، وأن لا ترقد إذا رقدوا، ولا تفطر إذا أفطروا، وأن لا تَفْتُرَ إذا فَتَروا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات فاغسل أنت سبعًا، وإذا توضأ للصلاة فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدِّي، فيحمله على الغلوِّ والمجاوزة وتعدِّي الصراط المستقيم؛ كما يحمل الأول على التقصير دونه وأن لا يقربه.
ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم: هذا بأن لا يقربَه ولا يدنو منه، وهذا بأن يجاوزه ويتعداه.
وقد فُتِن بهذا أكثرُ الخلق، ولا يُنَجِّي من ذلك إلا علمٌ راسخٌ، وإيمان وقوة على محاربته، ولزوم الوسط والله المستعان»(23).
وقال أيضًا: «ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط.
مثال ذلك: أنَّ السنَّةَ وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر، فالترخُّص الجافي أن يبرِدَ إلى فوات الوقت، أو مقاربة خروجه، فيكون مترخصًا جافيًا.
وحكمة هذه الرخصة أن الصلاة في شدة الحر تمنع صاحبها من الخشوع والحضور، ويفعل العبادة بتكرُّه وضجر، فمن حكمة الشارع أن أمرهم بتأخيرها حتى ينكسر الحر، فيصلي العبد بقلب حاضر، ويحصل له مقصود الصلاة من الخشوع والإقبال على الله تعالى.
ومن هذا نهيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي بحضرة الطعام، أو عند مدافعة البول والغائط؛ لتعلق قلبه من ذلك بما يشوِّش عليه مقصود الصلاة، ولا يحصل المراد منها.(/46)
فمن فقه الرجل في عبادته: أن يُقْبلَ على شغله فيعمله، ثم يفرغ قلبه للصلاة، فيقوم فيها وقد فرَّغ قلبه لله تعالى، ونصب وجهه له، وأقبل بكلِّيته عليه؛ فركعتان من هذه الصلاة يُغْفَرُ للمصلي بهما ما تقدم من ذنبه.
والمقصود أن لا يترخص ترخصًا جافيًا.
ومن ذلك: أنه رخص للمسافر في الجمع بين الصلاتين عند العذر، وتعذر فعل كل صلاة في وقتها لمواصلة السير، وتعذر النزول أو تعسره عليه، فإذا أقام في المنزل اليومين والثلاثة، أو أقام اليوم؛ فجمعه بين الصلاتين لا موجب له؛ لتمكنه من فعل كل صلاة في وقتها من غير مشقة، فالجمع ليس سنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين أن سنة السفر الجمع، سواء وُجِدَ عذر أم لم يوجد، بل الجمع رخصة، والقصر سُنة راتبة، فسنة المسافر قصر الرباعية، سواء كان له عذر أو لم يكن، وأما جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة، فهذا لون، وهذا لون.
ومن هذا: أن الشبع في الأكل رخصة غير محرمة، فلا ينبغي أن يجفو العبد فيها حتى يصل به الشبع إلى حد التُّخمة والامتلاء، فيتطلب ما يصرف به الطعام، فيكون همه بطنه قبل الأكل وبعده. بل ينبغي للعبد أن يجوع ويشبع، ويدع الطعام وهو يشتهيه، وميزان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثُلُثٌ لطعامِهِ، وثُلُثٌ لشَرابِهِ، وثُلُثٌ لنفَسِهِ)(24).
ولا يجعل الثلاثة الأثلاث كلها للطعام وحده.
وأما تعريض الأمر والنهي للتشديد الغالي؛ فهو كمن يتوسوس في الوضوء متغاليًا فيه حتى يفوت الوقت، أو يردِّد تكبيرة الإحرام إلى أن تفوته مع الإمام قراءة الفاتحة، أو يكاد تفوته الركعة، أو يتشدد في الورع الغالي حتى لا يأكل شيئاً من طعام عامة المسلمين خشية دخول الشبهات عليه.
ولقد دخل هذا الورع الفاسد على بعض العبَّاد الذين نقص حظهم من العلم، حتى امتنع أن يأكل شيئًا من بلاد الإسلام، وكان يتقوَّت بما يحمل إليه من بلاد النصارى، ويبعث بالقصد لتحصيل ذلك، فأوقعه الجهل المفرط، والغُلُوُّ الزائد في إساءة الظن بالمسلمين، وحسن الظن بالنصارى نعوذ بالله من الخذلان»(25).
النموذج العاشر :
الوسطية في الطهارة والصلاة:
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والأدب: الوقوف في الوسط بين طرفين؛ فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها، ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودًا له؛ فكلاهما عدوان، والله لا يحب المعتدين. والعدوان: هو سوء الأدب.
وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.
فإضاعة الأدب بالجفاء؛ كمن لم يكمل أعضاء الوضوء، ولم يوف الصلاة آدابها التي سَنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها. وهي قريب من مائة أدب: ما بين واجب ومستحب.
وإضاعته بالغلو: كالوسوسة في عقد النية، ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرًا، وتطويل ما السنةُ تخفيفه وحذفه كالتشهد الأول والسلام الذي حَذْفُه سنة، وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على ما يظنه سُرّاق الصلاة والنقارون لها ويشتهونه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه، وقد صانه الله من ذلك. وكان يأمرهم بالتخفيف ويؤمهم بالصافّات، ويأمرهم بالتخفيف، وتقام صلاة الظهر، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ويأتي أهله ويتوضأ، ويدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى. فهذا هو التخفيف الذي أمر به، لا نقر الصلاة وسرقها؛ فإن ذلك اختصار، بل اقتصار على ما يقع عليه الاسم، ويسمى به مصلياً...»(26).
وقال في موطن آخر وهو يفرق بين الاحتياط في العبادة والوسوسة فيها: «والفرق بين الاحتياط والوسوسة أن الاحتياط الاستقصاء والمبالغة في اتباع السُنَّة وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير غلو ومجاوزة ولا تقصير ولا تفريط؛ فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله. وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به السُنَّة ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أحد من الصحابة؛ زاعمًا أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه؛ كمن يحتاط بزعمه ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق الثلاث فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله، ويصرح بالتلفظ بنية الصلاة مرارًا، أو مرة واحدة، ويغسل ثيابه مما لا يتيقن نجاسته احتياطًا، ويرغب عن الصلاة في نعله احتياطًا، إلى أضعاف أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينًا وزعموا أنه احتياط.
وقد كان الاحتياط باتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما كان عليه أولى بهم؛ فإنه الاحتياط الذي من خرج عنه فقد فارق الاحتياط، وعدل عن سواء الصراط. والاحتياط كل الاحتياط الخروج عن خلاف السُنَّة ولو خالفت أكثر أهل الأرض بل كلهم»(27).
النموذج الحادي عشر :(/47)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جَمْعٍ: (هلم القط لي). فلقطتُ له حصياتٍ من حصى الخَذْف، فلما وضعهن في يده قال: (نعم بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)(28).
وقد قال أهل العلم في حجم الحصى الذي يرمى به أنه بين الحمص والبندق، فما زاد على البندق فهذا إفراط، وما نقص عن الحمص فهو تفريط، والعدل بين الإفراط والتفريط.
وأختم الكلام عن الوسطية في العبادات بكلام نفيس للإمام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - حيث يقول: «فإن المشروع المأمور به الذي يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم هو الاقتصاد في العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا)(29). وقال: «إن هذا الدين متين، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فاستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغو»(30). وكلاهما في الصحيح.
وقال أبي بن كعب رضي الله عنه: (اقتصاد في سنة، خير من اجتهاد في بدعة) فمتى كانت العبادة توجب له ضررًا يمنعه عن فعل واجب أنفع له منها كانت محرمة؛ مثل أن يصوم صومًا يضعفه عن الكسب الواجب أو يمنعه عن العقل، أو الفهم الواجب، أو يمنعه عن الجهاد الواجب، وكذلك إذا كانت توقعه في محل محرم لا يقاوم مفسدته مصلحتها، مثل أن يخرج ماله كله، ثم يستشرف إلى أموال الناس، ويسألهم.
وأما إن أضعفته عما هو أصلح منها، وأوقعته في مكروهات، فإنها مكروهة. وقد أنزل الله تعالى في ذلك قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة:87) فإنها نزلت في أقوام من الصحابة كانوا قد اجتمعوا وعزموا على التبتل للعبادة: هذا يسرد الصوم، وهذا يقوم الليل كله، وهذا يجتنب أكل اللحم، وهذا يجتنب النساء، فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن تحريم الطيبات من أكل اللحم، والنساء، وعن الاعتداء وهو الزيادة على الدين المشروع في الصيام، والقيام، والقراءة، والذكر، ونحو ذلك، والزيادة في التحريم على ما حرم والزيادة في المباح على ما أبيح. ثم إنه أمرهم بعد هذا بكفارة ما عقدوه من اليمين على هذا التحريم، والعدوان»(31).
______________
(1) انظر: الوسطية في القرآن الكريم، علي الصلابي: (ص 491، 492) باختصار يسير.
(2) الفُقَّاع: هو شراب يُتخذ من الشعير سمي به لما يعلوه من الزبد.
(3) لم أجد لهذا الحديث بهذا التركيب وإنما ورد في حديثين مستقلين: الأول: (المجاهد من جاهد نفسه) وهذا رواه الترمذي (1687)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1322)، والثاني: (الكيس من دان نفسه ... الحديث) وهذا رواه الترمذي في القيامة، باب رقم (26) وقال: حديث حسن.
(4) مجموع الفتاوى: (41/459-461).
(5) صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح: (5063).
(6) الوسطية في القرآن: (ص 494).
(7) في ظلال القرآن: (4/2139).
(8) صحيح البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، ح (6704).
(9) البخاري، كتاب الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف، ح (6139).
(10) البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد في العبادة، ح (1151)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (785)، واللفظ له.
(11) البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد ...، ح (1150)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ح (784).
(12) الوسطية في القرآن: (ص 497).
(13) شرح النووي على صحيح مسلم: (6/71).
(14) تفسير ابن كثير: (3/137).
(15) المسند: (1/251)، وصححه أحمد شاكر: (1853).
(16) صحيح البخاري: (4722)، ومسلم: (446).
(17) انظر تفسير ابن كثير: (3/68، 69).
(18) تفسير القرطبي: (10/344)، وانظر صحيح مسلم: (447).
(19) تفسير القرطبي: (7/355).
(20) مسند أحمد: (1/172)، ورواه أبو داود في الطهارة، باب الإسراف في الماء (96)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (87).
(21) تفسير ابن كثير: (2/221، 222).
(22) مسند أحمد: (2/108)، وصححه الألباني في إرواء الغليل: (564).
(23) الوابل الصيب: (ص 32) ت: سليم الهلالي.
(24) رواه الترمذي: (2380)، وابن ماجة: (3349)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة: (2704).
(25) الوابل الصيب، ت: الهلالي: (ص 29-31).
(26) مدارج السالكين: (1/211، 212) ط. دار طيبة.
(27) الروح: (ص 542، 543).
(28) النسائي: (3057)، وابن ماجة: (3025)، وصححه الألباني في الصحيحة: (1283)، وأحمد في المسند: (1/215) واللفظ له، وصححه أحمد شاكر (1851).
(29) لم أحده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه الإمام أحمد في مسنده: (5/350)، وغيره، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (4086).
(30) لم أجده بهذا اللفظ في الصحيح وإنما رواه النسائي، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، وصححه الألباني في صحيح النسائي رقم: (4661).(/48)
(31) «مجموع الفتاوى»: (25/272).
المبحث الرابع
من مظاهر العدل والوسطية والتوازن في الأخلاق والمعاملات
لقد فطر الله عز وجل الإنسان على الخير، وركز في فطرته أصول الأخلاق الفاضلة؛ وركب فيها الميل إلى الحسن، والنفرة من القبيح، إلا من انتكست فطرته تحت وطأة البيئة وسوء التربية، وإغواء النفس والشيطان. ومع ذلك جاء الإسلام بالتأكيد على الأخلاق الفاضلة، والحث عليها، والتنفير من الأخلاق السيئة بصورة تتسم بالوسطية والعدل والتوازن.
والدين كله خلق: عقائده وعباداته وأحكامه ومعاملاته؛ كما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن)(1).
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «الدين كله خلق؛ فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين»(2).
ولكن الحديث في هذا الفصل سيكون متوجهًا إلى المعنى الخاص للأخلاق؛ كالمعاملات، والسلوك الحميد؛ مما لا يدخل في العقائد والعبادات.
وقد جاءت أخلاق الإسلام متصفة بصفة العدل والتوازن؛ فكل خلق حميد فهو وسط بين خلقين ذميمين: أحدهما ينزع إلى الغلو والإفراط، والآخر ينزع إلى التفريط والتضييع.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والعدل يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذين هما توسط بين الإمساك والإسراف والتبذير، وعلى خلق الحياء الذي هو سط بين الذل والقحة، وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس ... وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين، وهو سط بينهما، وطرفاه خلقان ذميمان ... فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين لا بد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة، وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخَوَر ومهانة، بحيث يُطمِع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه، ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء؛ وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس.
وكذلك إذا انحرفت عن خلق «الصبر المحمود» انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع ... وإذا انحرفت عن خلق «الحلم» انحرفت: إما إلى الطيش والنزق والحدة والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة. ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز، وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف.
كما قيل:
كل حلم أتى بغير اقتدار حجة لاجئ إليها اللئام
وإذا انحرفت عن خلق «الأناة والرفق» انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة. والرفق والأناة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق «العزة» التي وهبها الله للمؤمنين، انحرفت: إما إلى كبر، وإما إلى ذل. والعزة المحمودة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق «الشجاعة» انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم.
وإذا انحرفت عن خلق «المنافسة في المراتب العالية والغبطة» انحرفت: إما إلى حسد، وإما إلى مهانة وعجز وذل ورضى بالدون.
وإذا انحرفت عن «القناعة» انحرفت: إما إلى حرص وكَلَب، وإما إلى خِسَّة ومهانة وإضاعة.
وإذا انحرفت عن خلق «الرحمة» انحرفت: إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس، كمن لا يقدم على ذبح شاة، ولا إقامة حد، وتأديب ولد؛ ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك. وقد ذبح أرحمُ الخلق صلى الله عليه وسلم بيده في موضع واحد ثلاثًا وستين بدنة، وقطع الأيدي من الرجال والنساء، وضرب الأعناق، وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات المرجوم. وكان أرحم خلق الله على الإطلاق وأرأفهم.
وكذلك طلاقة الوجه، والبشر المحمود؛ فإنه وسط بين التعبيس والتقطيب وتصعير الخد، وطي البِشْر عن البَشَر، وبين الاسترسال بذلك مع كل أحد بحيث يُذهب الهيبة، ويزيل الوقار، ويطمع في الجانب، كما أن الانحراف الأول يوقع الوحشة والبغضة، والنفرة في قلوب الخلق.
وصاحب الخلق الوسط مهيب محبوب، عزيز جانبه، حبيب لقاؤه. وفي صفة نبينا صلى الله عليه وسلم: (من رآه بديهًة هابه. ومن خالطه عِشْرة أحبه)(3). والله أعلم»(4).
وبعد هذا الإجمال في بيان الوسطية والتوزان في بعض أخلاق هذا الدين؛ فإنه يحسن بنا التفصيل في إظهار هذه السمة في بعض الأخلاق، ومنها تلك التي ظهرت في عصرنا الحاضر وهي مجانبة للتوسط والاعتدال، خاصة وأنها سرت في المجتمع حتى وصلت إلى بعض الدعاة وطلبة العلم.
_____________
(1) صحيح مسلم: (746).
(2) مدارج السالكين: (3/73) ط. دار طيبة.
(3) رواه الترمذي في المناقب باب ما جاء في صفة النبي، وقال حسن غريب، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي: (748).
(4) مدارج السالكين: (3/74-79) باختصار. ط دار طيبة.
أولاً : العدل والتوازن في الكلام والبيان :
إن نعمة النطق واللسان والبيان نعمة عظيمة لا يقدرها حق قدرها إلا من فقدها أو عاش بين الناس أبكمًا.(/49)
قال تعالى ممتناً على عباده بنعمة البيان: (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن:1-4).
والقلم والكتابة من البيان الذي أنعم الله به على الإنسان.
يتحدث سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن نعمة البيان فيقول: «إننا نرى الإنسان ينطق ويعبر ويبين، ويتفاهم، ويتجاوب مع الآخرين فننسى بطول الألفة عظمة هذه الهبة، وضخامة هذه الخارقة، فيردنا القرآن إليها، ويوقظنا لتدبرها في مواضع شتى.
فما الإنسان؟ ما أصله؟ كيف يبدأ؟ وكيف يُعلم البيان؟
إنه هذه الخلية الواحدة التي تبدأ حياتها في الرحم؛ خلية ساذجة صغيرة، ضئيلة، مهينة، ترى بالمجهر ولا تكاد تبين، وهي لا تُبين ولكن هذه الخلية ما تلبث أن تُكوِّن الجنين. الجنين المكون من ملايين الخلايا المنوعة: عظمية، وغضروفية، وعضلية، وعصبية، وجلدية. ومنها كذلك تتكون الجوارح والحواس ووظائفها المدهشة: السمع، البصر، الذوق، الشم، اللمس ثم .. ثم الخارقة الكبرى والسر الأعظم: الإدراك والبيان، والشعور والإلهام. كله من تلك الخلية الواحدة الساذجة الصغيرة الضئيلة المهينة، التي لا تكاد تَبين، والتي لا تُبين!
كيف؟ ومن أين؟ من الرحمن، وبصنع الرحمن.
فلننظر كيف يكون البيان؟. (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) (النحل: من الآية78).
إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب: اللسان، والشفتان، والفك، والأسنان، والحنجرة، والقصبة الهوائية، والشعب، والرئتان. إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية، وهي حلقة في سلسة البيان. وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب. ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه، ولا ندري شيئًا عن ماهيته وحقيقته. بل لا نكاد ندري شيئًا عن عمله وطريقته!
كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد؟
إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة، مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن.
إنها تبدأ شعورًا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين. هذا الشعور ينتقل - لا ندري كيف - من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية .. المخ .. ويقال: إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب. واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه. وهنا تطرد الرئة قدرًا من الهواء المختزن فيها، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية، إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتية صنعها الإنسان، ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتًا تشكله حسبما يريد العقل. عاليًا أو خافتًا، سريعًا أو بطيئًا، خشنًا أو ناعمًا، ضخمًا أو رفيعًا، إلى آخر أشكال الصوت وصفاته. ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان؛ يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة. وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين، يتم فيه الضغط المعين، ليصوّت الحرف بجرس معين.
وذلك كله لفظ واحد. ووراءه العبارة، والموضوع، والفكرة، والمشاعر السابقة واللاحقة. وكل منها عالم عجيب غريب، ينشأ في هذا الكيان العجيب الغريب، بصنعة الرحمن، وفضل الرحمن»(1).
وبعد هذا الاستعراض البديع من سيد قطب - رحمه الله تعالى - لنعمة النطق والبيان، وكيف يقوم الإنسان بهما، يتعين علينا التعرف على تفاوت الناس في نعمة الكلام والبيان حيث ينقسمون إلى طرفين ووسط.
الطرف الأول: الإفراط في الكلام والبيان: وصاحبه هو المهذار الذي يطلق لسانه أو قلمه في ما لا فائدة فيه؛ وما لا يعنيه؛ وهذا في الغالب يعرض نفسه لكثير من آفات الكتابة، واللسان؛ كالرياء والغيبة والنميمة والكذب وقول الباطل والسب والشتم وغيرها من آفات اللسان والقلم.
الطرف الثاني: التفريط في الكلام والبيان النافع: وصاحب هذا الطرف هو الذي يغلب عليه الصمت، وقلة الكلام حتى يوقعه ذلك في السكوت عن قول الحق أو السكوت على باطل، أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، وقد يصل به التقصير في أداء نعمة الكلام إلى أن يفوت على نفسه كثيرًا من العبادات اللسانية؛ كالذكر والدعاء وقراءة القرآن.
وعن هذين الطرفين يتحدث الإمام ابن القيم وهو يصور وصية الشيطان لذريته في القيام على ثغر اللسان فيقول: «قوموا على ثغر اللسان؛ فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه، وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه: من ذكر الله تعالى واستغفاره، وتلاوة كتابه، ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون لكم في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم:
أحدهما: التكلم بالباطل؛ فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم، ومن أكبر جندكم وأعوانكم.(/50)
والثاني: السكوت عن الحق؛ فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم؛ أما سمعتم قول الناصح: المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس؟.
فالرباط الرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل، وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق.
واعلموا يا بَنِيَّ أن ثغر اللسان هو الذي أُهلِكُ منه بني آدم، وأكُبَُّّهم منه على مناخرهم في النار، فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر»(2).
الموقف الوسط العدل: وهو الموقف الذي يقوم فيه أهله بأداء شكر نعمة اللسان والبيان؛ فيتكلمون ويكتبون في الأمر حين يكون طاعة لله عز وجل، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، ويُسخِّرون هذه النعمة في اللهج بذكر الله تعالى، وشكره وعبادته، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل. ويسكتون حين يكون السكوت محبوبًا لله عز وجل؛ وذلك حينما يكون الكلام معصيًة لله عز وجل؛ كالظلم والرياء والغيبة والنميمة، وقول الباطل وغير ذلك من آفات اللسان..
ويصف الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذه المواقف الثلاثة فيقول: «وفي اللسان آفتان عظيمتان، إن خلص من إحداهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت؛ وقد يكون كل منهما أعظم إثمًا من الأخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مراء مداهن إذا لم يخف على نفسه. والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاص لله. وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته؛ فهم بين هذين النوعين. وأهل الوسط - وهم أهل الصراط المستقيم - كفُّوا ألسنتهم عن الباطل، وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة؛ فلا ترى أحدهم يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة، فضلاً أن تضره في آخرته، وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله وما اتصل به»(3).
وهكذا كان السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - في طريقتهم في الكلام أو السكوت وسطًا بين الإفراط والتفريط.
فعن ميمون بن مهران قال: جاء رجل إلى سلمان فقال: أوصني. قال: لا تَكلَّمْ. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يتلكم. قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكتْ. قال: زدني. قال: لا تغضب. قال: إنه ليغشاني ما لا أملكه. قال: فإن غضبت فأمسك عليك لسانك ويدك. قال زدني. قال: لا تلابس الناس. قال: لا يستطيع من عاش في الناس أن لا يلابسهم. قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث وأد الأمانة(4).
وعن يعلى بن عبيد قال: دخلنا على محمد بن سوقة فقال: أحدثكم بحديث لعله ينفعكم، فإنه قد نفعني. ثم قال: قال لنا عطاء بن رباح: يا بني أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام، وكانوا يعدّون فضوله ما عدا كتاب الله عز وجل أن تقرأه، وتأمر بمعروف، أو تنهى عن منكر، أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها. أتنكرون أن عليكم حافظين كرامًا كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد؛ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؟ أما يستحي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملَّ صدرَ نهاره، فإن أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه(5).
وقال بكر بن منير: سمعت أبا عبدالله البخاري يقولُ: أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنِّي اغتبتُ أحدً.
قال الذهبي: صَدَقَ رحمه الله، ومن نظر في كلامه في الجرحِ والتعديل علم وَرَعه في الكلام في الناس، وإنصافه فيمن يُضَعِّفُه؛ فإنه أكثر ما يقولُ: منكر الحديث، سكتُوا عنه، فيه نظر، ونحو هذا. وقلَّ أن يقول: فلانٌ كذّاب، أو كان يضَعُ الحديث. حتى إنه قال: إذا قلتُ فلان في حديثه نظر، فهو متَّهم واهٍ. وهذا معنى قوله: لا يحاسبُني الله أني اغتْبت أحدًا. وهذا هو والله غاية الورع(6).
_____________
(1) في ظلال القرآن: (6/3446، 3447).
(2) الجواب الكافي: (ص 137، 138) ت: حسين عبدالحميد.
(3) الجواب الكافي: (ص 220)، ت: حسين عبد الحميد.
(4) صفة الصفوة: (1/549).
(5) صفة الصفوة: (2/213).
(6) سير أعلام النبلاء: (12/439).
ثانيًا : العدل والوسط في المزاح والانبساط :
والناس في هذا الخلق طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط في المزاح والانبساط: وهم الذين يسترسلون في ذلك، ويكثرون منه، حتى يوقعهم في المحذور من المزاح والانبساط؛ كالكذب، والسخرية، والفرح المذموم الذي قد يؤدي إلى البطر والغفلة عن الآخرة، كما يؤدي إلى قلة الوقار والحياء والسقوط من أعين الناس.
الطرف الثاني: أهل التفريط الذين لا يرون الانبساط مع الناس، ولا المزاح المباح، وإنما الذي يغلب على حياتهم الحزن، والانقباض عن الناس، والعبوس في وجوههم.(/51)
الموقف العدل الوسط: وهذا الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام؛ حيث التوازن والوسطية في هذا الخلق، فلم يكونوا يفرطون في ضحكهم ومزاحهم، ولم يكونوا منقبضين عن الناس، عابسين في وجوههم، مغلبين الحزن، والغم على حياتهم.
ويحسن في هذا المقام إيراد بعض الأدلة والأمثلة على حسن هذا الموقف واعتداله:
عن أبي هريرة قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا. قال: (إني لا أقول إلا حقًا)(1).
وقال محمد بن النعمان بن عبدالسلام: لم أر أعبد من يحيى بن حماد، وأظنه لم يضحك. قال الذهبي تعليقًا على ذلك: «الضحك اليسيرُ والتبسُّمُ أفضلُ، وعدم ذلك من مشايخ العلم على قسمين:
أحدهما: يكونُ فاضلاً لمن تركَهُ أدبًا وخوفًا من الله، وحُزنًا على نفسه المسكينة.
والثاني: مذمومٌ لمن فعله حمقًا وكِبْرًا وتصنُّعًا، كما أنَّ مَنْ أكثر الضحكَ استُخِفَ به، ولا ريب أن الضحك في الشاب أخفُّ منه وأعذرُ منه في الشيوخ.
وأما التبسُّمُ وطلاقةُ الوجه فأرفعُ من ذلك كله؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (تبسُّمكَ في وجه أخيك صَدَقة)(2)، وقال جرير رضي الله عنه: ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسَّم(3).
فهذا هو خلقُ الإسلام، فأعلى المقامات من كان بكَاءً بالليل، بَسّامًا بالنهار. وقال عليه الصلاة والسلام: (لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه)(4).
بقي هنا شيءٌ: ينبغي لمن كان ضحوكًا بسّامًا أن يُقصر من ذلك، ويلوم نفسه حتى لا تمجَّهُ الأنفس، وينبغي لمن كان عبوسًا منقبضًا أن يتبسم، ويُحسن خلقه، ويمقت نفسه على رداءة خُلُقه، وكلُّ انحراف عن الاعتدال فَمَذمومٌ، ولا بدَّ للنفس من مجاهدة وتأديب»(5).
ويتأكد هذا المنهج في حق العلماء والدعاة؛ فالناس يميلون إلى الطلق البسام البشوش. روي أن سفيان الثوري كان مَزَّاحًا. وحال الرجل في التبسط بين خواص الجلساء غير حاله مع العامة، ولكل مقام مقال. فقد روى آخر عن سفيان أنه ما لقيه إلا باكيًا، وكما قال الذهبي: كان رأسًا في الزهد والتأله والخوف. وهكذا يكون التوازن والقصد(6).
_______________
(1) الترمذي، في البر والصلة، باب ما جاء في المزاح، وقال: حسن صحيح.
(2) البخاري: (891).
(3) البخاري: (3035)، ومسلم: (2475).
(4) البزار: (1977)، والحاكم في المستدرك: (1/124)، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله عن عبدالله المقبري: واه.
(5) سير أعلام النبلاء: (01/140، 141).
(6) انظر (فقه الائتلاف): (ص 331)، للأستاذ محمود خازندار رحمه الله تعالى.
ثالثًا : العدل والتوازن في الإنفاق:
قال الله عز وجل: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29).
وقال عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67).
يقول الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: «أي: ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم بل عدلاً خيارًا، وخير الأمور أوسطها لا هذا، ولا هذا».
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في وصف أهل التوسط والاعتدال: «وقد مدح تعالى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير موضع من كتابه؛ فقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)، وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29)، وقال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء:26). فَمَنْعُ ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في جانب الإمساك، والتبذير انحراف في جانب البذل، ورضاء الله فيما بينهما. ولهذا كانت هذه الأمة أوسط الأمم، وقبلتها أوسط القبل بين القبلتين المنحرفتين. والوسط دائمًا محمي الأطرف»(1).
ويقول في موطن آخر: «وأما الفرق بين الاقتصاد والشح: أن الاقتصاد خُلُق محمود يتولد من خلقين: عدل وحكمة؛ فبالعدل يعتدل في المنع والبذل، وبالحكمة يضع كل واحد منهما موضعه الذي يليق به، فيتولد من بينهما الاقتصاد؛ وهو وسط بين طرفين مذمومين كما قال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (الإسراء:29)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)، وقال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) (الأعراف: من الآية31).(/52)
وأما الشح فهو خُلُق ذميم يتولد من سوء الظن وضعف النفس، ويمده وعد الشيطان حتى يصير هلعًا، والهلع شدة الحرص على الشيء والشره به فتولد عنه المنع لبذله والجزع لفقده كما قال تعالى: (إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (المعارج:19-21)»(2).
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند آية الفرقان: «وهذه هي سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات ويتجه إليها في التربية والتشريع؛ يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال.
والمسلم - مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة - ليس حرًا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان. إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير. فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع، والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به، وانتفاع الجماعة من حوله؛ فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. والإسراف والتقتير يحدثان اختلالاً في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات، ومثله إطلاقها بغير حساب. ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق.
والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67)»(3).
من كل ما سبق نخلص إلى أن القرآن الكريم قد بيّن لنا المنهج العدل الوسط في إنفاق المال وأنه وسط بين طرفين:
الأول: طرف القابضين أيديهم، البخلاء بأموالهم المقترين على أنفسهم وعلى أهليهم فضلاً عن من سواهم.
الثاني: طرف المسرفين المترفين، المفْرِطُين في إنفاق المال الذين بسطوا أيديهم كل البسط.
وبين هذين الطرفين تقف قلة من الناس سلكوا السبيل القويم والتزموا العدل والتوازن؛ وهؤلاء هم عباد الرحمن حقًا.
_____________
(1) الصلاة، لابن القيم: (ص 193، 194).
(2) الروح: (ص 503).
(3) في ظلال القرآن: (5/2578، 2579).
رابعًا : العدل والوسطية والتوازن في حقوق الخلق:
شرع الله عز وجل لعباده حقوقًا بعضهم على بعض؛ فللوالدين حقوق وللأولاد حقوق، وللأزواج حقوق، وللأقارب حقوق، وللجيران حقوق، وللضيف حقوق، ولليتامى والمساكين حقوق، وللأصحاب حقوق، وغير هؤلاء من الخلق.
والعدل في ذلك والتوازن: أن لا يطغى حق على حق، ولا تطغى حقوق هؤلاء على حق النفس، ولا يطغى حق النفس وحقوق الخلق على حق الله تعالى. والموفق من رزقه الله عز وجل الموازنة بين الحقوق كلها.
والناس في الموازنة بين هذه الحقوق وبين حق الله تعالى، أو حق النفس طرفان ووسط:
الطرف الأول: طرف من أفرط في حقوق الخلق، وقام بها حتى شغله ذلك عن حق الله عز وجل، وطاعته والدعوة إليه، والجهاد في سبيله، أو شغله ذلك عن نفسه، ومحاسبتها في تفريطها في جنب الله تعالى.
الطرف الثاني: طرف من فَرَّط في حقوق العباد، حتى قصر في ما يجب عليه نحوهم من حقوق دينية؛ كدعوة أو تعليم أو حقوق صلة وبر، متعللاً بحق الله تعالى أو حق النفس.
الوسط والعدل: وهو من لم يطغ عنده حق على حق، بل وازن بين الحقوق كلها وأعطى كل ذي حق حقه متمثلاً في ذلك التوجيه النبوي الكريم والذي يتمثل في الرواية التالية:
عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مُتبذِّلة، فقال لها: «ما شأُنك؟» قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعامًا، فقال له: كل، فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقومُ، فقال: نم، فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نَمْ، فلما كان من آخر الليل، قال سلمانُ: قُمِ الآن، فصليَّا، فقال له سلمانُ: إنَّ لرِّبك عليك حقّا، وإنّ لنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعط كل ذي حق حقَّهُ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال صلى الله عليه وسلم: (صدَقَ سلمانُ)(1).
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - وهو يتحدث عن الأدب وأنه التوسط في الأمور: «ومثال ذلك - أي التوسط - في حقوق الخلق: أن لا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها، بحيث يشتغل بها عن حقوق الله، أو عن تكميلها، أو عن مصلحة دينه وقلبه، وأن لا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية؛ فإن الطرفين من العدوان الضار. وعلى هذا الحد، فحقيقة الأدب: هي العدل. والله أعلم»(2).
_____________
(1) رواه البخاري، في الأدب، باب صنع الطعام والتكلف للضيف: (6139).
(2) مدارج السالكين: (3/213) ط. دار طيبة.
خامسًا : العدل والتوازن في التواضع :
التواضع خلق رفيع يحبه الله عز وجل ويحب المتصفين به.(/53)
قال الله عز وجل في وصف عباد الرحمن: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63).
ونهى سبحانه عن ضده، ومقت أهله - وهم أهل التكبر والمرح والبطر - قال سبحانه في وصية لقمان لابنه: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان:18).
والتواضع المحمود كغيره من الأخلاق وسط بين طرفين مذمومين:
طرف الإفراط: وهو أن يُفْرط في التواضع حتى يوقعه ذلك في المهانة والخسة وابتذال النفس وإذلالها وهوانها. وأما وصف الله عز وجل عباد الرحمن أنهم يمشون على الأرض هونًا؛ فالهَون هنا كما قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «(والهَون) بالفتح في اللغة: الرفق واللين، (والهُون) بالضم: الهوان. فالمفتوح منه: صفة أهل الإيمان، والمضموم: صفة أهل الكفران والنيران»(1).
طرف التفريط: وهو التقصير في التحلي بهذا الخلق، والوقوع في ضده وهو الكبر والتكبر إما على الخلق وإما على الحق بترك الانقياد له.
الوسط والعدل: وهو التواضع الذي وصفه الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى- بقوله: «وهوالتواضع الذي يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوته جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفة النفس وتفاصيلها وعيوب عملها، وآفاتها؛ فيتولد من بين ذلك كله خلق التواضع؛ وهو إنكسار القلب لله وخفض جناح الذلة والرحمة بعباده؛ فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقًا، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله. وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه»(2).
ومما وصف به الله عز وجل أهل هذا الخلق العدل قوله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: من الآية54).
وما أحسن ما قاله الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن معنى «الأذلة» في الآية؛ قال رحمه الله تعالى: «لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عدَّاه بأداة «على» تضمينًا لمعاني هذه الأفعال؛ فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل، وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول»(3).
_____________
(1) مدارج السالكين: (3/108) ط. دار طيبة.
(2) انظر الروح لابن القيم: (ص 495).
(3) مدارج السالكين: (3/108) ط. دار طيبة.
سادسًا : التوسط والعدل والتوازن في التأني والتؤدة :
التؤدة والأناة خلقان محمودان محبوبان لله عز وجل كما قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس: (إن فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)(2). ولكن يكتنف هذين الخلقين المحمودين خلقان مذمومان: أحدهما ينزع إلى الإفراط والآخر إلى التفريط:
فطرف الإفراط: هو الذي يغلب على صاحبه الغلو في التأني حتى تضيع عليه فرص من الخير ينالها، أو فرص من الشر يدفعها، ثم لم يبادر إلى ذلك إغراقًا منه في التأني والتؤدة.
وطرف التفريط: هو الذي يفرِّط في الأخذ بالتؤدة والتأني ويقع بسبب ذلك في العجلة والطيش وطلب الشيء قبل أوانه.
والوسط العدل : وهو من يأخذ بهذا الخلق الكريم بحيث لا يدفعه ذلك إلى الكسل، وتفويت الفرص والمبادرة إليها في وقتها، كما لا يفرِّط فيه فيقع في العجلة والطيش.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والفرق بين المبادرة والعجلة: أن المبادرة انتهاز الفرص في وقتها ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها، فهو لا يطلب الأمور في إدبارها ولا قبل وقتها، بل إذا حضر وقتها بادر إليها، ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته، فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضجها وإدراكها.
والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته؛ فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخذ الثمرة قبل أوان إدراكها، فالمبادرة وسط بين خلقين مذمومين أحدهما: التفريط والإضاعة، والثاني: الاستعجال قبل الوقت. ولهذا كانت العجلة من الشيطان؛ فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشرور وتمنعه من الخير، وهي قرين الندامة؛ فقلَّ من استعجل إلا ندم، كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة»(3).(/54)
ويقول في موطن آخر: «فالعجلة والطيش من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة البداءات استقبل أمره بعلم وحزم، ومن لم يثبت لها استقبله بعجلة وطيش، وعاقبته الندامة، وعاقبة الأول حمد أمره، ولكن للأول آفة متى قرنت بالحزم والعزم نجا منها، وهي: الفوت؛ فإنه لا يخاف من التثبيت إلاّ الفوت فإذا اقترن به العزم والحزم تمّ أمره. ولهذا جاء في الدعاء الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد)(4)، وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أُتي العبد إلاّ من تضييعهما أو تضييع أحدهما؛ فما أتي أحد إلاّ من باب العجلة والطيش واستفزاز البداءات له، أو من باب التهاون والنمات وتضييع الفرصة بعد مواتاتها فإذا حصل الثبات أولاً والعزيمة ثانياً أفلح كل الفلاح، والله وليّ التوفيق»(5).
_____________
(1) رواه مسلم في الإيمان: (18).
(2) أبو داود: (4810)، وصححه الألباني في السلسلة: (1794).
(3) انظر كتاب الروح لابن القيم: (546، 547).
(4) رواه أحمد: (4/125)، ورواه النسائي: (1304)، وضعفه الألباني في ضعيف النسائي: (70).
(5) مفتاح دار السعادة: (1/146).
سابعًا : الوسطية والعدل والتوازن في الشجاعة :
الشجاعة خلق رفيع، وصاحبه محبوب إلى الله تعالى إذا كانت شجاعته لله تعالى وفي ما يحبه الله؛ ولكنها قد تزيد عن حد الاعتدال والتوسط فتكون تهورًا وجرأة، وقد تضعف وتقل في القلب فيتولد من ذلك الجبن والهلع.
إذن فالشجاعة خلق محمود متوسط بين طرفين مذمومين:
الطرف الأول: الإفراط والغلو في الشجاعة والإقدام، دون النظر في عاقبة ذلك، ويسمى هذا تهورًا، حيث تقدم النفس في غير موضع الإقدام معرضة عما يترتب على إقدامها من المفاسد والشرور وغير مبالية بذلك.
الطرف الثاني: التفريط وضعف القلب وعدم ثباته عند المخاوف؛ وهذا يتولد عنه الجبن والخوف. «والجبن عادة يتولد من سوء الظن وعدم الصبر؛ فلا يظن الجبان بالظفر، ولا يساعده الصبر، فإذا ساء الظن ووسوست النفس بالسوء ضعف القلب وضعف ثباته»(1).
الموقف الوسط المتوازن: وهو الوسط العدل بين الطرفين السابقين؛ فصاحبه ثابت الجنان؛ «لأن الشجاعة من القلب، وهي تتولد من الصبر وحسن الظن ... والشجاعة حرارة القلب وغضبه وقيامه وانتصابه وثباته؛ فإذا رأته الأعضاء كذلك أعانته فإنها خدم له وجنوده، كما أنه إذا ولى ولت سائر جنوده»(2).
ومع ثبات القلب وشجاعة صاحبه إلا أنه لا يتهور ولا يتجرأ على الإلقاء بنفسه في المخاطر دون أن ينظر في عواقبها، ولا يقدم في غير موضع الإقدام.
_____________
(1) كتاب الروح لابن القيم: (ص 501، 502).
(2) انظر كتاب الروح لابن القيم: (ص 501، 502).
ثامنًا : التوازن والعدل والتوسط في الحذر وأخذ الحيطة :
إن أخذ الحيطة والحذر من الأعداء وممن يظن به الشر هو أمر مطلوب، وهو من باب الأخذ بالأسباب والوقاية من الشرور قبل وقوعها؛ قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء: من الآية71)، ولكن هذا الاحتراز قد يختل التوازن فيه، فيميل إما إلى الإفراط ومجاوزة الحد وإما إلى التفريط والإضاعة. والناس فيه طرفان مذمومان ووسط عدل.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط وهم الذين تجاوزوا العدل والتوسط حتى أوقعهم ذلك في سوء الظن بعموم الناس والحذر المفرط الذي أدى بهم إلى الخوف الشديد، وترك بعض مجالات الخير أو السكوت على بعض المنكرات بحجة الحذر والخوف على الدعوة والدعاة.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين لم يأخذوا بأسباب الحيطة والاحتراز ممن يظن به الشر، وإنما غلب عليهم البله وقلة الوعي حتى أحسنوا الظن بكل الناس وأُتوا من حيث لم يحتسبوا.
الموقف العدل والمتوازن والمتوسط: وهو المتوسط بين الطرفين السابقين، الذي يرى الأخذ بأسباب الوقاية والحذر ممن غلب على الظن شره وفساده، لكنه لم يُفْرِط في ذلك بالوسوسة وإساءة الظن بكل شيء، بل الفرق عنده واضح بين الاحتراز وسوء الظن الفاسد.(/55)
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «والفرق بين الاحتراز وسوء الظن: أن المحترز بمنزلة رجل قد خرج بماله ومركوبه مسافرًا فهو يحترز بجهده من كل قاطع للطريق، وكل مكان يتوقع منه الشر، وكذلك يكون مع التأهب والاستعداد وأخذ الأسباب التي بها ينجو من المكروه؛ فالمحترز كالمتسلح المتدرع الذي قد تأهب للقاء عدوه وأعدَّ له عُدَّتَه، فهمُّه في تهيئة أسباب النجاة ومحاربة عدوه قد أشغلته عن سوء الظن به، وكلما ساء به الظن أخذ في أنواع العدة والتأهب. وأما سوء الظن فهو امتلاء قلبه بالظنون السيئة بالناس حتى يطفح على لسانه وجوارحه؛ فهم معه أبدًا في الهمز واللمز والطعن والعيب والبغض؛ يبغضهم ويبغضونه، ويلعنهم ويلعنونه، ويحذرهم ويحذرون منه؛ فالأول يخالطهم ويحترز منهم، والثاني يتجنبهم ويلحقه أذاهم، الأول داخل فيهم بالنصيحة والإحسان مع الاحتراز، والثاني خارج منهم مع الغش والدغل والبغض»(1).
ومن الآيات التي يظهر فيها التوازن بين الحذر والطمأنينة: قوله تعالى في صلاة الخوف: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء:102).
ويجلي هذا التوازن في الآية صاحب الظلال - رحمه الله تعالى - فيقول: «... الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو، وهذا الحذر الذي يوصى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا التحذير والتخويف، التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قومًا كتب الله عليهم الهوان: (إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً).. وهذا التقابل بين التحذير والتطمين، وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!»(2).
_____________
(1) الروح: (ص 504).
(2) في ظلال القرآن: (2/748).
تاسعًا : التوازن والعدل والوسطية في العفو والصفح :
العفو والصفح خلقان محمودان ورد الحث عليهما في الكتاب والسنة؛ قال الله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى: من الآية40)، وقال عز وجل: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: من الآية134)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله رجلاً بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)(1).
والناس في هذا الخلق الكريم طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط فيه والغلو: وهم الذين يضعون العفو في غير موضعه؛ إما أن يعفوا عمن لم يستحق العفو؛ كالظالم والمستهتر المتكبر المتغطرس الذي لا يزيده العفو إلا ظلمًا وتمردًا وغرورًا؛ فمثل هذا لا يصلح في حقه العفو، وإما أن يكون العفو عن ذلة ومهانة وعدم قدرة على رد الاعتداء؛ فهذا عفوه ليس محمودًا، وإنما هو عجز ومهانة، وتضييع للحقوق.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في هذا الخلق الرفيع وأصبح ليس لهم هم إلا الانتقام من كل من أخطأ في حقهم، ولو كانت الهفوة منه زلة عابرة، أو خطأً غير مقصود؛ فلا يدفنون لمسلم زلة ولا يصفحون عمَّن ارتكب في حقهم مزلة.
الوسط العدل المتوازن: وهم الذين وضعوا العفو في موضعه الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه؛ فلم يتجاوزوا فيه الحد فيعفوا عن من لا يصلح في حقه العفو، ولم يكونوا ممن عفوهم ناشئ عن ذلة ومهانة وعجز لا عن حلم وعفو واقتدار، ولم يفرِّطوا في هذا الخلق حتى أضاعوه بسبب شهوة الانتقام والانتصار للنفس، بل هم على حظ كبير من هذا الخلق الذي يعفون به عن من ظلمهم أو أخطأ في حقهم ممن لم يكن الظلم مهنته ولا التكبر والغرور صفته، وإنما هو زلة عابرة أو خطأ غير مكرر أو مقصود.(/56)
ويبين الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - الفرق بين العفو الناشئ عن الجود والكرم مع قدرته على الانتقام، وبين العفو الناشئ عن الذل والعجز عن الانتقام فيقول: «والفرق بين العفو والذل: أن العفو إسقاط حقك جودًا وكرمًا وإحسانًا مع قدرتك على الانتقام؛ فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق، بخلاف الذل؛ فإن صاحبه يترك الانتقام عجزًا وخوفًا ومهانة نفس؛ فهذا مذموم غير محمود، ولعل المنتقم بالحق أحسن حالاً منه؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (الشورى:39).
فمدحهم بقوتهم على الانتصار لنفوسهم، وتقاضيهم منها ذلك حتى إذا قدروا على من بغى عليهم وتمكنوا من استيفاء ما لهم عليه ندبهم إلى الخلق الشريف من العفو والصفح فقال: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40). فذكر المقامات الثلاثة: العدل وأباحه، والفضلَ وندب إليه، والظلمَ وحرمه....
قال بعض السلف في هذه الآية: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا، فمدحهم على عفو بعد قدرة، لا على عفو ذل وعجز ومهانة، وهذا هو الكمال الذي مدح سبحانه به نفسه في قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) (النساء: من الآية149)»(2).
_____________
(1) الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في التواضع، وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (1652).
(2) الروح: (ص 513، 514) باختصار.
عاشرًا : العدل والتوسط والتوازن في المنافسة والغبطة :
الغبطة والتنافس في الخير خلقان كريمان أمر بهما الشارع الحكيم، وعمل بهما سلفنا الصالح؛ حيث تنافسوا في مرضاة الله وجنته وتسابقوا إليها؛ قال الله عز وجل: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: من الآية26)، وقال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الحديد: من الآية21)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فقام به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أعطاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)(1).
ومع جلالة هذا الخلق، فإنه كغيره من الأعمال والأخلاق مكتنف بخلقين مذمومين والناس فيه طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين تجاوزوا الحد في التنافس، فمالوا من العدل الممدوح إلى الغلو والإفراط فيه حتى أوقعهم ذلك في الحسد والحقد للجهة المنافسة، أو السابقة. والحسد خلة ذميمة ساقطة ممقوت صاحبها عند الله عز وجل وعند عباده.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين ضعفت هممهم عن التنافس في الخير ورضوا بالدون، ولم يثر عزائمهم تشمير الصالحين وتسابقهم إلى الخيرات وإلى دار المتقين، فلم ينافسوهم ولم يحرك ذلك في نفوسهم شيئًا.
الموقف الوسط والعدل المتوازن: وهو الذي كان عليه سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - من الهمة العالية، حيث تنافسوا في الصالحات وسارعوا في الخيرات، وتسابقوا إلى الجنات، وتمنى أحدهم أن يكون على مستوى ما عليه أخوه أو يزيد عليه دون حسد ولا حقد، ولا تمنٍ من أحدهم زوال نعمة الله عز وجل الدينية أو الدنيونة عن أخيه المنافس.
«كما كان ذلك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه في منافسته لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ومحاولة اللحوق به أو سبقه، فلمَّا علم أن أبا بكر رضي الله عنه قد استولى على الإمامة قال: والله لا أسابقك إلى شيء أبدًا. وقال: والله ما سبقته إلى خير إلا وجدته قد سبقني إليه.
والمتنافسان كعبدين بين يدي سيدهما يتباريان ويتنافسان في مرضاته ويتسابقان إلى محابه، فسيدهما يعجبه ذلك منهما ويحثهما عليه، وكل منهما يحب الآخر ويحرضه على مرضاة سيده»(2).
ويفرق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بين الحسد والمنافسة فيقول: «والفرق بين المنافسة والحسد: أن المنافسة المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده من غيرك، فتنافسه فيه حتى تلحقه أو تجاوزه؛ فهي من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر؛ قال تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين: من الآية26).
وأصلها من الشيء النفيس الذي تتعلق به النفوس طلبًا ورغبة، فينافس فيه كل من النفسين الأخرى، وربما فرحت إذا شاركتها فيه كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير، ويفرح بعضهم ببعض باشتراكهم فيه، بل يحض بعضهم بعضًا عليه مع تنافسهم فيه؛ وهي نوع من المسابقة، وقد قال تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة: من الآية148)، وقال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الحديد: من الآية21).(/57)
والحسد خلق نفس ذميمة وضيعة ساقطة ليس فيها حرص على الخير؛ فلعجزها ومهانتها تحسد من يكسب الخير والمحامد، ويفوز بها دونها، وتتمنى أنْ لَوْ فَاتَهُ كسبُها حتى يساويها في العدم؛ كما قال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: من الآية109).
فالحسود عدو النعمة متمنٍ زوالها عن المحسود كما زالت عنه هو، والمنافس مسابق النعمة متمنٍ تمامها عليه وعلى من ينافسه؛ فهو ينافس غيره أن يعلو عليه، ويحب لحاقه به أو مجاوزته له في الفضل، والحسود يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان، وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسة؛ فمن جعل نصب عينيه شخصًا من أهل الفضل والسبق فنافسه انتفع به كثيرًا؛ فإنه يتشبه به ويطلب اللحاق به والتقدم عليه وهذا لا نذمه»(3).
______________
(1) البخاري: (5025)، ومسلم: (815).
(2) كتاب الروح: (ص 533) بتصرف يسير.
(3) كتاب الروح: (ص 533، 534).
حادي عشر : العدل والوسطية والتوازن في العزلة :
جاء في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي فعل السلف الصالح ما يدل تارة على فضل العزلة وعدم الخلطة بالناس أو تقليلها، وورد تارة أخرى ما يدل على النهي عنها، والحث على الجماعة والاختلاط بالناس. ويحسب الناظر في هذه الأدلة والمواقف أنها متعارضة؛ وحاشا أن يوجد في هذا الدين ما ينقض بعضه بعضًا لأنه من عند الله العليم الحكيم، المبرأ من الجهل والنقص والهوى. ولكن بالجمع بين هذه الأدلة والمواقف يظهر لنا وسطية هذا الدين وعدله وتوازنه في مسألة العزلة؛ حيث لم يأمر بها بإطلاق، ولم ينه عنها بإطلاق؛ وإنما فصَّل في ذلك بحيث يكون الموقف العدل فيها كغيرها من المواقف والسلوكيات: وسط بين طرفين مذمومين.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين رأوا اعتزال الناس اعتزالاً كليًا، واعتزال ما هم عليه من المنكرات والفساد، والبعد عن مناسباتهم وعن الاختلاط بهم حرصًا منهم على صيانة دينهم وأخلاقهم، وتحقيقًا للبراءة من المنكر وأهله، وامتثالاً للنصوص الواردة في فضل العزلة؛ ومنها ما أثنى به الله عز وجل على أهل الكهف بقوله تعالى: (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16). ولكن هذا أدى بهم إلى ترك الجمع والجماعات وقطع الأرحام، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفتح المجال للمبطلين والمفسدين يجولون ويصولون ويفسدون على الناس دينهم وأخلاقهم وأعراضهم بلا مجاهدة ولا مواجهة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)(1).
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في العزلة وأفرطوا في الخلطة، سواء كانت في الخير أو الشر، ولم يكن لهم خلوات بربهم وبأنفسهم؛ وهؤلاء في العادة يتأثرون بمن حولهم، ويضعف دينهم ويداهنون الناس فيما هم عليه من منكرات ومخالفات. وعن مثل هؤلاء وصنيعهم جاء النهي والتنفير، وجاء الحث على العزلة والتحذير من هذه الأحوال من الخلطة. كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «العزلة راحة من أخلاط السوء»(2)، وكما قال الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى -: «من خالط الناس لم يسلم ولم ينج من احدى اثنتين: إما أن يخوض معهم إذا خاضوا في الباطل، وإما أن يسكت إذا رأى منكًرا أو سمعه من جلسائه، فلا يغير فيأثم ويشركهم فيه»(3).
الوسط العدل المتوازن: وهو الذي لم يجنح إلى الإفراط في العزلة ولا التفريط، وإنما نظر إلى هذه المسألة نظرة متوازنة يلتمس فيها مرضاة الله عز وجل وما هو المحبوب منها لله تعالى.
وأكتفي بما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في وصفه لهذا المنهج المتوازن؛ حيث يقول رحمه الله تعالى: «فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها - إما نزاعًا كليًا، وإما حاليًا - فحقيقة الأمر: أن «الخلطة» تارة تكون واجبة أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأمورًا بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة.
وجماع ذلك: أن «المخالطة» إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات؛ كالصلوات الخمس، والجمعة، والعيدين، وصلاة الكسوف، والاستسقاء، ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله.
وكذلك الاختلاط بهم في الحج، وفي غزو الكفار والخوارج المارقين، وإن كان أئمة ذلك فجارًا، وإن كان في تلك الجماعات فجار، وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانًا؛ إما لانتفاعه به، وإما لنفعه له، ونحو ذلك.(/58)
ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره، ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره؛ فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته؛ كما قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته؛ يكف فيها بصره ولسانه. وإما في غير بيته.
فاختيار المخالطة مطلقًا خطأ، واختيار الانفراد مطلقًا خطأ، وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا، وما هو الأصلح له في كل حال؛ فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم»(4) ا.هـ.
وبنحو ذلك قال ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: «فإذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقاً بالتفضيل نفيًا وإثباتًا خطأ، بل ينبغي أن ينظر إلى الشخص وحاله، وإلى الخليط وحاله، وإلى الباعث على مخالطته، وإلى الفائت بسبب مخالطته من الفوائد، ويقاس الفائت بالحاصل. فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الأفضل»(5).
ولذلك رأينا الإمام الخطابي - رحمه الله تعالى - بعد أن ساق جملة من النقولات التي تمدح العزلة وتحسنها استدرك وأفرد في كتابه العزلة بابًا سماه: «باب في لزوم القصد في حالتي العزلة والخلطة» قال فيه: «قد انتهى منا الكلام في أمر العزلة إلى حيث شرطنا أن نبلغه، وأوردنا فيها من الأخبار ما خفنا أن نكون قد حسَّنا معه الجفاء من حيث أردنا الاحتراز منه، وليس إلى هذا أجرينا، ولا إياه أردنا؛ فإن الإغراق في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها، والحسنة بين السيئتين. وقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإغراق في عبادة الخالق - عز وعلا - والحمل على النفس منها ما يؤودها ويكلها؛ فما ظنك بما دونها من باب التخلق والتكلف؟»(6). ا.هـ.
تنبيه:
إن القول بأن العزلة التامة للناس فيها مجانبة للوسطية والعدل لا يعني أنها لا تُمدح في بعض الأحوال أو الأمكنة أو الأزمنة، بل قد تكون في بعض الأحوال هي الموقف الحق الوسط العدل.
وأُمَثِّل لذلك بالأحوال التالية:
الحالة الأولى: عند فشو المعاصي وانتشارها انتشارًا واسعًا يتعذر علي بعض الناس حينها القدرة على الإنكار ولا يوجد المعاون، ولا يوجد المكان الصالح الذي يهاجر إليه، فإنه يشرع والحالة هذه لبعض الأفراد دون بعض العزلة؛ وذلك حين لا يستطيع الفرد الصبر على رؤيتها، فيتعجل بإنكارها بصورة شديدة غير منضبطة، أو أن المنكرات تعكر صفو حياته، ويعيش برؤيتها في هم وحزن، أو أنه يخاف على نفسه من الوقوع في المعاصي والفواحش خوفًا ظاهرًا قويًا. وهذه عزلة مقيدة بأحوال الأفراد وليست عزلة مطلقة لكل إنسان.
الحالة الثانية: أيام الفتن واختلاف المسلمين وتفرق كلمتهم واقتتالهم:
وفي هذه الأحوال يشرع اعتزال الناس حتى تنجلي الفتنة. ومن أراد لنفسه السلامة في الدنيا والآخرة فليعتزل الناس أيام الفتن بقلبه ولسانه ويده ولا يُلوِّث نفسه بشيء من كدرها وغبارها؛ وهذا ما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إليه عند هيجان الفتن.
قال عثمان الشحام: انطلقت أنا وفرقد السبخي إلى مسلم بن أبي بكرة وهو في أرضه، فدخلنا عليه، فقلت: هل سمعت أباك يحدِّث في الفتن حديثًا؟ فقال: نعم، سمعت أبا بكرة يحدث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة: القاعد فيها خير من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت، أو وقعت، فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه)، قال: فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: (يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر، ثم لينج إن استطاع النجاء. اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟...)(7).
وهذا ما كان عليه سلف الأمة أيام الفتن:
فعن ابن سيرين قال: لما قيل لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ألا تقاتل؟ إنك من أهل الشورى، وأنت أحق بهذا الأمر من غيرك، قال: «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر، فقد جاهدت وأنا أعرف الجهاد»(8).
وعن يزيد بن أبي عبيد - رضي الله عنه - قال: «لما قتل عثمان خرج سلمة بن الأكوع إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة، وولدت له أولادًا، فلم يزل بها، حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة، فمات بها» أخرجه البخاري، وأخرج هو ومسلم «أن سلمة دخل على الحجاج، فقال: يا ابن الأكوع، أرتددت على عاقبيك؟ تعرَّبت؟ قال: لا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي في البدو»(9).(/59)
الحالة الثالثة: عند فساد الزمان وفساد الناس ومروج عهودهم وأماناتهم؛ وذلك حين يتعذر الإصلاح في الناس لاختلافهم وتناحرهم ورقة أديانهم؛ أي حين يطبق الانحراف التام العام والغربة الشاملة؛ فحينئذ يشرع للمسلم أن يعتزل الناس ويعتني بنفسه، كما يعتني بأمر الخاصة من أصحابه وخلصائه، ويهتم بصلاح شؤونهم، ويذر أمر العامة. وهذه الحالة إما أن تكون في مكان دون مكان؛ كما هو الحال في بعض الأماكن اليوم، وإما أن يشمل الانحراف العام كل الأرض وتستحكم الغربة والجاهلية فيها كلها؛ وهذا لا يكون إلا قرب قيام الساعة، والله تعالى أعلم.
وهذا المعنى هو الذي جاء في الحديث الذي رواه عبدالله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كيف بكم وبزمان - أو يوشك أن يأتي زمان - يغربل الناس فيه غربلة؛ تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه. فقالوا: وكيف بنا يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم)(10).
ويعلق صاحب كتاب: (العزلة والخلطة) - حفظه الله تعالى - على هذا الحديث فيقول: «ومحصل هذه الصفات كلها: أن لا فائدة من الأمر والنهي والإصلاح في مجال العامة وهم الدهماء والجمهور، وإن ترأَّسوا وسادوا، بل ربما ترتب على الأمر والنهي ضرر بأن يتضاعف المنكر ويزداد، أو يُؤذَى الآمر في نفسه، أو أهله، أو ماله.
ولعل هذا هو الضابط العام لتلك الحال: ألا يكون ثَمَّ فائدة ترجى من الدعوة والأمر والنهي بين هؤلاء المسمين بـ «العامة»، وفي مقابل التحقق من عدم النفع، هناك توقع لحصول الضرر الديني والدنيوي للآمر ولغيره. ولا شك أن الأصول العامة تقتضي ترك الأمر والنهي - حينئذ - دفعًا للمفسدة المتوقعة التي لا توجد مصلحة تكافئها في فضل الأمر والنهي؛ فيكون الحديث مطردًا مع القاعدة العامة في المصلحة والمفسدة»(11).
______________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد: (388)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد: (300).
(2) العزلة والانفراد لابن أبي الدنيا: (ص 60).
(3) المصدر السابق نفسه: (ص 67).
(4) مجموع الفتاوى: (01/425).
(5) مختصر منهاج القاصدين: (ص 117).
(6) العزلة للخطابي: (ص 97).
(7) مسلم في الفتن، باب نزول الفتن: (2887).
(8) مجمع الزوائد: (7/584).
(9) البخاري في الفتن، باب التعرب في الفتنة، ومسلم: (1862).
(10) أبو داود في الملاحم: (4342)، وابن ماجة في الفتن: (3957)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (3648).
(11) العزلة والخلطة للشيخ سلمان العودة - حفظه الله تعالى -: (ص 70).
ثاني عشر : الوسطية والعدل والتوازن في الغيرة :
الغيرة بمعناها العام هي الغيرة على دين الله عز وجل ومحارم الله أن تنتهك. ولكننا هنا نريد الغيرة بمفهومها الخاص؛ ألا وهي الغيرة على المحارم والأعراض.
فهي خصلة كريمة من خصال المؤمنين، ومن سمات الرجولة والقوامة، والعزة والأصالة. ولا تفقد إلا عند أهل الخسة واللؤم والذلة والمهانة والدياثة. ولما تعجب الصحابة من غيرة سعد بن عبادة رضي الله عنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني»(1).
والغيرة المحمودة كغيرها من الأخلاق وسط بين طرفين مذمومين:
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو: وهم الذين أفرطوا في غيرتهم على محارمهم وأعراضهم حتى أوقعهم ذلك في الوساوس والشكوك والخواطر الرديئة فأتعبوا أنفسهم، وأتعبوا محارمهم. ومنشأ هذا الغلو: الإفراط في الظن السيء، والتجسس والتحسس؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا...) (الحجرات: من الآية12).
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرطوا في أمانتهم وقوامتهم وغيرتهم وحميتهم على أعراضهم ومحارمهم، وضيعوا أماناتهم ورعيتهم التي استرعاهم الله إياها، ولم يبالوا بما يفعله نساؤهم ومولاياتهم مما يخدش الحياء، ويعرضهن لسهام المفسدين، ويجرأ أهل الشهوات والقلوب المريضة عليهن. وقد ظهرت في زماننا اليوم صور من ضعف الغيرة على النساء، وتسلط النساء وغلبتهن على أوليائهن، حتى أصبحت المرأة في بعض البيوت لها القوامة على البيت بما فيه من رجال ونساء، وصارت المرأة من زوجة أو بنت أو أخت تذهب إلى السوق وحدها، وتخلو بأصحاب المحلات، وتركب مع السائق وحدها، وتجلس مع الرجال الأجانب من أقاربها أو أقارب الزوج دون حشمة تذكر. كل ذلك يتم أمام ناظري الزوج أو الأب أو الأخ دون أن يحرك ذلك عندهم ساكنًا، أو أن تتحرك الغيرة في قلوبهم. نسأل الله عز وجل العافية في الدنيا والآخرة.(/60)
الوسط العدل: وهم الذين حفظوا أماناتهم ورعيتهم التي استرعاهم الله إياها من أزواج وأخوات وبنات وموليات، فغاروا عليهن وصانوهن من كل ما يخدش أعراضهن وحياءهن، وبذلوا ما في وسعهم من التربية الصالحة لهن، وأبعدوا عنهن كل ما يفسد عليهن دينهن وأخلاقهن. مع إشعارهن بالثقة وإحسان الظن بهن، وقطع الطريق على الشيطان وكيده ووسوسته التي توقع من استرسل معها في الشك والوساوس الرديئة. فهذا دأب الشيطان مع الإنسان؛ إن لم يفلح معه في التفريط وقلة الغيرة أتاه من الغلو والإفراط في الغيرة والشك والوساوس الرديئة.
___________
(1) البخاري في الحدود: (6846)، ومسلم في اللعان: (1499).
ثالث عشر : التوازن والعدل والوسطية في سلامة القلب :
لقد مدح الله عز وجل نبيه ورسوله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله: (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الصافات:84)، وبين أنه لن ينجو من عذاب الله تعالى يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88، 89).
والقلب السليم هو الذي سلَّمه الله تعالى، من كل شبهة تعارض خبر الله تعالى ومن كل شهوة تعارض أمره سبحانه. ومن ذلك ما اشتهر عند الناس أن صاحب القلب السليم هو الذي علم الشر واجتنبه وسلم الناس من شره، ولكن هذا العمل القلبي النظيف يكتنفه طرفان مذمومان:
الطرف الأول : الإفراط أو الغلو في سلامة القلب حتى ينقلب إلى بله وغفلة وانخداع لأهل الخداع، وقلة معرفة بالشر وأهله.
الطرف الثاني: التفريط والجفاء في التحلي بهذا الخلق الرفيع حتى يصبح القلب مأوىً للشبهات والشهوات والخداع والأحقاد وإرادة الشر والمكروه بالغير.
الوسط والعدل: وهو الذي من الله عليه بقلب سليم مطمئن يحرق ما يرد عليه من الشبهات والشهوات، ولا يحمل حقدًا ولا مكروهًا ولا غدرًا ولا خيانة لمسلم. في الوقت الذي هو فيه يقظ لخداع الخادعين، عارف بالشر وأهله، حذر منهم ومن كيدهم.
ويفرق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بين سلامة القلب والبله والتغفل فيقول: «والفرق بين سلامة القلب والبَلُه والتغفل: أن سلامة القلب تكون من عدم إرادة الشر بعد معرفته فيسلم قلبه من إرادته وقصده لا من معرفته والعلم به.
وهذا بخلاف البله والغفلة؛ فإنها جهل وقلة معرفة، وهذا لا يحمد إذ هو نقص، وإنما يحمد الناس من هو كذلك لسلامتهم منه. والكمال أن يكون القلب عارفًا بتفاصيل الشر سليمًا من إرادته.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (لست بخب ولا يخدعني الخب)، وكان عمر أعقل من أن يُخدع وأورع من أن يخدع، وقال تعالى: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)؛ فهذا هو السليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة من مرض الشبهة التي توجب اتباع الظن، ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السليم الذي سلم من هذا وهذا»(1).
_____________
(1) كتاب الروح: (ص 517).
رابع عشر : التوازن والعدل والوسطية في الحياء :
الحياء خير كله، وحقيقته: خُلُقٌ يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق(1). ولما مر الرسول صلى الله عليه وسلم برجل وهو يعظ أخاه في الحياء قال: (دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)(2)، وقال: (الحياء لا يأتي إلا بخير)(3)، (وكان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه)(4). ومع حسن هذا الخلق، إلا أنه كغيره من الأخلاق الحميدة يكتنفه طرفان مذمومان وهو وسط بينهما.
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو الذين وصل بهم الإغراق في الحياء إلى العجز والمهانة والجهل، والتفويت على النفس مصالحها الدنيوية والأخروية، ومن آثار ذلك الرضى بالدون والبقاء في مؤخرة الركب، والتبعية للغير، وتضييع الحقوق.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين قل حياؤهم وتجرأوا على فعل ما يعاب وفعل ما يقبح؛ دون حياء من الله عز وجل، ولا من الناس، ولم يبالوا فيما يقولونه أو يفعلونه مروءة ولا آدابًا، ولا صغيرًا ولا كبيرًا.
الوسط العدل: وهم الذين قاموا بهذا الخلق الرفيع كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، فاستحيوا من الله تعالى بحفظ حقوقه وحدوده، واستحيوا من الناس؛ فلم يفعلوا أو يقولوا ما يعابون به من قول أو عمل يخل بالآداب أو المروءات. كما أنهم مع ذلك لم يمنعهم الحياء من السعي في مصالحهم الدينية والدنيوية والصدع بالحق، والسؤال عما أشكل عليهم في دينهم ودنياهم.(/61)
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد ... وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة؛ بحيث يطمع في نفسه عدوه، ويفوته كثير من مصالحه؛ ويزعم أن الحامل على ذلك الحياء. وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس»(5).
____________
(1) انظر مدارج السالكين: (2/601) ط. دار طيبة.
(2) البخاري: (24)، ومسلم: (36).
(3) البخاري: (6117)، ومسلم: (37).
(4) البخاري: (6119)، ومسلم: (2320).
(5) مدارج السالكين: (3/76، 77) ط. دار طيبة.
خامس عشر : الوسطية والعدل والتوازن في الأخذ بالقواعد الشرعية:
استنبط الفقهاء من الكتاب والسنة قواعد شرعية يحاكمون إليها ما يجد في حياة الناس من أقضية وأحداث ونوازل، ليصلوا بذلك إلى الحكم الشرعي المنطلق من هذه القواعد ومقاصد الشريعة. ومع ذلك فقد تجرأ على هذه القواعد وخاض فيها من ليس من أهل العلم والاجتهاد المؤهلين للفتيا وبيان الأحكام الشرعية؛ فزادوا فيها ونقصوا، وأفرَّطوا، في تطبيقاتها وفرَّطوا، وحرَّموا وحلَّلوا، وحصل من جراء ذلك غلو وتضييق على الناس، أو تفريط وإضاعة ونشر للشر والفساد. ووفق الله عز وجل الربانيين من أهل العلم إلى التوسط في تناول هذه القواعد فطبقوها بعدل وتوازن وضبطوها بضوابط شرعية(1) تحميهم من التطرف نحو الغلو والإفراط أو التطرف نحو التفريط والإضاعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «الانحراف عن الوسط كثير في أكثر الأمور في أغلب الناس؛ مثل تقابلهم في بعض الأفعال يتخذها بعضهم دينًا واجبًا أو مستحبًا أو مأمورًا به في الجملة، وبعضهم يعتقدها حرامًا مكروهًا أو محرمًا أو منهيًا عنه في الجملة»(2).
وأذكر على سبيل المثال قاعدة شرعية عظيمة قام عليها ربع الأحكام في هذا الدين؛ ألا وهي: (قاعدة سد الذائع)؛ يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن هذه القاعدة: «وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه. والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة. فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين»(3).
وقد ذكر - رحمه الله تعالى - تسعة وتسعين وجهًا للدلالة على القاعدة؛ وهذه الوجوه هي في حقيقتها أحكام شرعية ثابتة بالكتاب أو السنة، ويظهر فيها أن السبب في تشريعها هو سد الذرائع، فليرجع إليها(4).
وقد انقسم المتناولون لهذه القاعدة الشرعية إلى طرفين ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو: وهم الذين أفرطوا في تطبيقات هذه القاعدة، وتوسعوا فيها، حتى ضيقوا على الناس بتحريم بعض المباحات نظراً إلى أنها قد تؤدي إلى محرم، ولو على وجه الندرة والظن الضعيف؛ كمن يحرم بيع العنب على الناس لأن من بينهم من قد يصنع منه خمرًا أو يحرم بيع السلاح على الناس في غير أيام الفتن خشية أن يستخدم في العدوان على الناس.
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وهم الذين فرَّطوا في اعتبار المآلات، وأهملوا استخدام هذه القاعدة الشرعية ولم ينظروا إلى ما يؤول إليه المباح وقصروا النظر على الفعل نفسه؛ فإن كان مباحًا فهو مباح وإن غلب على الظن أنه يقود إلى محرم. فنشأ من جراء ذلك مفاسد عظيمة، وعُطلت هذه القاعدة الشرعية القائمة على أن ما أدى إلى الحرام فهو حرام وأنَّ الوسائل لها حكم المقاصد؛ فنجد هؤلاء مثلاً لا يمانعون أن يباع العنب على رجل يغلب على الظن من حاله وسيرته أنه يصنعه خمرًا، ولا يمانعون من بيع السلاح أيام الفتن، ولو غلب على الظن أن يستخدم في قتال المسلمين؛ لأنهم إنما نظروا إلى أصل عقد بيع العنب والسلاح وهو الإباحة، ولم ينظروا إلى مآلات الفعل ومقاصد الفاعلين.
ومن الأمثلة المعاصرة: تجويز من جوز قيادة المرأة للسيارة قائلاً: إن الأصل مباح؛ مثلها مثل قيادتها للبعير والحمار، وغض الطرف بقصد أو غير قصد عما يترتب على قيادتها للسيارة من أمور عظيمة لا يتسع المقام إلى ذكرها. وأحيل القارئ الكريم إلى ما أفتى به الإمامان الراحلان الشيخ عبدالعزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين - رحمهما الله تعالى - عندما سُئلا عن قيادة المرأة للسيارة فأفتيا بالتحريم وبنيا فتواهما على هذه القاعدة الشرعية التي نحن بصددها وذكرا المفاسد الكثيرة التي يؤول إليها هذا الأمر. وبناءً على مبدأ سد الذريعة حرما قيادة المرأة للسيارة.(/62)
أهل الموقف الوسط العدل المتوازن: وهم الذين تناولوا هذه القاعدة بتوازن ووسطية؛ فلم يلغوها من الاعتبار كما فعل المفرِّطون، ولم يغلوا فيها حتى ضيقوا من الدين ما هو موسعًا كما فعل المفْرِطون. بل أوقعوها في مكانها اللائق بها. فمتى ما غلب على الظن أن الفعل المباح يؤول إلى مفاسد محرمة حرموه بناء على هذه القاعدة والتي ذكر لها الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - تسعة وتسعين مثالاً من الكتاب والسنة. ومتى ما غلب على الظن أن فعل ذلك لا يؤول إلى أمور محرمة لم يحرموه بناء على أن شروط تطبيق هذه القاعدة لم تتوفر. وأسوق فيما يلي فتوى للصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن تدل على العناية بهذه القاعدة والفقه العظيم في تطبيقها.
نقل القرطبي - رحمه الله - في تفسيره قال: «روى يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: ألمن قتل مؤمنًا متعمدًا توبة؟ قال: لا، إلا النار، قال: فلما ذهب. قال له جلساؤه: أهكذا كنت تفتينا؟ كنت تفتينا أن لمن قتل توبة مقبولة، قال: إني لأحسبه رجلاً مغضبًا يريد أن يقتل مؤمنًا. قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك(5).
______________
(1) انظر تفصيل بعض هذه القواعد وضوابطها في كتاب (فاستقم كما أمرت) للمؤلف: (ص 252-292).
(2) مجموع الفتاوى: (3/359).
(3) اعلام الموقعين: (3/159).
(4) انظر هذه الوجوه في إعلام الموقعين: (3/137-159).
(5) تفسير القرطبي: (5/333).
سادس عشر: التوازن والعدل والتوسط في عداء الكفار والتعامل معهم:
قال الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:8، 9)، وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8)، ومع وضوح هذا المنهج الرباني في العلاقة مع الكفار حسب أحوالهم إلا أن الخلل والتطرف قد تطرق لهذا النمط من العلاقات عند كثير من الناس، وأصبح الناس فيها طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الغو والإفراط في عداء الكفار؛ حيث أدى بهم ذلك إلى مجانبة العدل والقسط معهم وبخاصة المسالم منهم. وفي الآيات السابقة أمر بالعدل والقسط مع الكفار، والبر بهم وبخاصة إذا كانوا أقارب وأرحام ما داموا ليسوا حربيين.
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير آية الممتحنة: «وقوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)، أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين؛ كالنساء والضعفة منهم، (أَنْ تَبَرُّوهُمْ)، أي تحسنوا إليهم (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)، أي: تعدلوا (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء - هي بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قَدَمَت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفاصلها؟ قال: (نعم، صِلْي أمك)؛ أخرجاه(1).
وقال الإمام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا عبدالله بن المبارك، حدثنا مصعب بن ثابت، حدثنا عامر بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه قال: قدمت قُتَيلة على ابنتها أسماء ابنة أبي بكر بهدايا: صِنَاب وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها، وأن تدخلها بيتها(2)»(3).
وقد تصل الحال عند هؤلاء المفْرِطين إلى أن يعدوا التعامل مع الكافر المسالم بتجارة، أو بيع أو شراء، أو علم دنيوي ضروري، أو نحو ذلك من المعاملات إنما هو ضرب من ضروب الموالاة المحرمة للكافر، وأن عداوته وبغضه والبراءة منه تقتضي قطع أي صلة أو تعامل معه.
وقد سبقت الإشارة إلى هذا الموقف الخاطئ في مبحث الوسطية في الولاء والبراء(4).(/63)
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة: وأهل هذا الموقف هم المتساهلون في عدائهم للكفار، والبراءة منهم، حتى تجاوزوا العدل والقسط والبر مع المسالم منهم إلى المداهنة والمحبة لهم، والخوف منهم، وتعظيمهم وتقديمهم على المسلمين، والانبهار والاغترار بما هم عليه من دنيا وقوة وصناعات متقدمة، وائتمانهم على أموال المسلمين وأعراضهم وعقولهم وأسرارهم؛ بل وصلت الحال ببعضهم إلى التدسس بعقيدته والحياء من إظهارها ودعوة الناس إليها.
أهل الموقف الوسط العدل المتوازن: وهم أهل السنة والاتباع الذين اقتفوا أثر الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم والتابعين له بإحسان، الذين تبرؤا من الكفر وأهله، وأعلنوا بكل فخر واعتزاز عقيدة الإسلام، ودعوا الناس إليها وجاهدوا في سبيلها. فمن أسلم من الكفار فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وهو أخ من إخوانهم المسلمين له حقوق وعليه واجبات. ومن لم يدخل في الإسلام وصالح المسلمين أو عاهدهم أو دفع الجزية مقابل أن يعيش آمنًا داخل الدولة الإسلامية فإن الواجب نحوه العدل والقسط وإن كان قريباً فله البر والإحسان. ولا يجوز ظلمه لكونه كافرًا، وجاز التعامل معه ببيع أو شراء أو إجارة أو غيرها من المعاملات في ضوء الشريعة الإسلامية، بشرط أن لا يكون في ذلك تقوية لاقتصاد الكفار المحاربين.
وهذا العدل وضمان الأمن للكافر المسالم هو ما أمر الله عز وجل به وطبقه المسلمون في تاريخهم الطويل في فتوحاتهم وتعاملاتهم مع الذين بقوا على دينهم من أهل تلك البلاد المفتوحة؛ قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8). ومن تطبيقات هذا المنهج الرباني العادل في حياة الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم ما يلي:
لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة رضي الله عنه على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، أرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: «والله لقد جئتكم من أحب الخلق إليَّ، ولأنتم أبغض إليّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض»(5).
لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد. فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد. فلما هزم الله الكفرة وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم وأخرجوا المفلسين فلعبوا وأدوا الخراج.
فهؤلاء اليهود والنصارى الذين قال الله عنهم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة: من الآية120) يقولون للمسلمين الذين عدلوا فيهم: (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ...) وهل فوق هذا النصر من نصر(6).
ويُذكر أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى واليه على البصرة عدي بن أرطأة يوصيه، ونقتطف من رسالته بعض المقاطع؛ يقول: «ثم انظر مَن قِبَلك من أهل الذمة، قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجْر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه .. وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك، أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك، ثم ضيعناك في كبرك، قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه»(7).
ويذكر في مواقف ابن تيمية السامية في الإنصاف حتى مع غير المسلمين أنه حين سعى بإطلاق سراح أسرى المسلمين من التتار، وعلم أنهم لن يطلقوا معهم أسرى أهل الذمة، أصر على إطلاق الجميع معًا وقال: «بل جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفكهم، ولا ندع أسيرًا لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة»(8).
_____________
(1) البخاري: (2620)، ومسلم: (1003).
(2) المسند: (4/4)، والحاكم: (2/485) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) تفسير ابن كثير عند الآية (9) من سورة الممتحنة.
(4) انظر: (ص 105) من هذا الكتاب.
(5) تفسير ابن كثير: (2/412) وروى بعضه الإمام أحمد: (3/367)، وأبو داود: (3410)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح: (2910).
(6) انظر كتاب الجهاد في سبيل الله، عبدالله القادري: (2/143).
(7) أحكام أهل الذمة لابن القيم: (1/38)، ت: صبحي الصالح.(/64)
(8) حياة شيخ الإسلام، للشيخ محمد بهجت البيطار: (ص 15).
سابع عشر : التوازن والعدل والوسطية في التخطيط والتنظيم :
إن كل مشروع من مشاريع الدنيا والدين يحتاج ليتم تنفيذه إلى دراسة وتخطيط وتحديد للأهداف والوسائل، ثم يتبع ذلك توزيع للمهمات والأولويات والأدوار، وتنظيم الأعمال التي من شأنها تحويل الخطط والدراسات النظرية إلى واقع وعمل. وهذا كله يدخل في الأخذ بالأسباب وبذل الوسع في ذلك؛ لأن من سنة الله سبحانه أن رتب المسببات على أسبابها، والنتائج على مقدماتها، والأهداف على وسائلها؛ وكل ذلك خاضع لمسبب الأسباب سبحانه ومشيئته النافذة، ومع أهمية التخطيط والتنظيم لأي فكرة أو مشروع إسلامي دعوي فإن الناس منقسمون فيها إلى طرفين ووسط.
الطرف الأول: أهل الغلو والإفراط: وهم الذين غلوا، وأغرقوا في التنظير والتخطيط حتى تمر الأيام والشهور بل والسنوات وهم ما زالوا في تخطيطهم ودراساتهم يقدمون رِجْلاً ويؤخرون أخرى؛ لا تراهم إلا مترددين خائفين من الإقدام على العمل مفْرِطين في أخذ الحيطة والحذر، مفوتين عليهم الفرص الكثيرة تمر عليهم دون أن يستثمروها، مبررين عملهم هذا بالتثبت والتأني والحكمة. (ارجع إلى مبحث التوازن والعدل في الحلم والأناة)(1).
ثم إذا قدر لهؤلاء أن ينتقلوا من التخطيط إلى التنفيذ والعمل فإنهم يغلون في تنظيم هذا العمل ويفرطون في وضع الترتيبات الإدارية والتنظيمية الدقيقة التي تعرقل العمل، ولا تمنح للفرد أن يستخدم عقله وطاقته، وإنما يبقى رهين أطر تنظيمية ومركزية تقيد الأعمال وتجعلها تراوح في مكانها إن لم تتراجع. كما أن الإفراط والغلو في التنظيم والترتيب قد يوقع أهله - وبخاصة أصحاب المشاريع الدعوية الجماعية - في حزبيات مقيتة وولاءات ملوثة؛ بحيث يصبح عند أهل التنظيم الواحد تحزب وتعصب لبعضهم يوالي بعضهم بعضًا، ويناصر بعضهم بعضًا؛ ويعادون أو ينابذون من سواهم من الطوائف الإسلامية؛ لا على أساس الإسلام، وإنما على أساس الحزب أو التنظيم؛ وهذا غلو وتطرف.
الطرف الثاني: أهل الإفراط والإضاعة: وهم الذين أهملوا الأخذ بالأسباب فأهملوا التخطيط والدراسة المتأتية التي تسبق العمل والتنفيذ، فقامت مشاريعهم على الفوضى والتخبط، فكانت النتيجة المترتبة على ذلك ضياع الأوقات والأموال والأعمال؛ إن لم يكن أكثر من ذلك من المفاسد العظيمة والشرور الجسيمة. وهذا الطرف يقابل الطرف السابق أو هو ردة فعل له.
وكما أنهم أهملوا وفرطوا في الدراسة والتخطيط فكذلك أهملوا الأخذ بوسائل التنظيم والترتيب. فجاءت أمورهم نتاج أعمال فوضوية، وتصرفات فردية تفتقد الشورى والروح الجماعية. بل واتهموا أي عمل منظم مدروس بأنه عمل حزبي بدعي.
الوسط العدل المتوازن: وهم الذين اقتفوا أثر النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين الذين أخذو بالأسباب والسنن الإلهية، فقامت أمور الدعوة والجهاد والمال عندهم على الدراسة والتخطيط، وحولوا ذلك إلى عمل مثمر مرتب يحكمه التنظيم وتوزيع الأدوار وتفعيل الطاقات، دون عرقلة للعمل ولا فوضى وفردية. إذن فأهل هذا الموقف لم تشغلهم الدراسة والتخطيط عن العمل والتنظيم، وتفعيل الطاقات والأدوار، ولم تنطلق أعمالهم وتنظيمهم دون دراسة وتخطيط، ولم يجعلوا أطرهم التنظيمية حجر عثرة لأعمال دعوية وخيرية، أو تعطيلاً للطاقات، أو حزبية مقيتة تلوث عقيدة الحب في الله والبغض في الله.
_____________
(1) ص (169-171).
ثامن عشر : التوازن في تقويم الأعمال الدعوية والجهادية :
التقويم: كلمة تحتمل معنيين كلاهما مقصود: التقويم بمعنى النقد وبيان قيمة الشيء، والتقويم بمعنى التعديل والتوجيه. وهما أمران متلازمان يكمل أحدهما الآخر(1)، والذين يقوِّمون الحركات الدعوية والجهادية في الأمة اليوم طرفان ووسط:
الطرف الأول: أهل الإفراط والغلو في المدح والثناء: وهم الذين يعرضون هذه الدعوة أو تلك على أنها الدعوة المثالية وأنها امتداد لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. وتضطرهم هذه النظرة الغالية إلى تبرير للمواقف والأخطاء تبريرًا متكلفًا، حتى لكأنهم يعتقدون العصمة في القائمين عليها، كما يدفعهم ذلك إلى النظر في اجتهادات هذه الدعوة أو تلك على أنها الأمل الوحيد لنهضة الإسلام والمسلمين. وهذا بدوره يجعلهم ينظرون لغيرهم من الدعوات نظر الدونية وضعف الفهم والوعي والتربية والتخطيط.
الطرف الثاني: أهل الغلو والإفراط في النقد والتقويم: وهم الذين ينظرون إلى الدعوات الإصلاحية والحركات الجهادية نظرة تشاؤم وتحامل؛ فلا يرون إلا العيوب، فإن علموا شرًا أذاعوه وضخموه وإن علموا خيرًا كتموه أو أولوه أو أساءوا الظن بفاعليه.
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحاً ... ... عنيِّ وما سمعوا من صالح دفنوا
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم(2)
وأهل هذا الطرف يقابلون الطرف الأول.(/65)
أهل الموقف الوسط العدل: وهم الذين تناولوا تقويم هذه الدعوات ودراستها دراسة عادلة متوازنة بعيدة عن الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم، وبعيدة عن الإفراط في الحب أو الكره، وذكروا ما لهذه الدعوات من خير كثير وبلاء عظيم وأثر كبير في الأمة، مع الإقرار بالأخطاء والعثرات والاستفادة منها في تجنبها ومناصحة أهلها.
_____________
(1) مقالات في المنهج: (ص 90).
(2) المصدر السابق: (ص 90) وما بعدها.
تاسع عشر: الوسطية والعدل والتوزان في نقد المخالف ومعالجة الأخطاء:
هذا المبحث في هذه الرسالة من أهم مباحثها وأطولها؛ وذلك لمساسه بالواقع، وما نعاني فيه من فرقة ومنابذة أفرزهما المنهج الخاطئ في النقد ومعالجة الأخطاء والجور مع المخالف؛ في وقت نحن في أمس الحاجة إلى الائتلاف والوحدة والاجتماع، لا إلى الفرقة والاختلاف، كما أننا في حاجة إلى أن يرحم بعضنا بعضًا، وأن يشفق بعضنا على بعض، وأن نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويناصح بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه. وإن كان الأمر مما يسعه الاجتهاد عذر بعضنا بعضًا فيه.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين. والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل لحفظ الفرع»(1).
ونظرًا لأهمية هذا الأمر ومسيس الحاجة إلى طرحه ومداولته بين الدعاة فسوف أطيل النفس فيه - إن شاء الله تعالى - محاولاً تغطيته من جوانبه المختلفة بإذن الله تعالى، فأرجو من القارئ الكريم أن يتحمل هذه الإطالة التي سأسعى إلى أن لا تكون مملة.
ومن أهم البواعث على التطويل في هذا الموضوع ما يلي:
1- «قلة الفقه بأنواع الخلاف، وما يسوغ منه وما لا يسوغ، وما ينكر منه، وما يسكت عليه، أو ينصح فيه، وعدم التمييز بين الخلاف في الأصول أو الفروع، واعتبار أصنافه كلها بمنزلة خلاف الأصول؛ كل ذلك أدى إلى كثير من الظلم والإجحاف والفرقة والاختلاف، فكان لا بد من عودة إلى ذلك الفقه الذي ينصف المخالفين ليعودوا مؤتلفين.
2- العصبية التي أهدرت الأوقات وأضاعت الجهود انحيازًا إلى مذهب أو إمام أو رأي فأورثت الفرقة والتباغض، وكان لا بد من تخفيف حدة العصبيات بالإنصاف، ولاءً للحق وتطييبًا لقلوب المخالفين.
3- عموم الإجحاف في تقويم الرجال والجماعات والكتب بسبب تعظيم الهفوات، وغياب الميزان العدل، وعدم اعتبار غلبة المحاسن، ولعدم التعامل بالاحترام اللائق مع المخالف، وبسبب التجريح الظالم لأهواء نفسية أو لمبالغة في تصوير المساوئ، بسبب كل ذلك عمَّت صور الظلم والتنافر فكان لا بد من ضوابط للتقويم تحقق الإنصاف وتشيع روح الألفة.
4- افتقاد كثير من المختلفين للموازنة بين المصالح والمفاسد في التعامل مع المخالفين، وعدم الخبرة بالأساليب الحكيمة في الدعوة، وفي الأمر والنهي؛ أدى إلى تظالم وتقاطع. فرأينا أن العودة إلى منهج أهل السنة تنصف المخالفين وتزيل القطيعة.
5- رجوع كثير من أسباب تظالم المختلفين إلى عدم إعذار المخالف بجهله، أو اجتهاده، وتأوله، أو قيام الشبهة لديه، وعدم قيام الحجة عليه مما أدى إلى تأثيم المخالف، والحكم بضلاله - وقد يكون ممن يعذره الله - فكان لا بد من إنصاف المخالفين بإعذار صاحب العذر منهم، مع مناصحته فيما أخطأ فيه، فهذا أعدل وأدعى إلى التآلف»(2).
والموضوع من الأهمية بحيث لا يستكثر الكلام فيه. أسأل الله عز وجل أن يعينني على هذا الأمر، وأن يجعل فيه بابًا إلى الإصلاح، واجتماع القلوب، وتوفير الجهود على نشر هذا الدين والتصدي لكيد الأعداء والمفسدين وتسلطهم.
يقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «وهذا التفريق الذي حصل من الأمة: علمائها ومشائخها، وأمرائها وكبرائها، هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها؛ وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله ... فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة والفرقة عذاب»(3).
وقبل الدخول في تفصيل الموقف العدل المتوازن في نقد الأخطاء والموقف من المخالف يحسن التقدمة لذلك بمقدمتين هامتين:
المقدمة الأولى: في أنواع الخلاف المحمود منه والمذموم وأسبابه.
المقدمة الثانية: ضوابط شرعية في الرد على المخالف.
_____________
(1) مجموع الفتاوى: (22/245).
(2) انظر «فقه الائتلاف»: (ص 12، 13) ملخصاً وبتصرف يسير.
(3) مجموع الفتاوى: (3/421).
المقدمة الأولى: في أنواع الخلاف وأسبابه:(/66)
الخلاف من طبيعة البشر؛ وذلك لاختلاف العقول والمدركات، ودخول الهوى على النفوس، وهو قديم وحديث، لكنه قد يفتر أحيانًا وقد يتفجر أحيانًا. ويتميز كل زمان بمسائل معينة يدور حولها الخلاف، ومع كل ذلك فإن الحق واحد ويبقى محفوظًا لا يضره اختلاف المختلفين. وغالبًا ما يثور الخلاف في الأمة وينشغل به الناس حينما تنشغل عن الاهتمامات العالية والجهاد في سبيل الله تعالى، وتميل إلى الاسترخاء والدعة والترف، فيظهر حينئذ الترف الفكري والجدل والهوى.
وليس كل اختلاف في أمر من الأمور مذموم، بل إن هناك كثير من المسائل التي اختلف فيها السلف والخلف، ولم تؤد بهم إلى الافتراق والتنابذ، بل بقيت المودة بينهم، وبقي الصف موحدًا والقلوب مؤتلفة.
أما من فارقه السلف من المخالفين من أهل البدع فإن ذلك لم يكن إلا حينما خالفوا الأصول، وخالفوا ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهذا تفرق محمود.
أما الاختلاف الحاصل بين أهل السنة والجماعة فلا يعد مذمومًا إلا إذا انتهى بالمختلفين إلى الخصومة والتفرق؛ وذلك لوجود الجهل، أو دخول الهوى والبغي بين المختلفين. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - كلامًا بديعًا عن الاختلاف وأنواعه، ومتى يكون مذمومًا، ومتى يكون محمودًا، أرى من المناسب تدوينه في هذا المقام ليمهد لما بعده.
قال - رحمه الله تعالى -: «عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفترق اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح(1). وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)(2)... ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما في الدين فقط، وإما في الدين والدنيا، ثم قد يؤول إلى الدماء، وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط.
وهذا الاختلاف الذي دلت عليه الأحاديث هو مما نهي عنه في قوله سبحانه: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) (آل عمران: من الآية105)، وهو موافق لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويلاً، ثم انصرف إلينا فقال: (سألت ربي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها)(3)... فهذا يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته لينجو منه من شاء الله له السلامة، كما روى النَّزَّال بين سبرة، عن عبدالله بن مسعود قال: «سمعت رجلاً قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: (كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) رواه مسلم(4).
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع الآخر من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسنًا فيما قرأه، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا ... فأفاد ذلك بشيئين:
أحدهما: تحريم الاختلاف في مثل هذا.
والثاني: الاعتبار بمن كان قبلنا، والحذر من مشابهتهم.
واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب؛ وهو: أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبًا فيما يثبته، أو في بعضه، مخطئًا في نفي ما عليه الآخر، كما أن القارئين كل منهما كان مصيباً في القراءة بالحرف الذي علمه، مخطئًا في نفي حرف غيره؛ فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب، لا في الإثبات؛ لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه. ولهذا نهيت هذه الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض؛ لأن مضمون الضرب: الإيمان بإحدى الآيتين، والكفر بالأخرى - إذا اعتقد أن بينهما تضادًا - إذ الضدان لا يجتمعان ... والاختلاف(*) على ما ذكره الله في القرآن قسمان:(/67)
أحدهما: يذم الطائفتين جميعًا، كما في قوله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (هود: من الآيتين 118، 119). فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف، وكذلك قوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) (البقرة:176)، وكذلك قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (آل عمران: من الآية19)، وقوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) (آل عمران: من الآية105).
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف أن الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة قال (كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)(5) وفي الرواية الأخرى: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)(6).
فبيَّنَ أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين، إلا فرقة واحدة، وهم أهل السنّة والجماعة.
وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة: فساد النية؛ لما في النفوس من البغي والحسد، وإرادة العلو في الأرض، ونحو ذلك؛ فيحب لذلك ذم قول غيرها، أو فعله، أو غلبته ليتميز عليه، أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة، ونحو ذلك؛ لما في قيام قوله من حصول الشرف له والرئاسة، وما أكثر هذا من بني آدم، وهذا ظلم.
ويكون سببه تارة: جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه، أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر، أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم، أو في الدليل، وإن كان عالمًا بما مع نفسه من الحق حكمًا ودليلاً.
والجهل والظلم هما كل شر؛ كما قال سبحانه: (وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب: من الآية72).
أما أنواعه: فهو في الأصل قسمان:
اختلاف تنوع، واختلاف تضاد.
واختلاف التنوع على وجوه:
منه: ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقًا مشروعًا؛ كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة، حتى زجرهم عن الاختلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (كلاكما محسن)(7).
ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، والتشهدات، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، وتكبيرات الجنازة، إلى غير ذلك مما قد شرع جميعه، وإن كان قد يقال: إن بعض أنواعه أفضل.
ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها، ونحو ذلك؛ وهذا عين المحرم. ومن لم يبلغ هذا المبلغ فتجد كثيرًا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر، أو النهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنه: ما يكون كل من القولين هو في معنى القول الآخر؛ لكن العبارتين مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات، وتقسيم الأحكام، وغير ذلك. ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى.
ومنه: ما يكون المعنيان غيرين، لكن لا يتنافيان؛ فهذا قول صحيح، وهذا قول صحيح، وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر، وهذا كثير في المنازعات جداً.
ومنه: ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى، وكلاهما حسن في الدين. ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم إحداهما أو تفضيلها بلا قصد صالح، أو بلا علم، أو بلا نية وبلا علم ...
وهذا القسم - الذي سميناه: اختلاف التنوع - كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد، لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك - إذا لم يحصل بغي - كما في قوله: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) (الحشر: من الآية5)، وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم - يوم بني قريظة - لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرَّها إلى أن وصل إلى بني قريظة ...
وأما اختلاف التضاد فهو: القولان المتضادان إما في الأصول، وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون «المصيب واحد» وإلا فمن قال: «كل مجتهد مصيب» فعنده هو من باب اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد. فهذا الخطب فيه أشد؛ لأن القولين يتنافيان، لكن نجد كثيرًا من قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقًا ما، فيرد الحق في الأصل هذا كله، حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض، كما كان الأول مبطلاً في الأصل، كما رأيته لكثير من أهل السنّة في مسائل القدر والصفات والصحابة، وغيرهم.
وأما أهل البدعة: فالأمر فيهم ظاهر، وكما رأيته لكثير من الفقهاء، أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه، وكذلك رأيت الاختلاف كثيرًا بين بعض المتفقهة، وبعض المتصوفة، وبين فرق المتصوفة، ونظائره كثيرة.(/68)
ومن جعل الله له هداية ونورًا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنّة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ابتداء، لكن نور على نور ...
وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله: فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين، وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى، كما في قوله تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) إلى قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا) (البقرة: من الآية253).
فقوله: (وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) حمد لإحدى الطائفتين - وهم المؤمنون - وذم الأخرى، وكذلك قوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) (الحج: من الآية19) إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...) (الحج: من الآية23). مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه: «أنها أنزلت في المقتتلين يوم بدر: علي وحمزة وعبيدة، والذين بارزوهم من قريش وهم: عتبة وشيبة والوليد(8).
وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول، وكذلك آل إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق، ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك.
وكذلك جعل الله مصدره البغي في قوله: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) (البقرة: من الآية213)؛ لأن البغي: مجاوزة الحد.
وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة»(9).
ومن هذا النقل النفيس عن شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في أنواع الاختلاف وأسبابه نخلص إلى النتائج التالية:
الأولى : أن الخلاف مع الكفار والمبتدعة خلاف محمود؛ لأن الله عز وجل يأمر بمفارقة الكفار والمبتدعة ويحب المخالف لهم من أهل السنة والاتباع.
الثانية: أن الخلاف في مسائل الاجتهاد بين أهل السنة إذا لم يؤد إلى الفرقة وفساد المودة فهو خلاف محمود، أما إذا انتهى بالمختلفين إلى الفرقة والخصام، فإن كلا الطائفتين مذمومتان؛ إذ الغالب في مثل هذه الحال دخول الهوى والعصبية إلى النفوس. فمتى أدى الاختلاف في الاجتهاد بين أهل السنة إلى الفرقة، فليعلم أن الهوى أو البغي قد دخل في النفوس.
وفي ذلك يقول الشاطبي - رحمه الله تعالى -: «... فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً) (الأنعام: من الآية159) .. فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها .. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى .. وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين»(10).
الثالثة: أن أهم أسباب الخلاف بين المختلفين: إما الجهل بما عند المخالف من الحق والدليل أو الجهل بالأدلة الشرعية بعامة.
وإما البغي والهوى والحسد: إذ قد يتضح الحق للمخالف ولكنه يستنكف عن الانقياد له بغيًا وكبرًا عياذًا بالله عز وجل.
والكلام هنا موجه لأهل السنة والخلاف الحاصل بينهم، وكيف يمكن تفادي الفرقة الناشئة عنه، وما هو الميزان العدل الذي يوزن به هذا الخلاف. أما الخلاف مع أهل البدع والكفر فهو متعين وله مقام آخر.
_____________
(1) انظر سنن أبي داود: (4596)، والترمذي (2640)، وابن ماجة: (3991).
(2) مسند أحمد: (4/102).
(3) مسلم: (2890).
(4) الحديث لا يوجد في مسلم وإنما في البخاري: (2410).
(*) يقصد شيخ الإسلام بالاختلاف هنا ذلك الذي يؤدي إلى التفرق والخصومات.
(5) سبق تخريجه: (ص 207).
(6) انظر ما ذكره الشيخ الألباني - رحمه الله تعالى - عن حديث الافتراق في السلسلة الصحيحة (204).
(7) البخاري: (2410).
(8) البخاري: (2743).
(9) اقتضاء الصراط المستقيم: (1/135 - 156) ملخصًا، ت: د. ناصر العقل.
(10) الموافقات: (4/221-222).
المقدمة الثانية: ضوابط شرعية في الرد على المخالف:
قبل الشروع في الرد على المخالف - سواء كان مشافهة أو كتابة - فلا بد من مراعاة الضوابط الشرعية حتى يؤتي الرد ثمرته المطلوبة ولا يؤدي إلى مفاسد شرعية تربو على مفاسد ترك الرد.
ومن أهم هذه الضوابط ما يلي:(/69)
أولاً : اتصاف الرَّاد بالعلم الشرعي الصحيح الموافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وبخاصة في المسألة المراد الرد عليها ومناقشتها، وأن يكون الكلام بعلم ودليل، ومأخذ صحيح في الاستدلال؛ ومن ذلك التوثق والتثبت من كلام المردود عليه من كتبه أو كلامه لا من الظنون وكلام الناس. ومن ذلك تحديد موضع النزاع وتحريره.
ثانيًا : اتصاف الراد بالإخلاص والتجرد لله تعالى في رده وبعده عن الهوى والعصبية والتشفي، وهذا يلزم عليه أشياء كثيرة من أهمها:
العدل مع المخالف وإنصافه، وتجنب ظلمه وإهدار حقه وما عنده من المحاسن. وهذا يقتضي الحذر من الهوى والتعصب الأعمى.
وقد ذكر الشوكاني - رحمه الله تعالى - بعض الأسباب التي تؤدي إلى عدم العدل والإنصاف فقال: «واعلم أن أسباب الخروج عن دائرة الإنصاف والوقوع في موبقات التعصب كثيرة جدًا منها:
[ أ ] نشأة طالب العلم في بيئة تمذهب أهلها بمذهب معين، أو تلقوا عن عالم مخصوص، فيتعصب ولا ينصف.
[ب] حب الشرف والمال، ومداراة أهل الوجاهة والسلطان، والتماس ما عندهم، فيقول ما يناسبهم ولا ينصف.
[جـ] الخوض في الجدال والمراء مع أهل العلم، والتعرض للمناظرات، وطلب الظهور والغلبة، فيقوى تعصبه لما أيده ولا ينصف.
[ د ] الميل لمذهب الأقرباء، والبحث عن الحجج المؤيدة له، للمباهاة بعلم أقربائه، فيتعصب حتى لخطئهم ولا ينصف.
[ هـ ] الحرج من الناس في الرجوع عن فتوى قالها، أو قول أيده واشتهر عنه، ثم تبين بطلانه، فيتعصب دفعًا للحرج ولا ينصف.
[ و ] الزلة في المناظرة مع من هو أصغر سنًّا، أو أقلّ علمًا وشهرة، تجعله يتعصب للخطأ ولا ينصف.
[ ز ] التعلق بقواعد معينة يصحح ما وافقها، ويخطئ ما خالفها، وهي نفسها غير مسلمة على الإطلاق؛ فيتعصب بالبناء عليها ولا ينصف.
[ ح ] اعتماد أدلة الأحكام من كتب المذاهب؛ لأنه سيجد ما يؤيد المذهب باستبعاد دليل المخالف، فيتعصب ولا ينصف.
[ ط ] الاعتماد في الجرح والتعديل على كتب المتعصبين؛ إذ يعدلون الموافق، ويجرحون المخالف، فمن بنى على كتبهم يتعصب ولا ينصف.
[ي] التنافس بين المتقاربَيْن في الفضيلة أو المنزلة، قد يدفع أحدهما لتخطئة صواب الآخر تعصبًا ومجانبة للإنصاف.
[ك] الاعتماد على الآراء والأقوال - من علم الرأي - المخلوطة بعلوم الاجتهاد كأصول الفقه مما يترتب عليه تعصب للرأي وخروج عن الإنصاف»(1).
والإخلاص يقتضي الحذر من الكيل بمكيالين: مكيال للنفس يَستوفي فيه، ومكيال للمخالف يُخسره فيه يبخسه حقه.
«عند تقويم مواقف الرجال كم نستنكر سلوكًا لرجل نخالفه، ثم تمر السنون، ويدور الزمان دورته، ويصدر نفس السلوك في موقف مشابه من رجل نحبه ونتفق معه، فنعلل له ونبرر ونحسن الظن، بل ونكبر حكمته التي قد لا تدركها عقولنا!!! لماذا نقبل الشيء نفسه من امرئ ونعده عيباً في غيره؟!!!
قد تجد بعض الناس يبالغون في حب امرئ ومديحه، وقد لا يتركون شرفًا في الدنيا إلا وينسبونه إليه، وتمر أقدار، وبالخلطة والمعايشة الطويلة في السفر والحضر، والتعامل بالدرهم والدينار، وبالدخن والوساوس .. يغدو المادح قادحًا، والمزكي جارحًا، والممدوح مذمومًا .. صور كثيرة من هذه الأصناف نشهدها في بعض الوعاظ والخطباء والموجهين والناصحين الذين يرون في ما يقومون به واجبًا شرعيًا لا يسكت عنه، فإذا ألقيت النصيحة والموعظة إليه، وطرقت سمعه وانهالت التعليمات عليه صار ذلك من سوء الأدب أو سوء الظن به، أو الظلم والتجريح المنهي عنه شرعًا؛ نرى ذلك في الشرح لعيوب الناس ونواياهم، ويسمي تشريحه هذا تقويمًا وتعديلاً، فإذا وضع هو على المشرحة والتقويم سماها غيبة ونميمة، وعدم ستر العيوب بالنصيحة سرًا ...»(2) وغيرها من صور الكيل بمكيالين.
والإخلاص يقتضي حرص الرَّاد على سلامة قلبه نحو المخالف، وأن يحذر من التشفي في الرد والخصومة؛ لأن الإخلاص يقتضي حب الخير للناس والرحمة والشفقة بهم. وهذا شأن أهل السنة والاتباع المخلصين؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ويرحمون الخلق»(3)، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر»(4).
وهذا ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما يذكر عن نفسه أنه يحب الخير للمسلمين في كل مكان ولو لم يكن يعرفهم أو ينتفع بالخير الذي أصابهم.
فعن ابن بريدة الأسلمي قال: «شتم رجل ابن عباس فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وإن في ثلاث خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله فلوددت أن جميع الناس يعلمون ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح، ولعلي لا أقاضي إليه أبدًا، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح وما لي به سائمة»(5).
ثالثاً: الحذر من ردود الأفعال التي قد تذهب بالرَّاد إلى طرف آخر مقابل للمردود عليه متجاوزًا حد التوسط والتوزان والاعتدال.(/70)
رابعًا: قبول ما يظهر على لسان المخالف من الحق والفرح به وبإصابته للحق ورد الباطل من كلامه وتفنيده.
قال رجل لابن مسعود رضي الله عنه: أوصني بكلمات جوامع، فكان مما أوصاه به أن قال: «... ومن أتاك بحق فأقبل منه وإن كان بعيدًا بغيضًا، ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبًا حبيبًا»(6).
ويقول الشيخ بكر أبو زيد في وصاياه للدعاة: «التزم الإنصاف الأدبي بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل، وإذا أذنب فلا تفرح بذنبه، ولا تتخذ الوقائع العارضة منهية لحال الشخص، وباتخاذها رصيدًا ينفق منه الجرَّاح في الثَّلب، والطعن، وأن تدعو له بالهداية. أما التزيد عليه، وأما البحث عن هفواته، وتصيدها، فذنوب مضافة أخرى. والرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع ودين متين»(7).
خامسًا: لا يؤخذ المخالف بلازم قوله؛ لأن لازم المذهب ليس بمذهب. أي أن ما يلزم على كلام المخالف من لوازم باطلة لا يجوز أن تنسب إليه بمجرد أنها من لوازم قوله؛ فإن هذا من الظلم، كمن يلزم من أحل النبيذ بلازم قوله وهو استحلال ما حرم الله عز وجل، أو من لم ير الجمع بين الصلاتين في السفر بأنه يرد السنة ويهجرها. ولا يلزم أحد بلازم قوله حتى يتبناه صراحة ويعبر عنه بنفسه، أو أن يسأل فيجيب فيكون منطوق لسانه حجة عليه. وإنما يستخدم ذكر لوازم الأقوال لإبطالها، وبيان غلط وتناقض المردود عليه لكي يتراجع عن كلامه.
يقول ابن حزم - رحمه الله تعالى -: «وأما من كفَّر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ؛ لأنه كذب على الخصم، وتقويل له ما لم يقل به، وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط، والتناقض ليس كفرًا، بل قد أحسن إذ قد فر من الكفر .. فصح أنه لا يكفر أحد إلا بنفس قوله، ونص معتقده، ولا ينفع أحد أن يعبر عن معتقده بلفظ يحسن به متجه، لكن المحكوم به هو مقتضى قوله فقط»(8).
سادسًا: الحرص في نقد المخالف على وصف مقالته ونقدها والرد عليها، دون التعرض لشخصه أو نيته ومقصده، إلا إذا ظهرت قرائن قوية تدل على فساد النية وخبث الطوية.
سابعًا : الاعتناء الشديد بالدقة في التعبير والإفهام - سواء كان مشافهة أو كتابة - والبعد في الردود عن الألفاظ الغريبة الغامضة، أو الحمالة حتى لا يفهم كلام الراد على غير ما أراد.
______________
(1) انظر أدب الطلب ومنتهى الأرب: (ص 31) [عن كتاب فقه الائتلاف لخازندار: (ص 57)].
(2) انظر فقه الائتلاف: (ص 101، 102) بتصرف يسير باختصار.
(3) مجموع الفتاوى: (16/96).
(4) مسند أحمد: (3/2881)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1224).
(5) مجمع الزوائد: (9/284)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(6) الإحكام في أصول الأحكام: (4/586).
(7) تصنيف الناس بين الظن واليقين: (ص 77، 78).
(8) الفصل لابن حزم: (3/294).
ذكر الميزان العدل والوسط في نقد الأخطاء والموقف من المخالف:
بعد هاتين المقدمتين عن أنواع الخلاف: محموده ومذمومه وأسبابه، وضوابط النقد وأصوله، ندخل في صلب الموضوع الذي نحن بصدده؛ وهو ذكر الميزان العدل الوسط في نقد الأخطاء، والموقف من المخالفين، مع ذكر طرفي الانحراف عن هذا الميزان العدل. فأقول وبالله التوفيق ..
الناس في موقفهم من الأخطاء ونقدهم لأصحابها طرفان ووسط:
الطرف الأول : أهل الغلو والإفراط:
وهم الذين أفرطوا في نقد الأخطاء وأصحابها حتى جعلوا من الفروع أصولاً ومن بعض الجزئيات كليات. وجعلوا همَّهم تصيد الأخطاء والفرح بها وتضخيمها، ولم يرحموا من وقع فيها من طلاب العلم بل جاروا عليهم في ذلك حتى أساءوا الظن بهم، وبنواياهم، ومقاصدهم، وبخسوهم حقهم، وأهدروا حسناتهم وما لهم من بلاء وجهاد ودعوة وعلم وعمل وتعليم. ولا يخفى ما في هذا الموقف من عدوان، ومجانبة للعدل والإنصاف. وفي أمثال هؤلاء يقول الشعبي - رحمه الله تعالى-: «والله لو أصبتُ تسعًا وتسعين مرة، وأخطأت مرة لأعدُّوا علي تلك الواحدة»(1).
ولو أن هؤلاء المنتقدين حاسبوا أنفسهم، وسألوها حينما يخطئون هل يودون أن يعاملهم إخوانهم بهذا المنهج الجائر كما يعاملون غيرهم لكان في ذلك سببًا لمراجعة أنفسهم، واكتشافهم لهذا المنهج الخاطئ في نقد الرجال ومعالجة الأخطاء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «فليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأ مغفورًا لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة.(/71)
وقد قال الله تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الزمر:33-35). فقد وصفهم الله بأنهم متقون. و(الْمُتَّقُونَ) هم أولياء الله. ومع هذا فأخبر أنه يكفر عنهم أسوء الذي عملوا. وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان»(2).
ويعلق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - على قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8) فيقول: «فإذا كان قد نهى عباده أن يحملهم بغضهم لأعدائه أن لا يعدلوا عليهم مع ظهور عداوتهم ومخالفتهم وتكذيبهم لله ورسوله فكيف يسوغ لمن يدعي الإيمان أن يحمله بغضه لطائفة منتسبة إلى الرسول تصيب وتخطئ على أن لا يعدل فيهم، بل يجرد لهم العداوة وأنواع الأذى، ولعله لا يدري أنهم أولى بالله ورسوله وما جاء به منه علمًا وعملاً، ودعوة إلى الله على بصيرة، وصبرًا من قومهم على الأذى في الله، وإقامة الحجة لله ومعذرة لمن خالفهم بالجهل»(3).
وأسوق بهذه المناسبة تلك المحاورة النافعة التي بيَّن فيها المسور بن مخرمة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بعض عيوبه، وماذا رد عليه معاوية في ذلك لتكون منهجًا في معالجة أخطائنا.
عن عقيل، ومعمر، عن الزهري، حدثني عروة أن المسور بن مخرمة أخبره أنه وفد على معاوية، فقضى حاجته، ثم خلا به، فقال: يا مسور! ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال: دعنا من هذا وأحسن. قال: لا والله، لتكلمني بذات نفسك بالذي تعيب عليَّ. قال مسور: فلم أترك شيئًا أعيبه عليه إلا بينت له. فقال: لا أبرأ من الذنب. فهل تعدُّ لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامة؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعدُّ الذنوب، وتترك الإحسان؟ قال: ما تُذكر إلا الذنوب. قال معاوية: فإنا نعترف لله بكل ذنب أذنبناه، فهل لك يا مسور ذنوبٌ في خاصتك تخشى أن تُهلكك إن لم تغفر؟ قال: نعم. قال: فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحق مني، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي، ولكن والله لا أُخيَّر بين أمرين: بين الله وبين غيره، إلا اخترتُ الله على ما سواه، وإني لعلى دين يقبل فيه العملُ، ويجزى فيه بالحسنات، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، قال: فخصمني. قال عروةُ: فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلَّى عليه(4).
الطرف الثاني: أهل التفريط والإضاعة:
وهؤلاء وإن كانوا قد فرَّطوا في الأخذ بالحق ورد الباطل، والتقليد الأعمى، إلا إنهم وقعوا في المقابل في الغلو في الرجال والتعصب لأخطائهم ولسان حالهم يقول بالعصمة لمن قلدوهم.
ولذا ترى الواحد منهم يزعجه ويكدر خاطره إذا قيل إن شيخه وأستاذه مخطئ في بعض ما ذهب إليه من قول أو عمل، ويدفعه تعصبه لشيخه وغلوه في محبته له وتأدبه معه إلى تصحيح كل ما يقول أو يفعل مبررًا ذلك بمبررات سامجة متكلفة.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في وصف أهل الطرفين السابقين بعد أن ذكر فضل أئمة الإسلام: «... وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا بمبلغ علمهم - والحق في خلافها - لا يوجب اطراح أقوالهم جملة، وتنقصهم والوقيعة فيهم؛ فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السبيل بينهما، فلا نؤثِّم ولا نَعْصِم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في علي رضي الله عنه ولا مسلكهم في الشيخين رضي الله عنهما»(5).
وينتقد - رحمه الله تعالى - هذين الطرفين بصورة أوضح في معرض ردِّه على بعض الشطحات التي وقع فيها الهروي - رحمه الله تعالى - في منازل السائرين، وانقسام الناس في تعاملهم مع هذه الشطحات فيقول: «شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا منه، وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله ثم نبين ما فيه ... [إلى أن قال]: هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات، ويستغرقها كمال الصدق وصحة المعاملة وقوة الإخلاص وتجريد التوحيد، ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:(/72)
إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم؛ فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار. وأساءوا الظن بهم مطلقًا؛ وهذا عدوان وإسراف؛ فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات، والحكم، وتعطلت معالمها.
والطائفة الثانية: حُجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم، وصحة عزائمهم، وحسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم، ونقصانها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكهم. وهؤلاء أيضاً معتدون مفرطون.
والطائفة الثالثة: - وهم أهل العدل والإنصاف - الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته؛ فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل، وردُّوا ما يرد»(6).
ويقول الشيخ سلمان العودة - حفظه الله تعالى - في هذا المقام: «... ففي مجال الجرح والتعديل المعاصر تعود الكثيرون إما أن يثقوا بالرجل ثقة مطلقة لا مثنوية فيها، ويقلدوه في الجليل والحقير وإما أن يسقطوه من الحساب، فلا يقبلوا منه صرفًا ولا عدلاً. ومن عجب أنهم أحيانًا ينتقلون من النقيض إلى النقيض، فذاك الذي كان بالأمس ملء أسماعنا وأبصارنا، أصبحنا اليوم لا نملك إزاءه سمعًا ولا بصرًا! وهذه من ثمرات الاندفاع العاطفي غير البصير؛ فإن العاطفة إذا طغت سريعة التقلب لا تعرف الاستقرار والثبات.
سمعت أحدهم يقول على لسان طائفة: فلان أخطأ في مسألة كذا فلا نسمع منه شيئًا! حسنًا .. إذاً فأنتم لا تسمعون إلا من المعصومين؟! ومن أين لكم بهم؟! لا سبيل أمامكم إلا أحد سبيلين:
أولهما: ألا تستمعوا من أحد؛ لأنه ما من أحد إلا ويخطئ، قلّ خطؤه أم كثر، ومعنى ذلك أن تعتمدوا على أنفسكم فلا تنتفعوا بشيخ، ولا تجلسوا إلى فقيه، ولا تسمعوا إلى داع ولا تقتبسوا من مفكر، ثم من قال إنكم لا تخطئون؟ ولِمَ لَمْ تفترضوا أن المسألة التي تنقمونها على فلان أو فلان أنه هو المصيب وأنتم المخطئون؟
أما السبيل الثاني: فهو أن تسلكوا مسلك الفرق الضالة التي اخترعت لها «معصومين» وإن كانوا في الحقيقة «معدومين»، وجعلت قولهم تشريعًا، والرَّاد عليهم رادًا على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله، ولا يستغربن هذا الكلام أحد، أو يظن أنه يستحيل أن يحدث من بعض المسلمين؛ فإن من الناس من يقول هذا بلسان الحال إن لم يقله بلسان المقال»(7).
ويقول - حفظه الله تعالى - في موطن آخر مبينًا ظهور طرفي الإفراط والتفريط في المواقف من الكتب، والمؤلفات، وما فيها من أخطاء المؤلفين فيقول: «هل يتربى قراؤنا - وخاصة من الشباب - على «الموضوعية» والاعتدال في أحكامهم على الكتب؛ بحيث يستطيع القارئ أن يأخذ من الكتاب جوانبه الإيجابية التي أصاب فيها، ويدع ما سوى ذلك، أم أن الشباب - أعني كثيرًا منهم - لا يبيعون ويشترون إلا «بالجملة»! فإما أن يكون الكتاب كله موثقًا ومعتمدًا، وإما أن يكون خطأً وباطلاً. ونحن أناس لا توسط بيننا!
وصلة الكتاب بالمؤلف عريقة وعميقة .. ولذا فإن البعض يتعامل مع الكتب من خلال مؤلفيها فحسب؛ فمؤلفات زيد كلها حسنة ومفيدة، ومؤلفات عبيد كلها على الضد من ذلك. نعم .. هنالك مؤلفون غالب ما يكتبونه صالح، وهناك آخرون لا يحسنون إلا الهدم، فلا يأتي من يحتج مثلاً بمؤلفات أهل الضلالة .. لا. الكلام في مجال الدراسات الإسلامية وما يتعلق بها. وغيرها له حديث آخر، ومن الناحية الواقعية فإن أي كتاب - غير كتاب الله تعالى - لا يسلم من الخطأ والنقص مهما بالغ مؤلفه في تحريره والعناية به»(8).
الموقف العدل الوسط المتوازن:
وأهله هم الذين ذكرهم ابن القيم - رحمه الله تعالى - في ما سبق وسماهم بالطائفة الثالثة حيث قال عنهم: «وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح؛ بل قبلوا ما يُقبل، وردوا ما يرد»(9) ا.هـ.
أي أنهم لم يقعوا فيما وقع فيه أهل الغلو والإفراط المضخمين للأخطاء، المهدرين لحق من وقع منه الخطأ، والمهدرين لحسناتهم، المتهمين لنياتهم، بل حفظوا لهم حقوقهم، ولم ينسوا لهم بلاءهم وجهادهم وحسناتهم، ووضعوا أخطاءهم في حجمها الذي تستحقه، ووازنوا بين حسناتهم وسيئاتهم. وفي المقابل لم يذهبوا إلى تقديس الأشخاص، وادعاء العصمة لهم - سواء بلسان المقال أو الحال - بل نظروا للمخطئين بأنهم غير معصومين، ولم يدفعهم حبهم وأدبهم مع شيوخهم إلى تقليدهم في كل ما يقولونه، أو أن يسحبوا ذيل الحسن على كل ما يفعلونه.
______________
(1) نزهة الفضلاء: (1/504).
(2) مجموع الفتاوى: (11/66، 67).
(3) بدائع التفسير: (2/105).
(4) سير أعلام النبلاء: (3/150)، ومعنى: (صلى عليه) أي: دعا له.
(5) إعلام الموقعين: (3/358).
(6) مدارج السالكين: (2/220-224) باختصار. ط. دار طيبة.(/73)
(7) مقالات في المنهج: (ص 81، 82).
(8) المصدر نفسه: (ص 86، 87).
(9) مدارج السالكين: (2/224) ط. دار طيبة.
وبعد وضوح الموقف العدل وما يكتنفه من الطرفين المذمومين أسوق فيما يلي نماذج رفيعة لأقوال السلف، ومواقفهم العادلة من أخطاء المخالفين وردودهم على بعضهم؛ تمثل المنهج العدل المتوازن الذي يجب على كل مسلم وبخاصة طلاب العلم والدعاة أن يأخذوا به ويتعاملوا مع بعضهم في ضوئه وهداه(*):
النموذج الأول: عن عبدالرحمن بن شُمَاسَة قال: دخلتُ على عائشة، فقالت: ممن أنت؟ قلتُ: من أهل مصر. قالت: كيف وجَدْتُم ابن حُديج في غزاتكم هذه؟ قلتُ: خَيْرَ أمير؛ ما يقفُ لرجل منَّا فرسٌ ولا بعيرٌ إلاَّ أبدلَ مكانَه بعيرًا، ولا غلامٌ إلاَّ أبدلَ مكانَهُ غُلامًا، قالت: إنه لا يمنعني قتلُه أخي أنْ أحدِّثكم ما سمعتُ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إني سمعته يقول: «اللهُمَّ من ولي من أمر أُمتي شيئًا فَرفَقَ بهم فارفُقْ به، ومن شَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه»(1).
النموذج الثاني: قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي؛ ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة(2).
النموذج الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: «يا يونس إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه فإياك أن تبادره العداوة وقطع الولاية فتكون ممن أزال يقينه بشك، ولكن ألقه وقُلْ له: بلغني عنك كذا وكذا، واحذر أن تسمي له المبلّغ؛ فإن أنكر ذلك فقل له: أنت أصدق وأبر. لا تزيدن على ذلك شيئًا، وإن اعترف بذلك فرأيت له في ذلك وجهًا لعذر فاقبل منه، وإن لم تر ذلك فقل له: ماذا أردت بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وإن لم تر لذلك وجهًا لعذر وضاق عليك المسلك فحينئذ أثبتها عليه سيئة، ثم أنت في ذلك بالخيار؛ إن شئت كافأته بمثله من غير زيادة، وإن شئت عفوت عنه والعفو أقرب للتَّقوى وأبلغ في الكرم؛ لقول الله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: من الآية40) فإن نازعتك نفسك بالمكافأة فأفكر فيما سبق له لديك من الإحسان فعدها ثم ابدر له إحسانًا بهذه السيئة، ولا تبْخَسنّ باقي إحسانه السالف بهذه السيئة؛ فإن ذلك الظلم بعينه. يا يونس إذا كان لك صديق فشد يديك به، فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهل»(3).
النموذج الرابع: قال الذهبي في ترجمته لصاحب الأندلس الناصر لدين الله: «وقد كنتُ ذكرتُ ترجمَتَه مع جدِّهم، فأعدتُها بزوائدَ وفوائد، وإذا كان الرأس عاليَ الهمَّة في الجهاد، احتُملت له هَنَات، وحسابُه على الله، أما إذا أمات الجهاد، وظلَمَ العباد، وللخزائن أباد، فإنَّ ربَّك لبالمرصاد»(4).
النموذج الخامس: وقال في ترجمته لمحمد بن نصر المروزي: «ولو أنَّا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له، قمنا عليه وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما. والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة(5).
النموذج السادس: كان إسحاق بن راهويه - رحمه الله تعالى - يشيد بعلم الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام ويقول: «الحق يحبه الله عز وجل: أبو عبيد القاسم بن سلام أفقه مني وأعلم مني»(6). وكان أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - يقول في إسحاق: «لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء؛ فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا»(7).
النموذج السابع: قال الذهبي في ترجمة قتادة - رحمه الله تعالى -: «وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع؛ فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر نسأل الله العفو ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه ولعل الله يعذُرُ أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده، ولا يسأل عما يفعل. ثم إنَّ الكبير من أئمة العلم إذا كَثُرَ صوابُه، وعُلمَ تحرِّيه للحق، واتَّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه وورعُه واتباعه، يُغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه. نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك»(8).
النموذج الثامن: يقول ابن رجب - رحمه الله تعالى -: «أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم، فكان ماذا؟ لقد انغمر ذاك في محاسنهم ،وكثرة وصوابهم، وحسن مقاصدهم، ونصرهم للدين. والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محمودًا ولا مشكورًا، لا سيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ ولا ينفع فيها كشف خطئهم وبيانه»(9).(/74)
وقال أيضًا: «.. فرحم الله من أساء الظن بنفسه علماً وعملاً وحالاً، وأحسن الظن بمن سلف، وعرف من نفسه نقصًا ومن السلف كمالاً، ولم يهجم على أئمة الدين ... وإن أنت أبيت النصيحة ... وصار شغلك الرد على أئمة المسلمين والتفتيش عن عيوب أئمة الدين فإنك لا تزداد لنفسك إلا عُجبًا، ولا لطلب العلو في الأرض إلا حبًا، وعن الحق إلا بعدًا، ومن الباطل إلا قربًا»(10).
النموذج التاسع: يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح، وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزلة، هو فيها معذور، بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين»(11).
ويُطَبِّق هذا عمليًا في موقفه من شطحات الهروي - رحمه الله تعالى - في منازل السائرين عندما شرحها ابن القيم في مدارج السالكين ورد عليها، فتراه بعد ذلك يعقب فيقول: «ولولا أن الحق لله ورسوله، وأن كل ما عدا الله ورسوله فمأخوذ من قوله ومتروك، وهو عرضة الوهم والخطأ، لما اعترضنا على من لا نلحق غبارهم، ولا نجري معهم في مضمارهم، ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان، ومنازل السائرين، كالنجوم الدراري. ومن كان عنده علم فليرشدنا، ومن رأى في كلامنا زيغًا، أو نقصًا وخللاً فليهد إلينا الصواب، نشكر له سعيه، ونقابله بالقبول والإذعان والانقياد والتسليم، والله أعلم وهو الموفق»(12).
ويقول - رحمه الله تعالى - بعد رده على الهروي في منزلة التوبة بعض شطحاته: «ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام(*) إهدار محاسنه، وإساءة الظن به؛ فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل. وكل أحد فمأخوذ من قوله ومترك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه. والكامل من عُدَّ خطؤه؛ ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب؛ الذي زَلَّت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا - إلا أقلهم - على أودية الهلكات»(13).
وفي ردِّه - رحمه الله تعالى - على زلة كبيرة للهروي في منزلة (التلبيس) يعقب على ذلك فيقول: «شيخ الإسلام(*) حبيبنا، ولكن الحق أحب إلينا منه. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: (عمله خير من علمه). وصدق رحمه الله؛ فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله. وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم. وقد أخطأ في هذا الباب لفظًا ومعنى»(14).
النموذج العاشر: رسالة الليث بن سعد إلى الإمام مالك - رحمهما الله تعالى - ومما جاء فيها: «سلامٌ عليك، فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلاَّ هو.
أما بعد: عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة.
قد بلغني كتابُك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمَّه بالعون على شكره، والزيادة من إحسانه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثتُ بها إليك، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك وقد أتتنا، فجزاك الله عما قدمت منها خيرًا، فإنها كتب انتهت إلينا عنك، فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها.
وذكرت أنه قد أنشَطك ما كتبتُ إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيت فينا جميلاً، إلاَّ أني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وإني يحق علي الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأَن الناس تبعٌ لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن.
وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدًا يُنسب إليه العلم أكره لشَواذِّ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مَضَوْا، ولا آخذ لفُتْياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له.
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ونزول القرآن بها عليه بين [ظهراني](15) أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعًا لهم فيه، فكما ذكرت.(/75)
وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:100). فإن كثيراً من أولئك السابقين الأوَّلين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاءَ مرضاة الله، فجنَّدوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس فأظهروا بين ظهرْانَيْهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئًا علموه ... وكان من خلاف ربيعة لبعض ما مضى ما قد عرفت، وحضرت وسمعت قولك فيه، وقول ذوي الرأى من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فَرقد، وغير كثير ممن هو أسَنُّ منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه.
وذاكرتُك أنت وعبدالعزيز بن عبدالله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت؛ تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حَسَنةٌ في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله، وغفر له، وجزاه بأحسن ما عمله ... [إلى أن قال في ختام رسالته]. وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهِبَ مثلك مع استئناسي بمكانك، وإن نَأَتْ الدارُ، فهذه منزلتك عندي، ورأيى فيك فاسْتيقِنْه، ولا تترك الكتابَ إليَّ بخبرك وحالك وحال ولدِك وأهلك، وحاجةٍ إن كانت لك، أو لأحدٍ يُوصَلُ بك، فإنِّي أسرُّ بذلك.
كتبت إليك، ونحن صالحون، معافون، والحمد لله.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولينا، وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك، ورحمة الله»(16).
النموذج الحادي عشر: رسالة الشيخ حمد بن عتيق إلى صدِّيق حسن خان - رحمهما الله تعالى - وما فيها من العدل والإنصاف والأدب الجم بين أهل العلم - وإن اختلفوا - وهي رسالة طويلة اقتطف منها ما يلي:
«من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم والشريف المقدم المسمى محمد الملقب صديق زاده الله من التحقيق وأجاره في مآله من عذاب الحريق.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فالموجب للكتاب إبلاغ السلام والتحفي والإكرام؛ شيد الله بك قواعد الإسلام، ونشر بك السنن والأحكام. اعلم وفقك الله أنه كان يبلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة يقال له صديق فنفرح بذلك ونسر؛ لغرابة الزمان وقلة الإخوان وكثرة أهل البدع والأغلال، ثم وصل إلينا كتاب الحِطَّة وتحرير الأحاديث في تلك الفصول، فازددنا فرحًا وحمدنا لربنا العظيم لكون ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس. وكان لي ابن يتشبث بالعلم ويحب الطلب، فجعل يتوق إلى اللحوق بكم والتخرج عليكم والالتقاط من جواهركم؛ لذهاب العلم في أقطارنا وعموم الجهل وغلبة الأهواء. فبينما نحن كذلك إذ وصل إلينا التفسير بكماله فرأينا أمرًا عجيبًا ما كنا نظن أن الزمان يسمح بمثله وما قرب منه؛ لما من التفاسير التي تصل إلينا من التحريف والخروج عن طريقة الاستقامة، وحمل كلام الله على غير مراد الله، وركوب التفاسير في حمله على المذاهب الباطلة، وجعلت السنة كذلك، فلما نظرنا في ذلك التفسير تبين لنا حسن قصد منشيه، وسلامة عقيدته، وتبعده من تعمد مذهب غير ما عليه السلف الكرام. فعلمنا أن ذلك من قبيل قوله سبحانه: (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (الكهف: من الآية65).(/76)
فالحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا كما يحب ربنا ويرضى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء الله ذو الفضل العظيم؛ فزاد اشتياق التائق وتضاعفت رغبته، ولكن العوائق كثيرة والمثبطات مضاعفة، والله على كل شيء قدير فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس. فمن العوائق تباعد الديار وطول المسافات؛ فإن مقرنا في فلج اليمامة، ومنها خطر الطريق وكثرة القطاع وتسلط الحرامية في نهب الأموال واستباحة الدماء وإخافة السبيل، ومنها ما في الطريق من أهل البدع والضلال بل وأهل الشرك من رافضي وجهمي إلى معتزلي ونحوهم؛ وكلهم أعداء قاتلهم الله. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا. ومع ذلك فنحن نرجو أن يبعث الله لهذا الدين من ينصره، وأن يجعلنا من أهله، وأن يسهل الطريق ويرفع الموانع، ونسأله أن يمن بذلك فهو القادر عليه. ولما رأينا ما منَّ الله به عليكم من التحقيق وسعة الاطلاع، وعرفنا تمكنكم من الآلات، وكانت نونية ابن القيم المسماة بالكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية بين أيدينا، ولنا بها عناية ولكن أفهامنا قاصرة وبضاعتنا مزجاة من أبواب العلم جملة، وفيها مواضع محتاجة إلى البيان، ولم يبلغنا أن أحدًا تصدى لشرحها؛ غلب على الظن أنك تقدر على ذلك. فافعل ذلك يكن من مكاسب الأجور وهي واصلة إليك إن شاء الله، فاجعل قِرَاها شرحها وبيان معناها، وأصلح في النية ذلك تكن حربًا لجميع أهل البدع؛ فإنها لم تبق طائفة منهم إلا ردت عليها فهذان مقصدان مِنْ بَعْثِها إليك: أحدهما: شرحها، والثاني: الاستعانة بها على الرد على أهل البدع؛ لأن مثلك يحتاج إلى ذلك؛ لكونك في زمان الغربة وبلاد الغربة، فإن كنت حريصًا على ذلك فعليك بكتاب العقل والنقل، والتسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية وكتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة والجيوش الإسلامية لابن القيم، ونحوهن من كتبهما فإن فيها الهدى والشفاء. ولنا مقصد رابع مهم وهو أن هذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين وألف 1297هجرية، فنظرت فيه وفي هذا الشهر وفي شوال، فتجهز الناس للحج ولم أتمكن إلا من بعضه ومع ذلك وقفت فيه على مواضع تحتاج إلى تحقيق، وظننت أن لذلك سببين أحدهما: أنه لم يحصل منكم إمعان نظر في هذا الكتاب بعد إتمامه، والغالب على من صنف الكتب كثرة ترداده وإبقائه في يده سنين يبديه ويعيده، ويمحو ويثبت؛ ويبدل العبارات؛ حتى يغلب على ظنه الصحة غالبًا، ولعل الأصحاب عاجلوك بتلقيه قبل ذلك. والثاني: أن ظاهر الصنيع أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمة، وأخذت من عباراتهم بعضًا بلفظه وبعضًا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك ولم تمعن النظر فيها - ولهم عبارات مزخرفة فيها الداء العضال - وما دخل عليك من ذلك فنقول: إن شاء الله بحسن القصد واعتماد الحق وتحري الصدق والعدل. وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره. وإذا نظر السني المنصف في كثير من التفاسير وشرح الحديث وجد قلّته وما هو أكثر منه وقد سلكتم في هذا التفسير في مواضع منه مسلك أهل التأويل مع أنه قد وصل إلينا لكم رسالة في ذم التأويل مختصرة، وهي كافية ومطلعة على أن ما وقع في التفسير صدر من غير تأمل وأنه من ذلك القليل. وكذلك في التفسير من مخالفة أهل التأويل ما يدل على ذلك. وأنا اجترأت عليك - وإن كان مثلي لا ينبغي له ذلك - لأنه غلب على ظني إصغاؤك إلى التنبيه، ولأن من أخلاق أئمة الدين قبول التنبيه والمذاكرة، وعدم التكبر وإن كان القائل غير أهل، ولأنه بلغني عن بعض من اجتمع بك أنك تحب الاجتماع بأهل العلم وتحرص على ذلك وتقبل العلم ولو ممن هو دونك بكثير؛ فرجوت أن ذلك عنوان توفيق جعلك الله كذلك وخيرًا من ذلك...
فنسأل الله أن يلحقنا بآثار الموحدين، وأن يحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة بمنِّه وكرمه. وقد اجترأت عليك بمثل هذا الكلام نصحًا لله ورسوله، رجاء من الله أن ينفع بك في هذا الزمان الذي ذهب فيه العلم النافع ولم يبق إلا رسومه، وأنا انتظر منك الجواب ورد ما صدر مني من الخطاب. ثم إني لما رأيت الترجمة وقد سمي فيها بعض مصنفاتك، وكنت في بلاد قليلة فيها الكتب، وقد ابتليت بالدخول في أمور الناس لأجل ضرورتهم كما قيل: خلا لك الجو فبيضي واصفري. وألتمس من جنابك تفضل علينا ببلوغ السؤول من أقضية الرسول، والروضة الندية شرح الدرر البهية، ونيل المرام شرح آيات الأحكام.
فنحن في ضرورة عظيمة إلى هذه كلها، فاجعل من صالح أعمالك معونة إخوانك ومحبيك بها، وابعث بها إلينا مأجورًا إن شاء الله تعالى؛ وليكن ذلك على يد الأخ أحمد بن عيسى الساكن في مكة المكرمة المشرفة، واكتب لنا تعريفًا بأحوالكم. ولعل أحدًا منكم من يتلقى هذا العلم ويعتني به ويحفظه عنك، واحرص على ذلك طمعًا أن يجمع لك شرف الدنيا والآخرة، ونسأل الله أن يهب لك ذلك.(/77)
ثم اعلم أني قد بلغت السبعين، وأنا في معترك الأعمار لا آمن هجوم المنية، ولي أولاد ثمانية منهم ثلاثة يطلبون العلم كبيرهم سعد المذكور أولاً، ويليه عبدالعزيز، وتحته عبداللطيف. ونرجو أنهم أهل الكتب وممن يعتز بها ويحفظها. وبقيتهم صغار منهم من هو في المكتب ومن دعائنا: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان: من الآية74)، (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:128)، لا تنسنا من صالح دعائك كما هو لك مبذول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم»(17). ا.هـ (ملخصًا).
______________
(*) وفي هديه صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة للمواقف المتوازنة والمعالجات العادلة للأخطاء والمنهج الوسط في النقد ما يكفي ويغني. ويكفينا في ذلك موقفه صلى الله عليه وسلم في طريقة معالجته لخطأ حاطب ابن أبي بلتعة [انظر تفصيل هذه المعالجة في رسالة وإذا قلتم فاعدلوا للمؤلف: ص 34-37].
(1) نزهة الفضلاء: (1/327) والحديث رواه مسلم: (1828).
(2) سير أعلام النبلاء: (10/16).
(3) صفة الصفوة: (2/252، 253).
(4) سير أعلام النبلاء: (15/564).
(5) نزهة الفضلاء: (2/1127).
(6) نزهة الفضلاء: (2/775).
(7) المصدر نفسه: (2/840).
(8) سير إعلام النبلاء: (5/271).
(9) فقه الائتلاف: (ص 136).
(10) المصدر نفسه: (ص 206).
(11) إعلام الموقعين: (3/359).
(12) مدارج السالكين: (2/394) ط. دار طيبة.
(*) يقصد بشيخ الإسلام هنا: الهروي.
(13) مدارج السالكين: (1/366) ط. دار طيبة.
(14) مدارج السالكين: (4/352) ط. دار طيبة.
(15) كتبت في الأصل، ظهرى، والظاهر والله أعلم أن مراده هو ما أثبته.
(16) إعلام الموقعين: (3/110).
(17) رسالة لصديق حسن خان: تنبيه له على أخطاء وقعت له في تفسيره من الشيخ العلامة: حمد بن عتيق. (ملخصًا).
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأسأل الله سبحانه أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأن يجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وفي ختام هذه الرسالة أقف وقفتين استدرك في أولاهما بعض ما فاتني فيها من مسائل تتعلق بالموضوع، وأقف في الأخرى لألخص أهم ما جاء في الكتاب من مسائل وموضوعات.
أولاً : وقفة الاستدراك :
كان من بين أبواب هذه الرسالة مبحث عن الأسباب المؤدية إلى لزوم الوسطية والعدل والتوازن. ولكن لما جمعت عناصر هذا الباب وجدته مشابهًا إلى حد كبير للباب الأخير من رسالة (فاستقم كما أمرت)(1) والذي يبحث عن الأسباب المؤدية إلى لزوم الاستقامة، ولما كانت الاستقامة تحمل معنى الوسطية والعدل والتوازن فإني اكتفي بما ذكر هنالك من تفصيل لهذه الأسباب، وأحيل إليها القارئ الكريم وأورد هنا ملخصًا سريعًا لبعضها:
1- العلم بالشرع والبصيرة في الدين:
فكلما وجد العلم بأصول هذا الدين ومقاصده ووزنت الحركات بميزان الشرع كانت الأقوال والأفعال والمعتقدات مسددة قويمة عادلة متوازنة. وعلى العكس من ذلك؛ فإن مجاوزة العدل والوسطية والتوازن في الأقوال والأعمال والمعتقد من أسبابها الجهل بهذا الدين وقواعده ومقاصده وأحكامه وعدم الوزن بميزان الشرع القويم.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «... لا يتصور حصول الاستقامة في القول والعمل والحال إلا بعد الثقة بصحة ما معه من العلم، وأنه مقتبس من مشكاة النبوة، ومن لم يكن كذلك فلا ثقة له ولا استقامة»(2).
كما أن في العلم حرق للشبهات التي عادة ما تكون سببًا رئيسًا في مجاوزة العدل والوسط: إما إلى إفراط، أو إلى تفريط؛ كما هو شأن أهل البدع والأهواء المتقابلة، والتي تراوح بين الغلو والإفراط وبين الجفاء والتفريط.
2- مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة :
إنَّ في مصاحبة أهل العلم الربانيين وأهل الحكمة والتجربة من الدعاة الصادقين المعروف عنهم العدل والتوازن نفع عظيم؛ لأن الصاحب يؤثر على صاحبه فينطبع بأخلاقه ومنهجه. ومما يلحق بذلك مصاحبة السلف الصالح في كتبهم وقراءة سيرهم وما كانت عليه من العدل والتوازن والتوسط بين الإفراط والتفريط. فهذا مما يُؤثِّر في صياغة التفكير والسلوك.
3- مجانبة من يعرف عنهم التسرع في الأمور :(/78)
إنَّ في مجانبة من يعرف عنهم التسرع في الأمور والميل إما إلى الإفراط أو إلى التفريط، - سواء من بعض طلبة العلم المتعجلين أو بعض المنتسبين للدعوة الذين زادهم من العلم قليل وحظهم من التجربة والحكمة ضئيل - في مجانبتهم حماية من الوقوع في مجاوزة العدل. وهذا أيضًا يسري على الكتب والمؤلفات التي يغلب على أصحابها قلة العدل والتوازن، وعدم التأني في المواقف والأحداث؛ حيث ينبغي الإعراض عن مثل هذه الكتب والحذر منها. وأول ما يدخل في هذا كتب أهل البدع والشبهات والأهواء والشهوات الذين هم بين غالٍ مفْرِط أو مضيع مفرِّط.
4- العمل الصالح بأداء الفرائض وكثرة النوافل :
فقد جاء في الحديث الصحيح: «وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ... الحديث»(3).
فمن هذا الحديث يتبين فضل الأعمال الصالحة وآثارها في حفظ الله عز وجل لعبده المؤمن الذي هذا شأنه؛ وذلك بحفظ جوارحه فلا يتحرك إلا في مرضات الله تعالى، ولا يبصر إلا بالله، ولا يسمع إلا بالله؛ ومن هذا شأنه فهو الموفق للحق والعدل والسداد.
ومن أفضل الأعمال الصالحة: الصلاة، والصيام، والذكر، والدعوة إلى الله عز وجل، والجهاد في سبيل الله تعالى؛ قال سبحانه: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت: من الآية69).
5- الرفق والأناة وعدم التعجل :
إن العجلة والتسرع وترك التؤدة لهي من أخطر الأبواب التي تدخل منها الشبهات والشهوات، وتجعل العبد يميل إما إلى الإفراط أو التفريط - سواء في المعتقد أو القول أو العمل - والعكس من ذلك في الأناة والرفق؛ فإنهما غالبًا ما يكونان بابًا إلى التعقل والحكمة والسداد في القول والعمل.
6- التواصي بالحق والتناصح بين المسلمين :
وهذا من أعظم ما يسد به باب التطرف والغلو والإفراط والتفريط؛ فكلما كثر التناصح بين المسلمين، والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل كان في ذلك الاهتداء إلى الحق ومدافعة الباطل بشبهاته وشهواته. وعلى العكس من ذلك؛ فعندما يضعف التناصح والتواصي بالحق، ويقل الأمر والنهي فإن الأفكار المنحرفة تنتشر بين الناس من غير إنكار، فتتشربها القلوب وتستحسنها العقول، وأصحابها يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
7- الصبر وتقوى الله عز وجل :
قال الله عز وجل: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: من الآية90).
وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
وقال عز وجل: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران: من الآية186).
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -: «فالصبر والتقوى دواء كل داء من أدواء الدين ولا يستغنى أحدهما عن صاحبه»(4).
ويقول شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: «فالتقوى تتناول فعل المأمور وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور»(5).
إذن فلزوم الاستقامة والعدل والتوازن في الأمور لا بد له من تقوى الله عز وجل، والخوف من عقابه، ورجاء ثوابه، والصبر على ذلك؛ لأن العلم بالشرع لا يكفي وحده في لزوم الوسطية والعدل وإصابة الحق إن لم يكن معه التقوى والصبر؛ فكم ممن يتجاوز العدل والحق إما لضعف دينه وتقواه، وإما لضعف صبره وتحمله.
8- دعاء الله عز وجل وسؤاله الهداية إلى الحق ولزومه :
يعد الدعاء من أعظم الوسائل والأسباب في لزوم الحق والعدل؛ لأن الله عز وجل هو الهادي والموفق إلى الحق والعدل، فلا هادي لمن أضل ولا مضل لمن هدى. قال الله عز وجل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم:27).
فمن سأل الله عز وجل الهداية للحق بصدق وإخلاص وأخذ بالأسباب المعينة على ذلك أعطاه الله سؤاله ولم يخيب رجاءه. ومن أنفع الأدعية وأجمعها ذلك الدعاء الذي كان يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم حين يستفتح صلاته في الليل (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)(6).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)(7).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والسداد)(8).
وقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «قل: اللهم اهدني وسددني، واذكر بالهدى هدايتك الطريق، والسداد سداد السهم»(9).
ثانيًا : الوقوف مع أهم ما جاء في الكتاب من مواضيع :(/79)
تدور أبواب الكتاب ومباحثه على إبراز هذه السمة العظيمة لهذا الدين وأهله؛ ألا وهي سمة العدل والوسطية والمأخوذة من قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143).
ومن أهم المباحث التي جاءت في الكتاب ما يلي:
[ 1 ] أهمية دراسة هذا الموضوع المتمثلة في تحرير معنى الوسطية، وأنها العدل والحق والتوازن بين طرفي الإفراط والتفريط، وأنها ليست كما يفهمها بعض الناس في كونها الالتقاء مع الباطل في منتصف الطريق، أو الرضى بالحلول الوسط. كما أنها لا تعني التشدد والتضييق.
كما برزت أهمية الموضوع أيضًا في ما نعانيه اليوم من مجانبة للعدل والتوازن في كثير من أصول الدين وأحكامه وأخلاقه، والنزوع فيها إما إلى الغلو والإفراط وإما إلى الجفاء والتفريط والإضاعة.
كما تأتي أهمية هذا الموضوع في كون العلم به وبجوانبه المختلفة بابًا إلى إعادة النظر في المواقف المتشددة أو المتساهلة، وبخاصة في جانب المعاملات والسلوك والأخلاق. وهذا الفهم يقود بإذن الله تعالى إلى الاجتماع والائتلاف، كما يقود إلى تفهم رأي المخالف والمعالجة العادلة لأخطائه، وإشاعة الود والتراحم بين المؤمنين وإن اختلفوا.
[ 2 ] تفسير قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً...) الآية، وذلك بذكر أقوال بعض المفسرين وبعض الأحاديث المعينة على فهم الآية الكريمة.
[ 3 ] ذكر الأحاديث الواردة في لزوم الوسط والعدل، والمحذرة من الغلو والإفراط أو من التفريط والإضاعة، مع شرح موجز لبعضها.
[ 4 ] تم تقسيم مظاهر الوسطية والعدل والتوازن في هذا الدين إلى قسمين كبيرين:
القسم الأول : مظاهرها في الخلق والتقدير:
وفي هذا القسم تم الحديث عن عظمة هذا الكون ودقة نظامه وتوازنه، والتي تدل على عظمة خالقه عز وجل وحكمته وعدله ورحمته، وذكرت أمثلة متفرقة لهذا التوازن والنظام الدقيق في خلق الله عز وجل؛ سواء ما كان منها في الآفاق كخلق السموات والأرض وما بينهما من الأفلاك، وما على الأرض من الآيات الباهرات، أو ما كان منها في الأنفس وما فيها من عجيب صنع الله تعالى ودقة نظامها، وما فيها من التوازنات التي تبهر العقول وتحير الألباب، وتدل على وحدانية رب الأرباب.
القسم الثاني : مظاهرها في الأمر والشرع :
وفي هذا القسم تم الحديث عن شريعة الله عز وجل المنزلة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما فيها من الوسطية والعدل والتوازن الواقعة بين الإفراط والتفريط. وذكرت تحت هذا القسم أربعة مباحث مهمة:
الأول : مظاهرها في العقيدة وأصول الدين.
الثاني : مظاهرها في شعائر التعبد.
الثالث: مظاهرها في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابع : مظاهرها في المعاملات والأخلاق.
وذكرت في باب العقيدة وأصول الدين مجموعة من الأمثلة التي يذكرها علماء السلف وأنها وسط بين طرفين مذمومين هما أهل الغلو والإفراط، وأهل الجفاء والتفريط؛ وذلك كقولهم إن أهل السنة والاتباع وسط في الأسماء والصفات بين المعطلة النفاة وبين المجسمة المشبهة، وهم وسط في باب القدر وأفعال العباد بين القدرية والجبرية، وهم وسط في الوعد والوعيد بين الخوارج الغلاة المكفرين لأهل الكبائر ومن نحا نحوهم كالمعتزلة وبين الجفاة المفرِّطين كالمرجئة ومن شابههم، وغيرها من أبواب العقيدة.
وذكرت أيضًا في شعائر التعبد مجموعة من الأمثلة على التوسط في كثير من العبادات، والتحذير من الوقوع في طرف الإفراط والغلو الذي لم يشرعه الله عز وجل أو في طرف التفريط والتقصير. وذكرت أمثلة ذلك في الصلاة والصيام ومناسك الحج، وحرمان النفس من بعض الطيبات، وحرمانها من الأخذ بالرخص الشرعية وغيرها.
كما ذكرت في باب الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسطية هذا الدين فيها، وما يكتنف الوسط العدل من طرفين مذمومين هما الإفراط والتفريط.
وأما قسم المعاملات والأخلاق فقد أطلت النفس فيه، وذكرت أمثلة كثيرة من الأخلاق، وكيف يكون التوسط والعدل فيها؟ وما هما الطرفان المذمومان اللذان يكتنفان كل خلق محمود؟ وسبب الإطالة في هذا القسم ما نعانيه في واقعنا المعاصر من أزمة في الأخلاق؛ وبخاصة ممن ينتسب منا إلى أهل السنة والجماعة، مما كان له أكبر الأثر في التفرق والخصومات.
وقد ركزت من بين الأمثلة التي ذكرتها على التوسط والعدل والتوزان في النقد ومعالجة الأخطاء، وذكرت الوسط المحمود وما يكتنفه من الطرفين المذمومين، وتوجت ذلك بذكر طائفة من النماذج المضيئة للمواقف العادلة المتوازنة لسلفنا الصالح في نقدهم لبعضهم البعض، ومعالجة أخطاء بعضهم بعضًا علها تكون نبراسًا لنا وأسوة حسنة نقتدي بها في زمن كثرت فيه الأهواء، وتكالبت فيه الأعداء من خارج الأمة وداخلها.(/80)
وفي ختام هذه الخاتمة أتوجه إلى الله عز وجل بسؤاله الإخلاص والصواب فيما أقوله وأكتبه وأعمله، كما أسأله سبحانه الهداية للحق والعدل والانقياد لهما والعمل بهما.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
عصر يوم السبت
الموافق 32/3/4241هـ
______________
(1) وهي الرسالة الخامسة عشرة من سلسلة الوقفات التربوية.
(2) مدارج السالكين: (3/125) ط. دار طيبة.
(3) البخاري: (6502).
(4) عدة الصابرين: (ص 54).
(5) مجموع الفتاوى: (2/286).
(6) رواه مسلم: (770).
(7) الترمذي في القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أُصبُعي الرحمن، وقال حسن صحيح وصححه الألباني في صحيح الترمذي: (2792).
(8) صحيح مسلم: (2725).
(9) صحيح مسلم: (2725).(/81)
وكذلك جعلناكم أمة وسطاً
لعل من الأسباب الرئيسة في تفرق وتشاحن بعض الدعاة هو ابتعادهم عن المنهج الوسط، فالبعض متساهل إلى درجة التفريط، والبعض متشدد إلى درجة الإفراط.
.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تبعه تهجم وتجريح واتهام بين هذه الفئات الثلاث ( متساهل، وسط، متشدد). فكل يظن أن الحق معه، وأن الخطأ والباطل مع غيره ( إلا من رحمه الله من أهل العلم والفقه والاعتدال).
ولا شك أن هذه المسألة تحتاج إلى وقفة متأنية، خاصة أن الأدلة في ضرورة الاعتدال والتوسط وافرة وكثيرة، ولكن المشكلة تكمن في تحديد ذلك الوسط، فالمتساهل يصف نفسه بالاعتدال والتوسط، وكذلك يفعل المعتدل والمتشدد، فكل يصف نفسه بأنه هو الوسط هو المتطرف.
ليت الدعاة إلى الله حرصوا على ضرورة تتبع المنهج الوسط، وذلك بمزيد من العلم والقفه في دين الله وما كان عليه سلف هذه الأمة، فأمة السلف هي أمة الوسط والاعتدال.
والوسط لا يعني التفريط في شيء من دين الله، وإنما هو الالتزام التام بدين الله المبني على الفقه والوعي ومراعاة الواقع.
إن كثيراً من الشبهات والاتهامات ( لا سيما بين الدعاة بعضهم بعضاً) سوف تختفي إذا ما حرص المسلم على الاعتدال والتوسط واتباع منهج السلف في ذلك، في حين أن التساهل أو التشدد داءان سبباً كثيراً من التوتر واشتعال الخلاف والقذف بالتهم وإثارة الشبهات في أوساط الدعاة.
وقد أورد الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) أمثلة عديدة على ضرورة الاعتدال والتوسط والبعد عن التنطع والتشدد أنقل بعضها إتماماً للفائدة، فكان مما قال:
مما ينبغي الحرص عليه لتوحيد صف الدعين إلى الإسلام، أو – على الأقل- تقريب الشقة وإزالة الجفوة بينهم: اتباع المنهج الوسط الذي يتجلى فيه التوازن والاعتدال، بعيداً عن طرفي الغلو والتفريط، فهذه الأمة أمة وسط في كل شيء، ودين الله – كما أثر عن السلف- بين الغالي فيه والجافي عنه.
ومن كلمات الإمام علي رضي الله عنه: عليكم بالنمط الأوسط، يلحق به التالي، ويرجع إليه الغالي.
فالوسط هو مركز الدائرة التي ترجع إليه الأطراف المتباعدة عن يمين وشمال، وهو يمثل الصراط المستقيم، والذي علّمنا الله تعالى أن نسأله الهداية إليه كلما قرأنا فاتحة الكتاب في صلواتنا اليومية أو خارجها: اهدنا الصراط المستقيم . (الفاتحة: الآية 6) وهو الذي جاء فيه قوله تعالى: وهذا صراطُ ربك مستقيماً . ( الأنعام: الآية 126) وقوله تعالى: وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوا ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون . ( الأنعام: الآية 153)
ويلزم في اتباع المنهج الوسط أن يتجنب المسلم التنطع في الدين وهو ما أنذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الهلاك، فيما وراه عنه ابن مسعود رضي الله عنه قال: هلك المتنطعون قالها ثلاثاً. (رواه مسلم) سواء كان هذا القول إخباراً عن هلاكهم أو دعاء عليهم.
والمتنطعون- كما قال الإمام النووي: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم . (شرح النووي على مسلم، ج5، ص 225)
وقال غيره: المراد بالمتنطعين: الغالون في عباداتهم، بحيث يخرج عن قوانين الشريعة، ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة. وقيل: المتعنتون في السؤال عن عويص المسائل التي يندر وقوعها.
ومنه: الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في كتاب ولا سنة ولا إجماع، وهي نادرة الوقوع، فيصرف فيها زمناً كان صرفه في غيرها أولى، سيما إن لزم منه إغفاله التوسع في بيان ما يكثر وقوعه.
وأشد منه: البحث عن أمور معينة، ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها، ومنه ما لا يكون له شاهد في عالم الحس كالسؤال عن الساعة والروح ومدة هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف.
وقال بعضهم: مثال التنطع إكثار السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع، بعد أن يفتي بالإذن.(1)
وكل هذا من الحرج الذي نفاه الله عن هذا الدين القائم على التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير.
وروى ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم: إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين .(2)
ولا ريب أن التنطع والغلو في الدين يدفع إلى التشديد في الأمور الصغيرة، والضيق بكل مخالف فيها، على حين تكون السماحة واليسر من أسباب التقارب والوفاق.
وهذه الروح هي التي جعلت الصحابة ومن تبعهم بإحسان يتسامحون في الفروع الجزئية، ولا تضيق صدورهم بالخلاف فيها، بل كانوا ينكرون على من يجعل البحث عن هذه الأمور شغله الشاغل، ولا يرحبون بهذا النوع من السؤال الذي لا يأتي من ورائه إلا التشديد.
والقرآن نفسه نبه على هذا الأصل حين قال: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين يُنزّل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم . ( المائدة: الآية 101)(/1)
والنبي صلى الله عيله وسلم يحذر من كثرة الأسئلة التي تنتهي بالتشديد على المسلمين، وذلك حين قال: إن أعظم المسلمين جرماً رجل سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته . (رواه البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن، منهن: يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ، ويسألونك عن المحيض قال: ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم.
وقال ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن.
وقال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها وتنقرون(3) عن أشياء ما كنا ننقر عنها، تسألون عن أشياء ما أدري ما هي ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمها.
وعن عمر بن إسحاق قال: لمَنْ أدركتُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ممن سبقني منهم، فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشديداً منهم.
وعن عبادة بن يسر الكندي، وقد سئل عن امرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم، ولا يسألون مسائلكم(4) ( انتهى كلام الدكتور القرضاوي )(5).
هذه بعض الأمثلة على ضرورة فهم الدين على قاعدة التوسط والاعتدال والابتعاد عن الغلو التنطع، فهل يا ترى فقه الدعاة هذه القاعدة وعملوا بمقتضاها؟ وهل يا ترى رحمنا أنفسنا وحفظنا دعوة ربنا باتباعنا هذا المنهج الرباني الكريم ؟
(1) فيض القدير: ج6، ص 355.
(2) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) تنقرون: من التنقير وهو التفتيش والاستقصاء في البحث المبالغ فيه.
(4) أخرج هذه الآثار الدارمي: حجة الله البالغة، ج 1، ص 140-141.
(5) يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، دار الصحوة، ص 95 - 104 .
المراجع د. علي الحمادي، خفافيش أعماها النهار، ص 62-68(/2)
ولا تفرقوا
د. علي بادحدح ـ إسلام تايم
لا توجد أمة من الأمم دعيت إلى الوحدة والائتلاف ونهيت عن الفرقة والاختلاف مثل الأمة الإسلامية، لأن النظام الاجتماعي لا يكمل إلا في ظل الوفاق والوئام، وحال الناس لا تصلح إلا مع التعاطف والتآلف، ويدرك العقلاء أن القوة لا تكون إلا مع الوحدة، وأن الذلة تكمن في الفرقة كما قال الشاعر :
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ** وإذا افترقن تكسرت آحاداً
والعرب تقول :
"المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه ".
ولذا جاء النداء القرآني المصدر بالوصف الإيماني داعياً إلى الوحدة وناهياً عن الفرقة فقال تعالى : { يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون }.
والمتأمل يرى غاية الإحكام في هذه الأوامر الإلهية ، بل المنح الربانية ، حيث بدأت بلزوم التقوى حتى الممات ، ثم جاء الأمر بالاعتصام بحبل الله إشارة إلى أن طريق تحقيق التقوى واستمرارها لا يكون إلا بالاعتصام ، ثم نهى عن الفرقة التي تقطع الطريق وتشوه جمال التقوى ، وبعد ذلك بيّن الله تعالى أن التقوى والاعتصام والبعد عن الفرقة يحتاج إلى أمر مهم يكملها ويحفظها ، فجاء ذكر الأخوة الإيمانية التي تربط بين القلوب ، وتجمع بين الجهود، وتوّحد بين الصفوف ، وتسمو فوق الرغبات الشخصية والأنانية الفردية ، كما تتجاوز الخلافات الهامشية والقضايا الجانبية ؛ لأن أصلها المكين ، وأساسها المتين هو العقيدة الواحدة [ التوحيد ]، والقدوة الواحدة [ الرسول ] ، والمنهج الواحد [ الإسلام ] ، وكلها عواصم من القواصم .
وتشريعات الإسلام دعوة عملية دائمة للوحدة ، فالأمة المسلمة تصوم شهرها في وقت واحد ، وتؤدي نسكها في زمان ومكان واحد بهيئة واحدة ، وفي كل يوم يستجيب المسلمون لنداء واحد في صف واحد خلف إمام واحد في صفوف قد تراصت فلا خلل بينها ولا عوج فيها ، وفوق هذا ؛ فإن للمسلم على المسلم حقوقاً تقوي أواصر المحبة ، وتوطد عرى الوحدة ، وهناك آداب إسلامية بين أبناء المجتمع تشيع المودة ، من تبسم في الوجه وحض على الزيارة ، وطلب لحسن الظن ، ودعوة لالتماس العذر ، وتشجيع على التسامح والعفو ، كما أن هناك معالم إنسانية تذيب الفوارق العرقية ، وتقضي على النعرات العصبية ، ولا ننسى المناهي التي جاءت لئلا يخدش صفاء المحبة ، ولئلا يقوض بنيان الوحدة ، حيث جاء النهي عن سوء الظن والغيبة والنميمة والتجسس والتباغض والتدابر إلى غير ذلك من الأمور التي تبين أن الإسلام دين الوحدة الذي يحارب في مجتمعاته الفرقة .
هذا هو دين المسلمين فما بالهم إذن متفرقين؟
لقد فطن الأعداء إلى أهمية الوحدة وتأثيرها فعملوا على تمزيق الوحدة بين المسلمين ، وإشاعة الفرقة في صفوفهم ، فحولوا دولتهم الواحدة إلى دويلات ، وسلطوا على عقيدتهم الراسخة البدع والخرافات ، ونشروا في مجتمعاتهم أسباب الفساد والانحراف، وبدلوا شريعتهم الواحدة بقوانين مختلفة ، وتشريعات وضعية متباينة ، ثم أدخلوا آراء واجتهادات ما أنزل الله بها من سلطان ، إلى غير ذلك من الأسباب التي ساهم فيها البعض من باع دينه وأمته وكان عوناً للأعداء ، فكانت النتيجة هذا التباعد المخيف ، والفرقة المحزنة على مستوى الدول والمجتمعات والجماعات ، بل والأسر والعائلات .
ولذا لابد أن تكرس جهود القادة الصادقين والعلماء العاملين والدعاة المخلصين للتأكيد على أهمية الوحدة ، وضرورة إحيائها وإذكاء روحها مع الحرص على البحث عن أسباب الفرقة ، وبيان مخاطرها وأضرارها ، ولابد أن تتضافر الجهود في منهج متكامل لهذه الغاية وذلك عبر المناهج التعليمية ، والوسائل الإعلامية ، والخطب المنبرية ، والدروس العلمية ، والكتب الثقافية وغيرها ، فالأمر يستحق كل ذلك وأكثر.(/1)
ولا تقربوا الزنا
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
قال الله تبارك وتعالى: ? وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ?[الإسراء:32] ، قال العلماء: إن الزنا كالقتل لأن فيه إراقة للنطفة وسفح لها في غير محلها، فلو كان منها ولد لكان مقطوع النسب، مقطوع الصلة، ساقط الحق، فمن تسبب في وجوده على هذه الحالة فكأنه قتله، ولهذا بعدما نهى الله عن الزنا الذي هو كقتلهم، لأنه سبب لوجودهم غير مشروع.
وفي قوله تعالى: ? وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى ? فهو في النهي أبلغ وآكد من ولاتزنوا، فهو يعني النهي عن مجرد الاقتراب من هذه الجريمة وتحريمه، لا بالقلب ولا بالجوارح، وقد جاءت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة فالعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه"() فزنا هذه الجوارح دنو من الزنا الحقيقي ومؤد إليه.
أيها المؤمنون : إن الإسلام ليس دين خيال ولكنه الدين القيم الذي ينطلق من الواقع الذي يعيشه الإنسان هذا الإنسان المخلوق العجيب الذي ركب الله فيه الغرائز والعواطف ولم يكن ليتركه هملاً ليحقق إشباعها على طريقة الحيوان البهيم، فالإنسان خلقه الله من قبضة طين ونفخة روح، نفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، وسخر الكون بما فيه من مخلوقات ، أعطى لجسده حظه من الحياة وأعطى لروحه العلوية حظها من العبادة والطاعة والسمو والرفعة وأي خلل أو طغيان في توازن الجسد والروح يفسد النفس الإنسانية ويعرضها للآفات الجسمية والروحية.
ومن أقوى الغرائز التي ركبها الله في جسد الإنسان غريزة الجنس وقد جعلها الله هكذا لأهداف سامية وحكم عالية تستهدف عمارة الكون وعبادة الخالق جل علا. وغريزة الجنس هي نقطة الضعف التي يتسلل منها الشيطان ليخرب البشرية ويقلب عليها نظام الحياة رأساً على عقب ويعطل رسالة الإنسان في الحياة قال تعالى: ? وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ?[النساء:27-28].
ولما كان لغريزة الجنس هذه القوة الطاغية على النفس البشرية فإننا نجد أن الإسلام قد وضع لها الضوابط وسن لها السنن وعبد لها الطريق وأقام لها الإشارات التي تضبط حركتها في الحياة حتى لا تصطدم بسنة الله في الخلق. إن الضوابط والإشارات الشرعية التي تنظم حياة الناس هي بمثابة الضوابط والإشارات المرورية التي تنظم حركة السير وتضبط أموره .. وانظروا رحمكم الله لسائق مجنون يقود سيارة بلا كوابح .. لا يلقي بالاً للإشارات الضوئية حمراء أو خضراء وإنما ينطلق في سرعة جنونية لا تلوى على شي، لاشك بأن من كان كذلك فإن نهايته محتومة ولكن بعد أن يقتل ويدمر ويهلك الحرث والنسل . وكذلك هو الحال بمن تجاوز الضوابط الشرعية وخالف تعاليمها ، فإن مآله إلى تباب وخسران وهذا ما نراه اليوم في الذين يخالفون أمر الله ويستحلون الزنا.
أيها المؤمنون : لقد حمى الله العباد من فاحشة الزنا بتدابير وقائية عملية عديدة تصل في النهاية إلى إيجاد مجتمع عفيف طاهر نظيف من الزنا والخنى والفواحش ومن تلك التدابير:
إن الله أمر بتيسير الزواج الحلال الطيب وأمر بإعانة من لم يتزوج من الرجال والنساء، فإن كانوا فقراء فإن الله سيهيء لهم وسائل العيش الكريم إن أرادوا تحصناً وعفة، قال تعالى مخاطباً الأولياء المسئولين عن تزويج البنات والشباب ? وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ...? ـ العزاب من الجنسين ـ ? وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ?[ النور: 32].(/1)
ثم تأتي الآيات القرآنية تبين للذين لا يجدون القدرة على مؤونات النكاح والقيام بتكاليف الزواج بأن عليهم أن يسلكوا سبيل العفة حتى يهيء الله لهم من فضله مالاً يستطيعون به الزواج كما قال تعالى: ? وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ...?[ النور: 33].
ويوجه النبي صلى الله عليه وسلم الشباب بالزواج لمن يقدر ويصف الصوم لمن عجز عن الزواج فقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"()
ومما يساعد على العفة والابتعاد عن الأسباب التي تؤجج الشهوات وتوقع في الحرام ، غض البصر وعدم إطلاقه بشهوة لأن البصر هو الأداة الأولى لإثارة كوامن الجنس في النفس الإنسانية ومن روعة القرآن أنه يبين هذا الأمر بيان العليم بالطبيعة البشرية الخبير لها: ? أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ?[الملك: 14].
وفي بيان الله لنا في القرآن الكريم ترغيباً بأن نرتقي بأنفسنا ونصعد بها من الابتذال والفوضى إلى السمو والطهر والعفاف قال تعالى: ? قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ?[ النور: 30-31].
وهكذا نرى القرآن الكريم يعالج الفساد في علاقات الجنسين من بداية الطريق إلى نهايته، فلا يكفي أن يصون الإنسان نفسه عن لحظات الانحراف والسقوط والوقوع في الإثم بل عليه أن يمتنع عن المقدمات التي توقع في الإثم وذلك بصيانة النظر عن المغريات إذ النظر هو المدخل الأساسي لتسرب الشهوة إلى النفس وطغيانها.
والله الخالق العليم بخلقه يعلم بغرائز الإنسان، فمهما حاول المرء أن يكون شريفاً متسامياً فلا يملك أن يضبط نفسه أمام نظر مثير من مفاتن المرأة أو أمام نظرات مشحونة بالإغراء، أو حركات مليئة بالإثارة ولهذا السبب بين الله السبيل الذي يجنب من الوقوع في هذه الآفات بهذه الآيات الجامعة التي ذكرها ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال له: "يا علي لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة"()
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم النظرات الشرهة من أحد الجنسين إلى الآخر زنا كما قال عليه الصلاة والسلام "العينان تزنيان وزناهما النظر"() وإنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم زنا لأنه نوع من التلذذ والإشباع للغريزة الجنسية بغير الطريق المشروع.
ولهذا نهى الله عباده عن النظرات الخائنة وحذرهم منها وأمرهم بغض أبصارهم كما قال تعالى: ? يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ? [غافر:19]وهي استراق النظر إلى مالا يحل، وقال مجاهد خائنة الأعين نظرها إلى ما نهى الله عنه.
وقال: ? قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ...?[النور:30] قال أبو حيان في تفسيره: قدم غض البصر على حفظ الفرج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور.. وهو الباب الأكبر إلى القلب، فإن النظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولابد ما لم يمنع مانع ولهذا قيل:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والعبد مادام ذا عين يقلبها في أعين الغير موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر(/2)
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي أملحة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم ينظر إلى محاسن إمرأة أول مرة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها"() وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن من غض بصره عما حرم الله يحصل له ثلاث فوائد: أحدها حلاوة الإيمان ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئاً لله عوضه خيراً منه. والثانية: أن غض البصر يورثه نور القلب. والثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته.
وفي الأثر كل عين باكية يوم القيامة إلا عيناً غضت عن محارم الله وعيناً سهرت في سبيل الله وعيناً بكت من خشية الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ?... إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ?[الإسراء:36 ].
الخطبة الثانية:
من التدابير الوقائية التي وضعها الإسلام للمسلمين لتحميهم الفاحشة والوقوع في الزنا النهي عن التبرج فقد نهى الله المرأة عن إظهار محاسنها للرجال الأجانب واعتبره عملاً شائناً قبيحاً كما اعتبره من مخلفات الجاهلية التي كانت قبل الإسلام قال الله تعالى: ?... وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ...? [الأحزاب: 33]والتبرج هو التكشف والظهور للعيون بالزينة وإبداء المحاسن وقد نهى الإسلام عن هذا التبرج لأنه يؤدي إلى إضرار المجتمع وإفساده من تحريض على الفساد واغتصاب النساء، أو التحرش بهن، كما يحصل في كثير من البلدان والأسواق.
كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من لبس الثياب الفاضحة التي تشف عما تحتها لا تسترها عن أعين الناظرين، فقد وصف صنفاً من أهل النار بقوله: "ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا كذا"()
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء عن استعمال العطور ذات الروائح العبقة التي تثير الغرائز الجنسية وذلك عند خروجهن من منازلهن إلى الأسواق والأماكن التي يتواجد بها الرجال، فقال: "أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية ، وكل عين زانية"()
وثمة خطر كبير على العفة ومحرض شنيع على الفحشاء ألا وهو خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية. بعيداً عن رقابة الأهل ، وقد يحصل من ذلك ما لا تحمد عقباه، وقد تتطور هذه الخلوة إلى الوقوع في الفاحشة، وهناك أخطار كبيرة تنشأ عن اختلاء الجنسين بدون رقابة الأهل وانعدام المحرم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم"() وقال صلوات الله وسلامه عليه: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان"()
ومن الأمور التي يتساهل بها الناس ولا سيما النساء أنهن يتساهلن ولا يتوقين من الاختلاء بالرجال من أقاربهن أو أقارب الزوج من غير محارمهن بحجة القرابة وفي ذلك خطر كبير ، فمخالطة القريب قد تكون أشد خطراً من مخالطة الغريب، فالغريب بحكم ضعف صلته بالأسرة ينظر إليه بعين الحذر، والقريب بحكم القرابة يتساهل معه وتتاح له فرص اللقاء والكلام والخلوة أحياناً، وهذه مسالك الإغواء والإفساد، ولقد أحتاط الإسلام لهذه الحالات وجعل النبي صلى الله عليه وسلم مخالطة القريب كالموت في خطورتها حين قال: "إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار أرأيت الحمو قال الحمو الموت"().
لا تخلو بامرأة لديك بريبة لو كنت في النساك مثل بنان
واغضض جفونك عن ملاحظة النسا ومحاسن الأحداث والصبيان
إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان
أيها المسلمون جميعاً كل منا يحتاج إلى كشف الكربات التي تصادفه في الدنيا وكشف كربات القيامة أولى وقد ورد أن البعد عن الزنا ومقدماته سبب عظيم من أسباب تفريج الكربات، كما في قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فاستصرخ كل منهم ربه بعمله الخالص الذي قدمه، وكان من أعمال أحدهم أنه راود يوماً امرأة في الحرام فلما وقع منها موقع الرجل من امرأته قالت له يا هذا اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فخاف الله وأقلع عنها وكان هذا العمل سبباً لرفع جزء من الصخرة والخروج من الكرب وكذلك يفرج الله عن عباده المؤمنين العالمين به حال الضراء إذا مسهم الضر ونزل بهم البلاء.
فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
راجعه/ عبد الحميد أحمد مرشد
صحيح مسلم: باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره:الحديث رقم: (2657) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
صحيح البخاري: كتاب النكاح: باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر أحصن للفرج). وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح:الحديث رقم: (4778) و أخرجه مسلم في نكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، رقم: ( 1400) .
سنن أبي داؤود 1/652، حديث رقم: 2149، وحسنه الألباني .(/3)
مسند أحمد 2/ 343، 8507، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم .
مسند أحمد 5/264، حديث رقم: 22332، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف جداً.
صحيح مسلم: باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء:الحديث رقم: (2128) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
سنن الدارمي 2/362، حديث رقم: 2646، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح مرسلاً وهو صحيح موصول أيضاً.
صحيح البخاري: كتاب النكاح: باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة:الحديث رقم: (110) . وصحيح مسلم: باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره:: الحديث رقم:(1341). عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
المستدرك 1/199، حديث رقم: 390 ، وصححه الذهبي في التلخيص.
صحيح البخاري: كتاب النكاح: باب: لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة: الحديث رقم:(4934) عن عقبة بن عامر . وصحيح مسلم: باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها:الحديث رقم: (2172) .(/4)
ولا تقفُ ما لَيسَ لكَ بِهِ علمٌ
عبدالعزيز بن ناصر الجليل
قال الله عزّ وجل:
{ ولا تقفُ ما لَيسَ لكَ بِهِ علمٌ إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤاَدَ كُلُّ أولئك كان عنهُ مسؤولاً } [الإسراء: 36].
يقول الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسير هذه الآية: "قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: يقول: لا تقل.
وقال العوفي عنه: لا ترمِ أحداً بما ليس لك به علم.
وقال محمد ابن الحنفية: يعني شهادة الزور.
وقال قتادة: لا تقل: رأيت، ولم تر، وسمعت، ولم تسمع، وعلمِت، ولم تعلم، فإنَّ الله تعالى سائلك عن ذلك كلّه.
ومضمون ما ذكروه أنَّ الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظنّ الذي هو التوهُّم والخيال، كما قال تعالى: { اجتنبُوا كثيراً من الظنّ إنَّ بعضَ الظَّنّ إثمٌ } (الحجرات:12).
ويقول سيِّد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية:
"وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجاً كاملاً للقلب والعقل، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثاً جداً، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله، ميزة الإسلام عن المناهج العقلية الجافّة.
فالتثبُّت من كلّ خبر ومن كلّ ظاهرة ومن كلّ حركة قبل الحكم عليها؛ هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجالٌ للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجالٌ للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتأمل، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم.
والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.
إنَّها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب، أمانة يسأل عنها صاحبها وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعاً، أمانة يرتعش الوجدان لدقّتها وجسامتها كلّما نطق اللسان بكلمة، وكلّما روى الإنسان رواية، وكلّما أصدر حكماً على شخص أو أمر أو حادثة".
{ ولا تقفُ ما ليسَ لكَ بِهِ علمٌ } ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبَّت من صحَّته: من قول يُقال ورواية تُروى، ومن ظاهرة تُفسَّر أو واقعة تُعلَّل، ومن حكم شرعي، أو قضية اعتقادية.
وفي الحديث: "إيَّاكم والظنّ فإنَّه أكذب الحديث"، وفي سنن أبي داود: "بئس مطية الرَّجل: زعموا"، وفي الحديث الآخر: "إن أفرى الفرى أن: يُري الرَّجل عينيه ما لم تريا".
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرُّج في أحكامه والتثبُّت في استقرائه؛ إنَّما يصل ذلك التحرُّج بالقلب في خواطره وتصوُّراته، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكماً، ولا يبرم الإنسان أمراً إلا وقد تثبَّت من كلّ جزئية ومن كلّ ملابسة ومن كلّ نتيجة، فلم يبق هنالك شكٌّ ولا شبهة في صحّتها: { إنَّ هذا القرآن يَهدِي للتي هيَ أقومُ... } (الإسراء:9).
إنَّ التفريط في هذا المنهج العظيم الذي أوصى الله به عباده المؤمنين، لَمِنْ أعظم أسباب الفرقة والعدوان والبغضاء، فكم من مظلوم في ماله أو بدنه أو عرضه كان سبب ذلك التسرُّع في نقل الأخبار وإشاعتها دون تمحيص وتثبُّت، وكم من أواصر وصلات قطعت بين الأرحام والإخوان كان سببها عدم التثبُّت والقول بالظنون أو بلا علم، بل كم قامت من حروب وفتن وأساسها أخبار وشائعات وظنون وتُهم باطلة.
من أجل ذلك كان لزاماً على كلّ مسلم يريد لنفسه النَّجاة في الدنيا والآخرة، وألاّ يكون سبباً في ظلم العباد وإثارة الفتن، أن يعي معنى الآية السابقة ويطبِّقها في حياته فيتثبَّت من كلامه قبل أن يدلي به للنَّاس، ويتثبَّت من سماعه فلا ينقل عن أحد ما لم يقله أو يقصده، ويتثبَّت في أحكامه ومواقفه.
وإنَّ منهج التثبُّت في القول والنقل والسماع لا يستغني عنه مسلم مهما كان مستواه من العلم والثقافة، فالعالم في تعليمه العلم لا بدَّ له من التثبُّت فيما ينقل من العلم والأقوال والروايات، والقاضي لا بدَّ له من التثبُّت من البيانات والشهود وتفاصيل القضايا، والمفتي لا بدَّ له من التثبُّت من الأدلَّة وتفاصيل الواقعة التي يريد أن يفتي فيها، والداعية لا بدَّ له من التثبُّت فيما يدعو النَّاس إليه بأنَّه الحق، كما أنَّه محتاج إلى التثبُّت في نقل الأخبار وسماعها وفهمها والحكم عليها، وعامّة الناس محتاجون إلى التثبُّت فيما يتناقلونه من الأخبار ويسمعونه عن الأشخاص أو الهيئات أو الأحوال، وبقية طبقات النّاس من إعلاميين وتجّار وساسة وعسكريون...إلخ، كلّ أولئك محتاجون إلى هذا المنهج السامق الذي أوصى الله عزّ وجل به، وإلا يأخذ به المسلمون في حياتهم وتعاملاتهم تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
ويمكن إرجاع أصول التثبُّت إلى الأصول التالية:(/1)
ـ التثبُّت من صحّة الكلام المسموع أو المقروء: وثمرة هذا الأصل الاطمئنان إلى صدق الخبر المسموع أو المكتوب؛ لأنَّ الخبر قد يكون كذباً والرواية قد تكون مختلقة، وعندها يُرفض الخبر وترد الرواية، ويسلم الإنسان من نقل الأخبار المكذوبة والشائعات.
ـ التثبُّت من دقّة كلام المتكلّم ووضوح عبارته: فقد يكون أصل الخبر صحيحاً والمتكلِّم به غير متهم بالكذب، ولكن قد يتبيّن أنَّ الخبر ليس كما نقل، وذلك لعدم دقّة المتكلِّم به في عباراته وعدم استطاعته الإفصاح عمَّا يريد، أو أنَّ نقله للخبر كان بأسلوب ركيك غامض جعل السامع يفهم منه غير المقصود، ومن هنا تنشأ الشائعات إذا تسلسل النقل بهذه الطريقة، ومن هنا يجب التثبُّت من دقّة عبارة المتكلِّم ووضوحها.
ـ التثبُّت من دقَّة فهم السامع واستيعابه: في هذه الحالة قد يكون المتكلِّم بالخبر دقيقاً في عبارته وأدائه وهو صادق فيما ينقل، ولكن التثبُّت ينصبُّ في هذه الحالة على دقَّة فهم السامع للكلام المنقول، فقد يكون السامع بطيء الاستيعاب سيئ الفهم، فيفهم الكلام على غير مقصوده فينقله بعد ذلك لغيره بفهمه الخاطئ، ومن هنا أيضاً تبدأ الإشاعات والأكاذيب، مع أنَّ الناقلين لم يؤتوا من كذبهم فهم صادقون، ولكنهم أتوا من سوء فهمهم وقلّة انتباههم، ومن هنا يجب التثبُّت من أنَّ السامع قد فهم الفهم الدقيق الصحيح لما سمع.
وهذه المراحل الثلاث من التثبُّت لا بدَّ للمسلم أن يعيها وهو يتكلَّم بالأخبار أو يسمعها؛ حيث يجب عليه تقوى الله عزّ وجل، فلا يقول ولا ينقل إلاّ صدقاً، وإذا تكلَّم فليكن منتبهاً في كلامه دقيقاً في عبارته؛ حتى لا يفهم عنه الكلام على غير حقيقته، وإذا سمع فليرع سمعه ويحضر ذهنه حتى يكون فهمه دقيقاً مستوعباً لما قيل.
وكما هو مطلوب منه أن يتثبَّت من هذه الأمور في نفسه، فمطلوب منه أن يطمئن على وجودها أيضاً في غيره من الناقلين والسامعين.
ولقد كان السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ حريصين أشدّ الحرص فيما يقولونه ويسمعونه من الفتاوى والأقوال على هذا المنهج الربَّاني الكريم، ومن ذلك ما تواتر من الروايات المنقولة عنهم في تحريمهم للإفتاء بغير علم، وأن لا يفتي العالم في مسألة حتى يفهم واقعها وصحّة دليلها، ولا يروي رواية إلاّ بعد التثبُّت من صدقها وصحّتها.
ومن ذلك ما نقله ابن القيِّم رحمه الله تعالى في "آداب المفتي والمستفتي" حيث يقول: "وكان أيوب إذا سأله السائل قال له: أعد، فإن أعاد السؤال كما سأله عنه أولاً أجابه وإلا لم يجبه! وهذا من فهمه وفطنته رحمه الله تعالى، وفي ذلك فوائد عديدة، منها: أنَّ المسألة تزداد وضوحاً وبياناً بتفهُّم السؤال، ومنها أنَّ السائل لعلَّه أهمل فيها أمراً يتغيَّر به الحكم، فإذا أعادها ربَّما يتبيَّن له، ومنها أنَّ المسؤول قد يكون ذاهلاً عن السؤال أولاً، ثمَّ يحضر ذهنه بعد ذلك، ومنها: أنَّه ربَّما بان له تعنُّت السائل وأنَّه وضع المسألة؛ فإذا غيَّر السؤال وزاد فيه ونقص فربَّما ظهر له أنَّ المسألة لا حقيقة لها، وأنَّها من الأغلوطات أو غير الواقعات التي لا يجب الجواب عنها".
ومن هذا النقل يتبيَّن لنا بعض جوانب التثبُّت التي سبق الإشارة إليها.
نسأله سبحانه الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، ونعوذ به من أن نقترف على أنفسنا سوءاً أو نجرَّه إلى مسلم، والحمد لله ربّ العالمين.
http://www.lahaonline.com(/2)
ولا تكن كصاحب الحوت
طارق حميدة
tariq_hamida@hotmail.com
مركز نون للدراسات القرآنية / البيرة
تبدأ سورة القلم بقوله تعالى ( ن والقلم وما يسطرون ، ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) ، وقد يبدو هذا القسم غريباً ، إذ هل قد بلغ الأمر بالرسول الكريم أن يشك في أنه مجنون ؟ .
لقد كانت الآية واضحة وصريحة ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) ، فلم يكن الخطاب فيها : لست يا محمد مجنوناً ، ولكن : لست بما كرّمك الله من نعمة الرسالة ، وما تفضل به عليك من النبوة وحمل الدعوة بمجنون، فإنه لم يتهمك أحد بالجنون قبل ذلك ، وإنك لصاحبهم الذي لبث فيهم عمراً من قبله فعرفوك وخبروا رجاحة عقلك ،وما يوم الحجر الأسود منهم ببعيد ، ولذلك فقد قرّعهم القرآن في موضع آخر بقوله :(وما صاحبكم بمجنون ) .
إن الحملات الدعائية الشديدة الموجهة ضد الدعاة والمصلحين عموماً ، مع ما يرافقها من إيذاء نفسي وجسدي ، لا شك تفعل فعلها في نفوسهم ..أيمكن أن يكون الكل على خطأ وهم وحدهم على الحق والصواب ؟ وكأن الواحد منهم يكاد يضعف أمام هذه الحملات ، وتحدثه نفسه تحت ضغطها أن يترك الدعوة، فلماذا يسبح عكس التيار ويحمل السلم بالعرض ؟ ، فتأتي مثل هذه الآيات الكريمات لتثبت أفئدة الدعاة المصلحين، كما ثبتت من قبل فؤاد المصطفى عليه السلام وهي تخاطبه : إنك بنعمة من ربك ولست بمجنون، وإن لك على تحملك وصبرك لأجراً غير ممنون ..وهل كان الله ليختارك للرسالة لو كنت مجنوناً ؟،إنه لولا رجاحة عقلك وخطورة عملك وأهميته وعلو شأنه، ما كنت جديراً بهذه المهمة ولا ذلك الأجر.
وليس ذلك فحسب فإنك (لعلى خلق عظيم )، وكيف يكون صاحب الخلق العظيم مجنوناً ، والحال أن سمو الخلق قرين العقل الراجح ، ولا يتصور أحدهما بمعزل عن الآخر ؟.
ثم لا تلبث الآيات إلا قليلاً حتى تنهى النبي عليه السلام عن طاعة المكذبين وطاعة كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم منّاع للخير معتد أثيم ، وكيف يطيع صاحب الخلق العظيم من لا خلاق لهم ، وكيف ينزل من عليائه إلى حضيضهم .. ؟
وبعد ذلك تعرض السورة لقصة أصحاب الجنة تشبه حال قريش بحالهم .. حين يقسم أصحاب الجنة بأن يقطفوا ثمار جنتهم دون أن يستثنوا للمساكين شيئا، ولا يستمعون لنصيحة أوسطهم، فعاقبهم الله تعالى بالحرمان وزوال النعمة.. إن حال أصحاب الجنة مع أخيهم كحال قريش مع محمد عليه السلام ، فإنه لأوسطهم وأرجحهم عقلاً وأحسنهم خلقاً ، يدعوهم إلى ما فيه خيرهم ، ثم هم يضغطون عليه بكل الوسائل ليتخلى عن دعوته، وفي القصة تحذير لقريش إذا خالفوا دعوة الرسول أن يصيبهم مثل ما أصاب أصحاب الجنة من زوال النعم عندما لم يستجيبوا لنصح أخيهم الأرجح عقلاً .
وفيها تنبيه للنبي عليه السلام أن لا يضعف وينساق لأهواء قومه فيشك في عقله أمام إجماعهم .. أو تحدثه نفسه كما يقول عقلاء زماننا :" إذا جن ربعك فلن ينفعك عقلك " ، إن النبي ،والداعية وكل مصلح ، هو صمام الأمان لجماعته .. وبثباته ينجو هو وينجو معه من يكرمه الله تعالى بمتابعته .. وإذا ما أدهن مع قومه ، أو تخلى عن وظيفته في الدعوة والإصلاح ، فيوشك الله تعالى أن يعمهم بعقابه .
وفي ختام السورة أمر للرسول ، عليه السلام ( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ) .. اصبر فأنت بعدُ في سعة وسلامة ، ولا تهرب من أداء الواجب ، مثلما فعل يونس عليه السلام فضيق الله عليه في بطن الحوت .. وأنت الآن في نعمة بل أعظم نعمة وأتمها وأسبغها ، فإياك أن تخلعها عنك ، وما يدريك إن فعلت وألقيتها عنك أن يتداركك الله بنعمته مرة أخرى ؟
ثم تتحول الآيات لتكشف دخيلة المشركين أمام ناظري الرسول الكريم : إنهم يعلمون علم اليقين أنك أرجحهم عقلاً حتى وهم يتهمونك بالجنون ، وأنك في نعمة عظيمة يحسدونك عليها، بل إنهم ليكادون يزلقونك بعيونهم لشدة ما يجدون في أنفسهم تجاهك ، وإن كان الحال أنهم يتهمونك بالجنون عندما سمعوا الذكر، على أمل أن تتخلى عن رسالتك فتنزل إلى مستواهم ما داموا قد قصرت هاماتهم وهممهم عن أن يطاولوا درجتك أو حتى يؤمنوا بك ويتبعوك ، ولو كنت مجنوناً كما يزعمون ما ركزوا فيك أبصارهم.
وهم بعد أحرار في هذه الدنيا أن يؤمنوا أو لا يؤمنوا فإن هذا القرآن ذكر للعالمين، كل العالمين، وسيبلغ مداه الذي أراده الله تعالى ولن يتوقف نجاحه على إيمانهم أو عدمه (وما هو إلا ذكر للعالمين)(/1)
ولا تلبسوا الحق بالباطل
الصفحة 1 لـ 3
الموضوع الأول
تمهيد :
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه .. أما بعد :
فإن الله عز وجل خلق الخلق من الجن والإنس لغاية عظيمة ، وهي عبادته سبحانه وتوحيده والإخلاص له وحده لا شريك له ، قال تعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))
[الذاريات : 56] .
ومن أجل ذلك أنزل سبحانه الكتب وأرسل الرسل ، وزود عباده بالعقول التي تميز الخير من الشر والحق من الباطل ، وتكفل سبحانه بالعون والتوفيق لمن أراد الهدى والحق فدله إليه ورزقه الانقياد له ، وتخلى عمن أعرض عن الحق فلم يقبل به ، ولم يستسلم ويخضع له ، وكل هذا من الابتلاء الذي خلق الله سبحانه الموت والحياة من أجله ، قال تعالى : (( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) ) [الملك : 2] .
وانقسم الناس إثر ذلك إلى مؤمنين موحدين مدركين للغاية التي من أجلها خلقوا ، فصار تدوافعهم كلها في مرضاة الله سبحانه ، وسخروا كل ما آتاهم الله في هذه الدنيا لخدمة هذه الغاية الشريفة لنيل مرضاة الله سبحانه وتعالى ، فعملوا للآخرة والفوز برضوان الله والجنة ، ومن الناس من أمضى حياته في اللهو واللعب وإيثار الحياة الدنيا ، وجعل هذه الدنيا همه وغايته واتبع هواه ، فخسر الدنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين .
ثم إن الفئة المؤمنة لم تسلم كذلك من الفتن ، وكيف لا يكون ذلك وعدوها الشيطان الرجيم متربص بها لا يفتأ يضلها ويزين لها ويخدعها ؟ يقول الله عز وجل عن إبليس اللعين : (( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) ) [الأعراف : 16 ، 17] ، وقال تعالى : (( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)) [الحجر : 39 ، 40] .
أحابيل الشيطان :
إن من أعظم الفتن التي يفتن الشيطان بها العباد ، فتنة التزيين ولبس الحق بالباطل وإتباع الهوى في ذلك ، ولقد وقع في هذا الشَرَك الخطير كثير من الناس وبخاصة في زماننا هذا ، حيث تموج الفتن موج البحر، وحيث كثر الخداع والنفاق والدجل والرياء .
نعم إننا في زمان اشتدت فيه غربة الإسلام ، وضُلل كثير من الناس وتمكن الشيطان من كثير منهم تمكناً يظنون معه أنهم بمنأى عن عدوهم اللدود وعلى صلة بربهم سبحانه وتعالى ، وما ذلك إلا بسبب التباس الحق بالباطل والجهل بالعلم ولتعاون شياطين الجن والإنس : (( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً )) [الأنعام : 112] .
فتعاونوا في وضع هذا التلبيس في قوالب من الأقوال مزخرفة ، وألفاظ من القول خادعة ، وتسمية للأشياء بغير أسمائها فَضَلّ بسبب ذلك كثير من الناس ، والعاقل منهم من وقف حائراً لا يدري أين وجهة الحق فيما يسمع ويرى من التناقضات وتبرير المواقف الخاطئة المخالفة للشريعة ، بسبب استيلاء الهوى على النفوس واستيلاء الشهوات على القلوب .
ولما كان من غير المستطاع المجاهرة برد الشريعة ورفضها ، كان لابد لهم من لي أعناق النصوص من آيات وأحاديث ليستدل بها أولئك المبطلون على المواقف المنحرفة وليست فيها دلالة عليها ، ولو أن الذي يقع في الانحراف يعترف بذنبه وخطئه وضعفه في مخالفة الشريعة ، لكان الأمر أهون ، وكذلك لو أنه استدل بدليل في غير محله ولما نُبّهَ إلى هذا الخطأ في الاستدلال رجع واعترف لكان هذا أيضاً أهون ، ولكن المصيبة أن يصر المسلم الذي حَرّفَ الأدلة ولواها ليجد لعمله
مَخْرَجَاً وشرعية ، فيكابر بعد بيان الحق له ، ويغالط نفسه والمسلمين بصنيعه هذا.
منطلق هذه الوقفات :
* إننا في زماننا هذا نرى صوراً كثيرة من لبس الحق بالباطل ، وصوراً أخرى من المغالطات والخداع والحيل المحرمة في شرع الله عز وجل ، فكان لزاماً على الدعاة والمصلحين أن يحذروا من الوقوع في هذا المزلق ، وأن يكشفوه للناس ولا يدَعُوهم لأهل الأهواء يلبسون عليهم دينهم ويحرفون الكلم عن مواضعه ، ومعلوم ما ينتج من وراء ذلك من الفتن والتضليل .
* من أجل ذلك جاءت هذه الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم لمعالجة هذا الموضوع المهم على ضوء الكتاب والسنة وما ذكره العلماء الفحول ، وقد اخترت عنواناً لها قوله تعالى : ((وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ )) ، وهو جزء من آيتين كريمتين وردت إحداهما في سورة البقرة عند قوله تعالى : (( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة : 42] والأخرى في سورة آل عمران(/1)
عند قوله تعالى : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [آل عمران : 71] .
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب :
وهاتان الآيتان وإن كانتا قد نزلتا في أهل الكتاب فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند علماء الأصول ، فكل من كتم الحق وخلطه بالباطل وهو يعلم فهو من أهل هذه الآية ، ولذلك سوف لا أتطرق لمحاولات أهل الكتاب ولا أصحاب الملل الكافرة في تلبيس الحق بالباطل ومغالطاتهم في ذلك ، بل سينصب جل البحث على واقعنا المسلم الذي نعيش فيه وندعو إلى الله فيه ، محاولاً كشف بعض الصور التي التبس فيها الحق بالباطل والتي يقع فيها بعض المنتسبين
لهذا الدين من المنافقين وضعاف الإيمان لتبرير الانحراف أو التهوين منه والرضى به وإقراره ، بل إن بعض الطيبين من دعاة وطلاب علم قد تأثروا بأولئك الملبسين فصاروا يرددون بعض ما يقولون بعلم أو بغير علم ، وقد قسمت الموضوع إلى المباحث التالية :
* أهمية الموضوع
* تعريفات
* أسباب التباس الحق بالباطل
* صور من لبس الحق بالباطل
* الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل
* خاتمة.
أهمية الموضوع :
إن لدراسة التباس الحق بالباطل أهمية كبرى لما ينتج عن ذلك التلبيس من تزييف وفتنة يكون لها الأثر السيء والضرر البالغ في تضليل الأمة وتحريف الحقائق وتزوير الأحداث ، ويمكن توضيح أهمية الموضوع في الأمور التالية :
1- القيام بالعبودية لله تعالى لا يتم إلا بالإخلاص له سبحانه وتعالى ، وأن تكون العبادة على بصيرة باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والبصيرة بالدين لا تتحقق مادام أن الباطل ملتبساً بالحق، مما يلزم تنقية الحق من الباطل قال تعالى : (( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) [البقرة : 56] .
2- كثرة التلبيس والتضليل في عصرنا بوسائل إعلامية ماكرة مضللة تلبس على الناس دينهم وتخلط الحق بالباطل ، بل وصل الأمر لدرجة قلب الحقائق وإظهار الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق ، وذلك لطمس الحق أو تشويهه وتشويه حملته والداعين إليه ، فكان لابد من إزالة هذا اللبس لإحقاق الحق وإبطال الباطل بقدر المستطاع ((لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)) [الأنفال : 8] .
3- السكوت المزعج لكثير من العلماء وطلبة العلم في ديار الإسلام أمام كثير من المستجدات والنوازل التي تبحث فيها الأمة عن الموقف الشرعي إزاء تلك النوازل ، مما حدا بذوي القلوب المريضة في غيبة العلماء أن يلبسوا على الأمة أمرها ، وتكلمت الرويبضة في أمر العامة ، والأدهى والأمر أن من أهل العلم من يساهم في هذا التلبيس فتراه يسمي الأمور بغير أسمائها ، وينزل النوازل في غير مناطاتها ، بل قد يثني على المبطلين ويغض من قدر المصلحين ، فإلى الله المشتكى.
4- أهمية تعرية الباطل وأهله ، فمادام أن الحق مختلط بالباطل ، وسبيل المجرمين لم يتميز عن سبيل المؤمنين ، فإن الدين سيبقى مشوهاً عند الناس ، وسيبقى التلبيس فيه قائماً (( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)) (لأنفال: من الآية42) .
5- ضرورة بيان تلبيس الطواغيت ودعاة العلمنة في كثير من بلدان الإسلام وما يضفونه على مخططاتهم الظالمة من تبريرات لظلمهم وادعاءاتهم التي قال الله تعالى في مثلها : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ)) [البقرة : 11 ، 12] .
6- ظهور بعض المغالطات من كثير من الناس واستخدامها في تبرير المواقف الخاطئة والمخالفات الشرعية ، سواء أكانت فردية أو جماعية فينبثق عنها مواقف وممارسات خاطئة تلبس على الناس أمرهم ، ومنشأ هذه المغالطات في الغالب شهوة مزجت بشبهة فتولد عنها مغالطة ، وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد .
مصطلحات في الموضوع :
يحسن بنا قبل الدخول في ثنايا الموضوع الإلمام بتعريفات كثر إيرادها ، من أهمها (اللبس والتلبيس) و ( الأغاليط والمغالطات) :
أولاً- اللبس والتلبيس :
قال في لسان العرب : ( اللّبْس واللّبَس : اختلاط الأمر ، لبس عليه الأمر يلبسه لبْساً فالتبس ، إذا خلطه عليه حتى لا يعرف جهته ، والتبس عليه الأمر أي اختلط واشتبه ، والتلبيس : كالتدليس والتخليط ، شدد للمبالغة ، وربما شدد للتكثير ، يقال : لَبَستُ الأمر على القوم ألبْسُه إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً ) أ . هـ ، وقال ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس : ( التلبيس إظهار الباطل في صورة الحق ) أ . هـ .
ومن ذلك قوله تعالى : ((وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) (البقرة:42)(/2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عند هذه الآية : ( فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق ) .
ثانياً- الأغاليط والمغالطات :
قال في لسان العرب : ( المغْلطَة والأغلوطة : ما يغالط به من المسائل والجمع : الأغاليط ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات، قال الهروي : وأراد بها المسائل التييغالط بها العلماء ليزلوا فيهيج بذلك شر وفتنة ، وإنما نهي عنها لأنها غير نافعة في الدين ولا تكاد تكون إلا بما لا يقع ، ومثله قول ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( أنذرتكم صعاب المنطق ) يريد
المسائل الدقيقة الغامضة ) .
وقد أخرج أبو داود رحمه الله في سننه عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات [1] .
وروى كل من البخاري ومسلم حديث حذيفة المشهور في الفتن ، وفيه قول حذيفة : ( إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط ) [2] .
قال في الشرح : الأغاليط جمع أغلوطة وهي المسائل التي يغلط فيها والأحاديث التي تذكر للتكذيب ، ونقل الحافظ بن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم عند شرحه للحديث التاسع من أحاديث الأربعين النووية
قوله : وقال الحسن البصري : ( شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يعمون بها عباد الله ) .
وقال الأوزاعي : ( إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط ، فلقد رأيتهم أقل الناس علماً ) .
والحاصل مما ذكر أن المغاليط هي التي يثيرها المغالطون من صعاب المسائل أو المسائل التي لم تقع ، وذلك ليغالطوا بها العلماء ليزلوا فيعمون بها العباد ويهيج من ذلك شر وفتنة وتلبيس على الناس ، نسأل الله السلامة ..
_____________
[1] أبو داود كتاب العلم ح/8 .
[2] البخاري كتاب المواقيت ح/4 ، مسلم كتاب الإيمان
ولا تلبسوا الحق بالباطل
الصفحة 2 لـ 3
الموضوع الثاني
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد ..
إن الانحراف عن الحق والوقوع في الخطأ لا تعدوا أسبابه الفتن التالية :
1- فتنة الشبهات .
2- فتنة الشهوات .
3- فتنة الجمع بين الشبهة والشهوة لبس الحق بالباطل وكل انحراف أو ضلال أو خطأ سواء أكان صغيراً أو كبيراً لا يخرج في دوافعه عن الأسباب الثلاثة السابقة :
فإذا وقع العبد في مخالفة شرعية ، فإما أن يكون السبب في هذه المخالفة هو الجهل بها وعدم العلم بحرمتها، أو اشتبه الأمر عليه فحسبها مكروهة فقط ، فهذا الخطأ سبب الشبهة الناتجة من قلة العلم وضعف البصيرة .
وأما إذا كان لدى من وقع في المخالفة علم وبصيرة في دين الله بأنها محرمة ومخالفة للشرع ومع ذلك وقع فيها عمداً ، فإن الدافع لهذه المخالفة إنما هو الشهوة ، وضعف النفس ، ومثل هذا يقر ويعترف بمخالفته ومجانبته للصواب كما يعترف بذنبه وتقصيره .
أما إذا وقع في المخالفة عن شهوة وضعف ثم لم يعترف بذنبه وتقصيره ، وإنما راح يبحث عن شبهة شرعية أو تفسير خاطئ أو تأويل متعسف للأدلة ليبرر بها خطأه ويبرر بها ضعفه وشهوته مع علمه بخطأ تصرفه هذا في قرارة نفسه فهذا هو الهوى وهذه هي المغالطة وهذا هو لبس الحق بالباطل ، وهو أشنع أنواع الانحراف لأنه مكر وتحايل على شرع الله وخداع للناس .
إن أشد وأشر هذه الفتن من جمع بين الشبهة والشهوة وتحايل على شرع الله بأن غطى مخالفته وانحرافه بشبهة شرعية ، وهو يعلم أنه متحايل ومخادع ، ومثل هؤلاء الملبسين عقوبتهم عند الله عز وجل أشد من الذين يقعون في المخالفات الشرعية ولكنهم يعترفون بتقصيرهم وذنوبهم ، ولا يكابرون ، ولا يبررون ولهذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم- أمته من ارتكاب الحيل فقال ولا تركبوا ما رتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل [1].
وهذه هي حقيقة لبس الحق بالباطل وحقيقة المغالطة ، إذ أن الدافع الحقيقي للانحراف هو الهوى والشهوة وحب الدنيا ، ولكن عوضاً عن أن يعترف بضعفه هذا وشهوته ، ويعترف بذنوبه في مخالفته للشريعة فإنه يستدل لشهوته هذه بشبهة شرعية يعلم هو في قرارة نفسه أنها لا تصلح للاستدلال ، لكن لابد من غطاء يغطى به هذا الضعف والهوى ، وإذا ذهبنا لنتعرف على وسائل التلبيس والطرق التي ينطلق منها الملبس في أغلوطاته نجدها لا تخرج في الغالب عن الأمور التالية
1- التأويل الفاسد واتباع المتشابه .
2- كتمان الحق وإخفاؤه .
3- تحريف الأدلة عن مواضعها ، وعدم إنزالها في مناطاتها ، وتفصيل ذلك فيما يلي :
1- التأويل وإتباع المتشابه :(/3)
التأويل الفاسد الذي لم يدل عليه دليل يصرفه عن المعنى الظاهر الذي هو أشبه بتحريف الكلم ، والغالب أن الذي يدفع إليه هو الجهل والهوى وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو التأويل الذي لم يرده الله رسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده ، وهل اختلفت الأمم على أنبيائها إلا بالتأويل ، وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل ؟ فمن بابه دخل إليها ، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل ؟ [2] .
وعند قول الله عز وجل في اليهود : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) [آل عمران : 78] .
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآية : وآفة رجال الدين حين يفسدون أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم ، ويلوونها لياً ، ليصلوا منها إلى مقررات معينة ,يزعمون أنها مدلول هذه النصوص ، وأنها تمثل ما أراده الله منها ، بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها، معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية ، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يُلجئون إليها النصوص إلجاء [3] .
2- كتمان الحق وإخفاؤه :
وهو تحريف الأدلة عن مواضعها وتغطية الحق بالباطل ، وقد ورد في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص المحذرة من كتمان الحق وإخفائه والمتوعده لفاعليه بالوعيد الشديد من ذلك : قوله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)) [البقرة : 159] .
وقوله : (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة : 174] .
يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيرها : هذه الآية جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرمه الله ، ويشرعون لهم ما لم يشرعه من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك ، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع مالم يأذن به الله وإظهار خلافه سواء أكان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم ، أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك ، كما قال تعالى : ( تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً)) [الانعام : 91] وفي حكمهم كل من يبدي بعض العلم ، ويكتم بعضه لمنفعة لا لإظهار الحق وتأييده [4] .
وبقيت كلمة أخيرة في موضوع كتمان الحق ، ألا وهي أن بعض الطيبين قد يقول : ألا يجوز كتمان العلم بل قد يجب أحياناً عند خوف الفتنة من الجهر به سواء أكان على النفس أو على الناس ؟ والجواب أن في ذلك تفصيل كما يلي :
بادئ ذي بدء فإن حديثنا ليس عن كتمان العلم وإنما هو عن كتمان الحق الذي يجب أن يقال ، وفي نظري والله أعلم أن بينهما اختلاف ، وذلك أن العلم أنواع فمنه ما هو واجب القول به وتعليمه الناس كفروض العين ونحوها ومنه ما هو مستحب ومنه ما يجوز قوله لأناس دون أناس حسب عقولهم وأفهاهم ، أما قول الحق الواجب فأرى أنه من العلم الواجب إيصاله للناس ، ولا يجوز كتمه لأن في كتمه مفسدة تنافي مقاصد الشرع أو بعضها ، وفي إخفائه فتنة للناس وليس العكس ، فإذا جاز
كتمان العلم أو وجب في ضوء قواعد الشريعة المعتبرة فإنا والحالة هذه نقول : إن الحق في هذا هو كتمان العلم ، وإن الجهر بالعلم مع معرفتنا بالمفسدة المترتبة عليه هو الباطل والفتنة وهذا والله أعلم هو الذي عناه الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات حيث قال : ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة ، ومما يفيد علماً بالأحكام بل ذلك ينقسم ، فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة ، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق ، أولا يطلب نشره بالنسبة إلى حال ، أو وقت أو شخص ، ومن ذلك تعيين هذه الفرق فإنه وإن كان حقاً فقد يثير فتنة كما تبين تقريره فيكون من تلك الجهة ممنوعاً بثه ، ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها ، فإن الله ذم من اتبعها فإذا ذكرت وعرضت للكلام فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه [5] .(/4)
3- تحريف الأدلة عن مواضعها :
وهذه الطريقة من طرق التلبيس هي ثمرة من ثمرات الطريقتين السابقتين ، إذ لابد لمحرف الأدلة من كتمان الحق ، ولابد لمتبع المتشابه من تأويل كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من التأويل الفاسد الذي يؤدي إلى صرف الأدلة عن ما أراد الله بها وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم ومن ثم وضعها في غير موضعها ، وهذا هو نوع من أنواع التحريف للأدلة عن مواضعها ، إذ لا يلزم من التحريف أن يكون لفظياً كما فعلت اليهود في التوراة بل إن تحريف المعنى المراد إلى غير المراد هو تحريف للنصوص عن مواضعها أيضاً وهذا ما
أشار إليه الشاطبي رحمه الله تعالى : وهو يستعرض مآخذ أهل البدع في الاستدلال: ومنها تحريف الأدلة عن مواضعها بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد ، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله ، ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام وبأنه يذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً ، إلا مع اشتباه يعرض له ، أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه ، فيكون بذلك السبب مبتدعاً وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمراً في الجملة مما يتعلق بالعبادات مثلاً فأتى به المكلف في الجملة أيضاً ، كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة ، كان الدليل عاضداً لعلمه من جهتين : من جهة معناه ، ومن جهة عمل السلف الصالح به .
فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو مقارنٍ لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية أو الزمان أو المكان مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه ، كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه [6] _______________
[1] تفسير بن كثير ، طبعة الشعب ج3 ص492 ، وجود ابن كثير إسناد هذا احديث .
[2] إعلام الموقعين 4/353 .
[3] في ظلال القرآن .
[4] تفسير المنار 2/101 .
[5] الموافقات ج4 ص109 .
[6] الاعتصام ج1 318 .
مدخل :
بعد بيان معنى اللبس والتلبيس وأنه إلباس الهوى والشهوة لبوساً شرعياً بتحريف الأدلة ، ثم بيان الأسباب التي تؤدي إلى لبس الحق بالباطل والمؤدية بدورها إلى الضلال والإضلال ، نذكر هنا بعضاً من صور اللبس والتضليل ، وذلك لنحذر من الوقوع فيها بأنفسنا ، ونحذر إخواننا المسلمين من الوقوع فيها والانخداع بها ، ولم أراع في ترتيبها الأهمية ، لكن حسب ما عنّ في الخاطر ، أسأله (سبحانه) التوفيق والسداد في القول والعمل ،
ومن هذه الصور ما يلي :
1- الاحتجاج على شرعية الأنظمة المبدلة لشرع الله والمستحلة لما حرم الله بآثار عن السلف رضي الله عنهم أنه : كفر دون كفر :
وهذا، والله تحريف للأدلة عن مواضعها ، وإنزال الحكم في غير محله ، وافتراء وتجن على سلفنا الصالح وخير القرون في هذه الأمة ، فما كانوا عن عصرنا يتحدثون ولا أنظمته المبدلة لشرع الله يقصدون ، فالله المستعان ، ومن أحسن ما رأيت من الردود على هذا التلبيس ما كتبه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، ومما قاله : وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره مما يلعب به المضللون في عصرنا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجرآء على الدين ، يجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الوضعية التي ضربت على بلاد المسلمين [1] .
فاللهم إنا نبرأ من هذا اللبس ونبرئ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان من هذا التلبيس وهذه المغالطات ، وإنه لا أحد ينزل قول ابن عباس رضي الله عنه أو غيره من السلف على المبدلين لشرع الله في زماننا هذا إلا رجل سيطر عليه الجهل بالواقع فلا يعلم ما يدور من حوله ، أو رجل منافق ملبس يعلم واقعه وعدم مشابهته للواقع الذي كان يتحدث عنه ابن عباس رضي الله عنه، ولكنه يغالط ويخلط الحق بالباطل اتباعاً للهوى وطمعاً في دنيا يصيبها ؛ فإنه لم يحدث قط في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة يتحاكم إليها الناس .
2- الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي ، والرضى بالذل والمهانة :(/5)
وهذه الصورة من صور اللبس والمغالطة ليس القصد من إيرادها هنا الرد على المحتجين بالقدر على ضلالهم ومعاصيهم ، وإنما المقصود التنبيه على أن من يحتج بالقضاء والقدر ليبرر به انحرافه وكسله وضعفه إنما هو مغالط وملبس ومدلس، وموضوع الرد على المحتجين بالقدر موجود فيمظانّه من كتب العقيدة الصحيحة لدى سلفنا أهل السنة والجماعة ، مثل : العقيدة الواسطية ، ومعارج القبول ، والعقيدة الطحاوية .. إلخ ، والمراد هنا : كشف اللبس الحاصل بين الحق والباطل في هذه المسألة ، حيث إن المحتج بالقدر على فعل المعاصي والإصرار عليها قد وقع في لبس عظيم ، ويعلم هو بنفسه أن احتجاجه ليس في محله، وإنما أورده لتبرير شهوته وضعفه بدليل أنه في أمور الدنيا وكسبها لا نجده يقعد محتجاً بالقدر، وأن الله سبحانه كتب عليه الفقر أو الجوع أو عدم الزواج ، بل إنا نجده يسعى ويفعل الأسباب الممكنة لدفع كل ذلك ، فلماذا لا يوجد هذا الدفع أيضاً في أمور الدين وأمور الآخرة فيسعى للآخرة سعيها، ويأخذ بأسباب الهداية وأسباب النجاة من النار،وهي ميسرة لمن أرادها ؟ ! ، لماذا هو جبري في أمور الدين والآخرة، وقدري في أمور الدنيا ؟ .
وقريب من الذين يحتجون بالقدر على فعل المعاصي والرضى بالواقع أولئك الذين يتجرؤون على فعل المعاصي اعتماداً على رحمة الله سبحانه ، نعم إن الله غفور رحيم ، ولكن ليس مقتضى هذه الرحمة أن يتجرأ هذا الملبس على المعصية ، وإنما المقصود منها : فتح باب التوبة والرحمة لمن وقع فيها وانتهى وندم ، فيقال له:لا تيأس ؛ فإن الله غفور رحيم .
3- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله خوف الابتلاء وتعريض النفس للفتن :
هناك من يترك الأمر والنهي عجزاً وكسلاً وجبناً وبخلاً ، لكن لا يريد أن يعترف بهذه الصفات الذميمة ، فبدلاً من الاعتراف بها والسعي للتخلص منها فإنه يحاول جاهداً في تغطية ضعفه هذا بمبررات شرعية ، منها : الخوف من الفتن واعتزال كل ما يعرض النفس للابتلاء والفتنة والهلكة ودرء المفاسد ، معتمداً على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والضوابط الشرعية في ذلك ، فمقصودنا هو كشف اللبس والتدليس والمغالطة على النفس وعلى الناس في أن النكول عن الأمر والنهي قد تم من منطلق شرعي وضوابط شرعية ، والأمر في حقيقته ليس كذلك ، وإنما هو الخوف والجبن وإيثار السلامة وعدم تحمل أي أذى أو مكروه في سبيل الله عز وجل .
يقول الإمام ابن تيمية (رحمه الله) : ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة : صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة ، كما قال [تعالى] عن المنافقين : ومنهم من يقول : ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ))
[التوبة : 49].
فلا يصح لقائل أن يقول أنه يجب الابتعاد في الدعوة إلى الله سبحانه عن كل ما من شأنه أن يجر على الداعية الأذى والمحن ! ، إن صاحب هذا القول قد نسي أو تناسى سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل ، وسنته سبحانه في الابتلاء والتمحيص ؛ قال تعالى : (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)) [العنكبوت : 10 ، 11] .
نعم إن من بيننا من يريد المغنم من الدعوة ولا يريد المغرم ، بدليل عدم الإعداد والاستعداد لأي أذى يعترضه في الطريق ولو كان قليلاً ، وإنما مادام الأمن والسلامة والراحة فهو نشيط ومتحرك ،فإذا ظهرت المحن وبدايات الابتلاء والتمحيص آثر السلامة والراحة ، وعلل ذلك بالابتعاد عن الفتن ودرء المفاسد .
ولا يعني ما سبق من الكلام أن يبحث الداعية عن الأذى والابتلاء ، كلا ، فالمطلوب سؤال الله العافية وعدم تمني البلاء ، كما لا يفهم منه أيضاً الدعوة إلى التهور والطيش معاذ الله ، فلابد من وجود المنطلقات الشرعية في كل التصرفات ، لكن المراد أن لا نغفل عن سنة الله سبحانه في ابتلاء المؤمنين ، وأن نوطن أنفسنا على هذه الأمور، لأنه لابد منها لكل من ادعى الإيمان وتصدّر للدعوة والجهاد ، ولابد منها ليتميز الخبيث من الطيب ، ولابد منها لتمحيص القلوب والصفوف ، ولو قلبنا تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وتاريخ الدعاة والمصلحين لرأينا ذلك المعلَم ظاهراً وقاسماً مشتركاً عندهم جميعاً .(/6)
وقريب من هؤلاء أولئك الذين يبررون كسلهم وحبهم للراحة وضعف همتهم بالتواضع البارد والزهد في المسؤولية ، لأنه يعرف أن الدعوة إلى الله سبحانه لا يعرف صاحبها الراحة ، وتحتاج إلى همة عالية ، لكنه عوضاً من أن يعترف بضعفه هذا ، فإنه يغالط نفسه وغيره ، ويسعى إلى ترقيعه بإلقاء هذا الضعف على الخوف من المسؤولية واحتقار النفس ، وأن هناك من هو أولى وأتقى وأفضل .. إلخ .
4- المداهنة وضعف الولاء والبراء بحجة المداراة والتسامح ومصلحة الأمة :
إن الخلط بين المداراة والمداهنة ، والتميع في الولاء والبراء بحجة التسامح ، كل ذلك ينتجعنه آثار خطيرة على الدين وأهله، وذلك بما يفرزه هذا الخلط واللبس من المغالطة والتضليل على الأمة في أن ما يقع من الملبسين من مداهنة وموالاة لأعداء هذا الدين إنما هو مداراة .
وإيضاحاً لهذا الأمر : أنقل كلاماً لأهل العلم يزيل اللبس في مسألة المداراة والمداهنة ومسألة الولاء والتسامح .
قال البخاري رحمه الله في باب المداراة مع الناس : ويذكر عن أبي الدرداء : إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم ، وعن عائشة رضي الله عنها أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : ائذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله ، قلت ثم ألنت له في القول ، فقال : أي عائشة ، إن شر الناس منزلة عند الله مَن تَركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه [2] .
ويعلق ابن حجر رحمه الله على حديث عائشة بقوله :قال ابن بطال : المداراة من أخلاق المؤمنين ، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ في القول ، وذلك من أقوى أسباب الألفة ، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط ؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة ، والفرق : أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه ، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ، لا سيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك [3] .
ومن هذا يتبين ما هي المداراة وما هي المداهنة، وأنهما ضدان لا يجتمعان ، إذ إن المداراة صفة مدح وهي لأهل الإيمان ، بينما المداهنة صفة ذم وهي لأهل النفاق ، فهل بقي بعد هذا البيان مجال للالتباس في هذا الأمر ؟ ! .
ثم إن مكمن الخطر في هذا الخلط ليس في مداهنة الفساق وأهل المعاصي من المسلمين فحسب ، وإنما الأخطر من ذلك هو : مداهنة الكفار بمشاربهم المختلفة تحت غطاء المداراة ومصلحة الأمة ، حتى اهتز جانب الولاء والبراء الذي هو الركن الركين في عقيدة التوحيد وبدأ حاجز البغض للكفر وأهله يضعف ،بل اهتز عند بعضهم ، والسبب في ذلك : الجهل بحقيقة المداراة والمداهنة ، أو المغالطة فيهما عن علم وهوى .
5- الانفتاح على الدنيا والركون إليها ، بحجة التعفف عن الناس وإنفاق المال في وجوه الخير :
وفي هذه الصورة مدخل خفي للشيطان يتسرب منه إلى نفس الإنسان، يبلغ اللبس في هذا الأمرمن الخفاء بحيث لا يفطن له إلا المجاهد لنفسه، المفتش لقلبه، الحذر الخائف من الدنيا وغرورها، ومكمن اللبس هنا في أن التعفف عن الناس أمر مطلوب، ويحث عليه الشرع في أكثر من آية وحديث، وكذلك الإنفاق في سبيل الله وبذل المال في أوجه البر المختلفة، كل هذا حق لا ريب فيه، لكن الشيطان لا يألو جهداً في إغواء بني آدم وجرهم إلى حزبه خطوة خطوة، ولهذا : فهو يبدأ مع الإنسان ليجره إلى الدنيا وغرورها من باب التعفف عن الناس ، ومساعدة المحتاج ، وإغاثة الملهوف .. إلخ ، ثم بعد ذلك، وبعد إشغاله بالمال وطرق جمعه ومشاكله وشبهاته نبحث عن صاحبنا الذي كنا نراه في لقاءات الخير والدعوة إلى الله سبحانه فلا نراه إلا قليلاً، وهكذا، حتى ينفتح على الدنيا ، ويركن إليها ، ويضع له الشيطان في كل وادٍ من أوديتها شغلاً وهماً يتشعب فيهما الفكر، ويتشتت فيهما الذهن ويتحول المال المكتسب إلى استثمارات جديدة وتوسع في المباحات وإسراف في المآكل والمراكب والمساكن، وقد كان الهدف في البداية هو التعفف والإسهام في وجوه الخير والبر ، والغريب في الأمر أن هذا المغالط عندما يذكّر بالآيات التي تحذّر من الدنيا ، وسرعة زوالها ، وخطر الركون إليها ، فإنه بدلاً من أن يشعر بالخطر ويسعى لتدارك الأمر ؛ فإنا نجده يصر على المغالطة واللبس ، ويقول : إن التعفف عن الناس مطلوب، ولابد للداعية أن يكون له مصدر يستغني به عن الناس وينفع به دعوته ، ويساهم في الخير، وهو يعلم أن ليس هذا قصده، وإنما أراد تغطية حبه للدنيا والركون إليها بهذا الغطاء الشرعي الذي لم يراع الضوابط الشرعية فيه .
وقد يقول قائل : إذن ، ما العمل في مثل هذه الحالة وبخاصة لمن أراد صادقاً أن يتعفف عن الناس وأن ينفع دعوته بالمال ؟(/7)
والجواب لا أملكه، لأنها معادلة صعبة يختلف حلها من شخص لآخر، ويكفي في حلها أن يعلم الله سبحانه من أنفسنا أننا نريد التعفف والبذل بصدق في سبيل الله سبحانه، فعندئذ يحمينا برحمته من الدنيا وزخرفها ، ويخرجها من قلوبنا لتبقى في أيدينا ، وكل إنسان على نفسه بصيرة .
6- الاحتجاج بيسر الشريعة وضغط الواقع :
إن القول بيسر الشريعة وسماحتها حق لا شك فيه، ولكن الاحتجاج بهذا التيسير للتفلت من أحكام الشريعة والتحايل عليها، وإتباع الهوى في الأخذ بالرخص والشذوذات الفقهية ، كل هذا باطل وتلبيس وتضليل ، يتبنى ذلك أهل الأهواء الذين يتبعون الشهوات، يريدون بذلك تحلل المجتمع المسلم من أحكام الشريعة باسم التيسير وترك التشديد ، وصدق الله العظيم : (( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)) [النساء : 27].
ومن رحمة الله عز وجل أنه لم يكل مصالح العباد إلى أهواء البشر وشهواتهم ، بل وضع سبحانه شريعة كاملة مبرأة من الجهل والهوى ، ومبرأة من النقص والقصور ، لأن مصدرها منه سبحانه الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا ، ولو أن تقرير مصالح العباد كان في أيدي البشر لحصل من ذلك شر وفساد كبير ، وذلك لما عليه البشر من الجهل والنقص والهوى والشهوة ، وهذا مشاهد في الواقع ؛ فالمجتمعات التي لا يحكمها شرع الله سبحانه وتحكمها أنظمة البشر وقوانينهم نرى فيها من الفساد والشرور والظلم والاستعباد والضنك والضيق ما تعج منه الأرض والسماوات ، وتبرأ منه الوحوش في البريات ، وصدق الله العظيم : (( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)) [المؤمنون : 71] .
إن الذين يتشدقون بالتيسير ويغالطون به بغير علم ولا هدى من الله سبحانه، لو كان الأمر بأهوائهم لعطلوا كثيراً من أحكام الشريعة التي قد يُظَن فيها المشقة والضيق مع أن مآلها اليسر والسعادة في الدارين ، فالله سبحانه الرحيم بعباده ، هو الذي يعلم ما يصلح شؤونهم ، وييسر أمورهم ، ويعلم ما يشق عليهم وما لا يشق ، إنه حكيم عليم .
7- التشهير بالدعاة والمصلحين واغتيابهم بحجة النصيحة والتحذير من الأخطاء :
عن أبي برزة الأسلمي ، والبراء بن عازب (رضي الله عنهما) ، قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم ، تتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته [4] .
والمقصود من إيراد هذه الصورة هو الحذر من تزيين الشيطان وتلبيسه في إظهار الغيبة أو النميمة أو التشهير في قالب النصيحة ، والتحذير من الأخطاء والغيرة على دين الله وتعظيم حرمات الله عز وجل ، إن هذاهو الخطير في الأمر: إذ لو أن الواقع في الغيبة أو النميمة أقر بذنبه ، واعترفبتقصيره ، واستغفر ذنبه لكان الأمر أهون ، أما أن يكابر ويلبس على نفسه وعلى الناس بأن قصده النصيحة للأمة وتحذيرها من الأخطاء، وهو يعلم من نفسه غير ذلك من التشفي أو الحسد أو التهوين من شأن من وقع منه الخطأ وتنفير الناس عنه ، فكل ذلك من المغالطة وتلبيس الشيطان وتزيينه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح ، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله، ويقول : والله إنه مسكين، أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت ، وربما يقول : دعونا منه ، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه، وهضماً لجنابه ، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة ، يخادعون الله بذلك ، كما يخادعون مخلوقاً، وقد رأينا فيهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه، إلى أن قال: وربما يذكره عند أعدائه ليتشفوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه، ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر، والله المستعان [5] .
فلا مدخل لملبّس ومغالط في إظهار حقده وتشفيه وحميته لنفسه في قالب النصح والديانة، وكل إنسان أدرى بنفسه وقصده .
ولكن يبقى هناك بعض القرائن التي تكشف هذا اللبس والخداع في نفس المدعي للنصح والديانة ، منها :
1- التشهير والتعيير بالمنصوح ، خاصة إذا كان من المصلحين وأهل العلم .
2- الظلم ، وعدم الإنصاف مع المنصوح ، وبخسه حقه ، وإخفاء خيره وحسناته .
3- عدم التثبت ، والأخذ بالشائعات ، وتصيد الأخطاء والفرح بها .
4- تغليب سوء الظن ، وتفسير المقاصد بدون دليل وبرهان .
5- أن يكون قد عرف عنه الكذب وقلة الورع .
6- المداهنة للظالمين والركون إليهم .(/8)
8- التلبيس على الناس برفع لافتات إسلامية تخفي وراءها الكيد للدين وأهله:
إن من أخطر ما يهدد الأمة في عقيدتها وأخلاقها أن تعيش في جو من اللبس والتضليل والخداع ، فلا ترى الحق بصورته المضيئة ولا الباطل بصورته القاتمة المظلمة ، بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين ، ومن أعظم الالتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من الكفار الصرحاء أو المنافقين الدخلاء برفع لافتات ، ظاهرها الإسلام ومحبة الدين والدعوة إلي ، وباطنها الكيد والمكر والخداع ، ويحصل من جراء ذلك : أن يُخدع كثير من المسلمين بهذه اللافتات فينشغلون بها ، ويثنون على أهلها بدلاً من فضحها وكشف عوارها وتعرية باطلها، وعن خطورة التباس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين ،
يقول ابن القيم رحمه الله: فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما ؛ كما قال عمر بن الخطاب : إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه ، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها ، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه من الجاهلية ، فإنها منسوبة إلى الجهل ، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل ، فمن لم يعرف سبيل المجرمين ، ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين ، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل ، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل ، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ، ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله [6] .
وقد قص الله سبحانه علينا في كتابه الكريم قصة قوم من المنافقين أرادوا خداع الرسول - صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين برفع لافتة إسلامية على صرح من صروح النفاق ، لكن الله (عز وجل) فضحهم وفضح لافتتهم وعرّى باطلهم ، ليكونوا عبرة للمسلمين في وقتهم ، وعبر التاريخ الطويل لمن يأتي بعدهم ممن يرفع لافتة إسلامية يخفي وراءها خبثه ومكره ، ويكيد بها المسلمين في أي زمان ومكان ، وهذه القصة ذكرها الله سبحانه في سورة التوبة بما يعرف بمسجد الضرار ، حيث أنزل فيها قرآناً يتلى إلى قيام الساعة ، قال سبحانه : (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)) [التوبة : 107، 108] ، واللافتات المرفوعة اليوم كثيرة وماكرة ، أقتصر منها على بعض الأمثلة :
ما يرفعه الذين بدلوا شرع الله عز وجل ورفضوا التحاكم إليه في بلادهم من لافتات يخدعون بها شعوبهم المسلمة، مثل إقامة الذكرى السنوية لإحراق المسجد الأقصى المبارك ، فترى هؤلاء المجرمين الخائنين لله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم يخدعون المسلمين بإحياء ذكرى حرق المسجد الأقصى كأنهم يهتمون بالمسلمين ومقدساتهم ، وهم قد خانوا الله سبحانه من قبل بتنحية شريعته واستحلال محرماته، وخانوا أمتهم بعد ذلك بالتذلل لليهود والنصارى، وما أصدق ما قاله الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله في محاضرة له مسجلة : إن إحراق المسجد الأقصى بل إحراق مساجد الدنيا كلها ليس أعظم جرماً من الاعتداء على شرع الله وحكمه وسلطانه في الأرض من قبل الأنظمة التي تتباكى على الأقصى وإحراقه .
__________
[1] عمدة التفسير ، ج4 ، ص156158 .
[2] مجموع الفتاوى ، ج28 ، ص168 .
[3] البخاري ، كتاب الأدب ، وانظر : فتح الباري ، ج10 ، ص528 .
[4] رواه الترمذي وأبو داود ، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (5044) .
[5] مجموع الفتاوى ، ج28 ، ص237238 .
[6] الفوائد ، ص109 .(/9)
ولا تنازعوا فتفشلوا ... ...
ورد لفظ ( التنازع ) في القرآن الكريم في سبعة مواضع، وورد لفظ ( الفشل ) في أربعة مواضع، وجاء الربط بين اللفظين في ثلاثة مواضع، قوله تعالى: { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر } (آل عمران:152) في وقعة أُحد؛ وقوله سبحانه: { ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر } (الأنفال:43) وذلك في غزوة بدر؛ ثم قوله: { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } (الأنفال:46) ولنا مع هذه الآية الأخيرة وقفة .
والتنازع: التخالف والاختلاف والتخاصُمُ. والفشل: الوهن والإعياء والجبن وانحطاط القوة، مادية أو معنوية .
ويلاحظ أن الخطاب القرآني قد ربط بين هذه المعاني، ورتب بعضها على بعض؛ رَبْط النتيجة بسببها، وتَرَتُّبَ المعلول على علته؛ وهذا شأن منهج القرآن الكريم في كثير من آياته، التي تقرر قانونًا عامًا، لا يتبدل ولا يتغير، بل يجري على سَنَنٍ ثابت مطرد لا اختلال فيه ولا تبديل { فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا } (فاطر:43) .
فقوله تعالى: { ولا تنازعوا فتفشلوا } إخبار واضح، ونهي جازم، وسنة ثابتة، يدل على أن الفشل والتراجع - على مستوى الأمة أو الأفراد - إنما مرجعه إلى التنازع والاختلاف؛ إذ العلاقة بين الأمرين علاقة تلازمية، كعلاقة السبب بالمسبَّب تمامًا، لا تتخلف إلا إذا تخلفت سُنَن الحياة الكونية، كأن تصبح قوة الجاذبية إلى السماء لا إلى الأرض !
وعلى ما تقدم، فإن النهي عن التنازع يقتضي الأمر بمنع أسباب التنازع وموجباته، من شقاق واختلاف وافتراق؛ والأمر بتحصيل أسباب التفاهم ومحصلاته، من تشاور وتعاون ووفاق .
ولما كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء والتوجهات، وهو أمر مركوز في الفطرة والجِبِلِّة البشرية، بسط القرآن القول فيه ببيان سيئ آثاره، ومغبة مآله، ورتب عليه في الآية هنا أمرين: الفشل { فتفشلوا } وذهاب القوة { وتذهب ريحكم } والفشل في الآية هنا على حقيقته، إذ يعني الفشل في مواجهة العدو ومدافعته؛ وذهاب الريح في الآية، كناية عن ذهاب القوة، والدخول في حالة الضعف والوهن .
وإنما كان التنازع مفضيًا إلى الفشل، لأنه يُثير التباغض والشحناء، ويُزيل التعاون والألفة بين النفوس، ويدفع بها إلى أن يتربص بعضها ببعض، ويمكر كل طرف بالآخر، مما يُطْمِع الأعداء فيها، ويشجعهم على النيل منها، ويجرئهم على خرق حرماتها، واختراق محارمها. وكم أُتيت أمة الإسلام على مر تاريخها - القديم والحديث - من جهة التنازع والتباغض، مع وضوح النص وصراحته في النهي عن هذا .
ومن ثَمَّ، جاء صدر الآية آمرًا بطاعة الله ورسوله، إذ بطاعتهما تُتلاشى أسباب التنازع والاختلاف، وبالتزام أمرهما تتجمع أسباب النصر المادي والمعنوي؛ فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وحين يكون الهوى المطاع هو الموجِّه الأساس للآراء والأفكار، فإذا استسلم الناس لأمر الله ورسوله، وجعلوا أهواءهم على وَفْق ما يحب الله ورسوله انتفى النزاع والتنازع بينهم، وسارت الأمور على سَنَنِ الشرع الحنيف، وضُبطت بأحكامه وتوجيهاته .
على أنَّه من المهم هنا حمل ( الفشل ) في الآية على معنى أعم وأوسع، بحيث يشمل الفشل في أمور الحياة كافة، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بحيث لا يقتصر الفشل على ساحات الوغى والقتال فحسب - كما هو السبب الذي وردت لأجله الآية الكريمة - وهو معنى لا تأباه اللغة، ولا يمنعه الشرع؛ وهذا أولى بفهم الآية، كما يُعلم ذلك مِن تتبُّع مقاصد القرآن، وكلياته الأساسية .
وحاصل القول في الآية: أن الاختلاف والتنازع عاقبته الفشل والخسران، وأن التعاون والوفاق سبب للفوز والنجاح في الدنيا والآخرة؛ والقارئ لتاريخ الأمم والشعوب - بما فيها تاريخ أمتنا الإسلامية - لا يعجزه أن يقف على العديد من الأحداث والشواهد والمشاهد - وعلى المستويات كافة - التي تصدق ما أخبر به القرآن الكريم. وصدق الله إذ يقول: { واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا } (آل عمران:103) فهل يعمل المسلمون بهذا الأمر الإلهي، أم ما زالوا عنه غافلين ؟ .
المصدر: الشبكة الإسلامية(/1)
ولاؤنا لمن؟
المحتويات
مدخل
معنى الولاء
أقسام الناس في الولاء والبراء
القسم الأول
القسم الثاني
القسم الثالث
لوازم الولاء للمؤمنين ونتائجه
الأمر الأول : المحبة للمؤمنين
الأمر الثاني : التألم لمصائبهم وآلامهم
الأمر الثالث : التأييد والإعانة
الأمر الرابع : حق النصرة
الأمر الخامس : المناصحة
الأمر السادس : حسن الظن والعفو عن الخطأ
خوارم الولاء للمؤمنين
أولها : وأشنعها إعانة الكفار عليهم
الثاني : الولاء القبلي والعرقي
الثالث : الولاء الإقليمي
الرابع : الولاء الحزبي
الخامس: الولاء على أساس المسائل الاجتهادية
مدخل
الحمد لله القائل في كتابه ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).
أحمد الله سبحانه وتعالى وأستغفره وأتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله أول من خاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤ منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)، أما بعد …
فإن عقيدة الولاء والبراء من أسس عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي ليست قضية متعلقة بالسلوك والأخلاق والمعاملة بل هي قضية عقيدة يترتب عليها الكفر والإيمان.
ومرجع هذا كله الولاء له سبحانه وتعالى فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يعلن ولاءه لله( إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين)، وما يتفرع عن ذلك من محبة المؤمنين وموالاتهم، ومن إظهار العداوة والبغضاء لأعداء الله عز وجل إنما يعود إلى هذا الأصل ألا وهو الولاء والبراء لله سبحانه وتعالى، ولذلك يحصر الله عز وجل الولاية بهذا الحصر( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون).
يتحدث الناس عن عقيدة الولاء والبراء كثيراً وهي تستحق أكثر من هذا. تستحق أن يعنى بها بحثاً وتأصيلاً وحديثاً ومناقشة؛ لأنها من أسس عقيدة أهل السنة والجماعة، وبخاصة أنه قد حصل الإخلال بها كثيراً في هذا العصر، وأنه قد يترتب على الإخلال ببعض واجباتها ولوازمها الكفر والردة.
ولكن جانب مهم في هذه العقيدة ينسى أو يغفل عنه عندما نتحدث عنها ألا وهو الولاء للمؤمنين، فالولاء والبراء أو الموالاة والمعاداة كلمة ذات شقين :
الشق الأول : هو الولاء أو الموالاة. الشق الثاني : هو البراء والمعاداة.
وحين يطلق هذا العنوان وهذا الحديث يتبادر إلى الأذهان وينصرف إليها الشق الثاني من هذه العقيدة ألا وهو البراء من الكافرين.
والشق الأول لا يقل أهمية عن الشق الثاني بل هما قضيتان متلازمتان لا ينبغي الفصل بينهما أبداً، ومن هنا فسأخصص بمشيئة الله هذه المحاضرة للحديث عن بعض جوانب الولاء للمؤمنين وما يتعلق بذلك.
معنى الولاء
نحتاج بين يدي حديثنا أن نعرف بمفهوم الولاء؛ فنعرِّج على بعض ما قاله أئمة اللغة وأهل الاصطلاح حول هذا المصطلح.
قال في لسان العرب: الموالاة -كما قال ابن الأعرابي- أن يتشاجر اثنان فيدخل ثالث بينهما للصلح ويكون له في أحدهما هوى فيواليه أو يحابيه، ووالى فلاناً إذا أحبه، والموالاة ضد المعاداة والولي ضد العدو.
وأما في الاصطلاح فهي: النصرة، والمحبة، والإكرام، والاحترام، والكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً.
أقسام الناس في الولاء والبراء
الناس عند أهل السنة بالنسبة للولاء والبراء أقسام ثلاثة :
القسم الأول
من يتبرأ منهم جملة وهم الكفار؛ فالواجب على المسلمين البراءة منهم والعداوة لهم والبغضاء، بل لا يكفي مجرد البغض ولا مجرد العداوة، فلا بد من إظهارها وإعلانها ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده)، أي ظهرت العداوة والبغضاء؛ فلا يكفي مجرد وجود البغض والعداوة في القلب بل لا بد من إظهارها وإعلانها لهم، سواء أكانوا من اليهود أم من النصارى أم من المجوس أم من المرتدين أم من أي طائفة أخرى ما داموا كفاراً أعداء لله سبحانه وتعالى.
ولقد قال الله سبحانه وتعالى لنبيه نوح لما سأله أن ينجي قائلاً( إن ابني من أهلي) قال الله سبحانه وتعالى( إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) ولذلك أغرقه الله سبحانه وتعالى مع الذين غرقوا.
وأما ما يجوز من التعامل معهم في البيع والشراء ونحو ذلك فهذا باب آخر غير المودة والمحبة القلبية والوقوف معهم ونصرتهم.(/1)
هذا هو الصنف الأول وهم الكفار على اختلاف مللهم ونحلهم، والواجب هو إظهار العداوة والبغضاء وإعلانها لهذا الصنف وهذه الطائفة.
القسم الثاني
من يوالى جملة وهم المؤمنون، وتتفاوت درجات الولاء والمحبة للمؤمنين داخل هذه الدائرة، فهم يشتركون في أصل الولاء لكن درجات الولاء والمحبة تتفاوت تبعاً لقربهم من الله سبحانه وتعالى وطاعتهم له، فلا شك أن للصالحين والأتقياء ولاء ليس لعامة المسلمين ، وللدعاة والقائمين بأمر الله سبحانه وتعالى والقائمين بدين الله عز وجل ولاء ليس لغيرهم، لكنهم جميعاً يشتركون في هذا الأصل ألا وهو الولاء والمحبة وما يترتب على ذلك من اللوازم التي سيأتي الحديث عنها بمشيئة الله.
القسم الثالث
من يجتمع فيهم الولاء والبراء، وهو من اجتمعت فيه الطاعة و المعصية من فساق المسلمين، أو من جمع بين السنة والبدعة التي لا تخرجه عن دين الإسلام، فهذا قد اجتمع فيه موجبان: موجب الولاء والمحبة وهو الإيمان والطاعة لله سبحانه وتعالى، وموجب البراء والبغض وهو المعصية لله سبحانه وتعالى، سواء كان عن هوى أو عن شبهة أو عن شهوة.
ويتفاوت الناس داخل هذه الدائرة تبعاً لمدى قربهم من المؤمنين الخلّص ومدى بعدهم عنهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : " ليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك، فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، فإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنه وبدعة، استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فبه من الخير واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر؛ فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة - إلى أن قال رحمه الله - هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه ".
وكلامة طويل في تقرير هذه القضية رحمه الله، وهي قضية قد يغفل عنها ويخطئ فيها كثير من الخيِّرين؛ فحينما يقع من بعض المسلمين مخالفة إما معصية أو شبهة أو هوى أو بدعة فإنه يتبرأ منه جملة ولا يمنح له أي قدر من الولاء.
لوازم الولاء للمؤمنين ونتائجه
هذا الولاء للمؤمنين ينشأ عنه لوازم وأمور، سواء قلنا هي أصل الولاء أم من لوازمه ونتائجه، فلا مشاحة في الاصطلاح، ومن هذه الأمور:
الأمر الأول : المحبة للمؤمنين
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ممن يظلهم الله سبحانه وتعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن المرء يحشر يوم القيامة مع من أحب، وأخبر صلى الله عليه وسلم أيضاً أن ذلك طريق لتحقيق وحصول لذة الإيمان وحلاوته فقال:" ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقده الله منه كما يكره أن يقذف في النار "، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم من شروط تحقيق حلاوة الإيمان وحصول لذته أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، فالمسلم متعبد بمحبة إخوانه المؤمنين.
الأمر الثاني : التألم لمصائبهم وآلامهم
وهي قضية لا يعذر بها أحداً أبداً، فالمشاعر القلبية أمر يملكه كل الناس، ولايعجز عنه أضعفهم، يملك المسلم أن يتألم لآلام إخوانه المسلمين، وأن يتفاعل مع مصائبهم وإن عجز عن أن يقوم بنصرتهم بماله أو نفسه .
ويشبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، فما مدى تحقق هذا الوصف فينا؟ وما مدى مراعاتنا لهذا الأمر؟ ما مدى تألمنا لآلام المسلمين ومصائبهم سواء أكانوا من عامة المسلمين أم من الدعاة والمصلحين؟
إن أبشع أنواع انتهاكات حقوق الإنسان وأبشع أنواع الظلم والاضطهاد يسام فيه إخواننا المسلمون، سواء أكانوا من الدعاة وهؤلاء لهم ولاء أعظم وأتم من غيرهم، أم كانوا من عامة المسلمين المستضعفين وهؤلاء أيضاً لهم حق الولاء والمحبة والنصرة.
وها نحن الآن لانفيق من مصيبة من مصائب إخواننا المسلمين حتى نصاب بمصيبة أخرى، حتى أصبحت مصائب إخواننا المسلمين بعضها يشغل عن بعض.
الأمر الثالث : التأييد والإعانة
فمن حق المؤمن أن نقف معه و نؤيده، خاصة عندما يكون قائماً بأمر الله سبحانه وتعالى داعياً لدين الله عز وجل يسعى إلى تطبيق شرع الله سبحانه وتعالى بين الناس، فلا يعذر أحد أبداً من المسلمين في ترك الوقوف معه وإعانته وتأييده ولو بالدعاء أو المقال واللسان .(/2)
ولقد كان علماء أهل السنة قديماً وحديثاً يعنون بذلك عناية واضحة، كان أسد بن الفرات قائماً بمنهج أهل السنة في بلاد المغرب وكان مواجهاً للمبتدعة فكتب له أسد بن موسى رحمه الله رسالة يؤيده فيها ويعينه، وقد روى هذه الرسالة ابن وضاح في كتابه( البدع والنهي عنها) يقول:"اعلم أي أخي أن ما حملني على الكتابة إليك ما ذكر أهل بلادك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك للناس، وحسن حالك، مما أظهرت من السنة وعيبك لأهل البدعة، وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم؛ فقمعهم الله بك، وشد بك ظهر أهل السنة، وقواك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم فأذلهم الله بذلك، وصاروا ببدعتهم مستترين، فأبشر أي أخي بثواب ذلك واعتد به أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله وإحياء سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ - إلى أن قال - فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثة إلى اليمن وأوصاه قال : (( لان يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حَمر كذا وكذا )) وأعظم القول فيه، فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك إلفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة ".
فأسد بن الفرات لم يكن غائباً عنه أن هذا العمل فاضل، ولم يكن غائباً عنه أثر إحياء السنة بل الذي دفع أصلاً أسد بن موسى إلى الكتابة إليه هو ما سمع عنه من قيامة بدين الله سبحانه وتعالى، لكن البشر مهما كانوا يحتاجون إلى الإعانة.
ومن هنا كان من حق المؤمنين علينا وبخاصة القائمين بأمر الله سبحانه وتعالى والدعاة إلى الله عز وجل أن نؤيدهم ونعينهم ونقف معهم؛ فالكلمة التي تقولها لأحد القائمين لأمر الله ربما زادته حماسة وقناعة بما هو عليه، فازداد عملاً فصار لك أنت نصيب من هذا العمل.
إن هذا القائم بدين الله لا بد أن يواجه مضايقة، ولا بد أن يواجه حرباً وفتنة( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) ومن هنا فهو بحاجة إلى من يؤيده، ومن يدعمه ويقف معه.
وهذا موقف آخر يسلكه الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله، فقد سمع عن صديق حسن خان وهو من علماء بلاد الهند وكان قائماً بالسنة ومنهج أهل السنة فأرسل رسالة طويلة لكني أكتفي بجزء مما ورد فيها:
يقول الشيخ رحمه الله :" من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم والشريف المقدم المسمى محمد الملقب صديق، زاده الله من التحقيق وأجاره في ماله من عذاب الحريق، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد :
فالموجب للكتاب إبلاغ السلام والتحفي والإكرام شيد الله بك قواعد الإسلام، ونشر بك السنة والأحكام، اعلم وفقك الله أنه كان يبلغنا أخبار سارة بظهور أخ صادق ذي فهم راسخ وطريقة مستقيمة يقال له صديق، فنفرح بذلك ونُسر لغربة الزمان وقلة الإخوان، وكثرة أهل البدع والأغلال ثم وصل إلينا كتاب الحطة وتحرير الأحاديث من تلك الفصول فازددنا فرحاً وحمداً لربنا العظيم، ثم قال : فبينما نحن كذلك إذ وصل إلينا التفسير بكامله فرأينا أمراً عجيباً ما كنا نظن أن الزمان سيسمح بمثله وما قرب منه - ثم أثنى على التفسير الذي قرر فيه مذهب السلف ثم أبدى له بعض النصائح؛ وذلك أنه ذكر بعض أقوال المبتدعة وأحسن الظن بهم، فقال له بأسلوب لطيف- إني اجترأت عليك محبة لك، ولما أسمع عنك أنك تحب النصح -ثم اقترح عليه أن يشرح نونية ابن القيم وبعد ذلك قال : إن لي ابناً وآمل أن يأتي ويطلب العلم عندك ".
ما أثر هذه الرسالة على صديق رحمه الله وهو هناك في بلاد الهند تأتيه هذه الرسالة تجوب الفيافي والأقطار وتقطع المحيطات من بلاد الجزيرة، تأتي إليه مثل هذه الرسالة فتشد من عضده وتؤيده وتعينه.
وقد كتب أحد علماء الدعوة وهو الشيخ راشد بن جريس، رسالة أخرى إلى صديق خان، حين كان في تركيا، فعثر على بعض كتبه، ومما جاء في رسالته: " كنا نظن أن هذه الطريقة لنا وليس لنا فيها مشارك في الدنيا حتى وقفنا على بعض مؤلفاتك الشريفة فازددت بها فرحاً وسروراً ولي أصحاب على معتقدكم الطاهر ومؤلفات مشايخنا مطابقة لما أنتم عليه ".
الأمر الرابع : حق النصرة
وهو قريب من حق التأييد والإعانة لكننا نعني بالتأييد ماكان ابتداء، أما النصرة فهي عندما يتعرض المؤمن للظلم، وهذه النصرة على درجات :(/3)
الدرجة الأولى : النصرة باليد وذلك أن يدفع عنه الظلم قال عز وجل:( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق)، فإذا اعتدي على المسلمين في أي بلد كان واجب على المسلمين جميعاً أن يهبوا لنصرتهم، أن ينصروهم باليد و بالسلاح أما مجرد النصرة باللسان وإظهار التعاون معهم فهذا أمر إنما هو لعامة المسلمين وآحادهم، أما الذين ولاهم الله أمر المسلمين فأقل ما يجب عليهم تجاه إخوانهم المسلمين هو يقفوا معهم وقوفاً ظاهراً وأن ينصروهم ويؤيدوهم قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فسئل الرسول صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله نصرته مظلوماً فكيف أنصره ظالماً فقال : تردعه عن الظلم فذلك نصره ".
وما من امرئ مسلم يخذل أخاه في موقف يحب أن ينصر فيه إلا خذله الله في موقف يحب أن ينصره فيه، فمن خذل المسلم خذله الله ، وهذه العقوبة لا بد أن تأتي في دار الدنيا عاجلاً قبل الآخرة، وأما ما عند الله فهو أشد وأبقى ، والأيام دول ومن يتصور أن حركة التاريخ لا بد أن تكون ثابتة مستقرة؟ فقد تتبدل الأحوال فنحتاج إلى أن ينصرنا هذا المسلم الذي تخلينا عن نصرته وعن إعانته وعن الوقوف معه وتأييده.
والمسلم حينما ينصر أخاه المسلم، فدافعه لذلك القيام بالواجب الشرعي، لا أن يتحقق له هو النصر في الدنيا حين يحتاج إليه.
الدرجة الثانية : النصرة باللسان؛ بأن ينصر أخاه المؤمن بلسانه سواء عندما ينال من عرضه أو يغتاب أو يظلم في نفسه أو ماله أو ولده، وليس له قدرة على نصرته بيده وعلى إعانته؛ فالواجب عليه أن ينصره بلسانه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً:" من ذب عن عرض أخيه المؤمن ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة "، وهذا عندما يذب المؤمن عن عرض عامة إخوانه المؤمنين من عامة الناس فما بالك بخاصة الناس كمن كان عالماً أو طالب علم أو صاحب طريقة مستقيمة ودعوة إلى الله سبحانه وتعالى؟ لا شك أن أولئك ممن يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالذب عن أعراضهم والدفاع عنهم، في الحديث الآخر الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم : " المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخ المؤمن يكف عنه ضيعته ويحوطه من وراءه ".
وانظر إلى هذا الخلق كيف يتمثل به معاذ رضي الله عنه فعندما تخلف كعب بن مالك عن تبوك سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه : قال ما فعل كعب، فقال رجل حبسه برداه والنظر إلى عطفيه، فقال معاذ رضي الله عنه : بئس ما قلت والله ما نعلم عليه إلا خيراً، فهذا معاذ يتكلم بهذه الكلمة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينتظر أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعاذ رضي الله عنه لا يدري مالسبب والمانع الذي منع كعب بن مالك من التخلف عن غزوة تبوك، ومع ذلك يقوم ويدافع عن عرضه في محضر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو سكت فالنبي صلى الله عليه وسلم بشر قد يظن أن هذا الرجل الذي ذكر ما ذكر إنما قاله عن علم وإحاطة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال : " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بالحجة من بعض ".
ودأب أهل السنة أيضاً الانتصار للمؤمنين والذب عنهم باللسان ولذلك الإمام الذهبي له مواقف كثيرة يدركها من يقرأ في كتابه سير أعلام النبلاء فهو كثيراً ما يدافع وينافح عن أئمة أهل السنة ومن ذلك ما ذكره عن وكيع فقد ذكر الفتنة التي أصيب بها في مكة ثم استطرد وقال بعد ذلك وهذا بحث معترض في الاعتذار عن إمام من أئمة المسلمين وقد قام في الدفاع عنه مثل إمام الحجاز سفيان بن عيينة .(/4)
وحصل أن صارت فتنة بين بعض أمراء نجد فاستعان أحدهم بالأتراك على أخيه فألف أحد العلماء ـ يقال له ابن عجلان ـ رسالة يجيز فيها الاستعانة بالمشركين فرد عليه الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله، وأغلظ حتى حكم عليه بالردة فلامه الناس وأكثروا عليه فكتب الشيخ عبد اللطيف " وهذا هو الشاهد" في رسالة إلى زيد بن محمد آل سليمان قال : " وبلغني أن بعضهم دخل في هذا الباب واعترض على ابن عتيق وصرح بجهله ونال من عرضه وتعاظم هذه العبارة وزعم أنه غلا وتجاوز الحد فحصل بذلك تنفيس لأهل الجفاء وعباد الهوى والرجل وإن صدر منه بعض الخطأ في التعبير، فلا ينبغي معارضة من انتصر لله وكتابه وذب عن دينه وأغلظ في أمر الشرك والمشركين على من تهاون ورخص وأباح في بعض شعبه، وفتح بعض وسائله وذرائعه الغريبة المفضية إلى ظهوره وعلوه ورفض التوحيد ونكس أعلامه ومحو أثاره وقلع أصوله وفروعه ومسبة من جاء به، رأى قولة رآها وعبارة نقلها وما دراها -يقصد ابن عجلان - من إباحة الاستعانة بالمشركين مع الغفلة والذهول عن صورة الأمر الحقيقية، فيجب حماية عرض من قام لله وسعى في نصر دينه والذي شرعة وارتضاه وترك الالتفات إلى زلاته والاعتراض على عبارته، فمحبة الله والغيرة لدينه ونصرة كتابه ورسوله مترتبة عليه محبوبة له مرضية يغتفر فيها العظيم من الذنوب، ولا ينظر معها إلى تلك الاعتراضات الواهية والمناقشات التي تفت من عضد الداعي إلى الله والملتمس لرضاه وحبه كما قيل فالأمر سهل في جانب تلك الحسنات " ثم قال بعد ذلك " ولما قال المتوكل لابن الزيات، يا ابن الفاعلة وقذف أمه قال الإمام أحمد :" أرجو الله أن يغفر له نظراً إلى حسن قصده في نصر السنة وقمع البدعة وذكر بعد ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال:اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم ".
فالشيخ عبد اللطيف رحمه الله يقر بأن الشيخ حمد قد صدر منه خطأ وقد تجاوز، وهذا أمر من شأن البشر؛ فحين يكون عند الإنسان غيرة لله ورسوله وحمية لدين الله فقد يقع في الخطأ، وقد يتجاوز، وهاهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء الأعرابي وبال في المسجد قاموا إليه وانتهروه، وفي مواضع عديدة يقول أحدهم : يا رسول الله دعني أضرب عنقه فقد نافق، فقائل هذه المقولة قد تجاوز الحد الواجب في الإنكار على مثل هذا الرجل، فلماذا يلام بعد ذلك من قام غيرة وحمية لدين الله سبحانه وتعالى؟ فقد يتجاوز في عباراته وقد يقع في بعض الخطأ ولكن هذا لا يسقط حق الولاء والنصرة والوقوف معه.
إن من الإخلال بواجب الولاء للمؤمنين ألا نرى في هذه المواطن إلا الخطأ والزلل.
الأمر الخامس : المناصحة
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " قيل يا رسول الله نصرته مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً قال : " تردعه عن الظلم فذلك نصرك إياه "، فمن حقه علينا أن نناصحه، بل بلغت منزلة النصيحة أن يبايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليها، كما قال جرير رضي الله عنه : " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم".
بل يجعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين هو النصيحة كما قال : " الحج عرفة " وكما قال : " إنما الربا في النسيئة "، قال صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة "، قالوا لمن يا رسول الله قال : لك ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
فمن حق المؤمن علينا أن نناصحه، وعندما نناصح المؤمن -وخاصة من يقوم لدين الله سبحانه وتعالى وينتصر له ثم يقع في الخطأ- فيجب أن نسلك الأسلوب المناسب، فليست المناصحة أن نؤلف كتاباً فنرد عليه ونشنع في أخطائه، وليست المناصحة أن نتكلم بهذا الأمر على المنابر أمام الناس، ونتحدث به في المجالس العامة، ونقول إن هذه نصيحة فإن كان صادقاً وإن كان جاداً فليقبلها، المناصحة لمثل هؤلاء تختلف عن الإنسان المظهر لفسوقه وفجوره وحربه لدين الله.
الأمر السادس : حسن الظن والعفو عن الخطأ
قال الله عز وجل :( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً)، والظن أكذب الحديث؛ فمن حق المسلم علينا أن نحسن الظن به فقد يقول كلاماً أو يعمل عملاً فحينئذٍ يجتهد الناس في تفسيره وتحميله ما لا يحتمل، بل يصل الأمر ببعضهم أن يقول: إنك تقصد كذا وكذا، وتقصد فلاناً وفلاناً من الناس، وكأن هذا المنتقد قد درجة عالية من العلم أو الكشف فأصبح أعلم من الناس بمقاصدهم ونواياهم.
وفي المقابل فمن يقع عليه خطأ من إخوانه الذين يسيئون فهم مايقول، فالواجب في حقه أن يعفو عنهم ويتنازل؛ فكما أني أريد الناس أن يتحملوا أخطائي وكما أنني أقول للناس دائماً عندما يلوموني على خطأ إني بشر، غير مجرد من الهوى غير مجرد من الظلم لا أستطيع أن أتخلى عن هذه الطبائع التي فطر الله الناس عليها فكذلك يجب أن أعامل الناس بهذا المنطق.(/5)
خوارم الولاء للمؤمنين
أولها : وأشنعها إعانة الكفار عليهم
بل هذه رده عن دين الله سبحانه وتعالى، وحين عد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين من نواقض الإسلام ذكر الاتفاق على هذا الأمر بقوله رحمه الله : " واعلموا أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله أو صار مع المشركين على الموحدين - وهذا هو الشاهد - ولو لم يشرك - أكثر من أن تحصر في كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم ".
وقال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمه الله : " ومن جرهم وأعانهم على المسلمين بأي إعانة فهي ردة صريحة "
الثاني : الولاء القبلي والعرقي
الموالاة على أساس القبلية من أمور الجاهلية، وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم "، وإنما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليمحوا آثار هذه الولاءات والفوارق والفواصل فيبقى الناس أمة واحدة كلهم لآدم، لاشرف ولا نسب يفرق بينهم؛ فهذا أبو لهب في غاية الشرف والمكانة والمنزلة في قريش ومع ذلك ما نفعته مكانته، وأنزل الله فيه سورة تتلى إلى يوم القيامة( تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد)، وهذا هو بلال رضي الله عنه الله عنه يسمع النبي صلى الله عليه وسلم خشخشة نعاله في الجنة.
الثالث : الولاء الإقليمي
كانت معايير الولاء لدى أهل الجاهلية تتمثل في ولاء القبيلة، ولا يزال في الكثير من المسلمين شيء من ذلك، وحين نجح أعداء الإسلام في تفريق المسلمين إلى بلاد وشيع وأحزاب، نشأ الولاء الإقليمي.
فهذه الحدود الجغرافية بين بلاد المسلمين طارئة، ولا يمكن أن نعلق عليها أحكاماً شرعية وننسى أن ذلك بني على أصل فاسد وهي هذه الفوارق؛ فالمسلمون أمة واحدة.
كثير من المسلمين بل من الناس الأخيار ومن طلبة العلم أصبحوا يوالون على هذا الأساس، فمن ليس من بلادهم له معاملة خاصة، فهو يسمى أجنبياً ولو كان مسلماً، والأصل فيه الخيانة وعدم الثقة، بل ربما الأصل فيه فساد الديانة، وليس له حق في الثراء كأن هؤلاء هم الذين بأيديهم خزائن السماوات والأرض.
وينعكس أثر هذه النظرة عليه، فيبادلنا الشعور نفسه، ويتحين الفرصة لرد الصاع صاعين، فنحتج بذلك نحن على سوئه، وكنا السبب في تكوين هذا الشعور لديه.
وكيف يعامل الآن المسلم الوافد من بلاد الهند أو بلاد بنجلادش أو الشرق أو الغرب، وكيف يعامل العلج الصليبي القادم من أمريكا أو من أوروبا؟ فهل نحن نتمثل في ذلك عقيدة الولاء والبراء؟ هل نحن نشعر بأن هذا المسلم أخ لنا له حق ومكانه ونشعر بأن ذاك علج صليبي حاقد؟.
إن مراجعة هذه القضية وتصحيحها لا يمكن أن يتم بمجرد كلمات وانتقاد؛ فهو خلل تربوي يحتاج إلى وقت وجهود.
وأحياناً يكون الولاء الإقليمي داخل حدود الدولة الواحدة ، وقد يكون له أثر في التأهل لوظائف شرعية !
إنه ولاء جاهلي أسوأ من ولاء الأحزاب والجماعات الإسلامية المعاصرة على أساس الانتماء الحزبي .
الرابع : الولاء الحزبي
وهو الولاء على حسب الأحزاب أو التجمعات أو الاتجاهات الفكرية أو غيرها، وقد نما هذا الداء مع انتشار الحركات والجماعات الإسلامية في هذا العصر.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- رسالة قيمة بعنوان " الوصية الكبرى "، وهي موجودة في الفتاوى ضمن المجلد " 28 " أرسلها إلى أصحاب عدي بن مسافر وهو أحد الزهاد ترجم له الذهبي في السير وأثنى عليه وكان له أتباع وأصحاب غلوا فيه، فأرسل له رسالة يناصحهم فيها ويبين لهم عقيدة أهل السنة وكان مما قاله الشيخ رحمه الله : " وكذلك التفريق بين الأمة وامتحانهم بما لا يأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مثل أن يقال للرجل أنت شكيلي أو قرفندي فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان " ثم قال :" بل الأسماء التي قد يسوغ أن نسمى بها، مثل انتساب الناس إلى إمام كالحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، أو إلى شيخ كالقادري والعدوي ونحوهم، أو مثل الانتساب إلى القبائل كالقيسي، أو إلى الأمصار كالشامي أو العراقي والمصري، ولا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بها ولا يوالي بهذه الأسماء ولا يعادي عليها، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان، وأولياء الله هم أولياؤه الذين آمنوا وكانوا يتقون ". فأقر رحمه الله الانتساب والتسمي، لكنه أنكر الولاء على أساس الأسماء.(/6)
ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لما كسع غلام رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال المهاجري ياللمهاجرين وقال الآخر ياللأنصار قال النبي صلى الله عليه وسلم " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم " فقد سوغ لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يتسموا بهذا الاسم، وأن ينتسبوا إلى المهاجرين وأن ينتسبوا إلى الأنصار، بل هذا مصطلح شرعي، جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لكن هذا الانتساب والانتماء حين يكون أساساً يوالي عليه ويعادي عليه تصبح المسألة من دعوى الجاهلية.
فلا بد أن نربي أنفسنا على التجرد، فلا يوالي أحدنا فلاناً لأنه من تلامذة شيخه، أو لأنه يلتقي معه في مدرسه فكرية أو تجمع أو.. أو.. إلى آخر ذلك، بل إذا ساغ التسمي -كما قال الشيخ- إلى مذهب أو إلى طريق أو إلى غير ذلك فلا يسوغ أن يكون هذا أصلاً يوالى ويعادى عليه.
الخامس: الولاء على أساس المسائل الاجتهادية
سبق أن قررنا في مقدمة الحديث أن المؤمن إذا وقعت منه معصية أو بدعة أو اجتهاد خاطئ فهذا لا يخرجه عن الولاء جملة، وإن كان قد يحصل له من البراء بقدر ما حصل عنده من الجهل والهوى.
أما المسائل الاجتهادية التي يسوغ فيها الاجتهاد فلا يجوز أن تؤثر بحال على الولاء؛ فلا نصنف من يخالف في المسائل الاجتهادية ضمن ذلك الصنف الذين يجتمع فيهم الولاء والبراء، بل هو من المؤمنين الذين تجب موالاتهم ونصرتهم وتأييدهم إذا حصل له هذا الأمر عن طريق اجتهاد سائغ.
وعلى هذا الشأن كان أئمة أهل السنة، قال الإمام أحمد عن إسحاق : " لم يعبر الجسر مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً ".
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :"أما إذا كانت المسألة من مسائل الاختلاف عند الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية، فتلك مسألة أخرى لا توجب خلافاً ولا عداوة بين المسلمين".
أليس من الخطأ والتجاوز والإخلال بهذا المفهوم أن تجعل المسائل الاجتهادية معياراً أو أساساً للولاء والبراء فمن يوافقني على اجتهادي في هذه القضية له الولاء والمحبة والوقوف معه ومن يخالف في مثل هذه المسألة فإنه مبتدع ضال زائغ أشد على الإسلام من أعدائه؟
أليس من الخطأ والظلم والحيف والتجني أن تكون هذه المسألة الاجتهادية معياراً لتقويم الناس؟ فمن قال بتحريم هذا الأمر فهو أخ لي، وهو الإنسان صاحب الدعوة على المنهج الصحيح إلى غير ذلك، ومن خالف فيها فهو مبتدع مخالف للمنهج إلى غير ذلك من الأوصاف.
وهب أن فلاناً من الناس اجتهد فرأى هذه الوسيلة وسيلة دعوية جائزة وهو اجتهاد سائغ، وأنت تعتقد أنها محرمة فهل يعني هذا أن تسقط كل ما يقوم به؟ وهل يعني هذا ألا ننظر إلى فلان من الناس إلا من هذه الزاوية الحادة؟ هل يعني هذا أن نجعل هذه القضية هي قضية القضايا عندنا فمن رأى هذا العمل حرام وبدعة فهو صاحب منهج سليم ، ومن رأى أن هذا العمل جائز أو مشروع فهذا رجل مبتدع ضال؟
ومن صور ذلك: أن تجد الشاب معجباً بفلان من الناس يثني عليه ويدافع عنه ويتبنى أراءه فحينما يسمع له اجتهاداً في مثل هذه المسائل يسقطه جملاً وتفصيلاً، ويحول ذلك المنطق الذي كان يستعمله في الثناء عليه والذب عنه إلى الذم.
ومن صور الإخلال بواجب الولاء لإخواننا المسلمين، أنه حينما يجتهد بعضهم فيتخذ موقفاً نرى أنه خلاف المصلحة، ويترتب على ذلك تسلط الأعداء عليه، نلوم إخواننا ونرى أنهم يستحقون ما أصابهم، وننصب أنفسنا محامين ومدافعين عن الباطنيين ومدافعين عن العلمانيين ومدافعين عن أعداء الله الذين يسلكون الوسائل ويعقدون المؤتمرات، ويجرون البحوث والدراسات ويستقدمون المستشارين من أعداء الله عز وجل كل ذلك من أجل حرب الإسلام وحرب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ونرى أنهم محقين فيما فعلوا تجاه إخواننا.
والواجب الشرعي في ذلك، أن نبين الخطأ بالأسلوب الشرعي، ثم نمنح ولاءنا لإخواننا حين يكون عدوهم عدونا جميعاً وهم أهل العلمنة والفساد، الذين لايفرقون بيننا مادمنا دعاة إلى منهج الإسلام الشامل لأمور الحياة.
هذا بعض ما تيسر قوله حول هذا الموضوع، والأمر كما قلت يحتاج إلى أكثر من ذلك، وكل ما قلته إنما هو اجتهاد، واقتناعات شخصية فإن أصبت فمن الله سبحانه وتعالى، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان و الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بريئان مما أقول.(/7)
ولادات متكررة - الأنثى هل تلد من حولها؟!
مفكرة الإسلام: اختلفت الآراء في الإجابة على السؤال التالي: هل المرأة تلد جميع من حولها؟! أي ابنها وزوجها وأخاها وأباها... أم أنها فقط تلد ابنها؟!
فمن الآراء من يرى أن معاملة المرأة للرجل كطفل تعني أنه غير كفء, ما يشعره بعدم الكفاءة, وهذا الشعور سيفقده احترامه لذاته, ويصل به إلى مرحلة الرفض التام, ومعاملة الرجل كطفل يخنقه ويسلبه حريته وشخصيته ويظهر بمظهر الضعف, بينما يرى آخرون أن المرأة المبدعة والناجحة هي التي تعرف دائمًا كيف تجعل زوجها يولد من جديد. فالإنسان الناجح لا يولد مرة واحدة, وإنما يولد باستمرار وبشكل متواصل, وكل مرة يُولد فيها يمكن أن يحقق نجاحًا من نوع جديد يتناسب مع الولادة الجديدة, أما الإنسان الفاشل فهو الذي وُلد مرة واحدة, فأصبح جامدًا ساكنًا لا يستطيع مواكبة تطور الحياة وتجددها، ويغدو 'نسخة مكررة' ولحنًا معادًا.
والمرأة التي تستطيع أن تلد زوجها مرة ثانية وثالثة ورابعة هي المرأة الأم, فالأمومة بمعناها الواسع الذي يعني الإبداع والعطاء والحنان والحب هي أهم الخصائص في المرأة السوية.
وليس ثمة امرأة متوازنة من أدنى الأرض إلى أقصاها لا تعتبر أن رفيقها هو 'طفلها' قبل كل شيء، سواء كان هذا الرفيق ابنها الصغير أو زوجها القوي؛ لأن المرأة تفكّر بالعقل أقل من الوجدان والعاطفة, ولذلك سيظل حتى رفيقها القوي القادر هو طفلها على الدوام إذا استطاعت أن تحتويه بكل وسائل الاحتواء العاطفية والروحية والجسدية.
ولكن ليس معنى هذا أن تحاصره وتكبّل حركته وتفكيره, فارضة عليه كل قيود الأسر والتحكم, فتتدخل في كل صغيرة وكبيرة، وإنما تعده وتهيئه حتى ينطلق انطلاقة القوي القادر في شتى ضروب الحياة.
إن كل طفل مُعد لكي يخرج من أمه, ثم ينطلق انطلاقة تؤمنها له، ولكن بوسع المرأة الأم أيضًا أن ترتبط بهذا الطفل إلى الأبد ارتباط التكبيل والسيطرة, فيفقد شخصيته وتميزه وقدرته على مواجهة الحياة, وما تفعله الأم بولدها يمكن أن تكرره مع رفيقها. تلك هي قضية كل امرأة 'أن تعطي أو أن تحتفظ'.
وهنا يمكن تشبيه المرأة كالبحر الذي يحمل السفن أو يبتلعها, فقد يحمل البحر السفن إلى آفاق بعيدة ومتعددة ومتجددة، وقد يبتلعها في بطنه, فتكون حكرًاً عليه في أعماقه.
هل تبدع الرجل حبًا وحنانًا وعبقرية ونجاحًا فتلده ثانية كطفل نهل من أمه قوى نفسية جديدة؟! أم أنها تحول بينه وبين أن ينطلق ثانية قويًا قادرًا نحو عمله وأفكاره؟!
أنت عائق أمامي:
قال لزوجته بعد ما كثرت المشاكل بينهما: أنت عائق في طريقي؛ فلا أجد منك الرعاية والحنان والمساعدة، ولا تكُفّين عن تكلفتي بأعباء صغيرة يمكنك القيام بها دوني, نفهم من ذلك أن الرجل يريد من المرأة أن تكون أمًا في العطف والحنان والرعاية, وفي نفس الوقت لا تكبّله بالقيود, وتجعل من حضنها السجن المغلق على صاحبه, حتى لا ينطلق ويبدع ويأخذ طريقه للعمل والنجاح.
ونعم الأم:
السيدة خديجة رضي الله عنها الزوجة الأم التي أحاطت زوجها صلى الله عليه وسلم بكل ما عرفته معنى الأمومة من معاني, فقالت له كلمتها المشهورة عندما جاء إليها فزعًا خائفًا: 'كلا.. والله ما يخزيك الله أبدًا, إنك لتصل الرحم.. وتحمل الكل.. وتكسب المعدوم.. وتقري الضعيف.. وتعين على نوائب الحق'.
خديجة الأم احتوت زوجها بالحب والحنان والرعاية والمال والمساندة والإيمان والثبات والقوة, حتى قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عندما غارت منها السيدة عائشة وهي متوفاة: 'آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس, ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد الناس'.
وخلاصة القول:
إن الرجل أي رجل يمكن بواسطة المرأة أن يولد مجددًا يومًا بعد يوم أو أن يموت, والمرأة تستطيع أن ترعى جميع من حولها بالحب والحنان والعطف والمساعدة، كالأب والزوج والابن والأخ وجميع الأهل, لتساعدهم أن يولدوا مجددًا يومًا بعد يوم وتصل بهم إلى طريق النجاح, أو تكون سببًا في موتهم وقتل براعم النجاح عندهم..
وفّق الله المرأة إلى خير الولادة..(/1)
ولدى أعظم الناس ولدى لا أمل فيه
مفكرة الاسلام : عبارتان بينهما بون شاسع من المشاعر والانفعالات تجيش في نفوس الأبوين وبينهما كذلك أيام وشهور وسنين من حلم بدأ عظيما ثم إذا به يذوب شيئًا فشيئًا حتى ينقلب إلى كابوس يجثم على القلب والنفس.
المشهد الأول:
حركة دائبة في المنزل، استعداد أعلى مستوى، ضيف مهم قادم، لكنه ضيف يُستعد له منذ أشهر ويراعى في كل خطوة مصلحته وما ينفعه، ثم تأتي الساعة الحاسمة ساعة قدوم الضيف، وتزداد علامات القلق والترقب والانتظار، الجميع ما بين واقف يبتهل وآخر يزرع الأرض جيئة وذهابًا، وثالث يرفع يديه إلى السماء، والقلوب كلها معلقة برب السماء تدعوه، والأعين مثبتة على باب في آخر الردهة ينتظرون أي خارج منه بلهفة ... وفجأة ينفتح الباب، يخرج المكلف برئاسة لجنة الاستقبال ليعلن عن وصوله سالمًا معافى إلى أرض المطار، وما هي إلا دقائق حتى يزول القلق والترقب وتحل محله أمواج دافقة من الانفعالات والمشاعر الجياشة الداخلية والخارجية.
المشهد الثاني:
أياد أربع تحمل الضيف الذي أقبل إلى هذه الدنيا منذ أقل من ساعة تنقل إلى جسده مشاعر دافقة لقلبين يتعلقان بمضغة لحم رقيقة ضعيفة وأعين تنظر على هذا الضيف فترى فيه أحلامًا عجزت هي عن تحقيقها، فإذا بها تتحقق وواقع تعيشه فتراه يكتمل على أحسن صورة على يد هذا الضيف الكريم الذي يشع البهجة بمجرد وجوده. أفكار في الذهن تتعاظم وآمال تعلو وتكبر وكلمات تنطلق من الأفواه برغبات وأماني لا حد لها تبشر بتحققها على يد هذا الضيف الكريم.
حقًا 'ولدي أعظم الناس'.
المشهد الثالث:
إنه يرفع صوته علي 'أكلمه فلا ينظر إلىّ'، يصاحب أناسًا لا أطمئن إلى هيئتهم, يتلفظ بألفاظ غريبة، لا يعرف مصلحته، ينام كثيرًا، لا يتكلم معي عن خصوصياته، يسكت في المنزل ويضحك مع أصدقائه، يسرح كثيرًا، علاقته مع إخوته مضطربة، علاقته مع ربه تسوء، يسأل أسئلة محرجة، عثرت على صور وكتابات فاضحة في متعلقاته، ويلبس ملابس غريبة، يقص شعره بطريقة غير طبيعية، مطالبه المادية تتزايد، تأخر دراسي، قلق واكتئاب، حساسية شديدة، أحلام يقظة.
بصراحة ' ولدي لا أمل فيه'.كيف يحدث مثل هذا الانقلاب العجيب؟ كيف يتحول حلم الأمس إلى كابوس اليوم؟
الإجابة على هذا السؤال بسيطة، لكنها تحتاج منكما أيها الأبوان إلى تأمل هذا المثل الواقع.
رجل يقدم على وضع حصيلة أمواله كلها في مشروع ضخم لكنه بدون دراسة جدوى، ثم يقوم بعد ذلك بتحويل مسئولية الإشراف على هذا المشروع وخطوات إنفاق أمواله إلى آخرين بغير متابعة له، ثم هو بعد ذلك يفاجأ بخسارة أمواله وضياع نقوده، وتنطلق
التعليقات :
ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك
'يداك أوكتا وفوك نفخ' ، 'على نفسها جنت براقش'.
كيف يمكن أيها الأب أيتها الأم أن تنتظرا من وليدكما تحقيق الأحلام والآمال وأنتما قد أوكلتما أمر رعايته وتربيته إلى محيطه من مجتمع بأفراده وإعلامه وعلاقاته وأفكاره، ألقيتما البذر ثم تركتموه حتى الحصاد بغير رعاية أو عناية.
إن الدول تضع خططًا استراتيجية تقدر على أقل مستواها بالخمس سنوات لصيانة البنية التحتية من صحة وتعليم وإعلام وخدمات وغيرها وهي في ذلك تصف النقلات في البناء والتعمير بوصفها مشروعًا قوميًا تصرف له الأموال وتنشغل به الأفكار والعقول وتبذل له الأوقات.
ابنك مشروعك القومي:
إن رجلاً يحقق الآمال وينشئ الأحلام واقعًا ملموسًا وتتعلق به الأنظار معجبة بما بذل وما وصل إليه، إن رجلاً مثل هذا ليحتاج أن يكون في بداية نشأته قد تم التعامل معه على أنه مشروع قومي صرفت عليه الأموال وبذلت له الأوقات وانشغل به المحيطون، ووفروا له كل ما يستلزمه نجاح هذا المشروع القومي.
سؤال: هل ولدك 'أعظم الناس' هو مشروعك القومي؟
وهنا سيتركنا بعض الآباء مقتنعين أن الإجابة لديهم لا، فيبرر ذلك حقيقة صدمتهم في أولادهم بينما الأغلبية ستظل معنا مجيبة على سؤالنا السابق بنعم فننطلق بهم إلى الفقرة التالية. نعم لقد كان ابننا مشروعنا القومي، فلقد عشنا من أجله ووفرنا له الأموال لتحقيق رغباته وطموحاته، ولم نمنعه من شيء، بل وضحينا في سبيل ذلك براحتنا ورغباتنا وتحملنا الكثير من المشاق، وأحيانًا الغربة الجسدية وأحيانًا أخرى الغربة الروحية بالعمل طوال اليوم، نعم ولدنا 'أعظم الناس' هو مشروعنا القومي مأكله ومشربه وملبسه ونفقاته ورغباته ومطالبه.(/1)
لكن عفوًا سيدي لنا هنا وقفة .. ابنك ليس مدينة تبنى لكنه نفخة من روح ومسكة من طين إنه كتلة من المشاعر والأفكار والأحاسيس والتفاعلات، هل تراك أيها الأب الفاضل قد تلمست حاجات ولدك الحقيقية؟ ثم هل تراك بعد ذلك قد أحسنت ترتيب أولوياتك؟ وبعد فمن سيتبقى الآن بصحبتنا من الآباء والأمهات هم هؤلاء الذين اعتبروا ابنهم مشروعهم القومي فبذلوا له الأوقات تسبق الأموال، وأيقنوا أن الجانب النفسي والعاطفي والفكري له الأولوية في تحقيق التوازن النفسي والاقتراب من تحقيق صورة الكمال في تنفيذ المشروع القومي.
لكننا سنجد من بين هؤلاء الأباء والأمهات من ما زالت لديهم تلك الشكاوى وهذه الدهشة التي تعتريهم أحيانًا من تصرفات أولادهم ومن تغيرات سلوكياتهم خاصة عند انتقالهم من مرحلة إلى أخرى في فترات عمرهم فإلى هؤلاء نقول:
* إنه لا بد لوصول الأباء والأمهات إلى الصواب في التعامل مع أبنائهم إلى الاتصال بذوي الاختصاص من علماء الشريعة والمختصين بالتربية للنشء المسلم ممن يتمتعون بقاعدة علمية شرعية قوية، ومن أصحاب الخبرة والمشهود لهم بالعمل الدعوى الواقعي عميق الأثر في المجتمع المسلم.
* لا بد لك أيها الأب الفاضل والأم الفاضلة من مراعاة الاعتدال والتوازن في التعامل مع الظواهر الخاصة بالابن أو ما يمكننا أن نطلق عليه عبارة 'بين' وفيما يلي بعض من هذه الإشارات بين الإفراط والتفريط.
1ـ بين السطحية والعمق:
في تعامل كثير من الأباء والأمهات مع تصرفات الأبناء نجد أنها تفتقد التوازن بين الإفراط في السطحية أو العمق، والتفريط فيها.ويتمثل ذلك في الصور الآتية:
أـ تضخيم التصرفات غير المتكررة أو بعض الكلمات التي تخرج من الابن بصورة عفوية لكن غير مقصودة، والتعامل مها على أنها أمراض متأصلة، واتخاذ الإجراءات للقضاء عليها، مما يعطي شعور التربص وتصيد الأخطاء عند الأبناء.
ب ـ التعامل مع التصرفات المتكررة بصورة سطحية أو لا مبالاة إما لعدم اعتبارها مؤشرات على مشاكل تبدأ في النمو أو لاعتقاد أنها طبيعية في هذه المرحلة التمردية فلا حاجة للانشغال بها وعلاجها وتنبه 'فمعظم النار من مستصغر الشرر'.
2ـ بين رغباتنا ورغبات أبنائنا:
كم تختلط الأفهام وتتوه الحقائق وسط الرغبات والأماني الأحلام، وإني لمقدر بشدة لحقيقة سيطرة الأحلام والأمنيات على بعض الآباء، فقد عِشت أخي الأب العمر كله ترجو تحقيق هذا الحلم لكن ابنك إنسان له آماله وأحلامه وأمنياته.
فكن معه ولا تكن عليه، ولأن يحقق ولدك 'أعظم الناس' رغباتك بمحض إرادته أفضل من أن تقوم بإلزامه بتحقيقها مكرهًا ثم يحملك عواقبها فتسوء العلاقة بينكما.
3ـ بين العقاب والثواب:
وهذه من أكثر المواقف التي يحدث فيها الخلل في الاتزان بين الإفراط والتفريط وذلك عن طريق:
أـ وسائل العقاب فمنها ما أنكره الشرع من تعيير الابن المستمر بخطأ ارتكبه مثلاً.
ب ـ درجة العقاب بحيث لا يكون على مستوى الخطأ زيادة أو نقصًا وإهمالاً.
ج ـ تخصيص بالعقاب أن يعاقب الابن على ما يفعله غيره ولا يعاقب عليه، أو يفعله أبوه كالتدخين مثلاً.
د ـ عدم الإثابة على الفعل الحسن بالكلمة أو الفعل أو الإشارة.
و ـ شكل العقاب بإهانته أمام الآخرين وفضحه.
هذه فقط لمحات قليلة لك أخي الأب أختي الأم، كل غرضي منها أن نتنبه أننا قبل أن نربي أبناءنا بأشد الاحتياج إلى تربية أنفسنا، وإذا كنا لا نعرف دواخل أنفسنا ودوافعها فكيف بمعرفتنا لأبنائنا فهم كالأغراب، وهم ينامون بجوارنا. لا تدع ابنك يحلم وينمو ويكبر بمفرده فتفاجأ فيما بعد بولدك هذا الحلم العظيم الذي داعب خيالك عندما حملته مضغة لحم ينقلب إلى كابوس جاثم ناقم عليك لا تملك عليه سيطرة، وتنبه فالقاعدة تنص على:
'إن أخلاق المراهق وتصرفاته تعكس أسلوب تربيته وهو طفل'.
إننا بحاجة إلى فهم دوافع الابن في تصرفاته في مرحلة المراهقة وحقيقة هذه الدوافع وأسبابها، ثم واجبنا تجاه هذه التصرفات وكيف نستثمرها وندفع بها في طريق تحقيق الأحلام والرغبات، أو بالأصح تكوين الشاب والفتاة الناضجين مكتملي النمو العقلي والنفسي والجسدي، ونحن في ذلك نتعلم كما يتعلم أبناؤنا، ونستفيد كما يستفيدون ونحتاج إلى إعادة تصويب أفكارنا وتصوراتنا باستمرار فنحن أمام مشروع قومي لا يجوز الانشغال عنه بأي حال من الأحوال، وعفوًا نسوق لكم المشهد الأخير لنقرب البعيد ونتلمس الغيب الذي وعد الله تعالى به كل أب وأم جزاءً لهما على حرصهما على بناء مشروعهما القومي، وبذل الجهد كله لتحقيق كماله.
المشهد الأخير:(/2)
ابن يقدم أمه وأباه على زوجته ويبرهما في كبرها يسأل عليهما يكرمهما، ولا يهينهما، يبر أقرباءهما وأصدقاءهما، يدعو لهما، يخدمهما، وهو سبب شرفهما، وقرة عينهما وفخر قلوبهما في الدنيا بما حققه من استكمال مستلزمات وظيفة الاستخلاف في لأرض، وفي الآخرة بالشرف الكريم، إذ يلبسان حلة الكرامة وتاج الكرامة، فيقال: بم هذا؟ فينادي بأخذ ولدكما القرآن. فكم تهون حينذاك تلك الساعات الطوال المبذولة في الانشغال بمعاناته ومشاركته فكره والصبر عليه، وتنبه فكما تقول عند الإفطار في الصيام: 'ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله' فها هنا نقول: 'ذهب الأرق، والقلق والألم والمعاناة، وأنس القلب وفرح وانشرح الصدر وانفسح، وثبت الأجر إن شاء الله, فهنيئًا لمن رُزِق بكنز فحافظ عليه وأدى أمانته فكوفئ جزاء أمانته وصبره، 'وما يلقاها إلا الذين صبروا'.(/3)
ولعلكم تشكرون ... ...
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ،أما بعد :
فإن اكتمال النعمة على العبد وتمامَها، سواءٌ بانتصاره على نفسه ،أو على عدوه في معركة ،أو نجاحٍ في دعوة ،أو فراغٍ من موسم طاعةٍ وُفِّق فيه العبد لما تيسر من العمل الصالح، كُلُّ ذلك يحتم عليه عبادتين عظيمتين، ألا وهما الشكر والاستغفار، وما تتضمنان من الاعتراف بالنعمة والمنة.
لقد كان الشعور بمنة الله ـ بما يوُفّقُ له الإنسان من خير ديني أو دنيوي ـ أمراً مستقراً في نفوس الصالحين ،لهَجَتْ به ألسنتهم ،وتحركت به شفاههم، وظهر ذلك على أعمالهم.
تأمل معي ـ أخي ـ قول نبي الله يوسف ـ بعد ما حدث له ما حدث، وجمع الله شمله بأبويه وإخوته، وتمت له النعمة: "رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ" (يوسف:101).
إنك لتتعجب ـ والله ـ من هذا النبي الكريم الذي انتزع نفسه من فرحة اللقاء، وأنس الاجتماع ليلهج بهذه الدعوات المباركة، لهَجَ الشاكرين الأواهين، المنيبين .. هذه الدعوات المليئة بالافتقار والتذلل، والرغبة في تمام النعمة عليه بأن يتوفاه ربه مسلماً، وأن يلحقه بالصالحين من عباده.
وهكذا شأن الصالحين ! لا تلهيهم فرحة اكتمال النعمة، ولا تمام الأمنية عن اللهج بالاعتراف بها لمسديها، وشكره عليها، وسؤالها الثبات على الحق حتى الموت !
وتمضي مسيرة الشاكرين، لتقف بنا عند النبي الشاكر، والأوّاب الذاكر : سليمان بن داود _عليهما الصلاة والسلام_، والذي حفظ القرآن له أكثر من موقف عبر فيه عن شكره لنعم ربه.
فهو يعترف بذلك حينما بهره موقف من النملة من نذارتها لقومها بقولها : " ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ"(النمل: من الآية18) !
تأمل كيف لم تشغل هذا النبي الكريم لحظة الاستماعِ لحديث هذه النملة !
ولا لحظة الاستمتاع بمعرفة لغة هذه الحشرات الصغيرة التي حجبت لغتها عن غيره من البشر !
لم يشغله ذلك كله عن التوجه إلى من أنعم عليه بهذه النعمة، بل حرّك فيه هذا المشهد الرغبة في الشكر لمستحقه، فهو الذي علمّه منطق الطير !
ويتكرر مشهد الشكر عند هذا النبي الكريم، لمّا رأى عرش بلقيس مستقراً عنده ـ فيقول : "هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ" (النمل:40).
إنها حال الشاكرين ، فسليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم تذهله هذه الآية العظيمة، وهي حضور عرش بلقيس بسرعةٍ هي أقل من طرفة العين، ويوضع عنده مستقراً، وكأنما هو عنده منذ مدة من شدة استقراره ، لم تذهله عن شكر المنعم بها، بل لهج بالثناء والحمد ـ والحمد رأس الشكر ـ !
وهكذا تستمر القافلة المباركة ؛ لتقف عند أكمل الخلق شكراً واستغفاراً ،ألا وهو نبينا، فبعد حياةٍ حافلة بالبلاغ ،والجهاد ،والصبر ،والبذل ،والعطاء ،تتنزل على قلبه سورة النصر ، تلك السورة العجيبة التي جمعت ـ رغم قصرها ـ بين البشرى بالفتح، وبين نعي أكرم نفس بشرية،فيمتثل _صلوات الله وسلامه عليه_ هذا الأمر في أمرين : أحدهما قولي، والآخر فعلي :
أما القولي فتحدثنا أمنا عائشة عنه، فتذكر أنه كان يكثر أن يقول ـ في ركوعه وسجوده ـ سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن ،أي : يمتثل أمر الله له بالتسبيح والاستغفار، والحديث في الصحيحين.
وأما الامتثال الفعلي، فيتجلى في دخوله ـ بأبي هو وأمي ونفسي ـ مكة عام الفتح منكساً رأسه، متخشعاً، معلناً بذلك خضوعه، وتواضعه، وتذلله لربه _جل وعلا_ ، ثم شفع هذه الهيئة المعبرة عن التواضع العظيم بثمان ركعات من الضحى، شكراً لله _تعالى_ على هذه النعمة الكبرى.
وأنت إذا تأملت القرآن وجدت أن الله _تعالى_ صرّح بالثناء على صفوة خلقه من أولي العزم من الرسل _عليهم الصلاة والسلام_ بأنهم كانوا من الشاكرين، فوصف نوحاً بأنه " كَانَ عَبْداً شَكُوراً"، وإبراهيم بأنه كان "شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ " ،وقال لكلٍ من موسى ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ : "وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ" ،وقد كانا ـ والله ـ كذلك.
فتأمل في كلمة (شكور ) فهي صيغة مبالغة، وتأمل في كلمة (شاكر) كيف جاءت على صيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار.(/1)
فإذا كان هذا حال سادة الرسل، فغيرهم أحوج ما يكون إلى أن تكون هاتان العبادتين شعاراً لهم ودثاراً، وخصوصاً في ختام مواسم الطاعات ،أو عند نجاح بعض المشاريع الخيرية، ونحو ذلك، فإن حاجة العاملين تشتد إلى الإكثار من هاتين العبادتين ،مع أهمية بقائهما حاضرتين لا يفتر اللسان عنهما ما دام في الجسد روح، فبالشكر تدوم النعمة، وبالاستغفار تُغفر الزلة وتقال العثرة.
وهانحن نودع موسماً من أعظم مواسم الطاعات ،وسوقاً من أعظم أسواق الآخرة، وغني عن القول أن كل عامل ـ مهما عمل ـ ففي عمله نقص بوجه من الوجوه، ولو لم يكن إلا أنه لا يبلغ مكافأة نعمة واحدة من نعم الله _تعالى_ فقط ، فكيف بنعمه كلها ؟!
لذا فنحن مضطرون أشد الاضطرار إلى أن تتواطأ ألسنتنا مع قلوبنا على شكرٍ يحفظ النعمة، واستغفارٍ يرقع الخلل، عسى ربنا أن يتقبل ما منَّ به علينا، ويتجاوز عما قصّرنا فيه، وما أكثره !
وفي هذه المناسبة بالذات نجد أمراً خاصاً بالشكر، فبعد أن ذكر الله _تعالى_ فرضية الصيام، وشيئاً من أحكامه، جاء التعليل الرباني لهذه الأحكام بقوله : " يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون"(البقرة: من الآية185) ،والمعنى : ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق.
يقول التابعي الجليل بكر بن عبد الله المزني ـ رحمه الله ـ : قلت لأخٍ لي : أوصني ! فقال : ما أدرى ما أقول ! غير أنه ينبغي لهذا العبد ألا يفتر من الحمد والاستغفار، فإن ابن آدم بين نعمةٍ وذنبٍ ،ولا تصلح النعمة إلا بالحمد والشكر، ولا يصلح الذنب إلا بالتوبة والاستغفار.
ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : "وما أتي من أُتي إلا من قِبَلِ إضاعة الشكر، وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر ـ بمشيئة الله وعونه ـ إلا بقيامة بالشكر، وصدق الافتقار والدعاء، ومِلاكُ ذلك : الصبر، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس فلا بقاء للجسد".
وحري بمن وفق للشكر أن يلاقي من ربه أعظم مما قدّم ،فإن الرب أعظم شكراً.
يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : "والله _تعالى_ يشكر عبده إذا أحسن طاعته، ويغفر له إذا تاب إليه، فيجمع للعبد بين شكره لإحسانه، ومغفرته لإساءته، إنه غفور شكور .
والله _تعالى_ أولى بصفة الشكر من كل شكور، بل هو الشكور على الحقيقة، فإنه يعطي العبد ، ويوفقه لما يشكره عليه، ويشكر القليل من العمل والعطاء، فلا يستقله أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف مضاعفة، ويشكر عبده بقوله، بأن يثنى عليه بين ملائكته، وفي ملئه الأعلى، ويلقي له الشكر بين عباده، ويشكره بفعله، فإذا ترك له شيئاً أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئاً رده عليه أضعافاً مضاعفة، وهو الذي وفقه للترك والبذل، وشَكَره على هذا وذاك ..." انتهى، وهو كلام نفيس أنصح بمراجعة بقيته في آخر كتابه (عدة الصابرين) .
والحمد الله رب العالمين ،وصى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كاتب المقال: الشيخ/ عمر المقبل
المصدر: موقع المسلم(/2)
( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه )
قال الشنقيطي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية:
ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن يوسف - عليه السلام - همّ بأن يفعل مع تلك المرأة مثل ما همت هي به منه.
ولكن القرآن الكريم بين براءته - عليه الصلاة والسلام - من الوقوع فيما لا ينبغي، حيث بين شهادة كل من له تعلق بالمسألة ببراءته وشهادة الله له بذلك واعتراف إبليس به.
أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم: يوسف، والمرأة، وزوجها، والنسوة، والشهود.
- أما جزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فقد ذكره الله - تعالى -في قوله: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) وقوله: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ... ).
- أما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة: (ولَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) وقولها: (الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ).
- وأما اعتراف زوج المرأة ففي قوله: (قَالَ إنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ).
- وأما اعتراف الشهود بذلك ففي قوله: (وشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ.. ).
- وأما شهادة الله - جل وعلا - ببراءته ففي قوله: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ).
- وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته ففي قوله - تعالى -: (فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ).
فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ولا شك أن يوسف من المخلصين، كما صرح - تعالى -به في قوله: (إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ) فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي.
فإن قيل: قد بينتم دلالة القرآن على براءته - عليه السلام - مما لا ينبغي في الآيات المتقدمة.
ولكن ماذا تقولون في قوله - تعالى -: (وهَمَّ بِهَا)؟ فالجواب من وجهين: الأول: إن المراد بهمّ يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى.
وقال بعضهم: هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى، وهذا لا معصية فيه لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف، كما في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: « اللهم هذا قسمي فيما أملك » يعني ميل القلب الطبيعي.
ومثال هذا: ميل الصائم إلى الماء البارد، مع أن تقواه يمنعه من الشرب وهو صائم.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: « ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة ».
لأنه ترك ما تميل إليه نفسه بالطبع خوفاً من الله، و امتثالاً لأمره، كما قال - تعالى -(وأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى)..
الثاني: وهو اختيار أبي حيان: أن يوسف لم يقع منه هم أصلاً، بل هو منفي عنه لوجود البرهان.
ثم قال الشنقيطي - رحمه الله -: هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على اللغة العربية، لأن الغالب في القرآن وكلام العرب: أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه كقوله: (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّسْلِمِينَ) أي إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب، لأن جواب الشرط وجواب لولا لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلاً عليه..
وكقوله: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ) أي إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم.
وعلى هذا القول فمعنى الآية: - وهم بها لولا أن رأى برهان ربه.
أي لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فبهذين الجوابين تعلم أن يوسف - عليه السلام - بريء من الوقوع فيما لا ينبغي، وأنه إما أن يكون لم يقع منه همّ أصلاً، وإما أن يكون همه خاطراً قلبياً صرف عنه وازع التقوى، فبهذا يتضح لك أن قوله - تعالى - (وهَمَّ بِهَا) لا يعارض ما قدمنا من الآيات على براءة يوسف من الوقوع فيما لا ينبغي.
ثم يقول الشيخ - رحمه الله -: فإذا علمت مما بينا دلالة القرآن العظيم على براءته مما لا ينبغي، فما رواه صاحب (الدر المنثور) وابن جرير وأبو نعيم، من أن يوسف - عليه السلام - جلس منها مجلس الرجل من امرأته وأنه رأى صورة يعقوب عاضاً على إصبعه أو صاح به صائح...
هذه الروايات منقسمة إلى قسمين: - قسم لم يثبت نقله عمن نقل عنه بسند صحيح، وهذا لا إشكال في سقوطه.
- وقسم ثبت عن بعض من ذكر، ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك فالظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات لأنه لا مجال للرأي فيه، ولم يرفع منه قليل ولا كثير إليه - صلى الله عليه وسلم -.(/1)
وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف اعتماداً على مثل هذه الروايات.
[أضواء البيان 2/49-60] قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وأما قوله: (ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ).
فالهّم اسم جنس، كما قال الإمام أحمد: الهم همّان همّ خطرات وهمّ إصرار.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العبد إذا همّ بسيئة لم تكتب عليه.
وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة، وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة، ويوسف - عليه السلام - همّ همّا تركه لله، ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قام المقتضى للذنب وهو الّهم، وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله، فيوسف - عليه السلام - لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها وقال - تعالى -: (إنَّ الَذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُم مُّبْصِرُونَ).
وأما ما ينقل من أنه حل سراويله، وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضاً على يده، وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك، فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذباً على الأنبياء، وقدحاً فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - حرفاً واحداً..[دقائق التفسير 3/272 - 273]
http://www.albayan-magazine.com المصدر:(/2)
...ولكن...
د. عبد الكريم بكار 15/10/1426
17/11/2005
إذا تأملنا في بنية الخطاب الإسلامي الحالي وجدنا أنه يتجه شيئًا فشيئًا نحو التعقيد والتركيب، حيث الخوض في التفاصيل، وحيث استخدام الاستدراكات والاستثناءات والاحترازات على نحو واسع ومتسع. وهذا يشكل علامة إيجابية على تطور الفكر الإسلامي واكتسابه المزيد من الحساسية حيال التنوع العظيم الذي فطر الله –جل وعلا- عليه الأشياء والأحداث. كما أنه يعبر عن شعور أعظم بالمسؤولية تجاه التفاصيل الحياتية الكثيرة. هذا كله لا ينفي وجود شريحة إسلامية ليست قليلة، من الكتاب والمتحدثين، مازالت مفتونة بالتقريرات الجازمة والأحكام الصارمة؛ ظنًا منها أن ذلك يعبر عن التمكن العلمي، كما أنه يحفز الناس على العمل الصالح؛ إذ يحشرهم في الزاوية الضيقة! والخبر السارّ هنا هو أن هذه الشريحة تسير في اتجاه التقلص وليس في اتجاه التمدّد والاتساع. ولعلنا نلقي بعض الأضواء على هذه المسألة عبر المفردات الآتية:
1- إننا حين نستخدم أدوات مثل (لكن) و (إلا) و(ربما) فإننا نعبِّر في الحقيقة عن عدد من المعاني، قد يكون أهمها الشعور بقصور النظام اللغوي الذي نستخدمه. ونحن نعرف أنه ليس هناك نظام لغوي كامل، وذلك القصور كثيرًا ما يتجلى في قصور القواعد التي نعبر من خلالها عن الظواهر، مما يلجئنا في النهاية إلى استخدام أدوات تدل على الاستثناء، ونحن نعبر عن ذلك القصور بقولنا: "لكل قاعدة شواذ"، إلى جانب الشعور بعدم كفاءة النظام اللغوي نشعر أننا نتحدث عن ظواهر مركبة، يصعب التعبير عنها بجمل جامعة أو بجمل بسيطة ومختصرة، ولهذا الشعور دلالة على النضج الفكري الذي يتجسد في الوعي على امتلاك الرؤى المركبة ذات الأبعاد المتعددة. إن الأطفال ومَن في حكمهم ممن حُرم من التزوّد بالمعرفة الجيدة يقنعون بأي تعبير، ويسارعون إلى تصديق أي مقولة؛ لأنهم لا يملكون من النضج العقلي والثراء المعرفي ما يجعلهم يبحثون عن المهمل والمسكوت عنه والشاذ والقليل من الظواهر المطروحة للبحث والتداول. ولك أن تتخذ من هذا معيارًا للتقدم العقلي، فالذين يكثرون من الاستدراك والتحرز في كلامهم ويحاولون نقد المقولات والقواعد العامة يكشفون عن وعي بالطبيعة المركبة لمعظم ظواهر الوجود، والذي يحفزهم من جهته على الأناة في إصدار الأحكام واقتراح طرق المعالجة. أما الذين ما زالوا في أول طريق النضج، فإنهم يفرحون بحفظ القوانين العامة والجمل ذات الدلالات المطلقة، ويتضايقون ممن يجادلهم في شيء منها. وإن المتعمق في كثير من الحكم والأمثال الموروثة والحديثة يجد أنها تنزع إلى التعمق والتعبير المبسّط عن قضايا كبرى، لكنها تُتَلقّى من لدن كثيرين بشيء من الفهم الحرفي، مع أنها في الأصل رؤى وخبرات لأشخاص معينين، أي أنها نابعة من نظرة خاصة أو جزئية. وأتمنى أن يتفرّغ لإعادة النظر فيها بعض الباحثين النابهين بغية وضع الأمور في نصابها.
2- الرشد الفكري يعني أشياء عديدة، ومن أهم ما يعنيه وضوح الرؤية، وينبغي أن نفترض ابتداء أن المعرفة النامية والخبرة المتراكمة تتيح للمتأخر أن يرى ميزات الأشياء وسلبياتها على نحو أفضل من رؤية المتقدم لها. إن المتأخر أشبه بمن يقف على كتفي عملاق، فهو يرى ما يراه العملاق، وما لا يراه. لكن هذا لا يتم إذا اعتقدنا أننا محرومون من المواهب التي حبا الله بها السابقين، أو اعتقدنا أن كل ما قاله السابقون يظل أقرب إلى الصواب؛ على حين يظل ما نقوله نحن يظل أقرب إلى الخطأ. إن الله –سبحانه- أتاح للمتأخرين من الاطلاع على قوانين الكون أضعاف أضعاف ما أتاحه للسابقين؛ ولا مانع يمنع من أن نتمكن من كشف سنن نفسية واجتماعية وإصلاحية وتربوية كانت غائبة عن استيعاب معظم من سبقنا؛ فالمعطي الوهّاب رب السابقين واللاحقين، ولا على حاجر على فضله. إن هذا الكلام قد يثير الوحشة لدى بعض الناس، مع أن كثيرًا مِن تقدّمنا اليوم ربما كان مرتبطًا بالعمل وفق معطياته ولوازمه.(/1)
3- الرؤية السطحية تتشكل من مجموعة كبيرة من المسلمات والمقولات البسيطة والمستعجلة وذات الطابع الشخصي. أما الرؤية المتعمقة المدققة فهي رؤية مركبة. والرؤية المركبة هي رؤية تفصيلية بامتياز، والمتأمل في الذكر الحكيم يجد توجيهًا قويًا نحو تعميم هذه الرؤية وترسيخها في العقلية الإسلامية. وهذا التوجه يتجلّى تارة في الاستثناء، وتارة في إطلاق تعبيرات غير حاسمة، وتارة في تعبيرات تؤسس إلى المحاسبة والاحتزاز من التعميم والشمول. وهذه بعض النماذج لما يدل على ذلك. يقول الله –سبحانه-: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر]. وقد تلقى الوعي الإسلامي الاستثناء في هذه السورة على أنه محورها والمقصود الأكبر منها؛ حيث إننا نستشهد بها في معظم الأحيان للدلالة على الأهمية الكبرى للتواصي بلزوم الحق والصبر. ويقول –جل وعلا-: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً) [آل عمران: 75]. إن أهل الكتاب متفاوتون في أمانتهم، كما أنهم متفاوتون في صدقهم وفي درجات انحرافهم، وفي مدى عداوتهم للمسلمين. والرؤية التفصيلية هنا تحرضنا على أن ننظم تجاههم ردود أفعال مختلفة، ونتوقع منهم مواقف وسلوكات متباينة. وفي هذا نفع ومصلحة للجميع. ويقول سبحانه: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف: 103]. وقال: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ: 13]. مهما بذلنا من الجهود الدعوية، ومهما كانت الغلبة للمسلمين في الأرض فإن أهل ملة الإسلام سيظلون أقلية، وهذا تشهد به كل مراحل التاريخ، وهذا ما يشهد به الواقع المعيش. وهذا الشأن في الشاكرين القائمين بحقوق النعمة. إننا لا نستطيع تعميم حكم الإيمان أو الكفر أو الشكر أو الاستقامة في أي عصر من العصور. وعلينا قبل إصدار الأحكام أن ندقق ونتحقق. ثم إن جهود الأمة المسلمة بناء على هذا استهدف زيادة عدد المؤمنين والشاكرين وتقليل أعداد الكافرين والجاحدين، ليس أكثر من ذلك. والانطلاق من هذا المقصد يعرض علينا التحلّي ببعض الأخلاق والآداب، واستخدام بعض الوسائل الخاصة وللحديث صلة.
ولكن ... (2)
د. عبد الكريم بكار 29/10/1426
01/12/2005
ذكرت في الحلقة السابقة الاهتمام بمسألة التفصيل والاستثناء والاستدراك في الخطاب الإسلامي، وأنه يعبر عن نوع من اتساع الرؤية وتقدّم الخبرة. وسأكمل هذا الموضوع اليوم عبر المفردات الآتية:
1- حين نتحدث عن ظواهر كبرى أو أوضاع عامة، فإن المشكلة التي قد تواجهنا كثيرًا ما تتمثل في تحديد المستثنى والمستثنى منه أو الخط العام، وما هو شاذ عنه أو دخيل عليه: هل الأمة الآن في حالة صحوة، يتخللها بعض الإشكالات والسلبيات؟ أو أن الأمة في غفوة على الرغم مما نشاهده من بعض الإشراقات والمبشِّرات والإنجازات؟ هل أوضاعنا تسير نحو الأحسن أو أنها تسير نحو الأسوأ؟
عشرات الأسئلة التي نطلقها هنا وهناك من أجل توفير نقطة ارتكاز للفهم أو توفير مدخل للوعي. ويكون الجواب في معظم الأحيان متعددًا ومتباينًا. وحين يصل الأمر إلى هذا الحد من التشويش فإن كل أشكال البحث والنقاش تصبح من غير معنى، ومن غير جدوى، كيف يكون في إمكاننا التغلب على هذه المشكلة والصيرورة إلى درجة من الوضوح تسمح بالمعالجة الجيدة؟
في اعتقادي أن الوصول إلى وضعية متألقة ينقطع معها الجدل، ليس في حيز الممكن؛ لأسباب معروفة، لكن يمكن أن نحصل على شيء جيد إذا خطونا الخطوات الآتية:
أ – تحديد التعريفات والمصطلحات المراد استخدامها في عملية (التقييم)، ومحاولة الاتفاق عليها قدر الإمكان. وأذكر في هذا السياق أنني طالما سمعت من الشباب الغيور الخيّر من يقول: متى النصر؟ متى نرى رايات الإسلام خفاقة في كل مكان؟
وأذكر أنني في إحدى المرات ردَدْت على سؤال أحدهم بسؤال جديد، هو: ما الذي تعنيه بالنصر؟ هناك نصر عسكري، وهناك نصر سياسي وآخر تربوي ورابع تعليمي وخامس اقتصادي.... فعن أيّ نصر تسأل؟ ولم يجد ذلك الشاب ما يجيب به.
حين يقول قائل: ما أسباب سقوط العالم الإسلامي اليوم؟ فلنقل قبل أن نتحدث عن أسباب السقوط: ما المقصود بالسقوط؟ وما المكان الشاهق الذي كانت تحتله الأمة في المجالات التي أشرنا إليها؟ وما الشواهد والإحصاءات التي تدل على تراجع الأمة في كل ذلك؟
لو أننا اتخذنا هذا المنهج في تناول الأشياء، فسوف نجد أن معظم الناس يتحدثون عن أشياء كثيرة, لا يعرفون عنها إلا القليل. وكثير من الناس يقول ما يقوله من باب التقليد بعيدًا عن أي مناقشة أو محاكمة!(/2)
ب – تقسيم الظواهر موضع البحث إلى أصغر أجزاء ممكنة. إن من الصعب ومن غير الموضوعي أن تقول: إن التعليم لدينا ينتقل من سيئ إلى أسوأ، أو من حسن إلى أحسن؛ إذ إن هذا الحكم يشمل عشرات الألوف من المدارس والمؤسسات التعليمية. وإذا نظرنا بتأمل إلى واقع المدارس، فإننا سنجد قطعًا أن بعضها يقدم تعليمًا متميزًا جدًا، ربما كان أفضل مما تقدمه المدارس المناظرة في العديد من الدول المتقدمة. كما أننا سنجد أن بعضها يسيء إلى عقول الطلاب ونفوسهم أكثر مما تفعله مدارس مناظرة في الكثير من دول العالم. لكن السؤال الذي يُطرح بعد هذا هو: ما الذي يمنح للتعليم في هذا البلد مسحته العامة أو وضعه الطبيعي: أهي المدارس السيئة أم الممتازة؟ وما الذي يشكل الشاذة والاستثنائي؟ وللإجابة عن هذا السؤال فإنه لا مناص من الخوض في التفاصيل والقيام بإجراء المسوح والدراسات المساعدة.
إن الإنسان يصدر دائمًا عن رؤية محدودة وجزئية، وإن الإحصاء المنهجي هو الذي يحول دون الفرق في ذلك.
جـ - المقارنة مساعد آخر على كشف المطِّرد من الشاذ والمستثنى من المستثنى منه. يمكن لنا حتى نتعرف على الوضعية الحقيقية لمؤسسة أو جماعة أو هيئة... أن نقوم بمقارنتها بنظيراتها المعاصرة، أو التي كانت موجودة في مرحلة تاريخية معينة. ولكن علينا أن نحذر في هذا السياق من المقارنات الخاطئة؛ إذ تعوّد كثير من الناس أن يقارنوا أشياء بأشياء لا تناظرها ولا تماثلها. من خلال المقارنة نصل إلى بعض التحديد، ونوفر أساسًا لإصدار الأحكام. إن مقارنة الأشياء المحسوسة بأخرى مثلها تأتي بنتائج واضحة؛ لأن الأسس التي تقوم عليها المقارنة تكون محددة بشكل جيد؛ فنحن اليوم نقارن مثلاً بسهولة الناتج القومي لأي بلد إسلامي مع أي بلد آخر، ونحصل على نتائج ذات مغزى، وذلك لأن حساب الناتج يقوم على أساس متّفق عليه، وهو جمع قيم السلع والخدمات التي ينتجها القطر، وتقسيم حاصل الجمع على عدد السكان، لكن من الصعب أن نقارن مقارنة جيدة بين الناتج الأدبي والدعوي والتربوي لجماعة إسلامية وجماعة مسيحية. يمكن –بالطبع- أن نقارن تنظيم إحداها بتنظيم الأخرى، أو نقارن الإتقان في الأداء أو سرعة الحركة لمعالجة الأخطاء.
2- الخطاب الوعظي والتعليم التلقيني مسؤولان إلى حد بعيد عن تشكيل (التفكير الحدِّي) الذي يطرب للمطلقات والكلمات الكبيرة، وينفر من التقييد والاستثناء والاستدراك. إن كلاً من الواعظ والمعلم الملقِّن يظن أن مَن أمامه غير صالح للنقاش والحوار، وغير صالح لاستيعاب التفاصيل؛ كما أن الرغبة الجامحة في خروج المتلقي بشيء محدّد وصارم تدفع في اتجاه تناسي الشذوذات –والتي قد تشكل ظواهر كبرى- والإعراض عن الاستثناءات.
أما الخطاب المشوب بالنقد والحرص على بيان العلل والأسباب وكشف العلاقات فإنه يساعد على بناء العقل المركّب القادر على رؤية الأشياء من زوايا مختلفة، وعلى مستويات متباينة، ومن شأن التعليم القائم على الحوار والتساؤل والاستنتاج إشاعة ثقافة تهمّش الاستبداد الفكري، وتحبّذ البحث والتأمل والاهتمام بالمستثنى والمهمل والمنزوي.
3- سيظل للخطاب الحدِّي العاطفي الجانح إلى التعميم و(البيع بالجملة) تأثير واسع في الجماهير العريضة، وسيظل كل ما يخرج عن القواعد العامة مصدرًا للمضايقة، ما لم يرتقِ المستوى المعرفي للناس، وما لم تنتشر فيهم المفاهيم الدقيقة والمعبِّرة عن حساسية فكرية عالية. إن أصحاب الثقافة الشفهية يعتمدون على الذاكرة في حفظ ما يحصلون عليه من معرفة، ولهذا فإنهم يميلون إلى المختصرات والعبارات المقننة خوفًا من النسيان. مع التبحّر في المعرفة وانتشار الثقافة الكتابية تنفتح شهية الناس إلى الشرح والتوضيح والتفاصيل المملّة. وإلى أن يحدث هذا لدى الجماهير المسلمة، فإن علينا مراقبة تعبيراتنا ونشر وعي جديد بأهمية (لكن وأخواتها).(/3)
ولكن الإنصاف عزيز!
د.فهد بن سعد الجهني* 7/3/1425
26/04/2004
هذا العنوان جملة من درر الإمام الناقد الذهبي -رحمه الله- كررها مراراً في موسوعته العجيبه "سير أعلام النبلاء"، وهو يأسف على عدم الإنصاف في بعض الأقوال والتصرفات.
وإن من سنن الله الكونية أن رب العالمين لم يشأ أن يجعل الناس أمةً واحدةً في التوجه والتفكير والتصور، ولو شاء ربك لفعل؛ فهو سبحانه وحده الذي "لا يسأل عما يفعل وهم يُسْألون". وبناءً عليه فإن رب العالمين خلق الإنسان والخطأ والعجلة من طبيعته )وكان الإنسان عجولاً( وفي الحديث: "كل ابن آدم خطاء..".
والعجيب أن هاتين السنتين الكونيتين مع ظهورهما وتسليم الناس لهما وإنعقاد الإجماع عليهما؛ يعارضهما كثيرٌ من أبناء هذه الأمة -على اختلاف مستوياتهم ومنازعهم- ليس من ناحية التنظير (فالتنظير يحسنه كل أحد) ولكن من ناحية التطبيق والممارسة! وهو المحك وهو العمل الذي يصدق التنظير أو يكذبه!!
والذي بات ملاحظاً في تصرفات بعض ممن يرجى منهم العدل والإنصاف أنها تأتي أحياناً على خلاف ماقرره الله تعالى وفطر خلقه عليه، فترى منهم من يحاكم الناس ويصوبهم أو يخطِّئهم بناءً على رأيه وتوجهه، ويجعل من رأيه معياراً لمعرفة الحق وتصنيف الناس والحكم على الأشياء!! وهو بذلك ومن حيث لا يشعر -غالباً- يتعامل مع الناس وكأنه يريد منهم أن يكونوا على جبلةٍ واحدة ورأي واحد، هو رأيه
وتصوره وحسب! فإن حادوا عن ذلك فقد تنكبوا الصراط وحادوا عن السبيل!! ولا يعلم أو قل: لا يشعر أنه بهذا التصور يعارض سنةً ربانيةً، ويريد لخلق الله غير ما أراده الله!! ويا سبحان الله!!
وآخرون يتعاملون مع الآخرين وكأنهم (أعني الآخرين) منزهون معصومون عن الخطأ والزلل، حتى إذا ما أخطأ أحدهم خطأ أو زل زلةً كبرت أو صغرت، أقام الدنيا عليه ولم يقعدها! وهنا أمران لابد من مراعاتهما:
أولاً: إن من يتعامل مع الآخرين -مهما علت أقدارهم أو غزر علمهم- وينتظر منهم عدم الخطأ والهفوة والزلة؛ فقد ناقض سنة الله في خلقه، وأراد من خلق الله مالم يرده الله! فقد خلق الخلق وهم غير معصومين إلا من عصم الله من الأنبياء والمرسلين.
ثانياً : أن حكمه على الآخرين بالخطأ ليس بالحكم القطعي؛ بل هو ظني في أغلب الأحوال، وذلك أن الأمر لايخلو من إحدى ثلاث حالات:
1-أن تكون نسبة الخطأ إلى الآخر صحيحة وهي قسمان: أ- نسبة صحيحة قطعيه (وهذا لا يكون إلا في الخطأ في مخالفة ما انعقد عليه الإجماع، أو فيما اتفق عليه العقلاء من سائر الأمور).
ب: نسبة صحيحة ظنيه (ومن ذلك مسائل الخلاف التي ظهر فيها الدليل بترجيح رأي ما، بحيث يظهر سقوط الرأي الآخر وعواره ظهوراً واضحاً).
2-أن تكون نسبة الخطأ إلى الآخر غير صحيحة قطعاً .
3- أن تكون نسبة الخطأ إلى الآخر تحتمل الصحة، ولكن الرأي أو التصرف المقابل قد يكون له وجاهته ودليله؛ فترجيحي لرأي لا يلزم منه بالضرورة بطلان الآخر، وهذا النوع من التفكير لا يخرج عن قول السابقين من علماء السلف المنصفين: "قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"! فلله درهم ما أرقى تفكيرهم وأزكى نفوسهم.
أخي المسلم في كل مكان: إن من تقوى الله: العدل في القول حتى مع الخصومه فذلك أقرب للتقوى، قال الله (..ولايجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى....).
وإني أتمنى من كل مثقف أو طالب علم أو مفكر أن يقرأ في سير السلف وتراجم علماء الأمة الربانيين العاملين المتبصرين بقواعد الشرع وسنن الله في الكون، رحماء فيما بينهم أشداء على عدوهم. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يبين المنهج العدل في النظر إلى من يقع في الخطأ في عمله أو قوله مع رغبته في الحق: "والعبد إذا اجتمع له
سيئات وحسنات؛ فإنه وإن استحق العقاب على سيئاته، فإن الله يثيبه على حسناته، ولا يحبط حسنات المؤمن لأجل ما صدر منه، وإنما يقول بحبوط الحسنات كلها بالكبيره الخوارج والمعتزله الذين يقولون بتخليد أهل الكبائر.." [الفتاوى(35/68)]. وإن من رحمة الله ولطفه بعباده أنه لم يكلف المجتهدين والعاملين أن يصيبوا الحق قطعاً وأن ذمتهم لاتبرأ إلا بهذا (وذلك في مسائل الإجتهاد على مختلف أنواعها)؛ بل كلفنا بالاجتهاد والبحث والاحتياط، ثم إن أصاب المسلم الحق بعد اجتهاده فله
أجران، وإن لم يوفق لإصابته فله أجرٌ واحد، فسبحان الله ما أرحمه!
لذلك فإني أقول ناصحاً نفسي ابتداءً ثم كل أخٍ مسلم أن يجعل الحق وقواعد الشرع نصب عينيه، في قوله وحكمه وتعامله ، وأن يجتهد في التطبيق وليدع التنظير ورفع الشعارات! وليتق الهوى والظلم، فهو بين أمرين لاثالث لهما: إما أن يحكم بالحق الذي دل عليه الشرع أو يحكم بالهوى ، قال الله: ( ياداود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى..)الآية .. [ص:26].
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك.* أستاذ أصول الفقه(/1)
وللأبقار....أخطاؤها!!
بدرية العبد الرحمن 2/1/1427
01/02/2006
أعرف أن موضوعي هو موضوع الساحة الإسلامية الأسخن هذه الأيام...ربما يبدو لكثير منكم مكروراً أن أتحدث عن الحماقة الدنماركية التي احتشدت لها مشاعر المسلمين بامتداد العالم...وكيف يمكننا أن نقرأ ونهدئ الوضع المنذر بأمور لايحمد عقباها ...
_ما الحكاية؟
كيف يمكننا تفسير هذا التصرف الاستثنائي جيداً؟
هل يمكننا قراءته مثلاً على أنه استيقاظ فجّ للتعصب الديني في قرن التسامح واللا تعصّب؟!
أو أنه استيقاظ أكثر فجاجة للتعصب اللاديني ضد الدين والأديان والرموز الدينية ؟!
الأعجب أن يحدث ذلك في دولة هادئة مسالمة ومنعزلة عن القرار العالمي بشكل ملحوظ...بل ربما كان ركودها السياسي و(لا مِساسها) وبعدها الجغرافي عن مناطق الصدامات الحضارية والفكرية مع المسلمين خاصة..ومع الحضارات الأخرى عامة أمراً مثيراً للجدل....
أن تتحصل مبادرة (ولو كانت استثنائية) من مجلة ما لاستفزاز حفيظة أتباع الدين الإسلامي الذي يعتنقه الملايين عبر العالم...
والأدهى أن يحدث هذا الاستفزاز لاعلى سبيل إرادة الخير أو تحريك مستنقع الحوار مع الآخر...وإنما على سبيل تكوين (ذات أنواط) إسلامية تعلّق عليها التهم والصور المنمّطة المحددة سلفا لديننا...
كل ذلك المشهد كان حماقة (دنماركية) بالغة الفداحة، لا أظن أنها ستمرر عبر التاريخ بسهولة...ولاأظن أن بلاد البقر والزبدة بصورتها البالغة الطيبة والسذاجة كانت بحاجة لأن تفتل عضلاتها _حين أرادت أن تفتلها_ باستفزاز الإسلاميين والمسلمين باختلاف أطيافهم ...
_لماذا الإسلام وحده...؟
وبأكبر مايرمز لهذا الدين وهو نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام...تمّ تسويق صورة جيدة الصفاقة دقيقة التنميط عن الإسلام بوصفه دين القنابل والموت...بصورة قاطعة...بصورة أقطع من قاطعة...لأن وظيفة الكاريكاتور في الجريدة هي تكريس صورة واقعة...حقيقية مسلّمة لايماري فيها إلا السفهاء ...!
هكذا بكل بساطة نختزل ويُختزل تاريخ طويل لدين كبير في رسم كاريكاتوري مهين لنا وحدنا دون غيرنا من الأديان والتيارات الفكرية في العالم، والتي باسم كثير منها ارتُكبت فظائع وجرائم بحق العالم كله..ليبقى الإسلام وحده متفرداً على قائمة الموت ...
هكذا تُنتهك المقدسات وتُطال المساسات التعصّبية حد الخطوط الحمراء، وتتجاوزها بمئات الأمتار بدون أدنى حياء أو تحكيم للعقل...وكأن الأديان قد أصبحت بضاعة وسلعاً كاسدة لا أهمية لما ترمز إليه وماتقوم به، وما تفعله في نفوس معتنقيها...
إنها بكل اختصار...قلة أدب وصفاقة في عرف الفكر...في عرف السياسة...في كل الأعراف، لاشيء يعبّر عن هذه الحماقة سوى أنها قلة أدب لاتنتظر منه الدنمارك بعدها أي تصرف أحمق يجري ضدها بسببه...
لأنها كانت بكل اختصار (أعقّ وأظلما)...
بؤساً لهذه الصورة وتعساً...ليس فقط لأنها مغلوطة وقبيحة...ولكن لأنها أيضاً توقظ أموراً متخثّرة منذ قرون في العقل الغربي ضد الإسلامي..الإسلامي ذو الموت والسيف والخيل وقطع الرقاب في سبيل الله...لاأكثر..
خواثر وجدت من يحرّكها ليعكّر صفو الوفاق النسبي الذي يعيشه المسلمون في الغرب، وفي الدنمارك تحديداً بسبب تعصّبيين (من أي جنس فكري) لايدركون خطورة مايفعلونه...
ماالذي فعلته الدنمارك بنفسها بحق الله؟!
وكيف تريد أن تكسب احترامنا لها بعد كل ما حصل؟!
وكيف يمكنها ان تأمن على رعاياها في البلاد الإسلامية، وفي كل مكان بعد الغضبة المضرية التي غضبها المسلمون الآن؟!
مجرد تساؤلات، لا أدري هل دارت أو تدور في العقل الدنماركي ورأيه العام وصنّاع قراره...أم أن هذا العقل مازال مشغولاً بحلب أبقاره ودهن زبدتها دون أن يعي حجم المأزق الذي أوقعه فيه طاقم تحرير مجلة أصبحت الآن هي كل دنماركي في عقل كل مسلم...!
_نقاطع ...من أجل أن نكون..!
إن الدعوات المتوحدة عبر رسائل الجوّال والإيميل لمقاطعة المنتجات الدنماركية والتشنيع عليها لهي مظهر صحّي وجيد أؤيده بدون أي ضوابط..
منذ زمن مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية والعقل العربي الإسلامي يتوثب ويصنع لااءاته الكثيرة الثقيلة والعسرة في بعض الأحيان...ولكن بصورة جميلة وتبعث على الإعجاب ولو اختلفنا معه...
لابد أن يفهم العقل العالمي أن المسلم لم يعد واحداً من مجموعة دول أغلبها ينتمي للعالم الثالث الذي يُقضى أمره (حين تغيب تيم ولا يُستأمرون وهم شهود)... وإنما أصبح شخصاً مثقفاً واعياً لخلفيته الثقافية التي هي الدين الإسلامي باختلاف مذهبه أو تفاوت التزامه بتعاليم الدين...
المهم أنه يعرف الآن كيف يقول: لا...بصوت عالٍ ومتحضّر، وبطريقة تعبّر عن تململه من حالة العنطزة التي تكتنف الغربي ضد العرب الذين يحتاجونهم ويلجؤون إليهم ويصطفون بالطوابير للحصول على تأشيرات الدخول والعمل هناك ...(/1)
العنطزة الغربية التي طالت واستمرت وطمّت أخيراً لحد الإمساس بالمقدّس...المقدّس الذي هو خط أحمر كبير في كل الثقافات من حق الكل أن يعترض على المساس به بصيغة التهكم والتقليل...
وأنا حين أقول ذلك فأنا أعلم أن مقاطعتي ومقاطعتك ومقاطعتكم لن تضر أو تقلل من شأن الزبدة الدنماركية، ولا من صيتها الواسع ...ولامن أبقارها الغبية ...
لكننا سنفعلها من أجل أنفسنا...من أجل أن لانفقد الـ(لا) الوحيدة البسيطة التي نملكها الآن وتملأ أفواهنا ...
لنقول: إننا موجودون، وكائنون في هذا الكوكب بكل إشكالياتنا وأزماتنا...وإننا قادرون على التعايش، وإننا نستحق الاحترام...وإننا نملك أن نعبّر وأن نرفض ...وحتى أن نكره لو استلزم الأمر...
لكي لا تكون فتنة وكراهية جديدة تضخ في بحر الأحقاد التي يموج بها هذا الكوكب البائس... فإنني أتمنى أن تبادر الدنمارك باعتذار واسع وعميق اللهجة لمشاعر المسلمين وتهدئ من حجم الأزمة ...
وألاّ تنتظر أن يُغسل مافي القلب الإسلامي الواحد دفعة واحدة وباعتذار واحد...لأن حجم الصدمة كان قوياً وإزالته لن تكون هينة...
لأنه لو لم يحصل ذلكم الاعتذار فسنظل عمرنا كله نعزف على هذه المقطوعة...نجترّ ألم الكراهية... ونربّي أولادنا ويربّي أولادنا أولادهم أن الدنمارك والشيطان أخوان يلزم أحدهما مايلزم الآخر...
لو لم يحصل ذلكم الاعتذار فستظل جمرة الأحقاد مشتعلة...وربما تُفاجأ الدنمرك بأمر كانت استفزت مشاعر المسلمين لأجله...ربما تجد تطبيقاً جيداً لأنموذج الإرهابي العسر ذي العمامة (المقنبلة) في أرضها وبين قلاعها الجميلة وأبقارها ثقيلة الظل ...
ربما تفقد الدنمرك كل جمالها وسذاجتها بسبب (طولة لسانها)....
ربما ثرثرت أبقارها هذه المرة بصورة (أغبى) من اللازم...
ربما لانحتاج أكثر من أيام قليلة لنشهد شيئاً لم نتمنّه من قبل في الدنمرك...
ربما يحصل (هناك او هنا) كل شيء....
كم أكره (ربما) في هذه السياقات...اللهم اكفنا شر ربما....!!!(/2)
ولله الأسماء الحسنى
المحتويات
مقدمة
منزلة الأسماء والصفات بين أبواب التوحيد
أولاً : منزلتها من القرآن
ثانياً : الإيمان بالأسماء والصفات
ثالثاً : ختم الآيات بالأسماء والصفات
رابعاً : الأمر بالدعاء بها
خامساً: من أحصاها دخل الجنة
آثار الإيمان بالأسماء والصفات
أولا : تعظيم الله سبحانه وتعالى
ثانياً : الاستهانة بالمخلوقين
ثالثاً : التوبة
رابعاً : الدعوة إلى الله ومواجهة الأعداء
خامساً: مراقبة الله سبحانه وتعالى
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ،من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، أما بعد :
فموضوعنا في هذا اللقاء هو – ولله الأسماء الحسنى – ولاشك أن الحديث يأخذ قيمته وشأنه و مكانته مما يتحدث عنه، والحديث عن أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته حديث يأخذ بالقلوب، وينقل المرء من عالم الدنيا وعالم المحسوسات إلى عالم آخر، وحينها يشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى وسلطانه وملكه وكبريائه، ويدرك فقره وذله وحاجته لله سبحانه وتعالى.
الأسماء والصفات باب واسع من أبواب العقيدة بل صارت في مرحلة من المراحل هي المعلم البارز في اعتقاد أهل السنة، فن صنف من أهل السنة والجماعة لابد أن يبدأ في الحديث عن الأسماء والصفات وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق، وأن هذه الفرق كلها في النار إلا طائفة واحدة ناجية وهي أهل السنة والجماعة، وباب الأسماء والصفات من أوسع الأبواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق، ودار فيها جدل طويل بين هؤلاء وبين أهل السنة، ولاشك أن علماء أهل السنة الذين كانوا يذبون عنها ويسعون لبيانها للناس كان يعينهم بدرجة أولى أن يستقر المعتقد السليم والصحيح عند الناس، وأن يدفعوا تلك الشبه التي كان يثيرها أولئك الضالون زعماً منهم أنهم يريدون تنزيه الله سبحانه وتعالى وتعظيمه عز وجل، وهذا بلا شك ترك أثره البارز على منهج عرض الأسماء والصفات والحديث عنه فصار أهل السنة حينما يتحدثون عن الأسماء والصفات في مرحلة من المراحل يُعنون بدرجة كبيرة بقضية الإثبات وقضية الجدل مع المخالفين ودفع شبههم، وحينها يتوقفون عند هذا القدر وذلك أن الناس كانوا يقرؤون القرآن ويتدبرونه وكانوا يعُون هذه المعاني وكان القدر الذي يحتاجون إليه حينها هو أن يتضح لهم ما يجب عليهم اعتقاده في حق تجاه الله سبحانه وتعالى.
وهي قضايا بَدَهية يدركها أي مسلم يشعر بتعظيم الله عز وجل، ويعلم أنه سبحانه لا يمكن أن يقاس بخلقه، وأنه ليس له الحق بأن يتجرأ على ذات الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته فيفهمها من خلال عقله القاصر، ويتعامل مع هذه النصوص من خلال فهمه وقياسه العقلي، وهو يدرك أن سبحانه وتعالى أكبر وأعظم وأجل من أن تحيط به هذه الأفهام القاصرة.
ويعرف أن الله تعالى حينما يصف نفسه أنه الرازق ذو القوة المتين، وأنه سبحانه على العرش استوى , وأنه ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يدرك من هذه النصوص كلها معنى يليق بالله سبحانه وتعالى وعظمته، ولعلك حين ترى أحد كبار السن الصالحين العابدين لله عز وجل عندما يسمع هذه الآيات من كتاب الله عز وجل أو يسمع متحدثاً عن عظمة الله سبحانه وتعالى وعن أسمائه وعن صفاته ما يلبث أن يلهج لسانه بالتسبيح والتمجيد والتنزيه لله سبحانه وتعالى وتقدس، ولو قُدّر لك أن ترى وجهه لرأيت وقرأت فيه علامة التعظيم والخضوع لله سبحانه وتعالى، واستشعار النقص والفقر أمامه عز وجل.
إنها مسائل متقررة وبَدَهية، ولكن نظراً لوجود هذا التيار الجارف من الشبه والضلال، الذي تجرأ على أسماء الله وصفاته وشبه الله عز وجل بخلقه وسلط عقله القاصر البشري على ذات الله سبحانه وتعالى وعلى أسمائه وصفاته، فجعل من عقله ونتاجه القاصر مقياساً وحكماً على أسماء الله وصفاته، وعلى ما يجوز في حق الله سبحانه وتعالى وما لا يجوز.
ولاشك أن هذا التيار الجارف كان يفرض على أهل العلم مواجهته ورد الشبه، والحديث عن هذا واجب متحتم، ومن حق عامة المسلمين أن يوضح لهم المعتقد السليم وأن تدفع عنهم هذه الشبه.
وفيما مضى كان الناس يتدبرون القرآن ويعون هذه المعاني التي أشرنا إليها، لكن طال الزمن وطال العهد بالناس وبعدوا عن مشكاة النبوة، وعن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن هنا انحرفت نظرتهم، وصاروا حينما يسمعون الحديث عن الأسماء والصفات يقفز إلى أذهانهم الجدل الطويل مع الأشاعرة والمعتزلة والجهمية ومع سائر الطوائف الكلامية، ويغيب عن بالهم معنى آخر معنى له أهميته حول هذا الجانب ويتزامن هذا مع الفصام النكد الذي يعيشه المسلمون بين التوحيد والسلوك والواقع الذي يعيشه المسلمون.(/1)
لقد صار بعض المسلمين يتصور أن قضية التوحيد قضية جدلية فلسفية بحتة، وأضرب لكم أمثلة سريعة حول هذا ثم أعود إلى موضوع الحديث، من أسس عقيدة التوحيد أن لا إله إلا الله وهذا يعني أن لا أحد يستحق العبادة ولا الخضوع غير الله سبحانه وتعالى، عبادته عز وجل بشعائر التعبد والخضوع له سبحانه وتعالى، والتشريع والتعظيم إنما هو حق لله سبحانه وتعالى، إن قضية لا إله إلا الله حينما تضعها على بساط النقاش المعرفي الجدلي البحت تراها واضحة مقررة عند المسلمين، لكنك ترى هذا قد يخضع لغير الله سبحانه وتعالى، ويتوجه بقلبه لغير الله سبحانه وتعالى، إنه يخاف من المخلوقين ويحسب ألف حساب للمخلوق، وهو نفسه الذي يقّر بعقيدة التوحيد وبأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينبغي أن يُخاف ويخشى ويرجى عز وجل.
ولئن كان العلم النافع لا بد أن يترك أثره على صاحبه، فكيف بالعلم بالأسماء والصفات الذي هو من أشرف العلوم، قال ابن العربي رحمه الله: "شرف العلم بشرف المعلوم، والباري أشرف المعلومات، والعلم بأسمائه أشرف العلوم ".
وقال ابن القيم – رحمه الله –:"وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود سواه تابع لوجوده، تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم به أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم، إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى، ولهذا لا تجد فيها خللاً ولا تفاوتاً؛ لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله، إما أن يكون لجهل به، أو لعدم حكمته، وأما الرب تعالى فهو العليم الحكيم، فلا يلحق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض".
منزلة الأسماء والصفات بين أبواب التوحيد
لو سألت أي شخص عن أنواع التوحيد لقال: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات ولو تصفحت أحد كتب العقيدة لوجدت أن الأسماء والصفات تأخذ حديثاً واسعاً، بل إن هناك طوائف منشأ وجودها وخلافها مع أهل السنة خلافها في الأسماء والصفات.
أولاً : منزلتها من القرآن
حين تتأمل كتاب الله عز وجل لا تكاد تفقد الحديث عن الأسماء والصفات؛ ففي سورة من السور أو صفحة من الصفحات تجد أحياناً سرداً لأسماء الله عز وجل وصفاته وحديثاً عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وأحياناً تأتي تعقيباً على آية من الآيات في وعد أو وعيد أو حكم شرعي، أو حديث عن المكذبين الضالين، أو عن أنبيائه ورسله، فلماذا هذا الحديث المستفيض في القرآن الكريم عن الأسماء والصفات؟
أليس هذا موحياً بأهمية الأمر؟ ثم أليس هذا موحياً بأن هناك واجب آخر وأن هناك أثر آخر لقضية الإيمان بالأسماء والصفات ينبغي أن نعينه؟ وألا نقف عند مجرد الإثبات وحده، وهو أمر مهم، بل الانحراف فيه ضلال.
ثانياً : الإيمان بالأسماء والصفات
الإيمان بالأسماء والصفات عند أهل السنة يتضمن إثبات معناها، فهي معلومة المعنى مجهولة الكيف، ولهذا حكموا بضلال أهل التفويض الذين يقولون إن المعنى مجهول أو إن ظاهرها غير مراد.
إنك حين تسأل مسلماً عاميًّا لا يقرأ ولا يكتب،وتقول له إن الله سبحانه غفور حليم تواب رحيم، فهل يعرف من هذه الكلمة معنى أنه عز وجل شديد العقاب، وأن بطشه شديد؟ ألا يفهم من هذا فهماً يترك أثراً على نفسه بغض النظر عن قدرته عن التعبير الدقيق عما فهمه؟
وحينما يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ " ألا يفهم منه معنى معيناً؟ اقرأ هذا الحدييث على أحد العامة، وانظر أثره على نفسه.
فإذا كان إثبات معاني الأسماء والصفات على ما يليق بجلال الله عز وجل من واجبات المسلم و داخلاً ضمن اعتقاد أهل السنة، فالمعنى ينبغي أن يكون له أثر على من يؤمن به.
ثالثاً : ختم الآيات بالأسماء والصفات(/2)
نجد الآيات كثيراً ما تختم بالأسماء والصفات، وهي تختم ختماً مناسباً بمعنى ما دلت عليه الآية، ويحكون أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ قول الله عز وجل :[والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم] فقال هذا الأعرابي لست قارئاً للقرآن ولكن عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع، ولهذا تجد ختم الآية مناسب لمعناها، قال عز وجل: [قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير] ،وفي آية الزكاة يقول الله عز وجل : [إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم] ،وهذا الختم فيه مناسبة ظاهرة كما في آية الفرائض [يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ..] ختمها عز وجل بقوله :[آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إن الله كان عليماً حكيماً]، فحين يقرأ أحد هذه الآية فقد يتساءل ولم يعط الابن أكثر من الأب، ولم يفضل الذكر على الأنثى؟ لكن حين يسمع قوله عز وجل: [آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً فريضة من الله إن الله كان عليماً حكيماً] ،يشعر أن الله اتصف بصفة العلم والحكمة سبحانه وتعالى، وهو سبحانه يضع الأشياء في مواضعها.
وحين قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم :[ليس لك من الأمر شئ ] تعقيباً على دعائه صلى الله عليه وسلم على الذين شجوا رأسه صلى الله عليه وسلم ختمها عز وجل بقوله :[يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم] ،بينما قال في سورة المائدة :[يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير]، فهذا السياق يختلف عن ذاك، ولهذا ختمت الآية بهذه الصفة وهناك ختمت بذلك الاسم.
إذاً ختم الآيات بالأسماء والصفات يعطينا دلالة على الارتباط بين الاسم والصفة، وبين ما سبق في الآية، ثم تجد عجباً حينما تتأمل الفرق بين ما قد يبدو لنا أنها مترادفة وليست كذلك، فأحباناً يأتي (غفور رحيم) وأحياناً (غفور حليم) وبينهما فرق دقيق، وأحياناً( عليم حكيم) وأحياناً (عليم حليم) ،ولو قرأت في كتب التفسير لوجدت عجباً في ذلك .
رابعاً : الأمر بالدعاء بها
لقد أمر الله تبارك وتعالى عباده بأن يدعوه بأسمائه فقال:[ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه[، وفي القرآن الكريم في مواضع عدة أخبر الله سبحانه وتعالى عن جمع من أنبيائه أنهم يدعونه عز وجل بأسمائه وصفاته، قوله تعالى:]وأيوب إذ نادة ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين] ،ودعاء يونس عليه السلام :[لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين]. ونرى ذلك في السنة فيما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من أدعية دعا بها أو أمرنا أن ندعو بها، نجد كثيراً من هذه النصوص فيها الدعاء بالأسماء والصفات، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :"اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك .." ، والدعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة، فحينما يقول المسلم :" أمسينا وأمسى الملك لله …" فهذا دعاء لكنه دعاء ثناء على الله سبحانه وتعالى .
والدعاء بأسماء الله وصفاته ينبغي أن يتناسب مع ما يدعو به المسلم، كما قال ابن العربي:" يطلب بكل اسم ما يليق به، تقول: يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رزَّاق ارزقني، يا هادي اهدني".
وقال ابن القيم : :" يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلاً بذلك الاسم، ومن تأمل أدعية الرسل وجدها مطابقة لهذا".
والدعاء بالأسماء الحسنى والصفات العلى له آثار على المسلم، ومنها: الثناء على الله عز وجل بين يدي الدعاء له سبحانه، "ولا أحد أحب إليه الثناء من الله عز وجل" كما قال صلى الله عليه وسلم . وكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل خطبة يبدأ بحمد الله والثناء عليه، فالمسلم حينما يدعو الله بأسمائه يثني على الله عز وجل ويتوسل بين يدي الدعاء بعمل صالح يقربه إلى الله عز وجل.
ثانياً: الأثر النفسي على الإنسان حينما يدعو بهذا الاسم، فهذا يدعوه إلى اليقين بالإجابة، واليقين بالإجابة سبب من أسباب استجابة الدعاء، تأمل دعاء الاستخارة "اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، الله إن كان هذا الأمر خير لي …" ،فحين يستخير المسلم ويدعو هذا الدعاء، سيتبرأ من حوله وقوته، ويشعر أنه سلم نفسه بين يدي الله عز وجل، وحينها سيشعر أنه محتاج لدعاء الله ومحتاج لأن يختار الله له، ومحتاج لتوفيق الله وعونه، لأن الله يقدر وهو لا يقدر، ويعلم وهو لا يعلم وهو صاحب الفضل سبحانه وتعالى.(/3)
ثالثاً: العبودية والخضوع لله والافتقار بين يدي الله تعالى حين يعيش آثار هذه الأسماء والصفات ومعانيها، ولهذا كان الدعاء هو العبادة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فالعبادة كلها تجتمع في الدعاء لأن فيها فقر وذل وخضوع بين يدي الله عز وجل.
خامساً: من أحصاها دخل الجنة
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إن لله تسعا وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة " وفي رواية " من حفظها دخل الجنة" وقد اختلف أهل العلم في معنى "من أحصاها"، فمنهم من فسرها بقول الله عز وجل :[علم أن لن تحصوه] فقال إحصاؤها إطاقتها، ومنهم من قال: من قام بحقها وتأمل معانيها وقام بآثارها، ومنهم من قال: المقصود عدها، ومنهم من قال: أن يدعو الله بها، ومنهم من قال: أن يقرأ القرآن لأنها في القرآن فإذا قرأ القرآن يكون قد أحصاها، ومنهم من قال: حفظها.
وأشار ابن القيم رحمه الله إلى أن الإحصاء مراتب وذكر بأنه لو قررنا أن المعنى هو حفظها فحفظ القرآن الكريم على سبيل المثال معروف ثواب حفظه، كما قال صلى الله عليه وسلم :"الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة " ،فلو فرضنا أن منافقاً حافظ للقرآن لكنه لا يحل حلا له ولا يحرم حرامه فهل ينفعه حفظه للقرآن ؟ وهل تنفعه تلاوته للقرآن؟ فالقرآن حجة للمرء أو عليه، فكذلك هذه الأسماء حينما تكون مجرد حفظ فقط لا ينفعه حفظها، لكن يحفظها ويتأمل معانيها ويلزم نفسه بمقتضياتها.
آثار الإيمان بالأسماء والصفات
ومن خلال كل ما سبق نصل إلى أن الإيمان بالأسماء والصفات لا بد أن يترك آثاراً على نفس المسلم، وهي آثار عظيمة نشير إلى جزء يسير منها:
أولا : تعظيم الله سبحانه وتعالى
ذلك أن المسلم الذي يعلم أن الله حليم، وأنه عز وجل غفور رحيم كريم، وأنه شديد العقاب يبطش ويمكر بمن يمكر، يكيد بالكافرين ولا يعجزه شيء، إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون، ويعلم أن الله يسمع ويبصر، حين يعلم هذه الأسماء والصفات فإنه يزداد تعظيماً له سبحانه ويزداد خضوعاً.
ولله المثل الأعلى وهو سبحانه لا يقاس بخلقه لو رأيت إنساناً حليماً قد بلغ الغاية في الحلم، فإنك تزداد إعجاباً به وسرداً لتلك القصص التي تحكي حلمه وصبره على من يجفوه، فكيف لو اتصف مع ذلك بالكرم والعفو والإحسان إلى الناس ونصرة المظلوم والشجاعة والحياء؟
فالله سبحانه أعلى وأجل من أن يقاس بخلقه، وله المثل الأعلى فالله حليم لكن حلم المخلوقين لا يمكن أن يكون كحلم الله سبحانه، والله سبحانه كريم لمنه لايقاس بخلقه، قوي عليم سميع بصير رزاق لخلقه يجيب من دعاه ويعطي من سأله ويجير من استجار به.
إن المسلم حين يتأمل هذه المعاني يزداد تعظيماً لله سبحانه وتعالى، وكلما ازداد تعظيماً ازداد عبودية وخضوعاً له .
ثانياً : الاستهانة بالمخلوقين
فالمسلم حينما يعلم أسماء الله وصفاته يستهين بالمخلوقين، ويشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً، وهاهو العز بن عبد السلام حين أنكر على السلطان وهو بخيله وخيلائه وسأله أحد تلاميذه أما خفت السلطان؟ قال: تذكرت عظمة الله عز وجل فصار السلطان أمامي كالهر، بل انظر إلى أثر هذا الأمر عند هودعليه السلام، هود حينما عاداه قومه رد عليهم مستهيناً بجبروتهم [قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين] فعلم هود أنهم قوم لا يعرفون إلا منطق التحدي، وقوم لا يعرفون منطق الحوار فقال لهم متحدياً ]قال إني أشهد الله وأشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنصرون. إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم[ إن علمه بأن نواصي العباد بيد الله هو الذي دفعه إلى أن يستهين بجبروتهم وببطشهم.
وحين يدرك المسلم أن نواصي العباد بين يدي الله عز وجل يشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً؛ فلا يمكن أن يتوجه إلى المخلوق، ولا يرجو نفعاً ولا نوالا،ً ولا يخاف من المخلوق ويرهبه.
ثالثاً : التوبة
حينما يعلم المسلم أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وحينما يعلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حينها يقبل على الله عز وجل ويتوب إلى الله ويشعر أن الله رحيم رؤوف وأنه سيقبل التوبة.
رابعاً : الدعوة إلى الله ومواجهة الأعداء
حين قال موسى وهارون :[قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى]قال تعالى لهما :[لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى]. فزادهما ذلك ثباتاً ويقيناً وعزيمة على مواجهة فرعون وبطشه.
خامساً: مراقبة الله سبحانه وتعالى(/4)
قالت عائشة رضي الله عنها : سبحان الذي وسع سمعه الأصوات لقد كانت المجادلة تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وهي في طائفة الحجرة وأنا أسمع ثم نزل قول الله :[قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها...] وفي السورة نفسها يقول تعالى :[ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا]، حينها يعرف المسلم أن أي كلمة سيقولها سيسمعها الله، ويعلم أن الله لا تخفى عليه خافية [سواء منكم من أسر القول أو جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار] ،فلا يمكن أن يتجرأ على المعصية حين يخلو ولا يراه أحد لأنه يعلم أن سبحانه يراه، يقول الشاعر :
وإذا خلوت بريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
فحين يستشعر المسلم هذه المعاني يراقب الله، ويعلم أن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية.
أختم هذا الحديث بكلام طويل لابن القيم حول هذا المعنى يقول بعد أن تحدث عن ألوهية الله عز وجل وما في ذلك الشهود الغنى التام:"وليس هذا مختصًّا بألوهيته تعالى فقط، بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الله سبحانه يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديته؛ فمن شهد علو الله على خلقه وفوقيته على عباده واستواءه على عرشه كما أخبر بها أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج إليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز؛ فيشعر أن كلمه وعمله وعلمه صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه؛ فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء والعطاء و المنع والخفض والرفع وكشف البلاء وإرساله إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي يتصرف فيها سواه، فمراسيمه نافذة فيها كما يشاء يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج فيه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به، وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال بل أحاط بذلك علمه علماً تفصيليًّا ثم تعبّد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإرادته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية بادية لا يخفى عليه فيها شيء، وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه وتعالى لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها وسواء عنده من أسر القول أو جهر به لا يشغله جهر من جهر عن سمعه صوت من أسر، ولا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة. وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية تيقن أنه بمرأى منه سبحانه ومشاهدته لا يغيب عنه منها شيء. وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال وأنه قائم على كل شيء وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره، القائم عليهم بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن وجزاء المسيء إليه، وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، ويُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يضل ولا ينسى" إلى آخر كلامه- رحمه الله –.
والمقصود أن هذه الأسماء الحسنى الصفات العُلى لله سبحانه وتعالى ينبغي أن تترك أثراً في نفوسنا وفي أعمالنا وفي سلوكنا، وأن نشعر أن من كمال التعبد لله سبحانه وتعالى لهذه الأسماء والصفات أن نًصِفَ الله سبحانه بها كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، وأن ننزهه عن مشابهة خلقه، ومع ذلك أيضاً نتعبد الله سبحانه وتعالى بمقتضى هذه الأسماء والصفات؛ فالذي يعرف أنه هو الرازق ذو القوة المتين لا يمكن أن تطمح عينه إلى ما حرم، أو أن يخشى من غيره أن يقطع رزقه.
هذا ما تيسر أن نقوله بين يدي هذا الأمر، والأمر أوسع وأعظم وأجل من أن تحيط به لغة البشر القاصر والعبد المذنب المسيء، لكن هذه محاولة أن نتأمل بعض ما يجب علينا تجاه أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته عز وجل .(/5)
ولن ترضى عنك بنو عِلْمَان
سنة ربانية من سنن الله تعالى سنها منذ قام على هذه الأرض الحق والباطل، الشر والخير، أهل الإيمان وأهل الكفر، معسكر الهدى ومعسكر الضلال، فلا يزال أهل الكفر والنفاق يناوئون أهل الإيمان ويكيدون لهم ويحاربونهم في دينهم ما بقي على الأرض مسلم وما دعا إلى الله داع، بيد أن هذه الحرب سجال والأيام بين المعسكرين دول فيُنال من أهل الحق حيناً وينالون من عدوهم حيناً آخر ولكن العاقبة للمتقين، والنصر لأهل الإيمان واليقين كما أخبر بذلك رب العالمين.
وصور هذا الكيد والمكر تتلون وتتغير حسب قوة أهل الحق وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فتارة تكون الحرب عسكرية حربية وتارة تكون اقتصادية مادية وتارة تكون إعلامية وسياسية وغير ذلك من أساليب الحرب القذرة التي يشنها أعداء الله على أهل الإسلام وحَمَلَته، والتاريخ القديم والحديث يشهد لهذه الصور المتعددة كلها، غير أنَّ أعداء الله في هذا العصر تفتَّقت عقولهم المتشبعة ببغض هذا الدين وأهله عن حرب جديدة وأساليب ماكرة لمحاربة الدين حرباً تناسب العصر وتواكب العولمة الحديثة تلكم هي محاربة "المنهج".
إن أعداء الله لا يقلقهم مناهج عباد القبور ولا مناهج الرافضة ولا مناهج المعتزلة والعصرانية، إن الذي يقض مضاجعهم وينغص عيشهم هو المنهج الذي تربى عليه سلف هذه الأمة من الصحابة ومن جاء بعدهم، منهج الحنيفية السمحة الوسطية العدل، ملة إبراهيم حنيفاً كما جاء بها القرآن والسنة وكما فهمها سلف هذه الأمة. لقد مارس أعداء الله كل أساليب الحرب والإبادة لإطفاء هذا الدين وإخماد جذوته من حين بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته حيث قال الله عنهم: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال:30) فمكرهم ماضي وكيدهم مستمر حتى يردوا المسلمين عن دينهم وعقيدتهم.
لقد أدرك أعداء الله أن محاربة المنهج ليست من السهولة بمكان ومن الخطأ الاستراتيجي – حسب ظنهم – القضاء على المنهج بشكل سريع أو الدخول المباشر في هذه المواجهة التي ربما أفسدت عليهم خططهم، ولكن هناك من أذنابهم وأعوانهم مَن يستطيع أن يمارس هذا الدور بشكل فعال وبنتائج باهرة فكان توظيفهم لطابور العلمنة والنفاق في بلاد المسلمين لأجل التشكيك في ثوابت الأمة ومقومات دينها ولمز أئمتها وعلمائها وبدأ ذلك بشكل واضح بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وارتفعت وتيرة هذه الحرب بعد دخول قوات الصليب عاصمة الخلافة العباسية بغداد المسلمة.
إن التاريخ يشهد أن بني علمان مهما أصاغ المسلمون لهم السمع وحققوا بعض مطالبهم بحجة الإصلاح وجمع الكلمة وغير ذلك من الشعارات الزائفة لن يقفوا عند حد ولن يرضوا بذلك حتى يتحقق "ما لقيصر لقيصر وما لله لله" وحتى يروا علمانيتهم الكافرة تضرب بأطنابها في بلاد المسلمين ومجتمعاتهم، وقصة صراع العلمانية مع الإسلام في مصر خير شاهد على ذلك، فكيف يرضى أهل الدعوة وحماة المنهج أن يتحقق للعلمانيين ذلك وقد أمرهم ربهم تعالى بأن يكون الدين كله لله؟؟.
إن الواجب على المسلمين عموماً وعلى أهل الدعوة وأصحاب الرأي خصوصاً الوقوف صفاً واحداً وبحزم تجاه هذه الهجمة الشرسة على دين الأمة وثوابتها وألاَّ يتنازل أهل المنهج ولو قيد شعرة عن دينهم وثوابتهم، إن حماية هذا "المنهج" مسئولية الجميع كل فيما يخصه ويحسنه أفراداً ومؤسسات، حكاماً ومحكومين، مع أهمية أن تكون هذه المقاومة لهذه الهجمة ضمن خطط مدروسة وبرامج عمل جادة طويلة المدى وألاَّ تكون برامجنا ومواقفنا ردود أفعال مؤقتة قصيرة النفس، محددة العمر ما تلبث أن تضعف ثم تتلاشى.
إن بني علمان مهما كادوا ومكروا فإن كيدهم ضعيف ومكرهم واهٍ إذا واجههم أهل الحق بالحجة والبرهان وقاموا بما أوجب الله عليهم من بيان الحق وكشف عوار المفسدين والمنافقين وتبيين المنهج الصحيح والدعوة إليه، ومع ذلك ربما يبتلون ويؤذون ويتهمون وهذا كله ليس بمستغرب فهي سنة أخرى من سنن الله تعالى في ابتلاء المؤمنين وتمحيصهم وهي من قدر الله الغالب وسننه الماضية.
محمد بن فهد الرشيد(/1)
ولنا في حرّ الصيف عبرة
سامي الماجد 11/6/1426
17/07/2005
فقد مُلِئ هذا الكون الفسيح دلائلَ وآياتٍ، تدل بعظمتها على العظيم سبحانه، ويكشف ما فيها من عجائب الخلق وبدائعه قدرةَ الخالق وجميلَ خلقه وإتقانَ صنعه (صنع الله الذي أتقن كل شيء). وإتقان صنعه يتجلّى لنا في كل شيء في هذا الوجود الفسيح، فلا فلتة ولا مصادفة ولا خلل ولا نقص، ولا تفاوت ولا نسيان. ويتدبر المتدبر آثار صنع الله المعجز، فلا يعثر على خَلَّةٍ واحدة متروكة بلا تقدير ولا إتقان؛ فكل شيء بتدبير وتقدير يُدهش العقول التي تتابعه وتتملاه.
ويربط القرآن بين القلب ومشاهد الكون؛ لينبه الحس الخامد، والقلب المغلق، إلى بدائع صنع الله المبثوثة حول الإنسان في كل مكان؛ كي يَقْدُرَ اللهَ حقّ قدره، ويُجِلَّه حقَّ جَلالِه، ويشاهدَ عظمتَهُ في بدائع صنعه، ويشعرَ به كلما وقعت عينه على آية من خلقه؛ ويتصلَ به في كل ساعة تفكُّر ولحظةِ تأمُّل.
وتتابعتْ آي التنزيل تدعو الإنسانَ للتفكر في ملكوت السموات والأرض، وأن يعيد إليها النظر كما لو كان يراها أول مرّة؛ بحسٍ مرهف وقلب يقِظٍ وعين مبصرة؛ ليلحظ ما فيها من آيات الإبداع والإتقان، وما تصوِّره أجرامها من عظمة الخالق وقدرته وحسن تقديره، فيزداد إيماناً به، ومهابةً له وتوقيراً.
ويتجدد له هذا الشعور تُجاه خالقه كلما جدد النظر في أجرام الكون الفسيح بقلب شاهد وبصر نافذ وحسِّ متيقّظ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37] لنستمع إلى دعوة القرآن للتفكر في هذا الكون: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس:101]. (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ...)[الأعراف: من الآية185]، (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ...)[سبأ: من الآية9]، (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف:105]. وكما يصِلنا التفكر في هذا الملكوت العجيب بالخالق -جل جلاله- فإن التفكّر في هذا الملكوت وفي تقلّب الليل والنهار واختلافهما، وفي تعاقب فصول السنة، وما يتبع ذلك من حياة النباتِ ثم إيناعِه واخضرارِه ثم يُبسه وموته؛ ليصِلُنا بعالم الآخرة ويذكِّرنا بها؛ حتى ليتخيَّلُ لنا مشهد البعث والعرضِ الأكبرِ يوم القيامة، ومشهدُ الجنة والنار في نظرات التفكر هذه.
(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ). [يونس:6]. وكيف يكون التفكّر في ذلك باعثاً على التقوى لولا ما في اختلاف الليل والنهار وبديع خلق السموات والأرض من إيماء وتذكير بالآخرة.
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران:190-191]. وتأخذنا الدهشةُ أمام هذا الارتباط العجيب بين التذكّر والتفكّر، تذكرِ النار عند لحظات التفكر في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار: (ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار)، أيُّ مناسبة تلك التي اقتضت هذا الارتباط العجيب بين المشهدين: بين مشهد السموات والأرض ومشهدِ عذاب النار؟! ويا لله العجب كيف قادهم هذا التفكر في ملكوت السموات والأرض إلى تذكر الآخرة وما فيها من العذاب الشديد؟!
أما إنه لتفكرٌ فريدٌ ، هو أعمق أثراً، وأطول تأملاً، وأرق مشهداً، وأرهف حساً، وأوسع تدبراً، إنه تفكّر انفرد به نظر أولي الألباب المتحفِّزة لكل مشهد من مشاهد عظمة الله لا كنظر الغافلين، الذين يمرون بالآيات، وهم عنها معرضون، وينظرون إلى بديع هذا الخلق العجيب نظرَ مَن ألفه حسه، بتكرّر منظره فلم يَعُدْ يتيقّظ له.
إن التفكر في هذا الملكوت وفي تعاقب الليل والنهار وحركة الأجرام وتتابع فصول العام لهو عبادة تزيد الإيمان وتذكر بالآخرة، وتملأ القلب من تعظيم الله ومهابته.(/1)
وكل ما في الدنيا فهو مذكر بالآخرة ودليل عليها، وها هي دورةُ حياةِ النبات تكشف للمرء قِصر الأمد في هذه الحياة، وتذكِّر بحقيقة الدنيا وتفضح زخرفها الزائل، (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يونس:24-25]. ويحضرنا في هذه الأيام مشهدٌ آخر من مشاهد الاعتبار وآيةٌ من آيات التفكر...مشهدٌ يصِل القلوب بخالقها، وينفذ بها إلى عالم الآخرة؛ حيث كربة الموقف في العرصات، وحيث النارُ بسمومها وعذابها.
إنه هذا القيظُ الشديد بسَمومه اللافح وحرِّه المؤذي وشمسِه اللاهبة وظلِّه اليحموم. وليس هو بالحدث الجديد الذي يلفت كلَّ نظر، بل هو فصل معتاد مألوف معروف السبب، ومهما اعتدناه وألِفْناه وعرفنا تفسيرَه وتجلّت لنا أسبابه فذلك لا يُذهب ما فيه من مشهد العظة والذكرى، فلقد كان القرآن يعطف بصائرَنا إلى تذكّر الآخرة عند لحظات التفكر، ويلفت أنظارنا إلى مشهد النار إذا ذُكر حرّ القيظ، (... وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)[التوبة: من الآية81], وفي نار الدنيا ما يذكر بنار الآخرة (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ) [الواقعة:71-73]. وكذلك كان يفعل صلى الله عليه وسلم، كان يجعل من مشاهد الحياة المألوفة صلةً لتذكر عالَم الآخرة، "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم". وقال صلى الله عليه وسلم: "أشد ما تجدون من الحر من سَموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم".
فلنتذكر إذا لفحنا سمومُ هذا القيظ عذابَ السموم يوم القيامة، وإذا آذانا حر الهاجرة فلنتذكر حرَّ جهنمَ، ولْنتمثَّلْ حين نفرّ من لهيب الشمس إلى الظل ذلك اليوم العظيم...يومَ العرض على الله وقد دنتِ الشمس من الخلائق قدر ميل، لا يجدون ظلاً إلا ظل عرشه جل جلاله، ولا يُظل فيه إلا من يستحقه من صالحي عباده، فإين هي شمس الدنيا من شمس الآخرة، وما تبلغ سويعات الهاجرة من يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة.
إن الاستباق إلى الظل في عرصات يوم القيامة لا يتأتى بحث الخطا والإسراع إليه ركضاً، إنما هو بالاستباق بالخيرات والمنافسةِ في الطاعات.
وكم يُشعرنا هذا بمنة الظل الذي يقينا حر الشمس، والقرآن يذكرنا هذه النعمة في آيتين من آياته: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) [النحل:82 -83] وقال جل جلاله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) [الفرقان:45]. ـ وكما للقيظ في حره وسمومه آية، فله في سببه آيه، فما القيظ إلا نتيجةٌ لدنوّ الشمس نحونا قليلاً، كما أن زمهرير الشتاء من انصرافها عنا قليلاً، حالتان متضادتان، سببهما دنوّ يسير أو انصراف يسير، ولو دنت أكثر لأحرقت، ولو بعدت أكثر لأماتت.
والشمس ـ كما أخبر صلى الله عليه وسلم ـ آيةٌ من آيات الله، يخوف الله بها عباده، سخرها لهم لتكون سبباً لبعض النعم التي يجود بها عليهم، فهي نعمة من النعم وآية من الآيات الباهرات. ولها في حركتها وتنقلها في منازلها شأن عجيب؛ إذ لها في كل يوم من أيام السنة الشمسية مطلِع، ولها في كل يوم منها مغرِب، مطلِعٌ ومغرِبٌ ثابت في كل سنة لا تحيد عنه الشمس ولا تميد، وإلى هذا يشير القران في قوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف، ومغربهما، وفي قوله (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ). وكلما اختلف مطلعها ومغربها اختلف تبعاً لذلك طول الليل والنهار، فأخذ هذا من ذاك، أو أخذ ذاك من هذا، كما قال تعالى: (...يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ...)[الحج: من الآية61].(/2)
إن هذا القيظَ وإن كان يؤذي إلا أنه نافع تقتضيه ضرورة الحياة لبعض الكائنات، وبه يكتمل نموها ويينعُ ثمرُها، ولو لم يكن قيظٌ لما كان لها ثمر، فلا يُنسينا إيذاؤه تذكّرَ ما لله فيه من حِكَم بالغة وآياتٍ ظاهرة. والله سبحانه لا يقدّر ولا يخلق عبثاً، إنما خلق لحكمة وقدر لغاية، وله في كل تحريكة وتسكينة شاهد، (... وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان: من الآية2). تبارك الله...
ألا وإن التفكّر في شدة القيظ وتذكّر الآخرة به لا يستدعي التعرض للحر ولا البروزَ للشمس، فالأمر لا يتطلب سوى حسّ متيقّظ مرهف وقلب شاهد ونظر ثاقب، وأما التعبّد لله بالبروز للشمس والتعرض للسَّموم من أجل تذكر الآخرة ووعظ النفس به فذلك بدعةٌ من ضلالات الجهال، ومن تعبّد الله بذلك فقد أعظم عليه الفرية، وأساء وتعدى وظلم.
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: "وأما مجرد بروز الإنسان للحر والبرد . بلا منفعة شرعية , واحتفاؤه وكشف رأسه , ونحو ذلك مما يظن بعض الناس أنه من مجاهدة النفس, فهذا إذا لم يكن فيه منفعة للإنسان, وطاعة لله, فلا خير فيه, بل قد ثبت في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً قائما في الشمس, فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا أبو إسرائيل, نذر أن يقوم في الشمس, ولا يستظل, ولا يتكلم, ويصوم. فقال: مروه فليجلس, وليستظل, وليتكلم, وليتم صومه" (الفتاوى الكبرى 2/148)
ثم كيف يكون ذلك مستحباً وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا اشتدّ الحرّ أن نُبردَ بالصلاة. وعلى هذا فلا يجوز للمسلم أن يتعنى المشقّة طريقاً للعبادة وهو يجد طريقاً إليها أيسر، وإنما المشقة التي يُؤجر المرء على تحملها تلك المشقة الملازمة للعبادة، بحيث لا يتأتّى تحقيقها إلا باحتمال تلك المشقة، فمثلاً لا يشرع الوضوء بالماء الحميم مع وجود غيره، ولا الوضوء بالماء البارد في الليلة الشاتية مع وجود الدافئ، وإنما يُؤجر من توضأ بذلك وهو لا يجد غيره(/3)
وليس الذكر كالأنثى
ـ قد يعجب كثير من الأزواج رجالاً ونساءً عندما يسمعون أن هناك فروقًا هامة بين الرجل والمرأة، وأن فهم طبيعة هذه الفروق بين الجنسين من شأنه أن يغير حياتهم، ويزيد من قدرتهم على التعايش الزوجي، ويجنبهم الكثير من المشكلات والصعوبات، والتي يمكن أن يؤدي عدم فهمها إلى تفكك هذه العلاقة الزوجية المقدسة.
قد تستطيع المحبة وحدها حفظ الزواج لبعض الوقت، وإن كان زواجًا فيه الكثير من الخلافات والمشكلات، وإنما لا بد مع الحب من الفهم العميق والصحيح للفروق بين الرجل والمرأة، ومعرفة الطريقة الأنسب للتعامل مع الجنس الآخر.
ـ وكثير من الناس يقرون ويعرفون نظريًا أن هناك فروقًا بين الجنسين، إلا أن طبيعة هذه الفروق قد لا تكون واضحة، إلا إذا كانت الفروق جسدية أو ربما انفعالية وعاطفية.
ودراسة الفروق بين الجنسين تكون لدينا فهمًا عميقًا عن الآخر، وهذا الفهم العميق يولد المحبة والمودة والاحترام أيضًا، وهذا الفهم سيولد نوعية من الاقتراحات والبدائل لحل كثير من المشكلات على ضوء هذا الفهم.
كيف تبدأ المشكلات؟
تبدأ المشكلات بداية عندما ينسى الرجل أو تنسى المرأة أن كلاً منهما مختلف عن الآخر وأن لكل منهما طبيعة خاصة به جبله الله عليها، فيتوقع من الآخر فعلاً أو رد فعل معينًا يتناسب مع طبيعته هو، ثم يكون الفعل غير ما توقع لاختلاف الطبيعة، فالرجل يريد من المرأة أن تطلب ما يود هو الحصول عليه، وتتوقع المرأة منه أن يشعر بما تشعر هي به تمامًا.
إن كلاً منهما يفترض خطأ، أنه إن كان الآخر يحبه فسوق يتصرف بنفس الطريقة التي يتصرف فيها هو ما يعبر عن حبه وتقديره، وهذا الافتراض الخاطئ سيكون عند صاحبه خيبات الأمل المتكررة، وسيضع الحواجز الكثيرة بين الزوجين.
ولذلك كان من الواجب على كل طرف منهما التعرف على معالم الفروق بينه وبين الآخر لتلافى كثير من المشكلات ولخلق جو من الحوار المثمر والفهم المتبادل بين الطرفين يثمر عن حياه هادئة وسعيدة.
معالم الفروق بين الذكر والأنثى:
وهذه المعالم كما ذكرها د/ مأمون مبيض في كتابه التفاهم بين الزوجين نذكرها مختصرة.
[1] اختلاف القيم والنظرة إلى الأمور:
فالرجل يخطئ عندما يبادر إلى تقديم الحلول العملية للمشكلات، ولا يرى أهمية لشعور المرأة بالانزعاج أو الألم، وهذا ما يزعج المرأة من حيث لا يدري.
والمرأة تبادر إلى تقديم النصائح والتوجيهات للرجل، وهذا ما يزعجه كثيرًا من حيث لا تدري.
فالمرأة عندما ينتابها أمر أو تحل عليها مشكلة، تحب أن تتكلم وتحب من يستمع إليها فإن ذلك يشعرها بالحب والرعاية، ولا تطرح المشكلة للبحث عن حل وخصوصًا في بداية الطرح ولكن لتحس أن هناك من يهتم بها ويرعاها ويقدر ما هي فيه من البلاء.
في حين أن الرجل عندما تنتابه مشكلة فهو يرى أن عليه المسئولية في حلها وأن أي نصح للمرأة في هذه الحالة دون طلب ذلك منه فإنه يشعره أنها ترى أنه عاجز وأنه غير قادر على حلها وهو بدوره يبحث عن الحل بنفسه أو يسأل من يظن أنه خبير ويستطيع الحل.
[2] اختلاف الوسائل في التعامل مع المشاكل:
فالرجل عندما يواجه مشكلة ما، فإنه يميل بطبعه إلى الانعزال بنفسه والتفكير بهدوء في مخرج من هذه المشكلة التي تواجه، بينما تميل المرأة إلى الرغبة في الجلوس مع الآخرين، والحديث فيما يشغل بالها، والمرأة كلما كانت المشكلة كبيرة، شغلت بالها كثيرًا وكانت في حاجة إلى الكلام كثيرًا والعكس من ذلك الرجل.
[3] اختلاف المحفزات والدوافع للعمل والعطاء:
فالرجل يقوم ويعمل ويعطي ما عنده عندما يشعر أن هناك من يحتاج إليه. بينما تميل المرأة للعمل والتقديم والعطاء عندما تشعر أن هناك من يرعاها.
[4] القرب من الطرف الآخر:
فعندما يقترب الرجل من المرأة يشعر بالحاجة الملحة للابتعاد لبعض الوقت، وليعواد للاقتراب من جديد، مما يشعره باستقلاليته المتجددة، بينما تميل المرأة في علاقتها ومشاعرها إلى الصعود والهبوط كموح البحر، وفهم هذه الفروق يساعد المرأة على التعامل الأمثل مع الأوقات التي يميل فيها الرجل لبعض الابتعاد، ويعين الرجل على التعامل الأفضل مع المرأة عندما تتغير فجأة طبيعة مشاعرها، وكيف يقدم لها ما تحتاج في هذه الأوقات.
[5] تقدير أعمال الآخر:
حيث تقوم المرأة باعتبار تقدير كل العطايا وما يقدمه الرجل بنفس الدرجة تقريبًا، فمثلاً إذا اشترى لها مجوهرات بمبلغ كبير فقدره عندها كخاتم صغير من الذهب، بينما يميل الرجل إلى التركيز على عمل واحد كبير، أو تضحية عظيمة، ويهمل الأعمال الأخرى الصغيرة.
وأخيرًا فالرجل يتصرف دائمًا وكأنه دومًا على حق، مما يشعر المرأة بعدم صحة مشاعرها وعواطفها.
[6] اختلاف الحاجات العاطفية:
فالرجل يحتاج إلى الحب الذي يحمل معه الثقة به وقبوله كما هو، والحب الذي يعبر عن تقدير جهوده وما يقدمه.(/1)
بينما تحتاج المرأة إلى الحب الذي يحمل معه رعايتها وأنه يستمع إليها، وأن مشاعرها تفهم وتقدر وتحترم.
وبالطبع فهذه المعالم ليست كل الفروق بين الرجل والمرأة ولكنها أهمها، وبداية حل أي مشكلة هي تفهم دوافع الطرف الآخر [ما حملك على هذا؟] وفهم طبيعة وجبلة الطرف الآخر يعين على التفاهم معه(/2)
وما زلنا ننطلق من فراغ
د عبد الله بن إبراهيم الطريقي 23/8/1423
08/11/2001
ربما تكون أحداث الحادي عشر من سبتمبر من أهم الأحداث في عصرنا الحاضر وأخطرها ، سواء هي في نفسها أو من خلال تداعياتها وذيولها . حيث اختلطت الأوراق على كثير من العقلاء من مسلمين وغير مسلمين ، وحامت الشكوك والظنون حول اليقينيات حتى تشكك الناس في عقولهم . وقد رأينا من المواقف والآراء المتباينة والمتناقضة من قبل أهل الملة المسلمة مالا يليق بأمة وسط ، هي خير أمة أخرجت للناس ، لها ثوابتها ولها مصادرها المعروفة . أما حين تستقرئ هذه المواقف المتباينة فإن ذاكرتك وتخيلاتك تذكرك بأهل الكتاب واختلافهم على أنبيائهم ، ثم تعدد كتبهم ومصادرهم . لقد رأينا من قومنا من أهل العلم والفكر والرأي من ندد بالحدث واستنكره بغض النظر عن ظروفه المكانية ، وفيهم من مرّره وبرّره ، وفيهم من تغاضى عنه ، كما رأينا من يبارك هذه الحرب ضد ما يسمى (الإرهاب) أياً كانت الجهة المقصودة ، ومهما يترتب عليها، وبأي وسيلة كانت ، ورأينا في المقابل من يستهجنها وينكرها .
كما سمعنا ، ومازلنا نسمع كيل الاتهامات ومباركة الأحكام الصوارم في حق كل شخص أو جهة أو مبدأ ينقم عليه الغرب ، وفي غمضة عين انقلبت مفاهيمنا السابقة ، فأصبح الجهاد والمقاومة إرهاباً ، وأصبح المجاهد إرهابياً ، وكل مجتمع مسلم يعتز بإسلامه فهو محل اتهام، فما مرد ذلك ؟
أهو بسبب هول الحدث وما نتج عنه من ذهول ، أم بسبب وسائل الإعلام التي تقوم بتهويل الحدث وترويج الشائعات وإلقاء الرعب ، وهي - في غالبها- وسائل إعلام غربي ، تعنى بالمصالح الغربية ليس إلا .
أم ترى ذلك بسبب غياب الإعلام الإسلامي الرزين الذي يتعامل مع الحدث بعقلانية وموازين إسلامية ، ويتصدى للأزمات بعزم وحزم .
أم تراه بسبب غياب الرأي العام الإسلامي الذي يحتوي مرئيات جماهير المسلمين ونظراتهم إلى الأحداث ، وتنبع – من ثم – القرارات والمواقف الثابتة . أم مردُّ ذلك إلى غياب المرجعية العلمية العليا التي يرجع إليها الناس عند كل أمر ذي بال يحتاج إلى حكم شرعي ويقفون عند رأيها .
إنها تساؤلات متسلسلة ، بل قل متداخلة تستحق الوقوف الطويل ، عسى أن نصل إلى شيء من الإجابات المفيدة .
أما الحدث ذاته فهو مهول ، ولذلك فقد يكون لصدمته رد فعل غير شعوري لكل من رآه ممن يعنيه أمره أو لا يعنيه ، كما حصل لعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – حينما سمع بوفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيث استنكر ذلك ونفاه . لكن أبا بكر – رضي الله عنه – كان أكثر صلابة منه مع ما هو مطبوع عليه من الرقة ، فتعامل مع الأمر بواقعية أكثر، وأحل السكينة محل الاضطراب ، فكانت تلك من أعظم مناقبه .
وهذا هو الأسلوب الأمثل تجاه الأحداث العظام ، فالتسرع ليس من شيم المسلم ، وقد مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – أشج عبد القيس بخصلتين طبع عليهما الحلم والأناه .
أما التساؤل الآخر : وهو دور وسائل الإعلام الغربي في تهويل الأحداث فهذا أمر مشهود ، وليس فقط مجرد التهويل ، ولكنه الاستغلال للحدث ، بحيث يكون ( قضية الساعة ) .
ثم يأتي أساطينه – وغالبهم من اليهود – فيوظفون القضية لمصالح الغرب بصفة عامة ، ولمصلحة الصهيونية والصليبية بصفة خاصة سواء عن طريق الخبر ، أو التحليل ، أو التصوير ، أو الرسم أو التمثيل ، أو الحوار .. إلى غير ذلك .
أما إعلام العرب أو المسلمين فإنه يأتي لاحقاً ومحاكياً ، وربما متسولاً عن طريق وكالات الإعلام الغربية وفضائياته . حتى لا يكاد يسمع للعرب والمسلمين صوت ، أو يقرأ لهم رأي مميز.
وكم يكون الناس - في شرق الأرض وغربها - محتاجين إلى الإعلام الرشيد ، الذي يتعامل مع الأحداث بعقل وعلم ، بعيداً عن الشطح والتطرف ، أو الانهزامية والتذلل .
وننتقل إلى التساؤل الخاص بالرأي العام فهو ( الرأي العام ) في نظري من أهم الموجهات والمؤثرات في صناعة القرارات في كل المجتمعات الإنسانية بغض النظر عن هذه القرارات ومواءمتها للحق ؛ وذلك لكونه أثراً من آثار ثقافة المجتمع وأسلوب تفكيره .
والنظام الغربي ( الديمقراطي ) يعتمد على الرأي العام بشكل ملحوظ في كثير من شؤونه السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وغيرها ، سواء في سياسته الداخلية أم الخارجية .
ولذلك فإن جُلَّ القرارات تكتسب صفة التأييد الشعبي ، مهما كانت قناعات الشعب ، حقيقية كانت أو مموهة .
أما في الإسلام الذي يختلف عن النظام الديمقراطي في كثير من الأصول والمنطلقات ، فإن في المسألة تفصيلاً . فكل قضية أو شأن منصوص عليه شرعاً فليس محل نظر أو استطلاع رأي .
" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ". بل على المسلم ، أياً كان موقعه ، الامتثال والاستجابة .(/1)
وإذا كان لأهل العلم والرأي مجال – هنا- فهو في أسلوب التطبيق ، كما في أسلوب جباية الزكاة أو الطواف والسعي والرمي ، وكذا مثل الجهاد ، وتنفيذ الحدود .. إلخ .
أما ما كان محل اجتهاد في مسائل الدين فمردّه إلى أهل العلم المجتهدين ، فهم الذين يرجحون ويناقشون أو يحسمون الخلاف . وأما شؤون الحياة التفصيلية فمرجعها أهل الاختصاص والخبرة والتجربة .
ومن التكلف الظاهر إيجاد الحواجز بين الدين وشؤون الحياة ، فيقال : هذا أمر ديني مرجعه الأشياخ من العلماء ، وهذه دنيا ليس لهم إليها من سبيل ،اللهم إلا في تنظيم الأمور الدنيوية البحتة وتنفيذها ، أما تفصيل أحاكمها فهو إلى الأشياخ وليس إلى العامة . على أن مجالات الحياة واسعة سواء في تنظيمها أو تنفيذها ، الأمر الذي يجعل للرأي مجالاً رحباً ، وهو ما يلحظ في أسلوب المؤسسات والجهات الحكومية وغير الحكومية ، التي تقدم مشروعات ومقترحات من خلال مشاورات ومداولات كثيرة تصل في نهاية المطاف إلى تنظيمات أو قرارات .
وربما كان لوسائل الإعلام زمام المبادرة إلى إبداء الملحوظات ، ثم المقترحات في أمور غير محصورة ؛ الأمر الذي يؤكد أهمية الرأي العام في مجتمعاتنا المسلمة .
لكن ( الرأي العام ) ليس مصدر صناعة الإعلام فقط ، بل ثمة مصادر أخرى لا تقل أهمية ،يأتي في مقدمتها :
أ) المنبر المسجدي : حيث يفترض أن من يعتليه من الخطباء هم على مستوى رفيع من العلم والوعي ، بحيث تكون خطبهم مصدر إلهام للمستمعين ، تجمع بين العظة والتعقل وبُعد النظر والتعليم والتفقيه . وهذه مميزات لا تتوافر بالضرورة في الإعلام الذي يعتمد الإثارة في وسائله في أكثر مواده الإعلامية .
ومن هنا ينبغي التوكيد على أهمية هذا المصدر (أعني المنبر ) وحثّ أصحابه على الاستثمار الجيد ، الذي يزرع في القلوب الإيمان والتقوى ، والخشية في السر والعلانية ونشر الوعي العام بين الناس . ويكون من الخطأ البيّن التهوين من شأن هذا المصدر وشأن الخطيب ، وأن وظيفتهما محصورة في دائرة ما يسمى (الوعظ) .
إذ بهذا المنهج يعيش الناس في انفصام شديد بين حياة المعاد وحياة المعاش ، بل في صراع مرير بين قناعاتهم الشرعية أو الإيمانية وبين هموم الحياة اليومية .وغني عن البيان كثرة الشائعات وسرعة انتشارها في الأزمات مما يولد الذعر واختلاف الرأي ، وليس أولى وأجدر في علاج هذه المشكلة من المسجد ولو ظنَّ أكثر الناس غيره .
ب) مجلس الشورى ، الذي يضم عادة نخبة من المجتمع ، ويكون العضو فيه قريباً من الناس يسمع آراءهم ويتعرف على آلامهم وآمالهم ، فيعرضها على المجلس ، وتسمع الآراء والانطباعات فتناقش بحرية وعقل . وهناك مصادر أخرى معروفة لدى أهل الاختصاص .
ثم نأتي إلى التساؤل الأخير المتعلق بالمرجعية العلمية، منوهين أولاً بهذه المرجعية ، وأن وجودها ضرورة اجتماعية ؛ لكونها صمام الأمان في كل مجتمع . إن العلماء ورثة الأنبياء ، وهم كالنجوم يقتدى بها في ظلمات البر والبحر ، وما ضل قوم يتبعون أثر الأنبياء ، وورثتِهِم . أما إذا غاب هؤلاء أو غيبوا فقد أذنت بلدان المسلمين ومجتمعاتهم بانهيار.
وأرجو ألا نوغل في دائرة الشؤم ؛ فندعي غياب العلماء بإطلاق ، بل لهم وجود وحضور في أكثر بقاع الأرض ، مع الاعتراف بوجود الفروق بينهم وبين أسلافهم في القرون الإسلامية الماضية ، سواء من حيث الصفات الشخصية أو العلمية . وربما يكون لبلاد الحرمين الشريفين نصيب الأسد منهم .
بيد أن التساؤل الذي لا يزال قائماً هو : أين هؤلاء العلماء مِنْ وفِي خضم الأحداث والنوازل العالمية ؟ أين صوتهم ؟ وأين آراؤهم وفتاويهم ؟ وأزعم أن الأصوات موجودة ، وإن كان فيها خفوت ، ولكنها متباعدة معنى ومبنى ، ومتباينة شكلاًً ومضموناً حتى اجتمعت النقائض ، واضطربت الآراء والأفكار وتزعزت الثقة في هذه المرجعية . ترى ، ما سر ذلك ؟
الذي يبدو لي هو ضعف رابطة الرحم العلمية التي تصل بين العلماء ، عن طريق الشورى والتعاون على البر والتقوى ، بحيث أصبح لكل عالم منهج وأسلوب وقناعة مؤسسة على الفردية أو على ( الأنا ) .
ولذلك لا يكون غريباً أن نسمع التحليل والتحريم ، أو التأييد والاستنكار في قضية واحدة، وفي آن واحد ، وربما مكان واحد .
إن هذه المرجعية مطالبة – الآن - أكثر من أي وقت مضى بأن تدرك مسؤولياتها ، وتدرك جسامة الأحداث الراهنة وما تحمله من نذر ، ثم تفكر ملياً في هذه الصراعات العالمية من حيث أسبابها وأبعادها ومنطلقاتها ، وأساليبها وعلاقة ذلك بأمة الإسلام ، وملة الإسلام ، ودار الإسلام ، ولعل من أهم القضايا الفكرية المصاحبة لهذا الصراع ما يأتي :
- موقف الإسلام من الإرهاب.
- الفروق بين الإرهاب والجهاد.
- الولاء والبراء في العلاقة بالآخر .
- الإخاء الإسلامي والإخاء الإنساني .
- القيم الإنسانية المشتركة .
- عمومية الدعوة الإسلامية .
- مفهوم العزة الإسلامية.
- المصطلحات الوافدة وكيفية التعامل معها .(/2)
- أصول مذهب السلف ومعطياته الحضارية .
- الجهاد ، شروطه وغاياته .
- المعاهدات والمواثيق الدولية من منظور إسلامي .
إلى غير ذلك من الموضوعات التي أصبحت محل اهتمام العالم كله في هذه الظروف العصيبة.
وحسم مثل هذه القضايا العلمية والفكرية وفق المنهج الإسلامي الراشد لا يمكن أن يقوم به سوى العلماء ، ولكن ليس بطريقة أُحادية ، بل جماعية شورية تجمع رموز العلماء من كل صقع وعلى صعيد واحد وليكن مكة المكرمة – مثلاً- تحت ظلال منظمة المؤتمر الإسلامي أو رابطة العالم الإسلامي ، أو ما أشبه ذلك ؛ وذلك للخروج بآراء محررة تجمع بين الصلابة والمرونة ، أو جلب المصلحة ودرء المفسدة .(/3)
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة ... ...
يقول الله - تعالى -:"وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً".
هذه الآية من آيات البلاء والامتحان والتمحيص، تضع المؤمن على المحك الحقيقي لإيمانه ليتميز الصادق من الدعي، والكيّس من العاجز... يا لها من آية عظيمة تكشف حقيقة الإيمان عندما يصطدم أمر الشرع مع هوى النفس وعندما يكون أمر الله ورسوله في كفة وحظوظ النفس وشهواتها في كفة.
كلنا نحب الإسلام... وكلنا نحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... وكلنا نطمع في رضوان الله وجنته... وكلنا يتمنى أن يكون مؤمناً صادق الإيمان. ولكن هل المسألة بالتمني والادعاء أم بالعمل والإخلاص، هل نريد الإيمان بلا عمل ونرجوه بلا ثمن؟! ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله هي الجنة.
أخي الكريم: إنها أية تستحق منا التوقف عندها وتأمل كلماتها واستيعاب مدلولاتها ثم مقارنتها بالواقع الذي نحياه والنهج الذي نعيشه. إن هذه الآية تحمل معنى الإسلام ألا وهو الاستسلام لله والانقياد له والخضوع له بالطاعة. فهو استسلام وانقياد وخضوع ولا مجال فيه للاختيار بين قبول ورفض ولا بين أخذ ورد. إذا جاء أمر الله ورسوله في مسألة من المسائل فليس غير السمع والطاعة. لا اعتبار وقتها لهوى النفس ولا لعادات المجتمع ولا لأي اعتبار آخر، هذا هو معنى الاستسلام لله والانقياد له أما إذا تخيرنا من شرع الله ما يوافق أهواءنا ورغباتنا وعاداتنا وجئنا به على أنه دين خالص لله وفي نفس الوقت تركنا ما يخالف أهواءنا وعاداتنا وتقاليدنا بحجج واهية وأعذار ملفقة فذلك هي الخيرة التي لم يرتضيها لنا ربنا - سبحانه و تعالى - بنص الآية الكريمة.
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عن ربه - تبارك و تعالى - كما أمرنا بالصلاة والصيام والزكاة أمرنا بغض البصر وحفظ الفرج وصلاة الجماعة وطاعة الوالدين وصلة الأرحام وإرخاء اللحى وحجاب النساء ونهانا عن الغيبة والنميمة وأكل الربا والإسبال وأذى الجار وسماع الغناء وغيرها من الأوامر والنواهي مما لا يخفى على مسلم ولا مسلمة.
فليقف أخي الكريم كل منا مع نفسه وقفة محاسبة في ساعة صدق مع النفس وليسأل نفسه: هل أنا ممن يأخذ من دين الله ما يوافق هواه ويترك ماعدا ذلك؟ فمن وجد خيراً فليحمد الله وليسأله الثبات ومن وجد غير ذلك فليثب إلى رشده وليقصر نفسه على الحق قسراً. فالأمر جد لا هزل فيه وحق لا مراء فيه. والموعد: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والموعود: جنة نعيم أو عذاب مقيم. اللهم إنا نسألك عملاً صالحاً ونية صادقة وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وعلماً نافعاً، اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل وحسن القصد والتوكل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ... ...(/1)
وما نيل المطالب بالتمني..... بل أول النيل التمني
مفكرة الإسلام :على العكس المتبادر للأذهان يأتي حديثنا اليوم، فهذا البيت المشهور من الشعر يتداوله الناصحون والموجهون الذي يطالبوننا بأننا لا بد وأن نبذل الكثير لنحصل على ما نريد، وأن هذه المعادلة تنطبق على الآخرة كما هي تنطبق على الدنيا، فلئن كان أهل الدنيا يتمايزون فيما بينهم بدرجة المغالبة التي يبذلونها كي يصلوا إلى مرادهم؛ فإن طريق الآخرة يلزمها جهد وبذل وكد مضاعف؛ ليحصل السائر فيها على نصيبه ومكانته.
ولسنا هنا ننقد هذه القاعدة، أو نريد أن نقرر أن حصول المرء على مراده يتوقف على الأماني، فلا بد أن من وقف على عتبة الأماني ظانًّا أنها كافية لتحقيق مراده؛ سيكتشف عما قريب أنما هو في الحقيقة واهم كبير.
ولكننا هنا لنقول: إن كان الطريق لا يتحصل عليه بالأماني فقط إلا أن هذا لا ينفي أن أول نيل ما تطلبه إنما يكون عن طريق الأماني لا غيرها، وأن الله تبارك وتعالى عادل لا يظلم أحدًا؛ فيعطي كل امرئ ما تمناه وأراده.
ودعنا نتأمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: [[ كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر, والأذنان زناهما الاستماع, واللسان زناه الكلام, واليد زناها البطش, والرِجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه ]]. رواه مسلم.
فلئن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم حديثه بالأركان المفتتحة لفعل الزنى؛ فقد ختم ببيان صاحب المسؤولية العظمى، وحامى حمى ديار الإيمان في الجسد الإنساني ألا وهو القلب، وحصر المسألة كلها أو المأساة في إرتكاب هذه الكبيرة بين عضوين؛ عضو التمني وعضو الفعل، فقال صلى الله عليه وسلم: [[ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه ]]، فهو التمني أولًا ثم الفعل والتصديق أو التكذيب، وهو المتوقف حقيقة على حجم التمني، فكلما علا قدره وصدق عزمه؛ نال من تصديق عضو الفعل القدر الأعلى وهكذا.
ولئن كان هذا هو المشهد في المعصية؛ فأزيدك ملاحظة –لا بد أن لها صدى داخل نفسك- وهي أن الذنوب التي يستمر عليها أصحابها كلها لا بد لها من تعلق ما بالقلب، وتلذذ وتمني من جهة أدق، حتى مع أن الشخص قد يصيبه الندم الشديد بعد ارتكاب المعصية المتكررة، إلا أن هناك جزءًا يتفنن في إخفائه، ألا وهو التلذذ بالفعل ذاته، وما دام هذا باقيًا؛ فلا بد أنه سيقع في الفعل ثانية وإن امتنع عنه دهرًا من الزمان، فإن تذكره المرة تلو المرة بتلذذ يولد الأمنيات في داخل الإنسان هذه الأمنيات، التي تصنع دوافع الكائن البشري؛ فتقوده في أي الطريقين شاء، وما ذاك إلا لأنه اختار نوعية الأمنيات التي تشغل كيانه.
وتلمح معي في بدايات كل السائرين سواء في طريق الدنيا أو الآخرة ترى كلا منهم صاحب حلم جميل، ابتدره وهو ما زال بعد في نعومة أظفاره، هذا الحلم وهذه الأمنية ما تلبث أن تواجه بأعاصير الحياة؛ فيتمسك بها المؤمنون بأحلامهم، ويرسل الآخرون من بين أيديهم؛ فيسمحون لها بالتسرب، ويفقدونها وهم لا يعلمون أنهم إنما يفقدون حياتهم عندما يفقدون أمنياتهم وأحلامهم.
وها هو عمر بن عبد العزيز يضرب المثل في ذلك فيقول: [ إن لي نفساً تواقة لم تزل تتوق إلى الأمارة، فلما نلتها تاقت للخلافة، فلما نلتها تاقت إلى الجنة ].
وها هو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يربي أمته على تعظيم الأماني، ولكنه يقرنها في الوقت ذاته بالعمل المطلوب، فيقول صلى الله عليه وسلم: [[ إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة أراه فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ]]. رواه البخاري.
ويقول عليه الصلاة والسلام [[ إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها ]]. صححه الألباني في صحيح الجامع.
وعلى النقيض من ذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من التدني في الأماني والأحلام، والاستسلام للعجز والكسل، ففي الحديث عنه قال عليه الصلاة والسلام: [[ اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر ]]. رواه البخاري.
إنها دعوة للتمسك بالأمنيات والأحلام بعد دراستها دراسة واعية، فما قيمة المرء بغير أمنياته وتطلعاته، فما فقد الإنسان قيمته حتى فقد أحلامه، واستسلم وسلمها لواقعه، تاركًا له الفرصة كي يعيد صياغة نفسه وفق الظروف والأحوال، وهذه آفة شباب الأمة، تركوا أحلامهم بأيدي غيرهم يصوغونها ويرسمونها، فأصاب القلب من ذلك هم كبير:
شكوت ... وما الشكوى لمثلي عادة ولكن تفيض الكأس عند امتلائها(/1)
امسك بحلمك وأمنيتك، فهي أول الطريق إلى تحصيل مرادك، ثم أتبعها بعد ذلك بالجد والاجتهاد والبذل والسعي؛ تكتمل لك منظومة تحقيق مرادك بإذن الله، واحرص على أن يوافق حلمك وأمنيتك مراد الله ولا يخالفه؛ تنل ما تريد، ولا تنس أن أول النيل التمني.
وختامًا:
إذا غامرت في أمر مروم *** فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في امر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم
وإلى لقاء قريب بإذن الله لكم مني خير تحية وأطيب سلام
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ... ... ...
قال - تعالى -: ((وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون)) [الأنعام/123].
هذه الآية تحكي عن أمر مطَّرد في تاريخ الأمم وسير الدعوات. قال الشيخ محمد رشيد رضا: "إن سنة الله - تعالى - في الاجتماع البشري، قد مضت بأن يكون في كل عاصمة لشعب، أو أمة، أو كل قرية، أو بلدة بعث فيها رسول، أو بلدة مطلقاً؛ رؤساء وزعماء يمكرون فيها بالرسل في عهدهم وبسائر المصلحين من بعدهم" [تفسير المنار للشيخ رشيد رضا 8/132].
إذن، ففهم هذه الآية القرآنية، بل فهم هذه السنة الإلهية، مهم في إدراك طبيعة سير الأمور في التاريخ الإنساني، فيما مضى، وفيما بقي. فما من دعوة إصلاح، إلا وتصدى المجرمون الأكابر لحربها وتصدروا لمقاومتها، ولكنهم في النهاية - ومن حيث لا يشعرون - يسهمون إسهاماً مباشراً وأساسياً في إنعاشها وإحيائها بل، وفي تقويتها وإكسابها الصلابة والصلادة... كيف...؟!
تأمل هذه الآية، واستعرض تاريخ الرسالات والدعوات، تجد أن أكابر المجرمين يتسببون، فيما يبذلون من الضغوط والملاحقة والمطاردة لنبتات الإيمان المستضعفة، يتسببون في تقوية عودها، وإثراء روافدها، وتكثير المتعاطفين معها، ثم في غربلة عناصرها وتنقية صفوفها من الشوائب.
وقد يعجب المرء من نسبة كل هذه الإيجابيات التي تلحق بالدعوات إلى أفاعيل أعدائهم، ولكن هذا العجب يزول، عندما نعلم أن هؤلاء المجرمين يمثلون أداة الابتلاء التي تُطهر بها الصفوف، وتصهر فيها المعادن. قال - تعالى -: ((ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه، حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء، فآمنوا بالله ورسله)) [آل عمران/179].
فدعوة الرسل - على مر التاريخ - تبتلى بالمجرمين، ثم تكون العاقبة للمتقين. قال ابن كثير في تفسير قوله - تعالى -: ((وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها...)): "وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين والرؤساء ودعاة الكفر والصد عن سبيل الله، وإلى مخالفتك وعداوتك، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك ثم تكون لهم العاقبة" [تفسير ابن كثير 2/164].
- لقد مكر المجرمون الأكابر بأول الرسل نوح - عليه السلام -: ((ومكروا مكراً كباراً، وقالوا لا تذرن آلهتكم...)) [نوح/22] ولكن مكرهم حاق بهم.
- ومُكر بنبي الله صالح - عليه السلام - فكانت العاقبة له: ((ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين)) [النمل/50، 51].
- ومُكر بموسى - عليه السلام - أشد المكر، ولكن كان الأمر كما قال - تعالى -: ((فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً)) [القصص/8]، ومكر بأتباعه والداعين إلى دعوته ((فوقاه الله سيئات ما مكروا)) [غافر/45].
- ومُكر بعيسى - عليه السلام -: ((ومكروا ومكر الله والله خير المكرين. إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا)) [آل عمران/54، 55].
وسيرة هذا الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم - خير شاهد على ما دلت عليه الآية التي نتحدث عنها. ففي قريته - مكة - انبعث أكابرها المجرمون يمكرون، حتى اضطروا المستضعفين إلى الهجرة إلى الحبشة، ثم الهجرة إلى المدينة. تلك الهجرة التي انعكس بها السحر على الساحر، فإن هؤلاء المهجرين الممكور بهم، هم الذين دقوا أعناق أكابر المجرمين في بدر بعد أعوام قليلة، وهم الذين فتحوا القرية ((مكة)) بعد ذلك، وأذلوا كبرياء المجرمين الأكابر فيها ولهذا، فإن ثمة سؤال، ينبغي أن يعاد طرحه، وتُعاد الإجابة عليه في ضوء ما حدث في دعوات المرسلين ومكر المجرمين بها. هذا السؤال هو: ((ما هو دور المجرمين في انتصار الدعوات التي يحاربون))؟.
وهو سؤال ربما يبدو غريباً... ولكنها الحقيقة التي نطق بها القرآن لو تأملنا، فالله - تعالى - يقول: ((وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون)). وقال: ((وما يحيق المكر السيئ إلا بأهله)) [فاطر/43]. وقال: [وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم)) [إبراهيم/46]. وقال: ((سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون)) [الأنعام/124]، فالمكر يعود على أهل الكفر ويحيق بهم في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فظاهر، وأما في الدنيا فعلينا أن نستعرض نتائج مكر الكفار برسلهم، ونتائج مكر الكفار من أهل الكتاب والمشركين برسولنا - صلى الله عليه وسلم - خلال سنوات بعثته وحتى لقي ربه، وسوف نجد أن كل انتصار سُبق بمكر من المجرمين كبير.(/1)
فالخسران كله في الدنيا والآخرة لحق ويلحق بأكابر المجرمين. ومن عجيب نظم القرآن الكريم، أنه قصر ضرر مكرهم عليهم ((وما يمكرون إلا بأنفسهم)) وهذه الآية - كما كانت تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لكي يستصحب معناها أثناء تصديه لمهمة إبلاغ الدين والجهاد في سبيله، وينبغي أن تكون كذلك سلوى لكل داعية إلى هذا الدين في كل عصر. فليعلم الدعاة أن أساليب المكر والدهاء والحيل التي يلجأ إليها المجرمون في مطاردة المصلحين والتضييق عليهم وتنفير الناس عن دعوتهم، ستعود - بإذن الله - أثراً إيجابياً على الدعوة وعلى الدعاة. فليطمئن الدعاة على دين الله، ماداموا هم أمناء عليه في أنفسهم وأهليهم. قال - تعالى - لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: ((واصبر وما صبرك إلا بالله، ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون. إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون)) [النحل/127، 128]. ... ...(/2)
ومتى فقناهم عددا أو عدة؟
بقلم: محمد حسن يوسف
يعتري الكثير من الناس حالة من الإحباط واليأس من جراء ما يحدث للمسلمين في كل مكان من العالم الآن، حيث ينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ثوبان، أنه قال: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل! ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت [1].
ويتساءلون: هل بعد كل هذه النكبات من وثبة أخرى للمارد؟! هل يستطيع المسلمون الخروج من قمقم الهزائم التي مُنيت بهم وتوالت عليهم، حتى أصبحت صفة ملازمة لهم؟! ومتى سيكون ذلك؟! أم أن على المسلمين الاستسلام لتلك الضربات المتوالية التي تلحق بهم، وفي كل مكان من العالم، لكي تستأصل شأفتهم وتزيل دولهم، ومن ثم وجودهم من على خريطة العالم؟!!
وفي الواقع فإن المتبصر بأمر الدين لا يعتريه مثل هذا الشعور المحبط، بل على العكس تجده واثقا في قدرة الله. فكل ما يحدث للمسلم هو خير له. وحسبك تلك النازلة العظيمة التي حدثت ببيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قيل في عرضه، وما اُتهمت به أعز زوجاته إليه وأحبهن إلى قلبه من حادثة الإفك. فإذا بالوحي يتنزل قائلا بأن كل ذلك إنما هو في حد ذاته خير للمسلمين وليس شرا، حيث قال تعالى: ? َلا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ? ] النور: 11 [ .
إذن ما يحدث للمسلمين في جميع أنحاء العالم من حولنا إنما هو في حقيقة الأمر قَدَر رباني يجري وفقا لسنن الله الكونية التي يستحيل تغييرها إلا إذا تغير مضمونها. فإذا أردنا الخروج من الأزمة التي ألمت بنا حاليا، فعلينا العمل من أجل تغيير الواقع من حولنا حتى نسمح لسنن الله التي تساند المسلمين من العمل مرة أخرى. ونوضح هذا الأمر فيما يلي:
مفاهيم ينبغي ترسيخها في النفس
هل يريد المسلمون حقا تحقيق النصر؟!! هذا سؤال هام لابد لكل منا أن يسأله لنفسه ويحدد إجابته عليه. إن نصر الله يتنزل وفقا لسنن ربانية لابد من تحققها. وحين يريد المسلمون أن يتحقق ذلك النصر في أرض الواقع فلابد من عدة أمور تستقر في عقيدتهم تكون محركا ودافعا لهم على الانطلاق، حتى يستفيدوا من " معية الله " في المعركة إلى جانبهم:(/1)
? التخلي عن المعاصي واللجوء إلى الله: فلن يتم النصر إلا بذلك، فالإيمان أقوى سلاح لتحقيق النصر. ولنستعرض في ذلك ما كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ومن معه من الأجناد حينما أرسله في أحد فتوح العراق: أما بعد، فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما يُنصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم. فإذا استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنْصَرْ عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حَفَظَةً من الله يعلمون ما تفعلون، فاستَحْيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدوّنا شرٌ منا فلن يُسلَّط علينا وإن أسأنا، فرُبّ قوم سُلّط عليهم شرٌ منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل – لما عملوا بمساخط الله – كُفّارُ المجوس ? فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً ? ] الإسراء: 5 [ . واسألوا الله العونَ على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوّكم. اسأل الله ذلك لنا ولكم [2]. وانظر إلى هذا القول الملهم: وإنما يُنصَرُ المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم. فهنا يتجلى سر نصر المؤمنين في معاركهم. فمتى تحقق هذا الشرط، جاء النصر بإذن الله ولا ريب. وإلا فقل لي بربك كيف ينصر الله قوما يخذلون نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ويكرهون تطبيق سنته المطهرة، ولا يجدون في وقتهم متسعا لقراءة القرآن، ويبارزون الله بالمعاصي جهارا نهارا؟!! فالنصر لن يتحقق إلا بعد التمحيص، أي تنقية المسلمين وإفراز القلة المتمسكة بدين الله. قال تعالى: ? وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ? ] آل عمران: 141 [ . قال القرطبي في تفسيره: فيه ثلاثة أقوال: يمحص: يختبر. الثاني: يطهر; أي من ذنوبهم ... والمعنى: وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا ... الثالث: يمحص: يخلص ... فالمعنى ليبتلي المؤمنين ليثيبهم ويخلصهم من ذنوبهم. " ويمحق الكافرين ": أي يستأصلهم بالهلاك. أ. هـ. فلابد للأمة من الإقلاع عن الذنوب التي يرتكبها أفرادها ليل نهار، سرا وجهرا. والأمثلة كثيرة: الإقلاع عن التدخين، التخلي عن الكذب، عدم النميمة والغيبة، ترك النفاق ... الخ. فقد أصبحت تلك المعاصي متفشية كالسرطان الخبيث في جسد الأمة. ولابد أن تتيقن أنك أنت - بذنبك الذي تصر عليه – من يؤخر النصر عن الأمة. فابدأ بنفسك وأعلنها توبة شاملة لله لعل نصر الله يتنزل على الأمة بسببك.
? جهاد النفس في مرضاة الله: ذلك أن نصر يتحقق بعد العمل بتشريعه والكف عن مناهيه، قبل أن يتحقق الجهاد في ميدان القتال. قال تعالى: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ? ] العنكبوت: 69 [. قال القرطبي في تفسيره: أي جاهدوا الكفار في الله، أي في طلب مرضاة الله ... وقال ابن عباس وإبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون ... وقال عمر بن عبد العزيز: إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا، تقصيرنا في العمل بما علمنا. ولو عملنا ببعض ما علمنا، لأُورثنا علما لا تقوم به أبداننا. قال الله تعالى: ? وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ ? ] البقرة: 282 [. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين والرد علي المبطلين; وقمع الظالمين; وتعظيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر. وقال سفيان بن عيينة لابن المبارك: إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول: " لنهدينهم ". والجهاد في عمل الطاعات يستلزم إرغام النفس على الاستيقاظ لأداء صلاة الفجر في جماعة، وقيام الليل، وقراءة جزء من القرآن على الأقل يوميا، وأداء جميع الصلوات في جماعة، وإخراج جزء من مالك للفقراء من حولك، ومساعدة المشردين من المسلمين في أنحاء العالم. كل هذه أمثلة على الجهاد في سبيل مرضاة الله.(/2)
? تحقيق التربية الإيمانية المطلوبة لأفراد الأمة: فلابد من سلوك طريق الأنبياء وهو تعبيد الناس لرب العالمين حتى يتحقق النصر من عند الله. إذن لابد من طريق الدعوة إلى الله عز وجل، والارتفاع بقلوب الناس وعقولهم إلى المستوى الإيماني المطلوب، وتبيين حقائق الإسلام، والدعوة إلى توحيد الملك العلام. قال تعالى: ? وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ? ] الروم: 47 [ . فلابد أن يكون الجميع متشوق لرؤية نواة المجتمع المسلم تتحقق على أرض الواقع. أما البيئة التي تطرد من كيانها امرأة لأنها ارتدت النقاب، أو تنظر بعين الشك إلى رجل أطلق لحيته فما زالت بعيدة عن نيل رضا الله بله نصره.
? انفراد الله تعالى وحده بالقدرة: وأن ما في العالم من غلبة وغيرها إنما هي منه وبإرادته وقدرته. فقال عز من قائل: ? قُلْ إِنَّ اْلأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ? ] آل عمران: 154 [ ، ? بَلْ لِلَّهِ اْلأَمْرُ جَمِيعًا ? ] الرعد: 31 [ ، ? لِلَّهِ اْلأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ? ] الروم: 4 [. أي النصر بيد الله ينصر من يشاء ويخذل من يشاء. أي هو المالك لجميع الأمور, الفاعل لما يشاء منها, فكل ما تلتمسونه إنما يكون بأمر الله. وهذا دحض للنظرية التي مفادها أن " 99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا ". بل جميع مقدرات الأمر بيد الله، ولا تملك لا أمريكا ولا غيرها أياً من مقدرات الأمور، ولا حتى نصف بالمائة! فالله سبحانه ينصر من يشاء، ويخذل من يشاء، ويرفع من يشاء، ويذل من يشاء. تلك العقيدة يجب أن تستقر في النفوس، وتكون هي الموجه الأول والأخير لنا في كل تحركاتنا.
? ترسيخ مفهوم الاستطاعة: وهو أن المطلوب منا إعداد ما في الطاقة، وليس كل شيء. قال تعالى: ? وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ? ] الأنفال: 60 [. وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ولم يقل كل القوة. إذن ما استطعتم أي ما في أيديكم. وقوله تعالى: " من قوة ": أي من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها. وهذه القوة تتحقق بما يتحقق به معناها، وهو القدرة على تنفيذ إرادة صاحبها. فقد يكون تحقيقها بإعداد السلاح للجند، وتدريبهم على فنون القتال، وتربيتهم على معاني الإيمان التي تهيئهم للقتال في سبيل الله والرغبة في الشهادة في سبيله [3]. إذن توافر اليقين مع القوة المؤمنة هو المحك الأصلي للجهاد وليس العدة أو العدد. قال القرطبي في تفسيره: " وأعدوا لهم " أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى. فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب, كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ. ولذلك فإن السيف الخشب الذي أخذه عكاشة بن محصن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر قتل به الكفار، لأنه كان يضرب بإذن الله. فقد شهد عكاشة بن محصن بدرا وأبلى فيها بلاء حسنا، وانكسر في يده سيف، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عُرْجُونا – أو عودا – فعاد في يده سيفا يومئذ شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يزل يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قُتل في الردة وهو عنده، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن [4].
? إرجاع النصر لله: بمعنى أنه حتى مع تحقق العدة الكافية في أيدي الفئة المؤمنة، وحين يتحقق النصر لهذه الفئة، فإن هذه الفئة يجب أن تُرجع هذا النصر لله، وألا تنسب تحقيق هذا النصر لنفسها. وذلك مصداقا لقوله تعالى: ? وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ? ] الأنفال: 17 [. فما يتحقق من نصر فمرجعه الله وحده، وليس كثرة العدد أو تطور الإمكانيات.(/3)
? التخلص من حب الدنيا ونعيمها: انظر إلى سؤال الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت. هذا هو الداء. أننا أصبحنا الآن نتعلق بالدنيا ونتمسك بها، وكأنها أصبحت هي دار القرار بالنسبة لنا. مع أن المسلمين على مدار تاريخهم كانوا ينظرون إلى الدنيا باستهانة، وأنها ليست إلا ممر لدار مقر. انظر إلى قول خالد بن الوليد، حينما سار إلى الحيرة بعد فراغه من أمر اليمامة، فخرج إليه أشرافهم مع أميرهم الذي عيّنه عليها كسرى. فقال له خالد ولأصحابه: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم الجزية فقد أتيكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة، جاهدناكم حتى يحكم الله بيننا و بينكم [5]. فهذه هي ثقافة الإسلام، أو ثقافة الدار الآخرة التي يحملها الإسلام. الحرص فيها على الآخرة يكون مثل حرص غير المسلمين على دنياهم، التي هي جنتهم. إن أهم شيء في حياة المسلم هو نظرته إلى الدار الآخرة، حتى وإن كان ثمن ذلك حياته.
? تغيير ما بأنفسنا: فلابد أن يستشعر كل فرد منا بفداحة الوضع الذي أصبحنا عليه الآن. فالأمر ليس هزلا. ولابد لكل فرد أن يتغير، وأن يستشعر هذا التغيير في كل مفردات حياته. فما لم يحدث ذلك، فلن يُنزل الله نصره علينا. قال تعالى: ? إِنَّ اللَّهَ َلا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ? ] الرعد: 11 [. إن نصر الله لا يتنزل على قوم إلا إذا كانوا قد اتخذوا منهج الله شريعة لهم تحكمهم ويتمسكون بتطبيقها مستقبلا بعد تحقق نصر الله لهم. فهل ينزل نصر الله علينا الآن، ونحن لم نتغير بعد، حتى إذا انتهت المعركة، عدنا لإدارة حياتنا بالطريقة التي كان أعداؤنا يديرون بها حياتهم؟! كلا! لن يحدث هذا. قال تعالى: ? الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي اْلأَرْضِ أَقَامُوا الصََّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ? ] الحج: 41 [.
مواقف من السنة المطهرة
ومن أهم المواقف التي تثبت عدم سريان قانون الإمكانيات مع رسوخ عقيدة الإيمان والتوكل على الله في العهد النبوي، موقف الصحابة في غزوة مؤتة. فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمانٍ من الهجرة، واستعمل عليهم زيد بن حارثة. وقال: إن أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب على الناس. فإن أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة على الناس.
فتجهز الناس، ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف. فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلموا عليهم. ثم مضوا حتى نزلوا مكانا قريبا من أرض الشام. فبلغ الناس أن هرقل زعيم الروم، إحدى أكبر إمبراطوريتين في ذلك الوقت، قد نزل بالقرب منهم في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من القبائل القريبة مائة ألف آخرين. مائتي ألف في مواجهة ثلاثة آلاف!! وإمبراطورية عريقة ضالعة في الحروب في مواجهة دولة فتية ناشئة لم تثبت أركانها بعد!!
فلما بلغ ذلك المسلمين، أقاموا في مكانهم ليلتين يفكرون في أمرهم. وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فوقف عبد الله بن رواحة يشجع الناس، وقال: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة، فمضى الناس. وذهبوا للقاء عدوهم. أرأيت إلى قول عبد الله بن رواحة: وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. هذا هو سر الحرب لدى المسلمين. ولنتابع بقية القصة.
ثم بدأت المعركة. فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى استشهد برماح القوم. فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب يقاتل تحت لوائها. وقد أخذ جعفر الراية بيمينه، فقطعت. فأخذها بشماله، فقطعت. فاحتضنها بعضديه، حتى قُتل رضي الله عنه. فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين.
فلما استشهد جعفر، أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها، وهو على فرسه. فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد. ثم حسم أمره وتقدم نحو العدو. فلما كان في طريقه نحو العدو، أتاه ابن عم له بعرق من لحم. فقال: شد بهذا صلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت. فأخذه من يده، ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس. فقال لنفسه: وأنت في الدنيا!! يريد أن المعركة حامية وهو مازال بأكله عرق اللحم هكذا يفكر في الدنيا! ثم ألقى عرق اللحم من يده، وأخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قُتل.(/4)
ثم أخذ الراية أحد المسلمين، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم وحاول تثبيت مواقع الجيش حتى نزول الظلام. فلما أصبح بدأ في إعادة ترتيب جيشه: فجعل مقدمة الجيش مكان ساقته، وساقة الجيش مكان مقدمته. وميمنة الجيش مكان ميسرته، وميسرة الجيش مكان ميمنته. فلما رأى الروم جيش المسلمين بهذه الهيئة، أنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئاتهم. وقالوا: قد جاءهم مدد! وهم قد كانوا رأوا الأعاجيب من هذه القلة التي تقاتلهم، فما بالك بمدد يأتيهم ليشد أزرهم. فرُعبوا وانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم. فأين كانت الإمكانيات التي قاتل بها المسلمون في هذه الموقعة؟!!
بل قد تكون الوفرة في العدد والعدة سببا في نزول الهزيمة بالمسلمين، إذا تمسكوا بأسبابها ولم يتجهوا إلى حول الله وقوته. وأكبر دليل على ذلك ما شهدته غزوة حنين في بادئ الأمر من هزيمة ماحقة للمسلمين حين اتكلوا على أنفسهم. فلما فاءوا إلى الله وتمسكوا بحبله، أنزل نصره وسكينته على المؤمنين. وقال تعالى: ? لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ اْلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ? ] التوبة: 25 [ ، يُعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة العدد ولا بلبس اللأمة والعِدد، وإنما النصر من عنده تعالى. كما قال تعالى: ? كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ? ] البقرة: 245 [ .
مواقف من جيل الصحابة
كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه: أما بعد، فقد جاءني كتابك تذكر ما جمعت الروم من الجموع. وأن الله لم ينصرنا مع نبيه صلى الله عليه وسلم بكثرة عدد ولا بكثرة جنود. وقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إلا فَرَسَان، وإن نحن إلا نتعاقب الإبل. وكنا يوم أُحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معنا إلا فرس واحد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركبه، وقد كان يظهرنا ويعيننا على من خالفنا [6].
ومما يروى في ذلك، قول خالد حين قال له رجل: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ما أكثر المسلمين وأقل الروم، إنما تكثر الجنود بالنصر، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر ( اسم فرس خالد ) براء، وأنهم أضعفوا ( أي: زادوا ) في العدد [7].
وفي فتوح العراق، كان الفرس قد فروا بكمالهم إلى المدائن، وتحصنوا بها. وقد فروا إليها عن طريق نهر دجلة وأخذوا كل سفنهم معهم. فلما وصل سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين في فتوح العراق إلى شاطئ دجلة لم يجد شيئا من السفن، ورأى دجلة قد زادت زيادة عظيمة وأسود ماؤها.
فوقف سعد يخطب في المسلمين على شاطئ دجلة. فأوضح للمسلمين أن عدوهم قد اعتصم منهم بهذا البحر ... فهم لا يستطيعون الوصول إلى هذا العدو بسببه، بينما هم يستطيعون الوصول إلى المسلمين متى شاءوا. وأنظر إلى تلك العبارة الرائعة التي قالها لهم في هذا الموقف: وليس وراءكم شيء تخافون أن تُؤتوا منه، وقد رأيت أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصدكم الدنيا. ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم [8]. انظر إلى هذه الكلمات الرائعة التي يبثها القائد في جنوده. فالمسلمون لا يهمهم شيء أن يفوتهم إذا ما قورن بالجهاد. فالجهاد هو أفضل الأعمال في الإسلام. والشهادة في سبيل الله هي أسمى ما يتوق المسلم لنيله. والموت قادم لا محالة. فمن لم يمت بالسيف مات بغيره. فالنهاية محتومة. فلماذا لا تكون شهادة ومنزلة رفيعة في الآخرة، بدلا من حياة ذليلة يعقبها موت أيضا، ولكن في درجة متدنية من الجنة أو في النار نعوذ بالله منها! وقد عزم على خوض البحر إليهم بلا سفن يمتلكها! يمضي في البحر هكذا! بلا إمكانيات! يواجه جيش إمبراطورية فارس بعدتها وعتادها بلا سفن!! لا ... إنه يواجه ذلك بسلاح أقوى من أي سلاح آخر ... إنه سلاح الإيمان. ولذلك فقد طلب منهم إخلاص نياتهم لله، وقد كان.(/5)
ونعود للقصة. فقد وافق الجند على خوض البحر مع سعد رضي الله عنه. فانتدب لذلك كتيبة تسمى في كتب التاريخ بكتيبة الأهوال. وهي كذلك بالفعل. وكانت هذه الكتيبة تتكون من ستين فارس من ذوي البأس، وكان عاصم بن عمرو أميرا عليها. وكانت مهمة هذه الكتيبة عبور البحر إلى العدو وتأمين ثغرة المخاضة من الناحية الأخرى حتى تستطيع بقية الجيش أن تعبر هذه المخاضة وهم آمنين. تأمل هذا الموقف ... العدو واقف على شاطئ النهر، يرصد تحركاتك، ويشهر سلاحه في وجهك، وأنت تقف على الشاطئ الآخر، تريد أن تعبر هذا النهر لكي تصل إلى العدو، وتشتبك معه، وتتحصن في بقعة تكون بمثابة نقطة ارتكاز تُؤّمن من خلالها الطريق لبقية الجيش حتى يعبر ويستقر فيها وينطلق للبدء في عملياته منها. موقف في غاية الصعوبة!
وقد أحجم أفراد الكتيبة في بادئ الأمر عندما فكروا في هذا الأمر بهذه الطريقة المنطقية. إلى أن تقدم رجل من المسلمين وقال لهم: أتخافون من هذه النقطة؟ ثم تلا قوله تعالى: ? وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إَِّلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً ? ] آل عمران: 145 [ . ثم أقحم فرسه فيها ومضى. فلما رأى الناس ذلك اقتحموا معه. هنا زالت العقلانية المثبطة، وارتفعت سحائب الإيمان والثقة بالله وبوعده للمؤمنين، فبدأوا في اجتياز المخاضة.
فلما رآهم الفرس يقفون على وجه الماء، قالوا: مجانين! مجانين! ثم قالوا: والله ما تقاتلون إنسا بل تقاتلون جنا! وحاولوا منع هؤلاء المتقدمين نحوهم عن طريق الماء ليمنعوهم من الخروج منه. ولكن المسلمين شرعوا لهم الرماح وتوخوا الأعين، فقلعوا عيون الخيول. فرجعوا أدراجهم من حيث أتوا، وواصل المسلمون تقدمهم. حيلة بسيطة استخدمها المسلمون، وهداهم الله إليها لما رأى شدة تمسكهم به، فأدت إلى السيطرة على النقطة الحصينة التي ستكون محور تحرك الجيش بعد ذلك.
ثم نزلت الكتيبة الثانية فالثالثة. ثم أمر سعد بقية الجيش بالنزول في الماء، وذلك بعد تحصن الجانب الآخر بوجود نقاط الارتكاز الإسلامية فيه. وقد أمر سعد المسلمين عند دخول الماء أن يقولوا: نستعين بالله ونتوكل عليه. حسبنا الله ونعم الوكيل. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [9]. هذه هي مبادئ النصر في الحرب في الإسلام. تفويض مطلق للأمر لله، ثم تضرع وابتهال له بأن ينزل نصره وسكينته على المسلمين.
يقول المؤرخون: وسار الناس في النهر كأنما يسيرون على وجه الأرض، حتى ملؤوا ما بين الجانبين. فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجالة. وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض، وذلك لما حصل لهم من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر الله ووعده ونصره وتأييده. فكان ذلك معجزة بكل المقاييس.
ثم أكمل المسلمون معاركهم انطلاقا من هذه النقطة وأكملوا بقية فتوحات العراق. فأين هي الإمكانيات التي كانت متاحة للمسلمين في ذلك الوقت. إنها لم تكن إلا بقدر الاستعانة المطلوبة، ولكن جيشان الإيمان في الصدور هو الذي يقف وراء هذه الانتصارات الباهرة.
وكان سعد يقول: والله لينصرن الله وليه، وليظهرن الله دينه، وليهزمن الله عدوه، إن لم يكن في الجيش بغي أو ذنوب تغلب الحسنات [10]. وهكذا يحدد سعد بن أبي وقاص مفاتيح النصر في المعركة. عدم وجود بغي أو ذنوب تغلب الحسنات.
والمتأمل في تاريخ المسلمين يجد الكثير والكثير من المواقف التي وقف فيها المسلمين يواجهون أعتى الظروف، من أسود وفيلة وغيرها، بمجرد إيمانهم القوي المتدفق من صدورهم، ليكتب الله لهم النصر في معاركهم التي خاضوها.
مواقف معاصرة
ومن الأمثلة الحديثة على هذه القضية، ما حدث في جهاد الشعب الأفغاني ضد روسيا. فقد كان هذا الجهاد هو الذي أعاد لأذهان المسلمين مفهوم الجهاد في الآونة الأخيرة. لقد واجه الشعب الأفغاني الدبابات الروسية أول أمره بالحجارة والصخور. لقد آمن الشعب الأفغاني بالحقيقة الإيمانية البديهية التي تمثلها المعادلة التالية: الله أقوى من روسيا. الله لا يُقهر ولا يُهزم! إذن ستُهزم روسيا وتُقهر بإذن الله.
ومن المواقف المثيرة التي واجهتها المقاومة الأفغانية في ذلك الوقت، أنها تعرضت على مدى سبعة أشهر تقريبا لقصف الطائرات الروسية كل يوم مرتين إلى خمس مرات، ولم يستشهد واحد من المجاهدين، وذلك لأنهم كانوا يدعون الله قائلين: اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا تجاه الطائرات، فيحميهم الله.
ويقول أحد المجاهدين: ما هجمت الطائرات علينا مرة إلا ورأيت الطيور تحتها، فأقول للمجاهدين: جاء نصر الله! ولقد توقف ذات مرة مضاد الطائرات، فدعوت الله، فساق الله علينا الغمام تغطينا من الطائرات. ويقول: لقد هجمت علينا ستمائة دبابة وناقلة، وكنا مجموعة من المجاهدين ليس معنا سوى ( 14 ) بندقية مع العصي والسيوف، وهزمهم الله!(/6)
ويحكي أحد المجاهدين الأفغان: كانت معنا قذيفة واحدة مع مضاد واحد للدبابات. فصلينا ودعونا الله أن تصيبهم هذه القذيفة، وكان مقابلنا مائتا دبابة وآلية. فضربنا القذيفة، فإذا بها تصيب السيارة التي تحمل الذخيرة والمتفجرات، فانفجرت ودمرت ( 85 ) دبابة وناقلة وآلية، وانهزم العدو، وغنمنا كثيرا [11].
كما أن ما قامت به المقاومة الفلسطينية مؤخرا يعطي أكبر الدلالة كذلك على هذه القضية. فعلى الرغم من قلة إمكانيات المقاومة، وعلى الرغم من تطوير العدو الصهيوني لعرباته المدرعة ودباباته بحيث فشلت أسلحة المقاومة المتمثلة في قذائف الآر بي جي في وقف زحف الدبابة ميركافا من قبل، وخاصة بعد تطوير وتحديث هذه الدبابة لتكون الأحدث والأولى في العالم، حيث ترك هذا التطوير مآسٍ كبيرة في نفوس الأبطال عندما استعدوا لها في مخيم جنين، ولكن كانت طلقات الآر بي جي لا تفعل معها شيئا. وبالرغم من ذلك نجد المقاومة قادرة اليوم على تفجير هذه الدبابة بعد أن قامت المقاومة بتطوير أسلحتها هي أيضا، فأصبحت قادرة على النيل من هذه الدبابة وتدميرها.
فهذه إرادة التحدي التي يبثها الله في قلوب عباده المخلصين ليثبتهم وينصرهم على عدوهم هي التي جعلت المقاومة تستطيع إدخال التطوير على نوعية سلاحها، بحيث استطاعت تفجير هذه الدبابة حتى بعد تطويرها، لتصيب العدو بالصدمة والذهول. لقد نوّعت المقاومة الفلسطينية أسلحتها من الحجارة إلى صواريخ القسّام وهاون حماس والعمليات الاستشهادية.
ويقول أحد قادة لواء ( حبعاتي ) الذي سقط جنوده على أيدي عناصر المقاومة، في معرض تعليقه على ثبات وبسالة المقاومة: كان بإمكان الفلسطينيين أن يتركونا ننسحب متذرعين بتفوقنا الهائل عليهم. لكنهم تحدونا وتجاهلوا مظهر تفوقنا. إن المقاتل الفلسطيني لا يهاب أي شيء. وأضاف ضابط آخر في نفس اللواء: ماذا لو كان هؤلاء يملكون عشرة بالمائة من إمكاناتنا؟ بكل تأكيد لابد أن شكل هذه المنطقة كان قد تغير منذ زمن بعيد.
ونفس الشيء يحدث في الفلوجة. فئة قليلة لا تكاد تملك من حطام الدنيا وأسلحتها إلا الشيء اليسير تقف بالمرصاد في مواجهة أعتى ترسانة للسلاح في العالم اليوم، وتجبرها على التراجع والانسحاب مذعورة من المدينة.
إن الفلوجة هي الأكثر وضوحا والأعمق في هذا الإطار، لأنها مدينة صغيرة ( حوالي 200 ألف نسمة )، وهي تواجه أكبر قوة غاشمة في التاريخ، فليس بعد الولايات المتحدة قوة الآن. وبالتالي فإن درس الفلوجة هو الدرس الأوضح، الذي لا يمكن أن يكابر أحد أو يغالط أحد في أننا أمة قادرة على المواجهة والصمود. وأن أصغر قرية في العالم، وبالذات العالم العربي والإسلامي، لأسباب حضارية وثقافية ودينية مرتبطة بالجهاد والاستشهاد، قادرة على مواجهة الولايات المتحدة والصمود أمامها، بل وإنزال أكبر الأذى بها.
إن ظهور المقاتلين في فلسطين والفلوجة يمسكون المصحف الشريف بيد، والبندقية أو أي سلاح آخر باليد الأخرى، هو دلالة هامة على تطور البعد الإسلامي والعقائدي في الصراع ضد العدو، وهو شرط ضروري للصمود والانتصار في معاركنا.
الخاتمة
يجب أن يسود بين المسلمين مفهوم الاستعلاء على قوى الكفر بديلا عن الانبطاح والتركيع. فالمسلمون الأوائل عند مجابهة حضارة الروم والفرس كانوا يشعرون أنهم هم الأعلون حتى وإن كان الروم والفرس متفوقون عليهم في التقدم العلمي وتقنيات الحياة. لكن كان إيمانهم يعطيهم دفعة كبيرة للاستعلاء على سائر من حولهم، وذلك تطبيقا لقوله تعالى: ? وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ اْلأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ? ] آل عمران: 139 [ .
إن السُنة التي يتعامل بها الله سبحانه وتعالى معنا تتمثل في وجوب أن نتصف بعدة صفات: عدم معصية الله، وإعداد ما في الاستطاعة، واليقين في نصر الله، وصدق اللجوء إلى الله، وضرورة مراجعة النفس وتغييرها إلى الأفضل. فمتى تقاعسنا عن تحقيق أحد هذه الشروط، تساوينا مع الأعداء عند الله، فعندئذ تسود سُنة ربانية أخرى، تتمثل في إحراز الفئة الأقوى للنصر.
إن المتأمل في واقع خطط الأعداء في القديم والحديث يجدها تتمثل في إغراق الشعوب في الملذات والملهيات والشهوات، حتى تغدو كالقطعان السائمة التي لا تعرف معروفا ولا تُنكر منكرا، بحيث تصبح شعوبا لا هم لها إلا الترفيه والتسلية. وتنفق الولايات المتحدة وربيبتها دولة يهود الكثير والكثير على إضلال الشعوب، فهذا سلاحهم وطبعهم منذ القديم.(/7)
قال صموئيل زويمر رئيس جمعيات التبشير لزملائه من المبشرين في مؤتمر القدس عام 1935: إنكم أعددتم شبابا في ديار المسلمين لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية. وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده له الاستعمار: لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل. ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات. فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز فللشهوات. ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء [12].
وهكذا تخمد جذوة الإيمان في الصدور، فتصاب حركة المسلمين بالشلل والتوقف التام. إن المحرك الأساسي للمسلمين هو الدافع العقدي. فلو تحولت حركة المسلمين لكي تصبح في سبيل تحقيق شهوات النفس، فهذا هو بداية طريق الانحراف عن جادة الصواب، والهزيمة في كل ميادين الحياة، وفي معركة القتال بالطبع. إن على المسلمين أن يسايروا التطور الحادث في جميع مناحي الحياة، ولكن بنظرة مختلفة لما ينظر إليها الآخرون. فهم يفعلون ذلك بدافع من إيمانهم بالله. فكل عمل يفعلونه فإنهم يبتغون من ورائه وجه الله. وهذا هو الفارق الجوهري بينهم وبين غيرهم. وما لم يحدث ذلك، أي ما لم يظهر الجيل الرباني الذي يحمل هم مرضاة الله سبحانه وتعالى من وراء جميع أفعاله، فلا تنتظر من المسلمين تحقيق أي تقدم أو انتصار، بغض النظر عن إمكانياتهم أو تقنياتهم.
12 من ربيع الثاني عام 1425 ( الموافق في تقويم النصارى 30 مايو عام 2004 ).
-----------------------
[1] صحيح / صحيح سنن أبي داود للألباني، 4297
[2] العقد الفريد: 1/119.
[3] عبد الكريم زيدان، السنن الإلهية في الأمم والجماعات، مؤسسة الرسالة، 2002. ص ص: 66-67.
[4] أسد الغابة في معرفة الصحابة: 4/65.
[5] تاريخ الأمم والملوك: 2/307.
[6] سعيد عبد العظيم، طبيعة الصراع بين المسلمين واليهود، دار الإيمان، 2001. ص: 60.
[7] الكامل في التاريخ: 2/260.
[8] البداية والنهاية: 7/53.
[9] البداية والنهاية: 7/53.
[10] البداية والنهاية: 7/54.
[11] كل هذه الروايات مأخوذة من: عبد الله عزام، آيات الرحمن في جهاد الأفغان.
[12] عبد الله التل، جذور البلاء، المكتب الإسلامي، 1998. ص: 276.(/8)
ومضات على طريق الدعوة
إنها مواقف دعوية، وتربوية كانت لها إشارات لطيفة في كتاب الله، يحتاجها الدعاة والمربون في طريق سيرهم إلى الله، حاولت تلخيصها في هذا المقال. عسى أن ينفعني الله وإياكم بها.
الصبر الجميل...!في القرآن الكريم ورد ذكر الصبر أكثر من ثمانين مرة، وجاء في عدة أوجه، ولكن ما يهمنا في مقامنا هذا، ذلك الأمر اللطيف الذي تنزل من عند الرحمان وهو يأمر عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (فاصبر صبرا جميلا).. وما قاله يعقوب عليه السلام وهو يتأسى بالصبر على ابنه يوسف عليه السلام: (... فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون). فكيف إذن يكون الصبر جميلا؟حتى يصبح كذلك، وجب أن يلازم هذا الصبر بعض الأوصاف:أولها: الصبر عند الصدمة الأولى، صدمة الألم والإعراض والتكذيب، صدمة المواجهة من أعز قريب، فلا جزع ولا سخط، بل إيمان ورضا وتفاؤل وأمل..ثانيها: صبر يورث الثبات، فلا يأس ولا فتور، بل صبر يزيد الداعية ثباتا على المبدإ وقوة في الطرح وتجديدا في الأسلوب والوسيلة، سرا وجهرا، جدالا وحوارا، بالحكمة والموعظة الحسنة، إنها دعوة لا تنهزم من واقع مرير، ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم.آخرها: صبر الاختيار لا الاضطرار، فالداعية يمنع نفسه من التعصب لذاته في سبيل أن يبلغ دعوته، لكن إذا انتهكت محارم الله فلا ذلة في المواجهة، ولنا في سيرة رسولنا عليه أفضل الصلوات والسلام مثالان لصبر الاختيار، مرة يوم فتح مكة حين تمكن ممن طردوه وشردوه وآذوه فقال: «... اذهبوا فأنتم الطلقاء» وأخرى لما خرج من الطائف مطرودا مجروحا، فيأبى على جبريل أن يأمر ملك الأخشبين فيطبقه عليهم، ويقول «لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله».إنه حقا صبر جميل، صبر ثبات وعزة، صبر رضا وتصديق...الصفح الجميل...!قال تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل) الحجر .85فسر شيخ الإسلام ابن تيمية الصفح الجميل على أنه «صفح بلا عتاب» نعم صفح لا أذية فيه، نقابل فيه إساءة المسيء بالإحسان، فصفح يبين للمخطئ خطأه وتقصيره لكن من غير أذى بقول أو فعل أو توبيخ، لأن الأهم عند الداعية هو تصحيح الخطأ وكسب المخطئ.صفح يتناسى فيه الداعية ذاته وشخصه في سبيل دعوته إلى الله، حتى إذا أوذي وأوذي، والصفة الملازمة للصفح الجميل هي العفو عند المقدرة، فعم عفو عند المقدرة على الرد والإنفاذ، فقد جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق حتي يخيره من أي الحور شاء» وفي حديث آخر: «... ملأ الله جوفه أمنا وإيمانا» ويدخل في مفهوم الصفح الجميل ترك المدافعة والمحاججة ولو كنا على حق، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقا»، فالداعية أرفع من أن يقضي دهره في إثبات ذاته وقدراته على حساب دعوته ومبادئه، فيا ترى كم ببيت فرطنا؟ وكم من الحور العين ضيعنا؟ وكم افتقدنا من الأمن وقرارة النفس، وسمو الإيمان...!؟الهجر الجميل...!قال تعالى: (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) المزمل 10تبين هذه الآية للداعية الموقف الرباني من قضيتين: الأولى: موقف الداعية من المجتمع الذي يعيش فيه، والثانية: موقف الداعي من المدعويين بشتى أصنافهم.وحتى يكون الهجر جميلا، وجب أن يكون هجرا دون أذى، هجر يكون حيث اقتضت المصلحة، هجر لأقوال وأفعال المدعوين مع الاستمرار في دعوتهم، إنه هجر يحمي نفس الداعية من الانخراط في براثن المنكر والفحشاء، فالداعية هنا يرى المنكر ولا يعايشه ولا هو بمعرض عنه إعراضا بلا توجيه، بل يهجره هجرا جميلا يحمي النفس من الضعف ويعلي الهمة للإنكار والعمل والدعوة والنصيحة، يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» إنها إذن ليست مخالطة تعايش مع المنكر والباطل وإنما هي معايشة للبذل والنصح والتضحية والتغيير.ولابن مسعود رضي الله عنه وصف جميل للهجر الجميل حيث يقول: «خالطوا الناس وزايلوهم وصافحوهم ودينكم لا تكلموه» ـ لا تكلموه بمعنى لا تجرحوه والمزايلة بمعنى البراءة القلبية. كانت هذه إذن ثلاث ومضات دعوية، أشار إليها القرآن إشارات لطيفة بديعة، تنير لها الطريق بإذن الله للوصول إلى المبتغى.
الإدريسي الخمليشي رضوان(/1)
ومن المدامة ما قتل
الدكتور حسان شمسي باشا
شرب الخمور مشكلة تقض مضاجع الغرب .. تقول دائرة معارف جامعة كاليفورنيا :
" إن الخمر يعتبر حاليا القاتل الثاني - بعد التدخين - في أمريكا . فشرب المسكرات هناك مسؤول عن موت أكثر من 100.000 شخص سنويا " .
وجاء في المرجع الطبي الشهير Cecil طبعة 1996 أن الخسائر الكلية الناجمة عن مشكلة المسكرات بلغت ما قيمته 136 بليون دولار في العام الواحد . ويقدر الخبراء أن ربع الحالات التي تدخل المستشفيات الأمريكية سببها أمراض ناجمة عن شراب المسكرات .
وليس هذا فحسب ، بل إن الخمر مسؤول عن إصابة أكثر من نصف مليون أمريكي سنويا بحوادث السيارات .
وتتابع دائرة المعارف القول : " والمسكرات لا تسبب المشاكل في البيت أو على الطرقات فحسب ، بل إن خسائر أمريكا من نقص الإنتاج وفقدان العمل نتيجة شرب الخمر تزيد على 71 بليون دولار سنويا . ناهيك عن الخسائر التي لا تقدر بثمن من مشاكل نفسية وعائلية واجتماعية " .
ويحث كتاب الجرائد والمجلات الأمريكية الناس على عدم تقديم المسكرات قبل العشاء
- أثناء الحفلات التي يقيمونها - ويحثون أيضا على أن تصادر مفاتيح السيارات من المفرطين في شرب الخمر ، حتى لا يقودوا أنفسهم إلى الموت " .
وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي نجد أوربا ترزح تحت وطأة الخمور ، إذ تذكر مجلة اللانست البريطانية أن مائتي ألف شخص يموتون سنويا في إنجلترا بسبب الخمور .
وواحد من كل خمسة أشخاص يدخلون المستشفيات في اسكتلنده ، يدخل المستشفى بسبب شرب الخمور وإدمانها .
وتقدر الخسائر الناجمة عن شرب المسكرات في بريطانيا وحدها بـ 2000 مليون جنيه إسترليني في العام الواحد .
أبعد هذا الداء داء ؟ .. يقول أبو نواس :
إن الشراب إذا ما كان من عنب داء وأي لبيب يشرب الداء
ويقول إسحاق بن سويد :
الماء فيه حياة الناس كلهم وفي النبيذ إذا ما عاقرته الداء
ويقول أحدث تقرير للكلية الملكية للأطباء في بريطانيا :
" لم يكتشف الإنسان شيئا شبيها بالخمور في كونها باعثة على السرور ( الوقتي ) ، وفي نفس الوقت ليس لها نظير في تحطيم حياته وصحته .. ولا يوجد لها مثيل في كونها مادة مسيية للإدمان ، وسما ناقعا ، وشرا اجتماعيا خطيرا " .
وفي هذا المعنى يقول أبو الفتح كشاجم :
يا خليلي جنباني الرحيقا إنني لست للرحيق مطيقا
قد تيقنت أنها تطرد الهم وتبدي إلى السرور طريقا
غير أني وجدت للراح نارا تلهب الجسم والمزاج الرقيقا
فإذا ما جمعتها ومزاجي حرقتني بنارها تحريقا
ويقول كتاب Safe Food الشهير في طبعة 1997 :
" إن نصف عدد الجرائم في بريطانيا يقوم بها أناس سكارى ، وثلث حوادث السيارات تحدث بسبب الخمر ، والخمر مسؤول عن ثلثي حالات الانتحار ، وخمس حالات الاعتداء الجنسي عند الأطفال .
ويقدر الخبراء الإنجليز أن واحدا من كل أربعة رجال ، وامرأة من كل عشرة نساء يشربون المسكرات إلى درجة تعرضهم لفقدان عائلاتهم .. أو عملهم .. أو صحتهم .. أو أصدقائهم .. أو الأربعة معا " .
قال الشاعر :
أرى كل قوم يحفظون حريمهم وليس لأصحاب النبيذ حريم
إذا جئتهم حيوك ألفا ورحبوا وإن غبت عنهم ساعة فذميم
إخاؤهم ما دامت الكأس بينهم وكلهم رث الوصال شؤوم
فهذا بياني لم أقل بجهالة ولكنني بالفاسقين عليم
وقال أبو العلاء المعري :
عد عن شارب كأس أسكرت فهو مثل الكلب في الرجس ولغ
ويصف المتنبي تأثيرات الخمر على العقل فيقول :
وجدت المدامة غلابة تهيج وللقلب أشواقه
وأنفس ما للفتى لبه وذو اللب يكره إنفاقه
وقد مت أمس بها موتة ولا يشتهي الموت من ذاقه
والحقيقة أن أهم تأثير للكحول هو تخديره لخلايا المخ جميعا ، ولكن أهم الخلايا التي تصاب هي خلايا قشرة الدماغ ، وهي الخلايا المتحكمة في الإرادة ، أو ما نعبر عنها بكلمة " العقل " .
يقول البروفسور لورانس رئيس قسم الطب العلاجي في جامعة لندن :
" إن أول ما يفقد من وظائف المخ بواسطة الكحول هو القدرات الدقيقة على التحكم والملاحظة والانتباه ، كما أن الكفاءة العقلية والبدنية تنخفض بتناول الكحول مهما كانت الكمية المتعاطاة قليلة " .
يقول قيس بن عاصم ، وهو أول من حرم الخمر على نفسه - كما يذكر الزركلي في الأعلام - وكان شاعرا اشتهر وساد في الجاهلية ، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة 9 هـ فأسلم :
رأيت الخمر صالحة وفيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا والله أشربها صحيحا ولا أسقي بها أبدا سقيما
وقال الشاعر :
بنت كرم يتموها أمها وأهانوها .. وديست بالقدم
ثم عادوا حكموها بينهم ويلهم من جور مظلوم حكم
وقد شطر هذين البيتين علامة حمص الشيخ مؤيد شمسي باشا رحمه الله فقال :
بنت كرم يتموها أمها لا لذنب قد جنته في القدم
واستباحوا ذلها في شرعهم وأهانوها .. وديست بالقدم
ثم عادوا حكموها بينهم يذهبون الهم فيها والألم
سلبت ألبابهم واستحكمت ويلهم من جور مظلوم حكم(/1)
ويؤكد تقرير الكلية الملكية للأطباء في بريطانيا : " أن المخاطر الصحية المتعلقة بتعاطي الخمور ليست ناتجة بالدرجة الأولى من العدد القليل الذي يتناول الكحول بكميات كبيرة، ولكن الخطر الأعظم على الصحة العامة هو من الأعداد الكبيرة التي تتناول الكحول باعتدال وانتظام "
ويقول كتاب Alcoholism : إن التخريب الحاصل في أنسجة الجسم نتيجة شرب الخمر مرة واحدة يمكن أن يكون تخريبا دائما غير قابل للتراجع .
ولا غرابه حينئذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرم شرب الكحول مهما كانت الكمية صغيرة : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " .
هل في القليل من الخمر فوائد ؟
شاعت بين الأطباء والناس في الغرب فكرة تقول : إن شرب القليل من الخمر ينقص نسبة الوفيات من جلطة القلب ، حيث يزيد من مستوى الكولسترول المفيد HDL .
والحقيقة أن الباحثين اليابانيين اكتشفوا حديثا أن المادة التي ترفع مستوى الكولسترول المفيد موجودة أصلا في قشر العنب الأحمر وتسمى هذه المادة : Resveratrol .
يقول الدكتور Mindel : " إن العنب الأحمر يعطي نفس الخصائص الموجودة في الخمر الأحمر ، فلماذا يعرض الإنسان نفسه لمخاطر الكحول ؟ "
وليس هذا فحسب ، بل إن البروفسور Sheehy يحذر من الكحول عند المصابين بتضيق في شرايين القلب فيقول :
" رغم أن بعض الأبحاث أشارت إلى أن الكحول قد يوسع شرايين القلب ، فإن الخمر يهيئ لحدوث جلطة في القلب عند المصابين بضيق في شرايين القلب ، كما أن شرب الخمر يسبب الذبحة الصدرية ، واضطراب نظم ( ضربات ) القلب ، واعتلالا في العضلة القلبية ، ويؤدي إلى الموت المفاجئ .
ويحذر كتاب The Food Revolution من أخطار سهرة يشرب فيها الخمر فيقول :
" إن سهرة يفرط فيها شارب الخمر في تناول المسكرات قد يؤدي إلى حدوث اضطراب شديد في ضربات القلب ، وقد يسبب ذلك الموت الفجائي " .
ولا غرابة أن حرم الإسلام الخمر على إطلاقه فقال معلم هذه الأمة صلى الله عليه وسلم :
" كل مسكر حرام ، وما أسكر منه الفرق ، فملء الكف منه حرام " . والفرق كيلة تسع تسعمائة وعشرين رطلا .
ومن الأوهام المتعلقة بمنافع الخمر أنها تقوي الباءة وتزيد من القدرة الجنسية .
ومنذ آماد طويلة والإنسان سادر في غيه وأوهامه .. ويشرب الخمر على أمل أن تزيد من قدراته الجنسية . ولكن الشاعر الإنجليزي الموهوب شكسبير تنبه لهذه النقطة فقال عنها :
" إنها تحفز الرغبة ، ولكنها تفقد القدرة على التنفيذ "
( It Provokes the desire but it takes away the performance ) .
وأخيرا ، فإن مشكلة الخمور مشكلة عالمية لم يحلها إلا الإسلام ، وفي ذلك يقول المؤرخ العالمي أرنولد توينبي في كتابه " محاكمة الحضارة " ( Civilization on trial ) :
" إن الروح الإسلامية تستطيع أن تحرر الإنسان من ربقة الكحول عن طريق الاعتقاد الديني العميق ، والتي استطاعت بواسطته أن تحقق ما لم يمكن للبشرية أن تحققه في تاريخها الطويل . ولقد استطاع الإسلام أن يحقق ما لم تستطع أن تحققه القوانين المفروضة بالقوة ومن خارج النفس .
وهاهنا نقول : إن الإسلام يستطيع أن ينقذ الإنسانية من تأثيرات المجتمعات المدنية الغربية التي ثبتت شباكها في أنحاء العالم أجمع "
وصدق الله تعالى حيث يقول :
( إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) المائدة 90 - 91
للمزيد من التفاصيل راجع كتابنا : " أطباء الغرب يحذرون من شرب الخمر "
وهو من منشورات دار البشير بجدة(/2)
ومن يتولهم منكم فإنه منهم
عندما قال شيخ الإسلام ابن تيمية عبارته المتينة: (الناس تغيب عنهم معاني القرآن عند الحوادث فإذا ذكروا بها عرفوها) (مجموع الفتاوى27/363) فإن كان مدركاً لذلك من خلال وقائع وأحداث، حيث كان فقيهاً في قضايا عصره والحكم عليها، فقد حفلت سيرته بنوازل شائكة متعددة ، وأزمات عويصة مشكلة، ومع ذلك فكان - رحمه الله - دقيقاً في توصيفها، ومصيباً في الحكم عليها، وفتواه مثلاً- في شأن التتار مثال ظاهر على ذلك.
والناظر إلى حال أهل الإسلام تجاه نازلة العراق يرى انحسارا وذهولاً عن معاني القرآن، ومن ذلك قوله - تعالى -: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) "المائدة، آية 51" فمظاهرة الكفار على أهل الإسلام ردة وخروج عن الملة، والمقصود بالمظاهرة أن يكون أولئك أنصاراً وظهوراً وأعواناً للكفار ضد المسلمين.
يقول شيخ المفسرين ابن جرير- رحمه الله - في تفسير هذه الآية: (من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهوبه وبدينه وما هو عليه راضٍ، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه). "تفسير الطبري 6/160".
وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية مع سعة علمه ورحابة صدره يقرر ذلك بكل صرامة قائلاً: (فمن قفز منهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار، فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي فمن وجوه متعددة). "مجموع الفتاوى 28/534".
مع أن الحكم على التتار في حد ذاته- مشكل على بعض أهل العمل، لكن الإمام ابن تيمية يقطع بكفرهم، وكفر من لحق بهم وظاهرهم، فما بالك بالقتال مع الأمريكان الصليبيين المقطوع بكفرهم وظلمهم واستبدادهم؟!
ويقول ابن القيم "إنه - سبحانه - قد حكم ـ ولا أحسن من حكمه ـ أن من تولى اليهود والنصارى فهو منهم"، (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم" (أحكام أهل الذمة 3/67).
وقد عني أئمة الدعوة السلفية في الجزيرة العربية بهذه النازلة ابتداءً من الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وإلى سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - حيث قال: (وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم، كما قال - سبحانه - (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) "المائدة، آية 51". (فتاوى ابن باز 1/274).
ولم يقتصر علماء الدعوة السلفية على مجرد تنظير هذه المسألة، بل نّزلوا هذا الحكم الشرعي على ما يلائم من الوقائع وبكل رسوخ وتحقيق، والناظر إلى رسالتيّ "الدلائل" للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب، و(النجاة والفكاك من مولاة المرتدين وأهل الإشراك) للشيخ حمد بن عتيق، ومناسبة تأليفهما يدرك جلياً صرامة هؤلاء الأعلام تجاه هذه القضية وتنزيل حكم الله على من تلبّس بهذه الردة.
كما أفتى علماء من المالكية أن من حمل السلاح مع العدو الكافر ضد المسلمين ويحاربهم يكون حكمه كحكم الكافر في نفسه وماله ، (أنظر كتبا الفتاوى الفقهية في أهم القضايا لحسن اليوبي 229-234).
وأخيراً فإن في العراق أهل إسلام وسنة، كما أن فيها مستضعفين مظلومين ملهوفين فحق علينا نصرهم بالدعاء لهم، والدعاء على كفرة أهل الكتاب، والسعي إلى إغاثتهم ودعمهم من أجل دفع هذا العدو الصليبي الصائل عنهم، فلا ينبغي أن يكون كفار مكة خيراً منا حيث اجتمعوا في حلف الفضول على التعاون مع العدل ونصرة المظلوم، وكما في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - (إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيفُ حقه من القوي وهو غير متعتع) أخرجه البيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ج (1853).
الشيخ عبد العزيز آل عبد اللطيف
...(/1)
ونبلوكم بالشر والخير فتنة
خلق الله جل وعلا الدنيا لتكون داراً للابتلاء والاختبتار ، ومن ثم فإنه جعل الإنسان يتقلب فيها بين المنشط والمكره ، والرخاء والشدة ، والخير والشر ، ليرى سبحانه كيف يصنع هؤلاء العباد ، وكيف يطلبون مراضيه في جميع الأحوال ، { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [الأنبياء : من الآية35] .
ولعلنا نقبس من نور هذه الآية المباركة في الوقفات التالية :
1- الناظر في النُظُم العامة التي تحكم مسيرة الحياة يجد أن جوهر (الابتلاء) يقوم على (التشتيت بين المتقابلات) حيث يؤدي عدم القيام بحق الحالة الراهنة أو ما سماه القدماء بأدب الوقت إلى الإخفاق في الامتحان الذي يعني تحول الخير إلى شر أو ارتفاع وتيرة الشر والتدهور ، ولعلنا نميط اللثام عن هذا المعنى من خلال نموذجين اثنين :
(أ) يسعى كل مجتمع إلى إيجاد أكبر قدر ممكن من التماثل بين أفراده بنية المحافظة على قيمه وخصوصياته وزخمه الحركي ، وهذا التماثل من الخير ولا ريب لأن البديل عنه هو الشقاق والاحتراب الداخلي لكن التجربة الاجتماعية أثبتت أن الحرص على التماثل التام بين أفراد المجتمع يؤدي إلى انقسامه على نفسه ، حيث يتشوف أعضاؤه ولاسيما الصفوة منهم إلى النفاذ إلى واقع المجتمع على نحوٍ منفرد ومنعهم من ذلك يؤدي إلى التوتر الاجتماعي ، ويجعل (التماهي) الظاهر عبارة عن شكل فارغ من المضمون ، فينتشر النفاق الاجتماعي والازدواجية في السلوك ، ومن ثم فإن المطلوب هو قدر من التنوع الاجتماعي واحترام الخصوصيات في إطار النظم الكبرى للمجتمع وفي إطار أهدافه ومبادئه العامة .
(ب) حث الإسلام على صلة الرحم وأداء حقوق القرابة ، ورتب في ذلك أحكاماً وآداباً عديدة ، والالتزام بها ورعايتها من الخير العظيم ، لكن ذلك لابد أن يوقف عند حدود رعاية مسائل أخرى لا تقل أهمية وحيوية من مثل احترام النظم التي تتولى توزيع وترتيب الحقوق والواجبات في المجتمع ، حيث لا يصح لعامل القرابة أن يمس العدالة الاجتماعية أو يضغط عليها ، الملحوظ أن ما تسمى بـ (سيادة القانون) لم تأخذ أبعادها بشكل جيد في العصور الحديثة إلا حيث اضمحلت العلاقات الأسرية والقرابية كما هو الشأن في المجتمعات الغربية أما في المجتمعات الإسلامية حيث التواصل الأسري والعائلي أمتن وأفضل ، فإن من الملحوظ أنه يتم الكثير من التجاوز والتفلت من النظم العامة في سبيل إعطاء الأقرباء ما ليس لهم من مكتسبات ظناً أن في ذلك صلة للرحم ! لكن هذا يعني عدم النجاح في الابتلاء والتشتت بين المتقابلات ، إن إكرام الأقرباء لا ينبغي أن يتم على حساب الآخرين ولا بخرق النظام العام ، وإلا كان شراً وبلاءً .
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن من أشد ما عاناه التمدن الإسلامي في تاريخنا الطويل كان نقل العرب من مرحلة (القبيلة) إلى مرحلة (الدولة) حيث يتم الفصل شبه الكامل بين العلاقات والحقوق الشخصية وغير الشخصية ، ونجد إلى جانب هذا في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلوك أصحابه الكرام موازنة دقيقة في هذا الشأن ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي قال : يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت فإني لا أغني عنك من الله شيئاً [1] وهو الذي قال : .... لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها [2] .
2- النجاح في الابتلاء يقتضي نوعاً من اليقظة لجميع قوانا العقلية والروحية، حتى لا نقع في أسر اللحظة الحاضرة ونستسلم لخيرها وشرها رضائها وكربها ، وهذا يعني نوعاً من الاستعلاء على الواقع وعدم الركون إليه ، والذوبان فيه ، وذلك إنما يقع عند الغفلة عن (نواة) الابتلاء الكامنة فيه ، على نحو ما حدث من غفلة الرماة يوم أحد عن نواة الابتلاء في أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بالبقاء في مواقعهم مهما كان اتجاه المعركة ، فأدى ذلك إلى تحويل النصر الذي كان يلوح في مستهل المعركة إلى هزيمة ! لكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يدع المسلمين يستسلمون لمرارة الهزيمة ، ويغرقون في التلاوم والندم ، وإنما اندفع بهم إلى ساحة ابتلاء جديد بأمره لهم بالتوجه إلى حمراء الأسد حيث تحولت مشاعر الفرّ والانكسار إلى مشاعر المبادأة والمطاردة للعدو ! [3] .
ولعل مما يعصم عن الغرق في الحالة الراهنة تعود الاستبصار وتقليب النظر في الحالة الراهنة خيرها وشرها ، ومحاولة فهم المنطقية والآلية التي أدت إلى ولادتها وتجسدها ، وإذا ما تم ذلك أمكن أن نسيطر على تلك الحالة ، ونتصرف إلى اتجاهات سيرها وتطورها ، فإذا كان الابتلاء عبارة عن خير أي خير أصابه المؤمن ثمرة لجهده وكفاحه وجب عليه أن يستمر في ذلك الجهد على نفس الوتيرة التي كان عليها ، وإذا كان قد أصابه من غير تعب كمن ورث مالاً وفْراً وجب عليه أن يشكر الله على ذلك أولاً ، وأن يقوم ثانياً ببحث الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى المحافظة عليه وتنميته وتزكيته ، حتى لا يشعر يوماً ما أن النعمة التي هبطت عليه لم يكن يستحقها ! .(/1)
وإذا كان ما أصاب المؤمن من شر ومحنة بسبب أخطائه وخطاياه ، فإن النجاح في مواجهة ذلك الابتلاء لا يكون إلا بالخلاص مما اقترفت يداه ، وبذلك يستحق تغيير الله تعالى له كما قال سبحانه : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [الرعد : 11] .
وإذا كان ما أصابه بسبب ما جناه غيره فإن عليه أن يصبر ، ويحاول أن يتجاوز ما هو فيه من بلاء بتحوله من (صالح) إلى (مصلح) لأن البلاء حين يعم بسبب انتشار الفساد لا يتأهل للنجاة منه إلا الذين يسعون إلى تحجيمه وتطهير المجتمع منه ، كما قال سبحانه : ] فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون [ [ الأعراف : 165] ، ولابد للتوطئة لكل ذلك من سيادة روح المفاتحة والمكاشفة والنقد المنصف البناء حتى لا تندغم الذات في الموضوع ، ونصبح كمن كان يدفع العجلة إلى أن أصبح يجري وراءها مستسلماً لقوة اندفاعها .
3- إن مبدأ (الزوجية) ملحوظ في الكثير الكثير من المخلوقات والموجودات ، وهذا المبدأ كما أنه سبب في تكاثر الكائن الحي ونمو النوع كذلك هو سبب في تحول حالات الرخاء والشدة ، ففي رحم كل رخاء (نواة) لمحنة ، كما أن في أحشاء كل شدة نواة لرخاء ومنحة وهذا واضح في قوله جل وعلا : { فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا } (الشرح : 5 ، 6) إن فهم هذه المسألة يقتضي منا أن نضع الحالة الراهنة التي نعيشها في السياق التاريخي والسببي ، حتى يتبين لنا أنها ليست أكثر من حلقة في سلسلة غير متجانسة من النجود والوهاد والنجاحات والإخفاقات .
إن هذه الدنيا ليست هي الظرف المناسب لتموضع (الأحوال النهائية) في خير أو شر ، وإنما هناك دائماً خلف الباب محنة تنتظر إذا ما نحن أسأنا التصرف بالإمكانات التي بين أيدينا ، وفي المقابل فإن الشدائد والمحن تفجّر روح المقاومة والإصرار والعناد ، تلك الروح التي كثيراً ما تظل هاجعة خامدة إلى أن تأتيها صدمة قوية توقظها من سباتها ، وهكذا فالمطلوب دائماً أن نكون في الموقع الصحيح لمواجهة الابتلاء .
إن طبيعة الابتلاء تقوم على قاعدة من التوازنات العميقة والدقيقة ، والإنسان المبتلى يشبه في كثير من الأحيان الذي يسير على حبل مشدود فهو يطالب حتى لا يقع بأن يستنفذ كل قواه العقلية والجسمية على نحو دقيق ومتوازن وإلا ...
4- تمتلك أمة الإسلام بحمد الله عدداً من المنظومات المعيارية والرمزية التي تمكنها من اختراق الحالة التي تعايشها ومعرفة أوجه الابتلاء فيها ، بل وتمكن الصفوة الممتازة من أبنائها من معرفة نسب الخير والشر وحجم الإيجابيات والسلبيات في الواقع المعاش ، وهذه المعرفة تنظم أيضاً ردود أفعالنا على الطوارئ والوافدات الجديدة رفضاً ومدافعة وتعديلاً وتهذيباً وقبولاً وترحيباً ، وهذا يعني أن كل ابتلاء جديد لا يدخل في حياة الأمة (الحية) إلا بعد أن يمر بمصفاة قيمها ومبادئها و (عقيدتها الاجتماعية) [4] أيضاً ، وكلما كان وقع الابتلاء الجديد حاداً ومكشوفاً استطاع أن يستفز ردود أفعال الأمة عليه بصورة قوية وسريعة ، فظاهرة الردة الأولى كانت ابتلاء كبيراً جداً واجهته دولة الخلافة الوليدة في زمان أبي بكر رضي الله عنه بالقوة والسرعة المكافئة ، لكن الابتلاء (المتدرج) الذي حصل بعد ذلك في صورة فرق وعقائد فاسدة وانحرافات سلوكية وفي صورة تجديد أطر الدولة وفق اتساع أمة الإسلام لم يستوفز الطاقات الكامنة في الأمة ، فلم تقم بواجبها تجاهه ، ولعل هذا يدفعنا إلى القول : إن أخطر ما يغيب الإحساس بالابتلاء على مستوى الفرد والجماعة معاً ليس الكوارث الكبرى ولا الجوائح العظيمة وإنما (التغيرات البطيئة) التي تدخل من أضيق المسام ، فتتكيف الأمة معها سلبياً على سبيل التدرج، وهذا ما حصل بالنسبة لأمة الإسلام وما حدث لدول عظمى في عصرنا الحديث ، فقد بدأت بريطانيا العظمى تتراجع عن مركزها العالمي ، وبدأت الشيخوخة تدب في أوصالها منذ أكثر من قرن لكن ذلك لم يظهر إلا في الحرب العالمية الثانية .
ومن الطريف أن بعض علماء (الأحياء) جاءوا بضفدع ، ووضعوه في إناء وأوقدوا تحته ناراً هادئة ، فصارت درجة حرارة الماء ترتفع بمنتهى البطء ، وكان المأمول أن يقفز الضفدع عندما يحسّ بسخونة الماء لكن حدوث التسخين على نحو بطيء أدى إلى أن يتحول (المحرّض) إلى (مخدّر) وكانت النتيجة أن الضفدع انسلق دون أن يبدي أية مقاومة !
وهنا تبرز مهمة العلماء الربانيين العظام والمفكرين المبدعين الذين يمتلكون حاسة (الاستشعار عن بعد) حيث يرون عواقب الأمور قبل فوات الآوان ، ويقومون بما تستحقه من مواجهة وعمل ، وفي هذا يقول سفيان الثوري رحمه الله : الفتنة إذا أدبرت عرفها كل الناس ، وإذا أقبلت لم يعرفها إلا العالم .
وحتى ننجح في مواجهة الابتلاء (التغيرات البطيئة) فإن علينا أن نقوم بأمرين:(/2)
أ- الانشداد إلى الأصول والثوابت في المنشط والمكره والتأبي على انصهار منهجيتنا وحاستنا النقدية في المعطيات الجديدة مع محاولة استيعاب تأثير المستجدات على تلك الأصول ومحاولة إيجاد التكييفات والتوظيفات التي ترسخها ، وتجعلها تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .
ب- المتابعة الجادة والدقيقة لمجمل التغيرات التي تطرأ على حياتنا لا من خلال الحدس والتخمين والملاحظة العامة ، وإنما من خلال ( الرقم ) والأساليب الكمية ، حتى نتعرف بدقة على سيرورة أحوالنا المختلفة والمآلات الصائرة إليها ، وهذا لن يتم إلا من خلال إعادة تنظيم حياتنا ومؤسساتنا المختلفة على أسس جديدة بحيث تخصص كل جهة أو مؤسسة قسماً أو موظفاً يتولى جمع المعلومات الخاصة بها ونشرها حتى ينمو إحساس الناس ب (الكم) وطريقة قياسه ، وليس من المستفز اليوم ذلك التلازم التام والمطلق بين درجة تحضر الدولة ودرجة تقدم الإحصاء فيها .
إن على المسلم أن يظل يكافح ويجاهد في سبيل التعرف على مراضي الله تعالى في كل حالة من أحواله ، ويستشرف بعد ذلك عاقبة المتقين .
__________________
(1) أخرجه البخاري .
(2) أخرجه البخاري .
(3) انظر الرحيق المختوم : 318 .
(4) العقيدة الاجتماعية عبارة عن جماع المبادئ والمصالح ومركز التوازن بينهما .
أ.د. عبدالكريم بكار(/3)
________________________________________
ونطق التاريخ قبل أن ينطق الحجر
رئيسي :عقائد :الثلاثاء 21 ربيع الأول 1425هـ -11 مايو2004 م
الحمد لله ، وبعد،،،
فإننا في زمن الاستسلام باسم السلام، والتنازل باسم المفاوضات، زمن أحلامه وفكره وأدبه يصور العدو صديقًا، والناصح شريرًا، والملتزم بالدين والقيم إرهابيًا، والرافض للانحلال رجعيًا، إنه زمان كثرت فيه معاول الهدم التي تحطم جدار الولاء والبراء، وتغير نظرتنا للأعداء، وتغيب مفاهيم الجهاد والعزة في سبيل الله، وكم تحتاج الأمة والحالة هذه إلى معرفة الداء والدواء، وذلك بالرجوع إلى موردها الصافي.
وهذه معالم في تاريخ المعركة مع اليهود، أسوقها تذكره لنا بحقيقة الأعداء، ولنبين خطرهم على الأمة، إنها معالم سوداء في صفحات اليهود، وحقائق ذكرها الله عن اليهود، وهي من القرآن والسنة والشواهد التاريخية الصادقة، وهذه المعالم التي سنذكرها ينبغي أن نعلمها ونُعلمها وأن نسوقها لأجيالنا؛ حتى لا نغتر باليهود، وحتى لا نسالم اليهود، وحتى لا نتنازل مع اليهود.
ومن أبرز هذه المعالم التي جاءت في القرآن عن اليهود:
المَعلم الأول: عدواتهم للإنسانية عامة، وللمؤمنين خاصة:
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا...[82]}[سورة المائدة]. قال ابن كثير: 'ما ذلك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق، وغمط للناس، وتنقص بحملة العلم؛ ولذلك قتلوا كثيرًا من الأنبياء حتى هموا بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم ذات مرة، وسموه وألبوا عليه أشباههم من المشركين، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة'.
فعداوة اليهود هذه تشهد بخستها القرون الغابرة، وتؤكدها الأعصار اللاحقة، أذكر منها:
ما حصل مع النبي صلى الله عليه وسلم فحاولوا أكثر من مرة قتله، فلم يفلحوا، تعاونوا مع المشركين ومع المنافقين لحربه ولكنهم لم يوفقوا، بل وأعلنوا العداوة بكل وقاحة وصراحة مع كونهم يعترفون بنبوته، ولكنهم كفروا به؛ حسدًا وبغيًا حتى الممات، فهذا زعيم من زعماء بني إسرائيل الغابرين حيي بن أخطب زعيم يهود بني النضير سأله أخوه أبو ياسر: أهو هو؟ قال: نعم والله إنه لمحمد، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عدواته والله ما بقيت.
واستمرت عداوة اليهود للإسلام والمسلمين:فبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في أيام الخلفاء الراشدين يخرج ذلك القذر عبد الله بن سبأ اليهودي ليشعل الفتنة، ويبذر الخلاف بين المسلمين، وكانت الفتنة وكانت الحروب.
ونتجاوز الزمن ونقف عند الدولة العثمانية: حاول اليهود ليسمح لهم بالهجرة إلى فلسطين، ليستوطنوا فيها، فأصدر السلطان عبد الحميد أمرًا بمنع اليهود القادمين لزيارة بيت المقدس من الإقامة في القدس أكثر من ثلاثة أشهر، ثم يعيدون الكرة مع السلطان عبد الحميد الثاني، ويعيدونه ويمنونه بالهبات والأموال والاقتصاد.. لقد وعدوه بسداد الديون المستحقة على بني عثمان، وعلى تقديم القروض الائتمانية لتطوير الزراعة والاقتصاد في دولة بني عثمان، وعلى إنشاء جامعة في اسنطبول تغني الطلبة الأتراك من أن يسافروا إلى أوروبا.. كل هذه الوعود والهبات، مقابل إنشاء مستعمرة قرب القدس، فهل تنازل المسلم؟
لا.. بل أجابهم بالرفض التام والتوبيخ كما في الوثائق المشهورة عنه، فماذا فعلوا مع هذا السلطان؟ لقد حققوا أهدافهم وتآمروا مع الدول الكبرى لإسقاط الدولة العثمانية، فأسقطوها، واختاروا الزعماء المناسبين لها، الذين أعلنوا العلمانية، وفعلوا بالمسلمين ما فعلوا.
ويستمر العداء ويؤكده الخلف، فليست عداوتهم تاريخًا مضى وانتهى، بل هي عقيدة راسخة يلقنها الآباء للأبناء، فهذا مناحم بيجن يقول:' أنتم أيها الإسرائيليون لا يجب أن تشعروا بالشفقة حتى تقضوا على عدوكم ولا عطف ولا رثاء حتى تنتهوا بإبادة ما يسمى بالحضارة الإسلامية التي سنبني على أنقاضها حضارتنا'. ويقول بن غوريون:' نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات، ولا الديمقراطيات، نحن فقط نخشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلًا وبدأ يتململ'. وهذا إسحاق شامير يقول -في حفل استقبال اليهود السوفيت المهاجرين إلى إسرائيل-:'إن إسرائيل الكبرى: من البحر إلى النهر، وهي عقيدتي وحلمي شخصيًا، وبدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة، ولا الصعود على أرض الميعاد، ولن يتحقق أمننا ولا سلامنا'.
هكذا يخططون، ويأبى الله والمؤمنون أن يتحقق لهم ما يريدون، وفينا أهل الجهاد، وفينا أهل الجد والعمل.
المَعلم الثاني -وهو بارز في تاريخ اليهود- فهو نقضهم للعهود، وخيانتهم للمواثيق:(/1)
قال تعالى مجليًا هذه الحقيقة:{الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ[56]}[سورة الأنفال]. ويقول:{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [100]}[سورة البقرة]. فهذه شهادة ربنا على اليهود، فما هي شهادة الواقع على هؤلاء الأقوام:
- لقد عاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم وكتب بينه وبينهم كتابًا حين وصل إلى المدينة، فهل التزم اليهود العهد؟ هل احترموا الميثاق؟ هل نفذوا بنود السلام؟
كلا فقد غدر يهود بنو قينقاع بعد غزوة بدر، والمعاهدة لم يمض عليها إلا سنة واحدة، وغدرت يهود بني النضير بعد غزة أحد. تجرءوا على المسلمين بعدما أصابهم من البلاء في هذه الغزو الشديدة، وغدرت بنو قريظة عهدهم في أشد الظروف وأحلكها على المسلمين يوم الأحزاب.
إن اليهود قوم بهت خونة كما قال عبد الله بن سلام الذي كان يهوديًا فأسلم رضي الله عنه وأرضاه، هم نقضة العهود، هم نقضة المواثيق، فإذا كان هذا واقعهم مع من يعرفون صدقه ونبوته كما يعرفون أبناءهم، فهل يرجى من اليهود حفظ العهود مع الآخرين؟!
إذا كان هذا حالهم مع من يعدونه نبيًا صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون الحال مع من يرونه ذَنَبًا؟! وتلك هي حالهم في وقت عز المسلمين واجتماع كلمتهم، فكيف يكون حالهم الآن مع ضعف المسلمين وتفرقهم؟!
إن اليهود ينظرون إلى العهود مع غيرهم على أنها ضرورة لأغراض مرحلية، أو لمقتضيات مصلحة آتية، فإذا استنفذوا هذه الأغراض المرحلية؛ نقضوا الميثاق، وهذه هي طبيعة اليهود.
إن من الجهل والحمق الثقة بأي معاهدة يبرمها اليهود، وبأي اتفاق يتم مع اليهود، وإن الذين يعتقدون من اليهود التزامًا صادقًا، أو ينشدون صلحًا آمنًا، أو سلامًا عادلاً دائمًا شاملاً؛ هؤلاء إنما يجرون وراء السراب الخادع، ويحرثون في البحر الهائج.. كيف لا، وفي حكم ربنا عليهم في نقض العهود والمواثيق. وليس ذلك بحكم فئة منهم، بل أكثرهم لا يؤمنون:{ أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ[100]}[سورة البقرة].
المعلم الثالث:من المعالم القرآنية التي حكم الله بها على اليهود أن التفرق والشتات ماضٍ فيهم إلى يوم القيامة:
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[168]}[سورة الأعراف] . {...وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ...[64]}[سورة المائدة]. {...تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى...[14]}[سورة الحشر]. نعم فهذه سنة من سنن الله في اليهود ماضية وهي باقية يعلمها من سبر تاريخهم قديمًا وحديثًا.
فبعصرنا الحاضر وفي دولة ما يسمى إسرائيل يوجد من العداوة والبغضاء والتفرقة العنصرية بين اليهود ما الله به عليم، اليهود الذين جاءوا من الشرق يعادون أهل الغرب، واليهود الذين جاءوا من أوروبا ينظرون إلى يهود العراق وفي اليمن ويهود الفلاشا نظرة دونية، يتعاملون معهم بالطبقية، وصدق الله:{...تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى...[14]}[سورة الحشر].
فلا تظنوا أن يهود اليوم صف واحد، وبنيان مرصوص كلا فبنيانهم مثل بيت العنكبوت:{...وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[41]} [سورة العنكبوت].
وما يخيل لبعض المسلمين اليوم من هيبة وقوة واجتماع كلمة اليهود، وسيطرتهم على العالم اقتصاديًا وسياسيًا، وما إلى ذلك إنما يبرز بسبب واقع المسلمين، فهم لا يجتمعون إلا إذا تفرقنا، ولا يتحركون إلا إذا نمنا، ولا يقوون إلا إذا ضعفنا.
ما يحصل لهم من القوة والعزة إنما يبزر بسبب واقع المسلمين من التفرقة والضعف والشتات، لكن حينما نعود إلى كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ ينقشع عنا هذا الكابوس وسنبصر حقيقة الحال، وتذهب الغشاوة عن العيون، ويفر اليهود كما تفر الفئران، ليحتموا بقصورهم وحصونهم وأشجارهم وصدق الله: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ[14]}[سورة الحشر].
والواقع الآن يقرر هذا: فهم يخافون من شباب وفتيات فلسطين، يخافون من الصغار والأطفال الذين لا يملكون إلا حفنات الحصى والرمال. وذكرت بعض التقارير أن غالب الإصابات في الفتيان والأطفال لا تأتي إلا في الرءوس وفي الصدور؛ لأن اليهود يخافون من هؤلاء الأطفال والشباب الذين يحملون الإرادة القوية، والعزيمة الماضية، والحماس والجهاد في سبيل الله.
المعلم الرابع: التطاول على الذات الإلهية، وإساءة الأدب مع الله:(/2)
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء...[64]}[سورة المائدة] . {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ اَغْنِيَاءُ...[181]}[سورة آل عمران].
المعلم الخامس:التزوير المتعمد لكتاب الله المنزل عليهم وتغييرهم لحقائق الدين:
{...يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ...[46]}[سورة النساء] {...فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ...[79]}[سورة البقرة] .
فاختلقوا كتابًا من عند أنفسهم، وأضفوا عليه من القداسة أكثر من التوراة المنزلة على نبي الله موسى، بل ويفضلونه على شريعة موسى، وفي التلمود نص يشير إلى أن من يخالف شريعة موسى خطيئته مغفورة، أما من يخالف التلمود، فإنه يعاقب بالقتل. والتلمود هو شرح للتوراة ألفه أحبارهم وعلماؤهم، يمجد الشعب المختار، ويدنس الأنبياء الأطهار، ويعد الناس حيوانات، ويأمر بأكل أموال الناس بالباطل حتى تعود إلى ملك شعب الله المختار..إلخ الترهات والعجائب.
المعلم السادس:ارتكابهم للموبقات، وانحرافاتهم الأخلاقية:
فهم أكلة المال الحرام، أكلة الربا، أكلة السحت، يقول الله مبينًا هذا الفساد {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[62]لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[63]}[سورة المائدة]. ولم تستخدم كلمة السحت في القرآن إلا في حق اليهود.
المعلم السابع:من المعالم التي ذكرها الله عن اليهود:
أن القوة الرهيبة هي التي تحملهم على الالتزام بالشرائع، وتطبيق العهود والمواثيق: فالشخصية اليهودية ملتوية تطلق لنفسها العنان في الإفساد، وتبحر في بحار الشهوات بلا ضابط، ولا قيود، لقد جاءهم موسى عليه السلام بألواح التوراة كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ[145]}[سورة الأعراف].
قال بن جرير:' قال بن عباس رضي الله عنه: أمرهم موسى بالذي أمره الله أن يبلغهم إياه من الوظائف والشرائع ثقلت عليهم، وأبوا أن يقروا بها، حتى نتق الله الجبل فوقهم كأنه ظله، قال: رفعته الملائكة فوق رءوسهم' .
المعلم الثامن:كثرة إشعالهم للحروب والفتن، وإفسادهم في الأرض:
ولكن الله تولى إخماد حربهم وإفسادهم: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ[64]}[سورة المائدة] . ومع تكبر اليهود وفسادهم ومع كل لما مضى من خبرهم وحقائقهم يأبى الله إلا أن ينتقم من هذه الحثالة الفاسدة في الحياة الدنيا، فيبعث جندًا من جنده لتقليم أظافر اليهود كلما تطاولت إلى يوم القيامة، وبتسليط الشعوب والأمم عليهم كلما طغوا وأفسدوا وتجبروا، وصدق الله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[167]}[سورة الأعراف].
لقد حكم الله عليهم بالهزيمة في الدنيا كلما عادوا إلى الإفساد مع ما يدخره لهم في الآخرة من العذاب والنكال الشديد: {...وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا[8]}[سورة الإسراء].هذا في القرآن.
وفي صحيح السنة أخبر الصادق المصدوق عن الملاحم التي تكون في آخر الزمان، ومن بينها الحرب مع اليهود: [ لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ ] رواه مسلم.
هذه معالم وحقائق في تاريخ المعركة الصراع مع اليهود، ونحن ننتظر المعركة الفاصلة مع بني صهيون كما أخبر الصادق المصدوق، ولا شك أن العلم بهذه المعالم والحقائق مهم في كل زمان، وهو في أزماننا هذه أهم، وقد قيل: أن معرفة المؤمنين بحالهم وحال أعدائهم هي نصف المعركة. نعم.. تنظير المشكلة، ومعرفة العدو وماذا يخطط وماذا يفعل؟ نصف المعركة.(/3)
وهذا منهج قرآني فربنا تكلم عن اليهود في غير ما آية، وتكلم عن أهل الكتاب، وتكلم عن المنافقين؛ لنحذرهم ونستعد للمعركة: {...هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ...[4]}[سورة المنافقون]. حتى لا تنخدع بأحابيلهم مهما أرضونا بالكلام المعسول من السلام، من العدل، من المصالحة، من حقوق الإنسان، ولكن ما تخفي صدورهم أكبر، ما تجن لنا نواياهم من الحقد والشر أكبر وأعظم.
ويبقى شق مهم: وهو العمل والاستعداد مجرد أن تعلم حقيقة الأعداء، هذا لا يكفينا يجب أن نعمل، وأن نستعد، وأن نعد العدة: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ...[60]}[سورة الأنفال]. ولا بد أن نقوم بالنصرة.
هذه الحقائق والمعالم عن اليهود وعن أخلاقهم وعداوتهم ونقضهم للعهود هي من الكتاب والسنة لا يلغيها تخاذل متنازل قبل النزال، ويمحوها من ذاكرة الوجود تراخي وخور منافق ألقى السلاح، وترك الكتاب، وبدأ يهرول في اتجاه العدو في مسرحية وجهز له السلاح. ويريدون تغييبنا إعلاميًا، نتعرض لتغييب بالتلاعب بالألفاظ والمفاهيم، فيسمى الجهاد ثورة، والقتال انتفاضة، والمجاهد متطرفًا.
نتعرض لتغييب شباب الأمة عن معاني الجهاد والكرامة والعزة و الاستعداد، يغيبون شبابنا بالجنس والشهوة والرياضة. يغيبون شبابنا عن معالي الأمور، يلهون شبابنا بالدنيا. نتعرض إلى تغييب في مناهج التعليم بسبب التطبيع. هل بعد ما ذكره ربنا يتلاعب بمناهجنا التي تعادي بني إسرائيل؟!
لن يمسحوا من قلوبنا:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [7]}[سورة الفاتحة]. ولن يمسحوا من صدورنا: { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا...[82]}[سورة المائدة] .
ففروا إلى ربكم، وإلى سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم: ولا يغرنكم كثرة عدوكم فإن الله تكفل بنصرة هذا الدين: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة الحج]. {...وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا[51]}[سورة الإسراء] . {...أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة].
ولا يغرنكم ما عندهم من القنابل النووية، أو غيرها، لا يغرنك كل هذا، فهذه تزول أمام صيحات التكبير، وهذه تتلاشى أمام عزائم المجاهدين الصادقين: { لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ[196]}[سورة آل عمران]. قوة عما قليل تتلاشى.. { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ[197]}[سورة آل عمران].
ولتعلم أمة الإسلام أنها لن ترجع إلا بالجهاد والعمل الجاد، فماذا فعلنا يا عباد الله؟
هل جاهدنا؟هل تحركنا؟ نعم لقد جاهدنا بالاجتماعات التي نهايتها الشجب والاستنكار وامتصاص غضب الجماهير.
لقد حررنا ولكن بالصياح، لقد تحركنا ولكن بالخطب الرنانة، شجبنا بالكلام ولم نحمل سلاح، ولم نركب على سفينة.
نشكو إلى مجلس الأمن الدعي!
إن الصياح والشجب والتنديد والاستنكار لن يداوي جراحات المسلمين، ولن يعيد للأمة حقًا مغتصبًا، أو عرضًا مسلوبًا.
إن التسول على عتبات هيئة الأمم ومجالس الأمن لن يوقف حمامات الدم. لن يوقف ذلك إلا غضبة كغضبة المعتصم.
لقد جربنا لغة التفاوض، ولغة السلام، فلم تفلح معهم إن اللغة التي يفهموها هي لغة القوة، وليس غير القوة، إن القوة هي الترجمة الحقيقة لما يجيش في صدورنا:
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدى
وليسوا بغير صليل السيوف يجيبون صوتا لنا أو صدى
إن النصر لا يأتي من فراغ، وليس ثمن الانتصار يسيرًا بل هو نتاج العمل والجد والاستعداد، ونبذ الراحة، ونبذ غبار الكسل وتطليق الشهوات. { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ[60]}[سورة الأنفال].
كما ينبغي أن نعلم أن قوة الإرادة والعزيمة مطلب مهم، فإن إرادة الشعوب لا تهزم ولا تقهر؛ لنطرد عن أنفسنا هذا الانهزام وهذا الذل، وهذا الخور.
إن قوما قاتلوا من أجل ذرات الرمال، واستبسلوا لأجل الأدغال والأحراش هزموا أمريكا، بل وأجبرت حرب فيتنام الرئيس الأمريكي على الاستقالة، ما سبب ذلك؟
إنها الإرادة مع كونها أمة وثنية، ونحن أمة لا إله إلا الله، نحن أمة { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}.. نحن أمة الجهاد. نحن نقاتل عن شيء هو أعز علينا من أنفسنا وأبنائنا، نحن نقاتل عن عقيدة وإيمان.
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحيى دينا(/4)
ومن رضى الحياة بغير دينا فقد جعل الفناء لها قرينًا.
إذا أردنا النصر فلا بد أن نعتز بالإسلام.. هذا الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه حرر القدس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بـ6 سنوات، حررها بثياب مرقعة، لكنه كان يقول وهو في الطريق إليها:' نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيرة أذلنا الله'.
أيا يا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهي وتأمر
أمة الإسلام إن عزتنا ورفعتنا بالجهاد في سبيل الله، والأمة حين تغيب نفسها عن الجهاد في سبيل الله، وحينما تتقاعس عن هذه الفريضة التي أصبحت في زمننا المعاصر فريضة غائبة؛ فإن الهوان والذل سيلحقها، قال صلى الله عليه وسلم: [ إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ] رواه أبوداود وأحمد .
ولنثق بموعود، وأن الله قادر على أن يخلق من الضعف قوة، وسلطة مهما ادعت موازين البشر أن النصر بعيد، وأن عدد الأمة قليلة، مهما قالوا هذا الكلام، فإن السنن الإلهية، وإن إرادة الله جل وعلا لا تعترف بالقلة والكثرة:{...كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[249]}[سورة البقرة].
والله جل وعلا هو الذي قدر على أن يشق لموسى طريقًا في البحر يبسا، سبحانه قادر على أن ينجي المستضعفين في كل مكان، ويحمي النساء من الجلادين، قادر سبحانه على أن يحفظ المجاهدين، والذي نصر القلة في بدر ومؤتة قادر على نصرة المجاهدين في كل مكان اللهم انصر إخواننا المجاهدين نصرًا مؤزرًا. كن لهم وليًا، ومعينًا، ونصيرًا .
من خطبة :'ونطق التاريخ قبل أن ينطق الحجر' للشيخ/ محمد بن إبراهيم السبر(/5)
وهذه الجامعات والمدارس الدينية...ما شأنها؟
زين العابدين الركابي 19/11/1424
11/01/2004
هل نحن في عصر تحريف الأمور عن مواضعها، وقلب الحقائق؟ أو في عصر استراتيجيات نفسية وسياسية وإعلامية تتعمد أو تحترف (إسقاط خطايا الذات على الآخرين) وهي حرفة تعارفت الدراسات النفسية على تسميتها بـ ( مرض الإسقاط)؟.
في المبتدأ لن نتورط في تبرئة العرب والمسلمين من الأخطاء والخطايا، فهذه تبرئة تتجافى عن الطبيعة البشرية، وعن الواقع الماثل الطافح بالأخطاء من كل نوع. بيد أنه حسبُ المسلمين أخطاؤهم.. ومن الظلم البواح: أن يحمّلوا أوزار قوم آخرين، وأن يسقط عليهم ما تعج به حياة هؤلاء القوم، والملحظ الأشد حزناً – هنا- أن طوائف من المسلمين صدقت أو كادت تصدق بأن ما يُسقط عليها هو شيء صحيح بإطلاق، وأن هذا الشيء من خصائصها وسماتها التي لا تنفك عنها.. وهذا الشك العاصف في الذات مسبب بالقصف الإعلامي المركز والمستمر والذي يلج – مثلاً- على أن العرب والمسلمين عدوانيون، وشهوانيون، وإنه لكاذب من ينكر أن في العرب والمسلمين شيئاً من ذلك، ولكن بالاستقراء العلمي يتبين: أن المسلمين (هواة) بالنسبة إلى (الخبراء المتخصصين) في هذه المجالات. والغربيون- إلا العقلاء المنضبطين منهم – هؤلاء هم الخبراء المتخصصون العريقون في صناعة الموت.
كم عدد القتلى في الحروب والصراعات التي كان المسلمون طرفاً فيها عبر 1410هـ سنوات؟ هو عدد قليل، لا يساوي واحداً في المائة ألف من عدد القتلى في الحروب والصراعات التي أوقدها وقادها وخاضها غربيون في القرن العشرين، ومن هؤلاء القتلى 27 مليون عسكري في الحربين العالميتين: الأولى والثانية، ويقدر عدد المدنيين من ضحايا هاتين الحربين بـ 13 مليوناً من النساء والأطفال وكبار السن في أثناء الحرب العالمية الأولى، ونحو 20 مليوناً في الحرب العالمية الثانية، وبلغ مجموع القتلى في القرن العشرين – لأسباب دينية وأيديولوجية- وبعيداً عن المعارك الحربية – بلغ 80 مليون إنسان. وفي الجملة فإن 167مليون إنسان لقوا مصرعهم في مجازر وقفت خلفها السياسة، ومعظم هذه المجازر دبرها وقادها غربيون، هكذا تحدث التاريخ الموثوق فمن مسعّر الحروب على الحقيقة؟ وليس هناك امرؤ أمين صاحب ضمير يستطيع أن ينفي: أن من العرب والمسلمين من استبد به نزق الشهوات، ولكن هل الغربيون أطهار عفيفون زاهدون في هذه المسألة؟ إن الانفجار الشهواني قد بلغ الذروة هناك، بعد أن تحطمت قيم ومعايير عديدة. وهو انفجار تخطى العلاقة بين الذكر والأنثى إلى المعاشرة المثلية.. لسنا ننصر شهوة عربية ملهوفة على شهوة غربية ملهوفة. فالسوء هو السوء، سواء صدر عن هذا الجنس أو ذاك، ومورس في هذه البيئة أو تلك ، ولكنا نعجب من موقف، ومن تفكير من يستكثر بضعة أرطال من الشهوات المفلتة، ولا يلفت نظره: ألوف الأطنان من الشهوانية السائبة، بل يسقط هذه الأطنان على صاحب الأرطال، وفي كل شر.
المثل الثالث هو: المنابع والمصادر الثقافية ( وهذا هو جوهر المقال الذي يبسط القول في هذه النقطة التي أجملت في مقال الأسبوع الماضي) فلم تكد أحداث سبتمبر تقع حتى طفقت دوائر معروفة تبدئ وتعيد وتكثر الكلام حول: أن للإرهاب منابع وأن هذه المنابع هي: المناهج الدينية والثقافية في الوطن العربي والعالم الإسلامي. ولم ينحصر التشنيع والاتهام في (الاجتهادات البشرية) التي تصيب وتخطئ، وإنما تعدى هذه الاجتهادات إلى (المصادر العظمى) لدين الإسلام، أي الكتاب والسنة.
وهذا توجه ينطوي على ثلاثة (مخاطر) حقيقية لا وهمية، وجدية غير هازلة.
أ- فهذا التوجه (تدخل في الحرية الدينية) للمسلمين، فهو ينزع إلى أن يعلم المسلمين كيف يعتقدون؟ وماذا يعتقدون؟ وماذا عليهم أن يتركوه من المعتقدات؟.
ب- وهو توجه يحمل (المطالب الصهيونية) ويترجمها على نطاق واسع، فمنذ مدة طويلة تطالب المؤسسة الصهيونية بـ (تعديل) الإسلام نفسه، وفق دعوى تدعيمها وهي: أن (المشكلة) في الإسلام نفسه، لا في أتباعه فحسب. وأنه بناء على هذه الدعوى ينبغي أن ينعقد (إجماع دولي) لمواجهة مصدر التهديد وهو الإسلام ولقد جدد الحاخام اليهودي الأمريكي الشهير(مارفين هير) – منذ أسبوع- هذه الدعوى، عبر برنامج ( لاري كنج) ومما قاله هذا الحاخام: "لو سألتني بشكل مباشر: هل هناك آراء متطرفة في القرآن؟ سوف أقول نعم".
ج_ وهو توجه يؤيد –بقوة- مقولات (الإرهابيين) الذين يقولون: إن الغرب – والأمريكان بوجه خاص- يحاربوننا عل أساس عقدي ديني.
ولنبسط القول – الآن- في (المؤسسات) والاتجاهات التي تغذي الناس هناك بآراء ومواقف متحاملة على الإسلام والعرب والمسلمين.
أولاً- في الولايات المتحدة الأمريكية:
على الرغم من أن أمريكا دولة علمانية وفق نص التعديل الأول من الدستور الأمريكي وهو النص الذي يقول: " لن يصدر الكونجرس أي قانون بصدد ترسيخ الدين أو منع ممارسته".(/1)
وعلى الرغم من التفسير القاطع الذي قدمه الرئيس الأمريكي الأسبق (جيفرسون) إذ قال: "هدف التعديل الأول في الدستور هو: إنشاء حائط فاصل بين الكنيسة والدولة". وعلى الرغم من تفسير المحاكم الأمريكية لهذا التعديل أيضًا، أي التفسير الذي يقول: " لا تستطيع الولاية أو الحكومة الاتحادية تأسيس كنيسة أو سن قوانين تساعد أي دين أو تفضل دينًا على آخر أو تجبر إنسانًا أو تؤثر فيه ليذهب أو يبتعد عن الكنيسة ضد رغبته".
على الرغم من ذلك كله، فإن العلاقة بين الدين والدولة في أمريكا لا تزال قوية ولا يزال (المد المسيحي) ينمو ويتأصل، وهذا وضع لا يزعجنا بل يسرنا أن يفيء النصارى إلى ديانتهم، فهذه إفاءة تقربهم إلينا – بموجب النص القرآني- ثم إن الإيمان بكتاب أفضل – بيقين- من الإلحاد يضم إلى ذلك: أن التمسك بمقادير من القيم المسيحية يبقي على تماسك الأسرة، ولقد سرنا – مثلاً- أن أكثر من 70% من أعضاء مؤتمر الترشيح للرئاسة – في أحد الحزبين الكبيرين متزوجون ولديهم عوائل. وهناك المقادير الأخلاقية التي تنشأ عن التمسك بالمسيحية وهي مقادير مشتركة في الغالب.
هذا الانعطاف نحو الديانة المسيحية امتد إلى الحياة السياسية يقول الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر): " يلعب الدين دوراً حاسماً في الحياة السياسية لأمتنا"، وقال (رونالد ريغان) مثل قوله. أما الرئيس الأمريكي الحالي (جورج بوش) الثاني فقد صرح بأنه : " لن يدخل الجنة من لم يؤمن بالمسيح ( نحن نؤمن بالمسيح) وبأن المسيح هو الفيلسوف الذي يتلقى منه الحكمة والسدادة، ومن المفارقات أن اليهود في أمريكا أثاروا ضجة كبرى حول مسألة (عدم الإيمان) بالمسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ؟ لماذا لأنهم لم يؤمنوا به لا بالأمس ولا اليوم.
وفي ظل هذا الانبعاث المسيحي حصل ارتباط قوي بين جامعات عديدة وبين الكنيسة، ومن هذه الجامعات: الجامعة الأمريكية وجامعة جورج تاون في واشنطن، وجامعتا ديتون في ولاية أوهايو، وبيلور في ولاية تكساس، وجامعة أموري في مدينة أتلانتا، وجامعة دنفر في كوالورادو وجامعة ديوك في كارولينا الشمالية، كما نشأت مؤسسات تعليمية دينية كثيرة منها: (جامعة الحرية) التي أسسها أشهر قس أمريكي هو (جيري فولويل) الذي قدر: أن يصل عدد طلاب هذه الجامعة 50 ألف طالب مع نهاية القرن الماضي، ويتعلم الطلاب في هذه الجامعة علوم اللاهوت من منظور يهودي، كما أنشأ هذا القس أكثر من 20 ألف مدرسة دينية وهذا مثال فحسب. أما في المجال الإعلامي فإن الحركة المسيحية الأصولية تسيطر على معظم شبكة محطات الكنيسة المرئية والمسموعة، أي المحطات التلفزيونية والإذاعية.
ومع اجتناب الوقوع في خطأ التعميم، فمن المؤكد أنه يصدر عن هذه المؤسسات ما يؤيد الظلم والإرهاب الصهيونيين.
ومن ذلك ما قاله جيري فولويل إذ قال: إن الوقوف ضد إسرائيل هو معارضة لله"، وكان (شارون) – مثلاً- هو المعبر عن إرادة الله! ويصدر عن هذه المؤسسات ما يتعمد تقبيح وجه العرب، ومن ذلك ما قاله القس (بات روبرتسون) إذ قال: "إن الله يقف بجانب إسرائيل، وليس بجانب العرب الإسرائيليين". هذه العقليات التي تزكي الإرهاب وتشوه صورة العرب والمسلمين، ألم تتكون في جامعات ومدارس دينية في الولايات المتحدة؟
ثانياً- المؤسسة الصهيونية:
إن العنف والإرهاب الذي مارسته ولا تزال تمارسه هذه المؤسسة، إن هو إلا ثمرة (التعليم الديني) اليهودي، فمع السنوات الأولى لنشأة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة؛ صدر قانون التعليم الذي قسم المدارس إلى نوعين: مدارس حكومية تضم ثلثي الطلاب ومدارس حكومية ينتظم فيها الثلث الباقي، ومع ملاحظة أن نصيب التعليم الديني كبير جداً في المدارس الصهيونية العامة، وثمة مادة بعنوان (الوعي اليهودي) يدرسها الطلاب كافة.
وفي هذه المدارس تخرج غلاة الصهاينة الذين احترفوا الإرهاب، ويمارسون قتل (الأغيار) بنفسية من يمارس هوايته المفضلة!! إن (إيجال عامير) – وهو ابن حاخام- الذي اغتال إسحاق رابين قد تربى ونشأ وتكون على تعاليم (المدارس التلمودية) ومن أفضل الكتب التي كان هذا القاتل يدمن على قراءتها (سيرة باروخ جولد شتاين) الذي قتل 27 فلسطينياً مسلماً وهم يؤدون صلاة الفجر في المسجد الإبراهيمي.
فهل تنتظم الدعوة إلى تغيير المناهج الدينية: مناهج الجامعات والكليات والمدارس الدينية في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل؟
وهل يوافق أصحاب هذه الدعوة على ( خيار الصفر الأيديولوجي) الذي اقترحناه- من قبل-، أم أن المطلوب – فحسب- هو: أن يهجر المسلمون – وحدهم- دينهم ومصادر هويتهم؛ وإلا فهم (إرهابيون) بالهوية والجبلة والديانة؟!(/2)
ويؤثرون على أنفسهم
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُهُ، ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِهِ اللهُ فهوَ المهتدِ، ومَنْ يُضلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } { آل عمران :102 } .
أمَّا بعدُ:
فأوصِيكمْ – عِبادَ اللهِ - ونفسِي بتقوَى اللهِ تعالَى، فإنَّها خيرُ زادٍ ليومِ المعادِ.
معاشرَ المؤمنينَ الكرامِ:
ما أعظمَ أنْ يُحِبَّ المرءُ لأخيهِ ما يُحِبُّ لِنفسِهِ، وما أجملَ أنْ يشارِكَهُ في أحوالِهِ، كلِّها، فيحزنُ لحزْنِهِ وإذا سُرَّ يُسَرُّ، و يواسيهِ بمالِهِ إذا قلَّتْ ذاتُ يدِهِ وافتقرَ، ولكنَّ الأعظمَ مِنْ ذلِكَ أنْ يُؤثِرَ الإنسانُ غيرَهُ بالشيءِ وهوَ أحوجُ ما يكونُ إليهِ، وأنْ يبذلَ له مِنْ مالِهِ ووقتِهِ وجُهْدِهِ ما لا يبذلُهُ لنفسِهِ التي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، ابتغاءَ مرضاةِ المولىَ الكريمِ سبحانَه وتعالَى؛ فيجوعُ لِيشبعَ أخوهُ، ويظمأُ لِيَرْوَى، ويسدُّ خَلَّتَهُ وحاجتَهُ ولَوْ بَقِيَ طاوِياً محتاجاً، فَهَذا - واللهِ- ذوحَظٍّ عظيمٍ، وخُلُقٍ كريمٍ، فلا أحدَ أكرمُ مِنْه في دنيا الناسِ ولا أسمَى، وله في مَراتِبِ الإيمانِ باللهِ تعالىَ المرتبةُ العُظْمَى، كما قالَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -: الإيثارُ أعلَى مراتِبِ الإيمانِ.
عِبادَ اللهِ:
لَقدْ سجَّلَ التاريخُ أروعَ الأمثلَةِ، وأصدَقَ الشواهِدِ، وأخلَصَ الِعبَرِ مِنْ حياةِ الرعيلِ الأوَّلِ مِنْ سَلَفِنا الصالحِ رضوانُ اللهِ عليهمْ، الذينَ زيَّنوا صفَحاتِهِ بأوسِمَةِ الحُبِّ والإيثارِ، وقلَّدوا عُنقَهُ بقلائِدِ العزِّ والفَخارِ، وصاغوا علَى جَبينِهِ الأغرِّ صفحاتٍ مِلْؤُها الأُخوَّةُ الصادِقةُ والمحبَّةُ الفائِقَةُ، فإنَّ الدنيا لم تَرَ إيثاراً ارتفَعَ عَنِ الشهوةِ، ولا حُبّاً تعالَى عَنِ المنفعةِ؛ كالإيثارِ الذي عاشَهُ المؤمنونَ، والحبِّ الذي تبادَلَهُ المسلمونَ، فَهاهُمْ أُولاءِ المهاجرونَ الأولونَ يخرجونَ مِنْ دِيَارِهِمْ وأموالهِمْ يبتغونَ فضلاً مِنَ اللهِ ورِضْواناً، وينصرونَ اللهَ ورسولَهُ، فيستبشرُ إخوانهُمُ الأنصارُ بقدومِهمْ ويستقبلونهَمْ بِلهفةٍ عارِمَةٍ ومحبَّة صادقَةٍ بلغَتْ حَدَّ التنافُسِ بينَهُمْ في نَيْلِ شرَفِ استضافَةِ إخوتِهِمْ في الدِّينِ، ورفقاءِ خاتَمِ الأنبياءِ وإمامِ المرسلينَ.
عبادَ اللهِ:
لقَدْ آخَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَ المهاجرينَ والأنصارِ أُخوةً قامَتْ ـ ولأوَّلِ مَرَّةِ في تاريخِ العربِ ـ مقامَ أُخوَّةِ الدمِ والنسبِ، قامَ الحبُّ والإيثارُ فيهم مقامَ العصبيَّةِ القبليَّةِ والحَمِيَّةِ الجاهِليَّةِ، فذابَتْ عصبيَّاتُ الجاهليَّةِ، وسقطَتْ فوارِقُ اللونِ والدمِ والوطنِ، ولمْ يبقَ إلا حميَّةُ الإسلامِ { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } { الأنفال: 63 } ومِمَّنْ آخَى بينَهمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ وسعدُ بنُ الربيعِ رضِيَ اللهُ عنهما فقالَ سعدُ بنُ الربيعِ لعبدِ الرحمنِ: إنِّي أكثرُ الأنصارِ مالاً فاقْسِمْ مالِي نِصْفينِ، ولِيَ امرأتانِ فانظرْ أعجبَهُما إليكَ فسمِّها لِي أُطلِّقْها، فإذا انقضَتْ عدَّتُها فتزوجْها، فقالَ عبدُ الرحمنِ: باركَ اللهُ لَكَ في أهلِكَ ومالِكَ، دُلُّونِي علَى السوقِ.[أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ]. ولقَدْ صدَقَ فيهم قولُ الشاعِرِ:
وَرِثُوا المكارِمَ كابِراً عَنْ كابرٍ إِنَّ الخِيارَ هُمُ بَنُو الأخيارِ
وما سائِرُ مَنْ آخَى بينَهمُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المهاجرِينَ والأنصارِ إلاَّ مِثْلُهُم، فقَدْ عرضُوا علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -أنْ يقسِمَ النخلَ بينَهْم وبَيْنَ إخوانِهمُ المهاجرينَ.
معاشِرَ المؤمنينَ:(/1)
وهذا مثالٌ رائِعٌ آخرُ، وصورةٌ مشرِقَةٌ ثانيةٌ تدلُّ علَى صِدْقِ الإيمانِ وخلوصِ المحبَّةِ والإيثارِ لَدىَ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ روَى أبو هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّ رجلا ً جاءَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: إنيِّ مجهودٌ - أيْ أصاَبهُ الجَهْدُ والمشقَّةُ مِنَ الجوعِ - فأرسلَ إلى بعضِ نسائِهِ فقالَتْ: والذي بعثَكَ بالحقِّ ما عندِي إلا ماءٌ، ثمَّ إلى أخرَى فقالَتْ مِثْلَ ذلِكَ، حتَّى قُلْنَ كلُّهنَّ مِثْلَ ذلِكَ: لا والذي بعثَكَ بالحقِّ ماعِنْدي إلا ماءٌ. فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ يُضِيفُ هَذا الليلةَ؟" فقالَ رجلٌ مِنْ الأنصارِ - وهوَ أبو طلحةَ-: أنا يا رسولَ اللهِ، فانطلقَ بهِ إلى رَحْلِهِ فقالَ لامرأتِهِ: أكْرِمِي ضيفَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وفي روايةٍ: هَلْ عِنْدَكِ شيءٌ؟ قالَتْ: لا، إلا قوتُ صِبْيانِي. قالَ: فَعَلِّلِيهمْ بشيءٍ وإذا أرادوا العَشاءَ فَنوِّمِيهمْ،
وإذا دَخَلَ ضيفُنا فأطفِئِي السِّراجَ وأَرِيهِ أنَّا نأكلُ، فقَعَدوا وأكلَ الضيفُ وباتا طاوِيَيْنِ، فلمَّا أصبحَ غَدَا علَى النبيِّ فقالَ:" لقَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُما بضيفِكُما الليلةَ" فأنزلَ اللهُ { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { } الحشر:9 } [أخرجَهُ البخاريُّ ومسلمٌ].ومعنَى خَصَاصَةٍ، أيْ: حاجَةٌ.
وصدقَ قولُ الحقِّ فِيهمْ { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً { الإنسان:8 } .
بَلْ إنَّ بعضَ الناسِ يَصِلُ بهِ الحالُ إلى الأسَى والحُزْنِ العميقِ إذا لم يَجِدْ ما يُؤْثِرُ بهِ أخاهُ الملهوفَ، أو جارَهُ الجائعَ، أوْ سائِلا ًيَتَكفَّفُ الناسَ قَدْ أعْيَتْهُ الحِيلَةُ ولَزِمَتْهُ الفاقَةُ، وَيَعُدُّ ذلِكَ مِنَ المصائِبِ النازِلةِ بهِ، كما قالَ الشافعيُّ رحمهُ اللهُ:
يا لَهْفَ نَفْسِي على مالٍ أُفَرِّقُهُ على المُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوءاتِ
إنَّ اعتذارِي إلى مَنْ جاءَ يَسْأَلُنِي ما ليسَ عِنْدِي لمَِنْ إحدى المصيباتِ
بارَك اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ والسُّنَّةِ، ونفعَنا جميعاً بما فيهما مِنَ الهُدَى والحِكْمَةِ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ الكريمَ المنَّانَ ؛ فاستغفروهُ وتوبوا إليهِ، إنَّهُ هوَ أهلُ التقوَى والغُفْرانِ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ وكفَى، والصلاةُ والسلامُ علَى النبيِّ المصطفَى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ المجتَبَى، صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وآصحابِهِ أهلِ الإيثارِ والوفَا، والتابعين لهم النُّجَبَاءِ الشُّرَفَا.
أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ - عِبادَ اللهِ - ما استطعتمْ؛ فإنَّ تقوَى اللهِ خيرُ ما قدَّمْتُمْ، وأفضلُ ما ادَّخَرْتُم.
أيُّها المسلمونَ الأعِزَّةُ:
إنَّ الإيثارَ طبعٌ كريمٌ، وخُلُقٌ عظيمٌ، لا يسكُنُ إلاَّ في النفوسِ المطمئنةِ بالإيمانِ، ولا يرسَخُ إلاَّ في القلوبِ العامرةِ بالتقوَى والعِرْفانِ، فينمُو بالرعايةِ، ويزدادُ بالعنايةِ، حتَّى يُصبِحَ خُلُقاً مِنْ أخلاقِ المؤمنِ بالمجاهدةِ والمصابَرةِ، والنظرِ والتأمُّلِ في حقيقةِ الدنيا الغابرةِ، مَع قُوَّةِ اليقينِ وشِدَّةِ المحبَّةِ والصبرِ على المشقَّةِ؛ ابتغاءَ رِضْوانِ اللهِ ونعيمِ الآخرةِ.
فَطُوبَى لِعَبدٍ آثرَ اللهَ ربَّهُ وجادَ بِدُنْياهُ لِما يَتَوقَّعُ
وقَدْ آثرَ الأنبياءُ - عليهمُ الصلاةُ والسلامُ - رِضا ربِّهم سبحانَه وتعالَى علَى كُلِّ أحدٍ، إذْ تجرَّدوا لِلدعوةِ إلى اللهِ تعالَى، واحتمَلُوا عَداوَةَ البعيدِ والقريبِ في اللهِ، ولمْ تأخُذْهُمْ في ذلِك لَومَةُ لائمٍ؛ حتَّى ظهرَ دِينُهمْ علَى كلِّ دِينٍ، وَعَلَتْ راياتُهمْ فوقَ كلِّ رايةٍ، وقامَتْ حُجَّتُهمْ علَى العالَمِينَ.
واعلَموا أنَّ المجتمعَ الذي يسودُ فيهِ الإيثارُ، ويتعامَلُ بأخلاقِ الأخيارِ الأبرارِ؛ لَحَقِيقٌ أنْ ينالَ الرِّفعَةَ والسُّؤدَدَ، وأنْ يُحَقِّقَ السعادةَ والمجدَ، إنَّه مجتمَعٌ يجمعُ معانِيَ الإنسانيةِ - بَعدَ الركائِزِ الإيمانِيَّةِ - ويستَعْلِي علَى الأَثَرَةِ والأنانِيَّةِ، ويرْبَأُ بنفسِهِ عنِ الحياةِ المادِيَّةِ، التي تُفَضَّلُ فيها المصلحةُ علَى المبدإِ، وتُقَدَّمُ فيها الرغبةُ الشخصِيَّةُ علَى المُثُلِ الشَّرعيَّةِ، فأكْرِمْ بمجتمعٍ يعطِفُ فيهِ الكبيرُ علَى الصغيرِ، ويُوقِّرُ فيهِ الصغيرُ الكبيرَ، ويَرْأَفُ غَنِيُّهُ بالفقيرِ، ويُؤْثِرُ المرْءُ فيهِ أخاهُ الضعيفَ الكسيرَ، مجتمَعٌ لُحْمَتُهُ الإيمانُ وسَدَاهُ الإيثارُ.
عبادَ اللهِ:(/2)
لا يَشُكُّ عاقِلٌ أنَّ مجتمعاً كَهذا سيبلغُ مِنَ الإيمانِ ذِرْوَتَهُ، ومِنَ اليقينِ قِمَّتَهُ، ومِنَ الحُبِّ غايَتَهُ، وسيجتمعُ علَى مائدةِ الإيمانِ، ويصدرُ عَن طاعةِ الْمَلِكِ الدَّيانِ، وبهذِهِ الأخلاقِ المباركةِ، والقِيَمِ المعظَّمَةِ تنعقدُ أقوَى الوشائِجِ بينَ أفرادِهِ مَهْما اختلَفَتْ أجناسُهُمْ، وتباعَدَتْ دِيارُهُمْ، وتَنَوَّعَتْ مصالِحُهمْ، وتفاوتَتْ لُغاتُهمْ؛ لِيُمَثِّلَ مجتمعَ المهاجرينَ والأنصارِ في الزمنِ الأوَّلِ مِنَ حياةِ هذِهِ الأُمَّةِ الخالِدَةِ، الذي أثْنَى اللهُ- عزَّ وجَلَّ- علَى مواقِفِ أهلِهِ فقالَ: { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { الحشر:9 } .
اللهمَّ حِبِّبْ إلينا الإيمانَ وزيِّنْهُ في قلوبِنا، وكَرِّهْ إلينا الكُفْرَ والفسوقَ والعِصْيانَ واجعلْنا يا ربَّنا مِنَ الراشدِينَ، اللهمَّ اغفِرْ لِلمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، اللهمَّ وفِّقْ أميرَنا ووليَّ عهدِهِ لِهُداكَ, واجعلْ عملَهما في رِضاكَ، اللهمَّ احفظْهما بحفظِكَ, واكلأْهما بِرعايَتِكَ, وألبِسْهما ثوبَ الصحَّةِ والعافِيَةِ والإيمانِ, يا ذا الجلالِ والإكرامِ، اللهمَّ اجعلْ هَذا البلدَ آمنًا مطمئِنًّا سخاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ, وتقبَّلِ اللهمَّ شهداءَنا وشهداءَ المسلمينَ أجمعينَ.(/3)
ويحك أتدري ما الله
لتعلم أن من الأمور المهمة لك معرفة صفات و أسماء ارب جل جلاله كما وردت في الكتاب والسنة .. و بعد معرفتها .. عليك تذكرها باستمرار .. حتى تصير لقلبك بمنزلة المرئي .. فتحقق بذلك مرتبة الإحسان فتعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك و بهذا تحيا القلوب الميته و تنقشع الغفلة و تنشرح الصدور بنور التوحيد
والرسل كلهم عرفوا بالله سبحانه من خلال التعريف بأسمائه و صفاته وأفعاله تعريفا مفصلا حتى كن العباد يشاهدونه سبحانه و ينظرون اليه و قد استوى على عرشه فوق سماواته عال على خلقه قاهرا لكل شيء يدبر أمر مملكته آمرا ناهيا .. باعثا لرسله ..منزلا كتبه .. فينزل الأمر من عنده بتدبير مملكته .. فيكلم عبده جبريل و يرسله الى من يشاء بما يشاء .. ملائكته يخافونه من فوقهم , و ينفذون أوامره في أقطار ملكه في السماوات والأرض و ما بينهما .. تصعد الأمور اليه و تعرض عليه .. له الامر و ليس لاحد معه شيء بل الامر كله له معبود مطاع لا شريك له و لا مثيل و لا عدل موصوف بصفات الكمال ... منعوت بنعوت الجلال .. منزه عن العيوب والنقائص قائما بالملك والتدبير فلا حركة ولا سكون و لا نفع ولا ضر و لا عطاء و لا منع و لا قيض ولا بسط الا بقدرته و تدبيره فقيام الكون كله به و قيامه سبحانه بنفسه فهو القائم بنفسه .. المقيم لكل ما سواه (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) ويقول صلى الله عليه وسلم (مفاتح الغيب خمس : إن الله عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا و ما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) رواه البخاري
وهو يتكلم سبحانه و تعالى يأمر و ينهى و يتأذى و يفرح و يسمع ويبصر و يرصى و يغضب و يحب و يسخط و يجيب دعوة المضطر من عباده و يغيث ملهوفهم و يعين محتاجهم و يجبر كسيرهم و يغني فقيرهم و يميت و يحيى و يمنع و يعطي و يثيب و يعاقب مالك الملك يؤتي الملك من يشاء و ينزع الملك ممن يشاء و يعز من يشاء و يذل من يشاء بيده الخير و هو على كل شيء قدير (إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يغفر ذنبا و يفرج كربا و يفك عانيا و ينصر مظلوما و يقصم ظالما و يرحم مسكينا و يغيث ملهوفا و يسوق الأقدار الى مواقيتها و يجريها على نظامها و يقدم ما يشاء تقديمه و يؤخر ما يشاء تأخيره فأزمة الأمور كلها بيده و مدار تدبير الممالك كلها إليه فله الجلال والجمال والكمال والعزة والسلطان.
يرحم إذا استرحم و يغفر اذا استغفر و يعطي إذا سئل و يجيب إذا دعي و يقيل إذا استقيل قال صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : أنا الملك أنا الملك .. من يدعوني فأستجيب له .. من يسألني فأعطيه .. من يستغفرني فأغفر له ) متفق عليه
هو سبحانه و تعالى أكبر من كل شيء و أعظم من كل شيء و اعز من كل شيء و أقدر من كل شيء و اعلم من كل شيء و أحكم من كل شيء... بصير بحركات العالم علويه وسفليه و أشخاصه و ذواته سميع لأصواتهم رقيب على ضمائرهم و أسرارهم ويرى أفعالهم و حركاتهم يشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)
سميع يسمع ضجيج لأصوات باختلاف اللغات على تنوع الحاجات فلا يشغله سمع عن سمع و لا تغلطه المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين سواء عنده من أسر القول و من جهر به فالسر عنده علانيه والغيب عنده شهادة يرى و يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء و يرى و يسمع نبض عروقها و مجاري الطعام في أعضائها
يمسك السماوات و الأرض أن تزولا و يمسك البحار أن تغيض أو تفيض على العالم و يمسك السماء أن تقع على الأرض و يمسك الطير في الهواء صافات و يقبضن
يجعل سبحانه و تعالى السماوات يوم القيامة على أصبع والارضين على أصبع والجبال والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع ثم يهزهن فيقول انا الملك أنا الملك .. الكبرياء رداءه و العظمة إزاره يقول سبحانه و تعالى في الحديث القدسي (فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار) رواه مسلم(/1)
ملكه عظيم عظيم يقول سبحانه و تعالى ( يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ... و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني .... يا عبادي لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم و إنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه . رواه مسلم .
فهو حي لا يموت قيوم لا ينام عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن لا تتحرك ذرة إلا بإذنه والخلق مقهورين تحت قبضته و هو رب العالمين و أرحم الراحمين و أقدر القادرين وأحكم الحاكمين الذي له الخلق والأمر المعروف بالفطره الذي أقرت به العقول و دلت عليه كل الموجودات و شهدت بوحدانيته و ربوبيته جميع المخلوقات
فإذا علمنا أنه لا رب غيره و لا يملك الضر و النفع والعطاء والمنع إلا هو فعليك بالسعي في طلب الوصول أليه بفعل الواجبات وال نوافل ... و ترك المحرمات والغفله فإنك إن فعلت فتح لك أبواب الخير والإيمان والتقوى و بتذكرك أسماء الله و صفاته و أفعاله دائما بالليل والنهار ينشأ نور الايمان في قلبك ... يريك ذلك النور أنك واقف بين يدي ربك عز و جل فتستحي منه في خلواتك و جلواتك و ترزق عند ذلك دوام المراقبه للرقيب و دوام التطلع الى حضرة العليم العظيم حتى كأنك تراه و تشاهده من فوق سماواته مستويا على عرشه ناظرا الى خلقه سامعا لأصواتهم مشاهدا لبواطنهم فاذا استولى عليك هذا الشاهد أزال عنك هموم الدنيا كلها و تعلقت بربك واتخذته وحده وكيلا فسمت روحك و دخلت جنته في هذه الدنيا قبل جنته التي في الآخره
فتأمل و تفكر واقرأ هذا الكلام لتشاهد ربك في الدنيا بعيني قلبك و سوف تراه يوم القيامه ببصرك فإنه (إذا دخل أهل الجنة يقول الله تبارك و تعالى : تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تبيض و وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنه و تنجنا من النار ؟ فيكشف سبحانه و تعالى الحجاب , فما أعطوا شيئا أحب أليهم من النظر الى ربهم عز و جل ) رواه مسلم
وأما من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا فإنها لا تعمى الإبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور(/2)
ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون
ضياء الحق محمد الرفاعي
يقول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:78]، ومن أصدق من الله قيلاً، ومن أصدق من الله حديثاً.
وفي هذا المقال عرض مختصر يبن فيه الباحث أن كَتَبِة الأناجيل يكذبون، يقولون على الله الكذب وهم يعلمون؛ فقط ليضلوا قومهم!
ومما لا يخالف فيه عاقل أن (أي كتاب يحتوي على معلومة مكذوبة أو مجرد خبر خاطئ يحكم على نفسه بعدم المصداقية ، ويكفي ذلك سببا لتجنبه وتركه بحثاً عن الحق والصواب...). ونحن هنا فقط نضرب مثالين لكذب واحد من كتبة الأناجيل (متّى)، فقط لنقول أنهم يكذبون عليكم أيها النصارى، وأنهم كما قال ربنا عز وجل: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. والحال أن الكذبات في الأناجيل كثيرة جداً، ومن شاء المزيد راسلنا وأطلعناه.
المثال الأول: من هو عمانوئيل؟
يقول (متّى) (1) في سرده لقصة ولادة السيد المسيح -محاولاً وضع تصور شخصي (بديلاً عن الإعجاز بولادة السيد المسيح) وإضفاء صفة القدسية عليه من بداية (إنجيله)، ليكمل رسم صورة السيد المسيح على أنه (ابن العلي – أو ابن الله) كما في ثنايا إنجيله. ففي الإصحاح الأول: 18 - 23، يقول متّى: "أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هَكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارّاً وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرّاً . وَلَكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هَذِهِ الأُمُورِ إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ. وَهَذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ ، هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ. (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا).
ماذا يقول متّى هنا؟
إنه يستحضر بشارة موجودة في (العهد القديم)، ويقول أن ملاك -ملك- الرب جاء ليوسف النجار -الذي كان قد خطب مريم العذراء-، وقال له أن المسيح هو البشارة التي تكلم عنها نبي من أنبياء بني إسرائيل في العهد القديم في العهد القديم والتي نصها: "هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ". (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا).
هكذا يروي (متّى) القصة، وتعالوا ننظر إليها في العهد القديم وننظر ماذا فعل هذا الرجل!
النص الأصلي الذي نقل عنه (متّى) موجود في سفر إشعياء، حيث يقول كاتب هذا السفر -وليصبر للقراءة دقائق كل من أراد الحق-:
القصة أصلاً من بداية سفر إشعياء تتحدث عن آية أعطاها الرب لآحاز بن يوثام بن عزيا ملك يهوذا، حين سأله أن يطلب منه آية، ولنتأمل ما يقول من البداية:
Is:7:1: وحدث في أيام آحاز بن يوثام بن عزيا ملك يهوذا أن رصين -ملك أرام- صعد مع فقح بن رمليا -ملك إسرائيل- إلى أورشليم لمحاربتها فلم يقدر أن يحاربها. وأخبر بيت داود وقيل له قد حلت أرام في أفرايم. فرجف قلبه وقلوب شعبه كرجفان شجر الوعر قدام الريح. (SVD)
Is:7:3: فقال الرب لإشعياء أخرج لملاقاة آحاز أنت وشآرياشوب -ابنك- إلى طرف قناة البركة العليا إلى سكة حقل القصّار (SVD)
Is:7:4: وقل له: احترز واهدأ، لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل ذنبيْ هاتين الشعلتين المدخنتين بحمو غضب رصين وأرام وابن رمليا. (SVD)
Is:7:5: لأن أرام تآمرت عليك بشر مع أفرايم وابن رمليا قائلة (SVD)
Is:7:6: نصعد على يهوذا ونقوّضها ونستفتحها لأنفسنا ونملّك في وسطها ملكاً ابن طبئيل (SVD)
Is:7:7: هكذا يقول السيد الرب لا تقوم لا تكون. (SVD)
Is:7:8: لأن رأس أرام دمشق ورأس دمشق رصين، وفي مدة خمس وستين سنة ينكسر أفرايم حتى لا يكون شعباً. (SVD)
Is:7:9: ورأس أفرايم السامرة ورأس السامرة ابن رمليا إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا (SVD)
Is:7:10: ثم عاد الرب فكلم آحاز قائلاً (SVD)
Is:7:11: اطلب لنفسك آية من الرب إلهك، عمق طلبك أو رفّعه إلى فوق. (SVD)
Is:7:12: فقال آحاز: لا أطلب ولا أجرب الرب. (SVD)
Is:7:13: قال اسمعوا يا بيت داود هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا إلهي أيضاً. (SVD)(/1)
Is:7:14: ولكن يعطيكم السيد نفسه آية ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل. (SVD)
Is:7:15: زبداً وعسلاً يأكل متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير. (SVD)
Is:7:16: لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تخلى الأرض التي أنت خاش من ملكيها (SVD)
Is:7:17: يجلب الرب عليك وعلى شعبك وعلى بيت أبيك أياماً لم تأتي منذ يوم اعتزال أفرايم عن يهوذا أي ملك أشور. (SVD)
Is:7:18: ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب الذي في أقصى ترع مصر وللنحل الذي في أرض أشور (SVD)
Is:7:19: فتأتي وتحل جميعها في الأودية الخربة وفي شقوق الصخور وفي كل غاب الشوك وفي كل المراعي. (SVD)
Is:7:20:في ذلك اليوم يحلق السيد بموسى مستأجرة في عبر النهر بملك أشور الرأس وشعر الرجلين وتنزع اللحية أيضاً. (SVD)
Is:7:21: ويكون في ذلك اليوم أن الإنسان يربي عجلة بقر وشاتين. (SVD)
Is:7:22: ويكون أنه من كثرة صنعها اللبن يأكل زبداً فإن كل من أبقي في الارض يأكل زبداً وعسلاَ. (SVD)
Is:7:23: ويكون في ذلك اليوم أن كل موضع كان فيه ألف جفنة بألف من الفضة يكون للشوك والحسك. (SVD)
Is:7:24: بالسهام والقوس يؤتى إلى هناك لأن كل الأرض تكون شوكاً وحسكاً. (SVD)
Is:7:25: وجميع الجبال التي تنقب بالمعول لا يؤتى إليها خوفاً من الشوك والحسك فتكون لسرح البقر ولدوس الغنم (SVD)
Is:8:1: وقال لي الرب خذ لنفسك لوحاً كبيراً واكتب عليه بقلم إنسان لمهير شلال حاش بز. (SVD)
Is:8:2: وأن أشهد لنفسي شاهدين أمينين أوريا الكاهن وزكريا بن يبرخيا. (SVD)
Is:8:3: فاقتربت إلى النبية فحبلت وولدت ابناً، فقال لي الرب ادعو اسمه مهير شلال حاش بز. (SVD)
Is:8:4: لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو يا أبي ويا أمي، تحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور (SVD)
Is:8:5: ثم عاد الرب يكلمني أيضاً قائلاً (SVD)
Is:8:6: لأن هذا الشعب رذل مياه شيلوه الجارية بسكوت وسر برصين وابن رمليا (SVD)
Is:8:7: لذلك هوذا السيد يصعد عليهم مياه النهر القوية والكثيرة ملك أشور وكل مجده فيصعد فوق جميع مجاريه ويجري فوق جميع شطوطه (SVD)
Is:8:8: ويندفق إلى يهوذا، يفيض ويعبر، يبلغ العنق ويكون بسط جناحيه ملء عرض بلادك يا عمانوئيل (SVD)
Is:8:9: هيجوا أيها الشعوب وانكسروا، وأصغي يا جميع أقاصي الأرض، احتزموا وانكسروا، احتزموا وانكسروا. (SVD)
Is:8:10:تشاوروا مشورة فتبطل.تكلموا كلمة فلا تقوم، لأن الله معنا. (SVD)
Is:8:11: فإنه هكذا قال لي الرب بشدة اليد، وأنذرني أن لا أسلك في طريق هذا الشعب قائلاً (SVD)
Is:8:12: لا تقولوا فتنة لكل ما يقول له هذا الشعب فتنة ولا تخافوا خوفه ولا ترهبوا. (SVD)
Is:8:13: قدسوا رب الجنود فهو خوفكم وهو رهبتكم. (SVD)
من خلال السياق كاملاً تدرك أنه لا علاقة للسيد المسيح -عليه السلام- ولا ولادته بما يتحدث عنه النص. والقائل للنبوئة -حسب السياق- ليس الرب كما ادعى (متّى) وإنما هو (آحاز)
ونسأل:
هل خلت تلك الأرض من (رصين ملك آرام وابن رمليا ملك إسرائيل) عند ولادة السيد المسيح؟؟
هل تمت جميع تلك النبوءات (من تصفير (الرب) للذباب في ترع مصر!! وحلولها في الأودية الخربة ... إلى حلاقة (السيد) بموس مستأجرة في (عبر النهر بملك أشور لرأسه وشعر رجليه وهل نزع لحيته (عند ولادة السيد المسيح)!!؟ ومن هو السيد في المواضع الثلاث أصلاً ؟؟
هل أكل كل من بقي في الأرض زبداً وعسلاً؟
هل حملت ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور؟! (قبل أن يعرف الصبي أن يقول يا أبي ويا أمي)؟
هل أصعد (السيد) مياه شيلوه الجارية متدفقة إلى يهوذا، ففاض الماء وعبر وبلغ الأعناق؟ وكان بسط (جناحيه) ملء عرض بلاد عمانوئيل؟؟ عند ولادة السيد المسيح (أو عمانوئيل -كما يريد كاتب إنجيل متّى؟؟)
هل بقي شك بأن تلك النبوءة كانت خاصة بانهزام رصين وابن رمليا، الذين هاجما أورشليم على يد عمانوئيل؟؟
وهل بقي هناك أدنى شك بأن (لمهير شلال حاش بز) هو (عمانوئيل) وهو ابن آحاز من (النبية)؟ وأن الله نصره وملكه أشور وأرض يهوذا وأبطل به مشاورات الشعوب واحتزامهم بشدة اليد؟
وقد يصرخ القارئ قائلاً: تمهّل! كيف تكون النبوءة عن (عذراء) ويكون عمانوئيل ابن النبية؟ فأقول: ومن أخبرك أيها القارىء الكريم أن الكلمة العبرية الأصلية كانت (عذراء)؟!
نعم! إن الكلمة في الأصل العبري هي (عالما:almaw) وترجمتها الحرفية (الفتاة الشابة). وإليك الترجمة الأنكليزية:
(JPS) Therefore the Lord Himself shall give you a sign: behold, the young woman shall conceive, and bear a son, and shall call his name Immanuel.
(BBE) For this cause the Lord himself will give you a sign; a young woman is now with child, and she will give birth to a son, and she will give him the name Immanuel.(/2)
وأما الترجمة السبعينة لنص اشعياء 8-3، فهي كالتالي: دنوت من امرأتي النبية فحملت وولدت ابنا فقال لي الرب سمِّه: أسرع إلى السلب بادر إلى النهب.
(Bishops) After that went I vnto the prophetisse, and she conceaued & bare a sonne: Then sayde the Lord to me, Geue him his name, a speedie robber, an hastie spoyler.
وبقي أمر أخير لتبيانه، وهو أن عادة اليهود وملوك إسرائيل كانت إطلاق اسمين على المولود، أحدهم كان صفة يربط بلفظ الجلالة بالعبرية (ئيل) أي إله اسرائيل، كما في إسماعيل (أي سمع الله) ويعقوب وهو إسرائيل (السائر إلى الله)... وكما في أسماء الملائكة عبيد الله (عزرائيل - جبرائيل - ميكائيل...). ولم يبقى سوى أن نبيّن أن مهير شلال حاش بز، وهو عمانوئيل (يعني مع الله)، وليس كما قرره متّى (بأن تفسيره الله معنا!)؛ لأنها وجدت في إصحاح آخر.
Is:8:10 10 تشاوروا مشورة فتبطل، تكلموا كلمة فلا تقوم، لأن الله معنا. (SVD)
وهي تنسجم مع نصرة الله لعمانوئيل الذي كان (مع الله)، وتأييده حين نصره على رصين وابن رمليا...
ويكفي الإشارة الأخيرة إلى غرابة نص إنجيل متّى الذي أقرّ بأن السيدة مريم ستدعوا ابنها (يسوع) وليس (عمانوئيل) وأن السيد المسيح طوال حياته لم يدع بهذا الاسم إطلاقاً!
Mat 1:21 فَسَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ.
Mat 1:23 هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا).
ولاحظ أيها القارىء العزيز أنها (ستدعو) اسمه يسوع (أي المخلص)، وأنهم (سيدعون) اسمه عمانوئيل، واعتقد أن هناك فرقاً بين -تدعوا (هي)، يدعون (هم)، وهناك فرق بين عمانوئيل ويسوع، مما لا يدع مجال للشك أنه هذا الرجل -أعني متّى- يأخذ كلمة من هنا وكلمة من هناك، ويأتي بكلمة من أمّ رأسه كي فقط ليضل قومه!
مثال آخر: هل كان رؤساء الكهنة وكتبة الشعب يعلمون حقاً بولادة (يسوع) ومكان ولادته؟
يقول متّى في الإصحاح الثاني من إنجيله:
Mat 2:1 وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ
Mat 2:2 قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ.
Mat 2:3 فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ.
Mat 2:4 فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْبِ وَسَأَلَهُمْ: أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟
Mat 2:5 فَقَالُوا لَهُ: فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ لأَنَّهُ هَكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ (2):
Mat 2:6 وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ.
وبهذا النص يقرر كاتب إنجيل متّى بأن رؤساء الكهنة وكتبة الشعب كانوا يعلمون، بل وينتظرون ولادة السيد المسيح في بيت لحم، والدليل (ماهو مكتوب بالنبي)، فأين ذكر هذا الكلام في العهد القديم؟
إنه يقصد النص الموجود بسفر ميخا القائل:
Mic 5:2 أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ.
ترى هل حقاً تنطبق هذه النبوءة على السيد المسيح حسب النص (المنسوخ)؟ تعال لنتابع قصة هذا النص (المقتطع) منذ البداية، وسأترك الحكم للقارئ:
جاء في سفر النبي ميخا الإصحاح الرابع العدد واحد وما بعده ما نصه:
Mic 4:1 وَيَكُونُ فِي آخِرِ الأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ الرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتاً فِي رَأْسِ الْجِبَالِ وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ التِّلاَلِ وَتَجْرِي إِلَيْهِ شُعُوبٌ.
Mic 4:2 وَتَسِيرُ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ وَيَقُولُونَ: هَلُمَّ نَصْعَدْ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ وَإِلَى بَيْتِ إِلَهِ يَعْقُوبَ فَيُعَلِّمَنَا مِنْ طُرُقِهِ وَنَسْلُكَ فِي سُبُلِهِ. لأَنَّهُ مِنْ صِهْيَوْنَ تَخْرُجُ الشَّرِيعَةُ وَمِنْ أُورُشَلِيمَ كَلِمَةُ الرَّبِّ.
Mic 4:3 فَيَقْضِي بَيْنَ شُعُوبٍ كَثِيرِينَ. يُنْصِفُ لِأُمَمٍ قَوِيَّةٍ بَعِيدَةٍ فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكاً وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لاَ تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفاً وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ.
Mic 4:4 بَلْ يَجْلِسُونَ كُلُّ وَاحِدٍ تَحْتَ كَرْمَتِهِ وَتَحْتَ تِينَتِهِ وَلاَ يَكُونُ مَنْ يُرْعِبُ لأَنَّ فَمَ رَبِّ الْجُنُودِ تَكَلَّمَ.(/3)
Mic 4:5 لأَنَّ جَمِيعَ الشُّعُوبِ يَسْلُكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ بِاسْمِ إِلَهِهِ وَنَحْنُ نَسْلُكُ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِنَا إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ.
Mic 4:6 فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ الرَّبُّ أَجْمَعُ الظَّالِعَةَ وَأَضُمُّ الْمَطْرُودَةَ وَالَّتِي أَضْرَرْتُ بِهَا
Mic 4:7 وَأَجْعَلُ الظَّالِعَةَ بَقِيَّةً وَالْمُقْصَاةَ أُمَّةً قَوِيَّةً وَيَمْلِكُ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ فِي جَبَلِ صِهْيَوْنَ مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ.
Mic 4:8 وَأَنْتَ يَا بُرْجَ الْقَطِيعِ أَكَمَةَ بِنْتِ صِهْيَوْنَ إِلَيْكِ يَأْتِي. وَيَجِيءُ الْحُكْمُ الأَوَّلُ مُلْكُ بِنْتِ أُورُشَلِيمَ.
Mic 4:9 اَلآنَ لِمَاذَا تَصْرُخِينَ صُرَاخاً؟ أَلَيْسَ فِيكِ مَلِكٌ أَمْ هَلَكَ مُشِيرُكِ حَتَّى أَخَذَكِ وَجَعٌ كَالْوَالِدَةِ؟
Mic 4:10 تَلَوَّيِ ادْفَعِي يَا بِنْتَ صِهْيَوْنَ كَالْوَالِدَةِ لأَنَّكِ الآنَ تَخْرُجِينَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَتَسْكُنِينَ فِي الْبَرِّيَّةِ وَتَأْتِينَ إِلَى بَابِلَ. هُنَاكَ تُنْقَذِينَ. هُنَاكَ يَفْدِيكِ الرَّبُّ مِنْ يَدِ أَعْدَائِكِ.
Mic 4:11 وَالآنَ قَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْكِ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لِتَتَدَنَّسْ وَلْتَتَفَرَّسْ عُيُونُنَا فِي صِهْيَوْنَ.
Mic 4:12 وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ أَفْكَارَ الرَّبِّ وَلاَ يَفْهَمُونَ قَصْدَهُ إِنَّهُ قَدْ جَمَعَهُمْ كَحُزَمٍ إِلَى الْبَيْدَرِ.
Mic 4:13 قُومِي وَدُوسِي يَا بِنْتَ صِهْيَوْنَ لأَنِّي أَجْعَلُ قَرْنَكِ حَدِيداً وَأَظْلاَفَكِ أَجْعَلُهَا نُحَاساً فَتَسْحَقِينَ شُعُوباً كَثِيرِينَ وَأُحَرِّمُ غَنِيمَتَهُمْ لِلرَّبِّ وَثَرْوَتَهُمْ لِسَيِّدِ كُلِّ الأَرْضِ.
Mic 5:1 اَلآنَ تَتَجَيَّشِينَ يَا بِنْتَ الْجُيُوشِ! قَدْ أَقَامَ عَلَيْنَا مِتْرَسَةً. يَضْرِبُونَ قَاضِيَ إِسْرَائِيلَ بِقَضِيبٍ عَلَى خَدِّهِ.
Mic 5:2 أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ.
Mic 5:3 لِذَلِكَ يُسَلِّمُهُمْ إِلَى حِينَمَا تَكُونُ قَدْ وَلَدَتْ وَالِدَةٌ ثُمَّ تَرْجِعُ بَقِيَّةُ إِخْوَتِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
Mic 5:4 وَيَقِفُ وَيَرْعَى بِقُدْرَةِ الرَّبِّ بِعَظَمَةِ اسْمِ الرَّبِّ إِلَهِهِ وَيَثْبُتُونَ. لأَنَّهُ الآنَ يَتَعَظَّمُ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ.
Mic 5:5 وَيَكُونُ هَذَا سَلاَماً. إِذَا دَخَلَ أَشُّورُ فِي أَرْضِنَا وَإِذَا دَاسَ فِي قُصُورِنَا نُقِيمُ عَلَيْهِ سَبْعَةَ رُعَاةٍ وَثَمَانِيَةً مِنْ أُمَرَاءِ النَّاسِ
Mic 5:6 فَيَرْعُونَ أَرْضَ أَشُّورَ بِالسَّيْفِ وَأَرْضَ نِمْرُودَ فِي أَبْوَابِهَا فَيَنْفُذُ مِنْ أَشُّورَ إِذَا دَخَلَ أَرْضَنَا وَإِذَا دَاسَ تُخُومَنَا.
Mic 5:7 وَتَكُونُ بَقِيَّةُ يَعْقُوبَ فِي وَسَطِ شُعُوبٍ كَثِيرِينَ كَالنَّدَى مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ كَالْوَابِلِ عَلَى الْعُشْبِ الَّذِي لاَ يَنْتَظِرُ إِنْسَاناً وَلاَ يَصْبِرُ لِبَنِي الْبَشَرِ.
Mic 5:8 وَتَكُونُ بَقِيَّةُ يَعْقُوبَ بَيْنَ الأُمَمِ فِي وَسَطِ شُعُوبٍ كَثِيرِينَ كَالأَسَدِ بَيْنَ وُحُوشِ الْوَعْرِ كَشِبْلِ الأَسَدِ بَيْنَ قُطْعَانِ الْغَنَمِ الَّذِي إِذَا عَبَرَ يَدُوسُ وَيَفْتَرِسُ وَلَيْسَ مَنْ يُنْقِذُ.
Mic 5:9 لِتَرْتَفِعْ يَدُكَ عَلَى مُبْغِضِيكَ وَيَنْقَرِضْ كُلُّ أَعْدَائِكَ!
Mic 5:10 «وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ الرَّبُّ أَنِّي أَقْطَعُ خَيْلَكَ مِنْ وَسَطِكَ وَأُبِيدُ مَرْكَبَاتِكَ.
Mic 5:11 وَأَقْطَعُ مُدُنَ أَرْضِكَ وَأَهْدِمُ كُلَّ حُصُونِكَ.
هل هناك داع لشرح؟؟ وهل هناك مايشير إلى أن الذي يخرج (في ذلك اليوم الذي هو في آخر الأيام) من بيت لحم الذي (يكون متسلطاً) على إسرائيل ومخارجه من القديم إلى الأزل (وليس -مدبر- يرعى شعبي إسرائيل حسب متّى) كان هو السيد المسيح؟!!
هل سلم السيد المسيح جيوش بنت صهيون إلى آشور؟؟ وهل رجع بقية (إخوته) إلى بني إسرائيل؟؟
هل وقف ورعى (بقدرة الرب إلهه)؟؟ وأقام سبعة رعاة وثمانية من أمراء الناس ليرعوا أرض أشور بالسيف وأرض نمرود في أبوابها؟؟
رعى بقدرة الرب إلهه؟؟!!! (أو ليس السيد المسيح برأي المسيحيين هو الرب المتجسّد..المصلوب والمهان من أجل (الخلاص)).
وهل كان السيد المسيح يوماً (متسلطاً) على إسرائيل؟؟!! أم مكذوباً ومضطهداً (ومصلوباً) على أيديهم؟؟!!
وبالتالي وجب عليك أيها القارئ الكريم أن تجيب على السؤال المطروح "بنفسك":(/4)
هل كان رؤساء الكهنة وكتبة الشعب يعلمون بولادة السيد المسيح ومكانه؟؟ وينتظرونه حسب النص المستشهد حقاً؟ ولو كانت تلك صفاته كما تتابعت به النبوءة فلماذا اضطهدوه و (صلبوه)
نموذج ثالث لتعمّد كتبة الأناجيل الكذب على الله!
هل ذهب السيد المسيح إلى مصر (ودُعي) من هناك؟
مرة ثانية يظهر ملاك الرب ليوسف النجار، واسمع للقصة كما يرويها متّى في إنجيله.
Mat 2:13 وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ.
Mat 2:14 فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ
Mat 2:15 وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ: مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي.
وحتى يفهم قراءنا الأفاضل كلمة بالنبي تعني الإشارة إلى سفر من أسفار العهد القديم -الذي يطلق عليه التوراة مجازاً-. إذاً فالنبوءة كانت تتحدث عن دعوة السيد المسيح (من مصر) لأنه (ابن الله)، وهذا ما كان يعني كاتب إنجيل متّى (إثبات البنوة لله) والعياذ بالله! فهل وفق في ذلك؟؟ تعالوا نرى ونتأمل في أصل تلك النبوءة:
كانت تلك العبارة موجودة في سفر هوشع وجاءت من البداية (قبل الاقتطاع) على الشكل التالي:
Hos 11:1 لَمَّا كَانَ إِسْرَائِيلُ غُلاَماً أَحْبَبْتُهُ وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي.
Hos 11:2 كُلَّ مَا دَعُوهُمْ ذَهَبُوا مِنْ أَمَامِهِمْ يَذْبَحُونَ لِلْبَعْلِيمِ وَيُبَخِّرُونَ لِلتَّمَاثِيلِ الْمَنْحُوتَةِ.
Hos 11:3 وَأَنَا دَرَّجْتُ أَفْرَايِمَ مُمْسِكاً إِيَّاهُمْ بِأَذْرُعِهِمْ فَلَمْ يَعْرِفُوا أَنِّي شَفَيْتُهُمْ.
Hos 11:4 كُنْتُ أَجْذِبُهُمْ بِحِبَالِ الْبَشَرِ بِرُبُطِ الْمَحَبَّةِ وَكُنْتُ لَهُمْ كَمَنْ يَرْفَعُ النِّيرَ عَنْ أَعْنَاقِهِمْ وَمَدَدْتُ إِلَيْهِ مُطْعِماً إِيَّاهُ.
Hos 11:5 لاَ يَرْجِعُ إِلَى أَرْضِ مِصْرَ بَلْ أَشُّورُ هُوَ مَلِكُهُ. لأَنَّهُمْ أَبُوا أَنْ يَرْجِعُوا
Hos 11:6 يَثُورُ السَّيْفُ فِي مُدُنِهِمْ وَيُتْلِفُ عِصِيَّهَا وَيَأْكُلُهُمْ مِنْ أَجْلِ آرَائِهِمْ.
Hos 11:7 وَشَعْبِي جَانِحُونَ إِلَى الاِرْتِدَادِ عَنِّي فَيَدْعُونَهُمْ إِلَى الْعَلِيِّ وَلاَ أَحَدٌ يَرْفَعُهُ.
Hos 11:8 كَيْفَ أَجْعَلُكَ يَا أَفْرَايِمُ أُصَيِّرُكَ يَا إِسْرَائِيلُ؟! كَيْفَ أَجْعَلُكَ كَأَدَمَةَ أَصْنَعُكَ كَصَبُويِيمَ؟! قَدِ انْقَلَبَ عَلَيَّ قَلْبِي. اضْطَرَمَتْ مَرَاحِمِي جَمِيعاً!
Hos 11:9 لاَ أُجْرِي حُمُوَّّ غَضَبِي. لاَ أَعُودُ أَخْرِبُ أَفْرَايِمَ لأَنِّي اللَّهُ لاَ إِنْسَانٌ الْقُدُّوسُ فِي وَسَطِكَ فَلاَ آتِي بِسَخَطٍ.
Hos 11:10 وَرَاءَ الرَّبِّ يَمْشُونَ. كَأَسَدٍ يُزَمْجِرُ. فَإِنَّهُ يُزَمْجِرُ فَيُسْرِعُ الْبَنُونَ مِنَ الْبَحْرِ.
Hos 11:11 يُسْرِعُونَ كَعُصْفُورٍ مِنْ مِصْرَ وَكَحَمَامَةٍ مِنْ أَرْضِ أَشُّورَ فَأُسْكِنُهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ يَقُولُ الرَّبُّ.
Hos 11:12 قَدْ أَحَاطَ بِي أَفْرَايِمُ بِالْكَذِبِ وَبَيْتُ إِسْرَائِيلَ بِالْمَكْرِ وَلَمْ يَزَلْ يَهُوذَا شَارِداً عَنِ اللَّهِ وَعَنِ الْقُدُّوسِ الأَمِينِ.
هل يشك عاقل حكيم أن النبوءة والخبر كان عن إسرائيل الذي دعاه الله حين كان صغيراً (ابنه) فدعاه من مصر (أي أنبأه بخروج شعبه -الذي أطلق عليه فيما بعد شعب إسرائيل- (أخرجهم) من مصر إلى أرض أبيهم إسرائيل؟؟
وأن لفظ البنوّة هنا إنما هو استعارة تعني (عبده) وهي كذلك في الأصول العبرية، ولكنها استبدلت إلى (فتى) ومن ثم إلى (غلام) كما في تحريف التراجم بين هذين النصين:
Mt:12:17: لكي يتم ما قيل باشعياء النبي القائل. (SVD)
Mt:12:18: هوذا فتاي الذي اخترته حبيبي الذي سرّت به نفسي.اضع روحي عليه فيخبر الامم بالحق. (SVD)
والصحيح في النص المقتطع من اشعياء في العهد القديم هو هكذا :
Isa 42:1 هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ.
* وتلك ايضا نبوءة "مكذوبة" منسوبة باطلاً إلى السيد المسيح، مقتطعة وملصوقة في إنجيل متّى سيأتي ذكرها فيما بعد)*
ونعود إلى ذات النص فنجد فيه مالا يخفى عن أحد، النبوءة التي تحدثت عن إخراج الله ودعوته (لبني إسرائيل) من مصر ونصرهم على سكان أرض أشور الذين كانوا يذبحون (للبعليم) ويبخرون للتماثيل المنحوتة يُسْرِعُونَ كَعُصْفُورٍ مِنْ مِصْرَ، فَأُسْكِنُهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ يَقُولُ الرَّبُّ، وحالهم مع سيدنا موسى وإعراضهم عن الوصايا وما بدر منهم (بارتدادهم واتخاذهم العجل) وَشَعْبِي جَانِحُونَ إِلَى الاِرْتِدَادِ عَنِّي..(/5)
وأجمل ما في ذلك النص "ماتغافل عنه كاتب إنجيل متّى" والذي فيه معلن بأن (الله) عز وجل ليس إنساناً) وهو وحده جل وعلا القدوس الأمين.
Hos 11:9 لأَنِّي اللَّهُ لاَ إِنْسَانٌ.. الْقُدُّوسُ فِي وَسَطِكَ.....
فهل كان كما أراد أن يصوره كاتب إنجيل متّى بأن السيد المسيح هو ابن الله، وأنه دعي من مصر؟؟
ثم ألا تكفي تلك العبارة والشهادة في تلك النبوءة، بأن الله العلي القدير (ليس إنسان) لا بذاته ولابصفته، ولا ينبغي أن يكون له ولد سبحانه وتعالى عما يصفون، فهو القدوس العلي العظيم؟؟
فانظر كيف يكذب، وأنظر كيف يبتر من النص ويأخذ منه كما يحلو له كلمة من أوله وكلمة من آخره وكلمة من عنده نفسه، ليخرج بما لم يقله الكتاب المقدس.
ويا أهل الكتاب: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ } [المائدة:77].(/6)
ويقولون متى هو؟!
عز الدين فرحات 12/10/1424
06/12/2003
إن المتفحص لأحوال الأمة والدارس لما تمر به يدرك أنه منذ بعثة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومنحنى هذه الأمة في صعود، وبلغت الأمة ذروة صعودها في قرون الخيرية التي أشار إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
وقد تعرض هذا المنحنى لفترات استعلاء وظهور ثم انحسار بلغت ذروته بسقوط الخلافة عام 1924م، إلا أن هذه الأمة تحمل بداخلها عوامل القوة والاستمرار، لذا كان لا بد لها من أن تنهض من جديد لتحمل معالم مرحلة أخرى في هذا المنحنى وهي مرحلة البعث والنهوض، وذلك مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم...." الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها".
وانطلاقاً من سنة التدافع، وطبيعة الصراع الأزلي بين قوى الخير والشر، والحق والباطل، لم يترك أعداء الأمة للعاملين على تحقيق هذه الأهداف السامية مجالاً للعمل؛ بل كان التضييق ومحاولات الوأد والتعذيب هو ديدنهم تجاه هؤلاء العاملين. وبلغت ذروة هذا الكيد وتلك المحاولات للقضاء على هذه الأمة مداها خلال الفترة الأخيرة خصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وسفور الوجه الكريه لأعداء الأمة. لذا كان لا بد من وقفة جادة ونظرة متفحصة وتشخيص دقيق للوضع الراهن سواء كان دولياً أو محلياً، والبحث عن عوامل القوة ومصادرها في هذه الأمة في محاولة متأنية وواقعية للتعامل مع هذا الوضع بجهد صادق وواقعية منطقية، وذلك من خلال وضع ممارسات عملية تتلاءم مع إمكانياتنا والظروف المحيطة بنا.
أولا : التحديات الخارجية و الأوضاع العالمية الراهنة:
لقد قدر لهذه الأمة أن تعيش في ظل أوضاع ومعطيات عالمية وإقليمية مضطربة أوجبت عليها ابتداءً حصرها والتعرف عليها كي تتمكن من صياغة الحلول المثلى لتجاوزها والتغلب على آثارها السلبية، ولعل أبرز وأهم هذه الأوضاع سيطرة أمريكا على العالم بنظام القطب الواحد، والذي ترتبت عليه آثار متعددة منها:
1- السيطرة على منابع الغاز والنفط والطاقة بشكل عام.
2-الانفراد الأمريكي بمؤسسات الأمم المتحدة المختلفة وجعلها تدور في فلكها ووفق إرادتها.
3-التحكم في المؤسسات التي تلعب أدواراً فاعلة في عجلة الاقتصاد الدولي مثل: منظمة تحرير التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وإدارة دفة مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، وغير ذلك..
4-الضغوط السياسية على حكومات دول العالم الثالث وفرض شروط مذلة عليها تصب في نهاية المطاف في مصلحتها فقط، ومن أمثلة ذلك: التسهيلات الأمنية، والحصار الاقتصادي والسياسي، وتجميد الأرصدة والحسابات.... إلخ.
5- إعلان الحرب ضد الإسلام تحت مسمى وزعم محاربة الإرهاب، وجاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتكمل الحلقة في هذه السلسلة من خلال تلفيق التُّهم وتزوير الحقائق وقلب الموازين والمفاهيم، وحصار الدعاة والمؤسسات الإسلامية والدعوية والإغاثية وتجفيف منابعهم الفكرية والمادية والملاحقة المستمرة لهم.
ثانيا: التحديات الداخلية التي تواجه نهضة الأمة:
1-تفرق الأمة وعدم اتحادها بل وموالاة أعدائها والدوران في فلكهم ومحاربة كل ما هو إسلامي.
3-الاستبداد والدكتاتورية وكبت الحريات والفساد الإداري في كثير من الدول الإسلامية.
4-الاحتكام إلى القوانين والدساتير الوضعية وإهمال شرع الله.
5-عدم وجود أهداف وتوجهات كبرى تجتمع عليها الأمة.
6-غياب البناء الاقتصادي الموحد للأمة الذي تتكامل فيه مواردها رغم وجود التكتلات الدولية في هذا المجال.
7-فقدان الهوية والتأثر بكل جديد وإن خالف مبادئ الإسلام في كافة المجالات وخاصة مجال الفكر والثقافة، وإفساح المجال لمنحرفي الفكر لترويج أفكارهم الهدامة عن الإسلام والمسلمين.
8- ضعف مستوى التعليم وانتشار الجهل، وارتفاع نسبة الأمية بين أبناء الأمة.
9-الفساد الاجتماعي و الأخلاقي وضعف دور الأسرة كلبنة في بناء المجتمع المسلم.
ورغم كل هذه التحديات الداخلية والخارجية؛ إلا أن لهذه الأمة خصائص تميزها عن غيرها وتساعد على نهوضها مرة أخرى.
ثالثا:خصائص الأمة الإسلامية.
تختص هذه الأمة بعدة خصائص تميزها عن غيرها من الأمم وحتى إن وجدت بعض هذه الخصائص أمة أخرى؛ إلا أنها لا تجتمع إلا في أمة الإسلام!. وهذه الخصائص مجتمعة هي بلا شك مصدر عزها واستمرارها وتأهيلها لمكان الريادة بين الأمم قاطبة. ومن أهم الخصائص ما يلي:
1-الإسلام وهو الدين الخاتم وآخر صلة بين السماء والأرض، وهو المهيمن على جميع الديانات والرسالات السابقة، قال تعالى: ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)، وقال: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).(/1)
2-الأمة الإسلامية تمتلك المنهج الوحيد الصحيح الذي لم تمتد إليه يد البشر بالتزوير أو التحريف، والذي تكفل الله -عز وجل- بحفظه، وهو الوحيد القادر على إصلاح ما فسد من حياة البشرية جمعاء.
3-الأمة تمتلك المنهج الوحيد الذي له رصيد من التجربة، حيث إنه حينما طبِّق سعدت به البشرية وأحدث لها نقلة نوعية ومتميزة إلى الأفضل والأحسن مقارنة بالمناهج الأخرى.
4-من خصائص هذه الأمة أنها الوحيدة التي تمتلك القدرة على استيعاب غير المسلمين داخلها وفق معايير منطقية ومقبولة وقابلة للتطبيق وليس على أساس من التناقض والتضاد والكيل بمكاييل متعددة. فالتقوى هي أساس التفاضل بين المسلمين، والبر والإحسان هو أساس التعامل مع غيرهم ما لم يظهروا عداوة أو يكيدوا كيداً، وهي خصوصية تجعل المجتمع المسلم لا يذوب في غيره ولا يتبع هوى هذا الغير أو يقلده أو يتشبه به، ومع ذلك فهو لا ينعزل عنه ولكن يقتبس منه وينتفع بما لديه.
5-من خصوصية هذه الأمة أن الجهاد سنة ماضية فيها إلى يوم القيامة.
6-وتتسم هذه الأمة بأنها تنظر إلى الدنيا على أنها مزرعة الآخرة وتأخذ فيها بجميع أسباب التقدم والرقي والحضارة، وفي نفس الوقت لا تتناسى أو تغفل أمر آخرتها.
مصادر القوة عند الأمة الإسلامية:
مما لا شك فيه أن التاريخ البشري لم يرصد أمة امتلكت وتمتلك من مصادر القوة والاستمرار مثلما تملك أمة الإسلام، ويمكننا تذكر أين الرومانية والفارسية والشيوعية وغيرها..؟.
ومن كان يظن أن الأمة الإسلامية التي كاد التتار أن يفنوها ويقضوا عليها ويجعلوها مجرد ذكرى في التاريخ لتدون فقط في صفحاته..؟ من كان يظن أن القاهر سيدخل في دين المقهور وأن الغالب الكاسر سوف يطأطئ الرأس أمام منهج المغلوب؟ ولكن حدث ذلك بالفعل!.
وهذا كله لأن هذه الأمة تملك رصيدًا كبيرًا من القوة الظاهرة والخفية المادية والمعنوية مما يجعلها قادرة على الاستمرار والتفوق.
وأهم هذه المصادر ما يلي:
1-الخالق عز وجل : فهو سبحانه أكبر وأعز مصادر قوتنا، حيث اتصف سبحانه بكل صفات الكمال والعزة والقهر والجبروت، وهو الذي بيده مقاليد الأمور، وهو الذي إذا قال للشيء كن فيكون، وهو سبحانه الذي يغير ولا يتغير ويحيي ويميت وهو المعز والمذل (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم).
2- الكتاب والسنة: وهما المصدر الدقيق الذي تكفل الله بحفظه إلى قيام الساعة (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
3-المنهج الوافي الشافي: والذي به العلاج الناجع لأمراض وعلل البشرية جمعاء، الذي اتصف بصفات لا توجد في غيره، وهي صفات حملت في طياتها كل عوامل الاستمرار والقوة، والتي من أهمها: الشمولية، الواقعية، الوسطية، المرونة، العالمية، الربانية، التوازن، تلبية نداء الفطرة وعدم التصادم معها، وأنه الوحيد الذي حينما طبق في حياة البشر؛ حلق بهم في سماء المثل والقيم السامية، وأحاطهم بأخلاقيات ومحاسن فاضلة لم تر البشرية لها نظيراً حتى اليوم.
4-من عوامل القوة وحدة هذه الأمة ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) وهي الوحدة التي لخصت في إطار الأخوة الإسلامية.
5-من عوامل قوة الأمة بناؤها الفكري الذي يحرر العقل ولا يعطله، ويحث على العلم وينشده، ويبتعد بالإنسان عن الخرافة والجهل والهوى والعشوائية.
6-من عناصر قوة الأمة بناؤها الاجتماعي والسياسي، فهي أمة أقامت وتدعو إلى قيام المجتمع الفاضل الطاهر النقي، يساوي في التعامل بين أفراده على مختلف انتماءاتهم.
8- وتكمن قوة هذه الأمة في عنصرها البشري الذي يبلغ ملياراً وأكثر من ثلاثمائة مليون نسمة، وهي طاقات لو أحسن استغلالها وتوظيفها لكان لها شأن عظيم.
9- وتكمن قوتها أيضاً في ثرواتها ومواردها المادية من نفط وغاز ومعادن وموقع جغرافي متميز.
10- وأخيراً تكمن قوة هذه الأمة في نظامها الدقيق والفاعل الذي يربط أفرادها على مختلف مستوياتهم برباط دقيق وفق منظومة منسقة يعرف كل فرد فيها حقوقه وواجباته.
وإن كان الواقع يبدي لنا حالة الأمة، وإلى أي مدى غفلت عن خصائصها ولم تأخذ بأسباب قوتها فأدى ذلك إلى تراجعها؛ إلا أننا يجب أن نكون على يقين وثقة أنه تراجع مؤقت، حيث تشير كل الدلائل إلى أن الأمة قد بدأت منذ سنين في تجاوز هذا التراجع بتوفيق من الله -عز وجل-.
مبشرات:
لابد من الإشارة أيضًا إلى أن الصورة مهما كانت قاتمة؛ فإن هناك جملة مبشرات أهمها أن الغرب في حالة خواء روحي وافتقاد للسعادة والطمأنينة، ولذلك نجد إقبالاً حسناً على اعتناق الإسلام، وما حدث أخيراً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من نفاذ كافة نسخ ترجمة معاني القرآن الكريم من المكتبات الغربية واعتناق آلاف الغربيين الإسلام لخير دليل على القوة الذاتية لهذا الدين.
كيف السبيل:
إننا نعتقد أن على المسلمين شعوبا وحكومات أن يقوموا بعدة خطوات لبعث هذه الأمة مما هي فيه، ومن هذه الخطوات:(/2)
1- يجب على المسلمين تنظيم صفوفهم وتوحيدها وتجاوز الخلافات المذهبية والقومية والسياسية.
2- الاتفاق على أجندة عمل موحدة وميثاق عمل واضح.
3- العمل على إيجاد قيادات مؤمنة مدربة ومحصنة بالعلم والعمل.
4- القيام بواجب التبليغ والتعريف بهذا الدين كلٌّ في محيطه وحسب قدراته وإمكاناته.
5- الثقة التامة في نصر الله -تعالى- لدينه وعباده الصالحين، وأدلة نصرة هذا الدين وظهوره في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصى، منها قوله تعالى:(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد)، وقوله سبحانه: (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).(/3)
ويل للعرب من شر قد اقترب
أ.د. ناصر بن سليمان العمر 2/7/1423
09/09/2002
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
(تتجه أنظار العالم صوب بغداد حابسة أنفاسها، تنتظر تلك الرصاصة التي سيطلقها بوش على رأس صدام حسين).
وبهذه البساطة المتناهية تدور أغلب التحليلات والمواقف والمقالات تجاه تلك المؤامرة الكبرى على العراق أولاً، وعلى بلاد المسلمين ثانياً وثالثاً.
ومساهمةً في توضيح الصورة التي يراد لنا أن نراها على غير حقيقتها، وقياماً بالواجب الشرعي كتبت هذه السطور، لندرك الحقيقة قبل فوات الأوان، وقبل أن نبكي مثل النساء حقاً مضاعاً لم نحافظ عليه مثل الرجال، وعلى الباغي تدور الدوائر.
أرى خلل الرماد وميض نار ... ...
ويوشك أن يكون لها ضرام
فإن لم يطفها عقلاء قومي ... ...
يكون وراءها فتن عظام
وبادئ ذي بدء أعلنها صريحة كما أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل: (( ويلٌ للعرب من شر قد اقترب))(1) .
ثم أقول مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، سائلا إياه التوفيق والسداد:
أولاً: من الخطأ بل من السذاجة المتناهية أن نتصور أن المعركة بين صدّام حسين وبين بوش، أو بين النظام البعثي في العراق وبين الحكومة في أمريكا، إن هذا التحليل مع ما يحمله من غفلة وحماقة، قد يجر إلى السلبية القاتلة نحو ما سيجري هناك، بل قد يدفع البعض إلى أن يضع يده في يد أمريكا، أملاً وطمعاً في التخلص من صدّام وحزبه الذي جرّ على الأُمّة ويلاتٍ ونكبات.
إن حقيقة المعركة تتمثل في أهداف أمريكا تجاه العالم الإسلامي فهي حلقة من سلسلة الحروب الصليبية التي أعلنها بوش وبدون مُوارَبَة في العام الماضي، فقد أعلن أن معركته الأولى في أفغانستان والثانية في العراق وهلمّ جَرّا.
والذي ينكر هذه الحقيقة أو يتجاهلها فهو كمن ينكر أن أمريكا هي التي دمّرت أفغانستان، وجاءت بحكومة عميلة هزيلة، لا يستطيع رئيسها أن يخرج من بيته إلا بحراسة أمريكية خوفاً عليه من شعبه، ومن أقرب المقربين إليه.
إن الذي يجري الآن نحو العراق حلقة أخرى من حلقات المؤامرة الكبرى التي بدأتها أمريكا قبل حرب الخليج الثانية، بل قبل حرب الخليج الأولى حيث استخدمت العراق لضرب إيران وتفكيك قواها وبخاصة بعد ثورة الرافضة مباشرة وقيام دولتهم، فقد خشيت أمريكا من أن يفلت الزمام من يدها فكانت تلك الحرب الطاحنة التي استمرت أكثر من ثمان سنوات دفع ثمنها العراق ودول الخليج قبل إيران، أتت على الأخضر واليابس، وأوهنت القوى، وزادت الجراح، وأنضبت الموارد (2).
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة وثائق تثبت تورط أمريكا في تلك الحرب، ودعمها المباشر ومن خلال عملائها وحلفائها للعراق، من أجل تحقيق الهدف الأول ضمن استراتيجيتها الطويلة البعيدة المدى.
ثم جاءت حرب الخليج الثانية التي تداعت فيها الأمم على العراق بحجة إخراجه من الكويت وإقامة العدل وإعادة الحق إلى نصابه، فكانت تلك الكارثة التي لم يسلم من شرها لا الظالم ولا المظلوم وذلك بقيادة أمريكا ومن أجل تحقيق أهدافها التي لم تعد سراً.
مع أنني أعتبر أنّ غزو الكويت من أعظم الظلم والبغي والفساد في الأرض، وأن صدّام هو السبب المباشر لكل ما حدث وهذه قناعة أعلنتها في وقتها، مع ذلك فتلك الحقيقة شيء وما أنا بصدده الآن شيء آخر لا تلازم بينهما، فلا يتوقع من أمريكا أن تأتي بعد صدام إلاّ بصدام آخر ولكنه مستنسخ من بوش.
والمستجير بـ(بوش) عند كربته ... ...
كالمستجير من الرمضاء بالنار!
لقد حقق الغرب الصليبي من خلال حرب الخليج الثانية أهدافاً استراتيجية كبرى التقت فيها مصالح اليهود مع مصالح الصليبيين، وهاهي تلتقي مرة أخرى ضمن مخطّطٍ رهيبٍ في معركة طويلة يكون العراق في أول قائمتها كما أعلنوا.
ولئن كانت إدارة بوش تردد الحديث عن خطورة نظام صدام وخطورة امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل وتتعمد إثارة البلبلة الإعلامية حول خططها الحربية العسكرية وتوقيتها، فإنه من الأهمية التساؤل عن مبرر إثارة هذه القضيّة الآن وفي هذا التوقيت بالذات؟ أليس العدو الصهيوني يمتلك ترسانة من الأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل أكثر مما يملك العراق؟
ألم تترك إدارة بوش الأب نظام بغداد دون الإجهاز عليه مع توافر الإمكانية القصوى لذلك. ومع وجود قدرات عسكرية للعراق أكثر مما هي عليه الآن؟ ألم تبتز الإدارة الأمريكية المنطقة بالإبقاء على نظام صدام رغم مخاطره التي يتحدثون عنها طوال العقد الماضي؟ فلماذا لآن؟
إن الذي يظهر من التسريبات الصحفية والأجواء العالمية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر يشير إلى أن القضية أبعد من إسقاط نظام صدام أو حتى التحكم في منتوجاته النفطية على أهمية ذلك.(/1)
إن الهدف الأكبر هو إيجاد نظام بديل أكثر طواعية وعمالة، يكون صنيعة أمريكية بحتة، سواءً بالأسلوب العسكري أو الأمني الاستخباري، وهذا بدوره سوف يدخل المنطقة بل العالم في طور جديد من النفوذ الأمريكي إذا سمح له أن يمر دون مقاومة.
فهذا التحول سيقلل من دور الدول الخليجية الأخرى في المنطقة، وسيسمح بضغوطات أكبر وأكبر عليها تتعدى المطالبة بتغيير أنظمة التعليم والعمل الخيري إلى ما هو أبعد من ذلك.
وهذا التحول سيحرك أحجاراً أخرى في المنطقة كإيران وسوريا وقد يدفع لتغيير جغرافي بين العراق والأردن من أجل إنهاء القضية الفلسطينية بالطريقة التي يريدونها هم، وخصوصاً اليمين الإنجيلي المتطرف الذي يرى أن الطريق إلى القدس يمر عبر بغداد! وبخاصة أن إنهاء القضية الفلسطينية هو أحد الأهداف الاستراتيجية الكبرى للغرب، والذي يجري الآن لون من الاستعمار الجديد والهيمنة على العالم الإسلامي، عن طريق زرع عدد من القواعد الأمريكية في بلاد المسلمين.
ثانياً: إن عداوتنا لصدام وحزبه البعثي الكافر وظلمه السافر، لا تجيز لنا بحال من الأحوال تبرير موقف أمريكا تجاه العراق فضلا عن تأييدها أو الوقوف معها:
إليك فإني لست ممن إذا اتقى ... ...
سموم الأفاعي نام فوق العقارب!
وعداوتنا وبغضنا لأمريكا لا يلزم منه حبنا لصدام أو التعاطف معه ومع حزبه، فأمريكا صليبية نصرانية عداوتها ركن أصيل من صلب عقيدتنا (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل(3)) (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين)(4) وكذلك نتقرب إلى الله ببغض صدام وحزبه والبراءة منه حتى يعودوا إلى دينهم (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءؤا مما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بينا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده..)(5) . وأي خلل في بغض هؤلاء أو عداوة أولئك خلل في عقيدة المسلم وولائه وحبه لله ولدينه ولرسوله صلى الله عليه وسلم وذلك أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حرب الله هم المفلحون) (6).
إن فقه هذه العقيدة والالتزام بها جزء من موقف المسلم تجاه تلك المعركة الطويلة ومنطلق أصيل لفهم مجرياتها وأبعادها وآثارها، وما يجب على المسلم تجاهها، دون إفراط أو تفريط ودون غلو أو جفاء.(/2)
ثالثاً: يجب أن نعرف أن ضرب العراق ظلم فادح وجريمة كبرى، فشعب العراق وبخاصة أهل السنة هم الذين سيكتوون بنار تلك الحرب ، سواء بقي صدام أو ذهب، وكما دفعوا الثمن فيما مضى من حروب طاحنة فهم من سيدفع الثمن في هذه الحرب، ولن يتم الوصول إلى صدام إلا بعد أن يكون الدمار والبوار، فقد أخذ صدام للأمر أهبته وأعد له عدته، فجعل من يشك في ولائهم أول وقود الحرب وحطبها، وقد أثبتت لنا التجارب أن أمريكا في سبيل احتمال كبح إنسان واحد لا مانع لديها من إهلاك مصر كامل، وبلاد الأفغان خير شاهد، ومن هذا المنطلق وحيث إن الله حرم الظلم لما له من عواقب وخيمة كما في الحديث القدسي: ((ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا))(7) لذلك كله لا يجوز تأييد هذا الظلم، بل تجب البراءة المعلنة منه براءة بالقلب واللسان، مع الحذر كل الحذر من تأييده سواء أكان ذلك بالجنان أو الأركان، بالعبارة أو الإشارة، ولنتذكر حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في صيد الحرم ((هل منكم أحد أمره أو أشار إليه))(8) فمجرد الإشارة مشاركة في العمل، وقول اللسان من أعظم الأفعال (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون)(9) فسمى القول فعلاً، غير أن بعض الناس يظنه هيناً غير مؤاخذ عليه وليس الأمر كذلك (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم)(10) (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين)(11) كما أن عمل القلب له آثاره ولوازمه (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين)(12) (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم..) فالحذر الحذر، تفقد قلبك وألجم لسانك وارفع يدك وإياك أن تشير أو تشارك في تلك الجريمة النكراء، أو تسكت عن إنكارها وبيان أخطارها.
رابعاً: يجب الوقوف مع إخواننا في العراق، لا مع النظام، فوقوفنا معهم واجب شرعي وحق أخوي ((انصر أخاك ظالما أو مظلوما))(13) ، والوقوف معهم له صور وأشكال متعددة باليد واللسان والقلب، بالحس والمعنى، بالمال والنفس، كل حسب استطاعته وطاقته، ولنحذر من السلبية القاتلة والوقوف في صف المتفرجين، فإن من أعظم الظلم خذلان المسلم لأخيه المسلم، و ((ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته))(14) ، و((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة.. )) (15).
خامساً: مأساة الأمة مع الأنظمة العربية وحكام المسلمين مأساة طويلة، فكم خذلت تلك الأنظمة شعوبها وجرت على نفسها الويلات والنكبات، فتراها تعلن شيئا وتخفي أشياء وتقول قولا وتعمل بضده، ومن ثم فقدت أغلب الحكومات ثقة شعوبها، حتى أصبحت لدى الشعوب قناعة بأن النفي من حكوماتها إثبات، والعطاء أخذ، والنصر هزيمة.
وفي هذه القضية كيف تُصدق بعض الأنظمة التي تعلن وقوفها ضد ضرب العراق وهي تزود ناقلات أمريكا وطائراتها بالنفط! وأخرى تشجب ضرب العراق والقواعد الأمريكية في أراضيها! وثالثة تعلن عداوة لأمريكا أمام الملأ وتعقد معها الصفقات في الخفاء! ورابعة تسمح بمرور الأساطيل الأمريكية عبر موانئها وأجوائها.
ويزداد عجبي من شأن هذه الأنظمة وتعاملها مع الأحداث الكبرى، انظر إلى واقعها فيما بينها تجد أن التناحر والتطاحن والاختلاف هو الأصل، والاتفاق حالة استثنائية، حتى أثناء الأزمات والمحن ليس لديها القدرة على اتخاذ موقف موحَد مشرِف، وعدوها الحقيقي يأكلها دولة بعد أخرى، بل صرح زعماء الغرب أنه يصعب عليهم التعامل مع العرب والمسلمين، لأنهم لا يملكون رأياً واحداً مشتركاً، بل كل دولة لها وجهة نظر تختلف عن الدولة الأخرى.
وهذا يذكرني بقصة يهود بني قريظة مع كعب بن أسد عندما كانوا يساقون إلى القتل واحداً تلو الآخر، فقالوا له: إلى أين يذهب بنا؟ فقال قولته المشهورة: تباً لكم يا معشر يهود، أفي كل موطن لا تعقلون.
فهل تعقل تلك الأنظمة ماذا تريد بها أمريكا، وهي لا تزال تتباكى، تحت قدمي أمريكا مُقسِمَة اغلظ الأيمان أنها هي الصديق والحليف وأنها معها ضد الإرهاب في خندق واحد، وأمريكا تعلن جهاراً نهاراً عداوتها واستعدادها لمواجهتها، وأنها مصممة للقضاء عليها واحدة تلو الأخرى.(/3)
إن أولئك الحكام لا يتعلمون من التاريخ! ماذا جنوا من صداقتهم لأمريكا وتحالفهم معها، قدموا بلادهم وأموالهم بل أموال المسلمين قرباناً لتلك الصداقة، بل أصبحت بعض الأنظمة تدفع لأمريكا قيمة الرصاصة التي تقتلها بها، وعلى نفسها جنت براقش، وهاهي النتيجة ظاهرة للعيان، فقد أكلنا يوم أكل الثور الأول، وصدق الله العظيم (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (16).
إنني أدعو الأنظمة العربية والحكام العرب بل وحكام المسلمين جميعاً إلى أن يصطلحوا مع شعوبهم ويتحالفوا معهم بدلاً من تحالفهم مع اليهود والنصارى، وصداقتهم للشرق والغرب، فوالله إن تلك الأحلاف الظالمة لن تغني عنهم من الله شيئاً، كما أنهم لن يصطلحوا مع شعوبهم، ولن يحافظوا على وحدة صفهم، مالم يتوبوا إلى ربهم، ويستمسكوا بدينهم، ويسلموا قيادة أمرهم وحكمهم إلي مليكهم (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)(17) . كما أنصحهم بالبعد عن اتخاذ المواقف التي تبعدهم عن شعوبهم، وتثير الفتن الداخلية، مما يسهل على العدو تحقيق أهدافه ومآربه.
إنني آمل أن تجد هذه الكلمات آذاناً صاغية وقلوباً واعية قبل فوات الأوان، وحلول الهوان، ومن أنذر فقد أعذر.(وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)(18) (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (19) .
سادساً: أما الشعوب الإسلامية، والعربية خصوصاً فلها شأن آخر، حيث لا تزال في لهوها وغفلتها، ومع أن الأمر جدّ خطير، فلم تغير من واقعها شيئاً يذكر، وكأن الأمر لا يعنيها، بل هناك من ينتظر بفارغ الصبر ما ستفعله أمريكا، من أجل رفع المعاناة عن شعب العراق المظلوم ولم يدرك ذلك المسكين أن الغرب لا يعنيه من شأن ذلك الشعب شيئاً، وهل ضُرب الشعب العراقي إلا على يد الغرب وحلفائه.
إن إنقاذ شعب العراق من محنته مع حكومته الجائرة والتآمر الدولي الظالم، لا يأتي على يد بوش، وهل كانت محنته إلاّ صنيعة أبيه مِن قبله!
إن حلّ مشكلة العراق، بيد الشعب العراقي أولاً، وذلك بعودته الصادقة إلى الله والتزام شرعه وأمره، ثم بيد إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
كما أن الحكومات العربية والإسلامية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن حل تلك الأزمة، وإنقاذ هذا الشعب من ذلك الظالم الجائر.
والتزام الدول العربية بالقرارات الدولية الظالمة هو من جملة ما أوصل الحال إلى تلك المأساة، ويزداد عجبي من تقديس الحكومات العربية للأنظمة الدولية فضلاً عن تنفيذها والالتزام بها، وبخاصة عندما أرى مواقف الحكومة الصهيونية من تلك القرارات، وضربها إياها بعرض الحائط، وجعلها خلفها ظهريا.
وأوجه نصيحة خاصة لكل عراقي ألا يجعل من نفسه مطية لأمريكا، من أجل تنفيذ مآربها وأهدافها على أرضه ومن خلال أهله وعشيرته، والموت بشرف على يد صدام، أفضل من حياة ذليلة في جنة أمريكا.
لا تسقني ماء الحياة بذلة ... ...
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
فاختر لنفسك منزلاً تعلو به ... ...
أو مت كريماً تحت ظل القسطل
موت الفتى في عزة خير له ... ...
من أن يبيت أسير طرف أكحل
سابعاً: إن استراتيجية أمريكا في المنطقة بعيدة المدى، غائرة الجذور، ثابتة الأركان، وهي مصممة على تنفيذ تلك الاستراتيجية، طال الزمن أو قصر (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل أن هدى الله هو الهدى ولإن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير)(20) (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)(21) ، وهي في ذلك تستخدم أسلوب الكر والفر، والإقدام الإحجام، والسر والإعلان، في ضوء ما يحقق لها أهدافها، ولن تتورع عن أي أسلوب يوصلها لغايتها، فالغاية لديها تبرر الوسيلة، وما أحجار رقعة الشطرنج عنا ببعيد، والميكافيلية دينها وديدنها، كما صرح بذلك وجلاّه ساستها ودهاقنتها ورجال مخابراتها وجيوشها.(/4)