وصف الذئب
البحتري
صادف البحتري ذئباً في بعض أسفاره، فتحدث عنه، ووصف قتله إياه، وشجاعته، وعلو همته، فقال:
1- وليلٍ كأنَّ الصبح في iiأخرياته
حشاشةُ نَصْلٍ ضمَّ إفرندَه غمدُ
2- تسربلتُه، والذئب وَسْنانُ هاجعٌ
بعين ابن ليل، ماله بالكرى عهدُ
- وأطلسَ ملء العين يحمل iiزَوْرَهُ
4- له ذنب مثل الرشاء، iiيجره،
5- طواه الطوى حتى استمر مريره
6- يقضقض عُصْلاً في أسرَّتها iiالردى
7- سما لي، وبي من شدة الجوع ما به
8- كلانا بها ذئب يحدّث iiنفسه
9-عوى ثم أقعى فارتجزتُ iiفهجتُه
10- فأوجرتُه خرقاءَ تحسب iiريشها
11- فما ازداد إلا جرأة iiوصرامة
12- فأتبعتُها أخرى، فأضللتُ iiنصلها
13- فخرَّ وقد أوردتُه منهل iiالردى
14- وقمتُ فجمّعت الحصى، فاشتويتُه
15- ونلتُ خسيساً منه، ثم iiتركته ... وأضلاعَهُ، من جانبيه، شوىً iiنهدُ
ومتن كمتن القوس أعوج iiمنأدُّ
فما فيه إلا العظم والروح والجلد
كقضقضة المقرور أرعده iiالبرد
ببيداء لم تُعْرَفْ بها عيشةٌ iiرغد
بصاحبه، والجَدّ يتعسه iiالجَدُّ
فأقبل مثل البرق يتبعه iiالرعد
على كوكب ينقضُّ، والليل iiمسودُّ
وأيقنتُ أن الأمر منه هو iiالجِدُّ
بحيث يكون اللبُّ، والرعب، iiوالحقد
على ظمأ، لو أنه عَذُبَ iiالوِرْدُ
عليه، وللرمضاء من تحته iiوَقْدُ
وأقلعت عنه، وهو منعفر iiفَرْدُ
(1) حشاشة نصل: بقية سيف- إفرنده: وشي السيف وجوهره.
(2) تسربل الليل: اتخذه ثوباً- ابن الليل: اللص.
(3) الأطلس: الذئب الأغبر –الزور: الصدر –الشوى: الأطراف –نهد: مرتفعة.
(4) الرشاء: الحبل- منأد: منحن.
(5) الطوى: الجوع –استمر مريره: استحكمت عزيمته، أو تحكم فيه الجوع.
(6) قضقض العظام: كسرها فصوتت –العصل: ج أعصل وهو الناب الأعوج.
(8) الجد: الحظ.
(10) أوجرته: طعنته –الخرقاء: النبلة الطائشة.
(14) الرمضاء: شدة حرارة الرمل.
(15) خسيساً: شيئاً حقيراً.(/1)
وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم
غزوان مصري
صفة لونه:
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أزهر اللون، ليس بالأدهم و لا بالأبيض الأمهق - أي لم يكن شديد البياض والبرص - يتلألأ نوراً).
صفة وجهه:
كان صلى الله عليه وسلم أسيل الوجه مسنون الخدين ولم يكن مستديراً غاية التدوير، بل كان بين الاستدارة والإسالة هو أجمل عند كل ذي ذوق سليم. وكان وجهه مثل الشمس والقمر في الإشراق والصفاء، مليحاً كأنما صيغ من فضة لا أوضأ ولا أضوأ منه وكان صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر. قال عنه البراء بن عازب: (كان أحسن الناس وجهًا و أحسنهم خلقاً).
صفة جبينه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسيل الجبين). الأسيل: هو المستوي. أخرجه عبد الرازق والبيهقي وابن عساكر. وكان صلى الله عليه وسلم واسع الجبين أي ممتد الجبين طولاً وعرضاً، والجبين هو غير الجبهة، هو ما اكتنف الجبهة من يمين وشمال، فهما جبينان، فتكون الجبهة بين جبينين. وسعة الجبين محمودة عند كل ذي ذوق سليم. وقد صفه ابن أبي خيثمة فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى الجبين، إذا طلع جبينه بين الشعر أو طلع من فلق الشعر أو عند الليل أو طلع بوجهه على الناس، تراءى جبينه كأنه السراج المتوقد يتلألأ).
صفة حاجبيه:
كان حاجباه صلى الله عليه وسلم قويان مقوسان، متصلان اتصالاً خفيفاً، لا يرى اتصالهما إلا أن يكون مسافراً وذلك بسبب غبار السفر.
صفة عينيه:
كان صلى الله عليه وسلم مشرب العينين بحمرة، وقوله مشرب العين بحمرة: هي عروق حمر رقاق وهي من علاماته صلى الله عليه وسلم التي في الكتب السالفة. وكانت عيناه واسعتين جميلتين، شديدتي سواد الحدقة، ذات أهداب طويلة - أي رموش العينين - ناصعتي البياض وكان صلى الله عليه وسلم أشكل العينين. قال القسطلاني في المواهب: الشكلة بضم الشين هي الحمرة تكون في بياض العين وهو محبوب محمود. وقال الزرقاني: قال الحافظ العراقي: هي إحدى علامات نبوته صلى الله عليه وسلم، ولما سافر مع ميسرة إلى الشام سأل عنه الراهب ميسرة فقال: في عينيه حمرة؟ فقال: ما تفارقه، قال الراهب: هو شرح المواهب. وكان صلى الله عليه وسلم (إذا نظرت إليه قلت أكحل العينين وليس بأكحل) رواه الترمذي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كانت عيناه صلى الله عليه وسلم نجلاوان أدعجهما - والعين النجلاء الواسعة الحسنة والدعج: شدة سواد الحدقة، ولا يكون الدعج في شيء إلا في سواد الحدقة - وكان أهدب الأشفار حتى تكاد تلتبس من كثرتها). أخرجه البيهقي في الدلائل وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق.
صفة أنفه:
يحسبه من لم يتأمله صلى الله عليه وسلم أشماً ولم يكن أشماً وكان مستقيماً، أقنى أي طويلاً في وسطه بعض ارتفاع، مع دقة أرنبته والأرنبة هي ما لان من الأنف.
صفة خديه:
كان صلى الله عليه وسلم صلب الخدين. وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده). أخرجه ابن ماجه وقال مقبل الوادي: هذا حديث صحيح.
صفة فمه وأسنانه:
قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشنب مفلج الأسنان). الأشنب: هو الذي في أسنانه رقة وتحدد. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والترمذي في الشمائل وابن سعد في الطبقات والبغوي في شرح السنة. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضليع الفم (أي واسع الفم) جميله، وكان من أحسن عباد الله شفتين وألطفهم ختم فم. وكان صلى الله عليه وسلم وسيماً أشنب - أبيض الأسنان مفلج أي متفرق الأسنان، بعيد ما بين الثنايا والرباعيات- أفلج الثنيتين - الثنايا جمع ثنية بالتشديد وهي الأسنان الأربع التي في مقدم الفم، ثنتان من فوق وثنتان من تحت، والفلج هو تباعد بين الأسنان - إذا تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه، - النور المرئي يحتمل أن يكون حسياً كما يحتمل أن يكون معنوياً فيكون المقصود من التشبيه ما يخرج من بين ثناياه من أحاديثه الشريفة وكلامه الجامع لأنواع الفصاحة والهداية).
صفة ريقه:(/1)
لقد أعطى الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم خصائص كثيرة لريقه الشريف ومن ذلك أن ريقه صلى الله عليه وسلم فيه شفاء للعليل، ورواء للغليل وغذاء وقوة وبركة ونماء، فكم داوى صلى الله عليه وسلم بريقه الشريف من مريض فبرىء من ساعته بإذن الله. فقد جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم يرجو أن يعطاها ، فقال صلى الله عليه وسلم: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه. فأتي به وفي رواية مسلم: قال سلمة: فأرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي، فجئت به أقوده أرمد فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، فبرىء كأنه لم يكن به وجع). وروى الطبراني وأبو نعيم أن عميرة بنت مسعود الأنصارية وأخواتها دخلن على النبي صلى الله عليه وسلم يبايعنه، وهن خمس، فوجدنه يأكل قديداً (لحم مجفف)، فمضغ لهن قديدة، قالت عميرة: ثم ناولني القديدة فقسمتها بينهن، فمضغت كل واحدة قطعة فلقين الله تعالى وما وجد لأفواههن خلوف، أي تغير رائحة فم. ومما يروى في عجائب غزوة أحد، ما أصاب قتادة رضي الله عنه بسهم في عينه قد فقأتها له، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تدلت عينه، فأخذها صلى الله عليه وسلم بيده وأعادها ثم تفل بها ومسح عليها وقال (قم معافى بإذن الله) فعادت أبصر من أختها، فقال الشاعر (اللهم صل على من سمى ونمى ورد عين قتادة بعد العمى).
صفة لحيته:
(كان رسول الله صلى الله عليه حسن اللحية)، أخرجه أحمد وصححه أحمد شاكر. وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية، - والكث: الكثير منابت الشعر الملتفها - وكانت عنفقته بارزة، وحولها كبياض اللؤلؤ، في أسفل عنفقته شعر منقاد حتى يقع انقيادها على شعر اللحية حتى يكون كأنه منها)، أخرجه أبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق وابن أبي خيثمة في تاريخه. وعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (كان في عنفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم شعرات بيض). أخرجه البخاري. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: (لم يختضب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان البياض في عنفقته). أخرجه مسلم. (وكان صلى الله عليه وسلم أسود كث اللحية، بمقدار قبضة اليد، يحسنها ويطيبها، أي يضع عليها الطيب. وكان صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته ويكثر القناع كأن ثوبه ثوب زيات). أخرجه الترمذي في الشمائل والبغوي في شرح السنة. وكان من هديه صلى الله عليه وسلم حف الشارب وإعفاء اللحية.
صفة رأسه:
كان النبي صلى الله عليه وسلم ذا رأس ضخم.
صفة شعره:(/2)
كان صلى الله عليه وسلم شديد السواد رجلاً، أي ليس مسترسلاً كشعر الروم ولا جعداً كشعر السودان وإنما هو على هيئة المتمشط، يصل إلى أنصاف أذنيه حيناً ويرسله أحياناً فيصل إلى شحمة أذنيه أو بين أذنيه وعاتقه، وغاية طوله أن يضرب منكبيه إذا طال زمان إرساله بعد الحلق، وبهذا يجمع بين الروايات الواردة في هذا الشأن، حيث أخبر كل واحدٍ من الرواة عما رآه في حين من الأحيان. قال الإمام النووي: (هذا، ولم يحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه (أي بالكلية) في سني الهجرة إلا عام الحديبية ثم عام عمرة القضاء ثم عام حجة الوداع). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير شعر الرأس راجله)، أخرجه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح. ولم يكن في رأس النبي صلى الله عليه وسلم شيب إلا شعيرات في مفرق رأسه، فقد أخبر ابن سعيد أنه ما كان في لحية النبي صلى الله عليه وسلم ورأسه إلا سبع عشرة شعرة بيضاء وفي بعض الأحاديث ما يفيد أن شيبه لا يزيد على عشرة شعرات وكان صلى الله عليه وسلم إذا ادهن واراهن الدهن، أي أخفاهن، وكان يدهن بالطيب والحناء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد)، أخرجه البخاري ومسلم. وكان رجل الشعر حسناً ليس بالسبط ولا الجعد القطط، كما إذا مشطه بالمشط كأنه حبك الرمل، أو كأنه المتون التي تكون في الغدر إذا سفتها الرياح، فإذا مكث لم يرجل أخذ بعضه بعضاً، وتحلق حتى يكون متحلقاً كالخواتم، لما كان أول مرة سدل ناصيته بين عينيه كما تسدل نواصي الخيل جاءه جبريل عليه السلام بالفرق ففرق. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت إذا أردت أن أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم صدعت الفرق من نافوخه وأرسل ناصيته بين عينيه). أخرجه أبو داود وابن ماجه. وكان صلى الله عليه وسلم يسدل شعره، أي يرسله ثم ترك ذلك وصار يفرقه، فكان الفرق مستحباً، وهو آخر الأمرين منه صلى الله عليه وسلم. وفرق شعر الرأس هو قسمته في المفرق وهو وسط الرأس. وكان يبدأ في ترجيل شعره من الجهة اليمنى، فكان يفرق رأسه ثم يمشط الشق الأيمن ثم الشق الأيسر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترجل غباً، أي يمشط شعره ويتعهده من وقت إلى آخر. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في طهوره، أي الابتداء باليمين، إذا تطهر وفي ترجله إذا ترجل وفي انتعاله إذا انتعل). أخرجه البخاري.
صفة عنقه ورقبته:
رقبته فيها طول، أما عنقه فكأنه جيد دمية (الجيد: هو العنق، والدمية: هي الصورة التي بولغ في تحسينها). فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم إبريق فضة)، أخرجه ابن سعد في الطبقات والبيهقي. وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما قالت: (كان أحسن عباد الله عنقاً، لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشمس والرياح فكأنه إبريق فضة يشوب ذهباً يتلألأ في بياض الفضة وحمرة الذهب، وما غيب في الثياب من عنقه فما تحتها فكأنه القمر ليلة البدر)، أخرجه البيهقي وابن عساكر.
صفة منكبيه:
كان صلى الله عليه وسلم أشعر المنكبين (أي عليهما شعر كثير)، واسع ما بينهما، والمنكب هو مجمع العضد والكتف. والمراد بكونه بعيد ما بين المنكبين أنه عريض أعلى الظهر ويلزمه أنه عريض الصدر مع الإشارة إلى أن بعد ما بين منكبيه لم يكن منافياً للاعتدال. وكان كتفاه عريضين عظيمين.
صفة خاتم النبوة:(/3)
وهو خاتم أسود اللون مثل الهلال وفي رواية أنه أخضر اللون، وفي رواية أنه كان أحمراً، وفي رواية أخرى أنه كلون جسده. والحقيقة أنه لا يوجد تدافع بين هذه الروايات لأن لون الخاتم كان يتفاوت باختلاف الأوقات، فيكون تارة أحمراً وتارة كلون جسده وهكذا بحسب الأوقات. ويبلغ حجم الخاتم قدر بيضة الحمامة، وورد أنه كان على أعلى كتف النبي صلى الله عليه وسلم الأيسر. وقد عرف سلمان الفارسي رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخاتم. فعن عبد الله بن سرجس قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزاً ولحماً وقال ثريداً. فقيل له: أستغفر لك النبي؟ قال: نعم ولك، ثم تلى هذه الآية: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) محمد/19. قال: (ثم درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى عليه خيلان كأمثال الثآليل)، أخرجه مسلم. قال أبو زيد رضي الله عنه: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقترب مني، فاقتربت منه، فقال: أدخل يدك فامسح ظهري، قال: فأدخلت يدي في قميصه فمسحت ظهره فوقع خاتم النبوة بين أصبعي قال: فسئل عن خاتم النبوة فقال: (شعرات بين كتفيه)، أخرجه أحمد والحاكم وقال (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي. اللهم كما أكرمت أبا زيد رضي الله عنه بهذا فأكرمنا به يا ربنا يا إلهنا يا من تعطي السائلين من جودك وكرمك ولا تبالي.
صفة إبطيه:
كان صلى الله عليه وسلم أبيض الإبطين، وبياض الإبطين من علامة نبوته إذ إن الإبط من جميع الناس يكون عادة متغير اللون. قال عبد الله بن مالك رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد فرج بين يديه (أي باعد) حتى نرى بياض إبطيه). أخرجه البخاري. وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى حتى يرى بياض إبطيه). أخرجه أحمد وقال الهيثمي في المجمع رجال أحمد رجال الصحيح.
صفة ذراعيه:
كان صلى الله عليه وسلم أشعر، طويل الزندين (أي الذراعين)، سبط القصب (القصب يريد به ساعديه).
صفة كفيه:
كان صلى الله عليه وسلم رحب الراحة (أي واسع الكف) كفه ممتلئة لحماً، غير أنها مع غاية ضخامتها كانت لينة أي ناعمة. قال أنس رضي الله عنه: (ما مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأما ما ورد في روايات أخرى عن خشونة كفيه وغلاظتها، فهو محمول على ما إذا عمل في الجهاد أو مهنة أهله، فإن كفه الشريفة تصير خشنة للعارض المذكور (أي العمل) وإذا ترك رجعت إلى النعومة. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان فجعل يمسح خدي أحدهم واحداً واحداً. قال: وأما أنا فمسح خدي. قال: فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار). أخرجه مسلم.
صفة أصابعه:
قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سائل الأطراف (سائل الأطراف: يريد الأصابع أنها طوال ليست بمنعقدة). أخرجه الطبراني في المعجم الكبير والترمذي في الشمائل وابن سعد في الطبقات والحاكم مختصراً والبغوي في شرح السنة والحافظ في الاصابة.
صفة صدره:
كان صلى الله عليه وسلم عريض الصدر، ممتلىءٌ لحماً، ليس بالسمين ولا بالنحيل، سواء البطن والظهر. وكان صلى الله عليه وسلم أشعر أعالي الصدر، عاري الثديين والبطن (أي لم يكن عليها شعر كثير) طويل المسربة وهو الشعر الدقيق.
صفة بطنه:
قالت أم معبد رضي الله عنها: (لم تعبه ثلجه). الثلجة: كبر البطن.
صفة سرته:
عن هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دقيق المسربة موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك: حديث هند تقدم تخريجه. واللبة المنحر وهو النقرة التي فوق الصدر.
صفة مفاصله وركبتيه:
كان صلى الله عليه وسلم ضخم الأعضاء كالركبتين والمرفقين والمنكبين والأصابع، وكل ذلك من دلائل قوته صلى الله عليه وسلم.
صفة ساقيه:
عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: (وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى بيض ساقيه). أخرجه البخاري في صحيحه.
صفة قدميه:
قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم خمصان الأخمصين مسيح القدمين ينبو عنهما الماء ششن الكفين والقدمين). قوله: خمصان الأخمصين: الأخمص من القدم ما بين صدرها وعقبها، وهو الذي لا يلتصق بالأرض من القدمين، يريد أن ذلك منه مرتفع. مسيح القدمين: يريد أنهما ملساوان ليس في ظهورهما تكسر لذا قال ينبو عنهما الماء، يعني أنه لا ثبات للماء عليها وسشن الكفين والقدمين أي غليظ الأصابع والراحة. رواه الترمذي في الشمائل والطبراني. وكان صلى الله عليه وسلم أشبه الناس بسيدنا إبراهيم عليه السلام، وكانت قدماه الشريفتان تشبهان قدمي سيدنا إبراهيم عليه السلام كما هي آثارها في مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام.
صفة عقبيه:(/4)
كان رسول صلى الله عليه وسلم منهوس العقبين أي لحمهما قليل.
صفة قامته و طوله:
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربعة من القوم (أي مربوع القامة)، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وكان إلى الطول أقرب. وقد ورد عند البيهقي وابن عساكر أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يماشي أحداً من الناس إلا طاله، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما فإذا فارقاه نسب إلى الربعة، وكان إذا جلس يكون كتفه أعلى من الجالس. فكان صلى الله عليه وسلم حسن الجسم، معتدل الخلق ومتناسب الأعضاء.
صفة عرقه:
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ (أي كان صافياً أبيضاً مثل اللؤلؤ). وقال أيضاً: (ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً أطيب من ريح رسول الله صلى الله عليه وسلم). أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له. وعن أنس أيضاً قال: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (أي نام) عندنا، فعرق وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ قالت: عرق نجعله في طيبنا وهو أطيب الطيب). رواه مسلم، وفيه دليل أن الصحابة كانوا يتبركون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم أم سليم على ذلك. وكان صلى الله عليه وسلم إذا صافحه الرجل وجد ريحه (أي تبقى رائحة النبي صلى الله عليه وسلم على يد الرجل الذي صافحه)، وإذا وضع يده على رأس صبي، فيظل يومه يعرف من بين الصبيان بريحه على رأسه.
ما جاء في اعتدال خلقه صلى الله عليه وسلم:
قال هند بن أبي هالة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدل الخلق، بادن متماسك، سواء البطن والصدر). أخرجه الطبراني والترمذي في الشمائل والبغوي في شرح السنة وابن سعد وغيرهم. وقال البراء بن عازب رضي الله عنه: (كان رسول الله أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً). أخرجه البخاري ومسلم.
الرسول المبارك صلى الله عليه وسلم بوصفٍ شامل:(/5)
يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ومولاه ودليلهما، خرجوا من مكة ومروا على خيمة امرأة عجوز تسمى (أم معبد)، كانت تجلس قرب الخيمة تسقي وتطعم، فسألوها لحماً وتمراً ليشتروا منها، فلم يجدوا عندها شيئاً. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في جانب الخيمة، وكان قد نفد زادهم وجاعوا. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أم معبد: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد والضعف عن الغنم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بها من لبن؟ قالت: بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها حلباً فاحلبها، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الشاة، ومسح بيده ضرعها، وسمى الله جل ثناؤه ثم دعا لأم معبد في شاتها حتى فتحت الشاة رجليها، ودرت. فدعا بإناء كبير، فحلب فيه حتى امتلأ، ثم سقى المرأة حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا (أي شبعوا)، ثم شرب آخرهم، ثم حلب في الإناء مرة ثانية حتى ملأ الإناء، ثم تركه عندها وارتحلوا عنها. وبعد قليل أتى زوج المرأة (أبو معبد) يسوق عنزاً يتمايلن من الضعف، فرأى اللبن، فقال لزوجته: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد والشاة عازب (أي الغنم) ولا حلوب في البيت!، فقالت: لا والله، إنه مر بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا، فقال أبو معبد: صفيه لي يا أم معبد، فقالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه (أي مشرق الوجه)، لم تعبه نحلة (أي نحول الجسم) ولم تزر به صقلة (أنه ليس بناحلٍ ولا سمين)، وسيمٌ قسيم (أي حسن وضيء)، في عينيه دعج (أي سواد)، وفي أشفاره وطف (طويل شعر العين)، وفي صوته صحل (بحة وحسن)، وفي عنقه سطع (طول)، وفي لحيته كثاثة (كثرة شعر)، أزج أقرن (حاجباه طويلان ومقوسان ومتصلان)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأجلاهم وأحسنهم من قريب، حلو المنطق، فصل لا تذر ولا هذر (كلامه بين وسط ليس بالقليل ولا بالكثير)، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة (ليس بالطويل البائن ولا بالقصير)، لا يأس من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محشود محفود (أي عنده جماعة من أصحابه يطيعونه)، لا عابس ولا مفند (غير عابس الوجه، وكلامه خالٍ من الخرافة)، فقال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا. وأصبح صوت بمكة عالياً يسمعه الناس، ولا يدرون من صاحبه وهو يقول: جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمتي أم معبد. هما نزلاها بالهدى واهتدت به فقد فاز من أمسى رفيق محمد. حديث حسن قوي أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان، وعليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى القمر، فإذا هو عندي أحسن من القمر). (إضحيان هي الليلة المقمرة من أولها إلى آخرها). وما أحسن ما قيل في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل. (ثمال: مطعم، عصمة: مانع من ظلمهم).
ما جاء في حسن النبي صلى الله عليه وسلم:
لقد وصف بأنه كان مشرباً حمرة وقد صدق من نعته بذلك، ولكن إنما كان المشرب منه حمرة ما ضحا للشمس والرياح، فقد كان بياضه من ذلك قد أشرب حمرة، وما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر لا يشك فيه أحد ممن وصفه بأنه أبيض أزهر. يعرف رضاه وغضبه وسروره في وجهه وكان لا يغضب إلا لله، كان إذا رضى أو سر إستنار وجهه فكأن وجهه المرآة، وإذا غضب تلون وجهه واحمرت عيناه. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (استعرت من حفصة بنت رواحة إبرة كنت أخيط بها ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبتها فلم أقدر عليها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبينت الإبرة لشعاع وجهه). أخرجه ابن عساكر والأصبهاني في الدلائل والديلمي في مسند الفردوس كما في الجامع الكبير للسيوطي.
في ختام هذا العرض لبعض صفات الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الخلقية التي هي أكثر من أن يحيط بها كتاب لا بد من الإشارة إلى أن تمام الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم هو الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلق بدنه الشريف في غاية الحسن والكمال على وجه لم يظهر لآدمي مثله.
رحم الله حسان بن ثابت رضي الله عنه إذ قال:
خلقت مبرءاً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
ويرحم الله القائل:
فهو الذي تم معناه وصورته ثم اصطفاه حبيباً باريء النسم
فتنزه عن شريك في محاسنه
فجوهر الحسن فيه غير منقسم
وقيل في شأنه صلى الله عليه وسلم أيضاً:
بلغ العلى بكماله كشف الدجى بجماله
حسنت جميع خصاله صلوا عليه وآله
ورحم الله ابن الفارض حيث قال:
وعلى تفنن واصف يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
مسألة:(/6)
من المعلوم أن النسوة قطعت أيديهم لما رأين يوسف عليه السلام إذ إنه عليه السلام أوتي شطر الحسن، فلماذا لم يحصل مثل هذا الأمر مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل يا ترى سبب ذلك أن يوسف عليه السلام كان يفوق الرسول صلى الله عليه وسلم حسناً وجمالاً؟
الجواب:
صحيح أن يوسف عليه السلام أوتي شطر الحسن ولكنه مع ذلك ما فاق جماله جمال وحسن النبي صلى الله عليه وسلم. فلقد نال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صفات كمال البشر جميعاً خلقاً وخلقاً، فهو أجمل الناس وأكرمهم وأشجعهم على الإطلاق وأذكاهم وأحلمهم وأعلمهم... إلخ هذا من جهة، ومن جهة أخرى وكما مر معنا سابقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلوه الوقار والهيبة من عظمة النور الذي كلله الله تعالى به، فكان الصحابة إذا جلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسهم الطير من الهيبة والإجلال فالطير تقف على الشيء الثابت الذي لا يتحرك. وما كان كبار الصحابة يستطيعون أن ينظروا في وجهه ويصفوه لنا لشدة الهيبة والإجلال الذي كان يملأ قلوبهم وإنما وصفه لنا صغار الصحابة، ولهذا السبب لم يحصل ما حصل مع يوسف عليه السلام.
* * *
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك وابن عبدك وابن أمتك، صفوة خلقك وخليلك الرحمة المهداة، نبيك ورسولك الأمين محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، مادامت السموات والأرض وبقيت الحياة في هذا الكون، منذ أن خلقت الخلق وإلى أن تقوم الساعة، صلاة وسلاماً ترضيك عنا وتليق بقدره الطاهر عندك، وبالقدر الذي أمرت به بقولك الحق: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً)، وأجعلها شاهدة لنا لا علينا، وأغنمنا شفاعته صلى الله عليه وسلم، يوم البعث وساعة الحشر ويوم يقوم الناس من القبور، ولا تحرمنا لذة النظر إليك، وجواره الكريم في جنة الخلد، صلواتك ربي وسلامك عليه وعلى آله وأصحابه أجميعن ونحن معهم يا رب العالمين. آمين.(/7)
وصفة العمر
د. علي بن عمر بادحدح
</TD
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
الوصفة عبارة عن مواد وتركيبات علاجية يُوصى بها لعلاج بعض الأمراض، والوصفات العلاجية منتشرة في الأوساط الاجتماعية وخاصة للأمراض الشائعة كالأنفلونزا والسعال والصداع، فما إن يُصاب أحد بشيء من ذلك حتى تنهال عليه الوصفات من المقربين، وأبرز مزايا الوصفات أنها مجربة، فكل من يذكر لك وصفة يقول لك: إنها مجربة ونتائجها مؤكدة، وكثير من الناس إذا أصابهم عارض صحي بحثوا عن الوصفات، وسألوا المُجربين.
وإذا ما جئنا إلى "وصفة العمر" فإن التحدي تظهر ضخامته بوضوح، بل رُبما يراه بعض الناس مستحيلاً، إذ كيف يُمكن أن تُعطي وصفة تصلح للصغار والكبار، والرجال والنساء في سائر الأوقات، وجميع الأحوال؟!، ومثل هذه الوصفة تحتاج إلى مصداقية ضخمة، فلا تكفي فيها تجربة محدودة لأفراد قليلين، بل لابد من تجربة شاملة، ونتائج كاملة، وينبغي أن تكون المستندات أصيلة لا يختلف أو يعترض عليها أحد، وقد قبلتُ هذا التحدي الهائل، وسأقدم هذه الوصفة الفريدة، ذات المصداقية الأكيدة، والتجارب العديدة، والنتائج المفيدة.
نشأة الوصفة:
نشأت فكرة الوصفة في الخمس الأواخر من رمضان، وبدأتُ في كتابتها في الحرم المكي الشريف، فهي وليدة البقاع المقدسة، والليالي الفاضلة، وهي ومضة من أنوار الصلوات، وشعلة من ضياء التلاوات، وقبس من شعاع الدعوات، إنها ثمرة النفحات الإيمانية، وفيض التجليات الروحانية، وهبة التأملات التعبدية، ومن هنا تكتسب أولى مزاياها التي تمنحها القبول.
فكرة الوصفة:
أساس الوصفة أن كثيراً من المسلمين يعتكفون في العشر الأواخر من رمضان إتباعاً للسنة، وطلباً للأجر، ويجمعون في اعتكافهم بين الصيام والقيام والتلاوة والذكر والدعاء ولزوم المسجد، فليلهم بالصلاة مملوء، ووقتهم بالتلاوة معمور، ولسانهم بالذكر مشغول، وقلبهم بالخالق موصول، وفكرهم بالآخرة متعلِّق، وحالهم بالإيمان متألِّق، وفي نفوسهم سكينة، وفي قلوبهم طمأنينة، يشعرون باللذة، ويحسون بالمتعة، ولو سألت أحدهم عن حاله لأجاب بجواب الأولين: « والله إننا في لذة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف » ، ومن هنا نشأتْ الفكرة، كيف يُمكن تجديد هذه المعاني وتكرار هذه الأحوال ؟!
خلاصة الوصفة:
رمضان لا يتكرر في العام إلا مرة واحدة، ومع ذلك فإننا إذا أردنا تلك النتائج الرائعة والثمار اليانعة فعلينا بتكرار ما سبق، والخلاصة أن تجعل لك في كل شهر يوماً كاملاً تعتكف فيه وتكون في نهاره صائماً، وفي ليله قائماً، وتشغله بالصلوات والدعوات والتلاوات فتُعيد الذكريات، وتُجدد اللذات، وتحقق الأمنيات.
تفصيل الوصفة:
هذه التفصيلات المقترحة تُوضح المطلوب، وتُساعد على التنفيذ:
* اليوم: يفضل أن يكون ذلك في آخر الأسبوع، ويوم الخميس أنسب.
* الوقت: يبدأ من صلاة الظهر أو العصر من يوم الخميس، ويستمر إلى صلاة الفجر أو صلاة الجمعة من يوم الجمعة.
أعمال الوصفة :
* الصيام (صيام يوم الخميس سنة، ويستحب أن يعتكف بصوم).
* الاعتكاف (اعتكاف يوم وليلة صحيح عند جمهور الفقهاء).
* قيام الليل (وهو سنة مؤكدة واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم ).
* صلاة الوتر (وهي سنة مؤكدة أيضاً).
* تلاوة القرآن الكريم (التلاوة من أفضل الأعمال وأكثرها أجراً ).
* الذكر والدعاء (وهما مما لازم النبي صلى الله عليه وسلم فعله في كل أحواله وسائر أوقاته).
* الصدقة والإنفاق (والصدقة من العبادات المتعدية التي يُضاعف أجرها وتزداد بركتها).
برنامج الوصفة :
بدء البرنامج بصلاة الظهر يوم الخميس على النحو التالي :
1- أداء فريضة الظهر مع الجماعة، وأداء السنن القبلية والبعدية لها .
2- تلاوة قرآنية لمدة ساعة، ومراجعة للحفظ لمدة ساعة.
3- راحة لمدة نصف ساعة، والاستعداد لصلاة العصر.
4- أداء فريضة تلاوة قرآنية لمدة ساعة، ومراجعة للحفظ لمدة نصف ساعة.
5- أذكار المساء والدعاء قبل المغرب بنحو ساعة أو نصف ساعة.
6- الإفطار وأداء صلاة المغرب وسننها، وتناول قليل من الطعام.
7- صلاة ما تيسر من النوافل ما بين المغرب والعشاء لورود حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال:" فَجِئْتُهُ فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَامَ يُصَلِّي فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ خَرَجَ" رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن غريب، وقال المنذري رواه النسائي بإسناد جيد.(/1)
8- أداء صلاة العشاء والسنة البعدية، وتلاوة قرآنية لمدة ساعة، ومراجعة للحفظ لمدة ساعة، والسنن الرواتب وردت في حديث أم حبيبة رضي الله عنها عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلَّ يَوْمٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً تَطَوُّعًا غَيْرَ فَرِيضَةٍ إِلَّا بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ إِلَّا بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ ) وفي رواية الترمذي زيادة: ( أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ ) .
9- الذكر والدعاء قبل النوم، وأخذ قسط من النوم .
10- الاستيقاظ لقيام الليل قبل الأذان الأول للفجر بساعة، وصلاة ثمان أو عشر ركعات ثم الوتر بثلاث في نحو ساعة ونصف.
11- الذكر والدعاء والاستغفار بعد الصلاة، وأخذ قسط يسير من الراحة والنوم الخفيف قبل أذان الفجر الثاني.
12- الاستعداد لصلاة الفجر وأداء سنتها القبلية، ثم تلاوة القرآن والذكر إلى ما بعد شروق الشمس، ثم صلاة ركعتين .
ملاحظة:
* يمكن أن يبدأ البرنامج بصلاة العصر وينتهي بصلاة الجمعة .
* يمكن الاستفادة في بعض الوقت من القراءة والمدارسة العلمية في بعض العلوم والمسائل الشرعية خاصة مع وجود بعض أهل العلم أو الزملاء من طلاب العلم.
تنفيذ الوصفة:
1- يوم في كل شهر ويقترح أن يكون محدداً بأول خميس أو آخر خميس من كل شهر ليتم تفريغ هذا اليوم والانتظام في البرنامج .
2- يُستحسن تنفيذ البرنامج في كثير من الأوقات بالاشتراك مع الآخرين، فيمكن أن يكون برفقة زملائه في طلب العلم مع مشاركة شيوخه أو أساتذته، وربما بمشاركة زملاء العمل، وربما أحياناً الزوجة والأبناء، ولكل صحبة من هذه هدف ونفع خاص.
3- يُستحسن لمن كان قريباً ومستطيعاً أن يُنفَذ البرنامج في أحد الحرمين الشريفين لفضيلة المكان وأثره النفسي والإيماني، وما يستدعيه من ذكريات العبادة في رمضان، وإن لم يتيسر ذلك ففي أي مسجد من المساجد، وإن تعذر في بعض الأحيان فيمكن تنفيذ البرنامج في معظمه في أحد المساجد وبقيته في الليل يُنفذ البيت إلا أن ذلك يفوت صفة الاعتكاف الذي يُشترط أن يكون في مسجد من المساجد، والغرض من ذلك ألا يوجد ما يمنع من تنفيذ البرنامج وجني ثماره وفوائده .
4- يُستحسن أن تخصص بعض المال لتنفقه صدقة في سبيل الله لتجمع أكبر قدر ممكن من الأعمال الصالحة في هذا اليوم .
5- يُستحسن تخصيص ساعة في هذا اليوم للتأمل والتدبر في حالك والمراجعة والمحاسبة لأعمالك، وتجديد النية وإعلاء الهمة في عمل الطاعات ومجانبة المعاصي والسيئات.
منجزات الوصفة:
1- الصيام والاعتكاف .
2- تلاوة ما بين ثلاثة إلى خمسة أجزاء من القرآن الكريم.
3- مراجعة ما بين جزء إلى جزئين من القرآن الكريم.
4- صلاة السنن الرواتب كاملة .
5- التبكير وإدراك التكبير في جميع الصلوات .
6- المكوث في المسجد وكثرة الذكر والدعاء .
7- قيام الليل والوتر وكثرة النوافل والتطوعات .
8- الصدقة والإنفاق في سبيل الله .
وإضافة إلى ذلك فثمة نفحات إيمانية وثمرات تربوية يُرجى أن تُحصّل من هذا اليوم الحافل من الطاعات والقربات، فلعله أن يكون في ذلك تطهيراً للنفس وزكاة للقلب، ولذة للروح، وزيادة للإيمان، وإحياء للخشوع، وتجديداً للخضوع، وتلذذاً بالمناجاة، وتعلقاً بالطاعة، وإذكاء للحماسة ، وإعلاء للهمة، فاللسان رطب بتلاوة كتاب الله، والقلب مطمئن بذكر الله، والعين دامعة من خشية الله، والأيدي سائلة عطاء الله، والجباه ساجدة لعظمة الله، والأقدام مصفوفة قياماً لله، والعقل متدبر في نعمة الله، والوقت مملوء بطاعة الله، والجهد مستنفذ في مرضاة الله، فما أصدق الوصف القرآني لمن هذا حاله :{ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }، وما أظهر الارتباط بالغاية في هذه الصورة { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.
وهكذا ترون أن هذه وصفة للعمر كله، وللناس كلهم، وللجوارح كلها، وفي الأوقات كلها، وهكذا على مدى الدهر تجدد في كل شهر رمضان، فتكون وصفة العمر « رمضان في كل شهر » .
د. علي بن عمر بادحدح
المشرف على موقع إسلاميات
www.islameiat.com(/2)
...
وصية غريب
رئيسي :الرقائق :
يتناول الدرس وصية تحتوى زادًا في طريق الحياة، فهي في غاية من الأهمية لما فيها من الفوائد التي تجعل الإنسان المؤمن يسعى إلي الدار الأخروية بالكلية، فاحرص علي قراءتها بتفهم وكرر القراءة، وليكن همك العلم والعمل بإخلاص، ومتابعة لنبي الغرباء وبلغها لعلك تفوز بطوبى .
أخي في الله.. هذه وصية غريب أهديها لك لعلك أن تكون من الغرباء الذين لا يستغنون عن هذه الوصية التي تحتوى زادًا لك في طريق الحياة، فهي في غاية من الأهمية لما فيها من الفوائد التي تجعل الإنسان المؤمن يسعى إلي الدار الأخروية بالكلية، فاحرص علي قراءتها بتفهم وكرر القراءة، وليكن همك العلم والعمل بإخلاص، ومتابعة لنبي الغرباء وبلغها لعلك تفوز بطوبى.
? قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ] رواه مسلم وابن ماجة وأحمد.
? وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:[ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ] رواه البخاري والترمذي وابن ماجة وأحمد .
من الغريب؟
الغريب.. هو الذي تمسك بما كان عليه صلي الله عليه وسلم عقيدة وشريعة ,أخلاقًا وسلوكًا، وعبادة شاملة بكل ما أمر الله به، وصبر علي ذلك[فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ] قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ: [ بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ] رواه الترمذي وأبوداود وابن ماجة وهو في السلسلة الصحيحة للألباني 1/812 .
? فهؤلاء الغرباء الممدوحون، ولقلتهم في الناس سُمُّوا غرباء، فإن الأكثر علي غير هذه الصفات فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء، وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع غرباء، والداعون إليها الصابرون علي أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقًا فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين، الذي قال الله فيهم:} وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[116]{ [سورة الأنعام]. فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه، غربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفين المشار إليه.
من صفات الغرباء :
? التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم.
? وتجريد التوحيد وإن أنكر ذلك أكثر الناس.
? وترك الانتساب إلي أحد غير الله ورسوله صلي الله عليه وسلم بل هؤلاء هم الغرباء المنتسبون إلي الله بالعبودية وحده، وإلي رسوله صلي الله عليه وسلم بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون علي الجمر حقًا.
? الإسلام الحقيقي غريب وأهله غرباء بين الناس، وكيف لا تكون فرقة واحدة غريبة بين اثنتين وسبعين فرقة ذات أتباع، ورئاسات، ومناصب، وولايات؟! لا يقوم لها سوق إلا بمخالفة ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم، فإن نفس ما جاء به يضاد أهواءهم ولذاتهم ومناصبهم، وما هم عليه من الشهوات والشبهات.
فكيف لا يكون المؤمن الطاهر غريبًا بين هؤلاء الذين قد اتبعوا أهواءهم، وأطاعوا شحهم، وأعجب كل منهم برأيه؟!
? فإذا أراد المؤمن- الذي قد رزقه الله بصيرة في دينه،وأراه ما الناس فيه من الأهواء- أن يسلك هذا الطريق المستقيم؛ فليوطن نفسه علي قدح الجهال وأهل البدع فيه، وإزرائهم به، وتنفير الناس عنه، وتحذيرهم منه كما كان سلفهم من الكفار يفعلون مع متبوعة وإمامه صلي الله عليه وسلم.
? فهو غريب في دينه لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده لفساد عقائدهم، غريب في صلاته لسوء صلاتهم، غريب في طريقه لضلال وفساد طرقهم، غريب في نسبته لمخالفة نسبهم، غريب في معاشرته لهم؛ لأنه لا يعاشرهم علي ما تهوى أنفسهم.
? وبالجملة فهو غريب في أمور دنياه وآخرته، داع إلي الله ورسوله بين دعاة إلي الأهواء والبدع، آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قومٍ المعروف لديهم منكر، والمنكر لديهم معروف.
?وكيف لا يكون العبد في هذه الدار غريبًا، وهو علي جناح سفر، لا يحل عن راحلته إلا بين أهل القبور؟ فهو مسافر في صورة قاعد، وكما قيل:
وما هذه الأيام إلا مراحل يحث بها داع إلي الموت قاصد
وأعجب شئ ـ لو تأملت ـ أنهامنازل تطوي والمسافر قاعد(/1)
? ذكر أن قومًا من الصالحين جلسوا في مجلس، وكان بينهم رجل من أهل الإيمان، وأراد أن يجعلهم يحتقرون الدنيا، ويتذكرون الآخرة، ماذا فعل؟ أتي بورقة، وجعل فيها شيئًا حقيرًا، وأخذ هذا الشئ يدور علي جميع من كان في المجلس، وكلما نظر إنسان من الجالسين إلي الورقة يضحك ويتعجب، ولم يلقوا لها بالاً، ولم يفهموا شيئًا أبدًا، ثم قال لهم: إن هذا الشئ الحقير الصغير الذي رأيتموه هو جناح بعوضة قذرة، وإن الدنيا بأموالها وأهلها وشهواتها، وجوها وبحرها، وأرضها وسمائها، وليلها ونهارها؛ هي أحقر عند الله من هذا الجناح القذر.
?ويقول الصالحون الذين كانوا في المجلس: بعد ذلك صحون من غفلتنا، وأحسسنا بضربة في القلب هزت كياننا، وعرفنا أنه أراد أن يذكرنا بحديث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ] رواه الترمذي وابن ماجة.
? فيا أخي إذا كنا نحتقر جناح البعوضة، فمن باب أولي أن لا نهتم بهذه الدنيا؛ لأنها أحقر عند الله من جناح البعوضة القذر، فلنجعل الدنيا تحت تصرفنا وتحكمنا ولنجعلها مزرعة للآخرة.
أخي في الله ...} لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا[114]{ [سورة النساء]. وتذكر جيدًا قوله تعالي:} مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[18]{ [سورة ق].
فليكن لسانك عامرًا بالذكر والنصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجعله كالمشلول عند مواطن الغيبة والنميمة، والسب والاستهزاء والغناء، وليكن بصرك متجهًا دائمًا وأبدًا إلي الخير من قراءة القرآن، أو الكتب المفيدة، أو إلي النظر إلي عظمة السماء والأرض وما فيهما من المخلوقات، فتعرف من خلال إطالة، وتعمق الفكرة عظمة الله المطلقة، فتكف بصرك عن جميع ما حرم الله من النظر إلي النساء، وغيرها من الفتن، والنظر إلي ما لا فائدة فيه؛ فيعطيك الله ثلاث خصال:حلاوة إيمان.. وخشوعًا في القلب.. وفراسة.
وإذا حدث منك ذلل، فبادر إلي استغفار الله بقلبك ولسانك، وأتبع هذه الزلل حسنة بفعل الخير.. تجد الله غفورًا رحيمًا. وحافظ علي قول كفارة المجلس عند نهاية كل جلسة وهي: [ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ] رواه أبوداود والدارمي وأحمد.
أخي في الله... لا بد أن تكثر من الأعمال الخيرية في كل مكان وزمان، ولا تحقر أبدًا أي عمل ما دام خيرًا، وبإذن الله لن تتعب من القيام بهذه الأعمال؛ ما دمت تشرب من الشراب اللذيذ الذي يزيدك محبة لهذه الأعمال، ألا وهو شراب الإخلاص، والاحتساب لله سبحانه، واحذر كل سبب يقربك إلي النار، وسارع إلي كل سبب يؤدي بكل إلي بوابة الجنة .
ولا بد يا أخي ... أن تستدرك ما فات مادام في العمر بقية، وتعرف أن هذه الدنيا خداعة براقة، وأنه لا لذة ولا نعيم، ولا راحة ولا سعادة إلا بطاعة الله، ومتابعته صلي الله عليه وسلم في كل شئ،وسوف تحب الخير وأهله، وتحرص عليه، وتكره الشر وأهله، وتحرص علي البعد عنه.
أخي في الله... الدنيا ساعة فاجعلها طاعة، واجتهد واستيقظ، وإياك والنوم والكسل، والتسويف والتململ.
أخي في الله... استدرك ما فات، فما زلت شابًا، فماذا تنتظر بعد ذلك؟ أتنتظر الأشغال التي تشغلك؟ أتنتظر الشيخوخة؟ أتنتظر الموت الذي هو قريب، ولكنك في غفلة منه؟ وسوف يهجم عليك في ساعة من ليل أو نهار، ولا تدري كيف الانتقال، أيكون بأعمال صالحة وحسن ختام؟ أم يكون بأعمال سيئة وسوء ختام؟ إن الشيخوخة تكون عليك حسرة، وتقول ياليتني حينما كنت شابًا أكثرت من صوم التطوع، وقيام الليل، وتعلم العلم والدعوة إليه، وفعل كل ما يحبه الله .
أخي... لا تغفل عن الموت، إن الموت لا ينفع معه ندم لا كثير، ولا قليل، فهو بوابة لأهل الإيمان والتقوى إلي الجنة، وبوابة لأهل الكفر والعصيان إلي النيران، وسوف تنتقل بخرقة بيضاء، ولا يقال إلا غسلوا الجنازة، وطيبوا الجنازة، وصلوا علي الجنازة.. أقرب الناس إليك لا يريدونك، بل يسارعون بك إلي حفرة عرضها أشبار وطولها أمتار، إما أن تكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار،وبعد ذلك ينساك الحبيب والقريب، ولا ينفعك إلا ما قدمت من الأعمال الصالحة الخالصة كما قال صلي الله عليه وسلم: [إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ] رواه مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي والدارمي وأحمد.
أخي :
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلي الفجر(/2)
فكم من فتي أضحي وأمس ضاحكًاوقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغار يرتجي طول عمرهموقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروس زينوها لزوجهاوقد قبضت أرواحهم ليلة العرس
أخي
في الله... كل معصية سوف تجازي بها لا شك في ذلك، ولكن يعفي عنك لأسباب منها: التوبة والاستغفار، وفعل الحسنات، وما يقدر عليك من المصائب، ودعاء الأخيار لك، واهدائم الأعمال التي ورد فيها النص بعد مماتك، أو بعذاب القبر، أو بأهوال يوم القيامة، أو عذاب جهنم، أو بغير ذلك من الأسباب.
فأسألك بالله ما هو أسهل عليك من هذه الأمور؟ أليست التوبة؟ إذًا: لماذا لا تتوب، وتفتح صفحة جديدة بيضاء، تصدق مع الله، واحذر التسويف: سوف أتوب وأترك المعاصي الظاهرة والباطنة، وسوف أدعو إلي الله، بل سارع إلي الله، وتب التوبة النصوح، وانكسر بين يدي ربك، واسكب الدموع بين يدي مولاك في جوف الليل، واعترف بذنوبك، واسأله أن يعينك فيما بقي من عمرك.
يا مسكين ...الأجل بيد الله، ولا حول ولا قوة لك، فمتي كان وقت رحيلك؛ أتاك ملك الموت، وخطف روحك، رضيت بذلك أم لم ترض، فأيهما أحسن أن تخرج روحك من جسدك، وهي طاهرة مطمئنة أو تخرج وهي خبيثة؟!
وتذكر أهل القبور... وكيف غير الموت أحوالهم، تعفنت بطونهم، وغير محاسن وجوههم، وتساقطت أسنانهم علي الأرض، وأكل الدود خدودهم وأجسادهم، أصبحوا جثثًا هامدةً ،وجيفًا منتنة !
وأكثر من الدعاء لنفسك ... بصلاح قلبك والتوفيق والهداية والسداد، وادع لوالديك، وأكثر من الدعاء للعلماء، ولإخوانك الأفغان، فإن النصر بيد الله، وكذلك إخوانك المسلمين في كل مكان، فإن الملائكة تقول: آمين ولك بمثل، فأنت الرابح.
يا أخي...عليك بمخالطة الغرباء من أتباع الرسول صلي الله عليه وسلم، وقراءة سيرة الغرباء الأوائل والأواخر، وانطرح بين يدي رب الغرباء في السحر بعين باكية، وقلب خاشع، ولسان ذاكر، خصوصًا في سكون الليل الآخر، ولا تغفل عن السير إلي دار الغرباء بزاد العلم والعمل الخالص إلي بلاد الأفراح
أخي الحبيب... اجتهد دائمًا أن تتذكر بلاد الأفراح بنقل قلبك إليها، ففيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر علي قلب بشر.
يا أخي : ألا تريد التمتع بالنظر لوجه الله الكريم؟ ألا تريد التمتع برؤية الصالحين من الأنبياء والصديقين؟ ألا تريد التمتع بالحور العين؟ ألا تريد أن تأكل لحم طير مما يشتهون، وفاكهة مما يتخيرون، وأنواع الشراب من الخمر، والعسل، وغير ذلك؟ ألا تريد قصور الذهب والفضة، والبساتين العظيمة في دار السلام؟
أخي :
ما ضر من كان في الفردوس مسكنه ما مسه قبل من خير وإقتار
أخي: انظر إلي الآخرة دائمًا، وتذكرها في الليل والنهار.. ما فيها من نعيم، وما فيها من أهوال وشدائد، فإذا أكلت فاسأل نفسك: هل تريد أن تأكل مما أعد الله لأوليائه في جنات نعيم من فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، أم تريد أن تأكل من الزقوم، وتشرب من ماء تتقطع له الأمعاء؟!
أخي : إذا مررت علي جسر، فاسأل نفسك: هل تكون يوم القيامة ممن يمرون علي الصراط كأجاويد الخيل، أو كالرياح، أم أنك تحبو علي الصراط حبوًا، أم أنك تلقفك الكلاليب؟
أخي : كن علي حذر من الشيطان، فالشيطان ملحاح بطئ، لا ييأس منك بل يحاول أن يوقعك في الآثام والمعاصي من هذه العقبات:عقبة الكفر، والشرك الأصغر، أو الأكبر، احذر البدع وابتعد عنها، وحذر الآخرين منها، احذر الكبائر فالشيطان يدعوك إلي كبائر الذنوب والآثام، والظاهرة والباطنة، واجعل بينك وبينها وقاية من خوف الله، ورجاء ثوابه ومحبته، وتعظيمه في الليل والنهار، فإذا ما سلمت من ذلك جاءك الشيطان من مدخل الصغائر كي يوقعك في حباله، فإذا سلمت من ذلك جاءك من باب المباحات والانشغال عن الطاعات، فإذا سلمت من ذلك جاءك من باب الانشغال بالأعمال المرجوحة عن الأعمال الراجحة، فاحذر ذلك كأن يشغلك عن العلم، ويشغلك عن بر الوالدين، أو غير ذلك .
واعلم: بأن الشيطان لن يتركك، فاجتهد أن تشغل نفسك بالطاعات، ومن ذلك الصدقة فإن الله يحبها، واحرص علي أن تشارك بجزء من مالك في الجهاد في سبيل الله، فالرسول صلي الله عليه وسلم قَالَ:[ مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا] رواه البخاري ومسلم . ويقول صلي الله عليه وسلم:[ كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يَومَ الْقِيَامَةِ...] رواه أحمد، وابن خزيمة وصححه الألباني في الترغيب والترهيب.
أخي : احرص أن تتابع بين نوافل الطاعات، ومن ذلك الحج خلال السنوات، والإكثار من العمرة خلال السنة، فالرسول صلي الله عليه وسلم يقول:[الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ] رواه البخاري ومسلم .(/3)
أخي: اسعى في قضاء حوائج الآخرين- وخصوصًا الأرملة والمسكين- وأكثر من تلاوة كتاب الله بتدبر وفهم وعمل بالآيات، وأكثر من ذكر الله، واسأله لنفسك ولأقاربك وإخوانك في الله وللمسلمين أن يدخلك الجنة، وأن يبعدك عن النار، وأكثر من الاستغفار، والصلاة والسلام علي المصطفي المختار. وكن ممن يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر علي قدر طاقتك.
احرص .. علي مجالس العلماء وحلق الذكر، ففي ذلك حياة لقلبك، وكن ممن يحيون سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم في كل شئ، ومن ذلك الجلوس بعد صلاة الفجر في المسجد حتي تطلع الشمس وتصلي ركعتين لعل الله يعطيك أجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة؛ فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[ مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ] رواه الترمذي .
وخير ما أوصيك به: الإكثار من الدعاء في السجود، فإنك قريب من الله، فسله أن يصلح قلبك، وأن يثبتك علي طريق الإيمان، فكم من إنسان سار علي هذا الطريق وأضله الشيطان بسبب ذنوب باطنة أو ظاهرة، نسأل الله العافية والسلامة من الوقوع في خطواته، وليكن عندك يقين بأنك تدعو مَنْ بيده خزائن السماوات والأرض، لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء، إذا أراد شيئًا إنما يقول له كن فيكون، فهو يحب السائلين، ويفرح بالتائبين، وأنين المذنبين أحب إليه من زجل المسبحين المعجبين بأعمالهم .
واحذر يا أخي: الحسد فهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.. واحذر من احتقار الناس، فالناس ليسوا مظاهر فقط، وإنما بواطن كذلك، فرب أشعت أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم علي الله لأبره خير منك عند الله؛ لصلاح قلبه باليقين والتوكل، والإنابة، والرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، والمحبة والإخلاص، والتعلق بالله والإخبات والخشوع، وغير ذلك من أعمال القلوب التي هي من أفضل الأعمال عند الله عز وجل.
واجتهد في.. إصلاح قلبك فالرسول صلي الله عليه وسلم يقول:[ إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ] رواه البخاري ومسلم .
اجتهد دائمًا.. في فعل الطاعات لعل الله يتوفاك عليها، ويبعثك عليها، فلا تضيع الأوقات فالفرصة ما زالت بيدك، لا يضحك عليك الشيطان كما ضحك علي كثير من الناس بانشغالهم عن الله بأموال، ومناصب، وأزواج، وأولاد، وشهادات، وأصدقاء من أهل السوء، وهو حريص أن تكون من حزبه في النار، فإن كنت صاحب همة؛ فإنك سوف تنقاد لأمر الله ورسوله بالليل والنهار، فتكن من أصحاب الهمم العالية، وإياك أن تكون من أصحاب الهمم الحيوانية، فما أكثرهم في هذا الزمان .
وسارع إلي الله.. ما زال في العمر بقية، سافر بقلبك وجوارحك إلي الله والدار الآخرة قبل أن يدركك هادم اللذات، ومفرق الجماعات..وإياك أن تكثر من المباحات التي تؤدي إلي المكروهات، ثم إلي المحرمات، وعصيان الرحمن.
واجتنب كثرة الضحك .. فإن الضحك يميت القلب، واحذر كثرة الخلطة؛ فإن كثرتها تضيع عليك الأوقات التي هي رأس مالك في هذه الدار التي يجب أن تعمر أوقاتك فيها بكل ما ينفعك عند الله.. وأمسك لسانك عن الآفات اللسانية التي وقع فيها أكثر الناس، فإذا مات القلب فما فائدة الطاعة؟
كن دائمًا محافظاً.. علي ما افترض الله عليك من الطاعات، وخصوصًا الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، وبر الوالدين، وليكن شعارك دائمًا: فعل الطاعات، والبعد عن المنكرات، والصبر علي أقدار الله؛ تكن من أهل النعيم الدنيوي، الذي يجعلك تسارع إلي النعيم الأخروي.
واحرص علي زيارة المقابر .. كي تتذكر ساعة الرحيل، وصل علي جنائز المسلمين، وشارك في دفنهم، فلك من الأجر قيراطان كما ورد عن الرسول صلي الله عليه وسلم في الحديث:[ مَنْ خَرَجَ مَعَ جَنَازَةٍ مِنْ بَيْتِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ تَبِعَهَا حَتَّى تُدْفَنَ كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ مِنْ أَجْرٍ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ...] رواه البخاري ومسلم .
احرص أن لا يفوتك شئ من الخير.. فأيامك معدودة، وأنفاسك محدودة، ولا تدري متي الرحيل إلي الآخرة.(/4)
أخي في الله اسأل الله القبول وحسن الختام، فالأعمال بالخواتيم، ولا يدري العبد كيف تكون خاتمته، وإنما الأعمال بالقبول، فالله عز وجل يقول:} إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[27]{ [سورة المائدة]. فهل أنت من المتقين؟
كن دائمًا قدوة للآخرين .. وذلك لا يكون إلا بإقتدائك بالنبي صلي الله عليه وسلم، ومتابعتك له، لكي يقتدي بك الآخرون، وإياك والتعصب لأحد سواه، واعلم أنك علي طريق الأنبياء والمرسلين، فكن عزيز النفس، فأنت الأعلى بإيمانك.
أخي : هل تريد أن يحبك الله، فيحبك بعد ذلك جبريل والملائكة، ويوضع لك القبول في الأرض، فتكون محبوبًا عند الناس.. أخي في الله هذه أسباب جالبة لمحبة الله لك، فاحرص عليها؛ لعله يحبك، فتكون من المنعمين في الدنيا والآخرة:
? قراءة القرآن بتدبر وتفهم لمعانيه، وما أريد منها، ولا يكن همك نهاية الآية.
?التقرب إلي الله بالنوافل في الليل والنهار بعد الفرائض، فيقول صلي الله عليه وسلم:[إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...] رواه البخاري .
? دوام ذكره علي كل حال: باللسان والقلب، والعمل والحال، فنصيبك من المحبة علي قدر نصيبك من هذا الذكر.
? إيثار محابه جلا وعلا علي محابك عند غلبات الهوى، والمسارعة إلي محابه وإن صعب المرتقى.
? مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ أحبه لا محالة، فتتأمل في أسمائه، وتؤمن بآثارها وأركانها، واقتبس النور منها في حياتك.
? مشاهدة بره وإحسانه، ونعمه الباطنة والظاهرة؛ فإنها داعية إلي محبته، فكلما تذكرت بره وإحسانه بك وبخلقه وتفكرت في آياته ونعمه؛ تزداد محبة له جل وعلا.
? انكسار قلبك بكليته بين يدي الله تعالي.
? الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم اختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
? مجالسة المحبين الصادقين، وتنتقي أطيب ثمرات كلامهم كما تنتقي أطيب الفواكه والطعام، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدًا لحالك، ومنفعة لغيرك.
? مباعدة كل سبب يحول بين قلبك وبين الله، وملاك ذلك كله أمران: استعداد روحك لهذا الشأن، وانفتاح عين بصيرتك .
أسأل الله لي وللمسلمين: العلم النافع، والعمل الصالح، والإخلاص لله في ذلك، وصلي الله وسلم علي نبي الغرباء محمد، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
من رسالة:'وصية غريب' للشيخ/ عبد الواحد بن عبد الله المهيدب(/5)
وصيّة أمامة بنت الحارث لبنتها عند زواجها
"أمامة هي من بني شيبان، اشتهرت بالفصاحة والعقل وسداد الرأي.
عاشت في العصر الجاهلي، وكان زوجها –عوف بن محلمَّ الشيباني- سيداً في قومه.
ولما خطب ملك كندة: الحارث بن عمرو، ابنتها أم إياس، أوصتها أمها بوصيّة تعدّ من أفضل ما قيل في موضوعها، بيّنت فيها دعائم الحياة الزوجية الناجحة، وما يجب على المرأة تجاه زوجها".
الوصية:
أيْ بُنيّة:
إن الوصية لو تُركت لفضلِ أدب(1)، تُركت لذلك منكِ.
ولكنها تذكرةٌ للغافل، ومعونةٌ للعاقل.
ولو أن امرأةً استغنت عن الزوج لغِنَى أبَويها، وشدّةِ حاجتهما إليها، كنتِ أغنى الناس عنه.
ولكن النساء للرجال خُلقن، ولهنّ خُلق الرجال.
أي بُنيّة:
إنك فارقت الجوَّ الذي منه خرجت.
وخلّفت العُشَّ الذي فيه درجْتِ(2).
إلى وَكرٍ لم تعرفيه(3).
وقرينٍ لم تألفيه(4).
فأصبح بملكه عليك(5)، رقيباً ومَليكاً.
فكوني له أمَةً، يكن لكِ عبداً وشيكاً(6).
أي بُنية:
احملي عني عشرَ خِصال تكن لك ذُخراً وذكراً:
الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة.
والتعهّد لموقع عَينه.
والتفقد لموضع أنفه:
فلا تقعُ عينُه منك على قبيح.
ولا يشمُّ منكِ إلا أطيبَ ريحٍ.
والكحل أحسن الحسْن.
والماء أطيبُ الطِيب المفقود.
والتَعهد لوقت طعامه.
والهدوُّ عنه(7) عند منامه:
فإن حرارة الجوع مَلْهبَة، وتنغيصَ النوم مَغْضَبَة.
والاحتفاظ ببيته وماله.
والإرعاء(8) على نفسه وحَشَمِه وعياله:
فإن الاحتفاظ بالمال حسنُ التقدير.
والإرعاءَ على العيال والحشَم جميلٌ حَسنُ التدبير.
ولا تُفشي له سراً.
ولا تَعصي له أمراً:
فإنك إن أفشيتِ سرَّه، لم تأمنَي غَدْرَه.
وإن عَصَيْتِ أمره، أوْغَرتِ صدرَه(9).
ثم اتقي من ذلك:
الفَرحَ إن كان تَرِحاً(10).
والاكتئابَ عنده إن كان فَرحاً.
فإن الخَصلة الأولى من التقصير.
والثانية من التكدير.
وكوني أشدَّ ما تكونين له إعظاماً.
يكن أشدَّ ما يكون لكِ إكراماً.
وأشدَّ ما تكونين له موافقة.
يكن أطول ما تكونين له مرافَقةً.
واعلمي أنك لا تَصلين إلى ما تحبّين.
حتى تُؤْثري رضاه على رضاك، وهَواهُ على هواكِ، فيما أحببتِ وكرهتِ والله يَخيرُ لك(11).
الهوامش
(1) لفضل أدب: لزيادة أدب.
(2) أي تركت بين أبويها.
(3) هو بيت الزوجية.
(4) هو الزوج الذي لم تعاشره من قبل.
(5) أملكه إياها: زوّجه فملكها مِلْكاً.
(6) سريع الإجابة.
(7) أي السكون.
(8) الإرعاء: الرعاية.
(9) ملأته غيظاً وحقداً.
(10) حزيناً مكتئباً.
(11) خارَ له في الأمر، يَخير، خَيْراً، جعل له فيه الخير، أو أعطاه ما هو خير له.(/1)
وصيّة ثمينة
أوصى عُقبة بن نافع بَنيه فقال:
"أُوصيكم بثلاث خصال، فاحفظوها ولا تضيّعوها:
1 – إيّاكم أن تملؤوا صُدوركم بالشِّعر، وتتركوا القرآن، فإنّ القرآن دليلٌ على الله عزّ وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللُّبُّ، ويدلُّكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عمّا وراءه.
2 – وأوصيكم ألاّ تداينوا، ولو لبستم العباء، فإنَّ الدّين ذلٌّ بالنهار، وهمٌّ بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم، وتبق لكم الحرمة في الناس ما بقيتم.
3 – ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخِّصين، فيجهّلوكم دينَ الله، ويفرّطوا بينكم وبين الله تعالى، ولا تأخذوا دينكم إلا من أهل الورع والاحتياط، فهو أسلم لكم، ومن احتاط سَلِم ونجا فيمن نجا".
* * *
من هو صاحب هذه الوصيّة؟
إنه القائد التقيّ الورع: عقبة بن نافع الذي كرّس حياته للإسلام وللجهاد، منذ شبابه إلى استشهاده.
ولد في أسرة قرشيّة تعشق الحرب، وقد اكتشف قريبه القائد عمرو بن العاص –رضي الله عنه- عبقريته الحربيّة، فعيّنه قائداً على أحد جيوش المسلمين، بعد استشارة الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وموافقته، فسار في إفريقية مجاهداً في سبيل الله، فافتتح الكثير من البلدان في مصر وبلاد النّوبة وتونس وليبيا والسودان والمغرب، حتى بلغ بحر الظلمات (المحيط الأطلسي) فسار فيه بجواده، ثم وقف وقال قولته الشهيرة:
"اللهم اشهدْ. أني قد بلغتُ المجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل من كفر بك، حتى لا يُعبد أحد من دونك".
لقد نشر عقبة الإسلام في بلاد البربر، وبنى مدينة القيروان، وبنى فيها وقبلها مسجده الكبير (مسجد عقبة).
وُلد عقبة قبل الهجرة النبويّة بعام واحد، واستشهد عام 63هـ ودفن في الزاب بالمغرب.(/1)
وضرب الله مثلا قرية.. ... ... ...
{ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } النحل :112.
ضرب الله - تعالى - مثلا لتصوير حال العصاة الذين جحدوا نعمة الله عليهم لينظروا المصير الذي يتهدد هم من خلال المثل الذي يضرب لهم. فالمعاصي تزيل النعم الحاضر، وتقطع النعم الواصلة، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة. وقد قال - تعالى -:{ ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىَ قَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } الأنفال:53.
فأخبر الله – تعالى -: أنه لا يغير نعمه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه. فيغير طاعة الله بمعصيته وشكره بكفره. وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غَيَّر غُيِّر عليه، جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد.
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم
وحُطها بطاعة رب العباد فرب العباد سريع النقم
والمثل الذي يضربه الله لهم منطبق على حالهم وعاقبة المثل أمامهم مثل القرية التي { كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مّن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } { النحل:112.}
وأخذ قومها العذاب وهم ظالمون ويجسم الجوع والخوف فيجعله لباسا. ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا لأن الذوق أعمق أثرا في الحس من مساس اللباس للجلد. وتتداخل في التعبير استجابات الحواس فتضاعف مس الجوع والخوف لهم ولدغه وتأثيره وتغلغله في النفوس لعلهم يشفقون من تلك العاقبة التي تنتظرهم لتأخذهم وهم ظالمون، ومن العجيب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره وسماعا لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنه في بمعاصيه وهو مقيم على معصية الله كأنه مستثنى من هذه الجملة أو مخصوص من هذا العموم. وكأن هذا الأمر جار على الناس لا عليه وواصل إلى الخلق لا إليه فأي جهل أبلغ من هذا ؟ وأي ظلم للنفس فوق هذا ؟ فالحكم لله العلي الكبير. ... ...(/1)
وضع العلامات على القبور
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 02/09/1425هـ
السؤال
فضيلة الشيخ أ.د. / سعود الفنيسان يوجد في إحدى مقابر مدينتنا ملاحظات نريد عرضها عليكم لأنه كثر الكلام وجزاكم الله خيرا
1- المبالغة في وضع العلامات على القبور، بحيث إن البعض يأتي بقطع من الحجارة، ويفرشها على القبر والبطحاء، وقد تكون هذه متميزة بلونها، كالأسود، وبعضها غير متميز اللون، وبعضها من حجارة المرو الملونة.
2- طلاء نصائب القبر بالبوية، أو أجزاء من القبر، ووضع نصائب من الحجارة مرتفعة، يصل ارتفاعها أحيانًا طول الذراع، وأطول وأقل، ويتميز بها القبر عن غيره من القبور.
3- وضع علامات على القبر من القطع الأسمنتية، والبلاط، والرخام، والسيراميك، والأزفلت، والألمنيوم، والطوب، والبَلَكّ، ونحوه.
4- لف قطع من الخرق والحبال والحديد، ونحوها على نصائب القبر.
5- غرز قطع من الحديد، أو الخشب، أو الألمنيوم، ونحوها، بجوار نصائب القبر، وأحيانًا تكون مرتفعة واضحة الارتفاع.
6- وضع العلب الفارغة من الحديد أو البلاستيك، وتعبئة بعضها بالأسمنت أو الجبس، وطلاء بعضها بالبوية، ووضعها علامة للقبر.
7- نحت أو كتابة حرف واحد من اسم المتوفَّى، أو حرف من اسم قبيلته أو وسمها ، أو وسم خاص به كعلامة أيضًا للقبر.
8- تعدد العلامات، ووضع أربع أو أكثر أو أقل من العلامات على القبر.
9- كثير من الناس يرون بدعية هذه العلامات وتبديع من يضعها، ويطالبون ذوي الاختصاص بتغييرها، وإذا لم يستجيبوا لهم قاموا بوصفهم بالمبتدعة، وأنهم يسكتون عن إنكار البدع ويرضون بانتشارها، فما توجيهكم ونصيحتكم لمثل هؤلاء؟
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ثبت في سنن أبي داود (3206) من حديث المطلب قال: لما مات عثمانُ بنُ مَظْعُونٍ، وأُخْرِج بِجِنازَتِه، فدُفِن، أمَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يَأتِيَهُ بِحَجَرٍ، فلَمْ يَستطِعْ حَمْلَه، فقام إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وحَسَرَ عن ذراعيه، ثم حمَلَها فوضَعها عندَ رأسِه، وقال: "أَتَعَلَّمُ بِهَا قبرَ أَخِي وأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِن أَهْلِي".
وثبت في صحيح مسلم (970)، وجامع الترمذي (1052)، وسنن النسائي (2026)، عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ تُجَصَّصَ القُبُورُ، وأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا، وأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا، وأنْ تُوطَأَ.
ففي الحديث الأول مشروعية وضع العلامة على القبر ليعرف بها، ويتميز عن غيره، وفيه تحديد موضع العلامة من القبر (عند رأسه)، وكون الحجر كبيرًا لم يستطع الرجل حمله حتى حمله الرسول صلى الله عليه وسلم بيديه الكريمتين، دليل على كبر حجم العلامة على القبر، والحجم يشمل الطول والعرض والارتفاع، وكون العلامة على القبر حجارة- كما في الحديث- لا يعني أنه لا يجوز أن تكون من غيرها؛ ذلك لأنها جاءت وصفًا لبيان الحال والواقع، والقيد أو الوصف إذا جاء لبيان الحال في الواقع فلا مفهوم له عند علماء الأصول، وعليه يجوز أن تكون العلامة على القبر لبنة من طين، أو عود قصب أو خشب، أو طوبة، أو حديدة، أو كسرة رخام أو بلاط، ونحو ذلك، وقد نص الفقهاء، كما في حاشية الشيخ ابن قاسم على الروض المربع: "ولا بأس بتعليم القبر بحجر أو خشب، ونحوهما". واستدلوا بحديث عثمان بن مظعون، رضي الله عنه، هذا، أما قول جمهور الفقهاء: "ولا يُدخِلُ القبرَ آجُرًّا ولا خشبًا، ولا شيئًا مسته النار". فيراد به ما يوضع في اللحد داخل القبر، ولا دخل لهذا القول في علامة القبر التي توضع فوقه، وهذا القول من الفقهاء تفاؤل بألَّا تمسه النار، مع أن السلف مختلفون فيما يوضع داخل القبر، فقد روى أحمد (17780)، عن عمرو بن العاص، رضي الله عنه- أنه قال:لا تجعلن في قبري خشبة ولا حجرًا.
أوصى الصحابي عمرو بن شُرَحْبِيلَ، رضي الله عنه: أن اطْرَحُوا عَلَى قَبْرِي طُنًّا من قَصَبٍ؛ فقد رأيتُ المهاجرين يَسْتَحِبُّونَه على ما سِواهُ. والطن يعني الحزمة، والحسن البصري لا يرى بأسًا بالقصب والسَّاجِ في اللحد، والساجُ نوع من الخشب، وبوب البخاري في صحيحه: (باب الإذخر والحشيش في القبر). وساق فيه الحديث الصحيح عن ابن عباس، رضي الله عنهما- (1349) عندما قال العباس، رضي الله عنه: إلا الإِذْخِرَ لصاغَتِنا وقبورِنا.(/1)
أما النهي عن الكتابة في حديث جابر،رضي الله عنه- السابق ذكره، فليست عند مسلم ولا النسائي؛ وإنما هذه الزيادة عند الترمذي، وإسناده بهذه الزيادة ضعيف؛ لضعف أحد رواته، وهو موسى بن سليمان، قال فيه البخاري: متروك. وضعفه النسائي، وابن عدي، وأيضًا في الإسناد انقطاع، فإن موسى بن سليمان لم يدرك جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، وعلى فرض صحته فيُحمَل النهي عن الكتابة على القبر، إذا ما أوصى الرجل إذا مات أن يكتب على قبره، كما حمل حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، في الصحيحين: "إنَّ الميتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ". صحيح البخاري (1286) ، وصحيح مسلم (928). على ما إذا أوصى بذلك، أو تحمل الزيادة عند الترمذي على ما إذا كُتب على القبر اسم صاحبه أو دعاء له، أو شيء من سيرته وأفعاله في حياته، وتزداد الحرمة، ويشتد النهي إذا كان الميت ذا شأن يشار إليه في أمر الدين أو الدنيا، ولا يدخل في الكتابة الممنوعة شرعًا ما يضعه الناس من (وسم) القبيلة على القبر؛ لأنه مجرد علامة تميز القبر عن غيره عند تشابه (النصائب) العلامات؛ ليزوره الزائر ويسلم عليه، وهذا الوصف لا يعرفه عادة إلا أهلهم بخلاف الكتابة بالحروف الهجائية فيعرفها كل من يقرأ من الناس.
ووضع الجريدة على القبر عند الدفن ثابت في حديث ابن عباس، رضي الله عنهما- المتفق عليه: "... لَعَلَّهُ أنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا" صحيح البخاري (179) ، وصحيح مسلم (292). واختلف العلماء قديمًا وحديثًا، هل وضع الجريدة على القبر قضية عين خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم- أم هي عامة لكل أحد؟ فالإمام البخاري يرى عدم الخصوصية، فذكر في صحيحه: (باب الجريدة على القبر)، ثم قال: وأوصى الصحابي بُرَيْدَةُ الأَسْلَمِيُّ، رضي الله عنه، أن يُجعَلَ على قبره جريدتان. وقال ابن بطال في شرحه للبخاري: "وخُصت جريدتا النخل لأنهما أطول الثمار بقاء، فتطول مدة التخفيف عنهما، وهي شجرة شبهها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤمن- انظر صحيح البخاري (61)، وصحيح مسلم (2811). وقيل إنها خلقت من فضلة طينة آدم، وإنما أوصى بريدة الأسلمي، رضي الله عنه، بالجريدتين تأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتبركًا بفعله ورجاء أن يخفف عنه.
وقال الحافظ بن حجر في الفتح: لا يلزم من كوننا لا نعلم أيعذب الميت أم لا؟ ألا نتسبب له في أمر يخفف عنه العذاب لو عذب، كما لا يمنع كوننا لا ندري أرحم أم لا؟ ألا ندعو له بالرحمة.
فقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات: في غرس الجريدتين نصفين على القبرين أن الشجر والنبات يسبح ما دام أخضر، فإذا يبس انقطع تسبيحه، والتسبيح والعبادة عند القبر مما يوجب تخفيف العذاب.
أما الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله- فهو يخالف من سبقه ممن ذكرنا، فيرى خصوصيتها بالرسول صلى الله عليه وسلم، لا تتعداه إلى غيره، وهكذا جرى اختلاف العلماء في وضع الجريدة علامة على القبر، أو طلبًا لتخفيف العذاب عن صاحبه، فالأمر فيه سعة، والحمد لله؛ لأنها من مسائل الاجتهاد، ولو لم تكن من مسائل الاجتهاد لم يقع فيها الخلاف، ثم إن مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار، قال سفيان الثوري: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه. ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: مسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد؛ فإن هذا من فعل أهل الجهل والأهواء. ويقول ابن القيم: إذا لم يكن في المسألة سنة، ولا إجماع ثابت، وللاجتهاد فيه معاني لم ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا.
وخلاصة الجواب: أن وضع العلامات على القبور، وتنوعها وتعددها- كما ذكر في السؤال- أمر جائز ليتميز بها القبر، ويعرف فيزار، ويسلم عليه، والقول بالتبديع في وضع العلامات على القبور هو عين البدعة، بل هي أمر مشروع ما لم يعتقد فاعلها بها اعتقادًا مخالفًا للشرع.(/2)
وظفوني
محمد الخامري
وَظِّفُوني
إنَّنِي واللهُ يَشهدْ
قادرٌ، كُفْءٌ
ضَعيفُ القَلبِ واليَدْ
وَظِّفُوني
لَنْ أُحَرِك سَاكناً مَهْمَا تَعَفَّنَ أوْ تَجَمَّدْ
وَعَليَّ العَهْدُ والمِيثاقُ وَالوَعْدُ المُؤَكَّدْ
وَظِّفُوني
إنَّنِي أحْفَظُ بالتَّأكيدِ أَبْجَدْ
سَوْفَ أَمْضِي صَادِقَ الحُبِّ وَفِيَّاً
للزَّعيمِ القَائدِ الكُفءِ المُقَلَّد
المُمَجَّد المُخَلَّدْ
هو مَعبُودِي ومَحْبُوبي، وَدِيني
وَأبِي
والأَمُّ
والجَدْ
وَهو القَانُونُ والشَّرْعُ
وَمَنْ خَالَفَهُ بِالدِّينِ مُرتَدْ
وَأَنَا المُؤمِنُ باللهِ إذا شَاءَ
وإنْ شَاءَ سَأجْحَدْ
وَظِّفُوني
إنَّنِي يَا قَوْمُ فِي جُوعٍ
وَإنَّ الجُوَعَ أَنْكَدْ
وإذَا قُلتُمْ بِأنَّ الشَّمْسَ إنْسَانٌ
أقولُ الشَّمْسُ إنْسَانٌ
وإنْ قُلْتُمْ بِأنَّ البَحْرَ مَعْدُومٌ
أقولُ البَحرُ مَعْدُومٌ
وإنْ قُلتُمْ تَعَرَّى
وَامْضِ فِي السُّوقِ سَأمْضِي
واعْزُلوا مَنْ يَتَرَدَّدْ
وَظِّفُوني
هَذِهِ الأحْرُفُ خَطِّي
بَعْضُهَا يُقْرَأُ وَالبَعْضُ مُعَقَّدْ
لَمْ يَكُنْ خَطِّي رَدِيئًا
غَيْر أنِّي مَا تَعَلَّمتُ حُرُوفَ القَصْرِ وَالمَدْ
وَظِّفُوني
إنَّنِي أَقْصَرُ مِنْكُمْ قَامَةً
يا سادتي
والطَّرْفُ أَرْمَدْ
وَظِّفُوني
حَيْثُ شِئْتُمْ
واطْمْئِنِّوا
إنَّنِي لِصٌّ مُؤَكَّدْ
وامَلأَوا بَطْنِي
ودوسوا جبهتي
وَابْطَحُونِي حَيْثُ شِئتُمْ
والْعَنُونِي مَا استَطَعْتُمْ
واجْعَلُونِي حَارِسَ البَنْكِ المُهَدَّد
وَإذَا خُنْتُ الوَطنَ ( أَنتُمْ )
وإنْ خَالفتُ أمرًا
أوْ كَتمْتُ العَرْشَ سِرَّاً
فاعْزُلُوني
واحْبِسُونِي
عِنْدَ فُرْنِ الكَعْكِ
فِي السِّجْنِ المُؤَبَّدْ
وَظِّفُوني
لَسْتُ أَذْكَى
بِاعْتِرَافِي لَسْتُ أعْقَل
سَادَتِي وَالحِسُّ أَبْلَدْ
ليسَ هذا الشِّعْرُ
من شِعْري
وَلكنْ
شِعْر حِزبيٍّ أُصُوليٍّ مُعَقَّدْ
أَنَا حِزبيٌّ إذا شِئْتُمْ وإلاَّ
مُسْتقلٌّ وَطَنِيٌّ
شَرِبَ الخَمْرَ وَعَرْبَدْ
وَظِّفُوني
إنَّ سَوْطَ الجُوعِ
فِي بَطْني تَوَقَّدْ
وَهُمُومَ الدَّيْنِ
فِي جَفْنِي
وَعَنْ عَيْنَيَّ
لِلنُّوْمِ وَللأحْلامِ
شَرَّد(/1)
وظلم ذوي القربى
يوسف الحجيلان 9/8/1424
05/10/2003
ليس التخلي عن المبدأ و النكوص عنه شهوة بحد ذاتها ولا هدفاً حتى ترى زرافات ووحدان من بني الأمة ينكصون فرّاراً لا كرّاراً عن قيم ومبادئ كانوا وإلى الأمس المشهود يحملون رايتها ويذبون عن بيضتها، ويجرِّمون من يتعدى على حرمتها لا تأخذهم في ذلك لومة لائم ولا همزة همّاز أو لمزة لمّاز، مستعدين وبكل ثقة أن يسقوا شجرة مبادئهم ثمالة دمهم.
ثم وبين طرفة عين وانتباهتها تراهم وقد استداروا وقلبوا ظهر المجن، وعطفت خيلهم ورجلهم على حرمات المبادئ فاستباحوها، وكأنهم كانوا يتربصون بها الدوائر ولو كانت القضية مراجعة وإعادة تأصيل؛ لأمكن التعذير، على أن فداحة الخطأ قد تصعب العذر، لكن الحق أنه هروب وإلى الأبد حسب ما وصلت إليه قناعاتهم ويتلفظون به.
أعداداً منهم دفعوا ثمناً جزلاً لمبادئهم؛ السجن، والوظيفة، والإهانة، أو بعض ذلك، فما الذي جرى حتى تقلب الطاولة بهذا الشكل، وكأن الجهاد والولاء والبراء ومسائل جمّة في الاعتقاد والنظرة إلى الطوائف الأخرى، وحجاب المرأة، والغناء، والبث الإسلامي وغيره نوازل أوجبت اجتهاداً، ولم يسبق أن وجدت يوم كان القوم بني أبيهم؟!.
من خلال همس المجالس أحياناً أو صراخها أحياناً أخرى تسمع من يقول إن عشرات من أولئك وجدوا مكاناً لهم يرتاحون فيه من عناء النضال، ويكسبون فيه قيمة حسية أو معنوية وقطاعاً آخر منهم حفيت أقدامهم وكلّت قواهم عن المواصلة وأحسب جزءًا منهم لم تكن لديه القناعة الكافية، إنما عزف وببغاوية على نفس الوتر السائد فاحتمله السيل زبداً رابياً.
في حدود نظري لا مشكلة ما دامت الانكفاءات والنكوص في حدود الذات وما وليت وكل يولي ما تولى من قضيته، ويحمل وزرها دون حاجة لفتح بوابات جدل ومعارك بين أطياف الصف الإسلامي؛ فعنده من ذلك ما يكفيه؛ إلا أن ما يثير حفيظة الغيورين من أصحاب الدرب ورفاق النضال أن رفاقهم وجدوا فيهم خير فرصة للكسب، وفي الطعن والتثريب عليهم ما هو أسرع في رفع الأسهم في بورصة العالم الجديد، وزيادة الترقي في سلم اللبرالية، وتبرئة الذات عند عدو الأمس، وكأن صك البراءة من درن الماضي لا يكمل إلا أن يختم بخاتم التشنيع والتثريب على الرفاق وأخوة المبادئ التليدة في نفس الوقت الذي يكون فيه التسامح واللين مع أعداء الماضي مطلب حضاري وخلق نبيل لإظهار الإسلام بقالبه الجديد في عقائد هؤلاء "أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين" وفي زحمة البحث عن الذات وقنص الفرص السانحة نسوا، أو أرادوا أن ينسوا أن الأيام قد تلد ما لم يخطر ببال، وأن قطع خطوط الرجعة ليس من استراتيجيات أبسط المعارك، وأن القواسم المشتركة بين الفريقين لا تزال متينة وكثيرة إلى حد يفوق ما بتر منها وأن القمة مدببة لا محددة وتتسع لأكثر من واحد، ودرجات الصعود في عالم النفعية يمكن أن تنال بغير هذا النهج، وتبرئة الذات يكفي فيها إعلان التوبة وبعضاً من هذه الأطروحات الباهتة يكفي لإثبات صدق النوايا للآخر فلا حاجة للتجريم، وإن كان ولابد فيكفي التلميح وعند العجز عن مواصلة الطريق والإحساس بوعورة المسلك فإليهم قول الشاعر(/1)
وعد بلفور ... و أحمد سعدات
عصام يوسف بدري*
بموجب وعد بلفور المشئوم أقام اليهود دولتهم فى فلسطين عطاء من لا يملك لمن لا يستحق فاجتمع (مثلث الشؤم) على ثرى فلسطين الطاهرة ( الوعد والواعد والموعود) فتداعى شذاذ الأفاق من كل حدب وصوب وتدافعوا نحو فلسطين لتظل هى بعد ذلك القضية الأسلامية المحورية الأولى على جدول أعمال كل من بقى فى قبلة شئ من ايمان.
وفى بلادنا وضع الأنجليز بذرة الفتنة ورعوها حق رعايتها عبر سياستهم وتخطيطهم ومتابعتهم فاستنبتوا فيها مشكلة جنوب السودان حجاباً حاجزاً يحول دون انتشار الإسلام وامتداده جنوب القارة و جرحاً نازفاً لا يندمل تنكأه يد التآمر الخارجى كلما امتدت يدُ لإصلاح وبلسم لعلاج.
وهكذا حيثما التفت وأينما يممت وجدت الإستعمار الصليبى يجهد قائماً ويخطط جالساً ويسعى دائماً ويشخص ناظرا ويبحر مفكراً تدور عيناه يمنة ويسرة كمن به مس كيف السبيل لتحطيم الاسلام وأهله واستدامة صعفهم وخورهم يسوؤه أن تنهض أمتنا من كبوتها وأن تعود إلى رشدها بل يريدوننا أن تكون وإياهم سواءً نكفر كما كفروا... نرفع صليبهم كما رفعوا... ونتبع ملتهم كما انتهجوا ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).
وهنا مربط الفرس وطبيعة الصراع وديمومته... الأمر ليس أمر حقوق إنسان ولا ديمقراطية ولاحرية ولايحزنون بل تغيير الملة وتبديل الوجهة وحقد دفين تفضحه زلات ألسنتهم وسيما وجوههم وصنائع أيديهم وخطوات مسيرهم.
وكما بالأمس البعيد سلموا فلسطين لليهود هاهم اليوم ينسحبون من حراسة أحد قادة المقامة الوطنية لتدخل القوات الإسرائيلية وتعتقل أحمد سعدات .. مكررين ذات السلوك أينما وجدت قوات دولية تغض الطرف فى أحسن الحالات وتمد يد العون تآمراً كالعهد بها فى سائر شأنها..... أمم متحدة علينا لن يؤثر فيها كثيراً استنكار ولن تزحزحها إدانة لتصرفاتها لكنها سترعوى فقط عندما تعامل معاملة المحتل سواء بسواء مهما كان العلم الذى تعمل تحته والزى الذى ترتديه والقبعة التى تغطى رأسها فإنه اختلاف شعار وتباين دثار لكنها شريك أصيل فى الجريمة والمذبحة (ولو بنصف كلمة ) تمسح عارضيها استخفافاًً وتبتسم استهزاءاً تخدع المسلمين مرتين بل مرات .. ومرات.
دعونا نعيد فهم طبيعة الصراع ووضع القضية فى مسارها الصحيح – كما وضعتها حركة حماس فى فلسطين- صراع عقيدة واعتراك حق وباطل واعتلاج هداية وضلال.
ودعونا ننظر فى أنفسنا نصحح مسارنا ونطهر ثيابنا وننظف سرائرنا فاذا بها أفضل من علانيتنا واذا بعلانيتنا صالحة.
إن الأعداء يفوقننا قوة وعدة وعتاداً لكننا نفوقهم ايماناً وهداية ورشاداً فإذا ركنوالى قوتهم واستوينا معهم فى المعصيبة وتنكبنا الصراط فانها الهزيمة لا محالة.
واذا ما استوفينا حق الرشاد وشروط الهداية واستقمنا عليها نصرنا من له جنود السموات والأرض ... فالمعصية رسول الهزيمة والطاعة بشارة النصر.(/1)
وعي الأمن في التربية الإسلامية
[الكاتب: محمد جمال الدين محفوظ]
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني في حاجة، فأبطأت على أمي، فلما جاءت قالت: (ما حبسك؟!) - أي ما أخرك؟ - فقلتك: ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة)، قالت: (ما حاجته؟)، قلت: (إنها سر)، قالت: (لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا).
وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله: (إني أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب - يقدمك على الأشياخ - يعني كبار الصحابة - فاحفظ عني خمسا: لا تفشين له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا، ولا يجربن عليك كذبا، ولا تعصين له أمرا، ولا يطلعن منك على خيانة).
وهكذا كان الصحابة رضوان الله عليهم، وهكذا كا، أجدادنا الأوائل يعلمون أولادهم المحافظة على السر، وهي من ألزم الأمور لسلامة الأمة وأمنها.
والواقع أن المدرسة الإسلامية عنيت بالأمن والمحافظة على الأسرار، أشد العناية ووضعت لهما المبادئ والأصول والأساليب، وأثبت تاريخ صدر الإسلام أن من أسباب انتصار المسلمين على أعدائهم الكثيرين أن أسرار النبي صلى الله عليه وسلم، وأسرار المسلمين كانت مصونة وبعيدة عن متناول الأعداء، في الوقت الذي كان النبي صلوات الله وسلامه عليه يطلع على نيات أعدائه العدوانية عن طريق عيونه وأرصاده - رجال مخابراته - قبل وقت مبكر، فيعمل من جانبه على إحباط ما يبيتونه للإسلام من غدر وخيانة ودسائس.
كذلك لم يستطع المشركون وأعداء الإسلام أن يباغتوا قوات النبي صلى الله عليه وسلم في الزمان والمكان وأسلوب القتال، بينما استطاع صلوات الله وسلامه عليه أن يباغت أعداءه في معظم غزواته وسراياه.
كذلك لم يرد في تاريخ صدر الإسلام حوادث خيانة أو تخابر مع العدو إلا في حادثة حاطب بن أبي بلتعة في فتح مكة وهي حادثة واحدة واعتذر منها صاحبها.
كل ذلك من منهج الإسلام في تربية المسلمين على الأمن والمحافظة على الأسرار، ومن المبادئ المعروفة أن الأمة التي تكتم أسرارها هي الأمة التي يمكن أن تنتصر، والأمة التي لا تكتم أسرارها هي الأمة التي لا يمكن أن تنتصر، وما يقال عن الأمة يقال عن الأفراد لأ، الأمة تتكون من أفراد.
واللسان الذي هو نعمة من نعم الله على عباده، يستطيعون بها التعبير عن آرائهم وتبادل المنافع مع الناس، هو وسيلة للخير والسعادة في الدنيا والآخرة إذا أحسن استعماله، كما أنه سبب قوي للشر والشقاء في الدارين إذا أسيء استعماله، فهو سلاح ذو حدين يمكن به النفع ويمكن به الضر..
والقرآن الكريم ينبئ بأن كل لفظ من الإنسان مسجل عليه، فيقول الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}، فالكلمة أمانة عظمى لها مكانتها في الإسلام، وتقدير أمرها والتدبر فيها قبل التلفظ بها مرتبط بالإيمان، كما يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).
ويقول الله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة احتثت من فوق الأرض ما لها من قرار}، والمراد بالكلمة الطيبة؛ شهادة "أن لا إله إلا الله"، وقيل؛ دعوة الإسلام، وقيل؛ كل كلمة حسنة. والمراد بالكلمة الخبيثة؛ كلمة الكفر أو الدعوة إليه أو الكذب، أو كل كلمة لا يرضاها الله تعالى.
وإفشاء الأسرار التي تعود على الأفراد والأمم بالأضرار من الكلام الذي لا يرضاه الله تعالى، وكذلك كل كلام فيه سعي بالفساد مندرج تحت الكلمة الخبيثة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته- فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن ليتكلم بالكلمة من سخط الله - ما يظن أن يبلغ ما بلغته- فيكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه).
وعن شعبان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به، قال: (قل ربي الله ثم استقم)، قال: قلت يا رسول الله: (وأخوف ما تخاف علي؟)، فأخذ بلسان نفسه، ثم قال: (هذا).
كتمان الأسرار من الحذر والفطنة:
وينبه الإسلام إلى اليقظة والحذر كما في قوله تعاللى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم}، وكما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن كيِّس فَطِن)؛ فاليقظة والحذر والوعي والفطنة كلها تدفع إلى كتمان الأسرار التي جعلها الله أمانة من الآمانات التي يجب على المسلمين أن يحافظوا عليها، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}.
# وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له) .
# وقال أيضا: (آية المنافق ثلاث؛ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان).(/1)
# وقال: (إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهو أمانة).
# وقال: (إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة، ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره).
# وقال: (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع).
الصمت:
والصمت من أكبر أسباب الوقاية من إفشاء الأسرار (الوقاية خير من العلاج) والإسلام يرشد إلى الصمت ويدعو المسلمين إليه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)، (طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله). وغير ذلك من الأحاديث التي تدعو إلى التمسك بهذه القيم الإسلامية.
دروس علمية من هدي النبي:
والدروس العلمية التي يستطيع المسلمون أن يتعلموها من النبي صلى الله عليه وسلم في مجال السرية والأمن أكثر من أن تحصى.
1) فلقد كان من أسباب نجاح الدعوة الإسلامية أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بدأ سرا.
ولما شاهد علي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هو وخديجة رضي الله عنها، قال: (يا محمد ما هذا؟!) قال: (دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزى)، فقال علي: (هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب - أي أباه -)، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كره أن يفشي سر الدين قبل أن يستعلن أمره، فقال له: (يا علي إذا لم تسلم؛ فاكتم)، فامتثل علي للأمر، حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح التالي وأعلن إسلامه وكتم ذلك عن أبيه، ولم يظهره.
وقد أثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله المشهور: (ليس كل ما يُعلم يقال، ولا كل ما يقال حضر أهله، ولا كل ما حضر أهله حان وقته).
2) وهجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة من أعظم الدروس في السرية والأمن والكتمان حتى بلغ المدينة بسلام.
3) وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال: (ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى ).
ومن الأمثلة العلمية في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد تأديب بني لحيان، الذين غدروا بدعاة المسلمين - وكان هؤلاء الدعاة ستة من كبار الصحابة - أظهر أنه يريد الشام. وتحرك فعلا بقواته شمالا، فلما اطمأن إلى انتشار أخبار تحركه إلى الشمال باتجاه الشام، عاد راجعا باتجاه مكة مسرعا في حركته حتى بلغ منازل بني لحيان.
4) وفي غزوة الخندق جاء نعيم بن مسعود الغطفاني - وكانت غطفان من القبائل التي انضمت إلى قريس للقضاء على المسلمين - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه أسلم ولا يعلم قومه، وطلب منه أن يأمره بما يشاء، فقال الرسول: (إنما أنت رجل واحد، فخذل عنا ما استطعت، فإن الحرب خدعة)، فقام نعيم بمهمته خير قيام، ونجح في التفريق بين القوى الثلاث التي تجمعت لقتال المسلمين - قريش، والقبائل العربية ومنها قبيلته غطفان، ويهود بني قريظة -وكان مما ساعد على نجاح مهمته مراعاة الأمن والسرية.
لقد كتم النبي صلى الله عليه وسلم إسلام نعيم، وكتم نعيم إسلامه، فلم يعرف قومه ولا بنو قريظة ولا قريش عن إسلامه شيئا، فلو لم يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ السرية والأمن، ولم لم يطبقه نعيم، فهل كان بإمكان نعيم أن يقوم بهذا الدور الحاسم في تفرقة صفوف الأحزاب ونزع الثقة من نفوسهم؟.
5) وقد ابتكر الرسول صلى الله عليه وسلم "الرسالة المكتومة" مراعاة للسِّرِّية والأمن، وحرمان أعداء المسلمين من الحصول على المعلومات التي تفيدهم عن تحركات المسلمين وأهدافهم، فقد بعث صلوات الله وسلامه عليه سَرِيَّة من المهاجرين، قوامها اثنا عشر رجلا بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي في مهمة استطلاعية في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة، وسلمه رسالة "مكتومة" تحتوي على تفاصيل المهمة من حيث الهدف منها ومكانها وغير ذلك من التعليمات، وأمره ألا يفتحها إلا بعد أن يسير يومين.
6) وتعتبر غزوة فتح مكة من أروع الأمثلة التاريخية في مجال السرية والأمن والكتمان: إن أقرب المقربين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صاحبه أبو بكر الصديق، أول من أمن به كما أن عائشة بنت الصديق أبي بكر كانت أحب نسائه إليه - فقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟)، قال: (عائشة)، قالوا: (إنما نعنى من الرجال)، قال: (أبوها) - ومع ذلك كانت عائشة لا تفشي لأبيها شيئا من سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر الصديق وابنته عائشة لا يعلمان من أسرار غزوة الفتح إلا قليلا.
ولقد احتوت غزوة الفتح على الكثير من إجراءات الأمن التي كان لها أكبر الأثر في تحقيق المفاجأة الكاملة وفتح مكة بلا قتال.
[مجلة منار الإسلام / العدد 10العاشر، السنة التاسعة]
ِ(/2)
وفاة البابا صانع مجد الكاثوليكيّة
في العصر الحديث
د. بدران بن الحسن 1/3/1426
10/04/2005
لقد توفي البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان بعد رحلة طويلة مع المرض. أما الهالة الإعلامية التي أُقيمت على وفاته فهي جد مثيرة، وغير مسبوقة في تاريخ الرموز الدينية المسيحية. وفي الحقيقة لقد هالني هذا الاهتمام المنقطع النظير بوفاة هذا الرجل، وخاصة بكاء المسلمين عليه، وبالأخص معظم القنوات العربية التي اهتمت بموته بطريقة لا تصدق.
فمن هو البابا يوحنا بولس الثاني؟ وما هي أهم إنجازاته؟ ولماذا هذا الاهتمام العالمي به؟
من هو يوحنا بولس الثاني؟
البابا يوحنا بولس الثاني، بولندي الجنسية واسمه الحقيقي "كارول جوزيف فوتيلا" ولد في 18 أيار عام 1920 في بولندا لأب كان يعمل موظفاً في الجيش البولندي. وقد تدرج في السلم الكنسي من راعي إلى أسقف إلى كاردينال إلى أن اختير للمنصب البابوي، ورئيساً للكنيسة الكاثوليكية في عام 1978 ليكون أصغر من تولّوْا هذا المنصب في القرن العشرين. ومضى البابا ليصبح أحد أكثر الوجوه المألوفة في العالم. وقد كان يبلغ من العمر آنذاك (58) عاماً، وهو البابا رقم (265) في تاريخ باباوات الكنيسة الكاثوليكية، كما يُعتبر أول بابا غير إيطالي يتقلد هذا المنصب منذ (465) عاماً. وقد وصل يوحنا بولس الثاني إلى "الكرسي البابوي" بطريقة دراماتيكيّة أثارت العديد من الشبهات حوله، وحول القوى الداعمة له، فقد خلف يوحنا بولس الأوّل الذي لم يبق في منصبه سوى (33) يوماً؛ إذ قيل: إنه سُمّم لأنّه لم يكن مناسباً للمرحلة الخطيرة في ذلك الوقت على الصعيد العالمي، وتمهيداً لقدوم بولس الثاني الذي قيل أيضاً: إنه في حقيقة الأمر من أصول يهودية، وإنه بدّل دينه عند انتقاله من تشيكيا وهي بلده الأصلي إلى بولندا كما فعل بعض اليهود آنذاك خوفاً من بطش النازيين كما يدّعون، وخاصة من شاهد الحصة التي أنجزتها القناة التلفزيونية الأمريكية (CNN) يوم وفاته، وذلك الحوار مع أصدقاء طفولته اليهود الذين شهدوا بقربه منهم ومحبتهم له ومعرفتهم بحقيقة شخصيته. بل إن المتأمل في مسيرته يرى من وراء ذلك مختلف المخططات الأمريكيّة الأوروبيّة التي دعمت وصوله آنذاك، ومختلف مخابر صناعة الزعماء كيف سهرت على تلميع صورته وإبرازه زعيماً دينياً متسامحاً مع الجميع، وممثلاً ليسوع المسيح (بزعمهم)، وتجدّدت الشبهات حول اختياره مرة أخرى عندما أصبح البطل الأهم في إسقاط الشيوعية في بلده بولندا، ومرة أخرى عندما قدّم الفاتيكان اعترافاً دبلوماسياً رسمياً بدولة إسرائيل، وثالثاً عندما ذهب لحائط المبكى واعتذر لليهود عمّا قام به أسلافه في حقهم. وبغض النظر عن صدقية القول: إنه من أصل يهودي، فإن ما يهمنا هنا هو هذه الشخصية المثيرة في التاريخ المسيحي المعاصر، وتاريخ العالم المعاصر ككل، وأهم ما قام به.
لقد كان من أذكى الباباوات في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الممتد 2000 سنة، ومن أكثرهم جرأة على ممارسة نفوذه بقوة شخصية فريدة من نوعها، كما أنه من أكثر الباباوات ممارسة للعمل السياسي والاجتماعي، وأكثرهم حضوراً في عالم ما بعد الثورة الفرنسية التي غيّرت وجه أوروبا إلى ما يسمى بالعلمانية وانحصار الكنيسة في أداء دورها التعبدي الشعائري. فقد أخرج الكنيسة من جمودها، ودفع بها إلى ممارسة دورها الاجتماعي في توفير الإيمان والدعم الأخلاقي في وجه الماديّة المهيمنة على العالم اليوم، مما استعاد للكنيسة الكاثوليكية خصوصاً، والنصرانية عموماً حيويّتها، وخاصة في أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وأفريقيا. وشملت جولاته البابوية الطويلة أكثر من (120) بلداً، وأحرز لنفسه سمعة دولية كداعية للسلام. وفي عام 2000 قام البابا بخطوة ذكية لها دلالاتها الدينية والحضارية والسياسية بزيارة للمشرق العربي (الشرق الأوسط كما يُقال في الإعلام الغربي والعربي التابع) للاحتفال بذكرى الألفية الثانية، واقتفاء لخُطا القديس بولس، شملت الناصرة في فلسطين ونُصب ضحايا المحرقة النازية في إسرائيل، ودير القديسة (سانت كاترين) في سيناء بمصر. واشتهر البابا بدعوته المستمرة للحوار بين الاديان، وتعزيز التفاهم بينها. ولذلك فيمكن القول: إنه قام بدور لا يعادله دور أي شخصية دينية خلال القرن العشرين الماضي في العالم الغربي.
دوره في هدم المعسكر الشيوعي:
قام البابا بأداء دور محوريّ تاريخيّ في هزيمة الشيوعية بشكل سلمي عام 1989، وذلك في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة التي أدت إلى إعادة التوحيد التاريخي لأوروبا في أيار (مايو) 2004 الماضي عندما انضمت بولندا وثماني دول شيوعية سابقة إلى الاتحاد الأوروبي.(/1)
فقد تمكن الفاتيكان عبر البابا من لعب دور أساسي في القضاء على الشيوعية وانهيار الكتلة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وقد قاد بنفسه الحملة لإسقاط النظام الشيوعي، ليس في موطنه بولندا فحسب، بل وفي معظم دول ما كان يعرف بالكتلة الشرقية. وهذا مما كثف من النشاط السياسي المباشر للفاتيكان مما يخالف الأعراف العلمانية الغربية كما يدّعون، وهذا أيضاً ما يؤكد أن العلمانية التي في الغرب ليست ضد الدين وإنما علمانية ضد الكهنوت والتسلّط الكنسي، لكنا إذا وجدت في الكنيسة سنداً لتحقيق مقولاتها فإنها سرعان ما تفتح البابا للدين لقيادة بل وصياغة مفردات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وهذا ما نلاحظه من نشاط للفاتيكان خصوصاً في حماية القيم الأخلاقية في مواجهة ثقافة الشذوذ والإباحيّة، وفي مشاركة الفاتيكان في إسقاط النظام الشيوعي المخالف لسنن الفطرة.
أما العلمانية التي صدّرها لنا الغرب فهي علمانية تسلّطية جاهلة متخلّفة ومتحكمة في مصائر الشعوب، ولا تعي دورها سواء في إطار نسختها الغربية التي جاءتنا بها، أو في إطاراتها المختلفة بعد إدخال كثير من المسميّات عليها مثل: الديمقراطية المحليّة، والإصلاح السياسي، أو الحكم الرشيد، أو حرية العقيدة وغيرها.
وفي سياق الدور الذي قام به يوحنا بولس الثاني في هدم الكيان الشيوعي، فإن كثيراً من الدراسات تشير إلى الخلفية التي أتى منها وهي خلفية بولندية ذات بيئة يهودية، ولذلك فإما أن أصوله يهودية، أو ذات صلة وصداقة باليهود، وهذا ما عجل بوفاة سلفه بطريقة غامضة؛ لأن يوحنا بولس الأول -كما يُقال- كان لا يتلاءم مع المشاريع المناهضة للشيوعية لكونه مناصراً للفقراء والمزارعين والفلاحين ومتمسكاً في موقف الكنيسة الصلب من اليهود.
ولذلك فإن المصالح العليا للغرب اقتضت خرق عُرف دام قرابة خمسة قرون وتنصيب بابا غير إيطالي، خاصّة وأن هذا البابا يرجع إليه الفضل في إعادة العلاقات الدبلوماسية للفاتيكان مع الولايات المتحدة عام 1984 في عهد الرئيس اليميني المسيحي الأمريكي رونالد ريغان.
وبدأ دور البابا في خلخلة الاتحاد السوفيتي منذ استلامه منصبه ففي 2 يونيو 1979 بعد ثمانية اشهر فقط من انتخابه واعتلائه الكرسي البابوي. عاد يوحنا بولس الثاني إلى موطنه الأصلي بولندا (مقر حلف وارسو) لمدة تسعة أيام لزيارة كانت بداية انهيار الاتحاد السوفيتي من خلال دعمه لاتحاد نقابات العمال المستقلة (تضامن) في بولندا حيث ساعدها على الوصول للسلطة لتصبح أول حكومة حرة في الكتلة الشرقية، ومن خلال مطالبته القوية بحرية العقيدة والممارسة الدينية في دول العالم الشيوعي وبخاصة في وطنه.
وكان ممّا قاله في الجموع المحتشدة هناك: "إن المسيح يحارب الشيوعية، لا تكونوا اشتراكيين، نفهم من الكاهن الأكبر، نريد الله في مدارسنا، نريد الله في منازلنا.."، وكان البابا قد أصدر قبل عام ونيّف كتاباً بعنوان (الذاكرة والهوية) قال فيه: إن الشيوعية كانت "شراً لابد منه، وإن هذا الشر المستطير كان يبتلعنا".
والكل يتذكر كيف توالت الانهيارات التي شهدها المعسكر الشرقي ابتداء من بولندا وانتهاء بيوغسلافيا، وكيف استعادت المسيحية دورها من جديد، وكيف انضم نصارى أوروبا الشرقية إلى إخوانهم نصارى أوربا الغربية تحت لواء أوروبا الموحدة، وكيف يتم التأكيد مرة بعد أخرى على أن المسيحية هي الدين المهيمن في أوربا الموحدة، وكيف يعارض كثير من ساسة أوروبا انضمام تركيا؛ لأنها ليست مسيحية، وهو ما يشكل إدخال عنصر غريب في الجسم المسيحي الأوروبي، كما يؤكد ذلك رجالات الكنيسة وكثير من ساسة أوروبا من أصحاب القرار.
تبرئة يهود من دم المسح، وتعاطف مع إسرائيل
أما فيما يتعلق باليهود فإن يوحنا بولس الثاني ما كاد يقضي الثلاث سنوات في منصبه حتى أعلن في عام 1982 الاعتراف بدولة إسرائيل من باب الحق الديني. ثمّ قام البابا بتغيير جذري في مفاهيم الكنيسة يتناسب مع التطورات والتغييرات التي قام بها منذ اعتلائه كرسي الفاتيكان، فأصدر الفاتيكان عام 1985 وثيقة حول "العلاقات الكاثوليكية اليهودية"، وحثّت الوثيقة جميع الكاثوليك في العالم على استئصال رواسب العداء للسامية وذكّرتهم أن المسيح عبراني أيضاً، ولذلك يجب تفهّم تمسّك اليهود بأرض أجدادهم.(/2)
واستمر هذا التغيير الدراماتيكي في موقف الكنيسة من اليهود إلى أن حصلت خطوة أخرى تؤكد الصلة الوثيقة بين ماضيه المتصل باليهود وقراراته المناصرة لهم وللصهيونية، وبين التساؤلات المثارة حول من دفع به إلى زعامة الفاتيكان، فقام في عام 1986 بزيارة كنيس يهودي في روما ليكون بذلك أوّل بابا في تاريخ الباباوية يزور كنيسا يهوديا، ثمّ قدم اعتذاراً خطّياً وشفهياً عما يسمى "بالهولوكست اليهودي" عبر الوثيقة الصادرة عن الفاتيكان في 16/3/1998، وجاء فيها: "عندما طردت النازية من أراضيها جموع اليهود ووحشية الحركات العنيفة التي أصابت أناساً عُزَّلا من السلاح، كل هذا كان يجب أن يحرك الشك بما هو أسوأ، هل قدم النصارى كل مساعدة ممكنة للمطاردين وبخاصة اليهود؟ لا نستطيع أن نعرف كم عدد النصارى في الدول التي احتلتها أو حكمتها القوى النازية أو حلفاؤها، احتجوا بغضب على فقدان جيرانهم اليهود، ولم يكونوا شجعاناً بما فيه الكفاية لسماع أصواتهم المعارضة، وللنصارى أقول: إن هذا الحمل الثقيل الجاثم على ضمائرهم بخصوص إخوانهم وأخواتهم خلال الحرب العالمية الأخيرة يجب أن يكون مدعاة للندم".
وفي الحقيقة فإن هذا يعتبر تواصلاً مع ما أصدره الفاتيكان سنة 1965، من وثيقة "تبرئة اليهود من دم المسيح" بعد ضغوط كبيرة من اليهود والصهيونية العالمية التي ضغطت بشكل كبير على الكنيسة بمساعدة الولايات المتّحدة وأوروبا، خاصّة فيما يتعلّق باتّهام الكنيسة بالتواطؤ مع النازية التي افتعلت "الهولوكوست" كما يدّعون. وقد كان يوحنا بولس الثاني أحد أهم الذين صاغوا تلك الوثيقة ويعتبر من مهندسيها.
وفي سنة 1991 صرح يوحنا بولس الثاني بأنه يصلّي من أجل أن يحيا "إخوتنا اليهود" بسلام في أرضهم. ثم في كانون أول من عام 1993 وقّع الفاتيكان وثيقة تبادل دبلوماسي مع دولة إسرائيل، وفي نهاية عام 1997 قدم البابا يوحنا بولس الثاني وثيقة بعنوان (نحن نتذكر) لمناقشة وتعديل النصوص في العهد الجديد التي تحمّل اليهود مسؤولية صلب المسيح وقصة تلاميذ المسيح بصفة خاصة، وكان يشير إلى مثل النص الإنجيلي القائل لليهود على لسان المسيح عليه السلام: "أيها الشعب الغليظ الرقبة، يا أولاد الأفاعي، يا أبناء الشيطان، أنتم لستم من أبناء إبراهيم، أنتم أبناء الشيطان" إلى أنه معاداة للسامية، فعمد إلى طمسه.
خاتمة: من بابا جدار برلين إلى بابا ما بعد 11/9
هذان أهم إنجازين حققهما البابا يوحنا بولس الثاني طيلة تربّعه على الكرسي البابوي للكنيسة الكاثوليكيّة، غير أن هذا لا ينسينا ما قام بإنجازه على مستوى توحيد الكاثوليك في العالم بطريقة لم يسبق لها مثيل، واسترجع دور الكنيسة ومكانتها، كما أنه عمل على الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووصفه بأنه نبي، وأن القرآن موحى إليه وليس من تأليفه، بعدما كان النصارى يرون النبي -صلى الله عليه وسلم- مهرطقاً في كتبهم الكنسيّة على مدار التاريخ، ابتداء من يوحنا الدمشقي إلى جيري فالويل الأمريكي الذي يقود التيار المسيحي المتصهين اليوم.
كما أنه ساهم في نشر المسيحية في العالم الاسلامي والعالم أجمع بطريقة رهيبة من خلال شعار المحبة والتسامح، وهذه أخطر الإستراتيجيات التي رسمها الفاتيكان ويوحنا بولس الثاني على رأسه.
بقي أن نقول في الأخير: إن الغرب يعرف كيف يصنع زعاماته وينيط بها أدواراً تاريخية من أجل تحقيق أهدافه الحضارية دينية كانت أم سياسية أم اجتماعية أم ثقافية. ولذلك فإنهم الآن يحضّرون لبابا جديد يتلاءم مع ما بعد 11سبتمبر والملفات الشائكة التي أفرزتها التغيرات الكبرى التي حدثت بعد سقوط المعسكر الشرقي، وتوحّد أوروبا، والحرب على الإرهاب، والصراع على القدس، والحفاظ على هوية أوروبا المسيحيّة وتضمينها الدستور الأوروبي، والحوار بين الأديان، وخاصة مع الإسلام والمسلمين، واليمين المسيحي المتصهين (البروتستانتي الإنجيلي خاصة)(/3)
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله
ما تقولون في رجل تزوج امرأة ودفع لها المهر وقبل أن يدخل بها توفي فهل ترثه أم لا وهل عليها العدة أم لا ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب : إذا تزوج الرجل المرأة وعقد عليها وتوفي قبل أن يدخل بها فلها الميراث وعليها العدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام قال الله تعالى { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } .
ودلالة هذه الآية واضحة في عدة المتوفى عنها زوجها وهي تتناول المدخول بها وغير المدخول .
ولا تخْرجُ عن عموم هذه الآية إلا الحامل فأجلها إلى أن تضع ما في بطنها قال الله تعالى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } .
وروى أحمد ( 3 / 480 ) والنسائي ( 4 / 121 ) وأبو داود ( 2115 ) والترمذي ( 1145 ) وابن ماجه ( 1891 ) وغيرهم من طريق سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سُئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود لها صداق نسائَها لاوكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث .
فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال . قضى رسول الله صل الله عليه وسلم في بِرْوَع بنت واشِق امرأةٍ منا بمثل الذي قضيت . ففرح بها ابن مسعود . قال الترمذي رحمه الله حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح وقد رُوي عنه من غير وجه . والحديث صححه ابن حبان والحاكم وأورده ابن الجارود في المنتقى وقد دل هذا الخبر الصحيح على أن عدة الوفاة تجب بالموت سواء دخل بها أو لم يدخل وعلى أن الميراث ثابت للمرأة قبل الدخول وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الزاد ( 5 / 664 ) الاتفاق على هذا ، وهذا الاتفاق محكيّ في كثير من الكتب ودلالته ظاهرة فإن المرأة بمجرد العقد عليها تصبح زوجة فترث وتورث بدلالة الكتاب والسنة فإذا توفيت ولو قبل الدخول بها ورثها زوجها وإذا توفي الزوج ورثته الزوجة وعليها العدة .
وأحكام الوفاة تغاير حكم الطلاق فإذا طلقت المرأة قبل الدخول بها أو بعد الدخول ولم يحصل جماع فلا عدة عليها قال الله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)} .
وقوله { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } أي تجامعوهنَّ في أصح قولي العلماء والله أعلم .
قاله
سليمان بن ناصر العلوان 16 / 12 / 1421(/1)
وفاة المفكر الإسلامي الكبير أنور الجندي
ودع المفكر الإسلامي الكبير أنور الجندي الحياة الدنيا مرحبا بلقاء الله يوم الاثنين الماضي الموافق 28 من يناير الماضي ، وذلك في مستشفى التطبيقيين الدولي بالجيزة حيث ذكر الطبيب الذي يعالجه أنه استقبل القبلة قبل مفارقة الدنيا ، وصلي ، وقال بصوت مسموع ( إنه فرح بلقاء الله ). توفي المفكر الكبير في صمت كما عاش عليه رحمة الله عن عمر يناهز 85 عاما .
كان المفكر الكبير عضو نقابة الصحفيين المصرية حيث كان صحفيا في جريدة الجمهورية ، قبل اعتزاله العمل الصحفي ، والانقطاع الكامل للتأليف .
ولد المفكر الكبير عام 1917 بمدينة ديروط بصعيد مصر ، ومن الغريب أن دراساته كانت كلها تجارية ، وليس لها صلة بالفكر والثقافة . عمل يرحمه الله ببنك مصر لمدة عشر سنوات قبل ان يلتحق بالعمل الصحفي والفكري .
بدا الاستاذ أنور الجندي الكتابة في مختلف الصحف والمجلات منذ عام 1946 حيث تخصص بعد ذلك في دراسة الأدب العربي واصدر موسوعة كاملة فيه بلغت 18 مجلدا ثم انتقل للدراسات الاسلامية حيث اسهم في بناء مدرسة لمقاومة التغريب والغزو الثقافي الغربي والعلماني .
كما يعد الرائد الذي حرث منذ وقت مبكر الارض لمن جاؤوا بعده في حقل أسلمة العلوم .
حصل الراحل الكبير علي جائزة الدولة التقديرية عام 1960 وشارك في العديد من المؤتمرات الاسلامية التي عقدت بعواصم العالم الاسلامي في الرياض والرباط والجزائر ومكة المكرمة والخرطوم وجاكارتا. كما حاضر في عدد من الجامعات الاسلامية مثل جامعة الامام محمد بن سعود ، والمجمع اللغوي بالأردن ، واثري المكتبة العربية والاسلامية بأكثر من 300 كتاب في مختلف قضايا المعرفة والثقافة الاسلامية .
ومن أهم كتبه: اسلم المعرفة / ونقد مناهج الغرب / والضربات التي وجهت للامةالاسلامية / واليقظة الاسلامية في مواجهة الاستعمار / واخطاء المنهج الغربي الوافد /وتاريخ الصحافة الاسلامية " . وكان آخر كتبه هو كتاب " نجم الاسلام لا يزال يصعد " .
وحاولت الشبكة التعرف علي المزيد من ملامح شخصية الراحل الكبير يرحمه الله عبر هذه الحوار مع ابنته الوحيدة السيدة فائزة أنور الجندي التي كشفت لنا في هذا الحوار عن أبعاد جديدة هامة في شخصية الاستاذ أنور الجندي ...
وهذا نص الحوار :
نرجو أن تعطي القراء فكرة عن الاستاذ الكبير أنور الجندي ؟
الوالد يرحمه الله كان من فقراء المسلمين وكان يسكن في شقة بسيطة جدا ، والحمد لله رب العالمين .
وديروط هي المدينة التي شهدت مولده عام 1917 وبها تزوج من ابنة عمه السيدة نفيسة عبد العال الجندي ، ورزقه الله ببنت واحدة - هي أنا - واسمي فائزة ، وحاصلة علي ليسانس الدراسات الاسلامية من جامعة الازهر عام 1969م 0 اعرت الي السعودية للعمل ، وحين رجعت لمصر بقيت في البيت عملا بقول الله تعالي "وقرن في بيوتكن " .
ولكن كيف كان الاستاذ أنور يقضي يومه ؟
الوالد كان منظما جدا ، وبسيطا جدا ، ومؤمنا جدا - ولا نزكيه على الله - كانت حياته عملا ، ولم يكن لديه وقت يضيعه وكان آخر وقته بعد صلاة العشاء ، ثم ينام ساعتين أو ثلاثا ثم يستيقظ ليصلي القيام ، وبعد صلاة الفجر ينام ساعتين ، ثم يستيقظ لقضاء حاجاتنا اليومية . فالوالد كان يخدم نفسه بنفسه كما كان يقوم علي رعايتنا وخدمتنا 0 فهو الذي كان يشتري الإفطار والجرائد وكل شيء يلزمنا بنفسه0
تقولين إن الاستاذ كان من فقراء المسلمين 00 فكيف يمكن تفسير هذا مع تراثه الفكري الضخم ؟
كل مبلغ كان يحصل عليه الوالد من الناشرين كان يطبع به كتبا جديدة وحين تجلس في منزله تجد الكتب تملا كل الأماكن ولم يكن لدي الوالد مجرد سخان ولا أي حاجة تشم منها رائحة الترف 0
وماذا عن وصيته لكم قبل وفاته ؟
كانت وصيته أن يتم تصنيف كتبه ومكتبته كلها ، ثم دفعها لمؤسسة اسلامية تقوم بطرح هذه المكتبة للجمهور من القراء والباحثين للاستفادة منها . وقد شدد علي ان كل تراثه الفكري يجب ان يكون وقفا للمسلمين 0
وكيف تشعرون تجاه الوالد الراحل ؟
كان قدوة لنا جميعا ، وكان - دائما - متوضئا ، فكان يأكل متوضئا ، وكان كل سطر يكتبه وهو متوضئ . وكان يشعر بالمسؤولية تجاه الجميع فقد كان عليه رحمة الله يملأ جرادل المياه حين تنقطع عن شقق الجيران ، ويتركها لهم أمام شققهم قبل الفجر حتي يمكنهم الصلاة 0
وهل للوالد تسجيلات في الفضائيات مثلا ؟.
الوالد كان زاهدا في الأضواء ، وفي الظهور ، ولم يكن يحبذ اللقاءات التلفزيونية او الفضائية ، وكان كل همه التأليف وكان يدعو ويقول يأ رب اعطني الوقت الذي يمكنني من كتابة ما أريد 0
وهل حصل الوالد علي جوائز من جهات معينة ؟
حصل علي جائزة الدولة التقديرية عام 1960 م ، وكان يرفض حكاية الجوائز هذه وحين كنت أمازحه أقول له : يا أبي خذ الجائزة ، وأعطها لي فكان يقول : أنا اعمل للحصول علي الجائزة من الله ملك الملوك 0(/1)
وهل توجد له تسجيلات معينة الآن في أي جهة ؟
له تسجيلات في تلفزيون آبو ظبي وفي الرياض ، وكانت النقود التي يحصل عليها يعطيها من يقوم بالتصدق بها علي فقراء المسلمين 0
يرحم الله الاستاذ المفكر المتواضع والعالم المتميز أنور الجندي الذي وهب حياته للدفاع عن الاسلام ، وخاض معارك كبر للدفاع عنه في مواجهة موجات التغريب والاستشراق وفروخهم من دعاة التبعية الثقافية والفكرية .
لقد وهب جهده وجهاده للثقافة والفكر لعلمه أن المعركة الحقيقية بين الاسلام بعدائه هي بالأساس معركة فكر وثقافة وعقل لذا اجتهد وجاهد في ميدانها صامتا محتسبا بلا كلل أو تهاون حتي فارق الحياة وهو يواجه المرض وحيدا فريدا ؛ لكن العزاء أن أعماله ستبقي آثرا يشهد له حتي يوم القيامة(/2)
وفاء وغدر
من خلال تجارب الحياة ، يلقى الإِنسان الوفاء من بعضهم ، ويلقى الغدر من آخرين . إنها سنّة الله في الحياة الدنيا ، وما أظنّ أن هنالك أحداً من الناس لم يلق حيناً وفاءً وحيناً غدراً ، وربما غلب الوفاء أحياناً ، وربما غلب الغدر أحياناً أُخرى ، وكل ذلك يمضي على حكمة لله بالغة وسنة ماضية وقدر غالب وقضاء نافذ .
مررتُ في كثير من التجارب مع هاتين الصورتين من الحياة . ورأيتُ الدروس والعبرَ لا تكاد تنتهي ، ولكنني زدتُ يقيناً وإِيماناً أن جمال الحياة في الوفاء وقبحها في الغدر .
وتمثلت أَن هذه القضيّة " وفاء وغدر " دارت على شكل حوار بين اثنين . فلنستمع إِلى الحوار :
· حب ووفاء
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
الأوَّل :
بَحَثْتُ عَنِ الوَفاءِ فَلمْ أَجِدْهُ ... ... عَلَى شَرَفٍ ولا في بَطْنِ وَادي
ولا بيْنَ السّهولِ ولا الرَّوابي ... ... ولا بَيْنَ الحَواضِرِ والبَوَادي
ولا بَيْنَ المنازِلِ والحَوَاري ... ... على طول المرابعِ والبلادِ
عجِبْتُ وكُلمّا صادَقْتُ خِلاٍّ ... ... سأَلتُ أصاحِبٌ ذا أم مُعَادي
وَحِرتُ مَعَ المُنافِق ، كَمْ جَهولٍ ... ... يَظنُّ نِفاقَهُ فِطَنَ الرَّشَادِ
ومَهْما جُدتَ بالمعروفِ سَمْحاً ... ... تُسَوَّدُ عِنْدَه بيضُ الأَيادي
فَلا حَذَرٌ ولا الإِحْسَانُ يُجْدي ... ... ولا صَفْوُ المحبَّة والوِدادِ
يُجمِّع مِنْ سَوادِ اللَّيْلِ مكْراً ... ... ويَنْشُر في الصَّبَاح مِنَ السّوادِ
عَجِبْتُ وكُلمَّا آنسْتُ ودَّاً ... ... وشِمْتُ بَوَادِرَ الرَّجُلِ الجَوادِ
رَجعْتُ وخِنجَرٌ مِنْه بظهري ... ... يُمَزِّقُ في الضّلُوعِ وفي الفُؤَادِ
*** ... * ... ***
الثاني :
روَيدَكَ يا أَخي ! بَالغْتَ حَقّاً ... ... وتُهْتَ عَنِ الحَقيقَة والسَّدَادِ
أيُعْقَلُ أَنْ تكون الأَرْضُ خِلْواً ... ... مِن الأَبْرَارِ أوْ أنْوارِ هَادي
ويَعْبَثُ في مَحارِمِها ذِئابٌ ... ... ويَعْبَثُ في المرابِع كُلُّ عَادِ
ألم تعْلَمْ بأنّ الله أبْقَى ... ... رِجالاً للهدايَةِ والرَّشادِ
وطائفةً مَعَ الأيامِ تَمْضي ... ... عَلى عَبَقٍ مُظَفّرَةَ الجِهادِ
كأنَّ المسكَ بعضُ شذى هُداها ... ... أزاهِرُ فوّحَتْ في كلِّ نادِ
هُمُ الغَيثُ المنَزَّلُ في الرَّوابي ... ... إِذا ما أَجْدَبَتْ خُضرُ النِّجادِ
فتهتَزُّ الرُّبَى زَهَراً وتَغْنَى ... ... وتزْخَرُ بالعَطَاءِ وبالحصَادِ
هُمُ الأَمَل المنوِّرُ ما ادْلهِّمتْ ... ... لَيالٍ بالنوازِل والعَوَادي
هُمُ البُشْرى إِذا يَئِستْ نُفُوسٌ ... ... وغَابَتْ في التعلُّلِ والرُّقادِ
كَأنَّ وفاءَهم غَيْثٌ مُغِيثٌ ... ... تُرَوَّى منه أكْبادٌ صَوَادِي
أولئك جُودُهم ودٌّ مصفّى ... ... أَبَرُّ فلا يُخالَطُ بالفَسَادِ
لَقَدْ أوفَوْا مَعَ الرحمن عَهْداً ... ... فطابَ وَفاؤهُمْ بَيْنَ العِبادِ
فكيفَ تَرُومُ مِن قومٍ وَفاءً ... ... وتطلبُ مِنْهُمُ صفْوَ الوِدادِ
وقد نكَثُوا العُهودَ وضَيَّعُوها ... ... وَمَا صَدَقوا بِهاربَّ العِبادِ
*** ... * ... ***
الأول :
صَدَقْتَ أَخِي ! نَصَحْتَ وقُلْتَ حقَّاً ... ... وجِئتَ إِليَّ بالدُّرَرِ الجِيادِ
جَزَاك الله عَنّا كُلَّ خَيْرٍ ... ... وزادَكَ مِنْ هُداهُ بِخَيْر زَادِ
سَيْبقَى في الحَياة أَخُو وَفاءٍ ... ... يُمْحَّصُ بَيْنَ أحداثٍ شِدادِ
ويَبْقَى في الحياة رِجَالُ غدر ... ... وأَهْلُ خَديِعة وحُشودُ عادِ
ليُبْلَى بَعضُهُمْ حقّاً ببعضٍ ... ... ويُعْلَمَ كلُّ مخْفِيٍّ وبادِ
فيُوْخَذَ خائِنٌ حيناً ويُمْلَى ... ... لهُ حِيناً ليَهْلِكَ بالتمادي
وتمضِيَ سُنّةٌ للهِ فِينَا ... ... وَحكمةُ خالِقٍ وسَبيلُ هادِ
ونُطْوَى بَعْدُ في ظُلماتِ قَبْرٍ ... ... لنُنْشَر للحِسَابِ وللمَعَادِ
ليومٍ تُفصَل الأَحكامُ فِيه ... ... وتَعظُمُ فيْه أَهْوالُ التَّنَادي
فينْعَم بالجِنانِ أخو وَفاءٍ ... ... ويُلْقَى خَائنٌ في قَعْرِ وادِ
*** ... * ... ***
أَخي حُسْنُ الوَفاءِ صَفَاءُ دِيْنٍ : ... ... جَمالُ في الحياةِ وطِيبُ زَادِ
ومن نَكَثَ العُهُودَ يَضلّ سَعْياً ... ... ويَشْقَى في هَوى فِتَنٍ شِدادِ
يُزَيِّنُها له الشَّيطانُ حَتّى ... ... يُقادَ بِغَيِّها شَرَّ انْقيادِ
جَمالُ حَياتِنا صِدْقٌ وحبٌّ ... ... هما صَفْوُ الوَفاءِ أو المَبَادي
وهل تُجْزَى يَدُ الإحسان إلاّ ... ... بإحْسانٍ يَفيضُ مِنَ الفُؤادِ
*** ... * ... ***
الرياض
14/12/1418هـ
19/6/1997م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· من ديوان عبر وعبرات .(/1)
وقرن في بيوتكن
لقد اهتم الإسلام بالبيت المسلم وإصلاحه اهتماما بالغا فأمر المرأة أولا بالقرار فيه
فقال: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولي}. أي اقررن واسكن فيها لأنه أسلم لكن وأحفظ. (ولا تبرجن...) أي لا تكثرن الخروج متجملات متطيبات كعادة أهل الجاهلية الأولى الذين لا علم عندهم ولا دين فكل هذا دفع للشر وأسبابه.
وأمرها وأمر زوجها بعدم خروجها من بيتها حتى ولو طلقت فقال: (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن). ويشاركها الرسول - صلي الله عليه وسلم - في المسؤولية مع الرجل فيقول: " والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها " إذ " لا يصلح آخر هذه الأمه إلا بما صلح به أولها " كما قال الإمام مالك - رحمه الله -
قال - تعالى -: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}.
هذه آداب أمر الله - تعالى -بها نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، فقال - تعالى - مخاطباً لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهن إذا اتقين الله - عز وجل - كما أمرهن، فإنه لا يشبههن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة، ثم قال - تعالى -: "فلا تخضعن بالقول" قال السدي وغيره: يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال، ولهذا قال - تعالى -: "فيطمع الذي في قلبه مرض" أي دغل "وقلن قولاً معروفاً"
قال ابن زيد: قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها.
وقوله - تعالى -: "وقرن في بيوتكن" أي الزمن فلا تخرجن لغير حاجة، ومن الحوائج الشرعية الصلاة في المسجد بشرطه كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهن تفلات" وفي رواية "وبيوتهن خير لهن".
وقال الحافظ أبو بكر البزار: عن أنس - رضي الله عنه - قال: " جئن النساء إلى رسول الله فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله - تعالى -، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله - تعالى -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قعدت ـ أو كلمة نحوها ـ منكن في بيتها، فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى" ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت إلا روح بن المسيب، وهو رجل من أهل البصرة مشهور.
عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها" رواه الترمذي عن بندار عن عمرو بن عاصم به نحوه. وروى البزار بإسناده المتقدم و أبو داوود أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها" وهذا إسناد جيد.
وقوله - تعالى -: "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" قال مجاهد: كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية.
وقال قتادة "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" يقول: إذا خرجتن من بيوتكن وكانت لهن مشية وتكسر وتغنج، فنهى الله - تعالى -عن ذلك
وقال مقاتل بن حيان "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده، فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، وذلك التبرج، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج.(/1)
وقال ابن جرير: عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: تلا هذه الآية "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" قال: كانت فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة، وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صباحاً، وفي النساء دمامة. وكان نساء السهل صباحاً وفي الرجال دمامة، وإن إبليس لعنه الله أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام، فآجر نفسه منه فكان يخدمه، فاتخذ إبليس شيئاً من مثل الذي يرمز فيه الرعاء، فجاء فيه بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حوله فانتابوهم يسمعون إليه، واتخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة، فيتبرج النساء للرجال، قال ويتزين الرجال لهن، وإن رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك، فرأى النساء وصباحتهن، فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك، فتحولوا إليهن فنزلوا معهن، وظهرت الفاحشة فيهن، فهو قول الله - تعالى -: "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى". وقوله - تعالى -: "وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله" نهاهن أولاً عن الشر ثم أمرهن بالخير من إقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين "وأطعن الله ورسوله" وهذا من باب عطف العام على الخاص. وقوله - تعالى -: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً" وهذا نص في دخول أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في أهل البيت ههنا، لأنهن سبب نزول هذه الاية وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح وروى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً" نزلت في نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة.
2)من كتاب فتح القدير:
"وقرن في بيوتكن" قرأ الجمهور "وقرن" بكسر القاف من وقر يقر وقاراً: أي سكن، والأمر منه قر بكسر القاف، وللنساء قرن.
وقال المبرد: هو من القرار، لا من الوقار، تقول قررت بالمكان بفتح الراء. وقرأ نافع وعاصم بفتح القاف وأصله قررت بالمكان: إذا أقمت فيه بكسر الراء، أقر بفتح القاف كحمد يحمد، وهي لغة أهل الحجاز،،، والصحيح قررت أقر بالكسر، ومعناه: الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن ومعنى الآية المراد بها أمرهن بالسكون والاستقرار في بيوتهن، وليس من قرة العين.
"ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" التبرج: أن تبدي المرأة من زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجل. وقد تقدم معنى التبرج في سورة النور.
قال المبرد: هو مأخوذ من السعة، يقال في أسنانه برج: إذا كانت متفرقة. وقيل التبرج هو التبختر في المشي، وهذا ضعيف جداً..
وقد اختلف في المراد بالجاهلية الأولى، فقيل ما بين آدم ونوح، وقيل ما بين نوح وإدريس، وقيل ما بين نوح وإبراهيم وقيل ما بين موسى وعيسى، وقيل ما بين عيسى ومحمد. وقال المبرد: الجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء. قال: وكان نساء الجاهلية تظهر ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها، فينفرد خليلها بما فوق الإزار إلى أعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل.
وقال أبو العالية: هي في زمن داود وسليمان - عليهما السلام -، كانت المرأة تلبس قميصاً من الدر غير مخيط من الجانبين فيرى خلقها فيه. ((ووالله لقد ظهرت هذه الملابس المشقوقة من الجانبين وتسما "تونك ")).
وقال الكلبي: كان ذلك في زمن نمرود الجبار، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال.
قال - تعالى -: "ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى".
وقال قتادة: هي ما قبل الإسلام.
وقيل: الجاهلية الأولى: ما ذكرنا..
والجاهلية الأخرى: قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان.
وقيل: قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى، كقوله - تعالى -: "وأنه أهلك عاداً الأولى" (النجم-50)، ولم يكن لها أخرى.(/2)
قال ابن عطية: والذي يظهر لي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، لأنهم كانوا لا غيرة عندهم، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى كذا قال، وهو قول حسن. ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإسلام من التشبه بأهل الجاهلية بقول أو فعل، فيكون المعنى: ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجاً مثل تبرج الجاهلية التي كنتن عليها، وكان عليها من قبلكن: أي لا تحدثن بأفعالكن وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل "وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله" خص الصلاة والزكاة لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية. ثم عمم فأمرهن بالطاعة لله ولرسوله في كل ما هو شرع "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت" أي إنما أوصاكن الله بما أوصاكن من التقوى، وأن لا تخضعن بالقول، ومن قول المعروف، والسكون في البيوت وعدم التبرج، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والطاعة ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، والمراد بالرجس الإثم والذنب المدنسان للأعراض الحاصلان بسبب ترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه، فيدخل تحت ذلك كل ما ليس فيه لله رضا
انتهي كلامه - رحمه الله - بتصرف
http://hijabsahih.tripod.com المصدر:(/3)
وقفة بين على أي أساس نقاتل " " على أي أساس نتعايش "
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
جاءت هذه الكلمة " على أي أساس نتعايش " ردّاً على الورقة التي أعدّها مركز القيم بالولايات المتحدة الأمريكية بعنوان : " على أي أساس نقاتل " وقّع عليها ستون مفكراً أمريكياً . وكانت تتمحور حول عدة قضايا من أهمها : وصف أخلاقيات الحرب الأمريكيّة ضد ما يسمى الإرهاب ودعوة المسلمين للوقوف معهم ، ودعوة المسلمين لتبني القيم الأمريكية ، والدعوة إلى حرب ما وصفوه بالتطرّف الإسلامي .
وقّع على هذا الردّ : " على أيّ أَساس نتعايش " مائة وثلاثة وخمسون أستاذاً من مختلف الجامعات والقطاعات . وقد أَحسنوا حين بيَّنُوا بعض ملامح الإسلام وبعض جرائم الغرب ، واضطراب الموازين لديهم . ولكن ذلك أثار في النفس بعض القضايا التي أعتقد بضرورة إثارتها في هذا المقام وأمثاله :
1ـ نتعايش أم نُقَاتَل ؟ ! :
إن اللفتة الأولى التي شدّت نظري هي اختلاف العنوانين لكلمة مركز القيم الأمريكية وكلمة الإخوة الأساتذة . فالأولى : على أي أساس نقاتل " توحي بالعزيمة والتصميم على القتال . ويوحي هذا بأن لديهم قضيّة خطيرة تستوجب أن يخوضوا من أجلها حرباً واسعةً . وهم جريئون واضحون في دعواهم ، مصممون ، يبحثون عن القيم التي تسوّغ لهم الحرب ، فأعلوا من شأن قيمهم التي لم نَرَها في الواقع ، ورأينا حرب الوحوش والإبادة ، حرب الحقد والخداع ، حرب الظلم والإجرام ، ولم نر مبادئ ولا قيماً بالرغم من كل ذلك ، فإنهم أعلنوا عزمهم على الحرب والقتال .
وحين وصفوا القيم الأمريكية التي لم نعرفها على ساحة الواقع ، تجاهلوا وصف الإرهاب ، وكادوا يلصقونه كلّيةً بما أَسْمَوه " التطرّف الإسلامي " . وزادوا على ذلك كله أن دعوا المسلمين ليقفوا معهم ويحاربوا المسلمين بكل وضوح وصفاقة واستغفال .
للولايات المتحدة الأمريكية إذن قضيّة يريدون أن يقاتلوا من أجلها ! وأتساءل هنا : أليس لنا قضيّة تستحقُّ أن نقاتل من أَجْلها ؟ ! أليس لنا دين أمرنا الله أن نجاهد في سبيله لحماية دين الإسلام وأرضه ؟ ! أليس لنا ديار اعتُدي عليها واغُتِصَبتْ وطرد أهلها منها ؟ ! ألا نرى العدوان بعد العدوان على المسلمين قتلاً وذبحاً وتدميراً في معظم ديار المسلمين ؟ ! .
قضيّة أمريكا الحقيقية التي يريدون أن يقاتلوا من أجلها ، ويدّعوا كذباً قيماً مزَّورة لها ، هي مصالحهم المادية في الأرض ، ونهب الشعوب وإذلالهم ، و تسويغ امتداد سلطانهم عدواناً وظلماً . إن لهم قضيّة يأمرهم الشيطان ليقاتلوا من أجلها !
ونحن لنا قضيّة أمرنا الله أن نقاتل من أجلها ! إنها هذا الدين الذي أُمرنا أن نبلّغه للناس كافة وننشره في الأرض كلها ، ونقاتل كل من يصدّ عن سبيل الله ، ومن يفسد في الأرض وينشر فساده .
فلماذا تتمسك أمريكا بقضيّتها الباطلة الظالمة ، ثمّ تلبسها ثوب الديمقراطيّة المزيّفة حيناً ، وحيناً آخر تلبسها ثوب " النظام العالمي " ، وحيناً ثوب العولمة ، أثواباً متعددة لتخفي عوراتها ومساوئها ، ولكن تظل العورات مكشوفة ، فالثياب رقيقة جدّاً .
لماذا تتمسك أمريكا بباطلها وتدعو إلى القتال من أجله ، ونحن نُخْفي قَضيَّتَنا ونتنازل عنها ، ونستجدي السلام الذي لن يُعطى ؟!
كيف نتوقع السلام من هؤلاء وقد خبرنا مواقفهم وغدرهم سنين طويلة ؟ !
كيف نتوقع السلام منهم وقد حدّد " نيكسون " مفهومهم للسلام بقوله :
" لا نعني بالسلام حلّ المشكلة وتسويتها ولكن نقصد معايشتها "
فهم يريدون استمرار المشكلة حتى تبقى مصانعهم تعمل ، ويريدون استمرار ساحة الحروب حتى يُباع إنتاج مصانع الأسلحة ! يريدون استمرار هذا كله لاستمرار قضيّتهم الأولى والأخيرة ، ألا وهي مصالحهم المادية الدنيوية ومطامعهم في ثروات الشعوب ونهبها ! ليس لهم غيرها : هي الديمقراطية ، وهي النظام العالمي ، وهي العولمة !!!!
هم يريدون القتال ونحن نريد التعايش ! عجباً كلَّ العجب ! ونودّ أن نؤكد أنهم سيقاتلون ويفجرون مهما أردنا نحن التعايش معهم ، إلا أن تقف معهم في ظلمهم وعدوانهم ظالماً معتديا تعينهم على نشر الفتنة والفساد في الأرض .
(( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملَّتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم مالك من الله من وليّ ولا نصير )) [ البقرة : 120 ]
نعم ! لئن اتبعت أهواءهم ... !
... مالك من الله من وليٍّ ولا نصير !
2ـ الحوار : سبيله وجدواه :
والحوار ، كما يذكر الأساتذة ، خطوة نبيلة لإعادة طرح الأسس الأخلاقية ! ولكن هل قَبِلَ " الآخر " الحوار مع غيره ؟ ! كلما طلب ضعيف الحوار من القوي المتكبّر زاد القوي المتكبّر من بطشه وعدوانه واستكباره ! .(/1)
الأساتذة ، كما يبدو ، أحسنوا الظنّ بالفريق الأخر ، يأملون أن يُنهي الحوار لغة الصراع والتطاحن ! إنه أمل ضائع ! لأنهم متشبّثون بقضيّتهم وهي العدوان والظلم والاستعلاء ونحن نتنازل عن قضايانا . لن يوقفوا ظلمهم وعدوانهم أبداً ! إنه منهج حياة لهم ، ولن يسمحوا بمستقبل أفضل لأجيالنا الذين ينتظرون الكثير . إن مستقبل أجيالنا يتحقق بإصلاح أنفسنا نحن اليوم ، ومعالجة عيوبنا وأخطائنا . فما أصابنا الذل والهوان إلا بما كسبت أيدينا ، وأول ذلك التنازل بعد التنازل في مسلسل استمر أكثر من قرن !
إذا أراد الإِخوة الأساتذة أن نقيم مشروع حوار مع هؤلاء وأن ندعو جميعاً لمشروع حوار نقدّمه لعالمنا تحت مظلة العدل والأخلاق والحقوق ، مبشرين العالم بمشروع يصنع الخير له ، كما يذكرون في المذكرة المشار إليها ، فليس هناك إلا مشروع واحد : أن ندعوهم إلى الإسلام دعوة واضحة جليّة صريحة ، بعد أن نكون نحن التزمنا الإسلام في فكرنا ورأينا ومواقفنا ، مجاهرين بذلك ، رافضين الفتنة والفساد والعدوان ، عدوان القوي على الضعيف ، صريحين بما ندعو إليه وبما نرفضه وننكره ، ثابتين مجاهدين غير متنازلين .
يرى الأساتذة أننا نملك نحن وهم أهدافاً مشتركة ! كيف تنشأ الأهداف ؟ ! إِنها تنشأ من رسالة القوم في الحياة ومن قضيتهم التي يريدون القتال من أجلها . إن جميع أهدافهم تلتقي في هدفهم الكبير : المصالح المادية الدنيوية التي لا يرضون التنازل عنها ولا الحوار حولها ، والتي يقاتلون من أجلها ، ومن أجلها يعلنون القتال في دراستهم " على أي أساس نقاتل " ! وأهدافنا محدّدة في ديننا أمرنا الله بها ، وجعلها عهداً أخذه علينا ، وأمانة نحاسب عنها ، وعبادة خُلقنا لها ، وخلافة جُعِلتْ لنا ! أهدافنا هذه كيف تلتقي مع أهدافهم ؟! .
إن السبب الأول لصراعهم معنا هو قناعتهم التامة التي تولّدت لديهم خلال أكثر من خمسة عشر قرناً ، أنه يتعذّر التفاوض مع هذا الدين كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم يريدون الفتنة والفساد في الأرض ، والإسلام يمنعهم من ذلك ، يريدون أن يصدوا عن سبيل الله ، والإسلام يدعو إلى سبيل الله ، إلى الإيمان المتكامل والنهج المترابط . ولقد مضت القرون الطويلة تحمل الأحداث التي كشفت عن حقيقة ما في صدورهم ، فوجدوا أن الإسلام كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم يقف حاجزاً صلباً أمام أطماعهم وعدوانهم وظلمهم ونهبهم خيرات الشعوب .
لم يتردّدوا أن يلقوا بالقنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي عندما تعرّضت مصالحهم لأدنى خطر . لم يتردّدوا بارتكاب أبشع جريمة وأقسى عملية إبادة جماعية عرفها التاريخ . لم يتردَّدوا بارتكاب أبشع الجرائم في مختلف أنحاء العالم إذا اقتضت مصالحهم ذلك .
إننا لا نملك أهدافاً مشتركة إلا حين نتخلى عن هدفنا الأول والأكبر وهو ديننا كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، دون تأويل فاسد لنطوّع الآيات والأحاديث على أهواء الواقع وضغوطه .
أعجب كيف يجهرون بديمقراطيتهم ونظامهم العالمي وعولمتهم وبما فيها من ضلال وفساد ، ونحن لا نجهر بالحق الذي جاء من عند الله ؟ ! .
أعجب كيف يجرؤون على دعوتنا إليهم ، ومشاركتهم أهدافهم ، والوقوف معهم في حربهم ، ويجرؤون على دعوتنا إلى ديمقراطيّتهم وأنظمتهم ومذاهبهم ، ونحن لا نجرؤ أن نصدع بما أمرنا الله به ، فندعوهم صراحة إلى الإسلام ، إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، دعوة جليّة بيّنة ، لننهي حالة التردّد والمساومات والتنازلات !
إنها الدعوة المباشرة لرؤسائهم وقادتهم ليدخلوا الإسلام ! إنها الدعوة الصريحة التي أمرنا الله بها ، ندعوهم إلى هذا الدين بالحكمة والموعظة الحسنة ، ونبذل الجهد الحق لتتألف قلوبهم على هذا الدين العظيم ، ففيه وحده نجاتهم في الدنيا والآخرة .
كيف ندخل في حوار مع الناس حول قضايا جزئيّة يسمّونها أهدافاً مشتركة ولا ندعوهم إلى الله ورسوله ، إلى دين الإسلام الذي لا يُقْبلَ من أحد غيره ، ونتركهم ليهلكوا إن ماتوا على غير هذا الدين ؟ !
كيف نعتبر أنفسنا مسلمين مؤمنين بالله ورسوله ، مؤمنين بأن هذا الدين هو الدين الحق ، وأن الله لا يقبل من أحد غيره ، وأن من مات على غير دين الإسلام فقد هلك ، كيف نعتبر أنفسنا حملة رسالة الإسلام إلى الناس كافة ، ثم نرى الناس يتهاوون في نار جهنم كافرين أو مشركين أو منافقين ولا نسرع لإنقاذهم من هلاك محقَّق ؟ !(/2)
أليس الواجب الشرعيّ علينا أن نطيع الله ورسوله ، فنبلّغ دعوته ورسالته ، أَليس الواجب الذي يفرضه العقل أيضاً أن نسعى جهدنا لإنقاذ الناس ! أليس الواجب الذي تفرضه المروءة والحق والعدل الذي نتغنى به أن نسارع لإنقاذ البشريّة من هلاك في الدنيا وهلاك في الأخرة ، وذلك بدعوتهم الواضحة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة ، لا بتغيير الأهداف ، ومحاولة استرضائهم وعدم الجهر بدعوتنا لهم . إنهم لن يقبلوا دعوتنا حين نعرضها على استحياء ، وحين نغفل القضيّة الأولى وننشغل بالجزئيات ، وحين نجعل من مصطلحات الحق والعدل مصطلحات عائمة ، بعد أن حدّدها الإسلام .
3ـ حقيقة تكريم الله للإنسان ! فبماذا كرّمه ؟!
نعم ! إن الله كرّم الإنسان وميّزه من سائر مخلوقاته بأن جعل له مهمة عليه أن يوفي بها في الدنيا ليحاسَب عليها في الآخرة ، وأخذ عليها العهد منه ، وأنعم عليه بنعم لا تحصى لتعينه على الوفاء بهذا العهد وهذه المهمّة، ولكن من الناس من ينسى تكريم الله له ، فيهبط بنفسه أسفل سافلين ، ويذهب بعض الناس بتكريم الله لهم بمعصيته ، حتى يكونوا كالأنعام أو أضلّ سبيلاً . إِن ما أنعم الله به على كل إنسان يظل تكريماً له مادام يسعى للوفاء بالمهمة التي خُلِقَ لها : العبادة والأمانة والخلافة والعمارة ، حتى إذا ابتعد عن الوفاء بهذه المهمة بعدم التزام شرعه ، فقد التكريم الذي كرّمه الله به ، وحلت عليه لعنة الله بنص القرآن الكريم.
ولكن من الذي أضاع تكريم الله للإنسان . إنهم هم وليس المسلمين بعامة .
وكذلك قوله تعالى : (( لا إكراه في الدين ... )) ! نعم ! هذا حق ! ولكنه لا يلغي واجب المسلم في أن يبلّغ دين الإسلام بكل الوسائل التي شرعها الله ، وأن يمضي بهذه المهمة عسى الله أن يهدي به الناس . ومسؤولية تبليغ الدعوة واجب المسلم من ناحية وواجب الأمة كلها .
أما إقامة العلاقات الإنسانية على أساس الأخلاق الكريمة في الإسلام ، فهذا حق ! ولكن مفهوم الأخلاق لا يعني العجز والضعف والاستسلام . وأساس التعامل في الإسلام هو العدل والبر ، ولكن العدل والبر يتحدد بشرع الله وهو قوي . والاستشهاد بالآية الكريمة : (( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ... )) ! فمن هم هؤلاء الذين لم يقاتلوا المسلمين ولم يخرجوهم من ديارهم ؟ ! كيف نطوي مذابح المسلمين التي قام بها هؤلاء مباشرة أو أشرفوا عليها أو دفعوا إليها ؟ ! وبصورة عامة فإن ممارسة هذه الآية الكريمة تصدق والإسلام يحكم وشرع الله يطبّق !
4ـ بالحكمة والموعظة الحسنة :
أما ما ذكر عن " الحوار والدعوة بالحسنى " فحق ، ولكن الاستشهاد بالآية التي ذكرها : (( ادع إلى سبيل ربك ... )) ، كان يتطلب الاستشهاد أيضاً بالآية من سورة العنكبوت :
(( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون )) [ العنكبوت : 46 ]
يظل التركيز عند من يثير هذا الموضوع على قوله سبحانه وتعالى (( بالحكمة والموعظة الحسنة )) دون أن يذكروا آية سورة العنكبوت التي فيها الإعلان الصريح والمجاهرة بالإسلام وبأنهم هم الذين خالفوا ما أنزل إليهم من ربهم . ودون ذكر أول الآية : " ادعُ إلى سبيل ربّك ... " ! إذن الدعوة هي القضيّة الأولى وهي محور الآية الكريمة هذه وتلك !
5ـ أحداث الحادي عشر من شهر أيلول " سبتمبر " سنة 2001م :
إن أهم ما نود قوله هنا أنه حتى الآن لم يُقَدَّم دليل قانوني على إدانة أحد في تلك الأحداث . كل ما قيل : نعتقد ، نظن ، وربما ، يحتمل ، وغير ذلك مما لا يصدر بموجبه حكم ولا يتخذ إجراء . ولكن أمريكا ظنّت فاتهمت فقررت ونفذّت عقوبة مريعة وارتكبت جرماً عظيماً ، ووجّهت الاتهام إلى الأموات وإلى الذين هم في أعمالهم ، وإلى آخرين بصورة عشوائية ، اختفت فيها كل موازين العدالة وحقوق الإنسان .
والاستشهاد بالآية الكريمة من سورة [ المائدة : 82 ] (( ... الذين قالوا إنا نصارى ... )) وبدراسة هذه الآية والآية التي تليها يتبيّن لنا أمران أساسيان :أولاً : أن هذه المودة تظهر منهم . ثانياً : أنها تظهر عندما ندعوهم إلى الإسلام دعوة صريحة واضحة ، كما يتضح من الآية (83) : (( فإِذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ... )) هذا هو الود الذي تشير إليه الآية الكريمة ، وليس ود التعامل الدنيوي بعيداً عن تبليغ الدعوة لهم ، لتكون الدعوة ويكون الدين هو الذي يحدد التعامل كله .(/3)
ويقول الإخوة الأساتذة : إن النظم والتشريعات التي جاء بها الإسلام تؤسس لحياة مستقرة للمؤمنين وغير المؤمنين . وإن هذا القول على إطلاقه خطأ واضح . فالإسلام يؤسس لحياة مستقرة للبشرية كلها عندما يخضعون لشريعته وأحكامه وسلطانه دون أن يُجبروا على ترك دينهم . فإذا لم يخضعوا لشريعة الإسلام وسلطانها ، فكيف يكفل الإسلام استقرار من لا يخضع له ، أو يتآمر عليه ، أو يعاديه ويحاربه .
والاستشهاد بقوله سبحانه وتعالى:(( .. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .)) فهذه الرحمة هي بالرسالة التي يحملها ويبلغها لهم ، فإن آمنوا واتبعوا نالتهم الرحمة ، وإذا صدّوا وأبوا فكيف ينالون الرحمة ؟ ! الرحمة هنا دين الإسلام وهدايته وشريعته .
6ـ بين عدم إكراه الناس في الدين وبين تركهم دون دعوة وبلاغ :
يكثر بعض الناس الاستشهاد بالآية الكريمة : (( ... لا إكراه في الدين ... )) ! نعم لا إكراه في الدين ، فالله لا يقبل من أحد إيماناً لم يدخل قلبه وانحصر على لسانه . فلا بد أن يكون الدين والإيمان به قناعة ذاتيّة تملأ القلب . ومن أجل ذلك تنطلق الدعوة الإسلامية في الأرض لتبلّغ رسالة الله بوضوح وصدق وإلحاح ، لإنقاذ البشرية كما ذكرنا قبل قليل . كيف يرضى المؤمنون أن يروا الناس تتهاوى في نار جهنم دون أن يبذلوا قصارى جهدهم لإنقاذهم ، فيسترخون تحت ادعاء : (( لا إكراه في الدين ... )) ! وإذا كان الأمر كما يتوهمه بعضهم ، فلماذا خاض الرسول صلى الله عليه وسلم الغزوات والمعارك والحروب حتى امتدّ الإسلام ودخل الناس فيه أفواجاً ، ولماذا ظلَّ يلحّ بالدعوة والبلاغ ، وظلّ كذلك الصحابة رضي الله عنهم ، والدعاة الصادقون على مرّ العصور . دعوة وبلاغ وإلحاح وجهاد في سبيل الله .
إن الأمر على غير ما يتوهمه بعضُهم . إن مسيرة الدعوة الإسلامية نهج متكامل وخطة مترابطة ، لا تأخذ بنصف آية هنا ، وبربع آية هناك . إنه نهج يحمل نظريته ودربه وصراطه المستقيم وأهدافه الربانيّة المتماسكة ، ومراحله ، ولكن ليس فيه تخاذل ولا تنازل عن شيء من أمر الدين .
وليس من الحق أن نحمّل الآيات والأحاديث ضعفنا وعجزنا وهواننا ، لنضع الآيات والأحاديث في غير محلها ، فلا نحقق بذلك رضاء الله ولا نبلغ رضاء الأعداء .
وكذلك القول : " إن الولايات المتحدة لو اعتمدت العزلة ... فليس يعنينا أن تكون ديمقراطية أو علمانية أو ... " ! كيف يكون ذلك ؟ ! نحن نحمل أمانة عظيمة يجب أن نوفي بها لأننا محاسَبون عنها بين يدي الله . ولو قبلنا من الولايات المتحدة عزلتها ، فهذا يعني أننا نحن كذلك اعتمدنا العزلة ! ولكن الله لا يرضى لنا ذلك ، ولا العهد الذي أخذه منا . إنا حملة رسالة يجب أن نبلغها ، ويجب أن نوضح لمن ندعوه حقيقة مخالفته للإسلام ، وما يصيبه لو بقي على ذلك . إنها قضيّة خطيرة جداً بل إنها أخطر قضيّة في حياة البشرية كلها على مر العصور .
المسلمون مكلفون بحمل هذه الأمانة . وإن الإسلام ليس قومية ينغلق المسلمون عليها . إنّه حق البشريّة كلها ، وفي التقصير في الوفاء بها إثم كبير ومعصية وإساءة للناس جميعاً .
7ـ لمن الإسلام ؟ !
تظل هذه الكلمة هنا تمضي على النسق السابق كله ، نسق يوحي بأن الإسلام دين لنا نحن المسلمين اليومَ بخاصة ، فانظر إلى هذا التعبير : " ... ويصعب أن تتكون دولة جادة ومحترمة لشعبها في البيئة الإسلامية دون أن تتبنى أحكام هذا الدين ... " ! الدولة الإسلامية هي التي تكون مكلفة بتحقيق شريعة الله في الأرض كلها لإنقاذ البشرية وليس في البيئة الإسلامية الخاصة وحدها. إنه دين للبشريّة كلّها وحُمّلتْ الأمّة المسلمة مسؤولية تبليغ رسالته للناس كافة ،والجهاد في سبيل ذلك ، وإقامة أحكامه في الأرض . وهذه الحقيقة ـ تبليغ رسالة الله لتمتد في الأرض كلها ويخضع الناس لأحكامه لينقذوا أنفسهم ـ هي أساس تنظيم العلاقة مع شعوب الأرض وأُممها .
والقول : " وليس من شريعتنا أن نلزم الآخرين بمفاهيمنا الخاصّة ... " يحتاج إلى وقفة . ذلك لأن ما لدينا ليست " مفاهيم " وليست " خاصة " . إنها دين للناس جميعاً . إنها وحي من عند الله حق مطلق للبشرية ، وحين يحكم الإسلام ، فمن كان تحت حكمه وسلطانه ، يبقى على دينه إن كان من أهل الكتاب ، ولكن يخضع للإسلام وشريعته وسلطانه ، وعليهم أن يكون ولاؤهم لهذا الدين ولدولته ، لا يخونونها ولا يوالون أعداءها ، حتى يكونوا في ذمة المسلمين .
إذن ليست القضيّة مفاهيم خاصة . إنها ربانيّة للبشرية كلها ، اختار الله المؤمنين الصادقين ليحملوا هذه الرسالة كما حملها محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته ، وليمضوا على نفس النهج الذي انتهجوه ، مدى الدهر كله ، يدعون إِليه الناس كافّة .(/4)
وليست القضية كذلك : " شرح رسالة الإسلام ... " ! إن هذا التعبير لا يحمل حرارة الدعوة الإسلامية ، حرارة محاولة الإقناع ، وحرارة الحرص على إنقاذ الناس ، وحرارة وعي المسؤوليّة التي يحملها الدعاة إلى الله ورسوله ، كما حملها الدعاة الأولون ، حرارة الحرص على إخراج الناس من الظلمات إلى النور ، حرارة الوعي لتكليف الله والخشية من عذابه .
نحن نفرح اليوم حين يقول أحدهم كلمة طيبة عن الإسلام أو المسلمين ، كأن يذكر علماء المسلمين ودورهم الحضاري . نفرح بذلك كأننا حقّقنا مهمتنا وأوفينا رسالتها . ليست القضية أن يذكروا علماءنا وديارنا وما شابه ذلك ، القضيّة أن يؤمنوا بالله ورسوله وبدين الإسلام بتكامله . إنها قضيّة الإيمان والتوحيد الذي يجب أن نسعى إِلى أن ندخله في قلوبهم لإنقاذهم . مسؤوليّة ممتدّة مع الزمن كله .
إن الضعيف المتراخي لا يستطيع أن يُقنع الناس بعظمة هذا الدين . إننا يجب أن نملك أسباب القوة ، ليستقيم فقهنا اليوم مع الكتاب والسنة . إن كثيراً من الكلمات اليوم تخرج وهي تحمل الوهن والضعف ، فلا نبلغ بها القلوب ولا المسامع . إن تبليغ هذا الدين ودعوة الناس إليه ليس عملاً آنياً ، ولا هو مجرد لقاء وحوار وكلمات ، ولا مجردّ قتال وصراع إنه نهج وخطة شاملة ممتدة .
8ـ الإرهاب والتطرّف :
القول بأنَّ الغرب يتحدثون كثيراً عن مشكلة الإرهاب والتطرّف . يحتاج إلى وقفة . فما زال معنى الإرهاب ومعنى التطرّف غير واضحين . وكأننا نتهم أنفسنا بالإرهاب ، ونتهم أنفسنا بالتطرّف والمغالاة ، ويخرج منا من يدعو إلى الوسطيّة ، فيختلط الأمر على الناس : ما هو التطرّف ؟ ! ماهي الوسطية ؟ !
ليس في الإسلام تطرّفٌ ولا مغالاة . فكل من التزم الإسلام عن علم ووعي ، وكان معه حجته الصادقة ودليله من الكتاب والسنّة ، فهذا هو الوسطية . فالوسطية هي التزام منهاج الله ، ومباح للمسلم أن يكون داخل هذه الدائرة ـ دائرة منهاج الله ـ في حدودها التي حددها الله سبحانه وتعالى. فحيثما كان فهو في حدود الوسطية التي أرادها الله ، لا سواه ، لعباده المؤمنين وللناس كافة ، وليست الوسطية وسطيّة الصناعة البشرية .
الإسلام ميدان ، يجول المسلم فيه بإيمانه الصادق وعلمه الحق ووعيه ، فإذا خرج عن حدود هذا الميدان فقد ترك الوسطية . للمسلم حق أن يجول في الميدان وأن يفكر ويتعامل مع الأحداث بإيمان وعلم في حدود مسؤوليته ووسعه .
لقد أصبح اليوم من يدافع عن أرضه أو دينه أو عرضه إرهابيّاً ومتطرّفا، والذين يعتدون على الديار والأعراض والدين ليسوا إرهابيين ! إنهم هم الإرهابيون المتطرفون الذين ملؤوا الأرض ظلماً وظلاماً .
إننا أصبحنا نستحي مما يأمرنا به الله ، ونخاف أن نجهر به ، ونبحث في تلافيف العقول عن مسوّغات للخوف والحياء الذي لا مسوّغ له . فالله سبحانه وتعالى يقول :
(( وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ... ))
يكاد كثير من المسلمين يودون لو يُخْفون هذه الآية العظيمة الكريمة حتى لا يُتّهموا بالإرهاب !
إن ضعفنا الذي صنعناه بأيدينا وبتخاذلنا ، والهوان الذي جعلنا منه قيودنا ، أقعدنا عن الجولات التي يأمرنا بها الله .
إن المسلم لا يمكن أن يكون ظالماً معتدياً ! ولكن أولئك هم الظالمون : (( لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمّة وأولئك هم المعتدون )) [ التوبة : 10 ]
من يريد استئصال الإرهاب ؟ ! أيعقل أن يسعى إلى ذلك الإرهابيون الظالمون المعتدون ؟ ! إنهم هم الإرهابيون الظالمون الذين ينشرون الظلم والعدوان والجريمة بظلمهم ، فكيف يدَّعون محاربة الإرهاب ؟! .
ولا بدّ من وقفة مع قول الإخوة : " إذا كان الهدف استئصال الإرهاب ... بل السلام العالمي وهذا ما يبحث عنه العالم في فلسطين وغير فلسطين . "
ألم يسمعوا ما قاله نيكسون وزعماء الغرب واليهود من أنهم لا يعنون بالسلام حل المشكلة ولا إنصاف الناس ، ولكن يقصدون التعايش مع المشكلة التي يثيرونها ويصنعونها ويظلون يضعون الوقود في لهيبها ! أهؤلاء يريدون السلام ؟ ! كلا ! ثم كلا ! إنهم يريدون الحرب والعدوان والظلم والفتنة والفساد في الأرض كلها . إنهم لا يريدون السلام ولكن المستضعفين في الأرض هم الذين يحلمون بالسلام وهماً يصورة ضعفهم وهوانهم !
ليس أمام المسلمين اليوم إلا أن يستيقظوا فيدرسوا أخطاءهم وعيوبهم دون كبر وغرور ، ثم يعالجوها ، ثم يعدوا العدّة وهم صف واحد كالبنيان المرصوص ، ليرهبوا عدو الله وعدوّهم وآخرين من دونهم ، بعد أن يلتزموا الإسلام كله نهجاً متكاملاً مترابطاً ، وبعد أن يعرفوا حقيقة التكاليف الربانيّة كلها.عندها يكون الله مع المؤمنين ، هو وليّهم وهو ناصرهم .(/5)
أين السلام العادل في فلسطين ؟ ! هل السلام العادل أن يأتي شذاد الآفاق الذين لا علاقة لهم بفلسطين ، فيحتلوا البلاد ويطردوا أهلها منها ، ثم تدور المساومة على رقعة صغيرة منها ليجعلوا منها دويلة ؟ ! دويلة لا تملك جيشاً ولا مالاً ولا تدخلا في السياسة ؟! دويلة تابعة كلها لليهود ، كما تتبع أي ولاية أخرى فيها ، ويكون لليهود السلطة والحكم والسياسة ، وللمسلمين فيها التبعية والإذلال فقط ، كما رأينا عندما حوصرت رام الله ، وحوصر رجال الدولة الفلسطينية ، حتى رأى العالم كله أن اليهود هم السلطة والدولة والحكم ؟!
السلام العادل أن تعود فلسطين كلها للأمة المسلمة التي هي صاحبة الحق فيها ، كما ينصّ على ذلك دين الله ، بنصوص لا أدري لماذا لا تُعلَنُ على العالم ، ولماذا لا نطالب بفلسطين كلها حقّاً خالصاً للإسلام ؟! فهذا هو السلام العادل الذي يأمر به الله .
9ـ ماذا يريدون ؟!
إن الظالمين في الأرض لهم نهج واحد نلمسه في التاريخ كله ، وفي الحاضر ، و سنلمسه في المستقبل . إنها سنّة الله التي يبتلي بها عباده .
إنهم لا يريدون محاربة الإرهاب . وإنهم يريدون أن يحاربوا كلَّ من يحارب إرهابهم ولا يخضع لهم . وإنهم وجدوا من خبرتهم الطويلة مع الإسلام الذي أُنزل على محمد صلى عليه وسلم ، أنهم لا يستطيعون أن يحاوروا ولا أن يساوموا هذا الدين . فهذا الدين يقوم على حقائق ربّانيّة ثابتة ، يحملها المؤمنون الصادقون ليبلِّغوها إلى الناس كافّة وليلتزموها هم والناس . فهي ليست موضع مساومة . إنها موضع إِيمان والتزام ودعوة .
لذلك عرفوا أن الإسلام الحق كما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لن يرضى بالظلم ولا بنهب الشعوب وإفقارها ، ولا بالعدوان ، وعرفوا أَن له ميزاناً ثابتاً للعدل والحق ، يعتمده المؤمنون ويزنون به جميع القضايا . فلم يعد أمام الظالمين في الأرض إلا إضعاف المسلمين ، أوفتنتهم عن دينهم ، أو تحوير دينهم ليخرجوا للمسلمين ديناً جديداً ، ومصطلحات جديدة ، بقلبون بها الأمور رأساً على عقب .
هذا ما أقرَّبه نيكسون في كتبه الثلاثة الأخيرة ، وهذا ما يسعون إلى تنفيذه في العالم الإسلامي ، حين أكد نيكسون في كتابه " نصر بلا حرب " : إن الإسلام هو الخطر الحقيقي علينا ، المسلمون يريدون أن يطبّقوا مبادئهم التي لا تطاق . وفي بلادهم اليوم عاصفة لا نستطيع مقاومتها والوقوف في وجهها ولكن نستطيع أن نحرفها ونغيّر اتّجاهها " .
وفي كتابه " اغتنام الفرصة " يقول : " ليس من مصلحتنا الدخول في حرب مع الإسلام ولكننا نستطيع أن نستفيد من المعتدلين فنغذيهم ونمدُّهم بالإعلام والمال والفكر ولنقدّم تصوّراً جديداً ... "
هؤلاء عصبة واحدة التقوا على مصالح مادية دنيويّة يعبدونها من دون الله . من أجلها يصادقون أو يعادون أو يقاتلون أو يسالمون . ومن أجل المضيّ في أهدافهم الإجرامية التقوا على معاداة الإسلام الذي يقف أمام جرائمهم وظلمهم وعدوانهم ووضعوا من أجل ذلك خطة ونهجاً كعادتهم في كلّ أمر يسعون إليه ، لا يسعون إليه إلا بنهج وخطة وكان من خطتهم أن جعلوا من فلسطين قاعدة لجميع عملياتهم السرِّية والعلنية من أجل خطتهم ، بل جعلوا منها أهم قاعدة ، وبعد أن سلموها إلى اليهود الصهاينة في غفلة من المسلمين . والتقى على ذلك اليهود الذين حرّفوا التوراة ثم لم يتبعوها ، بل اتبعوا فسادهم وأهواءهم باسم التوراة ، والنصارى الذين حرّفوا الإنجيل ، ثم لم يتِّبعوه واتَّبعوا أهواءهم وشهواتهم ومصالحهم ، ولكن باسم الدين كلما لزم الأمر ، يتاجرون به ، ويخدّرون العامة من الناس بكل وسائل التخدير كالديمقراطية وأمثالها ، وزخارف الشعارات الكاذبة مثل : " حقوق الإنسان " ، و " الأمومة " ، و " رعاية الطفل " ، وغير ذلك .
إذن فلسطين قاعدة أساسية لعدوانهم المشترك على العالم الإسلامي ، في نهج وخطة شاملة ممتدة إلى زمن طويل ، فالهدف حجز الإسلام والمؤمنين عن أن يقفوا أمام مطامعهم في نهب الثروات والشعوب .
هؤلاء القوم لا يُفلح معهم مداراة ومجاملة وتنازل . كلما تنازلت زادوا في أطماعهم ودفعُوك إلى تنازل آخر . هؤلاء القوم لا ينفعهم إلا أن تكون قوّياً مثلهم أو أشدّ قوّة ، ترهبهم بها حتى يرتدعوا عن جرائمهم أو يهابوك .
هؤلاء القوم كانت أولى ضحاياهم شعوبهم الذين خدروهم بالحرّية المتفلّتة وما فيها من خمر وجنس ، وخدروهم بالزخارف ، وخدَّروهم بالفتات يلقونها لهم ، وخدروهم بكل وسيلة يبدعونها بين حين وآخر ، حتى يعزلوهم عن مصارحتهم واكتشاف جرائمهم ، وعن محاولة المطالبة بحقوقهم ومشاركتهم فيما يجنون من أرباح ونهب .
10ـ من هم هؤلاء ؟ !
من حيث الأساس إنهم المجرمون الظالمون المعتدون الذين وصفهم منهاج الله وصفاً كاملاً . وهم عصابة ممتدّة مع التاريخ البشري ، يمكن أن ينتسبوا كلَّ حين إلى جهة يلجؤون إليها أو مظلة يستظلونها ، مثل الدين ، المصلحة العامة ، الوطن ، القوميّة ، وغير ذلك .(/6)
وفي عصرنا الحديث اجتمعوا على مصطلح رئيس هو العلمانيّة ، وانطلقت منها العولمة ، بعد أن تخلّى النصارى عن دينهم الذي حرّفوه ونصّوا على ذلك في قوانينهم ودساتيرهم ، وبعد أن تخلى اليهود عن دينهم الذي حرّفوه تحت شعار الصهيونيّة ، ومع بقاء هؤلاء وهؤلاء يتاجرون بالدين كلما لزم الأمر ، ويطلقون الحركات التنصيرية والاستشراقية ، والجاسوسية ، ويغذونها بالمال والرجال . إنّ التقاء النصارى واليهود اليوم هو لقاء تحت مظلة " العلمانيّة " و" العولمة "، جاء لقاءً مفاجئاً ، بعد عداء تاريخيّ طويل جداً ، ابتدأ منذ أن بعث الله عيسى عليه السلام . فكان اليهود هم الذين كفروا بعيسى عليه السلام ، عادوا وضلّوا وانحرفوا والذين آمنوا كانوا مسلمين . والمسلمون الذين آمنوا بعيسى عليه السلام انحرفوا عن رسالة عيسى عليه السلام من خلال تاريخ امتدّ بهم إلى أوروبا ، امتداداً ساهم في انحرافهم وتفرّقهم شيعاً ، فكانوا هم النَّصارى من كاثوليك أو بروتستانت أو أرثوذوكس ، والفئة المسلمة أو الأقرب إلى الإسلام أبيدت .
هذا اللقاء العلماني جمع الأطراف كلها على مصالح مادّيّة مشتركة ، تحدد فيه أسس التعاون المنهجي وغنيمة كل طرف . من الأمور البدهيّة أن هؤلاء لا يمكن أن يتعاونوا إلا على توزيع للغنائم يرضي الجميع ، فلكل نصيبه المحدد . وبرز هذا اللقاء بشكل واضح مكشوف في قضية فلسطين ، حيث تعهدت أمريكا وأوروبا وروسيا على بناء دولة اليهود في فلسطين وحمايتهم ، تعهّداً أخذ صورته الدولية في جميع المؤسسات الدولية ، وأهمها هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ، وما يتبعهما من لجان ومؤسسات ، وأبيح لها تجاوز قرارات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن ، وطرحها وراء ظهرها دون مبالاة ،وأُبيح لها أن ترتكب أقسى الجرائم في فلسطين أمام أعين العالم كلّه ، وأبيح لها أن تملك أخطر أسلحة الدمار الشامل دون أي محاسبة ، والمسلمون لاهون قروناً عديدة .
إن بناء هذه الدولة اليهوديّة في فلسطين يمثل جزءاً رئيساً من النهج المتفق عليه بينهم ، لتحقيق الأهداف المقررة عندهم .
وعلى ضوء هذا التصور يجب أن يُبْنى الموقف والاتجاه ، وعلى ضوء الرسالة التي نحملها في الحياة .
11ـ تعايش أم قتال ؟!
على ضوء ما سبق يجب على المسلمين أن يُعِدّوا أنفسهم كما أمرهم الله أمّة مسلمة واحدة ، وصفّاً واحداً كالبنيان المرصوص ، وعُدّة كافية لترهب أعداء الله وآخرين لا نعلمهم يعلمهم الله . هذا ما أمر الله به .
لبناء حزب طريقة وأسلوب ، أما لبناء أمّة أو لجمع صفوفها لتُرَصَّ صفّاً واحداً ، فهذا له طريقة أخرى . الذي أمر به الله هو بناء الأمّة الواحدة ، والذي أمر به الشيطان هوالفرقة والتمزّق والعصبيات الجاهليةالمحرّمة، ولكل نتيجته في الدنيا وفي الآخرة .
فإذا قامت الأمة المسلمة الواحدة ، أو الصف المؤمن الواحد ، فإِنهم ينطلقون برسالة الله يبلّغونها إلى الناس كافة ، لتكون هذه قضيّتهم ورسالتهم التي يؤمنون بها ويلتزمونها ، ويدعون إليها ويبلّغونها ، ويتعهَّدون الناس عليها ، بالحكمة والموعظة الحسنة إلا الذين ظلموا منهم ، ومن أجل هذه القضيّة يسالمون أو يحاربون ، يتعايشون أو يقاتلون ، على نهج مدروس ، وخطة موضوعة ، نابعين من منهاج الله ، ملبّين حاجة الواقع .
الطريق واضح مشرق لا يتيه عنه طالبه أبداً ، ولا يحلُّ لنا أن نرمي عجزنا وضعفنا وهواننا على الإسلام ، وكلَّما تنازَلنا بحثنا عن فتوى من هنا وفتوى من هناك ، لنسوِّغ هبوطنا . إننا نخسر بذلك الكثير : نخسر رضاء الله ، ونشوّه رسالة الإسلام أمام الناس فلا يرغبون بها ، ونفقد مَهابَتنا في عيون الآخرين ، وتتوالى علينا الهزائم ، ونزيد ضعفاً على ضعف ، وذلة على ذلة ، وهواناً على هوان !
أَيها المسلمون ! الخطر محدق ! وباب النجاة والعزّة مفتوح ، والطريق ممتد مشرق ! فاستيقظوا وأفيقوا وانهضوا إلى الصراط المستقيم قبل فوات الفرصة !
12/4/1423هـ
23/6/2002م(/7)
وقفة مع الأحداث الأخيرة في فلسطين
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
نمرُّ اليوم بلحظات حرجة من تاريخ المسلمين بعامة وتاريخ قضيّة فلسطين بخاصّة ، لحظات تحمل معها أحداثاً متسارعة متتالية ، لا يكاد الإنسان يقوى على متابعتها ، ولا على تلمّس الرابطة بينها والهدف الذي تسير إليه .
ابتدأت الأحداث بالمفاوضات بين السلطة الفلسطينية واليهود في كامب ديفد في الولايات المتحدة تحت إشراف أمريكي . ويبدو أن موضوع المفاوضات كان القدسَ وعودةَ اللاجئين وأموراً أخرى . ثمّ توقّفت المفاوضات لعدم التوصل إلى اتفاق كما أُعلن ، وبقيت هناك تساؤلات كثيرة حول أجواء المفاوضات وما داربالسر بين الأروقة. وترددت وسائل الاعلام بين الإشارة إلى إمكان العودة وبين الإشارة إلى عدم العودة إلى المفاوضات .
وتوالت تصريحات اليهود مدوّية تحمل التحدّي والاستهتار بالمسلمين . فيقول باراك في تصريح له يفيد بأنه إذا لم تحقّق المفاوضات ما يريدون فإن المجابهة والسلاح والحرب تحقّق لهم ذلك . وآخر يصرّح ويقول ما يفيد بأنهم جاؤوا إلى فلسطين ليقيموا الهيكل على جبل الهيكل . ويصرّح " نتنياهو " بما يفيد بأن خلافهم مع الفلسطينيين ليس خلافاً حول " حدود " ، ولكن القضيّة قضيّة " وجود " . وتصريحات كثيرة تحمل الكبْر والتحدّي والاعتزاز بالقوة المتوافرة لديهم .
وكان موقف المسلمين في الأرض ، المسلمين الذين يتجاوز عددهم المليار أقرب إلى الغياب منه إلى الحضور ، وأقرب إلى الضعف منه إلى القوة .
وتصاعدت الأحداث حين أعلن " أريبيل شارون " رئيس حزب " الليكود " اليهودي عن عزمه على دخول المسجد الأقصى ، بلهجة تشعر بالتحدّي والإصرار . ثمّ تخرج تصريحات من الجانب الفلسطينيّ تتحدَّى وتقول إِن هذا يُعتبَرُ استفزازاً ولن يَمُرّ بالسكوت .
ودخل شارون المسجد الأقصى مع مرافقيه يوم الخميس الأول من رجب سنة 1421هـ الموافق 28/9/2000م ، واستدعت حكومة " باراك " ألفين من جنود اليهود أو أكثر ، ودفعتهم إلى القدس لحماية شارون ، كما يَدَّعون ، ومقاومة أيّ ردود فعل تظهر للزيارة . ووقع الاصطدام بين الفلسطينيين العزّل وبين القوات اليهوديّة المدججة بالسلاح . وسقط القتلى والجرحى . وأخذت الأحداث تتصاعد ، وامتدّت إلى معظم أنحاء فلسطين : قطاع غزة والضفة الغربيّة , والأرض المحتلة سنة 1948م . وقامت المظاهرات في معظم أنحاء العالم العربيّ ، وقد بلغ عدد المتظاهرين في بعض الأقطار أكثر من مليون إنسان .
وبدأ اليهود يستخدمون أسلحة أشدّ فتكاً ابتداءً من يوم الأحد 4رجب 1421هـ الموافق 1/10/2000م, بدؤوا يستخدمون الطائرات المروحيّة وصواريخ " لاو " ، ويهدمون المنازل ومراكز السلطة الفلسطينية ، ويرمون القرى والمدن والسكان المدنيين بصورة وحشيّة إجرامية . وتصاعدت الأحداث بصورة سريعة ، وازداد عدد القتلى والجرحى ، وتوالت صور المآسي والفواجع ، وصور الإجرام اليهودي ووحشيّته . وتحدّث الإِعلام العربيُّ الإِسلامي والدوليّ عن ذلك ، وشَدَّ الجميعَ الصورةُ الوحشيّةُ التي صُرِعَ فيها الطفل محمد جمال الدرّة ، وهو يسير مع أبيه جمال الدرّة قرب مستوطنة " نتساريم " جنوب غزة ، وذلك يوم السبت 3 رجب 1421هـ الموافق 30/9/2000م ، حين انهال عليهما الرصاص كالمطر ، فاحتميا بزاوية ، واستغاث الأب بكلّ قواه ، بصراخه ، وبيده ، دون جدوى ، وازداد انهمال وابل الرصاص بصورة متعمّدة عليهما ، فقُتل الطفل ، وسقط في حضن أبيه ، وأصيب الأب في بطنه وساقه بعدة رصاصات جعلته فاقد القدرة ، مستلقياً على الجدار خلفه ، عاجزاً عن الحركة.
التقط المصور الفلسطيني طلال أبو رحمة،الذي يعمل مع وكالة الأنباء الفرنسية في غزة،عدة صورلمشهد الأب وابنه الطفل ،ومصرع الطفل.وكانت الصور مؤلمة وهي تعرض هذا المشهد المروع.
وتناقلت وسائل الإعلام كلها العربيّة والدوليَّة هذه الصور والحادث ، وأثار ضجّة عالميّة واسعة . وبدأ الأطفال يتساقطون برصاص اليهود ، وكذلك الفتيان والشباب والرجال والشيوخ .
ضجّت الدنيا لهذه الأحداث المفجعة ، وتداعى العرب إلى مؤتمر القمة على خلافات وتردُّد كشفت عنه الصحف . ودعت مصر إِلى مؤتمر " شرم الشيخ " الذي انعقد يوم الاثنين 19رجب 1421هـ الموافق 16/10/2000م لمدة يومين ، جمع السلطة الفلسطينيةواليهود وأمريكا وبعض الدول العربيّة في محاولة لاستعادة عملية " السلام " ! وتلا ذلك مؤتمر القمة العربي غير العادي الطارئ ، الذي عُقِِد في القاهرة يومي السبت والأحد (24و25) 1421هـ ، الموافقين : (21و22)تشرين الأول 2000م .
كانت رغبة العرب الملحّة هي الدعوة إلى السلام . وكانت رغبة اليهود التحدّي والاستكبار وقبول السَّلام الذي ينزل عند رغباتهم وأطماعهم .
ولا بدَّ من وقفة مع هذه الأحداث ، وقفة إيمانيّة ، تنبع من منهاج الله – قرآناً وسنة ولغة عربيّة - ، وتردُّ الأمور إليه .(/1)
لا بدّ أَن نُقِرّ أولاً أَنَّ كلَّ شيء لا يتمّ إِلا بقضاء الله وقدره ، وأنَّ قضاء الله حقٌّ لا ظلم معه أبداً . فما نجده اليوم من هزائم وهوان هو بما كسبت أيدينا . فعلينا – نحن المسلمين – أن ننظر في أنفسنا ، ونبحث عن عيوبنا وأخطائنا على أساس من مِيزان منهاج الله ، دون أن ننحرف مع الهوى .
إنَّ هذه دعوة واضحة أمرنا الله بها ، وإننا نوجهها إلى أنفسنا وإلى كل مسلم ، وإلى كل جماعة أو حركة إسلامية ، وإِلى المسلمين بعامة . لا بد من هذه الوقفة الإيمانية ، ومحاسَبة النفس ، ومعرفة الأَخطاء والزلل والانحراف ، ومن ثمّ معالجته معالجة إِيمانيّة . إن محاولة تغطية العيوب والأمراض بالمحاولات أو الغرور أو الكبر ، سيزيد من الهزائم والهوان في الدنيا ومن عذاب الله في الآخرة !
وإِنَّ خطورة الأمر لا تقف عند حدود قضيّة فلسطين . إنها تمتد إِلى سائر قضايا المسلمين اليوم ، وما فيها من هزائم وهوان . وإنَّها تمتدّ إلى أخطر من ذلك كله ، إِلى يوم الحساب ، إِلى الدار الآخرة ، إِلى يوم الحقِّ ، حيث لا يُغني مولىً عن مولى شيئاً ، ولا ينفع مال ولا بنون ، ولا أرحام ولا جاه ولا سلطان ، فالأمر كله يومئذ لله .
إن مما يجب أن نلاحظه،هي أن شارون لم يكن منفرداً بالرأي ولابالموقف،وإنماكان الأمر مرتباًومدبراًمن الحكومةاليهودية كلها،وممن يقف معها سراً أو علناً.ولا أدلّ على ذلك من أن باراك دفع بألفي جندي حماية لشارون أو زيادة في الاستفزاز.
ولم يكن شارون أول من يدخل المسجد الأقصى من اليهود.فقد سبق أن دخلت فتيات غير محتشمات, ودخل رجال ونساء من اليهود وآخرون. ولكن لم يكن يحدث ضجيج واصطدام مع كل زيارة. فهل أعددنا الخطة والنهج للتصدي والاصطدام ؟
وإن أول ما يتكشّف لنا من خلال الوقفة الإِيمانيّة أننا رفعنا شعاراً يقول إن فلسطين أرض مسلمة وإِن قضيتها إسلامية ، وأنها مسؤوليّة الأمة المسلمة كلها . رفعنا ذلك شعاراً فحسب ، لكن الميدان شهد أنّ القضيّة كانت وطنيّة إِقليميّة قوميّة ، وأنها لم تأخذ الصورة الإسلاميّة كما يُرِيدها الله ، وأَنّ الأمّة المسلمة كانت غائبة عن الميدان إلا من حيث العواطف ، وأنها أصبحت قضيّة الفلسطينيين يمدّهم العرب بالمال والإعلام والعاطفة ، والمسلمون بعامة يقدّمون العاطفة . إنَّ الإِسلام يقضي بأن القضية قضيّة كلّ مسلم ، قضيّة الأمة المسلمة كلها : شعاراً ونهجاً وميداناً وجهاداً .
وينكشف لنا كذلك أنه لم يكن هنالك خُطَّة ولا نهج لدى العاملين ، خطة تحمل الهدف والطريق الذي يوصل إلى الهدف ، والوسائل والأساليب ، والإعداد المبكر المتنامي . وكان العدو يتحرّك على أساس من نهج وخطة متكاملة تنظر إلى الأفق البعيد وتحمل الأطماع الممتدّة . ولم يسأل أحد عن الخطة والنهج ، وقبل الناس الشعاراتِ والعواطف وحدها ، حتى إذا مرّت السنون تبيّن أن الشعار والهدف في ناحية والمسيرة في ناحية أُخرى ، في صورة مفجعة كشفت عنها الهزائم المتتالية .
وإننا نؤمن أنه إذا التقى فريقان : فريق له نهجه وخُطَّته ووضوح أهدافه وطريق الوصول إليها ، وفريق ليس له نهج ولا خُطة إلا الشعارات ، فإنّ الفريق الأول يستطيع أن يحوّل جُهود الفريق الثاني لصالحه ، فلا يجد الفريق الثاني إلا الهزيمة والخسران . إنها سنّة من سنن الله أن العمل يحتاج إلى خُطّة واعية ونهج متكامل واع .
وتكشف لنا الوقفة الإيمانيّة أن صفّ الأعداء ، مهما اختلفوا على الغنائم أو اختلفوا في الاجتهاد ، فهم صفٌّ واحد متراصٌّ يتنافسون في البذل من أجل تحقيق أطماعهم وأهدافهم الإجرامية ، تجمعهم العَلمانيّة والإِجرام والإِفساد في الأرض والأطماع المتزايدة الممتدَّة . وأمَّا المسلمون الذين يُفْتَرضُ أنَّهم مسؤولون عن فِلسطين حسب دين الله وشرعه ، وأنهم محاسَبون على ذلك بين يدي الله ، فإنهم ممزّقون أقطاراً وشيعاً وأحزاباً ، كلّ حزب بما لديهم فرحون .
وتكشف لنا الوقفة الإيمانيّة أيضاً أَنَّ الفلسطينيين وحدَهم غيرُ قادرين على مجابهة دولة اليهود وما تملك من سلاح الدمار الشامل ، وما تملك من الدعم غير المحدود من الدول الغربيّة والشرقيّة بعامّة ومن أمريكا بخاصّة . وأن مثل هذه المجابهة محسومة النتائج حسب سنن الله الثابتة في الحياة الدنيا .
وتكشف لنا الوقفة الإِيمانيّة أن هنالك خللاً في واقع المسلمين لم تُبْذل الجهود لمعالجته ، وأن اول مظاهر الخَلل هو ضعف الإِيمان والتوحيد ، وعدم بلوغه المستوى الذي تتطلبه المعركة ويحتاجه الميدان ، وأنّ حبَّ الدنيا وكراهية الموت في سبيل الله غلبتْ على الكثيرين ، وأن الجهل بالكتاب والسنّة أوسع انتشاراً وأنَّ جهل الواقع أَعمّ ، وعدم ردّه إلى منهاج الله غلب وامتدّ ، وأنّ الأهواء ثارت والشعارات طارتْ والعواطف هاجت ، في صورة متضاربة متصارعة أَكلت كثيراً من الجهود .(/2)
وكذلك يتَّضح لنا بصورة جليّة أننا بدأنا مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نُعَالج قضايانا بما يمكن أن نسمّيهُ مسلسل التنازلات ، المسلسل الذي ابتدأ بالتنازل عن كلمة " الإسلام " شعاراً ومعنى ورفع شعار العروبة تهيج به العواطف والأناشيد التي تلغي الدين جهاراً نهاراً . وأصبح الشعار ينادي ألاّ تجتمع الأُمة على كلمة الإسلام ودين الله كما يأمر الله ، بل على كلمة العروبة وحدها لا تحمل نهجاً ولا فكراً ، ولا خطة ، وانتشر النشيد المعروف : " بلاد العرب أوطاني .... ، فلا دينٌ يُفرِّقنا ....." ! وانسلّت هذه الأفكار وتسلّلت إلى قلوب بعض المسلمين وإلى أفكارهم وعواطفهم وألسنتهم وامتدّ مسلسل التنازل منذ ذلك الوقت ، شيئاً فشيئاً ، من خلال نهج وخطة يمضي بها الأعداء ، حتى تحوّل النشيد إلى أناشيد إقليمية تخلت عن الإسلام والعروبة بين الحين والآخر ، مثل :" أنت سوريا بلادي ...... " ، ثم امتد التنازل ، إلى سوريا الشمالية ، وسوريا الجنوبية ، ثم فلسطين . وامتد التنازل إلى جزء من فلسطين ، ودار الخلاف بعد ذلك حول القدس ، ثم القدس الشرقية ، ثم المسجد الأقصى ، ثم جزء من المسْجِد الأقصى ، فإِلى أين ينتهي " مسلسل التنازل " ، الذي يوحي به مخطط الأعداء ونهجهم المدروس في غفلة من المسلمين الذين لا نهج لهم ولا خُطَّة .
ومن خلال هذا التاريخ كان الأعداء يبنون سلاحهم وصفوفهم ، ونحن لم نبنِ سلاحاً مثل سلاحهم ، ولا صفاً مثل صفّهم ، فكيف يخوض المسلمون المعركة وهم لم يرضوا الله سبحانه وتعالى ، ولم يستجيبوا لأمره :
" وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوّكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوفَّ إليكم وأنتم لا تُظلمون ."
[ الأنفال : 60 ]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
" واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تَفرَّقوا ........ " [ آل عمران : 103 ]
" ولتكن منكم أُمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون "
[ آل عمران : 104 ]
" ولا تكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم "
[ آل عمران : 105 ]
المعركة ممتدّة على مدى التاريخ بين الإيمان الحق الصادق وبين الكفر والشرك والنفاق . وما زالت ممتدّة حتى اليوم ، نرى فيها الغارةَ الشاملة والغزو العام على العالم الإِسلاميّ وعلى المسلمين في الأرض كلها أينما كانوا وعلى كل مسلم, غارة تحمل فتنة الفكر وفتنة فساد الأَخلاق والانحلال وسحق القيم ، وفتنة العلمانيّة بمذاهبها المختلفة ، وفتنة العلم المادّي المجرّد من الإيمان بالله واليوم الآخر ، وفتنة الصناعة المتطورة ، يَدعمُ ذلك كلَّه الحركات التنصيرية والشركات التجارية والمستشرقون ، وأجهزة مختلفة ، كلّ ذلك يكون ممهّداً للجيش الزاحف والسلاح المدمر المرهب ، ولقد أثّر هذا الغزو وانكشفت آثاره في واقع الأمة اليوم وتمزّقها وهوانها .
إِن مجيء اليهود إلى فلسطين تحت ادعاءات دينيّة كاذبة باطلة ، بدعم كامل من العالم العلمانيّ والاشتراكي ، لم يكن إلا جزءاً من هذه الغارة الشاملة والغزو العام ، لتكون دولة اليهود قاعدة الانقضاض على العالم الإسلاميّ كله ، ومتابعة الغارة والغزو . وسيكون هؤلاء الأعداء مجاملين يتظاهرون بالود وتقديم العون من بعض السلاح وغيره ، وكلّما تمكنوا من أمر كشفوا عن أنيابهم ونيّاتهم وجاهروا بأطماعهم في تلك المرحلة ، ويخفون أطماعهم الممتدة إلى مراحل مقبلة . وفي كل مرحلة يجاهرون مجاهرة العداء والتحدّي والاستكبار ، والإذلال ! وإننا لنرى هذه اللحظات معبرّة أوضح التعبير عن هذا الأسلوب الماكر والكيد القاتل .
ونخرج من ذلك بأنَّ ما نلقاه اليوم هو نتيجة طبيعيّة حتميّة لمرحلة سابقة ، وأن المرحلة السابقة نتيجة طبيعية لمرحلة قبلها ، وأن المراحل تمضي على سنن ثابتة لله ، وبما كسبت أيدي الناس ، وأن الله لا يظلم أحداً ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون .
ولقد غرّ بعض المسلمين ما لدى الغرب من زهوة علم مادّي ، فلم يكتفوا بأخذ بعض هذا العلم ، وإنما أخذوا معه الفكر الفاسد والمذاهب المضللِّة . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى لم يقدّموا للغرب و الشرق عظمة الإسلام دعوةً ربّانيّة مرصوصة الصفوف ، وبناء واحداً متماسكاً وإنما قدموا أطرافاً من الإِسلام من خلال تفرّق وفتن وصراع .(/3)
الجهاد في الإسلام نهج متكامل ، لا يصلح إلاّ أن يُطبَّق كله بصورته الربانية . فالقول عن جهاد يكون فرض عين وفرض كفاية ، هو مصطلح لا يعطي الصورة الإيمانية التي يعرضها الكتاب والسنّة . فالجهاد في سبيل الله بتكامله فرضٌ على الأمة المسلمة كلها ، يحمله نهج متكامل ، يحدّد دور كل فرقة أو طائفة ، حتى إذا انكشف ضعف موقع من المواقع وعدم كفايته لمنازلة الأعداء ، هبّت الأمة كلُّها هَبّةً منهجيّة إلى الميدان . ولا يحلّ للأمة المسلمة أن تفرّط بأيّ جزءٍ من بلاد المسلمين ، ولو استغرق إنقاذ ذلك طاقة الأمة كلها . وإن لم يفعل المسلمون ذلك ، وحرصوا على دنياهم، أتاهم عذاب الله في الدنيا وفقدوا دنياهم التي كانوا يحرصون عليها . والتاريخ شاهد على سنّة الله هذه ، وتاريخ الأندلس شاهد جليّ ، حين كانت تستعين مملكة مسلمة بأعداء الله ليحاربوا مملكة مسلمة أخرى ، فجاءهم قضاء الله الحق ، فذهب ملك هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء :
" ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثمّ لا تُنصرون . "
[ هود : 113 ]
وكذلك :
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودّوا ما عَنِتُّم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بيّنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . "
[ آل عمران : 118 ]
وحين نقول إن فلسطين حقُّ الإسلام والمسلمين ، فهذا حقٌّ يُثْبته منهاج الله ، والأنبياء والمرسلون كلهم في رسالاتهم قبل أن تحرّف . فما من نبيٍّ ولا رسول دخل فلسطين باسم عنصر أو دم ، وإنما دخلها باسم الإسلام رسالة وديناً وبلاغاً . ابتداءً من إبراهيم عليه السلام الذي لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان كما، وصفه القرآن الكريم، حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين وكذلك كان سائر الأنبياء والمرسلين ، سواءً أَتوا إلى فِلسطين أَم بُعِثوا فيها ، فكذلك كان يعقوب وإسحق والأسباط وموسى وعيسى ، والنبيون والمرسلون كلهم الذين خُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، بُعِثوا كلهم عليهم السلام بدين واحد هو الإسلام . وأَمَّهم محمد صلى الله عليه وسلم في المسجد الأقصى عندما اُسريَ به .
لليهود ادّعاء باطل ابتدعوه بعد أن حرّفوا كتابهم ، وملؤوا الدنيا بادعائهم الكاذب الباطل ، واستعانوا بالإعلام كله ، وجعلوه موضع استغلال ومساومة واتفاق مع العالم النصرانيّ العلماني ، وللمسلمين حقٌّ صادقٌ ثابت معه كلّ الحُجج من الدين الواحد ، ومن العقل والمنطق ، ومن التاريخ . ولكن المسلمين لم يجهروا بحقِّهم هذا كما جهر اليهود بباطلهم ، وجعلوا لحقّهم شعاراً غير الشعار الذي أمر به الله ، جعلوا من فلسطين قضيّة وطنيّة فحسب ، أو إقليمية أو قومية ، فتركهم الله إلى ما دعوا به .
وربما يسأل سائل فأين المخرج ؟! فنقول إنه ليس أمام المسلمين إلا سبيل واحد ومخرج واحد ، جعله الله من مسؤولياتهم أن ينهضوا إليه ، فإذا عرف الله فيهم صدق النيّة والعزيمة والنهوض ، أَمدّهم بعونه . إنّ هذا السبيل الوحيد هوالعودة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى ، يلتزمون بها شرع الله كما أنزله على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم ، وليعرف كل مسلم مسؤولياته والتكاليف الربانيّة التي سيُحاسبه الله عليها يوم القيامة . فإذا صحّت العودة وصدقت وجد الصادقون المتقون جميعهم أنهم أمام صراط مستقيم ليتّبعوه :
" وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتَّبعوا السبُل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون . " [ الأنعام : 153 ]
" اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربّكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكَّرون "
[ الأعراف : 3 ]
إنّ هذه العودة الصادقة تعني أن للهِ صراطاً مستقيماً غير معوجّ حتى لا يضلّ عنه أحد ، وأنه صراط مستقيم واحد فقط ليلتقي عليه المؤمنون المتقون الصادقون أُمّة واحدة ، وصفّاً واحداً كالبنيان المرصوص . أُمة مسلمة واحدة ، لها دين واحد ، وتعبد ربّاً واحداً لا إله إلا هو ، وتمضي على صراط مستقيم واحد لا سبيل لهم سِواه .
" قل هذه سبيلي أَدْعو إِلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبَعني وسبحان الله وما أنا من المشركين . "
[ يوسف : 108 ]
عندئذ يتنزّل النصر من عند الله ، ويُعِزُّ الله المؤمنين ، ويوفي بعهده لهم وقد أوفوا بعهدهم مع الله .
إنّ هذا هو السبيل الوحيد إلى فلسطين ، سبيل المؤمنين المتقين ، إنه السبيل الوحيد لحماية أطفال المسلمين ورجالهم ونسائهم وأعراضهم ، وكلّ ما وهبهم الله إِياه وجعله أمانةً في أعناقهم يحاسَبون عليها يوم القيامة !
والجهاد في سبيل الله ليس عملاً ارتجاليّاً ، ولا عملاً عاطفياً ، ولا رُدود فِعْلٍ آنيَّة ، ولا عملاً فوضوياً . إنه عمل منهجيّ ، عمل بناءٍ وإِعداد ، ونهجٌ متكامل مترابط الأجزاء ! إنه مسؤوليّة الأمة المسلمة المتراصّة !(/4)
ولكننا الآن نجابه واقعاً خطيراً نراه واضحاً على أرض فلسطين : أطفالٌ عزَّلٌ إلا من الحجارة ، مع شباب ورجال ونساء ، والعدوّ بدبّاباته وطائراته وصواريخه ورصاصه الحيّ والمطاطيّ والغاز المسيل للدموع ، والأطفال والشباب يتَساقطون صَرْعى كلَّ يوم في وحشيّة إجرامية من اليهود ، يهدّمون البيوت ، أو يحتلّونها ويطردون أصحابها ، والعالم كلُّه ينظر إلى هذه الجريمة المروّعة دون تحريك أي ساكن ، وحضارة العصر الحديث ، والعلمانيّة ، والمذاهب الأدبيّة الرمزيّة الحداثية والبنيوية ، والديمقراطيّة والاشتراكية ، كلّ الشعارات ، كلها لم تحرّك ساكناً ، ولم تُنقذ طفلاً ولا أرضاً ولا حقاً !
إن ترك الفلسطينيين وحدهم في الميدان على هذه الحالة من غير التكافؤ خطأ يجرّ على الأمة خطراً بعد خطر . فقد يجهض هذا الواقع القتال الدائر ، كما سبق أن أُجهض في ثورة سنة 1936م وغيرها من الثورات في فلسطين ، أو يؤدّي هذا الحال إلى مرحلة جديدة من مسلسل التنازل ، أو يُعرَّض كلَّ بلد عربيّ إلى خطر حقيقيٍّ عاجل أوفي المستقبل .
إننا لا نستطيع إلا أن نهيب بكل من هو في الساحة أن يُخلص نيّته لله ويحوّل عمله إلى جهاد صادق في سبيل الله ، ثم نهيب بالأمة كلها بأن ينزل إِلى الميدان من كل فرقة منهم طائفة ، حتى يستوفيَ الميدانُ قُدرتَه على الصمود والنصر !
فإذا لم يتحقّق ذلك ، فإننا نتساءل إِلى أين تتجه الأحداث ، وهل يدرك كل مسلم مسؤوليّته التي سيحاسَب عليها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم . وهل سيزداد عدد المشلولين والجرحى والقتلى ، وتنهار القدرة على حسم الأمر على الصورة التي ترضي الله سبحانه وتعالى :
" وما كان المؤمنون لينْفِروا كافَّة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفةٌ ليتفقّهوا في الدين ولينذِروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يَحْذَرون ." [ التوية : 122]
فالفقه الحقيقيّ في الميدان ، يعود منه المؤمنون المجاهدون لينذروا قومهم بالخطر الحقيقي من أعداء الله ، حتى يحذروهم ويُعِدّوا لهم .
ومن خلال هذه الأحداث الأخيرة ، برزت أَحداث الماضي في تاريخ قضية فلسطين وتاريخ الإسلام ، فعشت لحظات مؤلمة مع صور جمال الدرّة وابنه محمّد وهما يواجهان الغدر الوحشيّ المتعمّد ، في حضارة زائفة لا تجد فيها من يحاسب هؤلاء المجرمين المفسدين في الأرض، ولا من يصدّ فسادهم أو يوقف جرائمهم ، ويقف المجرمون في الأرض كلهم ، صفّاً واحداً يحمي الجريمة والوحشيّة !
استعرضت في ذهني تاريخاً طويلاً مليئاً بالملاحم ، فخرجت أَبيات من الشعر بعنوان : دُرَّة الأَقصى ، أوحت بها الصور التي التُقِطتْ للجريمة . وقد نشرت هذه القصيدة عدة صحف ومجلات منها : اليوم في السعودية ، صحيفة الخليج في الإمارات ، الشرق في قطر ، الصحوة في اليمن ، المجتمع في الكويت ،الحياة ، وصحف ومجلات أخرى .
ومع متابعة الأحداث أخذت القصيدة تنمو حتى أخذت صورة ثانية ، ثم ثالثة ، ثم رابعة ، ثم الصورة الخامسة ، ثم الصورة الأخيرة السادسة التي أقدمها هنا .
إننا ندعو الله سبحانه وتعالى أن يرحم الطفل محمد الدرّة وسائر الأطفال الذين صرعتهم وحشيّة حضارة العصر الحديث ، وأن يدخلهم جنّته شهداء عنده ، وأن يغفر ويرحم الفتيان والشباب والشيوخ والرجال والنساء الذين قتلوا في سبيل الله ، في فلسطين وفي غيرها من دار الإسلام . وندعو الله أن يشفي جمال الدرّة وسائر الجرحى بفضله ورحمته .
وندعو الله أن يتقبل عملنا هذا نديّاً برحمته غنياً بفضله . خالصاً لوجهه الكريم ، إنه هو السميع المجيب ، وهو الوليّ الحفيظ .(/5)
وقف الشريعة الإسلامية من الدَّين
د.سامي بن إبراهيم السويلم 15/10/1426
17/11/2005
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فهذه الدراسة محاولة لبناء موقف وتصور متكامل للتمويل بالدين في الاقتصاد الإسلامي. وهي لهذا الغرض تنطلق من ثلاثة أسس: المصالح والمفاسد المترتبة على هذا النمط من التمويل؛ والأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب؛ واستقراء عدد من الأحكام الفقهية المتصلة بالمعاوضات المالية.
وتنبع أهمية البحث في هذا الموضوع من جهتين:
الأولى أن الباحث لم يقف على معالجة مباشرة وشاملة لحكم الاستدانة في الشريعة الإسلامية، من المتقدمين أو المعاصرين. وموقف الشريعة المطهرة من الدين ليس مجرد حكمٍ شرعي، كما يتضح من البحث، بل هو مقصد من مقاصد الشريعة التي توجه السلوك الاقتصادي للمجتمع المسلم، فالحاجة إلى استقراء النصوص والأحكام الشرعية للكشف عن هذا المقصد الشرعي تظهر جلية.
الثانية: ما تعاني منه كثير من المجتمعات اليوم من استفحال المديونية، العامة والخاصة، الاستهلاكية والاستثمارية، وما يترتب على ذلك من اضطراب أدائها الاقتصادي واستقرارها الاجتماعي. وليس في الأفق، حتى الآن، ما يشير إلى انحسار هذا الاتجاه. بل المؤشرات تدل على عكس ذلك، بالرغم من كثرة التصريحات والوعود بتقليص المديونية. وقد ظهرت للعيان اليوم المساوئ الاقتصادية لهذا الوضع، مع الازدياد المطرد في عدد الدراسات التي تفصل هذا المساوئ من خلال النظرية الاقتصادية الوضعية. في هذه الأجواء تبدو الحاجة إلى التعرف على موقف الشريعة المطهرة من هذه الظاهرة ملحة على المستويين النظري والعملي.
ومن خلال استقراء المصالح والمفاسد الخلقية والاقتصادية المترتبة على الدين، وفي ضوء النصوص النبوية الواردة في هذا الباب، ومن خلال استقراء جملة من الأحكام الشرعية المتصلة بالمعاوضات المالية، تصل الدراسة إلى أن الشريعة الإسلامية لا تشجع على الدين ولا ترغب فيه، وأن أحد مقاصد التشريع في باب المعاملات هو الحد من التوسع في المديونية.(/1)
وقف لله
الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله أما بعد :
تميل النفوس إلى التجديد والإبداع، وتمل التكرار والوتيرة الواحدة، وهي سنة لله سبحانه وتعالى في الكون كله، فالماء إذا بقي ساكنا لا يتحرك يأسن ويتغير، ولو عقدت مقارنة بين منزل بني منذ عشر سنوات ومنزل فرغ منه الساعة لوجدت بينهما بونا شاسعا، وذلك أن النفس دائما تتطلع إلى التجديد والتغيير.والكتاب يحرص القارئ والمقتني له على أن يقتني الطبعة الجديدة منه، والتي تتميز بإخراج حديث.
وها نحن نرى أعداءنا الذين أصبحنا نستهلك سلعهم يستثمرون هذه الظاهرة في النفوس، فتراهم يطورون في موديلات المنتجات تطويرا في المظهر دون المضمون، ولكن هذا التطوير والتجديد يحظى بقبول الكثير، فيأسر المستهلكين ويشكل هذا الاختيار مطلبا أساسا قد يؤخر المرء قراره بشراء سيارة ما في انتظار مود يل جديد رغبة في التجديد والتنويع.
فالتجديد مطلب للجميع، ومسعى للكافة يتطلعون إليه ويطالبون به، ويقدِّرون إبداع صاحبه حتى ولو كان لا يعدو مجرد المظهر دون المضمون والجوهر.
إذا فإذا كانت النفوس تتطلع إلى التجديد والابتكار فلماذا لا يسلك الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى هذا المسلك؟ولماذا لا يكون التجديد مطلباً لهم فينوعون في أساليبهم وطرقهم ووسائلهم بما يكون محاطا بسياج المنهج، محصورًا في دائرة الشرع، فلا يسوغ أن يسلط التجديد على الثوابت الشرعية فيقضى عليها باسم التجديد والابتكار لكن حين يكون تنويعا وتشويقا فلا بأس، فالنفس تمل وتأس، ونحن نرى في تأريخ الحركة العلمية والفكرية في أمتنا أن الكثير من أسلافنا سلكوا هذا المسلك، فجددوا في التأليف، وجددوا في طرق التدريس، ولعل من يرصد الحركة العلمية والحركة الفكرية على مدى تأريخ الأمة يدرك ذلك واضحا ظاهرا.
وهذه المحاضرة هي محاولة لعرض هذا الموضوع بقدر من التجديد في الأسلوب دون المضمون، وفي طريقة المعالجة دون الأفكار والمنطلقات، وكل الطرق تؤدي إلى مكة.
إننا نطالب الناس دائما بمطالب ملحة تشكل عندنا قضايا أساسية، وعلى قدر حاجتنا لهذه المطالب وعلى قدر شعورنا بأهميتها سيعلو صوتنا فيها، وستتكرر مطالبتنا، وسيتكرر ندائنا، ولن يقف هاجس التكرار عائقاً لنا دون الإلحاح في المطالبة.
إننا أيها الأخوة ونحن نطالب بهذه المطالب الشرعية لسنا بأولى من الدائن الذي يطالب بدينه ويلح ويرفع صوته صباح مساء، إن مطلبنا أعظم وأبعد أثرا من مطلب صاحب الدين، إن مطلبنا هو المطلب الشرعي للناس أن يفيوؤا إلى الله جميعا ، وهي كلمة واحدة إليها ندعو وحولها ندندن ونرفع دائما أصواتنا يمنة ويسرة نطالب بالعودة إلى الله عز وجل، نطالب بالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، ونطالب بالعمل لهذا الدين والدعوة له، نطالب المسلمين جميعا أن يسيروا معنا في صف واحد وأن يسلكوا معنا القطار، ويخوضوا معنا المعركة في الفكر أولا، والعلم والحجة واللسان، والتي تهيؤ بعد ذلك للملحمة الكبرى في مواجهة الكفر وأهله وقادته.
إن من حقنا أيها الأخوة ونحن نرى أن مطالبنا مشروعة -بل نرى أنها تتصدر قائمة المطالب المشروعة-من حقنا أن نكرر مطالبنا، ومن حقنا أن نرفع أصواتنا، ومن ثم فقد نكرر كلاما كثيرا ولكن سنظل نكرر ونرفع الصوت حتى يستجيب الناس ويفيؤا إلى دين الله سبحانه وتعالى، هذه محاولة لنوع من المطالبة قد لا يكون ثمة جديد في المضمون في حقيقتها فهي حقيقة واحدة حولها ندندن وإليها ندعو لكن التجديد قد يكون في الأسلوب والمظهر.
يدرك أصحاب المبادئ والدعوات أن مبادئهم تتطلب منهم بذلا منقطع النظير وتضحية في النفس والنفيس، ويسعون بكل جهد لابتكار الوسائل والطرق وحشد الجهود لخدمة مبادئهم ومعتقداتهم، فهم يجمعون المال والتبرعات لخدمة دعوتهم ونشر معتقداتهم.
وكم نقرأ في الحديث والقديم أن الطائفة الفلانية جمعت كذا وكذا من المال، أو قررت توفير كذا وكذا لخدمة المبدأ والطائفة، وأحيانا تقام الحفلات والبرامج العامة ليصبح ريعها وقفا على جمعية إنسانية أو نحلة أرضية أو مذهب ضال.
وفي تأريخنا الإسلامي نقرأ في كتب الفقه الكثير عن الأوقاف التي ساهمت مساهمة فعالة في خدمة الحركة العلمية عل مدى تأريخ الأمة، فهذا وقف على المدرسة الحنفية، وهذا وقف على مدرسة شافعية، وهذا وقف على أهل الحديث والمشتغلين به، وهذا وقف للمشتغلين بالسنة ومواجهة البدعة.
إن نظرة عجلى في تأريخ المدارس وفي كتب الفقه تعطينا الدلالة على عمق هذه الظاهرة وأثرها في دفع المسيرة العلمية، ولقد كانت الحركة والنهضة العلمية التي سادت في هذه الأمة على قرون متطاولة تعتمد واعتمادا كبيرًا على هذه الأوقاف.(/1)
وفي الجهاد في سبيل الله عز وجل كان هناك من حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله سبحانه و تعالى، أو أوقف غلة أرض على المجاهدين في سبيل الله عز وجل، أو ريع منزل من المنازل على المرابطين.
وهكذا تقرأ كثيرا عن الأوقاف وأحكامها وما يتعلق بها، ويفيض الفقهاء في الحديث عنها، لأنها كانت ظاهرة سائدة منتشرة على مدى تأريخ الأمة، فالوقف يبقى شجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين، فيبقى أصله ويدر الثمرة، فهو من خير ما ينفق الإنسان، وأفضل ما يساهم به في سبيل الله عز وجل.
قد ينفق الإنسان مبلغا كثيرا من المال ويساهم هذا المال مساهمة فعالة في إطعام جائع أو مسكين، في نصرة مجاهد في سبيل الله عز وجل، في دعم برنامج دعوي أو مشروع إغاثي، في جلب خير للأمة، ولكن هذا يبقى مجرد مساهمة تنقضي مع انقضاء هذا المال، وما أسرع ما يزول، أما حين يوقف مال يبقى أصله ويدر غلته، فإنه يبقى خيره عميما بعد ذلك.
ولئن كان هذا شأن المال ودورة لدى كل صاحب دعوة ومبدأ.فهل صحيح أن بالمال وحده يستطيع الإنسان أن يحقق ما يريد؟قد يسوغ لأصحاب المبادئ الأرضية والدعوات الضالة أن يعتمدوا أساسا على المال فيشتروا قناعات الناس وضمائرهم ومعتقداتهم مقابل المال، ولكن ما يشرى بالمال يمكن أن يأتي من يساوم عليه والبيع لمن يزيد، والذي يبيع قناعته ومعتقداته بالمال على أتم الاستعداد أن يتخلى عنها حين ينقضي هذا المال.
أما نحن فحين نقول أن المال أساس وعصب مهم للدعوة إلى الله عز وجل فإنا لا نقول ذلك لأنا نرى أن يعطى الناس وأن تشترى معتقداتهم، وأن يحاسب بالدينار والدرهم على قناعته فهو حق (قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها) إنه حق واضح لا مجال للمساومة عليه نعم، قد يكون تأليف الناس مطلوبا والمؤلفة قلوبهم لهم سهم من الزكاة، لكن هذا شيء واشتراء ذمم الناس شيء آخر.
إذا ليس بالمال وحده فقط تنتصر الدعوات، فمع أن المال مطلب ملح وأساس لكن ثمة طاقات ومطالب أخرى بحاجة إلى أن يعتني بها، فهناك الطاقة الهائلة والجهد الذي لا يعوض الطاقة البشرية بكل فروعها ومجالاتها، إنها بحاجة أن تحشد لخدمة دين الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه، فهل نفكر في صنف من الناس وقف لله تعالى؟
نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى عن امرأة عمران (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) لقد أحست بالحمل، وخدمة دين الله عز وجل كانت تتصدر قائمة اهتماماتها وتطلعاتها، فنذرت حينئذ أن تقف هذا المولود على خدمة دين الله بأن يكون خادما للمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله و اختاره حينا من الدهر قبلة لمن يتوجه إليه في صلاته، إنها الأرض المقدسة التي أمر موسى بني إسرائيل أن يدخلوها، والتي سار بهم بعد ذلك نبي الله يوشع بن نون، إنها الأرض التي هاجر إليها إبراهيم عليه السلام، إنها الأرض التي أسري بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم منها، إنها الأرض المشهود لها بالفضل على مدى التأريخ، والتي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها موطن الطائفة المنصورة حتى تشهد آخر ملاحم الإسلام حين ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتل الدجال.ومن ثم فلا غرابة أن يوقف هذا الوليد على خدمة هذا المسجد.
واستجاب الله عز وجل لدعائها ولكن رزقها خير من ذلك كله، فلما وضعتها قالت(رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا)فاستجاب الله دعاءها فأعاذها وذريتها من الشيطان الرجيم، فكان الشيطان ينخس كل مولود فيستهل صارخا إلا مريم وابنها عيسى عليه السلام استجابة لدعوة هذه الأم الصالحة، استجاب الله عز وجل دعاءها فكان هذا الحمل أنثى وليس الذكر كالأنثى، ولكنها كانت أما لرسول من أولى العزم من الرسل، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، يحيي موتى الأبدان وقبل ذلك معجزته الأهم والأولى والتي أرسله الله من أجلها أنه كان يحيي موت القلوب ويخرج الناس من الظلمات إلى النور
ونقرأ في القرآن أيضًا عن بيع وصفقة مع أولياء الله عز وجل (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) لقد تم البيع ولا مجال للخيار، فالبيع والعقد لازم لاخيار، فيه فلا مجال لعيب أو تدليس أو خلابة يفسخ فيها العقد، فحينئذ ينبغي أن تبقى هذه النفوس وهذه الأموال وقفا لخالقها سبحانه وتعالى الذي أمتن علينا فأعطانا هذا المال، وأعطانا هذه النفوس وخلقنا، ثم اشتراها منا سبحانه وتعالى بثمن بالغ جنة عرضها السموات والأرض فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به إنه بيع رابح.(/2)
ويحكي الله سبحانه وتعالى عن طائفة ممن باعوا أنفسهم لله عز وجل في مقابل من استحوذ إعجاب الناس قولُه وعله خلاف ذلك(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد) في مقابل هذا المتفيهق هذا المتصافح، هذا الذي يستحوذ إعجاب الناس ويتظاهر بمظهر الإصلاح وهو يفسد، في مقابل هذا هناك من باع نفسه لله عز وجل (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد) ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم لصهيب حين باع نفسه لله:"ربح البيع أبا يحيى ربح البيع".
إذا فنحن نحتاج إلى من يكون وقفا لله تعالى في قلبه وتوجهه، فلا يتوجه قلبه لغير الله عز وجل، فيخلع من قلبه قصد سواه أو إرادة غيره، أو الميل إلى ما لا يرضيه سبحانه وتعالى، إنه يستقبل القبلة ببدنه خمس مرات كل يوم وليلة، ولكن قلبه يستقبل قبلة دائمة، يستقبل القبلة في منامه ويقظته، إنه ليس لقلبه إلا قبلة واحدة، فقلبه وقف لله تعالى، وحين يدعو ويسأل فأمام ناظريه قوله صلى الله عليه وسلم "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"وقبل ذلك قوله سبحانه وتعالى (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) إنه لا يمكن أبدا أن يتوجه إلى غير الله عز وجل، أو يدعو غير الله سبحانه وتعالى، أو يسأل غير الله عز وجل، أو يستعين بغير الله سبحانه وتعالى، فهي أمور وقف لله عز وجل، وصرفها لغير الله يعني انخلاع المراء من عبوديته لله سبحانه وتعالى إلى الذل والعار، إلى العبودية للمخلوق، والعبودية إلى ما دون الله سبحانه وتعالى، فدعاؤه وعبادته وتوجهه وقف لمولاه سبحانه وتعالى.
يكون للناس نوايا وتطلعات، وشوائب من الرياء والشهرة وحب الظهور، والتعلق بحظوظ النفس أما هو فيجاهد نفسه ويكابدها، وهو يدرك عمق المشكلة وشدة خطورتها، لاسيما وهو يسمع عبارات السلف تهزه هزًا عنيفا، يسمع عباراتهم في الدعوة إلى مجاهدة النفس، في تصحيح النية وإخلاصها لله عز وجل، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
ولا يزال قول سفيان الثوري رحمه الله:ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي، لأنها تتقلب علي. وقول يوسف ابن أسباط:تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.لا تزال هذه الأقوال تطرق مسمعه وتتراءى أمامه فحينئذ تصبح نيته وقفا لله تعالى.
إن قضية النية والإخلاص وتصحيح المقصد والتوجه لله سبحانه وتعالى قضية بدهية لدى الناس جميعا:لدى الغافل والمقبل على الله عز وجل، لدى قوي الإيمان وضعيف النفس والهمة، إن الجميع يقرون بضرورة تصحيح النية والتوجه إلى الله عز وجل، لكن الميدان الحق هو ميدان العمل والواقع.
إن الناس قد يتوجهون لطلب العلم هذا المطلب الملح الذي يتفق الناس جميعا أنه مطلب شريف نزيه.ولكن قد يسعى المرء للعلم فتعترض له النوايا لتقطع عليه الطريق، فتتحول نيته فيصبح مطلبه أن يقال فلان كذا وكذا، يصبح مطلبه أن يتصدر في المجالس، مطلبه أن يحصل على شهادة يسترزق بها، مطلبه أن يستطيع أن يتحدث مع المتحدثين، وأن يتفيهق مع المتفيهقين، وأن يتفاصح مع المتفاصحين.
والدعوة إلى الله عز وجل هي الأخرى أيضا طريق الأنبياء وطريق الرسل (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) ولكن هذا الطريق هو الأخر قد يعترض المرء فيه ما يعترض مما يكدر نيته، أو يقطع عليه طريقه، فتنحرف مسيرته، حينئذ قد تأسره الشهرة فينقاد وراءها، قد يأسره حظ من حظوظ الدنيا أو مطمع زائل، فتنحرف نيته وتزيغ، وقد يبدو له-وقد بدأ مخلصا صادقا سليما-مطمع أو مطمح فيحرفه عن مسيرته، ومن ثم كان من أشد الناس حاجة إلى أن يصحح نيته، وأن يتفقد نيته، وأن تكون دعوته لله سبحانه وتعالى وحده، وأن يراقب نفسه ويراجعها حتى تصبح دعوته وقفا لله عز وجل، لا يتطلع ولا يرجو غير مرضاة الله سبحانه وتعالى وابتغاء وجهه (قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).
والعابد الذي قد حنى ركبته، و أسهر ليله وأظمأ نهاره، فأصبح يشار إليه بالزهد والورع والعبادة هو أيضا أحوج ما يكون إلى أن يراقب نيته، وأن يصحح مقصده، فالشيطان أيضا قد يجد سبيلا ومسلكا إلى هذا العابد فيحرفه ويقطع عليه الطريق، ومن ثم كان هذا أيضا بحاجة إلى أن تكون نيته وقفا لله تعالى.
إننا في أي ميدان كنا وحيثما اتجهنا بحاجة إلى أن نفرض رقابة صارمة على نوايانا حتى تصبح وقفا لله عز وجل لا تلتفت يمنة ويسرة.(/3)
ولا يقف الأمر بالداعية عند النية ، بل فكره كذلك منحصر في صلاح القلب، والتفكير في خلق الله عز وجل وآلائه، والتفكير فيما يقدمه خدمة لدين الله سبحانه وتعالى ودعوة في سبيل الله عز وجل، فلا يبقى بعد ذلك في تفكيره مجال لأفكار رديئة وخواطر هزيلة وأحلام اليقظة، فضلا عن التفكير في أوحال الشهوات وأدران الشبهات، فقد أصبح تفكيره وقفا لله عز وجل، فلا يفكر إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، لا يفكر إلا في إصلاح نفسه وتعاهدها، لا يفكر إلا في عيوب نفسه، أيا كانت طرائق التفكير ومجالاته أيا كان مشربها ومسلكها تصب في بحر واحد وتؤدي إلى طريق واحد هو أن يكون تفكيره وقفا لله تعالى.
في مشاعره وعواطفه، فهي كلها لله، إن أحب أحب لله، وإن أبغض أبغض لله، ولسانه يلهج دائما بالدعوة الصادقة:"وأسألك حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربني إلى حبك"فمشاعره هي الأخرى وعواطفه وقف لله تعالى.
وحين يأخذ الحماس بلب أصحاب الأهداف الوضيعة، فيطير رياضي عشق الرياضة حماسا لانتصار فريقه، ويسيطر عليه هذا الحماس ليتولد عنه أعمال تدل على مبلغ صاحبها من العقل، وحين يطغى الحماس على شاب تائه ليستعرض بسيارته أمام الناس وينتج عن ذلك إزهاق للأرواح وعطب للأبدان، وحين يسيطر الحماس نفسه على فنان عاشق للصوت الحرام، فيجعل الغناء شعاره ويشتري لهو الحديث، حين يطغى الحماس على هؤلاء جميعا، فصاحبنا ليس في نفسه حماس إلا لدين الله عز وجل قد استهلكت خدمة الدين همه، واستنفذت طاقته، فلم يعد لها بعد ذلك مزاحم.
وتتزاحم هذه المطالب التي يسعى إليها الناس إلى صاحبنا تبحث لها عن مكان فلا تجدلها مكانا، لأن حماسه قد أصبح وقفا لله تعالى.ما أحوجنا أن نحشد هذه الطاقات الهائلة، هذه الطاقات التي قد نهدرها:الحماس والعواطف وما ينشأ عنه من أعمال، قد تودي بصاحبها إلى أن يخاطر بنفسه، وأن يزهق روحه استجابة لحماسة فائرة، ما أحوج الأمة إلى أن توفر هذا الحماس و هذه الطاقة و هذه المشاعر كلها خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، وحين تحشد هذه الطاقات من العواطف والمشاعر التي يتمتع بها الشباب خدمة لدين الله سبحانه وتعالى فأي جهد سينتج عنها؟وأي ثمرة نستطيع أن نجنيها بعد ذلك؟
حين يتزاحم الناس على قضاء أوقاتهم فيما تقوده إليه نفوسهم عالية كانت أم دنيئة، فيقضي الأول وقته في الدنيا وتحصيل المال، فيصبح هذا الهم هو الذي يسيطر عليه، فحياته بجمع المال فهو عبد للدينار والدرهم، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض، ليس لديه فراغ للجلوس مع الناس ولا للحديث معهم، بل حتى أهله وأبنائه وزوجه لا يستطيعون أن يحضوا من وقته بنصيب لماذا؟لأنه مشغول بهذه الدنيا وجمع المال، فقد سيطر هذا الهم وهذا الهدف على وقته، والثاني الذي يقضي وقته في التسكع في الطرقات والأسواق، أو عند مدارس البنات بحثا عن فريسة، أو مطاردة لتائهة، والثالث الذي يسيطر اللهو على حياته لا يسأل عنه حراما كان أم حلالا، فاللهو شعاره ومطلبه وهدفه الأساس ومبلغه من العلم، والرابع والخامس والسادس، والجميع الذين تسيطر هذه الأهداف على أوقاتهم، حين يتنافس هؤلاء في قتل الوقت ووأد العمر ، في وأد أثمن ما يملكون، فصاحبنا له منطق آخر مع وقته ومقياس مختلف عن مقاييس هؤلاء جميعا، فالوقت الضائع لديه هو كل وقت لم يكتسب فيه خيرا أو يقدم فيه فضلا ولسان حاله :
إذا مر بي يوم ولم أستفد هدى ولم استزد علما فما ذاك من عمري
وهكذا فهو يدرك أن وقته هو الحياة، يدرك أن الوقت هو أثمن ما يملك والله عز وجل يقول (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وهل أنفس لديه من عمره وحياته ووقته، ومن ثم فقد جعل وقته وقفا لله تعالى.(/4)
مرة أخرى أقول أيها الأخوة إن البشر هم الذين بتوفيق الله سبحانه وتعالى يصنعون التأريخ والحياة، هم الذين جعلهم الله عز وجل وسيلة للتغيير في هذه الحياة وهذا الكون، هم الذين استخلفهم الله سبحانه وتعالى في الأرض، فهم الطاقة التي لا يسوغ أن تهدر، الطاقة التي لا يسوغ أن تهمل وتذهب سدى، ومن ثم فنحن أحوج ما نكون إلى أن نستثمر هذه الطاقة، وأن نوظفها في خدمة ما خلقت من أجله، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس ليعبدوه (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان خليفة في الأرض، خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ليقوم بهذا المنهج وهذا الدين في الأرض، وسخر الله سبحانه وتعالى له كل ما في السموات والأرض فسخر الله سبحانه وتعالى له النعماء، وصرف سبحانه وتعالى عنه الضر والبأس، ويسر له كل هذا الكون بكل ما فيه، كل هذا تسخيرا لهذا الإنسان الذي ماخلق أصلا ولا أوجد إلا ليكون عبدا لله سبحانه وتعالى، إلا ليقوم بعبودية الله عز وجل بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان قريبة أو بعيدة، من معان قد تعظم وقد تصغر عند الناس، ولكنها عند الله سبحانه وتعالى عظيمة غالية لأنها عبادة يتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى، إن هذا الإنسان الذي لم يخلق إلا لعبادة الله عز وجل، لا يسوغ أبدا بحال أن تصرف طاقته وجهده في غير مرضاة الله عز وجل، وفي غير ما خلق من أجله، ونحن في هذه المرحلة التي تعيشها أمتنا وفي هذا الواقع الأليم الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية أحوج ما نكون إلى حشد الطاقات، إلى أن نجمع الجهود فنستنفر وندعو الناس جميعا لأن يتبرعوا فيخرجوا لنا أناسا وقفا لله تعالى بكل ما يملكون من طاقات وجهود يسخرونها خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، على هؤلاء أن يساهموا في قيادة الأمة إلى بر الأمان.
أيها الأخوة يتحدث الفقهاء عن حكم نقل الوقف فيقررون أنه لا يسوغ نقله إلا حين تتعطل منافعه، فهل هذا الوقف الذي ندعو إليه كذلك؟
أبدا إنه وقف دائم لا يسوغ نقله، لماذا؟لأن الوقف لا يسوغ نقله إلا حين تتعطل منافعه، وهذا الوقف لا يمكن أبدا أن تتعطل منافعه، فصاحبه إن أعياه التعب وأرهقه الجهد فقعد به عن عمل تتطلع نفسه إليه، لن يعجز لسانه عن دعوة صالحة للإسلام والمسلمين، وإن خرس لسانه فجوارحه لن تعجز أن تقدم خيرا، وإن شُلَّت جوارحه فقلبه يلهج بحب الله ورجائه والتوجه له، فحتى وهو مقعد كسيح لا يستطيع حراكا تنصر الأمة به"أبغوني ضعفاءكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم، وإن قعد به مرض أو سفر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنه لن تضيق أمامه الأبواب وهو يسمع التوجيه النبوي الكريم في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال:سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟قال:"الإيمان بالله، والجهاد في سبيله" قلت:أي الرقاب أفضل؟قال:"أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمنا"قلت:فإن لم أفعل؟قال:"تعين صانعا أو تصنع لأخرق"قلت:يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟قال:"تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك".
وحتى حين يموت ويودع الحياة فالمسلم مبارك حي وميتا، وكم نرى ونشاهد أن رجلاً من الصالحين مات فاجتمع الناس لجنازته فوافق ذلك أن حضرت جنازة أخرى فُصلّي عليها هذا الجمع العظيم، وساروا فيها فصار هذا الرجل بركة في حياته وموته، وكم نسمع أن فلاناً من الناس قد تاب وأناب إلى الله عز وجل حين مات رجل صالح، وكم نرى ونسمع أن بيتاً بأسره قد تغيرت أحواله وتبدلت أموره إلى الصلاح، لأن أهله افتقدوا شابا صالحا مطيعا لله تخطفه الموت من بينهم.
فهاهو المسلم تبقى بركته حيا وميتا، فلا تتعطل منا فعه فهو حينئذ وقف دائم لا يسوغ نقله، لأن منافعه لا تتعطل.
الوقف عند الفقهاء أيها الأخوة عقد لا زم لا خيار فيه، فحين يتبرع امرؤ بمال فيوقفه لا يملك بعد ذلك أن يرجع، وهانحن كذلك قد عقدنا الصفقة وتم البيع، فلا مجال للخيار، لأنه لا غبن ولا تدليس ولا خلابة، قد تم البيع (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله) إلى أن قال الله عز وجل (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) فلا مجال إلا الوفاء في الصفقة والوفاء بالبيع فاستحقاق الثمن حينئذ، أو النكوص والنقض وحينئذ يستحق صاحبه النكال، فهو عقد لازم لا خيار فيه ولا مجال فيه للرجوع والتردد.(/5)
في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أرضه التي أوقفها في خيبر-وهو حديث عظيم وأصل من الأصول في باب الوقف-قال لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف، فلناظر الوقف ووكيله أن يأكل منه بالمعروف وينتفع من غلته بما لا يعود على مقاصد الوقف بالإبطال، ومن هنا يتحدث الفقهاء عن ناظر الوقف، فيسوغ له أن يأكل ما يقيمه بالمعروف، ويسوغ له أن ينتفع منه بالمعروف، لكن هذا الانتفاع لا يسوغ أبدا أن يتحول إلى مصدر للتمول والتأثل، فحينئذ تتعطل منافع الوقف التي من أجلها وقف.
أما هاهنا فالواقف والموقوف وناظر الوقف شيء واحد، وله أن يمتع نفسه أو يشغلها بالمعروف، لأن من ولي الوقف له أن يأكل منه بالمعروف، فالنفس تكل وتمل، وتحتاج إلى شيء من التسلية والانبساطة حتى تعود بعد ذلك أكثر حماسة وأكثر عزيمة، ولنا في نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الأسوة وخير القدوة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا، كان صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه، وكان صلى الله عليه وسلم يمازحهم، وكان كما يقول عنه جرير رضي الله عنه ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم، ويوصي النبي صلى الله عليه وسلم من جاء يشتكي إليه من قسوة قلبه فيقول ساعة وساعة، إن من تمام حيوية المرء ونشاطه وهمته ومما يعينه أن يأخذ لنفسه قسطاً من الراحة والمزاح المشروع واللهو المباح، ولكن هذا يجب أن يكون مقيداً بالمعروف فلا يسوغ له أن يتجاوز.
فإذا تجاوز حينئذ فأصبح اللهو والراحة واللذة مطلبا أساسا، حينئذ اعتدى على هذا الوقف وهذا لا يسوغ له، فهو ناظر ووصي وولي، لا يجوز له أن يأكل إلا بالمعروف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم(كل لهو باطل إلا ثلاث)حتى اللهو هاهنا وحتى إمتاع النفس إنماهو بما يهيئها لأن تخدم دين الله: ملاعبة الرجل أهله، أو تأديبه فرسه، أو رميه بقوسه.
الوقف عند الفقهاء له مجالات شتى ومصارف منوعة، فقد يكون وقفا على الذرية، أو على ابن السبيل، أو طالب العلم، أو ربما طالب علم معين كفقه حنفي أو حنبلي، أو وقف على المجاهدين والمرابطين، ولن يضير المرء أبدا أن يقف شيئاً من ماله على مجال دون غيره، مادام يرى أن هذا المجال بحاجة وأنه أولى من غيره من الأبواب.
وهكذا فنحن نرى من يقف وقته على العبادة والذكر ودعوة الناس بسمته وزهده، فتراه يقضي سحابة نهاره تاليا لكتاب الله عز وجل، صائما قانتا مصليا مقبلا على الله سبحانه وتعالى، فإذا رآه الناس ذكروا الله عز وجل، إذا رآه الناس تذكروا هدي الصالحين والسابقين، وحين يدعو ينفع الله المسلمين بدعوته، ونرى من يقف نفسه على إغاثة المحتاج وإعانة المنقطع، ونرى من يقف نفسه على دعوة غير المسلمين إلى دين الله سبحانه وتعالى، وإلى الدخول في السلم كافة، أو من يقف نفسه على إصلاح من قسا قلبه من المسلمين وتنكب الطريق منهم، فصار جهده وهمه ووقته وتفكيره وحياته كلها مصروفه على دعوة هؤلاء وعلى وعظهم وعلى نصحهم وعلى الأخذ بأيديهم ليسلكوا الطريق المستقيم ويسيروا في ركاب الصالحين، ونرى من وقف نفسه على تعاهد النبتة الصالحة، على تعاهد عدة الأمة وذخيرتها، على تعاهد الشباب بالتربية والتعليم والتوجيه، والدعوة لكتاب الله عز وجل، فثنى ركبته ببيت من بيوت الله سبحانه وتعالى يقرئهم كتاب الله عز وجل ويعظهم بزوا جره ويرغبهم بفضائله، فوقف حياته ووقته على هؤلاء الشبيبة وأولئك الصبية، كل هذا إعدادا لمن ينفع الله سبحانه وتعالى بهم الأمة، ونرى من وقف نفسه على تعليم العلم الشرعي فصار همه وحياته حتى أشغله عن سائر ما يتمتع به الناس من مصالح، فلم يعد وقته ملكا له إنما هو ملكا للناس، بل لم يعد هو حتى ملكا لنفسه فقد أصبح وقفا لله تعالى، والآخر الذي وقف حياته على إنكار المنكرات الظاهرة.
وهكذا نرى مجالات شتى وجوانب متعددة، كلها تصب في مصب واحد وطريق واحد في صحيح البخاري من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:" أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعدها إلا أدخله الله بها الجنة"فلماذا نقسم العدد على أربعين قسمة ضيزى فنختصرها ونجعلها طريقا واحداً، وخصلة واحدة، ولماذا نوصد تلك الأبواب التي فتحها لنا النبي صلى الله عليه وسلم مشرعة؟
في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال:"إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما عن طريق الناس، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار هكذا".
فهي مصارف شتى للوقف ومنافع متنوعة، تسير في منظومة واحدة دون تنافر أو تناقض، فكلٌ وقف نفسه على باب من أبواب الخير، ولسان حاله يقول كما قال إمام دار الهجرة:"كلانا على خير وبر".(/6)
ولنفتح بعض الصفحات من السنة النبوية لنرى نماذج من هذه الأوقاف:عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه، أو رجل في غنيمة أو شعفة من هذه الشعف، أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ليس من الناس إلا في خير"رواه مسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم يصور لنا نموذجاً من أولئك الناس، هذا الذي وقف حياته في سبيل الله عز وجل خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، فهو على فرسه كلما سمع هيعة أو فزعة طار ولبى يبتغي الموت والقتل مظانه، فلم يبق له مطلب يسعى إليه ولا هدف يسير إليه إلا هذا الهدف وهذا المطلب، قد وقف حياته لله عز وجل .
والآخر الذي لم يطق الصبر على الفتن والمصائب، وصار في عصر يقتضي منه العزلة بضوابطها الشرعية، فرأى أن يعتزل الناس ليعبد الله عز وجل في شعف من الشعاف، وشعب من الشعاب، إن أولئك كلهم قد وقفوا حياتهم لله عز وجل.
ويتمنى صلى الله عليه وسلم أمراً لم يمنعه منه إلا شفقته صلى الله عليه وسلم على المسلمين-وهو أرحم الناس صلى الله عليه وسلم وأرقهم قلبا-فيقول:"ولولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني"وفي هذا الحديث دعوة للمسلم أن يكون هذا مسعاه لا يتخلف عن سرية تغزو في سبيل الله عز وجل، ولا يسمع هيعة وفزعة إلا طار ولبى يبتغي الموت والقتل مضانه، إنه لا يتقاعس عن عمل يخدم فيه دين الله عز وجل، فما أن يسمع صوتاً يدعوه بحق وصدق أن يسلك هذا الميدان، أن يجاهد هاهنا بيده وسلاحه وسنانه، أو يجاهد هناك بقلمه، أو يجاهد هنا بلسانه إلا طار ولبى يبتغي نصرة دين الله سبحانه وتعالى فقد وقف حياته لله عز وجل.
وحين قيل له صلى الله عليه وسلم إن خالدا منع الزكاة قال:"إن خالداً احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله عز وجل"فخيل خالد وسلاحه وأعتده لم يعد لها غرضٌ بعد ذلك إلا الجهاد في سبيل الله عز وجل وإعلاء كلمته، وحتى جسده رضي الله عنه قد جعله وقفا لهذا الميدان وهذه الحياة، فمات رضي الله عنه وما في جسده موضع شبر إلا وفيه جرح يشهد بصدق بلائه وصدق دعوته وإخلاصه لله عز وجل، وقد شهد زهاء مائة زحف وهو القائل رضي الله عنه " ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب بأحب لي من ليلة شاتيه في سرية من المجاهدين أصبح فيها العدو ".
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به أناء الليل وأناء النهار ورجل أتاه الله مالا فهو ينفقه أناء الليل وأناء النهار"وأخرجاه أيضا من حديث ابن مسعود وأخرج البخاري نحوه من حديث أبي هريرة.
إنها صورة أخرى من صور الوقف من وقف ليله ونهاره لتلاوة كتاب الله تعالى، ومن وقف ماله فأهلكه في الحق والإنفاق في سبيل الله أناء الليل وأناء النهار.
كلها صوروإن تنوعت مجالاتها وطرقها فكلها تصب في نهر واحد وتؤدي إلى طريق واحد.(/7)
وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم
الجزء الأول
الرسالة الأولى : وإذا قلتم فاعدلوا .
الرسالة الثانية : قل إنما أعظكم بواحدة .
الرسالة الثالثة : قل هو من عند أنفسكم .
الرسالة الرابعة : إن ربك حكيم عليم .
الرسالة الخامسة : متى نصر الله ؟
الرسالة السادسة : وكونوا مع الصادقين .
الرسالة السابعة : ولا تلبسوا الحق بالباطل .
بقلم / الشيخ الدكتور
عبد العزيز بن ناصر الجليل
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده،ونستعينه،ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لله تسليماً كثيراً.ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إلا حذرها منه .
وإن من أعظم ما دلهم عليه وحثهم عليه الاجتماع والاعتصام بحبل الله عز وجل ؛قال تعالى : (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )) (آل عمران: 103) ،وقال عز من قائل : (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (آل عمران:105)
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو يسأله عن الفتن وسبيل النجاة منها : ((... الزم جماعة المسلمين وإمامهم ))(1). وقال عليه الصلاة والسلام : (( عليكم بالجماعة))(2)، وقال : (( إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ))(3) .
والآيات والأحاديث في هذا الأمر كثيرة .
وإن اجتماع كلمة المسلمين اليوم ـ وبخاصة دعاة الحق من علماء الأمة ورجال الدعوة المخلصين ـ أصبح أمراً لا بديل عنه ، وضرورة ينبغي أن تسبق كل ضرورة ؛ فنصرة الله تعالى لعباده المؤمنين مشروطة بشروط تمر عبر الاجتماع ووحدة كلمة أهل الحق .
وإن هذه الوحدة ينبغي أن تتجه القلوب لتحقيقها ، وترتفع الأكف في طلبها ، ويتحرك المخلصون في تحصيلها ، فإلى متى يدور المسلمون في حلقة مفرغة ؟! وإلى متى هذا التحزب والانشطار والتساقط المتتابع للجماعات والدعاة تحت قوة الدافع ومرارة الانقسام والاختلاف ؟!
إن الكثيرين من الدعاة قد أعياهم هذا المرض العضال ، وذلك الداء الفتاك الذي استشرى في أوساط الدعاة ؛ فلزموا بيوتهم ، وألقوا بأيديهم حرصاً على سلامة قلوبهم ـ كما زين لهم الشيطان الرجيم الذي لا يألو جهداً في بث الفرقة والاختلاف ، ثم هو في نفس الوقت يبث اليأس في القلوب الضعيفة التي أعياها السير وكثرة الاختلاف ، فيزين لهم اعتزال أي عمل إسلامي يوجد في هذه الأزمنة ،حتى يأتي الله بفتح من عنده. كل هذا بسبب الفرقة والاختلاف . وبدلاً من العمل والسعي لتغيير هذا الواقع الأليم والتحرك لجمع الكلمة ووحدة الصف ، آثروا السلامة والنجاة بنفوسهم ، وربما كانت النجاة في غير ما اختاروا .
فيا طلاب العلم المخلصين! ويا دعاة الحق المبين! ألا من رجعة صادقة إلى الله عز وجل نرتفع بها على ذواتناوأشخاصنا وأغراضنا الدنيوية!ألا من
رجل رشيد يفكر بعمق في هذه المأساة وخطرها على الأمة الإسلامية بأسرها! وإنه إن لم نسع لرأب الصدع ، وبذل الولاء والمحبة لكل مؤمن ، فإن هناك فتنة وفساداً كبيراً سيحلان بنا ؛ إن لم يتداركنا الله برحمة من عنده ؛ يجمع بها شتات القلوب ، وتتوحد بها كلمة دعاته الصادقين ؛ يقول تعالى : ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)) (لأنفال:73) .
ومما يزيد الأمر حسرة وألماً، أن هذه الفرقة تحصل بين من ينتسبون إلى عقيدة واحدة ومنهج واحد هو عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم ، فإذا كان الجميع بهذه الصورة، وهم يواجهون عدواً واحداً يحارب الإسلام وأهله أيّاً كان ثوبه أو اسمه ، وإذا كان الجميع يهدفون إلى غاية واحدة ؛ وهي استئناف الحياة الإسلامية ، وإقامة دين الله عز وجل وشريعته ، ومحاربة الباطل وأهله ، إذا كان الجميع متفقين على ذلك كله ، فلماذا هذه الفرقة ؟
لا شك أن للشيطان وحظوظ أنفسنا سبباً كبيراً في وجود هذه الفرقة، وهناك سبب آخر لا يقل عن سابقيه في كونه سبباً من أسباب الفرقة والاختلاف ، ألا وهو الجهل بدين الله عز وجل وأحكام شريعته ـ كما سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله .
__________
(1) رواه البخاري في الفتن ( 7084 ) ، ومسلم في الإمارة ( 1847 ) .
(2) رواه أحمد ( 5 / 145 ) ، والنسائي في الإمامة ( 2 / 107 ) ، والترمذي في الفتن
( 2165) والحديث في صحيح النسائي ( 817 ) .
(3) رواه أحمد ( 5 / 191 ) ، وأبو داود في الصلاة ( 547 ) ، والنسائي في الإمامة (2 / 107) والحديث في صحيح سنن أبي داود ( 511 ) .(/1)
وإن ما سبق ذكره لا يعني ألا يوجد خلاف أبداً بين الأفراد أو الجماعات،كلا...فالخلاف ـ والله أعلم ـ أمر حتمي تفرضه اختلاف الطبائع والمقومات الشخصية والفكرية والميول النفسية...إلخ،ولكن ليس كل اختلاف
يوجب الفرقة والتنازع والتباغض ، وأوضح مثال لذلك أن السلف رحمهم الله قد اختلفوا في كثير من المسائل ، ومع ذلك كانت كلمتهم مجتمعة ولم يتفرقوا ، والكلام هنا منصب على من هم في دائرة أهل السنة والجماعة ولم يختلفوا في أصولها ؛ أما المخالفون لأهل السنة من أهل الأهواء والبدع، فإن خلافنا معهم أصيل ومتعين ، ومثل هؤلاء ينبغي أن نفارقهم ونتبرأ من بدعهم وضلالاتهم .
وإن الأمة ـ منذ عهد أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - ـ قد وقع بينهم اختلاف في بعض المسائل ، ولم يكن هذا الاختلاف يوجب الفرقة ، إلا عندما يدخل الشيطان أو أولياؤه من الجن والإنس ، أو يكون المفارق لا علم عنده بالأدلة ومسائل الخلاف، وما يجوز الخلاف فيه وما لا يجوز ، وهذا أدى إلى تحول الخلاف ـ الذي تحتمله الشريعة،ويسعه أقوال الصحابة رضي الله عنهم ، ومن بعدهم من سلف هذه الأمة وأئمتهم ـ إلى عداوة وفرقة .
وإن أهل السنة يمكن أن يقع بينهم اختلاف حول بعض المسائل التي يجوز الاختلاف فيها ، ولكن هذا لا يؤدي إلى اختلاف القلوب ، لعلمهم بأن هناك أسباباً كثيرة ترفع اللوم عن الأئمة الأعلام لعدم وصول الدليل إليهم،أو أن الدليل وصل إليهم ولكن اختلفت الأذهان في فهم دلالته ، أو غير ذلك من أسباب الخلاف المحتمل في الشريعة (ارجع إلى كتاب . رفع الملام لشيخ الإسلام ابن تيمية لتفصيل هذه الأسباب ) .
من أجل ذلك ، ومن أجل جوانب تربوية أخرى،تأتي هذه الوقفات القرآنية لتلمس هذه الحقائق،ولتكون خطوة على طريق إزالة هذه الخلافات الحادة ، لعلنا نهتدي إلى أول الطريق ، فنبصر آخره ؛ لأن من ضل أول الطريق فقد صعب عليه أن يمسك بنهايته .
أسأل الله عز وجل أن ينفع بها ، وأن تكون مثار اهتمام بهذا لمن يهمهم هذا الأمر، وإلى أن تكون مجالاً للكتابة والبحث والحوار والعمل ، والله من وراء القصد ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الرسالة الأولى : وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم ((وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ )) ( الأنعام : 152)
أهمية الموضوع
((وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ )) ( الأنعام : 152) إن أهمية الموضوع تأتي من أنه مفتاح الحق ، وجامع الكلمة ، والمؤلف بين القلوب ؛ لأن من أقوى أسباب الاختلاف بين العباد : الظلم والاعتداء، وفقدان العدل والإنصاف . ولو جاهد المسلم نفسه لتحقيق صفة العدل على نفسه ومع الناس ؛ فإن كثيراً من المشاكل التي تحصل بين المسلمين ـ سواء منها الفردية أو الجماعية ـ ستزول وتحل بإذن الله ؛ وذلك لأن سبب الانحراف عن الحق والإصرار على الأخطاء: إما الجهل وإما الظلم ؛ فالجهل علاجه العلم، والظلم علاجه العدل والإنصاف والقسط .
ولقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيراً ما يرجع أسباب الفرقة والتعدي والتعصب إلى الأمرين المذكورين سابقاً ؛ فتراه يقول : ((الإنسان خُلق ظلوماً جهولاً ؛ فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله ، وعدل في محبته وبغه ، ورضاه وغضبه،وفعله وتركه،وإعطائه ومنعه،وأكله وشربه،ونومه ويقظته .
وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله ، وعدل ينافي ظلمه ؛ فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل ، وإلا كان منه من الجهل والظلم ما يخرج به من الصراط المستقيم ، وقد قال تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم - بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان : ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)) إلى قوله تعالى ((وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً)) (الفتح:1،2) ، فإذا كان هذه حاله
في آخر حياته أو قريباً منها، فكيف حال غيره؟! ))(1) اهـ.
وقال رحمه الله : ((والعدل هو الاعتدال،والاعتدال هو صلاح القلب، كما أن الظلم فساده ، ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالماً لنفسه، والظلم خلاف العدل ، فلم يعدل على نفسه بل ظلمها ، فصلاح القلب بالعدل ، وفساده في الظلم ، وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم المظلوم، كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه ، فمنه العمل ، وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر ، قال تعالى : (( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت )) (البقرة:286) ... ))(2) ، إلى أن قال في الجزء نفسه ص 99:
(( مع أن الاعتدال المحض السالم من الأخلاط لا سبيل إليه ، لكن الأمثل فالأمثل ، فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ، ومرضه من الزيغ والظلم والإعراض ، والعدل المحض في كل شيء متعذر علماً وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل ؛ولهذا يقال : هذا أمثل ، ويقال : الطريقة السلفية الطريقة المثلى .
__________
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ( 14 / 38 ) .
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ( 10 / 98 ) .(/2)
وقال تعالى : ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ )) (النساء:129) ، وقال تعالى (( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا )) (الأنعام:152) ، والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط . وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له ، ثم العدل على الناس في حقوقهم ، ثم العدل على النفس ))اهـ.
وهنا نرى أن شيخ الإسلام قد بيَّن أهمية العدل ، وأنه أساس النجاة في الدنيا والآخرة ، وقد قسَّمه حسب الأهمية إلى : أعظم العدل ؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، ثم العدل على الناس ، ثم العدل على النفس، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في ثنايا هذا البحث .
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أيضاً أهمية العدل مع الخصوم والمفارقين لأهل السنة ؛ حيث قال :
((وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ، ويرحمون الخلق، ويتبعون الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولا يبتدعون ، ومن اجتهد فأخطأ خطأ ً يعذره فيه الرسول- صلى الله عليه وسلم -عذروه...إلى أن قال: ((والله يحب الكلام بعلم وعدل ، ويكره الكلام بجهل وظلم ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل قضى للناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ))(1) .
وقد حرم سبحانه وتعالى الكلام بلا علم مطلقاً ، وخص القول عليه بلا علم بالنهي؛ فقال تعالى : (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) (الاسراء:36)، وقال تعالى : (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) (الأعراف:33) وأمر بالعدل على أعداء المسلمين؛فقال تعالى: ((كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )) (المائدة:8 ] ))(2) .
إذن مما سبق ذكره من كلام شيخ الإسلام يتبين لنا أهمية العدل في القول والعمل ، وأن الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها،لا يستطيع أن يحملها الإنسان إلا بأن يتغلب على صفة الجهل، بالعلم والتفقه في دين الله عز وجل ، وبأن يتغلب على صفة الظلم، بالعدل والإنصاف.
ومع ذلك ـ وكما أشار شيخ الإسلام ـ فلن يستطيع أن يكمل العدل كله ، ولا أن ينفك عن الجهل كله ، وكذلك فهو في حاجة لأن يتوب الله عليه ويغفر له تقصيره وضعفه ، وهذا هو ما يفهم من آية الأمانة في سورة الأحزاب؛ حيث ذكر الله عز وجل لنا صنفين من الناس:
الصنف الأول : المؤمنون الذين بذلوا جهدهم في طلب العلم المنافي للجهل ، والعدل المنافي للظلم ، فاستحقوا من الله عز وجل أن يتوب عليهم ما لم يستطيعوا تحقيقه من العلم والعدل .
الصنف الثاني : أولئك المشركون والمنافقون الذين أعرضوا عن دين الله عز وجل فلم يتعلموه ، وأعرضوا عن العدل والقسط ، فسقطوا في ظلمات الجهل والظلم ، ووقعوا في الشرك والنفاق ، فاستحقوا العذاب الأليم ، يقول الله تعالى : (( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) (الأحزاب:72 ، 73) .
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين أعانهم على حمل الأمانة وغفر لهم تقصيرهم .
* * *
تعريف العدل
ومنزلته في الكتاب والسنة
قال في لسان العرب : العدل : ما قام في النفوس أنه مستقيم ، وهو ضد الجور . عدل الحاكم في الحكم يعدل عدلاً ، وهو عادل من قوم عدول.. وفي أسماء الله الحسنى ( العدل ) وهو الذي لا يميل فيجور في الحكم. والعدل : الحكم بالحق .
__________
(1) رواه أبو داود في الأقضية ( 3573 ) ، وابن ماجه في الأحكام ( 2315 ) .
والحديث في صحيح سنن أبي داود ( 3051 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 16 / 96 ) .(/3)
وكتب عبد الملك إلى سعيد بن جبير يسأله عن العدل فأجابه : إن العدل على أربع أنحاء : العدل في الحكم ، قال الله تعالى : (( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ )) (المائدة:42) ، والعدل في القول ، قال تعالى : (( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)) (الأنعام:152) ، والعدل في الفدية ، قال تعالى: ((وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ )) (البقرة:123) ، والعدل في الإشراك ، قال تعالى: (( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) (الأنعام:1) .أي يشركون .
وفلان يعدل فلاناً : أي يساويه ، وعدّل الموازين والمكاييل : ساواها، وتعديل الشيء : تقويمه ، والاعتدال : توسط حال بين حالين في كم وكيف، كقولهم : جسم معتدل بين الطول والقصر ، وجو معتدل بين الحر والبرد ... إلخ ، والمعادلة : الشك في أمرين ، يقال : أنا في عدال في هذا الأمر ؛أي : في شك منه أأمضي عليه أم أتركه؟. اهـ .(باختصار).
والآيات والأحاديث الواردة في ذكر العدل، والحث عليه، والتحذير
من ضده كثيرة جداً ، لكننا نقتصر على بعضها مع نقل بعض أقوال علماء التفسير حولها .
الآيات الواردة في ذلك :
الآية الأولى :
يقول الله عز وجل في سورة آل عمران (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) (آل عمران:18)
يعلق شيخ الإسلام على قوله تعالى: (( قَائِماً بِالْقِسْطِ )) فيقول :((فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان ، فمن كان قوله وعمله بالقسط كان مستقيماً ، ومن كان قوله وعمله مستقيماً كان قائماً بالقسط ، ولهذا أمرنا الله عز وجل أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم ؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وصراطهم هو العدل والميزان ليقوم الناس بالقسط، والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه ، فالمعاصي كلها ظلم مناقض للعدل مخالف للقيام بالقسط والعدل ))(1) .
ويعلق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية في ظلال القرآن ؛فيقول:
((وتدبير الله عز وجل لهذا الكون والحياة متلبس دائماً بالقسط وهو العدل ، فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس ، ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون،التي يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دوركل كائن آخر..لايتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس ، وبيَّنه في كتابه ، وإلا فلا عدل ،ولا قسط ، ولا استقامة ، ولا تناسق، ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان ، وهو الظلم إذن والتصادم والتشتت والصراع ... )) .
إلى أن قال رحمه الله تعالى: في الصفحة نفسها :
((وأنه حيث حكم في حياة الناس منهج آخر من وضع البشر لازمه جهل البشر وقصور البشر ، كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور : ظلم الفرد للجماعة ، أو ظلم الجماعة للفرد ، أو ظلم طبقة لطبقة ، أو ظلم أمة لأمة أو ظلم جيل لجيل .
وعدل الله عز وجل وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء ، وهو إله جميع العباد، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ((لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) (2) اهـ .
الآية الثانية : قوله عز وجل : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً )) (النساء:135) .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية :((يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط ، أي العدل ، فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين ، يقول: (( شُهَدَاءَ لِلَّهِ )) كما قال تعالى : (( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ )) (الطلاق:2) أي أدوها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً ، خالية من التحريف والتبديل والكتمان ، ولهذا قال : (( وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) أي : اشهد بالحق ولو عاد ضرره عليك،وإذا سئلت عن الأمر، فقل الحق فيه ولو عاد ضرره عليك ؛ فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه.
وقوله : (( أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)) أي : وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها ، بل اهد بالحق وإن عاد الضرر عليهم ؛ فإن الحق حاكم على كل أحد.
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 14 / 179 ) .
(2) في ظلال القرآن ( 1 / 55 ) ط . دار المعرفة .(/4)
وقوله: (( إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)) أي:لا ترعاه لغناه، ولا تشفق عليه لفقره،فالله يتولاهما،بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما.
وقوله : (( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)) أي : لا يحملنكم الهوى والمعصية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ؛ كما قال تعالى : (( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)) (المائدة:8) .
ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه الرسول- صلى الله عليه وسلم - على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من أحب الخلق إلي ، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم، فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض ))(1) اهـ .
ويعلق سيد قطب على هذه الآية نفسها بقوله :
((إنها أمانة القيام بالقسط على إطلاقه في كل حال ، وفي كل مجال ؛ القسط الذي يمنع البغي والظلم في الأرض ، والذي يكفل العدل بين الناس، والذي يعطي كل ذي حق حقه ، من المسلمين وغير المسلمين ، وفي هذا الحق يتساوى عند الله عز وجل المؤمنون وغير المؤمنين ، ويتساوى الأقارب والأباعد ويتساوى الأعداء والأصدقاء ، والأغنياء والفقراء ..
والمنهج الرباني يجنِّد النفس في وجه ذاتها ، وفي وجه عواطفها تجاه ذاتها أولاً (( وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ )) ، وتجاه الوالدين والأقربين ثانياً ، وهي محاولة شاقة أشق بكثير من نطقها باللسان ...)) إلى أن قال : (( ثم هو يجنِّد النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية ، أو الاجتماعية حين يكون المشهود له أو عليه فقيراً ؛ تشفق النفس من شهادة الحق ضده ، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه ، أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده ، بحكم الرواسب الاجتماعية ، كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية وحين يكون المشهود له أو عليه غنياً تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته ، أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده ...))(2) .
الآية الثالثة :
قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) (المائدة:8).
يعلق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية بقوله :
((لقد نهى الله عز وجل الذين آمنوا من قبل، أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام على الاعتداء ، وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة ، يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم ، فها هم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل ، وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق ، فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده، تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض .. )) إلى أن قال رحمه الله تعالى :
((إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله عز وجل؛حين تقوم لله متجردة عن كل ما عداه،وحين تستشعر تقواه وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور ))(3) اهـ (باختصار).
الآية الرابعة :
قوله تعالى : ((وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (الأنعام:152)
يعلق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية ، فيقول :
((وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري ـ وقد ربطه بالله ابتداءً ـ إلى مستوى سامق رفيع على هدى من العقيدة في الله ومراقبته . فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري ؛ الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكافل والامتداد،بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل، وفي قوة القرابة سند لضعفه،وفي سعة رقعتها كمال لوجوده ، وإن امتدادها جيلاً بعد جيل حماية لامتداده ، ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم أو القضاء بينهم وبين الناس.
__________
(1) تفسير ابن كثير ( 2 / 412 ) ط . دار الفكر . وحادثة ابن رواحة رواها بنحوها أحمد ( 3 / 367 ) من حديث جابر ، وأبو داود في البيوع ( 3410 ) من حديث ابن عباس .
(2) في ظلال القرآن ( 2 / 549 ) ط . دار المعرفة .
(3) في ظلال القرآن ( 2 / 667 ) ط . دار المعرفة .(/5)
وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل، على هدى من الاعتصام بالله وحده، ومراقبة الله وحده، اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى ، وتقوى له من الوفاء بحق دون حقه وهو سبحانه أقرب إلى المرء من حبل الوريد ))(1) اهـ .
أما الأحاديث الواردة في الحث على العدل ، وتجنب الظلم والبغي فكثيرة جداً نقتصر على بعضها :
الحديث الأول : ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال : ((نحلني أبي نحلاً ، فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ،فجاءه ليشهده على صدقتي، فقال: ((أكل ولدك نحلت مثله ؟ )) فقال : لا ، فقال :((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم))، وقال : ((إني لا أشهد على جور)). قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة))(2) .
الحديث الثاني :
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ؛ يعدل بين اثنين صدقة ))(3) .
الحديث الثالث : ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : ((بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا ، وعلى ألا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول الحق أينما كان؛ لا نخاف في الله لومة لائم )) ، وزاد النسائي: (( وعلى أن نقول بالعدل أين كنا ))(4) .
الحديث الرابع :روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو،قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا ))(5)
الحديث الخامس : روى النسائي والحاكم في مستدركه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يدعو بهذا الدعاء : ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق ، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحق والعدل في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى ، وأسألك نعيماً لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضا بعد القضاء،
وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين ))(6) .
* * *
أقسام العدل
ينقسم العدل حسب متعلقاته إلى الأقسام التالية :
1ـ أعظم العدل :
وهو توحيد الله عز وجل لا شريك له ؛ وهو الحق الذي قامت به السموات والأرض ،ومن أجله خلق الله الخلق، قال الله عز وجل : (( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )) (الدخان:38 ، 39) .
وقال تعالى : (( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ )) (الاحقاف:3) .
ويقابل هذا القسم من العدل أعظم الظلم؛وهو الإشراك بالله عز وجل والكفر به ، حيث قال عز وجل : (( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) (لقمان:13)،ومثله قول الله تعالى : (( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) (الأنعام:82) ،قوله تعالى : ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) (البقرة:254) .
2 ـ العدل مع النفس :
ويدخل في هذا العدل قيام العبد بالأمانة التي كلفه الله عز وجل بها ، ودلك فيما بين العبد وربه ، من الالتزام بأوامره واجتناب نواهيه ،من غير إفراط ولا تفريط،ويقابل هذا القسم من العدل ظلم العبد لنفسه بارتكابه ما
حرم الله عز وجل مما هو دون الشرك ، أو تركه ما أمر الله عز وجل مما يتعلق به نفسه ، ولا يتعدى إلى غيره .
__________
(1) في ظلال القرآن ( 3 / 426 ) ط . دار المعرفة .
(2) رواه البخاري في الهبة ( 2587 ) ، ومسلم في الهبات ( 11623 ) .
(3) رواه البخاري في الصلح ( 2707 ) ، ومسلم في الزكاة ( 1009 ) .
(4) رواه البخاري في الأحكام ( 7199 ) ، ( 7200 ) ، ومسلم في الإمارة ( 1709 ) واللفظ له ، والنسائي في البيعة على السمع والطاعة ( 7 / 137 ) .
(5) رواه مسلم في الإمارة ( 1827 ) باب : فضيلة الإمام العادل .
(6) رواه النسائي في كتاب السهو ( 3/ 55 ). وهو في صحيح سنن النسائي (1237 ) ، ( 1238 ) .(/6)
وهذا النوع من الظلم من أخف أنواع الظلم ؛حيث إن صاحبه قد يتوب فيتوب الله عليه ، ولو مات عنه بدون توبة فإنه تحت المشيئة،بينما الظلم العظيم وهو الشرك بالله لو مات عليه فلن يغفر الله له؛كما قال تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً )) (النساء:48) .
وهو أخف من ظلم العباد لأنه يشترط في التوبة من ظلم العباد رد الحقوق إلى أهلها واستباحتهم منها .
3 ـ العدل مع العباد :
وهذا النوع من العدل هو الذي يهمنا في هذا الحديث ، والقسمان السابقان ليس هنا موضع تفصيلهما ، ويقابل هذا القسم من العدل ظلم العباد واعتداء بعضهم على بعض ، سواء في القول أو الفعل .
وسنذكر في هذا القسم ـ إن شاء الله ـ بعض مقتضيات ولوازم هذا العدل، مع الإشارة في أثناء ذلك إلى بعض المواقف المؤسفة،التي تنافي العدل والإنصاف، مع ذكر المنهج الشرعي الذي ينبغي سلوكه حيال هذه المواقف .
ويحسن بنا قبل ذكر هذه اللوازم أن نقدم لها بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله ـ في مدارج السالكين ـ حول (منزلة الخُلق).قال رحمه الله تعالى:
(( وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان،لا يتصور قيام ساقه إلا عليها : الصبر ، العفة ، الشجاعة ، العدل .
فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ ، وكف الأذى ، والحلم والأناة، والرفق ، وعدم الطيش والعجلة .
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل ، وتحمله على الحياء ، وهو رأس كل خير ،وتمنعه من الفحشاء ، والبخل والكذب والغيبة والنميمة .
والشجاعة: تحمله على عزة النفس ، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى ، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته،وتحمله على كظم الغيظ والحلم ؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها ، ويكبحها بلجامها عن النزع والبطش ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))(1) ، وهو حقيقة الشجاعة ؛ وهو ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه .
والعدل : يحمله على اعتدال أخلاقه ، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط ؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقِحة ، وعلى خلق الشجاعة الذي هو التوسط بين الجبن والتهور،وعلى خلق الحلم الذي هو التوسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس . ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة .
ومنشأ جميع الأخلاق السافلة ، وبناؤها على أربعة أركان : الجهل ، والظلم ، والشهوة ، والغضب .
فالجهل : يريه الحسن في صورة القبيح ، والقبيح في صورة الحسن ،
والكمال نقصاً ، والنقص كمالاً .
والظلم : يحمله على وضع الشيء في غير موضعه ، فيغضب في موضع الرضى ، ويرضى في موضع الغضب ، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام ، ويلين في موضع الشدة ، ويشتد في موضع اللين ، ويتواضع في موضع العزة ، ويتكبر في موضع التواضع .
والشهوة : تحمله على الحرص والشح والبخل ، وعدم العفة والنهمة والجشع ، والذل والدناءات كلها .
والغضب : يحمله على الكبر والحقد والحسد ، والعدوان والسفه .
ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق:أخلاق مذمومة .
وملاك هذه الأربعة أصلان : إفراط النفس في الضعف ، وإفراطها في القوة.
فيتولد في إفراطها في الضعف : المهانة والبخل ، والخسة واللؤم ، والذل والحرص، والشح وسفاسف الأمور والأخلاق .
ويتولد من إفراطها في القوة : الظلم والغضب والحدة ، والفحش والطيش .
ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غية كثيرون ، فإن النفس قد تجمع قوة وضعفاً ؛ فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر ، وأذلهم إذا قهر ، ظالم عنوف جبار ، فإذا قهر صار أذل من امرأة ؛ جبان عن القوي ، جريء على الضعيف ؛ فالأخلاق الذميمة يولد بعضها بعضاً ، كما أن الأخلاق الحميدة يولد بعضها بعضاً .
وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما ، وطرفاه خلقان ذميمان ، كالجود :الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير ، والتواضع : الذي يكتنفه خلقا الذل والمهانة والكبر والعلو ))(2) اهـ.
* * *
من لوازم العدل ومقتضياته
هذا الباب هو بيت القصيد من هذا البحث ؛ لأن المقصود من إثارة هذا الموضوع ، هو التعرض للجوانب العملية التي يفرضها العدل على المسلم ، وخاصة في واقعنا المعاصر ، ومانشأ فيه من تفريط في هذه الجوانب ، ونقتصر فيها على ما يلي :
1 ـ التثبت من الأمر قبل الحكم عليه :
__________
(1) رواه البخاري في الأدب ( 6114 ) ، ومسلم في البر والصلة ( 2609 ) .
(2) مدارج السالكين( 2 / 308 )، تحقيق: محمد حامد الفقي ، ط . دار الكتاب العربي .(/7)
إن من العدل والإنصاف أن يتثبت المسلم من كل خبر أو ظاهرة ، قبل الحكم عليها ، وإن من الظلم والاعتداء الحكم على أمر بمجرد الظنون والأوهام ، وقبل التثبت التام منه ، ولقد بين الله سبحانه وتعالى لنا في سورة الإسراء وفي آية واحدة المنهج الصحيح، الذي ينبغي سلوكه في مثل هذه الأمور ، يقول الله عز وجل: (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) (الاسراء:36) ، وحول تفسير هذه الآية قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى :
((قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:يقول : لا تقل . وقال العوفي عنه: لا ترم أحداً بما ليس لك به علم . وقال محمد بن الحنفية : يعني : شهادة الزور. وقال قتادة : لا تقل رأيت ولم تر ، وسمعت ولم تسمع ، وعلمت ولم تعلم؛فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله.ومضمون ما ذكروه : أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم ، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى : (( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ )) [الحجرات:12] ))(1) اهـ.
وحول ظلال هذه الآية ، قال سيد قطب رحمه الله تعالى :
((والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة ، فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) ، وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجاً كاملاً للقلب والعقل ، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثاً جداً ، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله ، ميزة الإسلام عن المناهج العقلية الجافة .
فالتثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها ؛ هو دعوة القرآن الكريم ، ومنهج الإسلام الدقيق ، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل ، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم.
والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى ، ويجعل الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده،أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.
إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب ، أمانة يسأل عنها صاحبها وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعاً ، أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة ، وكلما روى الإنسان رواية ، وكلما أصدر حكماً على شخص أو أمر أوحادثة .
(( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )) ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين ، ومالم تتثبت من صحته:من قول يقال ورواية تروى.من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل . ومن حكم شرعي ، أو قضية اعتقادية .
وفي الحديث : (( إياكم والظن فإنه أكذب الحديث)) (2) ، وفي سنن أبي داود : ((بئس مطية الرجل : زعموا)) (3) ،وفي الحديث الآخر : (( إن أفرى الفرى أي يُري الرجل عينيه ما لم تريا))(4) .
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه والتثبت في استقرائه؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته ، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة ، ولا يروي حادثة ، ولاينقل رواية،ولا يحكم العقل حكماً،ولا يبرم الإنسان أمراً إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة ، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها : (( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ))(5) اهـ.
2 ـ العدل في النقل ومعالجة الخطأ :
هذا الجانب من جوانب العدل نحتاج إليه في كل حال من أحوالنا
الفردية والجماعية ، وذلك في حل مشاكلنا ومعالجة أخطائنا معالجة شرعية تسيطر عليها روح المحبة والإخلاص .
__________
(1) تفسير ابن كثير ، جـ4 ص307 ، ط. دار الفكر .
(2) رواه البخاري في النكاح ( 5134 ) ، ومسلم في البر ( 2563 ) .
(3) رواه أبو داود في الأدب ( 4972 ) ، وهو في صحيح سنن أبي داود ( 4158 ) .
(4) مسند أحمد ( 2 / 92 ) من حديث ابن عمر ، وله شاهد عند البخاري في المناقب ( 3509 ) من حديث واثلة بن الأسقع .
(5) في ظلال القرآن ، ( 5 / 326 ) ط . دار المعرفة اللبنانية .(/8)
ويجدر بنا أن نذكر هنا المنهج العادل والطريقة المثالية لمعالجة الخطأ ، وذلك حسبما رسمه لنا من أمرنا الله عز وجل بأن تكون لنا أسوة حسنة فيه لله، وما أكثر المواقف العادلة في سيرته- صلى الله عليه وسلم -، بل إن سيرته- صلى الله عليه وسلم - كلها عدل،ونكتفي هنا بمثال واحد ألا وهو موقفه لله من صنيع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في فتح مكة ، ويحسن أن نذكر القصة بتمامها ؛ ليتضح لنا ذلك القسطاس المستقيم الذي انتهجه الرسول- صلى الله عليه وسلم - في معالجة هذا الخطأ ، رغم شناعته وخطورته :
روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه ، عن علي رضي الله عنه قال : ((بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأبا مرثد والزبير ـ وكلنا فارس ـ قال : (( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب ابن أبي بلتعة إلى المشركين )) ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، فقلنا:الكتاب ، فقالت : ما معي من كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً،فقلنا:ما كذب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ـ وهي محتجزة بكساء ـ فأخرجته ، فانطلقنا بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه .
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ما حملك على ما صنعت ؟)) قال حاطب: والله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله- صلى الله عليه وسلم - ، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال- صلى الله عليه وسلم -: (( صدق،ولا تقولوا إلا خيراً )). فقال عمر : إنه قد خان الله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه ، فقال : (( أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ـ أو فقد غفرت لكم ـ)) ، فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم ))(1) اهـ .
من هذه الحادثة نستطيع أن نحدد ثلاث مراحل للمعالجة العادلة للخطأ، مهما كانت ضخامته :
المرحلة الأولى : مرحلة التثبت من وقوع الخطأ :
وفي هذه الحادثة قد تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي، حيث أوصى الله عز وجل إلى الرسول لله بخبر الكتاب الذي أرسله حاطب مع المرأة،وأين هي المرأة.
المرحلة الثانية: مرحلة التثبت من الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ:
وهذا الأمر متمثل في قوله- صلى الله عليه وسلم -لحاطب: ((ما حملك على ما صنعت ؟ )) وهذه المرحلة مهمة ؛ لأنه قد يتبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذراً شرعياً في ارتكاب الخطأ ، وتنتهي القضية عند هذا الحد ، فإذا لم تنته عند هذا الحد مثل ما ظهر في قضية حاطب ، وأن العذر الذي أبداه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - لم يكن مقنعاً لكنه طمأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - على صدق حاطب ، وأنه لا زال مسلماً، نقول : إذا لم يكن العذر مقنعاً من الناحية الشرعية ، فإنه يصار إلى :
المرحلة الثالثة : وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطأ وحشدها إلى جانب خطئه فقد ينغمر هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته : وهذا هو الذي سلكه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع حاطب رضي الله عنه ؛ حيث قال لله لعمر عندما استأذن في قتل حاطب : (( أليس من أهل بدر ؟ )) فقال : (( لعل الله اطلع على أهل بدر ،فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ـ أو غفرت لكم )) .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله كلاماً جيداً حول هذا الموضوع ؛ حيث قال في رده على من قال : إن الله يعافي الجهال ما لا يعافي العلماء:
(( فالجواب : أن هذا الذي ذكرتموه حق لا ريبة فيه ، ولكن من قواعد الشرع والحكمة أيضاً أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر ، فإنه يحتمل له مالا يحتمل من غيره ، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره ؛ فإن المعصية خبث ، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث ؛ بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى الخبث .
ومن هذا قول النبي- صلى الله عليه وسلم - لعمر : (( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) وقد ارتكب مثل ذلك الذنب العظيم ، فأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه شهد بدراً ، فدل على أن مقتضى عقوبته قائم لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشهد العظيم ؛ فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات .
ولما حض النبي لله على الصدقة فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة ، قال : ((ما ضر عثمان ما عمل بعدها))(2)
__________
(1) رواه البخاري في المغازي ( 3983 ) ، ومسلم في فضائل الصحابة ( 2494 ) .
(2) رواه الحاكم ( 3 / 102 ) ، وصححه ووافقه الذهبي ، وله شواهد أشار إليها الألباني
في تخريج فقه السيرة ص405 .(/9)
، وقال لطلحة لما تطأطأ للنبي- صلى الله عليه وسلم - حتى صعد على ظهره إلى الصخرة : (( أوجب طلحة))(1).
وهذا موسى كليم الرحمن عز وجل ألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه له ، ألقاها على الأرض حتى تكسرت ، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في النبي لله ، وقال : شاب بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ، وأخذ بلحية هارون وجره إليه وهو نبي الله ، وكل هذا لم ينقص من قدره شيئاً عند ربه ، وربه تعالى يكرمه ويحبه، فإن الأمر الذي قام به موسى ، والعدو الذي برز له ، والصبر الذي صبره، والأذى الذي أوذي به في الله أمر لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور ، ولا تغير في وجهه ولا تخفى منزلته .
وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أنه من له ألوف من الحسنات ؛ فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوهما ، حتى إنه ليختلج داعي عقوبته على إساءته وداعي شكره على إحسانه ؛ فيغلب داعي الشكر داعي العقوبة ، كما قيل :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
وقال آخر :
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً فأفعاله اللائي سررن كثير
والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته ، فأيهما غلب كان التأثير له ،فيفعل بأهل الحسنات ـ الذين آثروا محابه ومراضيه، وغلبتهم دواعي طبعهم أحياناً ـ من العفو والمسامحة ما لا يفعله مع غيرهم ))(2) اهـ .
خلاصة ما سبق حول هذا اللازم :
أن العدل في القول والفعل ، ومعالجة الأخطاء لو سلكنا فيها ذلك المسلك النبوي السابق تفصيله لما وقع كثير من المسلمين فيما وقعوا فيه اليوم من كيل التهم ، والتشهير ، وتتبع العثرات ، والذي لا يستفيد منه إلا الشيطان وأولياؤه ، ولا يفرح الشيطان بشيء كفرحه بالفرقة والاختلاف بين المسلمين ، فقد روى الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه عن جابر رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( إن إبليس يضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة ؛ فيجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا ، فيقول : ما صنعت شيئاً ، قال : ثم يجئ أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ، قال: فيدنيه منه ويقول : نعم أنت)) قال الأعمش : أراه قال : (( يلتزمه ))(3) .
فإذا كان فرح الشيطان بالفرقة بين الزوجين بهذه الدرجة ؛ فكيف يكون فرحه بالفرقة بين دعاة المسلمين ؟
ولو أن أحدنا إذا سمع شائعة عن مسلم أو طائفة ما قام بالتثبت منها، فإنه يصبح أمام أحد أمرين :
إما أن تكون الشائعة لا أصل لها ، وأنها مجرد ظنون وأوهام كاذبة ، فيقضي عليها في مهدها.
وإما أن يكون الأمر صحيحاً بعد التثبت فيصار إلى المرحلة الأخرى ، ألا وهي البحث عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى وجود هذا الخطأ ؛ إما من صاحب الشأن ،إن كان ذلك ممكناً ، أو سؤال من يعرفه ، أو من التمعن فيما كتبه إن كان ذلك مكتوباً ...إلخ .
وهذا هو مراد الرسول- صلى الله عليه وسلم - عندما قال لحاطب : ((ما حملك على ما صنعت ؟ )) وإذا اتضح الدافع المؤدي إلى وجود هذا الخطأ وكان مقنعاً من الناحية الشرعية فإن الأمر ينتهي عند ذلك ، وإن لم يكن مقنعاً ؛ فإنه يصار إلى المرحلة الثالثة، ألا وهي النظر إلى حسنات هذا الشخص وبلائه وجهاده،لعل له حسنات عظيمة ينغمر فيها هذا الخطأ ويصبح ضئيلاً ، في الوقت الذي يسعى لتعديل الخطأ والمناصحة فيه بمحبة وإخلاص وحكمة.
ولعله قد تبين لنا الآن من الحديث حول هذا اللازم المهم ـ من لوازم العدل ـ الفرق بين العدل في القول والعمل ، وأثر ذلك في النصيحة والإصلاح والائتلاف ، وبين الاعتداء في القول والعمل ، وما ينتج عنه من تشهير وفرقة واختلاف ، وذلك في وقت نحن معاشر أهل السنة والجماعة بحاجة شديدة إلى الوحدة والائتلاف،لا إلى الفرقة والاختلاف .
3 ـ الفرح بإصابة الغير للحق والحزن على مجانبتهم له :
ولعل هذا اللازم من أصعب لوازم العدل تحقيقاً ؛ لأنه يمثل ـ في نظري ـ قمة العدل والتقوى والورع ، حيث نرى الكثير من دعاة المسلمين اليوم ـ فضلاً عن عامتهم ـ إذا رأوا غيرهم قد أخطأوا فإنهم يفرحون بذلك ، حتى يحسبونه عليهم ، بل إنك ترى البعض منهم يتتبع الكتابات والمقالات التي قالها غيرهم ، وهمهم الوحيد هو تتبع العثرات ، والفرح باصطيادها ، في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك (من إصابة غيرهم للحق) فإنهم يحزنون لهذه الإصابة ، وهذا ـ والعياذ بالله ـ هو الظلم والحقد والحسد ، والذي لا يلتقي مع العدل وحب الخير للناس .
وما أحسن الحكاية التي ذكرها ابن رجب رحمه الله حول هذا الأمر ؛ حيث قال :
__________
(1) رواه أحمد ( 1 / 165 ) . وهو في السلسلة الصحيحة ( 945 ) .
(2) مفتاح دار السعادة ، ص192 ، ط2 المصرية .
(3) رواه مسلم في صفات المنافقين ( 2813 ) ، وهو في شرح مسلم للنووي ( 17 / 157 ) ، ط . المطبعة المصرية ومكتبتها .(/10)
(( وقد استحسن الإمام أحمد ما حكى عن حاتم الأصم أنه قيل له : أنت رجل أعجمي لا تفصح ، وما ناظرك أحد إلا قطعته ؛ فبأي شيء تغلب خصمك ؟ فقال : بثلاث : أفرح إذا أصاب خصمي ، وأحزن إذا أخطأ ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوءه ؛أو معنى هذا ، فقال أحمد : ما أعقله من رجل )) (1) .
4 ـ الشهادة للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته :
ومن المواقف المؤسفة التي تنافي هذا اللازم أننا نرى اليوم كثيراً من الناس يفرطون في محبتهم أو كرههم ، فإذا أحبوا شخصاً أو طائفة ما فإنهم يفرطون في هذا الحب ، ولا يعدلون فيه ؛ حيث إنهم لا يرون إلا الحسنات ويغمضون أعينهم عن الأخطاء والسيئات ويبررونها ويؤولونها ، وكأن من أحبوه لا يجوز عليه الخطأ ، وهذا غلو واعتداء في الحب ، قد يؤدي إلى الغلو في الرجال وتقديسهم ، وفرق بين التقدير والتقديس .
وفي مقابل ذلك إذا أبغضوا شخصاً أو هيئة ما فإن هذا الكره ينسيهم كل الحسنات والإيجابيات ، أو أنهم يشككون في نوايا فاعليها، في الوقت الذي لا يذكرون إلا الأخطاء مع التضخيم والتهويل لها ، ومعلوم ما في ذلك من ظلم واعتداء ومجانبة للعدل والإنصاف ،وما أظن أحداً من المسلمين يوافق على هذا المنهج الجائر ، لكن القناعات النظرية شيء والتزامها في الواقع شيء آخر !!.
بقي أن نعرف أن المنهج الشرعي في مثل هذه المواقف ،هو الشهادة
للمحسن أنه محسن، ويذكر له ذلك بتجرد وإنصاف ، والشهادة للمسيء بأنه مسيء ، والنصح له في ذلك وتلمس العذر ـ إن كان ثمة عذر شرعي ـ لإساءته( كما سبق في المنهج الشرعي لمعالجة الأخطاء) ، والانتباه إلى أن كل بني آدم خطاء ، وكلٌ يؤخذ من قوله ويرد ؛ إلا المعصوم لله ، وأن الاعتدال في الحب والكره من لوازم قول الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)) (النساء:135)
ويا ليتنا نرجع إلى سيرة سلفنا الصالح ـ رضي الله عنهم ـ ، وكيف كانوا في مواقفهم مع المخالفين!، وكيف كانوا يقومون الرجال! ، فلقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن شماسة ، قال : أتيت عائشة أسألها عن شيء ، فقالت : ممن أنت ؟ فقال : رجل من أهل مصر ، فقالت: كيف صاحبكم لكم في غزاتكم ؟ فقال : ما نقمنا منه شيئاً ؛ إن كان ليموت للرجل البعير فيعطيه البعير ، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة ، فقالت : أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أن أخبرك : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول وفي بيتي هذا : (( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ، ومن ولي من أمر أمتي فَرَفَق بهم فارفق به ))(2) .
ويعلق الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث بقوله : (( وفيه أنه ينبغي أن يذكر فضل أهل العلم ، ولا يمنع منه سبب عداوة ونحوها ))(3).
وهذا الإمام ابن كثير رحمه الله ، يقول في ترجمته لشيخ الإسلام ابن
تيمية بعد كلام طويل :
(( وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء ، وممن يخطئ ويصيب، ولكن خطؤه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي ، وخطؤه مغفور له ، كما في صحيح البخاري : (( إذا اجتهد العالم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر))(4)فهو مأجور،وقال الإمام مالك بن أنس:(( كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر- صلى الله عليه وسلم - )) ))(5) اهـ.
ويقول الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه:(الفرق بين النصيحة والتعيير):
((ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يذكر إسحاق بن راهويه ويمدحه ويثني عليه ، ويقول : وإن كان يخالف في أشياء ؛ فإن الناس لم يزل بعضهم يخالف بعضاً ؛أو كما قال . وكان كثيراً ما يعرض عليه كلام إسحاق وغيره من الأئمة ومأخذهم من أقوالهم ؛ فلا يوافقهم في قولهم ، ولا ينكر عليهم أقوالهم واستدلالهم ، وإن لم يكن هو موافقاً على ذلك كله ))(6) اهـ.
ويذكر ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (سيرة عمر ) قول عمر رضي الله عنه : (( ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ، ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً ، وما كافأت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ))(7) اهـ.
__________
(1) الفرق بين النصيحة والتعيير لابن رجب ، تحقيق نجم الخلف ، ص32 ، دار ابن القيم .
(2) رواه مسلم في الإمارة ( 1828 ) .
(3) شرح مسلم للنووي ( 12 / 212 ) ط . دار الكتب العلمية .
(4) رواه البخاري بنحوه في الاعتصام بالكتاب والسنة ( 7352 ) ، ومسلم في الأقضية
( 1716 ) .
(5) البداية والنهاية ( 14 / 139 ) دار المعارف .
(6) الفرق بين النصيحة والتعيير ص31 ، 32 . دار ابن القيم .
(7) خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ووصاياه ، جمع محمد أحمد عاشور ص132 ،
دار الاعتصام .(/11)
ونختتم هذا اللازم من لوازم العدل ببعض آراء ومواقف شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من مخالفيه ؛سواء في الفروع أو الأصول.
يقول رحمه الله في جوابه عن قوله- صلى الله عليه وسلم - : (( تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ))(1) ما الفرق؟، وما تعتقده كل فرقة من هذه الصنوف ؟؛ فقال في معرض جوابه :
(( ... ومما ينبغي أيضاً أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة ، ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه ؛ فيكون محموداً فيما رده من الباطل وقال من الحق ، لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق،وقال بعض الباطل ، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها ، ورد باطلاً بباطل أخف منه .
وهذا حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين ، يوالون عليه ويعادون ، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك ؛ ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها ؛ بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات ، واستحل قتال مخالفه دون موافقه ؛ فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات))(2)اهـ .
5 ـ الابتعاد عن النجوى :
إن مما يفرضه العدل على المسلم أن يبتعد عن النجوى التي من شأنها إحزان المسلمين وإثارة العداوة والبغضاء بينهم ، وهي عامل مهم في ترويج الشائعات . يقول الله عز وجل : (( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ )) (النساء:114) ، وما سوى ذلك فهو شر وتفريق بين المؤمنين .
والناس إزاء الشائعات التي تثار حول شخص أو هيئة ما، ينقسمون حسب تعاملهم مع هذه الشائعات إلى ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : من يقبل هذه الشائعات على علاتها ، ويكتمها في نفسه ، ويرتب عليها أموراً ومواقف من غير تثبت ولا تبين .
الصنف الثاني : من يقوم بالتناجي بها بعيداً عن صاحب الشأن فيها ، ومعلوم ما في ذلك من الوقوع في الغيبة ، وإذكاء الشائعات وانتشارها .
الصنف الثالث: من يسارع إلى التثبت من الشائعة ممن أثيرت حوله مباشرة ، ولا يذهب مع الظنون والوساوس النفسية أو المناجاة التي تحزن المسلم.
ولو حاكمنا معاملة هذه الأصناف الثلاثة إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم - لاتضح لنا أن الصنف الأول والثاني مخالفان للشرع ، وأن طريق الصنف الثالث هي الطريقة الشرعية،التي تقوم على التثبت وحب الخير للمسلمين ورعاية حقوقهم وأعراضهم والتماس الأعذار لهم .
وهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية في عتاب المسلم لأخيه المسلم ، إذا وصله من أخيه ما يسوءه .
6 ـ سلامة القلب :
يقول الله ـ عز وجل ـ : (( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) (الشعراء: 88 ، 89) ، وقد ورد في تفسير ابن كثير حول هذه الآية : (( أن القلب السليم هو السالم من الشرك ، وهو قول مجاهد والحسن وغيرهما ، وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو القلب الصحيح ، وهو قلب المؤمن ))(3) اهـ .
وعلق القرطبي في تفسيره : ((عن عوف الأعرابي قال:سألت محمد ابن سيرين ما القلب السليم؟قال:الناصح لله عز وجل في خلقه))(4) اهـ.
وروى البخاري في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال : ((بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم ))(5) .
وعلق ابن حجر رحمه الله بقوله : ورواه ابن حبان... ، وزاد فيه : (( فكان جرير إذا اشترى أو باع قال لصاحبه : اعلم أن ما أخذناه منك أحب إلينا مما أعطيناك ، فاختر ))(6) .
من ذلك يتبين أثر سلامة القلب في العدل مع الناس ، حيث إن صاحب هذا القلب مطمئن البال هادئ النفس يحب الخير للناس ، ويبذل النصح لهم ، وهذه صفات أصحاب رسول الله الذين مدحهم الله عز وجل بقوله: ((مُّحَمَّدٌ َّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ )) لفتح:29)
__________
(1) رواه أبو داود في السنة(4596)،والترمذي في الإيمان(2642) ، وابن ماجه في الفتن
(3991) وله طرق أخرى وشواهد. انظر السلسلة الصحيحة(203)،(1492) .
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 3 / 348 ) .
(3) تفسير ابن كثير ( 5 / 191 ) ط . دار الفكر .
(4) تفسير القرطبي ( 15 / 91 ) .
(5) رواه البخاري في الإيمان ( 57 ) .
(6) فتح الباري ( 1 / 168 ) السلفية .(/12)
ومثل هذا يلقى له القبول بين الناس ،حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات ؛ فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة وحب الهداية للغير ، لا مجرد الرد والخصومة والجدال ، كما هو الحال في كثير ممن يتصدى اليوم للمخالفين له أولشيخه ؛ حيث إن الأمر يصل به إلى الاعتداء في كلامه لمن يخالفه في الفروع التي يسعها الخلاف، لا لشيء إلا لأنه خالفه أو خالف شيخه وكفى .
وخلاصة القول في ( سلامة القلب ) أنه أصل للَّوازم السابقة كلها ، فبسلامة القلب ، والنصح لله عز وجل في الخلق يتم العدل في جميع الأمور السابقة ، وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه ، ولا ينتقم لنفسه .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله ـ في مدارج السالكين ـ أحد عشر مشهداً فيما يصيب المسلم من أذى الخلق وجنايتهم عليه ، نكتفي بمشهد واحد ؛ حيث قال رحمه الله :
(( المشهد السادس : مشهد ( السلامة وبرد القلب ) ، وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته ؛وهو ألا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره ، وشفاء نفسه ، بل يفرغ قلبه من ذلك ، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له، وألذ وأطيب،وأعون على مصالحه.
فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه فيكون بذلك مغبوناً ، والرشيد لا يرضى بذلك ، ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس ، وإعمال الفكر في إدراك
الانتقام؟ ))(1) اهـ.
ولقد اطلعت على رسالة كتبها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى تلامذته بدمشق ، وفيها تبرز هذه الصفة بجلاء ، ولولا خشية الإطالة لنقلتها بتمامها ، ولكن نكتفي بمقاطع منها ، قال رحمه الله بعد السلام والأشواق إلى تلامذته :
(( وتعلمون من القواعد العظيمة ـ التي هي من جماع الدين ـ تأليف القلوب ، واجتماع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، فإن الله تعالى يقول : (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)) (آل عمران:103) ، ويقول : (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) (آل عمران:105) ، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف .وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة ، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة...)) إلى أن قال في الرسالة نفسها :
(( وأول ما أبدأ به من هذا الأصل : ما يتعلق بي ، فتعلمون رضي الله عنكم جميعاً أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين ـ فضلاً عن أصحابنا ـ بشيء أصلاً ، لا باطنا ، ولا ظاهراً ، ولا عندي عتب على أحد منهم ، ولا لوم أصلاً ، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان ، كل بحسبه .
ولايخلو الرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً ، أو مخطئاً ، أو مذنباً ، فالأول: مشكور ،
والثاني : أجره على الاجتهاد ؛ فمعفو عنه مغفور له ،
والثالث : يغفر الله لنا وله ولسائر المؤمنين ، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل : فلان كان سبب هذه القضية ، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب ولا حول ولا قوة إلا بالله ، بل مثل هذا يعود على قائله بالملام ، إلا أن يكون له من حسنة ، وممن يغفر الله له إن شاء الله، وقد عفا الله عما سلف... )) إلى أن قال رحمه الله في الرسالة نفسها :
(( فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي ، أو ظلمه وعدوانه ، فإني قد أحللت كل مسلم ، وأنا أحب الخير لكل المسلمين ،وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي ، والذين كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي ))(2) اهـ.
7 ـ الصدق والوضوح :
إن هذا اللازم يعتبر أيضاً سبباً من أسباب حصول العدل ؛ فهو نتيجة وسبب في نفس الوقت ؛ لأن الصدق يؤدي إلى العدل ، والعدل يستلزم الصدق والوضوح في الأقوال والأفعال ، وأردت من إيراد هذا اللازم الإشارة إلى ما يقع في زماننا هذا من الأساليب الغامضة في تعامل المسلمين بعضهم مع بعض ، وعدم الوضوح في المقاصد والوسائل ، وهذا كله يؤدي ـ شِئْنا أم أبينا ـ إلى مجانبة الصدق والوقوع في الكذب الصريح .
وهذا الغموض وعدم الوضوح وسوء الظن بالمسلمين،من الأمراض الخطيرة التي تؤدي إلى إذكاء العداوة والفرقة بين المسلمين ، وعدم اطمئنان بعضهم إلى بعض ، في الوقت الذي يفترض الصدق في المسلم، وألا يساء الظن به ، أو أن مراده من كلامه كذا وكذا ...إلخ.
ولقد مر بنا في الطريقة التي عالج بها الرسول لله خطأ حاطب رضي الله عنه ، وكيف أنه لله عندما سمع من حاطب عذره ، قال : (( صدق، لا تقولوا إلا خيراً )) ، ولم يذهب إلى سوء الظن به ، واتهامه بالكذب ، أو اللف والدوران كما يقولون .
__________
(1) مدارج السالكين ( 2 / 320 ) ، تحقيق : محمد حامد الفقي . دار الكتاب العربي .
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 28 / 51 ـ 57 ) .(/13)
وإن الصدق منجاة وخير كله في الدنيا والآخرة ، والصدق في الحديث أمر لازم لاطمئنان القلوب بعضها ببعض ، وطريق إلى التآلف وحصول البركة ؛ فلقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن حكيم بن حزام رضي الله عنهما أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال : (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، أو قال: حتى يتفرقا ؛ فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ))(1) .
فإن كان الصدق سبباً لحصول البركة للمتبايعين على سلعة ، والكذب والكتمان يمحق بركة بيعهما ، أقول : إذا كان الأمر كذلك في أمر من أمور الدنيا؛فكيف يكون الحال إذا كان الصدق أو الكذب على أمر من أمور الآخرة ؟، لأن الدعوة عبادة يراد بها الدار الآخرة ؛فلأن يصدق هذا الحديث على ذلك من باب أولى، والتجربة أكبر شاهد ؛ حيث إن الصدق والوضوح بين أصحاب الدعوة وحسن الظن فيما بينهم ينتج عنه نتائج طيبة،ويبارك الله عز وجل في جهودهم وتعاونهم ، والعكس بالعكس ؛ فإن الكذب والأساليب الملتوية لم ينتج عنهما إلا الفرقة وسوء الظن وتشتيت الشمل .
وهنا يجب إيضاح أن لا تعارض بين وجود الصدق والوضوح وبين
الكتمان ؛ فإن كان لابد متحدثاً فليكن صادقاً وواضحاً وإلا فليصمت .
ثم إننا نقصد بكل ما سبق أهمية هذا اللازم بين المسلمين بعضهم مع بعض ، أما الكافرون والمنافقون ؛ فإن التعامل معهم يجب أن يكون بحذر ، وتقدير ما ينبغي أن يقال ، وألا يطلعوا على أسرار المسلمين بحجة الصدق.
* * *
الخاتمة
ولعلنا في هذه الخاتمة نجمل ما تم تفصيله في ثنايا هذا البحث ؛ حيث طرحت فيه النقاط التالية :
1 ـ إن الإنسان في طبيعته كان ظلوماً جهولاً .
2 ـ إن الأمانة العظيمة التي أشفقت من حملها السموات والأرض لن
يستطيع أن يحلمها الإنسان إلا بالعلم والعدل .
3 ـ إن العدل كلمة يراد بها التوسط في الأمور ،وذلك بين الإفراط
والتفريط، فالجافي والغالي كلاهما قد جانب العدل .
4 ـ للعدل صور كثيرة مردها إلى ثلاثة أقسام : العدل الأعظم وهو
توحيد الله عز وجل ، والعدل مع النفس ، والعدل مع العباد .
5 ـ كان التركيز في هذا البحث على العدل مع العباد ؛ وذلك للحاجة
الماسة إليه ،وخاصة في هذاالعصر الذي بغى بعض الناس فيه على بعض .
6 ـ للعدل مقتضيات ولوازم كثيرة لا يمكن استيعابها في مثل هذا
البحث وقد ركزت على أهمها،وخاصة فيما يتعلق بالتعامل مع
الناس من إقالة العثرات ، وإحسان الظن ، وقطع الطريق على
الشيطان الذي يسعى إلى إيجاد الإحن والأحقاد والظلم بين
المسلمين .
7 ـ إن سبب الاختلاف والتفرق بين المسلمين يرجع إلى أمرين مهمين :
أ ـ الجهل الناشئ من فقدان أو قلة العلم بدين الله ، والذي يؤدي
بدوره إلى الأخذ بالباطل محسوباً أنه هو الحق .
ب ـ الظلم الناشئ من الهوى وعدم العدل والإنصاف ، ومثل هذا قد
يعلم صاحبه أن الحق مع مخالفه ، ولكن التعصب والهوى ومجانبة
العدل يجعله يصر على الباطل ، ولو علم أنه باطل.
8 ـ إن وسائل رفع الجهل عن النفس يتم بتعلم دين الله عز وجل
وحدوده ، كما بلغها الرسول لله لأصحابه وسار عليها سلف الأمة
من التابعين وتابعيهم من أئمة هذا الدين وأعلامه .
أما وسائل رفع الظلم والتحلي بالعدل والإنصاف؛ فإنه لا يتم بالتعلم فقط ، فقد يعلم الإنسان بتلك الوسائل ولا يعمل بها .
وللعدل مفاتيح وعلامات وتباشير أجملها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله:
(( وإن للعدل أمارات وتباشير ؛ فأما الأمارات: فالحياء ، والسخاء ، والهين ، واللين . وأما التباشير : فالرحمة ، وقد جعل الله لكل أمر باباً ، ويسر لكل باب مفتاحاً ؛ فباب العدل الاعتبار ، ومفتاحه الزهد ، والاعتبار: ذكر الموت بتذكر الأموات ، والاستعداد له بتقديم الأعمال ، والزهد : أخذ الحق من كل أحد قبله حق ، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق، ولا تصانع في ذلك أحداً ))(2) اهـ .
وخلاصة القول في مفتاح العدل أنه تقوى الله عز وجل ، والتجافي عن دار الغرور،والإنابة إلى دار الخلود؛حيث يقول الله عز وجل : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) (المائدة:8) ، حيث إنه لا مفتاح للعدل إلا بالتقوى ، والتقوى فقط .
__________
(1) رواه البخاري في البيوع ( 2110 ) ، ومسلم في المساقاة رقم ( 1607 ) .
(2) خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ووصاياه ، جمع : د . محمد أحمد عاشور ،
ص62 ، دار الاعتصام .(/14)
وتبقى كلمة أخيرة في هذه الخاتمة أنصح بها نفسي وإخواني الدعاة من أهل السنة ، بأن نتقي الله عز وجل ، ونصلح ذات بيننا ، وأن نلزم أنفسنا بالعدل في أقوالنا وأعمالنا ،وأن نحذر من نزغات الشيطان ، فكما أسلفت في ثنايا البحث إن أعظم فرحة للشيطان يوم أن يفرق بين المسلمين ، ويخالف بين كلمتهم ، فهو ما يألو يسعى للتحريش بالمسلمين ، كما جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن رضي بالتحريش بينهم ))(1) .
وإن الواجبات الملقاة على أهل السنة اليوم أكبر وأضخم مما تستطيعه طائفة واحدة من طوائف أهل السنة ، فإن لم يَسْعَ المصلحون والمتقون من أهل السنة لجمع الكلمة وتأليف القلوب ؛ فإن فساداً كبيراً لا شك نازل؛ كما قال عز وجل : (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )) (لأنفال:73) ؛ أي إلا يوالى المسلمون ويعادى الكافرون تكن فتنة للناس(2) .
أسأل الله عز وجل أن يجمع دعاة الإسلام على الحق ، وأن يؤلف بين قلوبهم ويسدد آراءهم ، وأن ينصرهم على أعدائهم ، إنه سميع مجيب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
* * *
الرسالة الثانية : (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ )) ( سبأ 46)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لله وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فقد أنزل الله تبارك وتعالى القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، وقد ضمن في هذا الكتاب الهدى والشفاء، لأوليائه المؤمنين خاصة وللناس عامة، موعظة وإنذاراً ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )) (يونس:57، 58) .
ففي هذه الآية يبين الله عز وجل أن هذا القرآن العظيم ؛ جاء موعظة للناس كافة ، وشفاء لصدور المؤمنين ، ورحمة لهم بصفة خاصة .
فالمؤمنون وحدهم هم الذين ينتفعون بمواعظ القرآن ، ومن سواهم فهو عليهم عمىً ؛ كما قال تعالى : (( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً )) (فصلت:44).
ومن بين مواعظ القرآن العظيمة ما ذكره سبحانه وتعالى في سورة سبأ، عن محاجة المشركين الذي كذبوا رسول - صلى الله عليه وسلم - ورموه بالسحر تارة وبالجنون تارة أخرى : قال تعالى : (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) (سبأ:46) .
وهذه الآية وإن كانت موجهة إلى المشركين الذين رموا الرسول لله بما هو منه براء إما لجهل أو لهوى، فإنها تخاطب جميع المشركين في كل زمان ومكان ، بل جميع المختلفين في قضايا هذا الدين أصوله وفروعه، وترسم منهجاً لحل خلافاتهم ، وأصولاً لحواراتهم ، وتخط لهم صراطاً مستقيماً من وحي كتاب الله العظيم ، والذي من سار عليه واتبعه وصل إلى الحق والهدى ،ومن تنكبه واتبع هواه ضل طريقه ،وإن واصل السعي بالليل والنهار .
تفسير الآية
قبل ذكر أقوال بعض المفسرين حول هذه الآية نذكر ما قبلها من الآيات حتى يتضح المقصود . يقول الله عز وجل : (( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) (سبأ:43 - 46)
__________
(1) رواه مسلم في صفات المنافقين ( 2812 ) .
(2) تفسير ابن كثير ( 3 / 354 ) ، ط . دار الفكر .(/15)
من هذه الآيات البيّنات يتضح لنا أن هذه الموعظة الموجهة إلى مشركي قريش كانت بسبب اتهامهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -بالكذب تارة ،وبالسحرة تارة أخرى ، دون تفكير أو تدبر، شأنهم في ذلك شأن الذين يتبعون أهواءهم ، وآثار آبائهم ومتبوعيهم دون دليل.
وقد أقام الله عز وجل هذه الموعظة العظيمة التي مَنْ أخذها بجميع مقوماتها فلابد أن يصل إلى الحق ؛ وهو في الآية:كون النبي- صلى الله عليه وسلم - رسولاً من عند الله عز وجل ،ونذيراً لهم بين يدي عذاب شديد، وليس كما يزعمون ويرددون دون وعي ولا نظر بأنه ساحر أو كاذب أو مجنون (( مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) [سبأ:46].
ولكي يحصل الانتفاع بهذه الموعظة العظيمة فلابد من الأخذ بجميع المقومات التي قامت عليها هذه الموعظة ، وهي :
* القيام لله تعالى : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ )) ، والتجرد في طلب الحق.
* مراجعة النفس والخلوة بها أو مع شخص ثانٍ : (( مَثْنَى وَفُرَادَى )).
* التفكر فيما يقوله المخالف : (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) .
وتظهر أهمية هذه المقومات في كلام علماء التفسير رحمهم الله تعالى.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى في فتح القدير- حول قوله تعالى : (( إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ)) :
(( أي أحذركم بواحدة،وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه،وأوصيكم بخصلة واحدة؛وهي : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى )) . وهذا تفسير للخصلة الواحدة أو بدل منها ، أي هي : قيامكم وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين ؛ اثنين اثنين ، وواحداً واحداً ؛ لأن الاجتماع يشوش الفكر.
وليس المراد القيام على الرجلين بل المراد القيام لطلب الحق وإصداق الفكر فيه؛ (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) في أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وما جاء به من الكتاب ، فإنكم عند ذلك تعلمون أن (( مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ )) ؛وذلك لأنهم كانوا يقولون: إن محمداً مجنون.
فقال لهم : اعتبروا أمري بواحدة ؛وهي أن تقوموا لله وفي ذاته مجتمعين ومتفرقين ، فيقول الرجل لصاحبه:هلم فلنصدق ، هل رأينا بهذا الرجل من جنة ـ أي جنون ـ أو جربنا عليه كذباً ؟.
ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه ، وليتفكر ولينظر ؛ فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صادق ، وأنه رسول من عند الله عز وجل ، وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون )) (1) اهـ .
وقال النسفي رحمه الله في تفسيره : (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ )) أي بخصلة واحدة وقد فسرها بقوله: (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ...)) الآية،على أنه عطف بيان لها . وقيل: في محل الرفع،والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم ؛وهي أن (( تَقُومُوا لِلَّهِ )) أي لوجه الله خالصة ، لا لحمية ، ولا لعصبية ، بل لطلب الحق (( مَثْنَى)) اثنين اثنين ، ((وَفُرَادَى )) فرداً فرداً (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) في أمر محمد ، وما جاء به .
أما الاثنان فيتفكران؛ يعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران نظرة الصدق والإنصاف حتى يؤدي النظر الصحيح إلى الحق وكذلك الفرد يتفكر مع نفسه بعدل وإنصاف ويعرض فكره على عقله.
ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ، ويعمي البصائر ، ويمنع الروية ، ويقل الإنصاف فيه ، ويكثر الاعتساف ، ويثور عجاج التعصب ، ولا يسمع إلا نصرة المذهب )) (2) اهـ .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير الكريم المنان- في تفسيره لهذه الآية :
((أي أعظكم بخصلة واحدة أشير عليكم بها وأنصح لكم في سلوكها، وهي طريق نصف،لست أدعوكم إلى اتباع قولي ولا إلى ترك قولكم من دون موجب لذلك؛وهي ((أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى)) أي تنهضوا بهمة ونشاط وقصد لاتباع الصواب وإخلاص لله عز وجل، مجتمعين ومتباحثين في ذلك ومتناظرين ، وفرادى كل واحد يخاطب نفسه بذلك ، فإذا قمتم لله مثنى وفرادى واستعملتم فكركم ، وأجلتموه ،وتدبرتم أحوال رسولكم ، هل هو مجنون فيه صفات المجانين؛من كلامه ، وهيئته ووصفه ، أم هو نبي صادق منذر لكم ؟
فلو قبلوا هذه الموعظة واستعملوها لتبين لهم أكثر من غيرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بمجنون ؛ لأن هيئته ليست كهيئة المجانين وخنقهم واختلاجهم..فكل من رأي أحواله وقصده استعلام هل هو رسول الله أم لا؟ سواء تفكر وحده أو مع غيره ؛ جزم بأنه رسول الله حقاً وتبين صدقه)) (3) اهـ.
وقال سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ حول ظلال هذه الآية :
__________
(1) فتح القدير ، عند الآية 46 من سورة سبأ .
(2) تفسير النسفي ، عند الآية 46 من سورة سبأ .
(3) تفسير الكريم المنان ، عند الآية 46 من سورة سبأ .(/16)
((وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق ، ومعرفة الافتراء من الصدق،وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل: (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) ، إنها دعوة إلى القيام لله عز وجل بعيداً عن الهوى ، بعيداً عن المصلحة ، بعيداً عن ملابسات الأرض ، بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب ، فتبعد به عن الله ، بعيداً عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة والمؤثرات الشائعة في الجماعة.
دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط لا مع القضايا والدعاوي الرائجة ولا مع العبارات المطاطة التي تبعد القلب والعقل عن مواجهة الحقيقة في بساطتها ، دعوة إلى منطق الفطرة الهادي الصافي بعيداً عن الضجيج ، والخلط، واللبس،والرؤية المضطربة ، والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة، وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة ، منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والمؤثرات ، وعلى مراقبة الله عز وجل وتقواه.
وهي (( وّاحٌدّةُ)) إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق :القيام لله ، لا لغرض،ولا لهوى،ولا لمصلحة،ولا لنتيجة،التجرد،الخلوص،ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.
(( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى )) مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء ، وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق .
(( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ )) فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده، إن هو إلا القول المحكم القوي المبين )) (1) اهـ.
وبعد هذه النقولات من بعض كتب التفسير حول هذه الآية نستطيع الآن توضيح مقومات هذه الموعظة العظيمة وشروط الانتفاع بها بما يلي:
الشرط الأول : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ )) :
إن هذا الشرط هو الأساس لكل عمل ، وبدونه يفسد العمل ، ولا يوفق فيه صاحبه ، ولا يبارك له فيه ، فالقيام لله عز وجل هو المنطلق لصحة العمل إذا اقترن ذلك مع المتابعة فيه للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
فالإخلاص في البحث عن الحق ، والصدق في طلبه، شرط أساسي للوصول إلى ذلك الحق ، وعندما يغيب الإخلاص ينعدم الانقياد إلى الحق، حتى ولو كان مثل فلق الصبح ؛ لأن من تعلق قصده بغير وجه ربه عز وجل ثقل عليه الانقياد للحق وقصرت همته عن بلوغه والعمل به .
فوجب على من أراد معرفة وجه الحق في أي أمر أن يخلص قصده ونيته لله عز وجل ، وأن يتجرد لاتباع الحق عند ظهوره ،ولو على لسان مخالفه ، وأن يعلم أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .
ولكن قد يكتنف القائم لله عز وجل بعض الملابسات والظروف التي قد تغطي الحق أو تلبسه بالباطل ، فيقبل به ظاناً أنه الحق،وذلك بسبب بعض الظروف المحيطة به،لذلك فإنه لا مناص من توفر باقي الشروط للانتفاع بموعظة الله عز وجل ومنهجه السوي في الوصول إلى الحق المنشود، وذلك من :
الشرط الثاني : (( مَثْنَى وَفُرَادَى )) :
والالتزام بهذا الشرط يقضي على عامل مهم من العوامل التي تغطي الحق أو تشوه وجهه ، وذلك في مثل الأجواء الجماعية والجماهير الجاهلة والتي غالباً ما تتصف بالغوغائية والتقليد الأعمى ، واتباع كل ناعق من رؤوس الضلال ، مما قد يؤدي بطالب الحق المخلص إلى اتباع الأكثرية من الناس متهماً نفسه،ظاناً أن الحق مع الأكثرية،دون أن يدري أن هذه الحركة الغوغائية قد غطت الحق ،وضيعت معالمه ، فاشتبه مع غيره ، خاصة عند من قلت بصيرته ، وقل نصيبه من هدى الله عز وجل ، وهدى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا ما حدث من اتهام قريش للرسول لله بشكل جماهيري غوغائي ، وقولهم ساحر وكاهن ومجنون ...إلخ.
فوعظهم الله عز وجل أن يقوموا لله ويخلصوا وجوههم له، ويبتعدوا عن هذه الأجواء ، ويرجعوا إلى أنفسهم ، حيث يقف الإنسان مع نفسه أو مع صاحبه ، ويصحب ذلك التفكير العميق والتدبر لحال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلابد أن يصلوا إلى الحق والهدى، وهو ما جاء في ختام الآية (( مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)) [سبأ :46] .
__________
(1) في ظلال القرآن ، عند الآية 46 من سورة سبأ .(/17)
ونخرج من هذه الآية بفائدة سيأتي تفصيلها في ثنايا البحث إن شاء الله ، وهي أن القاصد للحق أو الباحث في مسألة خلافية كبيرة أو صغيرة عليه أن يتجنب المناظرة في جو جماعي ، لأن المُناظر يكون أقرب إلى ترك رأيه إذا تبين أن الحق في خلافه إذا كان التفكير مع شخص واحد بخلاف حال الجماعة ، فقد يعز عليه الاعتراف بالخطأ أمام مؤيديه أو مخالفيه المجتمعين حوله،والله تعالى عليم بمسارب نفوس خلقه ، خبير بطبائعهم ، فلذلك وعظهم موعظة من يعلم حالهم ، ويعلم ما يصلحهم ويهديهم إلى صراطه المستقيم ،ومنهجه القويم (( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) (الملك:14) .
الشرط الثالث : (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)) :
وهذا الشرط هو الوسيلة الأساسية للوصول إلى الحق بعد الالتزام بالشرطين السابقين ؛ فالتفكير ، والعلم ، وإعمال الرأي هو المتمم لهذا المنهج الإلهي للوصول إلى الحق وتَبَيُّن الهدى من الضلال .
وهذا الشرط يقودنا إلى قضية هامة؛ألا وهي قضية العلم الشرعي ، ومعرفة دين الله عز وجل ، وإقامة الدليل والبرهان على ما يعتقد أنه الحق، وإذا كان الكفار الذين خوطبوا مباشرة بهذه الآية، ووجهت إليهم هذه الموعظة العظيمة ما كان عندهم علم شرعي ، وليس عندهم الدليل فيما يعتقدونه ، فلذلك كان المطلوب منهم التفكير بحال الرسول لله ، وإقامة الدليل على ما يتهمونه به .
فإذا كان الأمر بالتفكير مع الكفار بهذه الصورة ؛ فإن الأمر بالنسبة لطالب الحق في المسائل الشرعية والعقائدية والفكرية آكد ؛ حيث لابد أن يكون مؤهلاً من الناحية العلمية لبحث هذه المسألة ، ودراسة أوجه الخلاف حولها ، وإلالم يكن للتفكير فائدة ، كمن يحارب بغير سلاح ولا عدة ، وقد كان عند كفار مكة من العلم بأحوال الرسول لله وصفاته ،وصدقه ، وأمانته ما يكفي ، ولو أنهم فكروا في ذلك لقادهم ذلك إلى الإذعان والانقياد للحق الذي جاءهم به الرسول- صلى الله عليه وسلم - .
وكذلك الحال لكل المختلفين أو المتناظرين إذا لم يكن لديهم علم بما يختلفون فيه ؛ فإنه لا فائدة من التفكير ؛ لأن أداة التفكير الأساسية هي العلم بحال القضية المختلف فيها .
فالمقصود إذن بالتفكير هنا هو البحث عن الأدلة الشرعية والتحقق من ثبوتها ودلالتها على المراد ، كما يدخل في العلم أيضاً العلم بحال القضية المختلف حولها وملابساتها ...إلخ .
فالجاهل بذلك كله لا يستطيع الوصول إلى الحق لفقده الأدوات الموصلة إليه ، فلذلك نجد أمثال هؤلاء يوجههم التقليد الأعمى دون فكر أو نظر .
وإذا كان الله عز وجل قد بين لنا في كتابه الكريم منهجاً للوصول إلى الحق
فيما اختلف فيه ، فإن هذا المنهج وذلك الطريق السوي يمر أحياناً عبر أنواع من الحوار والمناظرة لابد منها .
فالمتتبع لمنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله وحده، يجد أن أكثرهم قد وقف مع قومه موقف المناظرة وإقامة الحجة والنصح ، وتبيين الحق من الباطل ، والصبر على ذلك ، مع شدة رفضهم للحق وعنادهم وتعنتهم ، ولكن مهمة البلاغ والدعوة إلى الله عز وجل تستلزم شيئاً من ضبط النفس والتحمل حتى يتم البلاغ على أكمل وجه .
ولكثرة الخلاف الواقع بين طوائف المسلمين اليوم ، وخاصة بين الطوائف من أهل السنة ؛ فإنا نقدم هذه الكلمات التي نحسب أن فيها إشارة إلى الطريقة المثلى في الحوار والمناظرة المؤدية بإذن الله عز وجل إلى الاجتماع والائتلاف في حدود منهج السلف وأصول الشريعة .
وقد اتضح من الآية السابقة التي هي موضع البحث أصول للحوار نطرحها بهذه المناسبة ،ونضيف عليها ما وقع عليه الفكر والنظر من آداب الخلاف . وقبل ذكر هذه الأصول يحسن التقدمة لها بأهمية هذا الموضوع ، وبعض التعريفات والوقفات السريعة .
أهمية هذا الموضوع
إن الإلمام بآداب الحوار والاختلاف أمر مهم ينفع صاحبه في حياته كلها، وبخاصة الداعية إلى الله عز وجل ، وهذه الجوانب المفيدة كثيرة نقتصر منها على ما يلي :
1- من المعلوم أن مهمة الداعية إلى الله عز وجل هي بذل الأسباب في هداية الناس ودلالتهم إلى الخير ، ولابد أن يواجهه في ذلك التواءات النفوس وخلافهم معه في الرأي ، فإذا لم يكن لديه من الإلمام بآداب الحوار والاختلاف الشيء الكافي،لكي يصبر ويستمر في دعوته ، فقد ينفر الناس منه ، وهو يسعى لجمعهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
2- إن أهمية الإلمام بآداب الحوار والاختلاف،ترجع للظروف الملحة في هذا العصر الذي يعد عصر تعدد الجماعات الإسلامية والفُرقة الموجودة بينهم ؛ وذلك لأن الإلمام بذلك يساعد في تقارب القلوب وتفهم الأفكار؛مما يكون له الأثر في تضييق هوة الخلاف والتماس العذر للعاملين في الدعوة الإسلامية ،وهذا يؤدي إلى الوحدة المنشودة .(/18)
3- كما يفيد تفهم هذه الآداب أيضاً في معالجة وجهات النظر المختلفة التي تكون بين أفراد المجموعة الواحدة ، بل أفراد العائلة الواحدة ؛ لأن فقد هذه الآداب يضخم المشاكل ، ويجعل من الحبة قبة كما يقولون
* * *
الفرق بين الجدال والحوار
الجدال : مصدر جادل وهو المناقشة على سبيل المخاصمة ، ومقابلة الحجة بالحجة .
والحوار : الجواب . حاوره محاورة وحواراً جاوبه وراجعه ، فهو مراجعة في الكلام بين طرفين أو أكثر دون ما يدل بالضرورة على وجود خصومة بينهما .
وقد يكون الجدل والحوار بمعنى واحد إذا خلا الجدل من العناد والتعنت للرأي ، كما ذكر تعالى في سورة المجادلة : ((قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ )) (المجادلة:1) .
فسمى الله سبحانه وتعالى مجادلة المرأة للرسول لله ومجاوبته لها محاورة ، والله أعلم .
وعلى أية حال ؛ فالحوار كلمة غالباً ما تستعمل في المناظرة الهادئة التي يسود عليها الألفة والبحث عن الحق ، والجدال غالباً ما يكون جَوّه صاخباً، وقد ينشأ عنه خصومة وعناد .
ما هي نتيجة الحوار :
ليس شرطاً للحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر، ويتفقان على موقف واحد ، فهذا نجاح لا شك فيه ، وإنما يعتبر الحوار ناجحاً أيضاً إذا توصل الطرفان إلى أن كل قول يقوله أحدهما هو صحيح ، أو في الإطار الذي يسعه الخلاف ، أما فشل الحوار فيكون عندما يتشبث كل طرف برأيه ويُخَطِّئْ الآخر أو يفارقه .
بعض الآيات والأحاديث الواردة
في آداب الحوار وحسن المناظرة
قال تعالى :
- (( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)) (البقرة:83).
- (( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ )) (الإسراء:53)
- (( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ )) (المؤمنون:3)
- (( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ )) (القصص:55) )
- (( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ)) (المؤمنون:96)
- (( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )) (النحل:125)
- (( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)) (النساء:114) .
- (( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )) (طه:44)
والآيات في ذلك كثيرة .
أما الأحاديث النبوية ، فمنها :
- ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) (1).
- (( الكلمة الطيبة صدقة )) (2) .
- (( تبسمك في وجه أخيك صدقة )) (3) .
- (( وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)) (4)
- (( الكبر بطر الحق وغمط الناس )) (5) .
- (( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا )) (6) .
- (( ليس الشديد بالصرعة ، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) (7) .
- (( إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطيه على العنف ، وما لا يعطي على سواه ))(8) .
والأحاديث في ذلك كثيرة .
والآن وبعد هذه التعريفات والآيات والأحاديث التي تشير إلى الآداب الإسلامية في المعاملة مع الناس ومحاورتهم ، نأتي لتفصيل أصول الحوار في ضوء الآية الكريمة التي كانت منطلق هذا البحث ، وهي قوله تعالى : (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) [سبأ:46].
وكما تمت الإشارة في تفسير هذه الآية وما يتعلق بها أنها تعتبر منهجاً قويماً لمن أراد الوصول إلى الحق ، ولأن المقصود من الحوار الوصول إلى الحق ؛ فإن هذه الآية الكريمة ترسم لنا بمقوماتها الثلاثة أصول الحوار الصادق، وذلك فيما يلي :
الأصل الأول : الإخلاص لله عز وجل ، والتجرد الكامل قبل الحوار وأثنائه وبعده : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ )) .
الأصل الثاني : العلم بحقيقة واقع القضية المطروحة من الناحية الشرعية والواقعية : (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) .
الأصل الثالث : اعتبار مراعاة ظروف الحوار والمحاورة : (( مَثْنَى وَفُرَادَى)) .
الأصل الأول
الإخلاص لله عز وجل والقيام له وحده
(( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ))
ويدخل تحت هذا الأصل عدة متعلقات ، نذكر منها ما يلي :
__________
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(3) رواه الترمذي في البر والصلة(1956)،والحديث في صحيح سنن الترمذي (1602) .
(4) رواه الترمذي في الإيمان (2616)،وابن ماجه في الفتن (3973)، والحديث في صحيح سنن الترمذي ( 2110 ) ، وفي صحيح سنن ابن ماجه ( 3209 ) .
(5) رواه مسلم في الإيمان ( 91 ) .
(6) متفق عليه .
(7) متفق عليه .
(8) رواه مسلم في البر والصلة ( 2593 ) .(/19)
1- تصحيح النية قبل الدخول في الحوار :
وذلك بمساءلة النفس عن الغرض من الحوار ؛ أهو إرادة الحق فحسب، أو أن هناك أغراضاً أخرى:كحب الظهور،وإفحام الخصم، و أن يرى الناس مكانه؟،فإذا كانت هذه الأغراض موجودة فليحجم المحاور عن الحوار حتى تتجرد نيته تماماً لله عز وجل، وأنه يريد الحق،ولو ظهر على لسان الطرف الآخر .
12- حسن الاستماع والاهتمام بكلام الطرف الآخر :
فالمتحدث البارع مستمع بارع ، فلابد من حسن الاستماع ، والانتباه لما يقوله الطرف المقابل ، وعدم مقاطعته ، وتركه حتى ينتهي ، وتدوين أي فكرة تطرأ أثناء كلامه حتى يفرغ تماماً ، وهذا من التواضع ، وإعطاء الأهمية لكلام الآخرين ؛ حتى لايحصل العجب بالنفس ، وأنه الذي ينبغي أن يستمع له وأن غيره ليس عنده ما يستحق ذلك.
كذلك على المحاور المخلص أن يراعي الوقت أثناء حديثه فلا يستأثر بالكلام كله ، بل يعطي الفرصة المكافئة للطرف الآخر؛حتى لا يحصل العجب بالنفس المنافي للإخلاص ، أو الاحتقار للطرف الآخر .وكذلك لأن المستمع لا يستطيع أن يركز في سماع من يحاوره دون مقاطعة له أو انشغال عنه أكثر من ربع ساعة ، وبعد ذلك يكل الذهن ويقل التركيز ، وكما يقال : » إذا أردت أن ينفضّ الناس من حولك ويسخرون منك فتكلم بغير انقطاع ، ولا تعطي لأحد الفرصة في الحديث)) .
3- مراقبة النفس أثناء الحوار :
جرت العادة عند أكثر المتحاورين أن يركزوا انتباههم على الطرف الآخر؛ يحصون الملاحظات على فكرته وطريقته في الحوار ، دون أن يراقبوا أنفسهم بنفس المقياس ، فينسى الإنسان نفسه ونوازعها ، ونبرات صوته وطريقته في الرد مما يكون له أثر سيء على الحوار ، ولا شك أن الإخلاص في الحوار يجعل الإنسان ينتبه لنفسه وعيوبه أكثر من غيره . وضعف الإخلاص يحدث في النفس عجباً وشعوراً بأنها فوق الملاحظات .
4- التسليم بالخطأ:
الإنسان بشر يخطئ ويصيب ، فمن الطبيعي أن يخطئ المحاور في مناقشاته وحواره مع غيره ، والإخلاص لله عز وجل ، يفرض عليه التسليم بالخطأ عندما يتبين له وجه الصواب ، بل يشكر لصاحبه فضله في تبصيره له بالخطأ.
5- الحذر من الكذب والغموض والمراوغة :
قد يلجأ إلى الأساليب الغامضة ـ بل الكذب أحياناً ـ إذا أحس بضعف حجته، أو أنه يريد أن يلبس على الطرف الآخر ويوهمه بما ليس له حقيقة، وهذه صفة ذميمة يرفضها الإخلاص لله تعالى، والخلق الكريم، بل إن الحوار المبارك هو الحوار الصادق الذي يطمئن كل طرف فيه إلى الآخر، وإذا طُرِحَ سؤال لا يريد أحد الطرفين الإجابة عليه فيعتذر عن الإجابة ، ولا يلجأ إلى الغموض والمراوغة ؛ لأنه إذا فقدت الثقة بين الطرفين فقد فشل الحوار .
6- الأمانة :
لابد من الأمانة في العرض والنقل واحترام الحقيقة ، وألاّ تقطع عبارة عن سابقتها أو لاحقتها عند الاقتباس لتخضعها لخدمة فكرتك ، فهذا نقص في الدين والإخلاص؛لأنه أخو الكذب،فضلاً عن أنه يعرض من هذه صفته للسخرية وعدم الثقة به لتلاعبه بالنصوص.
7- الإنصاف :
من الإنصاف أن يبدي المحاور إعجابه وثناءه على الأفكار الصحيحة ، والأدلة الجيدة، وحسن الاستدلال، والمعلومات الجديدة التي يوردها الطرف الآخر، والإيجابيات والحسنات التي تتمثل فيه أو في فكرته وإن ظهر معها جوانب سلبية ، كما أن من الإنصاف وضع النفس موضع الطرف الآخر ، والظروف المحيطة به ، والتي أدت به إلى الرأي المخالف .
8- وضع الخطأ في حجمه الطبيعي ، وتجنب الشماتة :
عند وضوح خطأ الطرف الآخر يجب أن يشعر بأن الخطأ ميسور التصحيح حتى لا يداخله الشيطان ، وتفقده مسيرة الدعوة من جراء خطئه،كما أن تواضع الطرف المصيب أمر مهم حتى لا يداخله الشيطان ؛ فيشعر بالتعالي على الطرف الآخر، أو يشمت به وبفكرته الخاطئة ؛ فالمسلم المخلص يقصد من الحوار إظهار الحق ولو على لسان مخالفه .
9- على كل طرف في الحوار تجنب الهزء والسخرية :
وكل ما يشعر باحتقار أحدهما للآخر، أو ازدرائه لفكرته،أو وسمه بالجهل،أو قلة الفهم، أو التبسمات والضحكات التي تدل على السخرية .
10- تجنب ضمائر المتكلم أثناء الحديث :
حتى لا يدخل الشيطان إلى النفس ؛ فيقع فيها العجب والغرور ، ينبغي تجنب إدخال ضمائر المتكلم أو ضمير الجماعة في الحديث كتكرار ((نحن، أنا، عندنا...إلخ )) مع ما فيها من المضايقة للطرف الآخر .
* * *
لأصل الثاني : العلم
(( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ))
ويدخل تحته التفصيلات التالية :
1- الاتفاق على منهج الاستدلال والتلقي قبل البدء في نقاش أي مسألة علمية:
لأن النقاش والمنهج مختلف سيؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة ، وسوف لا يسلم أي طرف لما عند الطرف الآخر من دليل أو استنباط ، وحتى تتضح هذه المسألة أكثر ، نضرب لذلك بعض الصور كما ذكرها الشاطبي في(الاعتصام ـ الباب الرابع) تحت عنوان : مآخذ أهل البدع في الاستدلال ، فنذكر منها(باختصار وتصرف) ما يلي :(/20)
* إن من أهل البدع من منهجه الاستدلال بالأحاديث الضعيفة ـ أو الموضوعة أحياناً ـ في العقائد والأحكام ، وهذا المأخذ مرفوض عند أهل السنة ؛ لأنهم لا يرضون الاستدلال بالضعيف ـ فضلاً عن الموضوع ـ في باب العقائد والأحكام ، فإذا لم يتفق مع الطرف المحاور على خطأ هذا المنهج ، فلن يفلح الحوار في أي نتيجة ، لأن الأدلة التي سيستدل بها الطرف الآخر مرفوضة ابتداء من الطرف الثاني لعدم ثبوتها عنده .
* ومن أهل البدع من هو عكس الصورة السابقة ؛ حيث يرفض الاستدلال بالأحاديث الصحيحة بحجة أنها آحاد ، ولا يقبل من ذلك إلا المتواتر ، وهذا المنهج مرفوض أيضاً عند أهل السنة ؛ حيث إن الدليل إذا ثبتت صحته أصبح صالحاً للاستدلال ولو كان آحاداً ، وبدون الاتفاق على هذا المنهج ابتداء فلن يفلح الحوار في أي نتيجة. إذن فمن الأولى في مثل هذه الحالات ، وقبل طرح الأدلة ودلالتها عن المقصود،لابد من الاتفاق على قبول الاستدلال بأحاديث الآحاد الصحيحة .
* كما أن هناك من أهل البدع من منهجه الاحتجاج بأقوال شيخه أو إمامه والتعصب لها ، ونبذ أي دليل يخالف ذلك ، بل إن أهل بعض الملل المبتدعة يرون أن أقوال أئمتهم ومشايخهم هي التشريع بذاته ، وممكن أن يأخذ الحلال والحرام من أقوالهم ، بل إن لهم نسخ الشريعة وتحليل الحرام أو تحريم الحلال .
فإذا لم يتفق على خطأ هذا المنهج وأن ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع هو الأصل ، وأن كل ما خالف ذلك فهو مرفوض مهما كان قائله ، فإنه لا فائدة من النقاش .
* ومن أهل البدع من يعتمد في استدلاله على الرؤى والمكاشفات ، فيصحح بهما الضعيف ، ويضعف الصحيح ،ويحلل ، ويحرم ، ويشرع بهما ما لم يأذن به الله ، فإذا لم يتفق ابتداء على ضلال وخطأ هذا الاستدلال ، فلن يفلح الحوار ، ولن تتحقق أهدافه أبداً .
وصور مآخذ أهل البدع في الاستدلال كثيرة من أراد التوسع فيها فليرجع إلى الباب المذكور في الاعتصام فإنه مفيد جدّاً.
* مراعاة تفاوت الناس في عقولهم وثقافتهم :
فالعلم بما عند الطرف الآخر من علم وثقافة يعين على اختيار الأسلوب ، والمعلومات التي تناسب عقله وحصيلته العلمية، فتحديث الناس بما يعقلون أمر مهم في الحوار ؛ لأن عدم مراعاة ذلك يحصل بسببه فتنة وتشويش للطرف الآخر ، ينعكس أثره على إيجابية الحوار .
3- البيان وحسن العرض :
إن قوة التعبير وفصاحة اللسان وحسن البيان والعرض من العوامل في إيضاح الفكرة وأدلتها ؛مما يكون له أكبر الأثر على قبول الطرف الآخر للفكرة ، وإقناعه بحسن الاستدلال عليها ، وهنا يجب تجنب الألفاظ الغريبة صعبة الفهم ، أو الألفاظ المجملة التي تحتمل عدة معانٍ من غير توضيح للمعنى المراد منها .
4- البدء بمواطن الاتفاق والنقاط المشتركة :
إن البدء بنقاط الاتفاق لدى الطرفين،كالمسلمات والبديهيات وغيرها من الأمور المتفق عليها كل ذلك يقلل الفجوة ويوثق الصلة بين الطرفين ، ويحس كل منهما أن هوة الخلاف قليلة ،وهذا له مردوده النفسي في الحوار. وبالعكس ؛ فإن البدء بنقاط الخلاف يوسع فجوة الخلاف، ولو من الناحية النفسية ، ولذلك يحرص أن يلقي على الطرف الآخر الأسئلة التي سيكون جوابها » بنعم « ، ويتجنب ما يكون جوابه النفي ؛ لأن كلمة ((لا)) عقبة كؤود يصعب التراجع عنها .
والأمثلة في القرآن الكريم كثيرة ؛ فمثلاً في سورة المؤمنون ، يقول تعالى : (( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ )) (المؤمنون:84 ـ 89) .
فهنا نجد أن الله سبحانه وتعالى ألقى عليهم الأسئلة التي يعرف أن جوابهم عليها بالموافقة ، وذلك لإقامة الحجة عليهم في تقرير توحيد الألوهية؛ لأن ما وافقوا عليه مستلزم لما أنكروه.
5- التوثيق :
ينبغي أن تكون مسائل الحوار موثقة من الناحية العلمية والإسنادية ، فلا يستدل بشيء إلا مسنداً لقائله ، ومصدره الذي أخذه منه ، وأن يستعان بذكر الإحصاءات التي تخدم الفكرة ، والمراجع التي رجع إليها ؛ لأن ذكر الحقائق مدعمة بذكر المصادر والإحصائيات الموثقة ،أعمق أثراً في النفوس من ذكرها مجردة ، كما ينبغي في مثل هذه الحالات الإعراض عن النقول الضعيفة ، والحجج الواهية .
6- عدم تعرض أحد الطرفين لكلام الآخر ومناقشته قبل فهم مراده تماماً : والتفكير العميق في أدلته ثبوتاً ودلالة ، وألا يقدم على تصحيح فكرة ما أو تخطئتها قبل التأكد من ذلك تماماً .
7- الإحاطة بمواطن الخلاف في القضية المطروحة :(/21)
للحوار والإلمام بأنواع الاختلاف ما يجوز فيه ومالا يجوز ؛ لأن جهل هذا الأمر يوسع دائرة الاختلاف ، فيحصل الاختلاف والفرقة حول مسألة قد يسع الخلاف فيها والاجتهاد ، كما ينبغي الإلمام بأسباب الاختلاف بين علماء الأمة والتي ذكرها شيخ الإسلام في رسالته القيمة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام ).
وبهذه المناسبة ينبغي الإشارة إلى مسائل الخلاف ،وأنواعها ، ومن هو المحمود فيها ، ومن هو المذموم؟ ، وما هي المسائل التي يسعها الخلاف ، والمسائل التي لا يسعها؟ إلى آخر ذلك مما يتعلق بموضوع الاختلاف ، فنقول وبالله التوفيق :
إن الاختلاف ينقسم إلى قسمين :
1- قسم يحمد فيه أحد الطرفين، ويذم الطرف الآخر ؛مثل الاختلاف الواقع بين المؤمنين والكافرين ، أو بين أهل السنة وأرباب البدع.
وهذا القسم من الاختلاف هو المذكور في قوله تعالى : (( وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)) (البقرة:253)،وكقوله تعالى: (( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ )) (الحج:19) ، فكل ما يتصل بقضايا العقيدة وأصولها والتي لم يختلف عليها سلف الأمة ،وإنما ظهر الاختلاف واستشرى بعدهم ، هو داخل تحت هذا القسم.
2- قسم يذم فيه الطرفان المختلفان، إذا سبَّب هذا الاختلاف الفرقة والعداوة ، ويحمد فيه الطرف الذي لم يجعل هذا الاختلاف سبباً في الفرقة والمفاصلة .
وهذا النوع من الاختلاف هو الذي وَسِع السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ ولم يحصل بينهم بسببه افتراق ولا بغضاء؛ فكل ما وسع السلف الصالح رحمهم الله تعالى فيما اختلفوا فيه ، فيجب أن يسعنا ، ويندرج تحت هذا القسم عدة صور نجملها ، فيما يلي :
* اختلاف في تحديد موضوع الخلاف:وذلك بأن نجد أحد المختلفين قد ذهب إلى موضع من النزاع غير ما ذهب إليه الآخر أو أن أحدهما سماه باصطلاح معين، والآخر سماه باسم آخر ، فظهر أن هناك اختلافاً ، والحقيقة أنهما اسمان مشتركان لمسمى واحد ، فلو حددت المصطلحات ، ودقق في المعاني والألفاظ لظهر أن هناك اتفاقاً وليس اختلافاً ؛ كالاختلاف الحاصل في تفسير الصراط المستقيم في قوله تعالى : (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) (الفاتحة:6) .
حيث فسر بالإسلام والقرآن وسنة الرسول- صلى الله عليه وسلم - ، وكلها أسماء مشتركة لمعنى واحد هو الدين الإسلامي ؛ حيث إن كل قول داخل في معنى القول الآخر ، وهذا الأمر لا يأتي إلا بالتفكير الهادئ مع الإخلاص لله عز وجل.
* قد يتضح بعد التفكير وتحديد موضع النزاع أن هناك اختلافاً لكن هذا الاختلاف ليس اختلاف تضاد ؛ بمعنى أن المعنى الكلي ليس فيه خلاف ، إنما الخلاف في تنوع آحاد هذا الكلي ، وتعدد الأمثلة التي تحته ؛ كمن يذهب إلى معنى جزئي ، وآخر يذهب إلى معنى جزئي آخر يندرج كلاهما تحت المعنى العام الكلي .
مثال ذلك : تفسير قوله تعالى: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه)) (فاطر:32) .
حيث ذهب بعض المفسرين إلى أن الظالم لنفسه المفرط في الصلوات المكتوبة ، والذي يؤخرها عن وقتها ، والمقتصد المؤدي للصلاة أثناء وقتها، والسابق بالخيرات المؤدي للصلاة في أول وقتها .
وذهب بعضهم إلى أن السابق هو المحسن بالصدقة مع الزكاة ، والظالم آكل الربا ومانع الزكاة،والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المطلوبة ، ولا يأتي
الربا.
وكل قول، فيه ذكر نوع داخل في الآية، إنما ذُكر لتعريف المستمع بتناول الآية له ، وتنبيهه على نظيره.وكل هذه الأقوال ليس بينها خلاف تضاد ؛ لأنها ترجع إلى معنى واحد ، وهو أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات ، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات ، والسابق بالخيرات يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات .(انظر : مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية).
6- وهذه الصورة من الاختلاف الذي وسع السلف - رحمهم الله تعالى - بأن يكون المعنيان متغايرين لكن ليس بينهما منافاة ؛ لأن هذا قول صحيح ورد فيه دليل ، وذلك قول صحيح ورد فيه دليل أيضاً ، ولا يجوز أن يكون هذا سبباً في الاختلاف وهذا كثير في المنازعات لعدم معرفة أحد الطرفين بما عند الآخر من دليل.
ومثال ذلك : الاختلاف في صفة الإقامة للصلاة ، فمن قائل بشفعها وقائل بإفرادها ، والاختلاف في القراءات ...إلخ .
وكل ما ورد في الشريعة، عليه دليل صحيح ، ووسع السلف الصالح، فإنه لا يجوز أن يكون سبباً في الاختلاف المؤدي إلى الفرقة والتباغض، وهذا بالطبع لا يأتي إلا نتيجة التفكير والبحث وعدم التعجل في رد قول المخالف إلا بعد الاطلاع على كل ما يتعلق بالموضوع من أدلة واستنباطات ، فقد يتضح بعد البحث أن كلا القولين ثابت وصحيح عن الرسول لله ، وبذلك ينتهي الخلاف.(/22)
7- الخلاف حول قضية معينة ورد الدليل عليها وأورد المخالف دليلاً آخر مخالفاً لها، لكن أحد الدليلين أقوى من الآخر وأرجح ، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يكون سبباً في الفرقة ؛ لأن ما وسع أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -وأئمة السلف ينبغي أن يسعنا .
وهذا يقع في كثير من الأحكام التي اختلف فيها العلماء ، وعندما يعلم أن هؤلاء الأئمة ما اختلفوا لهوىً في نفوسهم ، بل وقف كل منهم مع ما عنده من الدليل ، فربما وصل أحدهم ما لم يصل الآخر ، أو صح عنده ما لم يصح عند غيره كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام في رسالته: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) ، ولكن مع ذلك فالواجب في هذه الحالة العمل بالدليل الراجح وترك المرجوح ،عند من تبين له ذلك بوجه شرعي.
ولكن هذا لا يعني موافقة من يأخذ بالأقوال الشاذة أو بعض سقطات العلماء ، والتي يكون الدليل على خلافها ؛ بل الواجب تصحيح المخالف وإرجاعه إلى الدليل ، وتوضيح وجه الشذوذ فيما أخذ به ؛ لأن هناك من يقول : ( أي قضية لم يجمع عليها الصحابة فالأمر فيها واسع) وهذا القول ليس صحيحاً على إطلاقه ، فقد ذكر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله في رسالته :( إتمام المنة والنعمة في ذم اختلاف الأمة) بعد كلامٍ جيدٍ حول هذا الأمر ننقل منه المناسب لموضوعنا . قال رحمه الله تعالى:
((وأما احتجاجه بقول النووي : (( إن العلماء إنما ينكرون على من خالف ما أجمع عليه، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب.قال:وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم)) انتهى ما حكاه . فيقال في جوابه : أنت لم تستكمل عبارة النووي ، بل تصرفت فيها ، وأخذت ما تهوى وتركت بقية العبارة ؛لأنه عليك مع اتصالها وتقييد بعضها ببعض .
قال النووي بعد ما تقدم : لكن إن أريد به على جهة النصيحة ـ أي الخروج من الخلاف ـ فهذا حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق ، فإن العلماء متفقون على الحث إلى الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بالسنة أو وقوع في خلاف آخر .
هذا كلام النووي قد استبان لك أن مراده إذا لم يظهر دليل ، ولم يترجح جانب الإنكار بكتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جلي.. وأما أقوال الآحاد من العلماء فليست بحجة إذا لم يقترن بها دليل شرعي ، وما زال العلماء يردون على من هو أجل منه )) (1) اهـ .
وبعد هذا التفصيل فيما يجوز الاختلاف فيه وما لا يجوز ، نتوجه إلى جميع المختلفين أن يقفوا وقفة مع نفوسهم ، ويسأل كل واحد منهم نفسه أو صاحبه ، ومن يخلص له النصح والتذكرة : أين نحن من أنواع الاختلاف ؟ وأين نحن من البغي والاعتداء في الخلاف؟ ، وأين نحن من أدب الخلاف وأخلاقه ؟،وما كانت الأمة لتفترق إلا بسبب البغي والحسد والجهل ؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : (( ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي لا مجرد الاجتهاد)) (2) .
8- أن يعطى كل طرف في الحوار راحته وحريته في التعبير عن فكرته والإحاطة بها من جميع الوجوه ؛ لأن قطع الفكرة أو التشويش عليها يؤثر على تسلسل الأفكار وترابطها .
9- لا أعلم :
وذلك بأن يكون عند أصحاب الحوار من الإخلاص والخوف من الله عز وجل بأن يقول : لا أعلم ، عند السؤال عن مسألة لا يعلمها ، أو لم يبحثها بحثاً كافياً ، وألا يستحي من ذلك ، وأن يطلب الإمهال حتى لقاء آخر ليأتي بالجواب عنها إن وجد جواباً .
10- التفريق بين الفكرة وصاحبها :
وذلك بأن يتم تناول الفكرة المطروحة بالبحث والتحليل والنقد أو التزكية ، بعيداً عن صاحبها حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية تناقش فيها تصرفات الأشخاص ونواياهم ، ولكن في بعض الأحوال ينبغي تناول أصحاب الأفكار أنفسهم بالجرح والتعديل حسب مقاييس أهل السنة ، وذلك عندما نخشى ضلالاتهم أو تأثر الناس بأفكارهم ، ولكن كل ذلك يتم بإخلاص وإنصاف .
11- إقفال المناقشة :
عندما تتسع شقة الحوار ، أو يتضح أثناء النقاش أن هناك أموراً أساسية برزت لم يتم التحضير لها ، أو لا يكفي الوقت لمناقشتها ، فيحسن في مثل هذه الأحوال إقفال النقاش وتأجيله إلى وقت آخر يتم التحضير والاستعداد الجيد له ، كما ينبغي قفل النقاش عندما يتبين أن الطرف الآخر في الحوار غير جاد، أو مستهتر ، أو كان دون المستوى المطلوب للخوض في القضايا المعدة للحوار .
* * *
الأصل الثالث
ظروف الحوار والمتحاورين
(( مَثْنَى وَفُرَادَى))
وهذا هو الأصل الثالث الذي يراعى عند الحوار والمناظرة ، وقد أشارت الآية الكريمة إلى جانب من ذلك عند قوله تعالى:{مَثْنَى وَفُرَادَى}، وسنشير هنا ـ إن شاء الله تعالى ـ إلى بعض الجوانب التي تتعلق بظروف الحوار؛ لأن إلغاءها يؤثر كثيراً على طبيعة الحوار ونتيجته ، ومن هذه الجوانب ما يلي :
1- مراعاة الجو المحيط بالحوار :
__________
(1) إتمام المنة والنعمة : ص47 ، ص48 .
(2) الاستقامة ( 1 / 31 ) .(/23)
ويقصد بالجو هنا الجو النفسي ، والمؤثرات المحيطة بالحوار ، وذلك كما في الآية الكريمة ؛ حيث يوجه الله عز وجل طلاب الحق أن يبتعدوا عن الأجواء الجماعية والغوغائية ؛ لأن الحق قد يضيع في مثل هذه الأجواء ؛ حيث التقليد الأعمى ، والتبعية للأكثرية ، بينما لو قام الإنسان مع نفسه أو مع شخص آخر للتفكير حول قضية ما ، فإنه أقرب إلى إصابة الحق منه في الاجتماعات الكبيرة ، وبقدر ما يقل المتحاورون أو السامعون في الحوار بقدر ما ينقاد إلى الحق عند ظهوره .
2- مراعاة الجو الحسي للحوار :
وذلك من حيث البرودة والحرارة والاتساع والضيق ..إلخ ؛ لأن وجود ما يؤذي في جو الحوار يؤثر على طبيعة النقاش ونتيجته ، وقد يبتر
النقاش ، أو يختصر دون وصول إلى نتيجة ، وكذلك ـ مما يتعلق بهذا الجانب ـ اختيار المكان الهادئ ، وإتاحة الزمن الكافي للحوار ، فلا تصلح أماكن الدراسة ، والعمل ، والأسواق للحوار ، وذلك لضيق الوقت ، ولوجود ما يشغل.
3- مراعاة الظرف النفسي والاجتماعي للطرف المحاوَر أو المحاوِر :
فلا يصلح أبداً أن يتم الحوار مع شخص يعاني من الإرهاق الجسدي لتعب ، أو حاجة لنوم ، أو بسبب جوع ، أو يعاني من إرهاق نفسي : كهمٍ، أو غمِ ، أو حزن ؛ لأن هذه الظروف لابد أن تؤثر حتماً على الحوار؛ إما ببتره قبل تمامه ، أو حدوث انفعالات ، وغضب ، وتوتر ، يؤدي بالحوار إلى الفشل الذريع.
4- أهمية المحادثة الأولى والتعارف الذي يسبق الحوار:
إن المحادثات الأولى والتعارف الأول على الطرف المحاور يساعد على سهولة البدء في المناظرة وسيرها فيما بعد بالشكل المناسب؛ إذ من الصعب أن يبتدأ مباشرة بالحوار مع أشخاص لم يتم أي تعارف معهم ولو كان يسيراً؛ لأن في جلسة التعارف هذه فائدة في التعرف على طبيعة الطرف الآخر، ولو بشكل مبدئي من خلال مظهره، وحديثه، ونبرات صوته، وحصيلته العلمية ؛ مما يكون له الأثر في معرفة الظروف النفسية، والميول الذهنية للشخص المحاور، وهذا بدوره يساعد في طريقة وأسلوب الحوار مع الناس، كلٌ حسب ظروفه .
ويمكن أن تتم جلسة التعارف هذه على شكل دعوة غداء أو عشاء يتم فيها أحاديث غير رسمية عن : الصحة ، والعمل ، والأولاد ، وعن رأيه في الكتاب الفلاني ، وفي الفكرة الفلانية ، وعن أي أمر عام ليس له علاقة بموضوع الحوار .
فهذه الطريقة على أي حال أفضل بكثير من أن يفاجأ المرء بأشخاص لم يضع لهم في ذهنه أي تقدير لهم ، ولظروفهم ، فيؤدي إلى فشل الحوار كأن يخبر بأن الشخص لطيف ، وسهل التعامل ، وحليم ، ويفاجأ بالعكس تماماً .
5- أن يكون المتحاوران متقاربين ما أمكن في العلم والجاه : وأن يتجنب مناظرة ذي هيبة يخشى أو يستحي من مناظرته ؛ لأن ذلك يؤثر على قوة الحجة والجرأة على الإدلاء بها .
6- ينبغي اجتماع أصحاب الحوار في مكان واحد ، وتقابلهما فيه : وأن ينظر بعضهم للآخر ؛ لأن رؤية الوجوه والملامح له أثر في قوة الحجة أو ضعفها ، وفي هذه الحالة لا تصلح المراسلات للحوار ، ولا يصلح كذلك الحوار بواسطة الهاتف إلا في أضيق الظروف .
7- مراعاة الآداب الإسلامية (القولي منها والعملي) :
والذي يكون له مردوده النفسي على أطراف الحوار ، وسلامة قلوبهم وصفائها ، والانقياد للحق عند ظهوره ، ومن هذه الآداب :
* احترام الطرف الآخر ، والتأدب معه ، وحفظ اللسان عما يسوءه من الألفاظ ، وعدم السخرية برأيه، وأن يثني عليه بما فيه وفكرته ، من الإيجابيات والخير الكثير.
* التلطف في العبارات أثناء الحوار ، فبعض العبارات قد تفتح
مغاليق النفوس ، وهي يسيرة على من يسرها الله عليه ؛ من الكلمة الطيبة التي تقرب النفوس، وتزيل الجفوة ، وتهيئ النفوس لاستقبال الحق ، والأمثلة في ذلك كثيرة ؛ كمناداة الطرف الآخر بكنيته ، وإذا كان أكبر سناً أو علماً ، يا أستاذي ويا شيخي ... اسمح لي ... عفواً .
* ابتسم في وجه محدثك وأطلق أسارير الوجه أثناء الحوار ؛ فهذا يضفي على الحوار جو الألفة والأنس.
* اجتنب الغضب ما أمكن ، ولو عارضك الطرف الأخر ، أو أغلظ القول لك ، واستخدم الرفق واللين.
* تجنب اللوم المباشر عند وضوح خطأ الطرف الآخر ؛ فالنفس غالباً لا تتحمل قول: ( أخطأت ) أو ( سأثبت لك أنك مخطئ ) أو ( أنا أخالفك في الرأي )؛ فهذه الألفاظ قد تجرح عند بعض الناس كبرياءه وشخصيته .
لكن عندما يبدو الخطأ فيمكن معالجته بمثل قولك:لكن أرى رأياً آخر قد أكون مخطئاً فيه ، أو لعلك تصلح لي خطئي. وإذا كان الخطأ يمكن إصلاحه ببعض الإضافات، فتقول:هل لك أن تفعل هذا؟ أو ما رأيك في إضافة هذه العبارة ..؟ ، أو ما المانع لو اتفقنا على هذا التعديل ؟...إلخ.
9- التحدي والإفحام :
وهذا الأسلوب يلجأ إليه مع المماحكين الذين همهم الجدال والاستهزاء وإثارة الشبه وتضليل الناس؛ فمثل هؤلاء لا ينفع معهم اللين والرفق، وإنما(/24)
الذي ينبغي في حقهم إفحامهم ومناظرتهم على الملأ الذين قد ضللوا بسببهم؛ وذلك حتى تدحض حجتهم وتسقط هيبتهم من النفوس وتبين وهن فكرتهم واضطرابها . لكن ينبغي لمن أراد مناظرتهم أن يكون على مستوى من العلم، والذكاء ، والشجاعة ؛ بحيث لا يؤتى من قبل قلة علمه، أو سطحيته ، أو نحو ذلك .
9- المحافظة على هدف الحوار والوصول إلى نتيجة :
تحديد هدف الحوار ـ قبل الدخول فيه ـ أمر مهم ، والمحافظة على الهدف أثناء الحوار أيضاً أمر مهم ؛ لأن ذلك يحافظ على التركيز ، وعدم الخروج عن موضوع الحوار بمناقشة جزئيات أو أمور جانبية بعيدة عن موضوع الحوار؛ مما يكون له الأثر في ضياع الوقت ، وعدم الوصول إلى نتيجة في آخر الأمر.
وبعد : فهذه جملة من أصول الحوار وآدابه ،أعرضها على عِلاتها ونقصها، لعلها تفتح المجال لعلماء الأمة ودعاتها أن يفصلوا الأمر حول هذا الموضوع ويكملوا ما نقص منه ، فالمسلمون في حاجة ماسة إلى استقصائه وإتمامه .
أسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الحديث القلوب المخلصة التي أدمتها الخلافات وخيم اليأس على بعضها ، ولعل الأخوة الذين صاروا أعداء وهم أقرب الناس بعضهم إلى بعض، أن يقوموا لله عز وجل ويتفكروا مع أنفسهم أو مع بعضهم البعض ، وأن يحفظ كل واحد منهم حق أخيه ، ويعلم أن أخاه وإن كان مخطئاً في شيء فقد أصاب في أشياء أخرى ؛ ما دام أنه من أهل السنة وأتباع السلف .
فيا أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويا محبي محمد - صلى الله عليه وسلم - جردوا أنفسكم لله تعالى ، واقتدوا بسلف الأمة،الذين كانوا حريصين على جمع الكلمة وسلامة القلوب، وكان أبغض شيء لديهم الفرقة والاختلاف ، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما قيل له : إن عثمان بن عفان أتم بالمسلمين في منى وكانت السنة القصر ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثم لم يمنعه ذلك من أن يأتم بعثمان ويتم الصلاة معه أربعاً ، فلما قيل له في ذلك ، قال : إن الخلاف شر .
فحري بمن أحب السلف والتزم بمنهجهم أن يلتزم بمنهجهم الشامل في الاعتقاد والسلوك .
وما تم عرضه في هذا البحث يمثل إن شاء الله تعالى بعض آداب السلف الصالح في حوارهم واختلافهم ، وهي بدورها الآداب التي هدانا الشرع إليها لنخرج من الاختلاف؛ بل ننازعه بقدر الله عز وجل ، وأسبابه الشرعية التي شرعها الله لنا والتي لا سبيل للنجاة والخلوص من الشرور إلا بالرجوع إليها .
ومن سلك سبيل الهدي وصدق مع الله عز وجل،في طلبه للجماعة والائتلاف ، يسر الله له سبيله ، وألَّف بينه وبين إخوانه من الدعاة الصادقين، ومن سلك سبيل الضلال من أهل الزيغ والفرقة والاختلاف، أضل الله سبيله وأزاغه عن الهدى : (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )) (العنكبوت:69) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ,,,
* *
الرسالة الثالثة : (( قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ)) ( آل عمران : 165)
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فإن عنوان هذا الموضوع جزء من آية كريمة نزلت مع ما قبلها وما بعدها في غزوة أحد الشهيرة ، والتي أصاب المسلمين فيها ما أصابهم من القرح الشديد ؛ حيث قُتِل فيها سبعون من الصحابة ، وجُرِح الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم -، وشُجَّ وجهه الشريف ، وانكسرت رباعيته- صلى الله عليه وسلم - ، وهذه الآية واحدة من ثمانين آية نزلت في سياق الغزوة في سورة آل عمران ، وفي هذه الآيات من العبر والدروس الشيء العظيم ، ونكتفي في موضوعنا هذا بالآية المذكور جزء منها في عنواننا هذا ؛ حيث يقول الله تعالى : (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [آل عمران:165] .
وقد جاءت هذه الآية تعقيباً على سؤال سأله أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -عن سبب الهزيمة التي حلت بهم،وجواباً لاستغرابهم القرح الشديد الذي أصابهم وهم المسلمون وقائدهم سيد البشر ، وحبيب الرحمن محمد لله، وعدوهم(/25)
المشركون المشاقون لله وللرسول ، فجاءهم الجواب من العليم الخبير العزيز الحكيم أنهم أ ُتوا من عند أنفسهم،وبسبب ذنوبهم قدقدر الله عزوجل هذه المصيبة ،لحكم أخرى ذكرتها الآية التالية لهذه الآية، وهي قوله تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)) [آل عمران:166، 167].
قال الإمام الشوكاني رحمه الله حول قوله تعالى : (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ....)) الآية :
" الألف للاستفهام بقصد التقريع، والواو للعطف . والمصيبة : للغلبة والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد. (( قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا )) يوم بدر ؛ وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعون ، وقد كانوا قتلوا يوم بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين ، فكان مجموع القتلى والأسرى يوم بدر مثلي القتلى من المسلمين يوم أحد.
والمعنى : أحين أصابكم من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم: من أين أصابنا هذا ؟، ونحن نقاتل في سبيل الله ، ومعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد وعدنا الله بالنصر عليهم.
وقوله : (( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) أمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يجيب عن سؤالهم بهذا الجواب ؛ أي هذا الذي سألتم عنه هو من عند أنفسكم بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم به الرسول لله من لزوم المكان الذي عينه لهم، وعدم مفارقتهم له على كل حال .
وقيل : المراد بقوله : (( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) خروجهم من المدينة ، وقيل: هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل " .اهـ .
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله :
" لقد كتب الله عز وجل على نفسه النصر لأوليائه حملة رايته ، وأصحاب عقيدته ، ولكن علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم، وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم ، وسلوكهم ،وباستكمال العدة التي في طاقتهم ، وبذل الجهد الذي في وسعهم ، فهذه سنة الله ، وسنة الله لا تحابي أحداً.
فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور ، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير ؛ فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن ، وإبطال النواميس؛ فإنما هم مسلمون ؛ لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس .
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدراً ، كذلك ، ولا يضيع هباءً ؛ فإن استسلامهم لله وحملهم الراية وعزمهم على طاعته ، والتزام منهجه ـ من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيراً وبركة في النهاية ، بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح ، وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب تزيد من نقاء العقيدة ،وتمحيص القلوب ، وتطهير الصفوف، وتؤهل للنصر الموعود ، تنتهي بالخير والبركة، ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته ، بل تمدهم بزاد الطريق ،مهما يمسهم من القرح والألم والضيق أثناء الطريق .
وبهذا الوضوح والصراحة معاً يأخذ الله الجماعة المسلمة ، وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع،ويكشف عن السبب القريب من أفعالها : (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) ، أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر (( حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ)) فأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنفسكم هي التي خالجها الهواجس والأطماع ، وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ )) ؛ فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم وتقولون: كيف هذا ؟، هو من عند أنفسكم بانطباق سنن الله عز وجل عليكم حين عرضتم أنفسكم لها" اهـ .
ومثل هذه الآية قوله تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) [الشورى:30]، ومعنى هذه الآية من الوضوح بحيث لا يحتاج معه إلى توضيح وتفسير .
ويقول الله عز وجل : (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الأنفال:53].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية:(/26)
" يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحدٍ إلا بسبب ذنب ارتكبه كما قال تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ )) [الرعد:11] اهـ .
وقال صاحب الظلال رحمه الله حول نفس هذه الآية :
" إنه من جانب يقرر عدل الله عز وجل في معاملة العباد ،فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم ، ويبدلوا سلوكهم ، ويقلبوا أوضاعهم ، ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختيار، من النعمة التي لم يقدروها ويشكروها .
ومن الجانب الآخر يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري، عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ، ويحصل التغيير القدري في حياة الناس مبنياً على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم ، وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم ، ومن جانب ثالث يلقى تبعة عظيمة ـ تقابل التكريم العظيم ـ على هذا الكائن ، فهو يملك أن يستبقي نعمة الله عليه ، ويملك أن يزاد عليها إذا هو عرف فشكر ، كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكر وبطر وانحرفت نواياه ، فانحرفت خطاه " اهـ.
* * *
أهمية الموضوع
ومن هذا الاستعراض العام لمفهوم هذه الآيات يتبين لنا خطورة العوائق الداخلية في أنفسنا ، والتي لها دور كبير في حصول المصائب الفردية والجماعية ، فنحن المسلمين اليوم كثيراً ما نلقي أسباب هزائمنا وتأخرنا عن غيرنا على العوائق الخارجية كالغزو الفكري ، وكيد الكفار والمفسدين .
ولا شك أن للعوائق الخارجية دوراً في مصائبنا ، لكنها لم تكن لتؤدي دورها لوأصلحنا ما بأنفسنا، كما قال تعالى: (( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) [آل عمران:120]، فما كان لكيد الأعداء الخارجيين أثر لو صبرنا واتقينا الله عز وجل وحاربنا عدونا الداخلي الذي بين جوارحنا ، كما قال أحد الدعاة ـ رحمه الله تعالى ـ تلك المقولة الحكيمة : " أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم تقم في أرضكم ".
إن الاهتمام بإزالة العوائق الداخلية،جزء أساسي من اهتمامنا بتوفير شروط الانتصار على العوائق الخارجية، التي تحاول منع تحركنا نحو أهدافنا.
إننا معشر الدعاة كثيراً ما ننسى أنفسنا ، ونحن ندعو الناس ؛ حيث نجعل أكثر همنا في الآخرين ، والتفتيش عن عيوبهم ونقدهم، وفي هذه الزحمة ينسى أو يتناسى الإنسان نفسه ، وما فيها من الأمراض والمخالفات التي قد تفتك به في يوم من الأيام ، وإن نسيان النفس والحرص على إصلاحها والوقوف على سيئاتها،علامة خطيرة يخشى على صاحبها أن يقع تحت قوله تعالى : (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [الحشر:19].
وعندما نطرح مثل هذا الموضوع ؛ فإننا نحتاج في ذلك إلى قومة لله عزوجل صادقة ، ووقفة شجاعة مع أنفسنا، لنفتش وننقب في أعمالنا الظاهرة والباطنة ، وسنجد وللأسف - كما سيتبين ـ أشياء وأشياء،لولا ستر الله عز وجل ورحمته لما قبل الناس منا كلمة واحدة .
وقبل أن نستعرض هذه الأمراض والمثالب الموجودة في حياة بعضنا ، أنبه إلى ملاحظة مهمة : وهي أن ننتبه لخطر الشيطان ومداخله ونحن نطرح مثل هذه المواضيع ؛ لئلا يدخل علينا مدخلاً آخر فيزيد الطين بلة كما يقال
وذلك لأنه قد نجد بعد طرح هذه المخاطر أننا أو بعضنا واقعون في بعضها أو أكثرها ، وهنا ينبغي ألا ندع للشيطان فرصة ولا مدخلاً علينا ليحطم نفوسنا ، ويبث اليأس فيها محاولاً القضاء على ما فيها من خير بقوله لمن هذه حاله : أنت لست على مستوى الدعوة ، ولا على مستوى من يدعو إلى الله ، ويمثل الإسلام ، وأنت منافق ، وأنت وأنت ... فيزداد بذلك انحرافاً ، وبعداً عن الخير ، وأهله . فالحذر الحذر من هذا المزلق والمدخل الخطير .
والمقصود من طرح هذا الموضوع هو تنبيه الغافل ، وتذكير الناسي إلى ضرورة الرجوع إلى أنفسنا ، ومحاسبتها وتفقدها ، وأن نتذكر أثر الخلل الداخلي في مصائبنا أفراداً وجماعات ، لعلنا نقوم من عثرتنا ، ونصلح فساد قلوبنا وأخلاقنا .
وبداية العلاج اكتشاف المرض والشعور بوجوده.والشعور بالمرض
مصيبة ، ولكن أعظم من ذلك أن يكون موجوداً ولا يشعر بوجوده ، أو يشعر به لكنه يسلك بها سبيلاً،يوحي إلى نفسه ومن حوله أن ما هو عليه كياسة وفطنة ، وقد يتعسف ببعض الأدلة لتبرير حاله المتردية .
إذن يصبح الخطب غير خطير إذا اكتشف الإنسان هذه الأمراض من نفسه في وقت مبكر ، واعترف بها ، ولم يحاول تسويغها ؛ لأن العلاج يبدأ من معرفة الداء ، والله المستعان .(/27)
وما سنتعرض له في هذه الدراسة هو بعض ما توصل له الذهن من العوائق الداخلية ، رآها الكاتب واستقرأها من نفسه أو ممن حوله من دعاة المسلمين ، ويمكن تلخيص هذه الأمراض والعوائق فيما يلي :
1 ـ مساوئ القلوب وأمراضها :
إن أمراض القلوب لتعتبر أخطر الأمراض ، وأشنعها على الإطلاق ، وما ذاك إلا من أن القلب هو سيد الأعضاء ؛ فبصلاحه تصلح سائر الأعضاء، وبفساده يحصل الفساد للجميع ، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب)) ’(1) .
فبصلاح القلب تصلح النيات والمقاصد،وتصلح العين فلا تنظر إلا في مرضات الله عزوجل، وتصلح الأذن فلا تسمع إلا ما يرضي الله عزوجل، ويصلح اللسان فلا ينطق ولا ينفلت إلا ما فيه مرضات الله عز وجل ، وتصلح اليد فلا تبطش إلا فيما يحبه الله عز وجل ، وتصلح الرجل فلا تخطو إلا إلى ما يرضي الله عز وجل ، وبالجملة يصلح كل كيان الإنسان؛ ظاهره وباطنه ، فلا يتحرك إلا في نور الله عز وجل، وبنور الله عز وجل.
وإن هذا القلب ـ على عظم شأنه ـ كثيراً ما ننساه ، ونتشاغل بغيره من الأعمال الظاهرة ، ومع أن هذا مطلوب إلا أنه لابد أن يكون لأعمال الجوارح أصل منطلق إيماني قلبي ، وهذا واضح من تعريف الإيمان عند أهل السنة ؛ فهو قول وعمل ؛ قول القلب ، وقول اللسان ، وعمل الجوارح ، ومع أنه لا ينبغي أن يطغى اهتمام بشيء على شيء،إلا أنه ينبغي أن نعطي لأعمال القلوب اهتماماً خاصاً باعتبارها الأصل الأصيل في كل الأعمال .
والمقصود أن هناك تفريطاً في التفتيش عن القلوب وأمراضها ودسائسها، في الوقت الذي نجد من أصيب ببعض هذه الأمراض قد حافظ على الأعمال الظاهرة ، وتورع عن بعض الصغائر والمشتبهات ، ويحسب أن الذي ينقصه هو هذه فقط، وما درى المسكين أن لديه في قلبه من الأمراض ما يوجب عليه التورع منها ، وتقديم معالجتها على غيرها .
ولا يعني هذا أن يترك المسلم الورع في الصغائر والمشتبهات ؛ كلا ، فهذا شيء طيب ، ولكن الذي أردنا التنبيه إليه هو أن هذا الذي يتورع عن شيء صغير - قد يكون من الأمور المباحة، ويتصور أن هذا ما ينقصه فحسب -قد فرط في واجب صريح ، أو ارتكب عملاً محرماً صريحاً .
ونظراً لأهمية هذه المسألة أنقل كلاماً نفيساً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يتعلق بهذا الموضوع ، أو قريباً منه؛ حيث يتحدث عن غلط بعض الناس في فهم الورع ، فقال :
"... لكن يقع الغلط في الورع على ثلاث جهات :
أحدها : اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك ، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام ، لا في أداء الواجب ، وهذا ما ابتلي به كثير من المتدينة المتورعة ، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة ، وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم ، أو معاملة فاسدة ، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين ، وذوي الفجور في الدنيا ، ومع هذا يترك أموراً واجبة عليه ؛ إما عيناً أو كفاية وقد تعينت عليه، من : صلة رحم ، وحق جار، ومسكين ، وصاحب ، ويتيم ، وابن سبيل ، وحق مسلم ، وذي سلطان ، وذي علم ،وعن أمر بمعروف ،ونهي عن منكر ، وعن الجهاد في سبيل الله ... إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه . أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى ؛ بل من جهة التكليف ونحو ذلك "(2) اهـ .
وقال رحمه الله تعالى حول المسألة أيضاً :
" وتمام الورع أن يتعلم الإنسان خير الخيرين ، وشر الشرين ، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد ، وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية ، والمفسدة الشرعية ؛ فقد يدع واجبات ، ويفعل محرمات ، ويرى ذلك من الورع ، كمن يدع الجمعة والجماعات خلف الأئمة الذين فيهم بدعة ، أو فجور، ويرى ذلك من الورع ، ويمتنع من قبول شهادة الصادق ، وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفيفة ، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع "(3) اهـ .
إذن فالاهتمام بتقوى الله عز وجل وابتغاء مرضاته في العمل هو الذي ينبغي أن يُحرص عليه أشد من حرصنا على العمل نفسه ؛ لقوله تعالى : (( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم)) [الحج:37].
__________
(1) متفق عليه .
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (20/139) .
(3) المصدر السابق (10/512) .(/28)
وعلى هذا ؛ فأعمالنا القلبية من أهم الأمور التي يجب أن نعتني بها ونلتفت إليها ولا ننساها ؛ لأن نسيان هذا الأمر يفرز رجالاً يحسنون الحديث عن الإسلام ، ويجيدون الوعظ والتدريس والخطابة ، ويظهرون الحرقة على هذا الدين حتى يخيل للسامع أنهم عمالقة مجاهدون صادقون ، وهم ليسوا كذلك ، وقد يوجد هذا الصنف من الناس في طبقات المؤلفين الكتاب ، فكم رأينا رجالاً ظننا أنهم أصحاب تضحيات وهمم عالية ، وذلك من خلال ما يقرأ لهم من مؤلفات ، لكن ما أن يقع البصر عليهم ، ويحصل الاحتكاك والمصاحبة لهم حتى يتبين شيء آخر يناقض ما تخيله المتخيل عنهم قبل رؤيتهم .وهنا مكمن الخطر ؛ أن يوجد داعية ما ، يعجب الناس بدعوته ، ويكبر في أعينهم مع أن في قلبه من الأمراض ما لا يعلمه الناس، والله به عليم. نسأل الله عزوجل أن يصلح فساد قلوبنا.
وتزداد خطورة هذا الأمر عندما نتذكر قول الرسول- صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه نذكر منه الشاهد هنا وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس ، وهو من أهل الجنة)) (1) .
ومناسبة هذا الحديث لموضوعنا قوله- صلى الله عليه وسلم -: (( فيما يبدو للناس)) ؛ فقد يبدو للناس عن شخص ما أنه من أهل الجنة، فيما يظهر لهم من أعماله الصالحة ، ودعوته ، ووعظه ، فيغبطه الناس على ذلك ، ولكن قد يكون في قلب هذا الرجل دسيسة من شبهة أوشهوة لا يعلمها الناس ، ولكن يعلمها علام الغيوب، وقد يعلم بها صاحبها لكنه يتغافل عنها ، أو يبررها، وقد لا يحس بها أصلاً إذا فتش ونقب ، ومن هنا تتبين خطورة هذه الدسائس القلبية الخفية ، وما قد تؤدي إليه من خاتمة مأساوية ، وكل مأساة تهون عند مأساة النار والعياذ بالله .
فيا أخوة الإيمان ؛ لنفتش في قلوبنا عن هذه الأمراض قبل فوات الأوان، ولا نتصور أننا بريئون منها ، أو أن غيرنا هم الواقعون فيها ، ولكي يتضح هذا الأمر بصورة جلية نذكر بعض الأمراض القلبية والتي لا يسلم منها إلا من رحم الله :
1 ـ مرض الحسد :
هذا المرض العضال الذي قل من يسلم منه ، لكن بين مقل منه ومكثر. هذا المرض الذي يتصور أحدنا أنه معاف منه، لكن ما أن يمر به موقف يتطلب منه سلامة القلب ، وحب الخير للغير حتى يكتشف هذا المرض من نفسه .
والحسد : هو تمني زوال النعمة عن صاحبها ، أو هو كراهية نعمة الله على الغير ، ولو لم يتمن زوالها .
فإذا أنعم الله عز وجل على أحد المسلمين بنعمة من مال، أو منصب، أو زوجة، أو أولاد، أو غير ذلك من متاع الدنيا ،أو كانت النعمة دينية؛كطلب علم ، وعبادة ، ودعوة ...إلخ. فليتفقد أحدنا قلبه تجاه من أنعم الله عز وجل عليه بإحدى ؛هذه النعم؛ أيجد في قلبه شعور الارتياح والفرح، أم إنه يجد عكس ذلك من الشعور بالغم، والانقباض ، والضيق لذلك ، ويتمنى أن لو لم تأته هذه النعم ؟.
وقبل ذلك: ما هو الشعور لو زالت عنه هذه النعم؟ ؛أهو شعور الفرح، والغبطة ، والسرور ، والشماتة ، أو هو شعور المتألم لألمه ؟، فإن كان الأول فهو الحسد بعينه ، نعوذ بالله من ذلك .
إن هذا الموقف من المساءلة والمحاسبة للنفس لابد منه إذا أردنا معالجة أمراضها،وعلينا أن نتحمل مسؤولية هذه المحاسبة،ولوكان جوابها بالاعتراف بوجود هذه الأمراض ؛ لأن بداية العلاج كما سبق أن ذكرنا هو اكتشاف الداء. وأخطر من المرض نفسه أن يكون موجوداً ولا نحس بوجوده
ومعلوم أن الغل ، والحقد ، والشحناء ، والبغضاء كل أولئك ثمرة من ثمار الحسد ، ومعارضة لعلم الله عز وجل وحكمته وقدرته .
وليس أروح وأسعد للمسلم،ولا أطرد لهمومه من أن يعيش سليم القلب مبرأ من وساوس الضغينة والأحقاد؛لاتراه إلا ويحب الخير للمسلمين. وما أسرع ما يتسرب الإيمان من القلب الغشوش ، وعند ذلك لا يكون في أداء العبادة لذة ، ولا خير، ولا تستفيد منها النفس تقوى ولا عصمة.
وأتوجه بهذه المناسبة بنصيحتي إلى نفسي وإخواني الدعاة أن يصلحوا ذات بينهم ، ويزيلوا الشحناء من نفوسهم ، وأن يتعلموا أن نعم الله عز وجل ورحمته لا ينزلان على قلوب متنافرة ومتباغضة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ " قالوا: بلى، قال : " إصلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هو الحالقة ؛ لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين)) "(2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخواناً)) "(3) .
__________
(1) رواه البخاري في الجهاد (2898)، ومسلم في الإيمان (112) .
(2) رواه أبو داود في الأدب (4919)، والترمذي في صفة القيامة (2511). والحديث في صحيح سنن أبي داود (4111) .
(3) رواه البخاري في الأدب (6064)، ومسلم في البر (2563) .(/29)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( تعرض الأعمال كل اثنين وخميس ؛ فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرؤ كانت بينه وبين أخيه شحناء ؛ فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا)) "(1) .
وهناك رذائل كثيرة حذر منها الإسلام ، تختلف في مظاهرها ، لكنها تعود إلى علة الحسد والحقد ؛ فالكذب والافتراء على الأبرياء ، وقول الزور، والغيبة والنميمة ...إلخ كلها رذائل ذات مصدر واحد،لذلك إذا أردنا التخلص من هذه الرذائل وغيرها فعلينا إصلاح قلوبنا، فبذلك تصلح شؤوننا كلها ، ويكون لدعوتنا حينئذ دور وأثر في حياة الناس ، وإلا فما قيمة أن ندعو الناس لترك الحسد والغش والشحناء ونحن بدورنا لم نعالج نفوسنا منه ؟! (( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)) [هود:88].
2 ـ أمراض الشرك الخفي :
كالنفاق ، والرياء ، والعجب ، والكبر ، والغرور ، وحب الشهرة والظهور ، كل هذه الأمراض الفتاكة يكفي أن نفتش عنها وعن أشكالها الكثيرة في حياتنا؛ لنتعرف على مدى كثرة أو قلة هذه الأمراض في قلوبنا، وهي من الوضوح في حرمتها وخستها ، وشدة فتكها ؛ بحيث لا نطيل ونفصل فيها ، ولأن المقام مقام إشارة ،والحر تكفيه الإشارة ، ويكفي في هذا المقام أن نتعرف على معنى قوله: (( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) [يوسف:106].
قال صاحب الظلال رحمه الله تعالى :
" وحتى الذين يؤمنون، كثير منهم يتدسس الشرك ـ في صورة من صوره-إلى قلوبهم؛ فالإيمان الخالص يحتاج إلى يقظة دائمة تنفي عن القلب أولاً بأول كل خالجة شيطانية ،وكل اعتبار من اعتبارات هذه الأرض في كل حركة وكل تصرف ، لتكون كلها لله ، خالصة له دون سواه ، والإيمان الخالص يحتاج إلى حسم كامل في قضية السلطان على القلب، وعلى التصرف والسلوك ، فلا تبقى في القلب دينونة إلا لله سبحانه ، ولا تبقى في الحياة عبودية إلا للمولى الواحد الذي لا راد لما يريد.
(( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ))...مشركون قيمة من قيم هذه الأرض في تقريرهم للأحداث، والأشياء، والأشخاص. مشركون سبباً من الأسباب مع قدرة الله ، في النفع ، أو الضر سواء . مشركون في الدينونة لقوة غيرقوة الله من حاكم أوموجه لا يستمد من شرع الله دون سواه.مشركون في رجاء يتعلق بغيرالله من عباده على الإطلاق. مشركون في تضحية يشوبها التطلع إلى تقدير الناس. مشركون في جهاد لتحقيق نفع أو دفع ضر،ولكن لغير الله.مشركون في عبادة يلحظ فيهاوجه مع وجه الله . لذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل)) (2)، وفي الأحاديث نماذج من هذا الشرك الخفي:
روى الترمذي- وحسنه- من رواية ابن عمر: (( من حلف بغير الله فقد أشرك)) (3) وروى الإمام أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الرقى والتمائم شرك)) (4) .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر،قال : قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من علق تميمة فقد أشرك )) (5) .
وعن أبي هريرة ـ بإسناده ـ قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه )) (6) .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد بن أبي فضالة ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك )) (7) .
وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ، قال : (( الرياء . يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا ؛ هل تجدون عندهم من جزاء ؟)) (8) .
فهذا هو الشرك الخفي الذي يحتاج إلى اليقظة الدائمة للتحرز منه ليخلص الإيمان .
__________
(1) رواه مسلم في البر (2565) .
(2) رواه أبو يعلى (58، 59، 60، 61) . والحديث في صحيح الجامع(3731) .
(3) رواه الترمذي الأيمان والنذور (1535)، والحاكم (1/18) وصححه .
(4) رواه أبو داود في الطب (3883)، وابن ماجه في الطب (3530) ، وأحمد (1/381).
(5) رواه أحمد (4/156)، وهو في السلسلة الصحيحة (492) .
(6) رواه مسلم في الزهد والرقائق (2895) .
(7) رواه الترمذي في التفسير (3152)، وابن ماجه في الزهد (4203)، وأحمد (3/466) (4/215). وهو في صحيح ابن ماجه : حسن (3388) .
(8) رواه احمد (5/428 ، 429) وهو في السلسلة الصحيحة (951).(/30)
وهناك الشرك الواضح الظاهر ، وهو الدينونة لغير الله في شأن من شؤون الحياة ،الدينونة في شرع يتحاكم إليه-وهو نص في الشرك لا يجادَل عليه- والدينونة في تقليد من التقاليد ؛ كاتخاذ أعياد ومواسم يشرعها الناس ولم يشرعها الله ، والدينونة في زيّ من الأزياء يخالف ما أمر الله به من
الستر، ويكشف أو يحدد العورات التي نصت شريعة الله أن تستر.
والأمر في مثل هذه الشؤون يتجاوز منطقة الإثم والذنب بالمخالفة، حين يكون طاعة وخضوعاً ودينونة لعرف اجتماعي سائد من صنع العبيد، وتركاً للأمر الواضح الصادر من رب العبيد .. إنه عندئذ لا يكون ذنباً ، ولكنه يكون شركاً ؛ لأنه يدل على الدينونة لغير الله فيما يخالف أمر الله.. وهو من هذه الناحية أمر خطير ..، ومن ثم يقول الله : (( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) (1)اهـ .
3 ـ شهوة الدنيا والركون إليها :
إن هذا المرض يعتبر من أخطر الأمراض التي بدأت تسري في حياتنا ، وحياة كثير من الدعاة إلى الله عز وجل وبأشكال كثيرة وأودية متشعبة قدلا يشعربها،أو يشعر بها،ولكنها من الثقل بحيث لا يستطيع التغلب عليها
وعلى أية حال؛ فحب الدنيا ، والسعي وراءها ، وامتلاء القلب بها ، واستحواذها على همنا وتفكيرنا ، هو الواقع المر الذي يجب أن نعترف به إلا من رحم الله .
ولو وازن أحدنا بين هم الدنيا والحيز الذي تشغله من قلبه وتفكيره ، وبين هم الآخرة،وهم هذا الدين لوجد أن البون شاسع والفرق كبير، ولوجد أن الدعوة وأمرهذا الدين يظهر على اللسان والأعمال الظاهرة،أما القلوب؛فلم يشغل منها إلا القليل،وإنما الهم الأكبر فهو لهذه الدنيا ومتاعها الزائل؛كل حسب اهتمامه وواديه الذي ذهب فيه من وديانها وشعابها التي ذكر الله عز وجل أهمها في سورة آل عمران بقوله : (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ )) [آل عمران:14].
وقال تعالى في سورة التوبة: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )) [التوبة:24].
وإن هذا المرض تشتد بشاعته عندأولئك الذين تصدرواللدعوة وقيادة المسلمين،وتوجيههم،فبالله العظيم كيف يمكن لمن ملأت الدنيا قلبه أن يدعو الناس إلى الآخرة؟!أويتصدر الدعاة إلى الله عزوجل وقيادتهم، وإن وجودهذه الشهوة في قلوب الدعاة إلى الله عز وجل من أكبر العوائق التي تعوق الدعوة عن تحقيق أهدافها ؛ بل تؤخرها إلى الوراء إن لم تقض عليها
إن مرض إيثار العاجلة على الآخرة يكاد أن يطم على حياة كثير من الدعاة؛حيث نجد أن الكثرة الكاثرة في حقل الدعوة إلى الله عز وجل تحصر انتماءها إلى الدعوة في إلقاء خطبة ، أو موعظة ، أو حضور جلسة، أو درس أسبوعي أو شهري ثم ينصرف من ذلك بقلبه وقالبه إلى أعمال الدنيا ، والتمتع بملذاتها ، ومساكنها ، ومراكبها، ويتوسع في ذلك بشكل يوحي إلى المتأمل فيمن هذه حاله أنه سيخلد في هذه الدنيا ، وأن ليس له ما يشغل ذهنه إلا متاعها الزائل.
أما أن يسهم في دفع الغالي والنفيس في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل ومرضاته ،والجهاد في سبيله ، فأحسب أن هذا الصنف من الدعاة قليل في هذا العصر ، وصدق الرسول- صلى الله عليه وسلم - : (( إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)) (2) .
ولا يفهم من هذا الكلام الامتناع عما أحل الله من الطيبات أو الامتناع عن التجارة ،والوظيفة ، بل كل ذلك محمود ما دامت التجارة، أو الوظيفة لا تطغى على الدعوة ، وما دام الداعية يستفيد من ذلك كله في دعوته ، والتقديم لآخرته. أما أن تطغى الوظيفة والتجارة ، والدنيا بشكل عام ، على الدعوة ، والاهتمامات العالية، ويبدأ الداعية يعيش حياة التجار في ترف ، وتنعم ورفاه ، فهذا هو المذموم، وهذا هو الذي بدأ ينتشر في حياة الدعاة اليوم ، وهنا بداية الانزلاق ، وبالذات إذا كان الداعية رأساً وموجهاً في حقل الدعوة إلى الله عز وجل .
فلنتصور داعية وموجهاً يقود دعوة ، ويعتبر موجهاً لها ، ثم هو في نفس الوقت نراه من تجار الدنيا ، يبيع ويشتري ، ويشغل جسمه في النهار ، وفكره في الليل بهذه الدنيا ومتاعها ؛ إنه لا يمكن تصور ذلك أبداً ؛فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .
__________
(1) في ظلال القرآن عند الآية 106 من سورة يوسف (باختصار) .
(2) رواه البخاري في الرقاق (6498)، ومسلم في فضائل الصحابة (2547).(/31)
ومثل ذلك ، هذا الداعية الموظف الذي أخذت عليه وظيفته كل وقته؛ عملاً رسمياً في نصف النهار الأول ، ثم إضافياً في آخره ، فأين ومتى وقت الدعوة والعمل في سبيل الله عز وجل؟، اللهم إلا ما تبقى من الوقت في الليل ، فيأتيه وهو كال الذهن ، متعب الجسد ، ويعزي نفسه بذلك ، ثم يدور الوقت هكذا ، وينصرم العمر القصير ، والهم الأكبر هو متاع الدنيا وزخرفها الفاني . والله المستعان .
أيها الإخوة في الله:
يجب أن نلتفت إلى قلوبنا،وأن نتحسس هذه الأمراض وجودها ، وكيف نعالجها.يجب أن يسأل كل منا نفسه:كم من الأقوال والأعمال التي كان يدعوالناس إليها وهي تخالف ما في قلبه ؟،يجب أن نحذر من قوله
تعالى : (( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ )) [آل عمران:167]، في الوقت الذي يتصور الناس عن هذا الداعية أنه من أحسن الدعاة خلقاً وعبادة، والحالة ليست كذلك ؛ فالقلوب القلوب!؛ عناية وإصلاحاً ومعالجة أمراضها التي تعد أخطر الأمراض وأشدها فتكًا .
والآن وبعد الحديث عن أصل المثالب والمساوئ وهي القلوب، نستعرض بعض المثالب السلوكية،التي يكثر انتشارها في أوساط الطيبين من الدعاة، فضلاً عن عامة الناس ودهمائهم .
2 ـ المخالفات في الهدي الظاهر :
يقول الله تعالى : (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب:21].
والتأسي بالرسول لله يشمل شئون حياته كلها وأحواله كلها الظاهرة والباطنة ، وأول من يخاطب بهذا التوجيه الدعاة إلى الله عز وجل ، والذين هم بدورهم يوجهون الناس إلى العمل بمقتضى هذه الآية .
ولكن مع ذلك في حياتنا كثير من التساهل في التأسي به لله ، فمن هذه المخالفات في الهدي الظاهر : التساهل في إعفاء اللحية وإكرامها ، أو قص الشارب أو حفه ، وكذلك في اللباس والهيئة، والمسكن ، والمأكل ، والمركب ...إلخ.
كل هذه الأمور قد يحصل التساهل فيها ، ويقع البعض في الإسراف المحرم ،والمخيلة، وحب الشهرة ، وليس هنا موضع التفصيل وضرب الأمثلة ؛ فكل إنسان أعلم بنفسه وحاله .
وقد نجد من يقول عند الحديث حول هذه المخالفات : إنها من القشور ،
وينبغي أن نهتم باللب ... إلخ .
وهذا القول في نظري خاطئ ، ومنحرف ، وغريب على معنى الاستسلام لله عز وجل وشرعه ،فليس في الدين قشور ولباب ، وإنما هو لحمة واحدة ، والاستسلام لله عز وجل في الصغير كالاستسلام له في الكبير.
يقول تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) [البقرة:208].
3 ـ منكرات البيوت :
يوجد من الدعاة إلى الله عز وجل من يتساهل في أمور البيوت، ومقتنياتها ، فلا يحكم فيها بشرع الله عز وجل ، وهو الداعية المتصدر لإرشاد الناس وتوجيههم .
? فنجد مثلاً من يتساهل في إبقاء التلفاز مع ما فيه من شر مستطير ، وإثم كبير يغضب رب العالمين ، فبالله كيف يقوى على ذلك داعية يخاف حساب الله عز وجل ويرجو ثوابه ، ويريد هداية الناس .
كيف يطاوع نفسه الأمارة، أو يطاوع أهله وأولاده في البقاء على هذا المنكر ؟ ثم بعد ذلك يدعو الناس ويرشدهم ، بل كيف سيقبل الناس دعوة من يناقض نفسه بنفسه ؟ .
والأخطر من ذلك تضليل الناس ودهمائهم، وتحبيب هذا المنكر لهم بحجة التأسي بهذا الداعية ، ولو كان منكراً لما أبقاه فلان وفلان من الدعاة وطلبة العلم !!.
* ومن منكرات البيوت أيضاً : والتي يحصل التساهل والترخص فيها وجود الخدم الأجانب والخادمات الأجنبيات الحرائر ، ووجود السائقين الذي يخلون بالمحارم من البنات والأخوات والزوجات ، ومعلوم ما في هذا من المخالفة لشرع الله جهاراً نهاراً ، وكل هذه المنكرات لا تحتاج إلى مناقشة وتدليل على حرماتها لوضوح ذلك وبيانه، ومع ذلك يحصل الترخص من بعض الطيبين في ذلك ، ويرضخ للأمر الواقع على حد زعمهم ، وتنتشر مثل هذه المخالفات في البيئات المترفة المنعمة دون التقيد بالضوابط الشرعية في ذلك .
? ومن منكرات البيوت أيضاً : التساهل في صور ذوات الأرواح حتى أصبح ذلك الأمر طبيعياً في حياة الناس ـ دعاتهم وعوامهم ـ إلا من رحم الله، ويتمثل ذلك في إدخال المجلات المصورة ومجلات الأزياء والمجلات النسائية ...إلخ ، بحجج واهية لا تسمن ولا تغني من جوع.
? ومن منكرات البيوت أيضاً : التساهل في حشمة النساء داخل المنزل، خاصة إذا وجد أكثر من عائلة ، وكان هناك عرضة للاختلاط ، كما يحصل نوع من التبرج المقصود أو غير المقصود عند الخروج من المنزل ، كما أن هناك من يترخص ويتوسع في أدوات الزينة والتجميل ؛ مما قد يكون بعضه محرماً، وولي الأمر في غفلة من هذا، أو في تغافل عنه.
4 ـ إهمال تربية الأهل والأولاد :(/32)
يقول الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)) [التحريم:6].
وهذه الفقرة متعلقة أو مرتبطة بما قبلها ؛ بل إن الملاحظة السابقة ثمرة من ثمار الإهمال والتساهل في تربية الأهل والأولاد ، ومعلوم أن أولى الناس بالمعروف والدعوة، هم أهل الإنسان وخاصته، ولكن –وللأسف- نجد التساهل الشديد في هذا الأمر عند الكثير منا .
ومن مظاهر هذا التساهل ؛ أن نرى الداعية نشيطاً ومتحركاً في الخارج ، في جميع المجالات ، بينما لا ينعم أهله ومن استرعاه الله عليهم برؤيته إلا قليلاً، وتراهم يجهلون كثيراً من أحكام الدين الأساسية ، وقد يقعون في بعض المحظورات والمنهيات ، فلا يهتم بهم ولا يأمرهم وينهاهم، بل لا يتفقد أحوالهم ليعلم وقوعها منهم؛لأنه لا يجد الوقت الذي يجلس معهم فيه ليعلمهم ويربيهم.
أليس من المؤسف له أن يوجد في بيوت كثير من الدعاة من الأهل والأولاد من لا يعرف كيف يتوضأ أو كيف يصلي؟ أو يجهلون أحكام الصيام وكثيراًمن فروض العين الواجب على كل مسلم بعينه أن يتعلمها؟؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ؛ فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها،والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته" قال الرواي وهو عبد الله بن عمر : فسمعت هؤلاء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحسب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( والرجل في مال أبيه راع ومسؤول عن رعيته ؛ فكلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته)) (1) .
وهناك معالجات خاطئة لحقوق الزوجة والأولاد بين الإفراط والتفريط؛ فقد يوجد من يهمل أهله، وبيته بحجة الدعوة إلى الله عز وجل، والتضحية وفقه في سبيله، كما يوجد في الطرف الثاني من يهمل أمور الدعوة ، وطلب العلم والجهاد ،بحجة حقوق الزوجة والأولاد ؛ فلا تجده إلا وهو يدور في فلكهم وطلباتهم ، والموفق من وفقه الله عز وجل في هذا الأمر وإعطاء كل ذي حق حقه ، والوسطية سمة من سمات هذا الدين العظيم.
5 ـ التفريط في حقوق الوالدين وصلة الأرحام وحقوق الجار:
قال الله تعالى : (( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً)) [النساء:36].
إن هذه الحقوق قد تساهل فيها كثير من الطيبين، مع المعرفة بها وبفرضيتها ، وبالذات حقوق الوالدين التي تأتي بعد الأمر بتوحيد الله عزوجل ، وما بعد الشرك بالله عز وجل ذنب أشد من عقوق الوالدين ، ومع ذلك فهناك تفريط في هذا الحق ، وبالأخص حق الأم ، والمقام هنا ليس مقام تفصيل وتدليل ؛ إنما المراد التذكير والإشارة إلى ضرورة الانتباه إلى هذا الواجب العظيم ، وألا يفرط فيه بحجة أو بأخرى .
ومن أمثلة التساهل في هذه الحقوق التقصير في خدمة الوالدين ، وتلبية طلباتهم ، وتقديم النوافل على طاعتهم الواجبة ، ومن ذلك أيضاً عدم التلطف معهم ، وخفض الجناح لهم والصبر عليهم ، وتفقد أحوالهم، وما يطرأ عليهم من الكبر ،وتقديم رضا الآخرين عليهم ...إلخ .
وهناك أمثلة أخرى من التفريط لا يتسع لها المقام، وكل هذا مع الأسف
يصدر من بعض الدعاة الذين يحضون في دعوتهم على بر الوالدين ، والقيام بحقوقهم ، فليت شعري كيف يستقيم الظل والعود أعوج!!
ومن الحقوق المتساهل فيها أيضاً : حقوق الأقارب ، وصلة الأرحام، وعدم زيارتهم ومواساتهم،وتفقد أحوالهم ، وخدمتهم عند الحاجة ، وذلك من الأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات ونحوهم.
ومن الحقوق التي يحصل التفريط فيها أيضاً:حقوق الجار،وعدم الإحسان إليه ، بل يتعدى الأمر إلى الإيذاء والمضايقة والهجران .
6 ـ التساهل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
هناك من الدعاة من يهون من شأن هذا الأمر ، وأنه ترقيع وتضييع للجهود ، ومعلوم ما في هذا القول من خطر ، وفتح الباب للفساد ، وترك المفسدين ليفسدوا في الأرض ، والله تعالى يقول : (( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)) [البقرة: 251].
فياليت أن مثل هذا الصنف من الناس لهم جهود أخرى في الدعوة والتعليم والتوجيه،ليعذروا في تركهم هذا الواجب العظيم ، وياليتهم إذ عجزوا عن هذه الشعيرة العظيمة تركوا غيرهم ليسدها .
7 ـ التساهل في صلاة الجماعة :
__________
(1) متفق عليه .(/33)
ويظهر ذلك في التأخر عنها وعدم التبكير لها، وإدراك الصف الأول، وتكبيرة الإحرام، بل قد تفوت الصلاة كلها أو بعضها بغير عذر شرعي، وخاصة صلاة الفجر والعصر،واللتان همامن أفضل الصلوات،بل إن ظاهرة تأخر الطيبين عن الصلاة بدأت تلاحظ في كثير من المساجد، وأصبح
بعض العوام يشهرون ويتندرون، بأن الذين يقضون بعد الصلاة ،من بينهم كثير من الطيبين الملتحين !!.
8 ـ التفريط في طلب العلم والتفقه في الدين :
يكتفي كثير من الطيبين بالتقليد ، والنتف من العلم : كالاكتفاء بالرسائل الصغيرة ، والأشرطة المسجلة،والخطب ، والمحاضرات ، وكل هذه الأمور طيبة ، وضرورية ، خاصة وإن الذي يغلب عليها الوعظ والتذكير ، أما الدروس العلمية والكتب العلمية المؤصلة فتضعف النفس إزاءها ، ولا يوجد الجلد والصبر على قراءتها وملازمة العلماء، رغم كثرة الكتب، وتوفرها وتفننها،ورغم توفر الدروس والعلماء وطلاب العلم ووجود الفراغ الذي لم يستثمر ، وإنما يضيع في ما لا ينفع في أكثر الأحيان، ومعلوم ما للعلم من دور كبير في معرفة الحق ، واستنارة الطريق، والدعوة إلى الله عز وجل ببصيرة.
9 ـ آفات اللسان :
وهي كثيرة ومتنوعة ولا يكاد يخلو منها مسلم إلا من رحم الله تعالى ، وأعانه على نفسه وشيطانه ، فمن هذه الآفات :
? تساهل الكثير من الطيبين في صدق الحديث والوقوع في ضده؛وهو الكذب والخداع والمراوغة ، وأكثر الأحيان لا يوجد مبرر لذلك .ومن المؤسف له أننا نعلم حرمة هذه المخالفات وعدم شرعيتها ، فكيف يتصور وقوع هذه المحرمات من دعاة يرجون النصر من الله عز وجل على أعدائهم؟!.
? ومن آفات اللسان أيضاً : الغيبة ، والنميمة ، واللمز ، والهمز ،
واللغو ، والسخرية ، وكل هذه الآفات قد جاء الإسلام بتحريمها ، ومع ذلك يترخص الكثير فيها بمبرر أحياناً وبدون مبرر أحياناً كثيرة ، والجدير بالذكر هنا أنه لا ينقصنا معرفة حرمة هذه المنهيات ؛ فكم قرأنا في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله لله عن التحذير منها ، ومع ذلك لم يحصل الارتداع والانتهاء ، فما السر في ذلك ؟ !.
السر في ذلك ـ والله أعلم ـ هو ما ذكرته آنفاً في مقدمة الموضوع عن أمراض القلوب، وأنها أساس الأمراض كلها ، فما لم نصلح أمراض قلوبنا، ونطهرها من الحسد وحب الترفع عن الناس والكبر ...إلخ ، فإنا لن نستطيع الإقلاع عن هذه المساوئ من الأخلاق ، مهما قرأنا وعلمنا ؛ فلا يصلح الغصن والجذر فاسد .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كلام نفيس حول دوافع الغيبة،يرجعها إلى فساد القلوب،فتراه يقول رحمه الله تعالى (جـ82 ص632 ـ 832) (باختصار):
" ? من الناس من يغتاب موافقةً لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون ، أو فيه بعض ما يقولون ، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس ، واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه .
? ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى : تارة في قالب ديانة وصلاح ، ويقول : ليس لي عادة أن أذكر أحداً ، إلا بخير ولا أحب الغيبة والكذب ، وإنما أخبركم بأحواله ، ويقول : والله إنه مسكين ورجل جيد ولكن فيه كيت وكيت ، وربما يقول : دعونا منه ، الله يغفر لنا وله ، وقصده من ذلك استنقاصه .
? ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة ؛ فيجمع بين أمرين قبيحين : الغيبة والحسد .
? ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ؛ ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به .
? ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب فيقول : تعجب من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت؟!،ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت؟!.
? ومنهم من يخرج الاغتمام ، فيقول : مسكين فلان غمني ما جرى له، وما تم له ، فيظن من سمعه أنه يغتم له ، ويتأسف ، وقلبه منطو على التشفي به ، ولو قدر لزاد على ما به .
? ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر وقصده غير ما أظهر "(1) اهـ باختصار.
? ومن آفات اللسان : الفحش والبذاءة في القول، خاصة عند الخصومة والجدال، فقد يوجد داعية طيب حسن المعتقد ذو همة في دعوته، ولكن ما إن يحصل بينه وبين أحدٍ خصومة أو جدل ،حتى ينقلب إلى وحش كاسر قد اشتد غضبه، وارتفع صوته ، وسفه عقل مخاصمه ، وبالتالي يفجر في خصومته، والرسول لله قد عد الفجور في الخصومة من خصال المنافق ، وبين لنا أن المؤمن ليس بالسباب ولا اللعان ، ولا الفاحش البذيء.
10 ـ التفريط في غض البصر :
وهذه السيئة لا يكاد يخلو منها أحد إلا من رحم الله ، وجاهد نفسه
وهواه. والناس فيها بين مقل ومكثر ؛ فالنظر إلى النساء الأجنبيات وإلى صورهن في الأفلام أو المجلات والصحف؛كل هذا قدجاءت الشريعة بتحريمه إلا نظرة الفجاءة الأولى ، ويكفي في ذلك قوله تعالى : (( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ )) [النور:30].
__________
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (28/236 – 238 ) .(/34)
والمطلوب منا في هذا الأمر أن نبذل أسباب الوقاية من ذلك ؛ فيجاهد المسلم نفسه ألا يعرض نفسه لمواطن النساء قدر ما يستطيع: كالأسواق والحدائق والمطارات والأسفار ...إلخ، وأن يعمل جاهداً ـ كما سبق أن أشرنا إليه في منكرات البيوت ـ أن يمنع دخول بيته المجلات والأفلام والصحف، التي تتخذ المرأة سلعة رخيصة للدعاية وجلب الأنظار، والله المستعان .
11 ـ الرضى من النفس بالدون :
يوجد من الطيبين من يحقر نفسه،حتى يحط من قدرها وهمتها ، وأنها ليست على مستوى طلاب العلم ، والدعاة إلى الله عز وجل ؛ وهذا مدخل شيطاني دقيق ؛ لأن الشيطان حريص على تخذيل الإنسان وتحطيم همته ، كما قال تعالى: (( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً)) [الفرقان:29].
فيجب أن ننتبه لهذا الأمر ، ونرتفع بأنفسنا إلى مستوى إسلامنا وإلى المهام العليا ، وفرق بين قوة النفس والهمة العالية وبين الغرور والعجب، كما أن هناك فرقاً بين التواضع المحمود وبين الدونية الممقوتة ،ويكفي أن قدوتنا في ذلك عباد الرحمن الذين قال الله تعالى عنهم : (( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)) [الفرقان:74].
فهم يسألون الله عز وجل أن يجعلهم أئمة وقادة وقدوة للمتقين، وليسوا
من المتقين فحسب ، فما أعظمها من همة.
12 ـ السفر إلى بلاد الكفر والفساد لغير ضرورة:
ويقع في هذه المخالفة بعض الطيبين من الدعاة، بحجة السياحة واستطلاع أحوال الأعداء!،وحضور بعض المنتديات أو المعارض والمؤتمرات، التي لا تكافئ مصلحة حضورها المفسدة الناجمة عنها ؛ إذ إنها من باب الكماليات وليست من الضروريات ولا الحاجيات ، ومما يزيد الأمر سوءاً تساهل هؤلاء الطيبين باصطحاب أهلهم وأولادهم ، وهذا مما يزيد الطين بلة؛ حيث يتحمل وزر نفسه ووزر من سافر معه ، والجميع يعرف ما في بلاد الكفر ، ودول الفساد من الفتن ، والمفاسد العظيمة التي تؤثر في الدين ، والأخلاق . والمسلم مطلوب منه أن يفر بدينه من الفتن لا أن يفر بدينه إلى الفتن.
13 ـ التهوين من شأن العلماء والدعاة والحط من قدرهم :
ويصدر هذا العمل المشين من بعض الطيبين المتعجلين أو المتعصبين ، وذلك عندما يقع بعض العلماء أو الدعاة في بعض الأخطاء التي صدرت منهم اجتهاداً أو ضعفاً ؛مما يؤدي إلى انتقادهم ، والتشهير بأخطائهم من قبل هؤلاء المتعصبين .
ومن المعلوم أن غيبة العلماء والتهوين من قدرهم ـ بسبب خطأ ارتكبوه ـ فيه فتنة وخطر كبير؛ لأن أهل الشر والفساد يستغلون مثل ذلك للنيل من علماء الإسلام ، وتوهين الارتباط بينهم وبين عامة الناس ، وبالتالي فإن هذا يمهد للنيل من الإسلام نفسه .
وفرق بين النصيحة للعالم ومعالجة الخطأ الصادر منه ، وفهم المبررات والملابسات التي أدت إلى ذلك ، والاعتذار له بعد ذلك ؛ فرق بين هذا وبين التشهير به، والنيل من عرضه ؛ فلحوم العلماء مسمومة (كما يقال).
وعندما نذكر العلماء والدعاة في هذا الصدد نقصد أولئك العلماء المخلصين ؛ حيث إنهم صمام الأمان لأمتهم ، وإذا ذهب العلماء ، وذهبت هيبتهم ذهب الدين تبعاً لذلك . أما علماء السوء ، وكل منافق عليم اللسان، فلا يدافع عنه ولا كرامة ؛ لأنه قد عرض نفسه للتهم والشبهات، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه .
والحديث عن العلماء يجرنا إلى الحديث عن الدعاة المخلصين ؛ حيث يوجد من يهون من شأنهم وجهدهم وتراثهم وفكرهم، لا لشيء إلا أنه خالف في الأسلوب أو الطريقة أو أنه ليس من طائفته ، وفي هذا بخس للناس في أشيائهم ، وفيه لوثة الكبر والعجب . فكأن ليس في الساحة الدعوية إلا هو ومن حوله ، وليس من يؤلف ويكتب ويحلل إلا هو ، أما الآخرون فهم أقل من ذلك، وإن وجد من يؤلف أو يقوم بدور دعوي ، فإنه يغمض عينه عن ذلك ، أو يشكك في مقاصدهم.. إلى غير ذلك من الظلم والعدوان.
ولو كانت القلوب سليمة نقية لحصل العكس؛ألا وهو الفرح بدعوة الدعاة الآخرين وجهودهم؛فالداعية المخلص يفرح بذلك ويرى أن الدعاة يكمل بعضهم بعضاً،والداعية الصادق يذكرلأهل الفضل فضلهم وخيرهم وبلاءهم، والداعية الناصح يسعى لإقامة التعاون بين الدعاة ، ويسعى لوحدة الصف واجتماع الكلمة،وإن تعذر فلا أقل من أن يحب بعضهم
بعضاً ، وأن يثني بعضهم على ما يرى عند البعض من خير ، وسلامة منهج، ونظافة سلوك ، وهذا كله من مقتضيات الولاء ، ومن لوازم العدل والإنصاف .
14 ـ الحزبية المقيتة :
وهذه السيئة متعلقة بما قبلها ؛ بل هي سبب لها . ومنبع هذه الخلة المذمومة تلوث معنى الولاء في القلب ، فبدل أن يبذل الولاء لكل مسلم صحيح المعتقد، نرى أنه يوجه لأفراد الحزب أو الطائفة أو القوم الذين هو منهم ، فلا يحب ولا يبغض إلا على أساسهم ، ولا ينظر إلا بمنظارهم .(/35)
وواضح ما في هذا من انحراف وتخبط، يتحمل وزره ، ويبوء بإثمه من تلبس به ، ومن ربى غيره عليه ، فأصل الموالاة والمعاداة في الإسلام على العقيدة ؛ فكل مسلم صحيح الإيمان يجب أن يبذل له من المحبة والموالاة بغض النظر عن جنسه ولونه أو لغته،وصاحب العقيدة الصحيحة من أهل السنة والجماعة، والمتخلق بأخلاق السلف،يجب أن يبذل له الولاء التام الكامل .
أما المسلم المقدوح في عقيدته أو سلوكه ـ لكن لا تصل هذه القوادح إلى حد الكفر ـ فمثل هذا يبذل له الولاء العام المكافئ لما فيه من الإيمان والخير، ويتبرأ من بدعته ، وخلقه المشين . أما الذي ينتفي عنه الولاء بالكلية ، ولا يجوز في حقه إلا البراءة التامة ، فهو الكافر المنافق نفاقاً اعتقادياً ظهرت عليه علاماته .
15 ـ إهمال كتاب الله عز وجل قراءة وتدبراً :
هناك تقصير ملاحظ في حق كتاب الله عز وجل،والذي قال الله عز
وجل عنه: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) [يونس:57، 58].
ومن مظاهر هذا التقصير هجر قراءته، إلا في أوقات متباعدة ، وهجر تدبره وتعاهده ، والعمل به ، وقد يبرر هذا الانشغال بأمور الدعوة ، أو القراءة في كتب العلم الأخرى ، وقد يمر على الداعية يوم أو يومان أو أكثر ، وما قرأ فيها من كتاب الله عز وجل شيئاً ، وإن قرأ فبدون تدبر وخشوع ؛ بل يقرأ أحدنا القرآن وهو متلبس ببعض المنهيات التي نهى عنها القرآن ، أو تاركاً لبعض الواجبات التي أمر بها القرآن،والإصرار على ذلك ؛كمن يقع منه الكذب والغيبة والنميمة والظلم والعدوان وإطلاق البصر وقطيعة الرحم والحسد والرياء ...إلخ .
وما كان هذا هو منهج السلف في قراءتهم للقرآن وتلقيهم لأحكامه؛ بل المعروف عنهم أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يفهموها ، ويعملوا بها؛ فيتعلمون العلم والعمل ، وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في وصف حالة السلف مع القرآن ، ووصف من بعده قوله : " كنا نؤتى الإيمان من قبل القرآن ، فيقرأ أحدنا القرآن فيقف عند زاجره وآمره ، وحلاله وحرامه .ولقد أدركت أناساً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ أحدهم القرآن من فاتحته إلى خاتمته لا يقف عند زاجره ولا آمره "، أو كما قال رضي الله تعالى عنه .
إذن كان السلف رحمهم الله تعالى يقرءون القرآن ، وقد امتلأت قلوبهم بالإيمان؛ فيكون لكلام الله عز وجل أثر في حياتهم وسلوكهم،أما من أوتي
القرآن والقلب خاوياً من الإيمان ؛ فإنه يقرأ القرآن والقلب مشحون ، ومملوء بشهوات الدنيا ، ومتفرق في شعابها ، وقد يكون حافظاً للقرآن ، ويقرؤه بتجويد وصوت حسن لكن بدون تدبر وخشوع وعمل . وأكبر دليل على ذلك أن كثيراً منا يقرأ القرآن من جلدته إلى جلدته دون أن تقطر عينه من خشية الله وسماع كلامه عز وجل .
16 ـ التفريط في كسب المال الحلال :
إن هناك تساهلاً كبيرًا عند بعض الدعاة ، في تحري الحلال والطيبات من الرزق، في الوقت الذي ينبغي فيه الحذر الشديد من جراء التساهل في هذا الأمر، وخاصة في عصرنا اليوم ، والذي عز فيه المكسب الحلال لكثرة الشبه ، وانفتاح كثير من أبواب الربا ، والبيوع المحرمة ، وغموض كثير من المعاملات التجارية، مع ما يصاحبها من قلة إيمان وضعف نفس.
ويتمثل هذا التساهل،إما في عين المال المكتسب في بعض التجارات المشبوهة،والتي لا يمكن الحصول عليها إلا بالوقوع في الحرام أو شبه الحرام أو يتمثل هذا التساهل أيضاً في طريقة الكسب؛ كالتقصير في إتقان الوظيفة أو المهمة المسندة لصاحبها؛سواء في ضبط دوامها أو تضييع الوقت أثناءها، أو الاستفادة من الوظيفة وخدماتها في الأغراض الشخصية
كما يظهر التساهل أيضاً في الترخص في مصاحبة من لا خلاق له من تجار الدنيا، ومداومة الجلوس معهم ومداهنتهم،وبالذات إذا كانت المعاملة مع غير المسلمين .
17 ـ الجبن والبخل :
إن هذين الخلقين الذميمين قد أكثر الرسول لله من التعوذ منهما في أكثر
من دعاء ، فقال : (( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) (1)، وقال: (( اللهم إني أعوذ بك من الجبن ، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا ، وأعوذ بك من عذاب القبر)) (2).
__________
(1) رواه البخاري في الدعوات (6369) ، ومسلم في الذكر والدعاء (2706) .
(2) رواه البخاري في الدعوات (6374) .(/36)
وقد يظهر الجبن والبخل على اللسان ، وقد لا يظهران إلا عند المواقف التي تتطلب الشجاعة والكرم ، وهذان الخلقان لا يجوز أن يجتمعا عند داعية، مع العلم أنه قلما يوجد أحد هذين الخلقين عند شخص إلا ويوجد مع الخلق الآخر، وغالباً ما يكون البخيل جباناً ، والجبان بخيلاً ؛ لأن الشح يجمعهما ؛ فالجبان شح بنفسه ، والبخيل شح بماله ، قال تعالى: (( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) [الحشر:9].
وإن داعية فيه هاتان الخلتان الذميمتان ،لا يصلح لدعوة فيها بذل وتضحية؛ لأن الدعوة إلى الله عز وجل تتطلب التضحية بالمال والنفس .
ولما جاء وفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو وفد بني سلمة من الأنصار ، قال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : الجد بن قيس على أنا نبخله ، فقال بيده هكذا ، ومد يده ، وأي داء أدوأ من البخل، بل سيدكم عمرو بن الجموح )) (1) .
فمن هذه القصة نرى أن الرسول لله لم يرض لمن يسود الناس أن يكون بخيلاً .
وقد يظهر شخص ما أنه سالم من هاتين الصفتين ، والحقيقة غير ذلك لأنه لم تأت المواقف التي توضح وجودهما من عدمهما.
وهناك موقفان يبتلي الله عز وجل بهما عباده المؤمنين ليعلم من يثبت ممن يزل ويزيغ ؛ألا وهما: موقفا الخوف والطمع ؛ فموقف الخوف يظهر الجبن والشجاعة ، وموقف الطمع يظهر البخل والشح ،وإيثار الحياة الدنيا، من غير ذلك .
ولقد ابتلى الله عز وجل بهذين الموقفين بني إسرائيل فسقطوا؛ ابتلاهم بالخوف عندما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة فنكلوا وجبنوا ، وقالوا: (( إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ)) [المائدة: 22].
وابتلاهم الله عز وجل بالطمع فحجز الحيتان عنهم إلا يوم السبت ، فما صبروا على شهواتهم ، بل خارت نفوسهم ، وانساقوا مع شهواتهم .
وابتلى الله عز وجل أصحاب محمد لله بالخوف والطمع فنجحوا واستعلوا عليهما ، فقالوا للرسول لله عندما استشارهم في غزوة بدر : "والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك " .
ومدحهم الله عز وجل في أعقاب غزوة أحد بقوله تعالى : (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) [آل عمران:173].
وقال عنهم يوم الأحزاب : (( وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) [الأحزاب:22]، ثم ابتلاهم الله عز وجل بالدنيا وانفتاحها عليهم ؛ فاستعلوا عليها وزهدوا فيها ورضوا منها بالكفاف.
إذن؛إذا أردنا أن نكشف وجود هذين الداءين في نفوسنا من عدمهما
فلنتفقدهما عند موقفي الخوف والطمع ، وإن هذا لا يعني أن نتعمد مواطن الخوف والطمع ؛ كلا ،فالمطلوب من المسلم أن يفر بنفسه عن مواطن الفتن؛ لأنه لا يدري ما ستكون حاله حينئذ ، وكما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تتمنوا لقاء العدو ، وإذا لقيتموه فاصبروا)) (2).
وثمة مسألة أخيرة تتعلق بهذا الموضوع؛ ألا وهي:وقوع بعض الطيبين في الحب المفرط لنفسه ومصالحها،مما قد يؤدي به إلى الأنانية والأثرة الممقوتة، وإن هذه الصفة الذميمة لها نتائج وخيمة ، ومن أبرز هذه النتائج: وقوع صاحبها في الشح والجبن المشار إليهما سابقاً ، ووقوعه أيضاً في ضعف الهمة وخور العزيمة ، وضعف النفس ودناءتها ، وإذلالها للغير في سبيل تحقيق مصلحة ، أو دفع مفسدة عنها.
ومن نتائج حب الذات المفرط أيضاً : العجب،والغرور،والأنانية،وقلة المروءة،وحب الظهور والمدح، وإهمال حقوق الأخوة وحقوق الآخرين ، وعدم المسارعة في خدمة المسلمين وإعانتهم على حوائجهم ...إلخ.
18 ـ نقل الأخبار دون تمحيص وتثبيت :
لقد ابتلي بهذه الصفة كثير من الطيبين؛ حيث تراه يحدث بكل ما سمع دون تثبت ولا تمحيص، وقد يكون ما سمعه لا أصل له، وقد يكون مزاداً عليه ، وقد ينقله دون فهم ووعي لمراد المتكلم به ، وقد ينقله بعبارة يفهم السامع الآخر منها غير المراد ، ومعلوم ما ينتج من ذلك كله من إذكاء الشائعات ، والوقوع في الكذب ، وسوء الظن ، والعدوان على الناس بغير حق . يقول الله تعالى : (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الاسراء:36].
19 ـ التصدر للتدريس والجرأة على الفتوى بلا علم :
__________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد ، وصححه الألباني – صحيح الأدب المفرد (227/296)، وانظر : الإصابة – ترجمة عمرو بن الجموح .
(2) رواه البخاري في الجهاد (3025)، (3026)، ومسلم في الجهاد (1741)، (1742).(/37)
يقول الله تعالى: (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الاسراء:36].ومع ذلك يوجد في بعض الدعاة،من لا يتردد في إفتاء الناس عما يسألون،بشبهة علم أو بغير علم أصلاً، أو أن يتصدر للتدريس في فن من الفنون قبل أن تجتمع عنده الآلة في ذلك ، كل ذلك سببه مرض في القلب ؛ وهذا المرض هو حب الشهرة والظهور بمظهر العالم الواعي الذي حوى من كل علم بنصيب ، ولا يريد أن يتصف بالجهل ، ومعلوم ما في هذا من الإثم والمنقصة في الدين ، وفي النهاية يجازى بنقيض قصده؛وهو استنقاص الناس له ومقتهم له وعدم الثقة به وبعلمه .
20 ـ الغلظة والفظاظة :
يقول الله تعالى: (( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ))
[آل عمران:159].
قال سيد قطب حول ظلال هذه الآية :
" فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ود يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم ... في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ، ولا يحتاج منهم إلى عطاء ،ويحمل همومهم ،ولا يعنيهم بهمه ،ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء ...
وهكذا كان قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا كانت حياته مع الناس ؛ ما غضب لنفسه قط ، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة ، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه، نتيجة لما أفاض عليه لله من نفسه الكبيرة الرحيبة "(1) اهـ .
هذه هي صفات نبينا محمد لله الذي أمرنا الله عز وجل بالتأسي به ، واقتفاء أثره ، وهي نموذج لكل داعية يريد دعوة الناس إلى الخير ، ويحببهم فيه ، ولكن مع ذلك بعضنا يفرط في هذه الصفات ، ويصدر منه من المواقف والتصرفات ما ينم عن الغلظة ،والفظاظة ، وعدم الحلم ، وسعة الصدر، متمثلاً في تقطيب الوجه، وانقباض النفس، والتعنيف على الأخطاء، وفقدان الرفق والأناة ، ومعلوم ما ينتج عن ذلك من نفرة الناس وكرههم لمن هذه أخلاقه، فوق ما في ذلك من الإثم وحرمان الأجر.
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) (2) .
وثمة شيء آخر يتعلق بهذا الموضوع ألا وهو ما درج عليه بعض المربين والموجهين من الدعاة من القسوة على من معهم ، وتربيتهم على التقليد الأعمى ، وعدم السماح لهم بإبداء آرائهم ،ومعارضتهم ، وقفل باب التشاور معهم .
وهذه الطريقة الخاطئة من التربية، تفرز لنا دعاة مقلدين متعصبين منفذين لما يقال لهم بدون بصيرة،وهذه في الحقيقة تربية عبيد لا تربية قادة ، وهذا يخالف قوله تعالى: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [يوسف:108].
الخاتمة
في ختام هذا الموضوع أود التنبيه إلى الملاحظات التالية :
1 ـ لم أراع ـ في ترتيب الملاحظات السلوكية في هذا البحث ـ الأولوية والأهمية، إلا فيما يتعلق بأمراض القلوب باعتبارها أخطر الأمراض ، فاحتلت الرقم الأول على بقية الملاحظات لأهميتها وشدة خطرها ، أما ما تم سرده بعد ذلك فلم يكن حسب الأهمية ، بل كلما عن للخاطر ملاحظة دونتها ، وقد يكون ما بعدها أخطر منها ، وهكذا.
2 ـ إن ما تم طرحه من المساوئ السلوكية والقلبية هو على سبيل المثال من الواقع العملي ، وليس على سبيل الحصر ، وإلا لو رجع كل منا إلى نفسه أو ما يشاهد من حوله لوجد أكثر مما طرح في هذا الموضوع.ولما كان هدف هذه الدراسة هو التنبيه على خطر هذه الأمراض وخطر نسيان النفس في زحمة الدعوة للآخرين ـ لما كان الأمر كذلك ـ اكتفيت بذكر نماذج من هذه القوادح؛ لعلها تكون حافزاً لنا،لتوجيه الدعوة والتربية إلى أنفسنا في الوقت الذي نوجهها لغيرنا ، كما أرجو أن يكون هذا الموضوع حافزاً لأهل الخير والصلاح وأرباب التربية والتوجيه إلى الاعتناء بمثل هذه المواضيع توجيهاً وكتابة ونصحاً .
3 ـ لعل مما يلاحظ على هذا الموضوع أنه لم يتطرق للقوادح التصورية والعقدية المنتشرة عند بعض الدعاة ، ولكن تعمدت ترك ذلك ؛ لأن المقصود بهذا البحث الذين يفترض فيهم صحة المعتقد وسلامة المنهج من أهل السنة والجماعة .
وهنا ملاحظة مهمة يحسن طرحها بهذه المناسبة ؛ ألا وهي ضرورة العلم بأن منهج السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ ليس فكراً مجرداً في الذهن ،وإنما هو عقيدة وسلوك، وتصور وأخلاق، ولكن المتأمل في حياتنا معشر أهل السنة يلحظ انفصالاً ـ ولو بصفة جزئية ـ بين الجانب العقدي النظري وبين الجانب السلوكي العملي ، انفصالاً بين النظرية والتطبيق .
__________
(1) في ظلال القرآن ، عند الآية 159 من سورة آل عمران .
(2) رواه مسلم في البر والصلة (2626) .(/38)
فقد يلاحظ مثلاً أن هناك داعية عالماً معتقداً لعقيدة السلف في التوحيد بأنواعه، وفي أصول الاستدلال ، وفي ... إلخ ؛ ولكن ما إن يختبر في سلوكه إلا ويظهر عليه بعض الأخلاق المشينة المخالفة لعمل السلف .
إذن عندما ننادي بمنهج أهل السنة ومنهج السلف، فإنا نري من ذلك منهجهم الشامل في العقيدة وفي السلوك ، ولا نريد جزئية المنهج بأن يحصل الالتزام في الجانب العقدي ويفرط في الجانب السلوكي ، كما لا نريد العكس ؛ بحيث يكون الالتزام بالجانب السلوكي والتفريط في الجانب العقدي ، ولكن نريد الأمرين جميعاً.ولو رجعنا إلى سيرة سلفنا الصالح لوجدناهم خير مثال لهذا المنهج المتكامل .
وإذ كان الأمر كذلك فنحن بحاجة إلى إدراك المقصود بمنهج أهل السنة أو منهج السلف ، وأن المراد منه الجانبان معاً :العقدي والسلوكي،ونحن بحاجة إلى أن نكون على منهج السلف في السلوك والأخلاق كحرصنا على أن نكون على أثرهم في المعتقد والفهم ، وإذا تم إدراك ذلك فسوف تختفي من حياتنا تلك الصور والمواقف المتناقضة .
نعم، لن نجد شخصاً هو على عقيدة السلف في توحيد الألوهية والأسماء والصفات ومحاربته للبدع ، ومع ذلك يخالف سلوك السلف في حبهم للجماعة وكرههم للفرقة ، أو يخالف سلوك السلف في اقترافه للظلم، والكذب ، والغيبة ، والحق ، والشحناء، والتي ليست من أخلاق السلف .
إن هذه الازدواجية في الالتزام بمنهاج السلف سوف تزول أو تقل ـ إن شاء الله تعالى ـ بإدراك الأمر المشار إليه آنفاً .
ومن أجل ذلك الأمر-والله أعلم- نجد أن كتابات السلف- رحمهم الله تعالى - في عقيدة أهل السنة والجماعة تشير دائماً إلى بعض الجوانب السلوكية؛ وذلك لأهميتها ، فنرى مثلاً شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يذكر ذلك في العقيدة الواسطية ، وهو يسرد أصول أهل السنة ، فقال :
" ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة ، ويرون إقامة الحج والجهاد ، والجمع ، والأعياد ،مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً ، ويحافظون على الجماعات ، ويدينون بالنصيحة للأمة ، ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً)) .وشبك بين أصابعه)) (1)، وقوله- صلى الله عليه وسلم - : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد،إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) (2)،ويأمرون بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء ،ويدعون إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ويعتقدون معنى قوله- صلى الله عليه وسلم - : (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا))ً (3)ويندبون إلى أن تصل من قطعك،وتعطي من
حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام ، وحسن الجوار ، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل ، والرفق بالمملوك ،وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق ، ويأمرون بمعالي الأخلاق ، وينهون عن سفاسفها « اهـ .
رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية ، فلقد كان مدركاً للترابط بين العقيدة والأخلاق ، وما إيراده لهذه الأخلاقيات في كتاب العقيدة الواسطية إلا أكبر دليل على أن الالتزام بمنهج السلف رحمهم الله تعالى يعني أن تتمثل في أهله عقيدة السلف وأخلاقهم ، وبقدر ما ينقص من هذه الجوانب سواء في المعتقد أو الأخلاق بقدر ما يحصل النقص في الالتزام بهذا المنهاج العظيم الكريم، الذي من سار عليه نجا وأفلح ،ومن تركه خاب وخسر .
نسأل الله عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، كما نسأله سبحانه أن يهدينا لأحسن الأخلاق ؛ لا يهدي لأحسنها إلا هو ، وأن يصرف عنا سيئها؛لا يصرف عنا سيئها إلا هو.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
* * *
الرسالة الرابعة : ((إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )) ( الأنعام : 83) ... ... ... .
إن ربك حكيم عليم
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
__________
(1) رواه البخاري في المظالم (2446)، ومسلم في البر والصلة (2585) .
(2) رواه البخاري في الأدب (6011) ، ومسلم في البر والصلة (2586) .
(3) رواه أبو داود في السنة (4682)، والترمذي في الرضاع (1162)، وانظر السلسلة الصحيحة (284).(/39)
فإن الله عز وجل خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له . وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه، حيث يرجعون إليه سبحانه فيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون،ثم إن الله سبحانه وتعالى قد ركب في فطر خلقه الاستعداد للتوحيد،والانجذاب إليه سبحانه فيما لوتركت النفس بدون مغير؛كما قال الله عزوجل في الحديث القدسي ((إني خلقت عبادي حنفاء ...الحديث)) (1)
وقد أودع عز وجل في هذا الكون من الآيات الباهرات التي تدل عليه سبحانه وأنه وحده الخالق المدبر لهذا الكون،وأنه هو المستحق للعبادة وحده.
ولكن مع كل هذا الاستعداد الفطري للتوحيد ومعرفة الله عزّ وجلّ بآياته إلا أنه سبحانه وتعالى وبواسع رحمته ، وعظيم إحسانه لم يكلنا إلى فطرتنا وحدها ؛ذلك لما يعتري الفطرة السليمة من الفساد والركام بفعل المؤثرات الخارجية أولاً ، وثانياً: لأن الفطرة الإنسانية مهما كانت سليمة وموحدة لبارئها وعالمة به في الجملة؛إلا أن هذا العمل والتوحيد سيبقى مجملاً وناقصاً .
ومن أجل ذلك أرسل الله عز وجل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليزيلوا ركام الوثنية والشرك الذي تراكم على النفوس ليردوها إلى التوحيد الخالص لله عز وجل ويعرفوهم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى والتي لا تدركها الفطرة بدون معلم، كما يعلمونهم الأحكام ، والتشريعات الربانية التي تُصلح أمور دينهم ودنياهم ،ويعلموهم أن لهم ميعاد يوم لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ، وأن هناك جنة وناراً وللجنة أهلون لهم صفات يليقون بها ، وللنار أهلون لهم صفات يستحقون العذاب بسببها، وكل هذه المعارف والعقائد لا تعرف لولا رحمة الله عز وجل ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
قال تعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )) [الأنبياء:107].
وقال تعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ )) [الأنبياء:25].
ومن أمور التوحيد التي فصلها سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله لله أمر أسمائه الحسنى وصفاته العليا، التي يعرف بها العباد خالقهم ورازقهم ومعبودهم سبحانه حتى يقدروه حق قدره ،ويعبدوه حق عبادته،ولتمتلئ النفوس بعظمته وجلاله وليتعبدوا لله سبحانه ويدعونه بها، قال تعالى : (( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) [الأعراف:180].
وإن توحيد الأسماء والصفات له شأن عظيم ، وأثر كبير في النفوس
والقلوب ، ولا يصح إيمان عبد إلا بإيمانه بأسماء الله عز وجل وصفاته ، ولكن ما معنى الإيمان بالأسماء والصفات ؟ .
إن الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته لا يتم على الوجه الصحيح إلا أن ينبني الفهم فيها على ثلاث أسس مهمة ذكرها الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى في محاضرة له عن منهج دراسة لآيات الأسماء والصفات- ، قال في خاتمتها : إنا نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله ، وأن تلتزموا بثلاث آيات من كتاب الله :
الأولى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) [الشورى: 11]؛ فنزهوا رب السموات والأرض عن مشابهة الخلق .
الثانية : (( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) [الشورى:11] ؛ فتؤمنوا بصفات الجلال والكمال الثابتة بالكتاب والسنة، على أساس التنزيه كما جاء (( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) بعد قوله تعالى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) .
الثالثة : أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية ؛ لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل،وهذا نص الله عليه في سورة طه؛حيث قال تعالى: (( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)) [طه:110].
وإن هذا الذي ذكره الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في المنهج الصحيح لفهم الأسماء والصفات ،لابد أن ينضم إليه الشعور بآثارها القلبية، والتعبد لله عز وجل ودعائه بها ، وإلا لن يتم الإيمان بالأسماء والصفات كما آمن به سلف الأمة الذين جمعوا بين الفهم والعمل ، ونظروا إلى كل اسم من أسماء الله عز وجل بأن فيه حقاً من العبودية لله عز وجل على العباد، يتعبدون لله سبحانه وتعالى به .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى(2) :
»فصل« والأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر ،اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين ، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها؛أعني من موجبات العلم بها ، والتحقق بمعرفتها ، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح .
فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة؛ يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً ، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً .
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب الجنة وصفة نعيمها (2865) .
(2) مفتاح دار السعادة ص424 .(/40)
وعلمه بسمعه تعالى وبصره،وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وأنه يعلم السر وأخفى ،ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؛ يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله . وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك الحياء باطناً ، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح .
ومعرفته بغناه، وجوده ،وكرمه،وبره ،وإحسانه، ورحمته ؛توجب له سعة الرجاء ،ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه ،وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة. وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي من موجباتها .
وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة
بمنزلة أنواع العبودية ، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها ارتباط الخلق بها ، فخلقه سبحانه وأمره هو موجب أسمائه وصفاته في العالم وآثارها ومقتضياتها .اهـ .
وقال رحمه الله تعالى في (طريق الهجرتين) :
» والمقصود أن الرب أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء ، وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقص ، وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خال عن الحكمة والمصلحة ،وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ، موصوف بصفة الكمال ، مذكور بنعوت الجلال منزه عن الشبيه والمثال ، ومنزه عما يضاد صفات كماله ؛ فمنزه عن الموت المضاد للحياة ، وعن السِّنَةِ والنوم والسهو والغفلة المضاد للقيومية ،وموصوف بالعلم منزه عن أضداده كلها،من النسيان والذهول وعزوب شيء عن علمه، موصوف بالقدرة التامة منزه عن ضدها من العجز ، واللغوب ، والإعياء ، موصوف بالعدل منزه عن الظلم ، موصوف بالحكمة منزه عن العبث ، موصوف بالسمع والبصر منزه عن أضدادهما من الصمم والبكم، موصوف بالعلو والفوقية منزه عن أضداد ذلك ، موصوف بالغنى التام منزه عما يضاده بوجه من الوجوه مستحق للحمد كله .
فيستحيل أن يكون غير محمود كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي وله الحمد كله واجب لذاته ، فلا يكون إلا محموداً كما لا يكون إلا إلهاً ورباً قادراً «(1) .
مما سبق من هذه النقول، يتبين أن المقصود من الإيمان بتوحيد الأسماء
والصفات ليس مجرد المعرفة الذهنية فقط ، وإنما المقصود أن نفهمها كما فهمها رسول الله لله وصحابته الكرام لفظاً ومعنى ، والتعبد لله سبحانه وتعالى بها والعمل بمقتضاها .
ولقد أحدث أهل الكلام وتلامذتهم من المبتدعة حدثاً كبيراً في هذا الركن الركين من التوحيد ؛ حيث تحول التعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته إلى جدل كلامي ، ودراسات فلسفية ، وانعكس ذلك بدوره حتى على الذين يدرسون أو يُدرِّسون الأسماء والصفات على منهاج أهل السنة والجماعة ، فقلما نجد من الدارسين أو المدرسين لهذا العلم العظيم من يشير إلى المقصود الأساسي من دراسة هذا العلم ؛ ألا وهو التعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته والعمل بمقتضاها كما مر بنا في كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى .
ولكي يثبت لنا صحة هذه الملاحظة وأننا نمر على أسماء الله تعالى وصفاته ولا نقف عند مدلولاتها وآثارها في القلب وفي الواقع، نأخذ على سبيل المثال ـ لا على سبيل الحصر ـ اسمين من أسماء الله تعالى الحسنى طالما قرأناهما مقترنين في كتاب الله تعالى ، ومع ذلك لا نقف على سر اقترانهما، ولا على مدلول ولوازم كل اسم منهما ، وماذا يجب علينا من العبودية فيهما .
وهذان الاسمان هما المذكوران في عنوان هذا البحث : (( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )) .
قال تعالى : (( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )) [الأنعام:83].
وقال تعالى : (( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)) [الأنعام:128].
وقال تعالى : (( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [يوسف:6].
والآيات التي ختمت بهذين الاسمين الكريمين كثيرة جداً في كتاب الله عز وجل ، فما معنى هذين الاسمين الجليلين، وما مقتضاهما ومدلولهما ؟.
قال الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى : (( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )) :
__________
(1) طريق الهجرتين ص203 .(/41)
الحكم في الاصطلاح: هو من يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها ، فالله جل وعلا حكم لا يضع أمراً إلا في موضعه ، ولا يوقعه إلا في موقعه ، ولا يأمر إلا بما فيه الخير ، ولا ينهى إلا عما فيه الشر ، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب وهو جل وعلا ذو الحكمة البالغة له الحجة والحكمة البالغة .
وأصل الحكم في لغة العرب: معناه : المنع ؛ نقول : حكمه ، وأحكمه إذا منعه . قال الشاعر :
أبني حنيفة احكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
وقال آخر :
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء
هذا هو أصل الحكم .
والحكمة: فعلة من الحكم ، وأظهر تفسير لها : العلم النافع ؛ لأن العلم النافع هو الذي يحكم الأقوال والأفعال؛ أي يمنعها من أن يعتريها الخلل ؛ فمن كان عنده العلم الكامل ؛ فإنه لا يضع الأمر إلا في موضعه ، ولا يوقعه إلا في موقعه ؛ لأن كل إخلال في الأحكام إنما هو من الجهل بعاقبة الأمور ، فترى الرجل الحاذق البصير يفعل الأمر ؛ يظن أنه في غاية الإحكام ، ثم ينكشف الغيب أنه فيه هلاكه؛ فيندم حين لاينفع الندم ؛ ويقول : ليتني لم أفعل ، أو لو أني فعلت كذا لكان أحسن .
أما الله سبحانه العالم بعواقب الأمور وما تصير إليه والعالم بما كان ويكون ، فلا يضع أمراً إلا في موضعه . ومحال أن ينكشف الغيب عن أن ذلك الأمر على خلاف الصواب لعلمه سبحانه بما تؤول إليه الأمور .
والعليم : صيغة مبالغة ؛ لأن علم الله جل وعلا محيط بكل شيء؛ يعلم خطرات القلوب ، وخائنات العيون ، وما تخفي الصدور ؛ حتى إن من إحاطة علمه سبحانه علمه بالعدم الذي سبق في علمه ألا يوجد ، فهو عالم أن لو وجد كيف يكون.
وأن اسم (الحكيم العليم) فيه أكبر مدعاة للعباد أن يطيعوه ، ويتبعوا تشريعه؛لأن حكمته سبحانه تقتضي ألا يأمرهم إلا بما فيه الخير،ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر،ولا يضع أمراً إلا في موضعه ، وبإحاطة علمه يعلمون أن ليس هنالك غلط في ذلك الفعل، أو أن ينكشف عن غير المراد؛بل هو في غاية الإحاطة والإحكام ، وإذا كان من يأمرك بحكم لا يخفى عليه شيء حكيم في غاية الإحكام لا يأمرك إلا بما فيه الخير ، ولا ينهاك إلا عن ما فيه الشر ، فإنه يحق عليك أن تطيع وتمتثل "(1) اهـ .
مما سبق من كلام الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى يتبين أن اسم الحكيم يقتضي الإيمان بأن الله عز وجل حكيم في أحكامه وقضائه وقدره؛ فكما أنه حكيم في شرعه ودينه فهو حكيم في قضائه وقدره؛ لأن من المعلوم أن ما يحكم به سبحانه وتعالى ويقتضيه في هذا الكون نوعين من الحكم :
1 ـ حكم كوني قدري .
وهو قسمان :
ـ قسم يمكن مدافعته .
ـ قسم ليس في الوسع مدافعته .
2 ـ حكم ديني شرعي :
والله سبحانه وتعالى حكيم عليم في أحكامه الكونية القدرية ، وحكيم عليم في أحكامه الدينية الشرعية . قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (طريق الهجرتين):
" بل الأحكام ثلاثة :
الحكم الأول : حكم شرعي ديني :
فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة ؛ بل الانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة ؛ فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد ، ولا يرى إلى خلافه سبيلاً البتة ، وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول .
فإذا تلقي بهذا التسليم والمسالمة،إقراراً وتصديقاً بقي هناك انقياد آخر،
وتسليم آخر له، إرادة وتنفيذاً وعملاً ؛ فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه ، كما لا تكون له شبهة تعارض إيمانه وإقراره ، وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق ، وشهوة تعارض الأمر ، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات ، ولا خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات ، بل اندرج خلاقه تحت الأمر ، واضمحل خوضه في معرفته بالحق ، فاطمأن إلى الله معرفة به ، ومحبة له ، وعلماً بأمره ، وإرادة لمرضاته ، فهذا حق الحكم الديني الشرعي .
الحكم الثاني: الحكم الكوني القدري، والذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة :
والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه ، فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة ، بل ينازع بالحكم الكوني أيضاً ، فينازع حكم الحق بالحق للحق ؛ فيدافع به وله،كما قال شيخ العارفين في وقته عبد القادر الجيلي :" الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة ، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق ، والعارف من يكون منازعاً للقدر لا واقفاً مع القدر " .
فإن ضاق ذرعك عن هذا ، فتأمل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد عوتب على فراره من الطاعون ، فقيل له : أتفر من قدر الله ؟، فقال : " نفر من قدر الله إلى قدره ".
ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به، ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه؛فإنه إذا جاء قدر الجوع والعطش أو البرد نازعه وترك
__________
(1) من شريط مسجل بصوت الشيخ رحمه الله تعالى .(/42)
الانقياد له ومسالمته ودفعه بقدر من الأكل والشرب واللباس ؛ فقد دفع قدر الله بقدره.
وكذا إذا وقع الحريق في داره ، فهذا بقدر الله ، فما بالله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان؟، بل ينازعه ويدافعه بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله .
وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بكل ما يمكنه ؛ فإن غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر ، ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطيها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع شاء أو أبى ، فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه ، وأسباب معاشه ، ومصالحه الدنيوية ، ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه ؟ وهل هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه ؟!.
ولو أن عدواً للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله ، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله ؛وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب،دفعاً لقدر الله بقدره ، فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية ؛ اللهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة ، وخرج الأمر عن يده ، فحينئذ يبقى من أهل :
الحكم الثالث : وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ، ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته :
فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة،وترك المخاصمة، وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل،وكمن انكسربه المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة ،وعن سبب يدنيه من النجاة ، فها هنا يحسن الاستسلام والمسالمة؛مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخرى سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه ، وعدله في قضائه ، وحكمته في جريانه عليه ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطئه لم يكن ليصيبه ، وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلب بما يلقاه كل عبد،فمن رضي، فله الرضا،ومن سخط فله السخط.
ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة ، وأن القدر قد أصاب مواقعه ، وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به ، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل ، فهو موجب أسمائه الحسنى ، وصفاته العلى ، فله عليه أكمل حمد وأتمه ، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره"(1)اهـ.
وفي ضوء هذا الكلام البديع للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تبرز لنا حقيقتان مهمتان من لوازم ومقتضيات اسم الله عز وجل (الحكيم):
الحقيقة الأولى :
أن (اسم الحكيم) يلزم على الإيمان به لوازم قلبية تعبدية تقتضي الإيمان الجازم بأن الله عز وجل حكيم في جميع أحكامه الدينية الشرعية ، ليس لأحد من البشر أن يعارضها أو يأتي بما يناقضها أو يخلطها بغيرها.
بل إن اسم (الحكيم) لله سبحانه يفرض على العبد الاستسلام لشرع الله الحكيم، فيحكم به، ويتحاكم إليه،ويرفض كل شرع يخالف شرع الله حكماً وتحاكماً ، ويؤمن إيماناً جازماً أن من شرع ديناً ونظاماً لم يأذن به الله تعالى،وادعى أنه أصلح لحياة الناس ومعاشهم،أو ساواه بشرع الله ، أو جوز الحكم به ، فإنه قد أشرك بالله عز وجل ، ومن أطاعه في ذلك على علم فقد أشرك بالله أيضاً .
ذلك لأن في هذا الصنيع كفراً بأسماء الله عز وجل وصفاته ، ومنها اسم (الحكيم)، فوق ما فيه من كفر بتوحيد الألوهية ، وبالذات توحيد الطاعة والاتباع. قال تعالى : (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65].
وقال تعالى : (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً )) [الأحزاب:36].
وقال تعالى : (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) [الأنعام:121].
وإن خطورة هذا الشرك لتظهر في عصرنا اليوم الذي أ ُقْصِي فيه شرع الله عز وجل جانباً،وحكم في الأنفس والعقول والأموال والأعراض بأنظمة البشر وأهواء البشر،التي تخلو من العلم والحكمة ، ومعرفة عواقب الأمور، وإنما الذي يسيطر عليها الجهل والهوى والتخبط . وإنه لم يظهر مثل هذا الشرك الخطير في تاريخ الأمة الإسلامية كما ظهر في زماننا اليوم
ونظراً لخطورة هذا الأمر، وقلة من تكلم عنه أنقل كلاماً نافعاً للشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى ،وهو يتحدث عن هذا الشرك الجديد في (أضواء البيان) عند قوله تعالى: (( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً )) [الكهف:26].
__________
(1) طريق الهجرتين، ص63.(/43)
قال رحمه الله تعالى : " قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر »ولا يشركُ« بالياء المثناه التحتية ، وضم الكاف على الخبر ، ولا نافية ، والمعنى : ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه ، بل الحكم له وحده جل وعلا ، لا حكم لغيره البتة ، فالحلال ما أحله تعالى ،والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه ، والقضاء ما قضاه ، وقرأه ابن عامر من السبعة: "ولا تُشركْ " بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي ؛أي لاتشرك يا نبي الله ، أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا ، بل اخلص الحكم لله في شوائب شرك غيره في الحكم ، وحكمه جل وعلا المذكور في قوله : (( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً )) شامل لكل ما يقضيه جل وعلا ، ويدخل ـ في ذلك ـ التشريع دخولاً أولياً .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه، على كلتا القراءتين،جاء مبيناً في آيات أخر ؛ كقوله تعالى : (( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )) [يوسف:40]، قوله تعالى : (( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت)) [يوسف:67]، وقوله تعالى : (( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)) [الشورى:10]، وقوله تعالى: (( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ )) [غافر:12].
وقوله تعالى: (( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [القصص:88]، وقوله تعالى : (( لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) [القصص:70]، وقوله تعالى : (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )) [المائدة:50]، وقوله تعالى : ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً )) [الأنعام: 114]، إلى غير ذلك من الآيات .
ويفهم من هذه الآيات كقوله: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)) أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخرى ؛ كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) [الأنعام:121] فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم .
وهذا الإشراك في الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى : (( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) [يّس:60، 61]، وقوله تعالى تعالى عن نبيه إبراهيم: (( يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً)) [مريم:44]، وقوله تعالى: ((إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً)) [النساء:117]، أي : ما يعبدون إلا شيطاناً ، وذلك باتباع تشريعه ؛ ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء، في قوله تعالى : (( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ )) [الأنعام:137].
وقد بين النبي لله هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ )) [التوبة:31]، فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله ، فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً .
ومن أصرح الأدلة في هذا أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ماشرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب ؛ وذلك في قوله تعالى : (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً )) [النساء:60].(/44)
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، وأنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم"(1)اهـ .
وحول هذا الموضوع أيضاً قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )) [النساء: 59]: " إن هذه الآية تتضمن أموراً ... " إلى أن قال :
"ومنها : أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه ، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ؛ ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين؛فإنه من الطرفين،وكلاً منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خيرٌ وأن عاقبته أحسن عاقبة ، ثم أخبر أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكَّم الطاغوت وتحاكم إليه .
والطاغوت:كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله،أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله .
فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم [عَدَلُوا] من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ،وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت ، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم،ولا قصدوا قصدهم ؛ بل خالفوهم في الطريق والقصد معاً .
ثم أخبر تعالى عن هؤلاء ، بأنهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ،ولم يستجيبوا للداعي ،ورضوا بحكم غيره ، ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم ، وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول ، وتحكيم غيره، والتحاكم إليه ، كما قال تعالى: (( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِم)) [المائدة:49]، اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق ؛ أي بفعل ما يرضي الفريقين، ويوفق بينهما، كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول ، وبين ما خالفه ، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق .
والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي ؛ فمحض الإيمان في هذه الحرب لا في التوفيق ، وبالله التوفيق.
ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج، والضيق عن قضائه وحكمه ، ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلموا تسليماً ،وينقادوا انقياداً.
وقال تعالى : (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب:36]، فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله ،ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالاً مبيناً.
وقال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الحجرات:1]؛ أي: لا تقولوا حتى يقول ، ولا تأمروا حتى يأمر ، ولا تفتوا حتى يفتي ، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه ، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ، وروى العوفي عنه قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه .
والقول الجامع في معنى الآية : لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يفعل .
وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات:2]. فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم ، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه ؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم ؟ .
وقال تعالى : ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا
__________
(1) أضواء البيان (4/90 – 92) .(/45)
مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)) [النور:62]،فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه إلا باستئذانه ، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول ولا مذهب إلا بعد استئذانه ، وإذنه معروف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه"(1)اهـ .
الحقيقة الثانية :
ومن لوازم الإيمان باسم الله (الحكيم) الإيمان بأن ما يقضيه الله عز وجل من أحكامه الكونية القدرية فيها الحكمة البالغة ،وفيها الصلاح والخير ، إما في الحال أو المآل ، ولو ظهر فيها شيء مما تكرهه النفوس وتتألم منه مما يقدره الله سبحانه ، ففيه الخير والصلاح للناس ولو لم يظهر للبشر هذه الخيرية ؛ فلابد من الإيمان بأن الله عز وجل له الحكمة البالغة فيما يقدر ، وهذا ما يقتضيه اسم الله (الحكيم).
يقول الله تعالى : (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة:216].
قال سيد قطب رحمه الله حول هذه الآية:"..إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيراً ، ووراء المحبوب شراً.إن العليم بالغايات البعيدة المطلع على العواقب المستورة هو الذي يعلم وحده ،حيث لا يعلم الناس شيئاً"(2)اهـ
والمقصود أن الإيمان بأن الله سبحانه حكيم في قضائه وقدره ؛ يفرض على المسلم الاستسلام والرضا بما يقدره الله عز وجل، من الأحكام الكونية القدرية،من مصائب وأمراض وغيرها،وما لا يستطيع دفعه بالأسباب الشرعية، أما ما يمكن دفعه ومنازعته بقدر آخر من أقدار الله عز وجل؛فإن هذا لا يعارض الإيمان بالقدر،كما سبق نقله عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى(3)
فالإيمان بعلم الله عز وجل وكتابته لجميع المقادير قبل وقوعها ، ثم الإيمان بأنه سبحانه حكيم فيما يفعل ، ويقضي ويقدر كل هذا ببث الرُّوح والطمأنينة ويسكبها في قلب المسلم المخبت لربه ، المطمئن لقضائه وقدره ، الموقن بأن كل ما يكتبه الله عز وجل عليه من مصائب وغيرها فهي خير له إما عاجلاً أو آجلاً ، كما قال تعالى : (( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة:185]،وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( عجباً لأمر المؤمن!إن أمره كله له خير؛ وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً ل))) (4)، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((.. والخير كله في يديك والشر ليس إليك)) (5) .
فالشر ليس إليه سبحانه ولو ظهر لنا أن هذا الفعل شر ومكروه، فهو بالمآل خير وصلاح. ولقد كان أنبياء الله عز وجل يدركون ما في أسماء الله عز وجل من العبوديات وما يلزم عليها من الرضا والتسليم والطمأنينة لقضاء الله وقدره .
فهذانبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام عندما جاءه الخبر بحجز ابنه الثاني عند عزيز مصر-وقد سبق ذلك فقده ليوسف عليه السلام-توجه برجائه ودعائه لله عزوجل.قال تعالى يحكي حاله (( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَىاللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) [يوسف:83]
وكذلك الحال ليوسف عليه السلام عندما جمعه الله بأبويه حيث قال : (( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) [يوسف:100].
ومن خلال التأمل للآيتين السابقتين نلاحظ أن يعقوب وابنه عليهما الصلاة والسلام قد ختما تضرعهما لله عز وجل بعد المصائب التي حلت بهما بهذين الاسمين العظيمين (العليم الحكيم).
واختيار هذين الاسمين الجليلين في هذا المقيام له دلالته ومغزاه ؛ لأن أعرف الناس بالله عز وجل هم أنبياؤه ورسله،ولقد ختما تضرعهما إلى الله عز وجل باسم العليم الحكيم- ، وذلك والله أعلم لما يبثه هذان الاسمان الكريمان في قلب المسلم من الرضا والطمأنينة والتسليم لقدر الله عز وجل ، وأن شيئاً في هذا الكون لا يحدث إلا بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة .
__________
(1) إعلام الموقعين (1/50).
(2) في ظلال القرآن ص323 – دار المعرفة .
(3) انظر ص: 154 – 155 .
(4) صحيح مسلم – كتاب الزهد والرقائق (2999 ) .
(5) مسلم – كتاب صلاة المسافرين (771) .(/46)
وبينما كنت في نهاية هذا البحث وخاتمته قدر الله عز وجل الأحداث الموجعة التي تعيشها المنطقة الإسلامية هذه الأسابيع ، والتي تعرف بأحداث الخليج على إثر الاجتياح العراقي لدولة الكويت ، ومع ما تحمله هذه الأحداث من مصائب ونكبات، إلا أنه ظهر وسيظهر من مقتضيات اسم الله ( العليم الحكيم) دروس وعبر ومشاهد ، تزيد في إيمان المؤمن بأسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته العليا .
ولذا أحببت أن أ ُدلي ببعض المعاني التي جالت في الخاطر إزاء هذه الأحداث بعد ربطها بهذين الاسمين الجليلين العظيمين من أسماء الله عز وجل الحسنى العليم- ، الحكيم- ، فأقول وبالله التوفيق :
إن من الأصول المستقرة في باب الإيمان بالله عز وجل، الإيمان بقضائه وقدره، وأن شيئاً لا يحدث في هذا الكون صغيراً أو كبيراً إلا بعلم الله عز وجل وإرادته وخلقه له ؛ قال تعالى: (( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)) [القمر:49]، وقال تعالى : (( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)) [القمر:53].
كما أن الإيمان بالله سبحانه وقضائه وقدره وأسمائه وصفاته ،لايحصل إلا بأن يجزم المسلم أن ما يكتبه الله عز وجل ويقدره في هذا الكون من ورائه حكمة بالغة ، ولو ظهر للناظر أنه شر ومكروه ؛ فالإنسان بإدراكه المحدود في الزمان والمكان ، ولأن من طبيعته الجهل والظلم ، فإنه لا يمكن أن يدرك مآلات الأمور وعواقبها ، ولا يعلم بذلك إلا العليم الحكيم ، خالق الأشياء ومقدرها ، وعالم الغيب والشهادة .
قال تعالى : (( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)) [النمل:65]. وقال تعالى : (( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الملك:14]، وقال تعالى : (( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [الحديد:22].
إذ الأمر كذلك ؛ فلا شك ولا ريب،أن ما حصل من أحداث، وشرور في أحداث الخليج إثر الاجتياح البعثي للكويت لابد وأن نخضعه للأصول الآنفة الذكر ، وأن من حاد عن هذا المنهج فقد خسر إيمانه بالله عز وجل أصلاً، وانحاز إلى معسكر الكفر والإلحاد ، الذين لا يؤمنون بشيء من هذه الحقائق ، وإنما يفسرون أحداث التاريخ تفسيراً مادياً معزولاً عن علم الله عز وجل وتقديره، وحكمته البالغة فيما يخلق ويقدر.
وعلى ضوء ما سبق ؛ فإن الواجب على المسلم إزاء هذه الأحداث أن يؤمن إيماناً جازماً أن ماقدره الله عز وجل في أحداث الخليج، وإن كانت موجعة مؤلمة ؛ فإن من ورائها حكمة بالغة اقتضتها حكمة أحكم الحاكمين والمرتبطة باسمه (الحكيم) سبحانه وتعالى .
ولقد ظهرت بعض الدروس والحكم جلية من خلال هذه الأحداث المؤلمة ، مع أن ما خفي علينا في غيب الله عز وجل من الحكم والمصالح أكثر، ومن هذه الدروس التي ظهرت ما يلي :
الدرس الأول : التعرف على سنة الله عز وجل في التغيير وهي التفسير الإسلامي للأحداث :
إن ما حصل من أحداث في دولة الكويت ، وما ترتب على هذا الحدث من أمور ومستجدات قد فتح أعيناً عمياً وآذاناً صماً على حقيقة مهمة وسنة ثابتة لا تتغير ؛ ألا وهي : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) [الرعد:11]، وأصبحنا والحمد لله نجد هذه الحقيقة على ألسن كثير من الناس الذين منَّ الله عليهم باليقظة بعد الغفلة رجالاً ونساءً وعوام ومثقفين ، وهذا بحد ذاته نعمة ومنحة ورحمة من الله عز وجل لم تكن لتحصل لولا قدر الله عز وجل لهذا الحدث .
لقد كنا نعترف ونؤمن بهذه الحقيقة قبل ذلك ، ولكنه إيمان ضعيف، أما الآن فقد تحول هذا الإيمان إلى صورة واقعية عملية ؛ صار الخبر فيها عياناً، ولا شك أن الإيمان بهذه السنة الثابتة وأثرها على النفوس سيكون أبلغ وأقوى من الإيمان بها قبل وقوعها ، وكما هو معروف أن الطرق على الحديد وهو ساخن أقوى بكثير في تليينه وتأثره من الطرق عليه وهو بارد .
كما أن رحمة الله عز وجل وحكمته البالغة قد تجلت في هذا الحادث بأنه لم يترك الناس ينحدرون وبعجلة سريعة إلى الفساد ، وهم غافلون عما ينتظرهم من الهوة السحيقة التي هم قادمون عليها لو استمر انحدارهم، ولم يأت ما يوقفهم ويحد من انحدارهم إذا لم يصلحوا أنفسهم، ويوقفوا فسادهم بالوسائل الشرعية للإصلاح ، فيقدر عليه أحداثاً مؤلمة تشدهم عن المزيد من الانحدار ، وتقف أمام تهالكهم على الفساد لعلهم يرجعون ويتوبون ويستيقظون من غفلتهم .(/47)
قال الله تعالى : (( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )) [الروم:41]، وهذه والله هي عين النعمة والرحمة ،وإن كان ظاهرها التشريد والقتل وفقد الأموال ، فإن كل هذه المصائب تهون وتصغر عند فقد الدين ، وما يترتب على ذلك من مفاسد كبيرة ،لو استمرت عجلة الفساد في انحدارها الشديد ، ولم يأت للناس ما يوقفهم ويهز رؤوسهم ليستيقظوا ويتداركوا أنفسهم من السقوط في هوة سحيقة هم يتجهون إليها لو لم يوقفهم الله عز وجل بما يقدره من أحداث.
وإن هذا الدرس العظيم لا يدركه ، ولا يستفيد منه إلا المؤمن الذي يجعل من مثل هذه الأحداث باباً إلى التوبة ومحاسبة النفس ، والرجوع إلى الله عز وجل ، وتغيير الأحوال .
أما المنافق، والمادي، والعلماني، وغيرهم من أهل الإلحاد والزندقة، فلا تراهم إلا ساخرين ومستهزئين من هذه المعاني العظيمة ، والأصول الإيمانية الثابتة ، ولا تزيدهم هذه الأمور إلا كبراً ما هم ببالغيه ، ولن
يزيدهم هذا إلا رجساً إلى رجسهم ، كما قال تعالى : (( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)) [التوبة:124- 126].
وقال تعالى : (( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الأنعام:43].
الدرس الثاني : تمييز الخبيث من الطيب :
يقول الله تعالى : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ )) [آل عمران:179]
إن من رحمته تعالى وحكمته البالغة أن يقدر أحداثاً مؤلمة تتميز من خلالها الصفوف ، وتتعرى فيها النفوس ، فتظهر على حقيقتها للناس . وهذا هو الذي ظهر من خلال هذه الأحداث ؛ حيث ظهرت حقائق مهمة ساهمت في توعية الناس ، والدعاة منهم بصفة خاصة ، وذلك بحقيقة أعدائهم ، وتهافت راياتهم ، وانكشاف مخططاتهم ، وادعاءاتهم الكاذبة التي كانوا يخدعون بها الناس .
وتعرت بذلك دول وأفكار ودعوات، بل إن الإنسان نفسه قد تعرى أمام نفسه، وكشف من خلال هذه الأحداث حقائق من حوله،ومن نفسه ،ما كانت لتعرف لو لم يقدر الله عزوجل مثل هذه الأحداث،وإن هذه الثمرة الكبيرة، من توعية المسلمين بحقيقة أعدائهم ، وبحقيقة الأفكار والنحل التي تتلاطم من حولهم ، ما كانوا ليعرفوا عنها شيئاً ، وبهذا الكم الهائل من المعلومات،لولا تقدير الله عز وجل لهذا الحدث.
وقد حقق الله عز وجل هذه الثمرة في أسابيع عدة ما كانت الدعوة الإسلامية لتحصل عليها في عدة سنوات ، والأيام حبلى بدروس وعبر جديدة ؛ أليس هذا من رحمة الله وفضله ؟ ، بلى والله .
ولا يعني هذا أنا نتمنى المصائب والفتن ؛ معاذ الله ، فإن المسلم لا يدري ما تكون حاله حينئذ ، وقد نهانا رسول الله لله عن ذلك بقوله : (( لا تتمنوا لقاء العدو ، وإذا لقيتموه فاصبروا)) (1) .
ولكن أردت الإشارة هنا إلى ربط الأحداث بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة ، وأن شيئاً في هذا الكون لا يكون إلا بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة ، ويريد الله عز وجل منه الخير للمسلمين في الحال أو المآل .
الدرس الثالث : أهمية التوحيد والتربية عليه :
لقد ظهر من خلال هذه الأحداث الأهمية البالغة لتربية النفوس على عقيدة التوحيد الخالص ، ولقد بدا من خلال الأحداث أن هناك ضعفاً شديداً في هذا الجانب المهم في حياة المسلم ، كما ظهر من خلال الأحداث أن هذا الأصل المهم من أصول الإيمان لم يأخذ حقه من التربية العلمية والعملية.
ولعل من أهم دروس هذا الحدث أن يشعر المسلمون وأرباب التوجيه والتربية بضعف هذا الجانب ، وما كان ليعرف هذا الخلل لولا تقدير الله
سبحانه وتعالى هذه الأحداث .
ومن مظاهر هذا الضعف ما حصل من الارتباك الشديد في بعض المفاهيم العقدية،والتي تعتبر من الثوابت والأصول التي لا تتزعزع ، ولا تهتز ولا تتغير مهما تغيرت الأحوال والأزمان والأمكنة ، ومن أهم هذه الأصول التي اعتراها الاهتزاز ،مفهوم الولاء والبراء،والعداوة للكافرين والمشركين والمنافقين بشتى مللهم وأفكارهم .
__________
(1) متفق عليه .(/48)
أما أن يصبح العدو صديقاً والصديق عدواً ، وأما أن تبذل المحبة للكافر والعداوة للمسلم ، ويكون الميزان في الحب والعداوة موازين الأرض وموازين المصالح الشخصية ؛ فهذا كله مما ترفضه عقيدة التوحيد الثابتة ، والتي تقوم الموالاة والمعاداة على أساسها ، وهذا هو أصل لا إله إلا الله ؛ الكلمة الطيبة التي وصفها الله عز وجل بقوله : (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) [ابراهيم:24، 25].
وهي الكلمة التي من أجلها أُرسِل الرسل وأ ُنزلت الكتب ، وجاهد من أجلها أنبياء الله عز وجل ودعاته الصادقين ، كما قال تعالى : (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )) [الممتحنة:4].
أما ما سواها من المصالح الشخصية والموازين الأرضية فليس لها صفة الثبات؛ بل إن أبرز خصائص المصالح والموازين الأرضية ؛ عدم الثبات والروغان ، فالذي يحب ويعادي من أجل المصالح الدنيوية يدور مع هذه المصالح حيث دارت ، فقد يعادي في الصباح من أحبه في المساء ، وقد يوالي في المساء من عاداه في الصباح ،وصدق الله العظيم: (( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ )) [ابراهيم:26، 27]، اللهم ثبتنا بقولك الثابت ، ولا تضلنا مع الظالمين .
ومما يؤيد الاهتمام الشديد بالتربية على التوحيد ؛ ما ظهر من النقص والضعف في توحيد التوكل والاستعانة والاستغاثة وغيرها ، وما نتج عن هذا الضعف من الركون إلى غير الله عز وجل من أعداء هذا الدين ، والثقة بما عندهم أكثر من الثقة فيما عند الله عز وجل .
ولأجل كل ما سبق،ظهر أن الحاجة الماسة جداً إلى مزيد من التربية على العقيدة علماً وعملاً ؛بأن نتعلم أركان التوحيد ، وما يضاده من الشرك القديم والجديد،وألا يستخفنا الذين لا يوقنون من أرباب السياسة والمصالح الأرضية ، فيستهووننا معهم ، ويركبوننا في ركابهم ، بل يجب علينا الحذر الشديد منهم ومن مكرهم ، وأن نقبل على ديننا نتعلمه ، ونعمل به وندعو إلى الله ،ونصبر على الأذى فيه ، وألا نستطول الطريق أو الوقت الذي نمضيه في تعلم التوحيد ، وكل متعلقاته .
كما يجب علينا أن نعي واقعنا، وأن نربط ما تعلمناه من دين الإسلام بقضايا عصرنا ، ومستجداته من الأفكار والنحل التي لم تكن موجودة عند أسلافنا ، وأن يكون للتربية الشاملة على التوحيد دورها في مواجهة الشرك المعاصر ،والتي تشن فيه العلمانية معارك طاحنة ضد المسلمين بوسائل شتى.
أي أننا نريد منهجاً دعوياً يقوم على (سلفية المنهج وعصرية المواجهة)(1) ونقصد بالسلفية: العودة بأصول الفهم والاستدلال إلى الكتاب والسنة ، وقواعد الفهم المعتبرة لدى أصحاب رسول الله لله ومن تبعهم بإحسان ؛ وذلك لنتمكن من خلال هذا المنهج من المواجهة السلفية المعاصرة لمشكلات عصرنا،التي واجه بها سلفنا الصالح انحرافات عصرهم ، وكانت فريضة الوقت يومئذ ، ثم نتخلى عن المعارك الطاحنة التي تديرها الجاهلية في المجتمعات المعاصرة ؛ حيث ضاعت إسلامية الراية وإسلامية النظم وذلك في أكثر بلدان المسلمين.
إن السلفية الحقة لا تقبل أن تستهدف الدعوة في بعض المواقع تحرير العقائد من شرك الأموات،والتمائم،وتضرب صفحاً عن شرك الأحياء والأوضاع والنظم؛والتي لا تقل خطراً عن شرك الأصنام ، وكلا الشركين خطير.
كما لا تقبل السلفية الحقة أن تحارب التشبيه والتعطيل في صفات الله عزوجل وتقف عند ذلك،ولا تعلن الحرب على تعطيل الشريعة،وتحكيم القوانين الوضعية،وفصل الدين عن الدولة،وإننا بهذا المنهج الشامل والسلفية المعاصرة،نسلم وتسلم عقيدتنا الثابتة من أي خلط أو اهتزاز،كما هو الحاصل في هذه الأيام ،ولكنها الفتن ؛ نعوذ بالله منها ؛ ما ظهر منها وما بطن .
__________
(1) المراد (بعصرية المواجهة) أن يواجه أصحاب المنهج السلفي في كل عصر ما يكون في عصرهم من بدع وشركيات ومنكرات سواء كانت لها جذور قديمة أو كانت جديدة لم يسبق لها نظير بعينها وإن كان إنكارها له أصل شرعي .(/49)
وما أحسن ما كتبه الأستاذ محمد قطب في كتابه القيم (واقعنا المعاصر)حول أهمية التربية والرد على من يستطول طريقها ويريد قطف الثمرة قبل استكمالها،فقال ص684:" أما الذين يسألون إلى متى نظل نربي دون أن (نعمل)(1)؟ فلا نستطيع أن نعطيهم موعداً ؛ فنقول لهم : عشر سنوات من الآن أو عشرين سنة من الآن!، فهذا رجم بالغيب لا يعتمد على دليل واضح، وإنما نستطيع أن نقول لهم : نظل نربي حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول ..." ثم يستمر وفقه الله حول هذا الموضوع إلى أن قال : " ... ونكتفي بثلاثة أبعاد ، ننتقيها من بين أبعاد كثيرة ومجالات عديدة ؛ لأنها ذات أهمية خاصة ؛ وذلك بالنسبة لبناء القاعدة المطلوبة .
يقول سبحانه وتعالى: (( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) [الذريات:58]، ولو أنك سألت أي إنسان في الطريق من الذي يرزقك لقال لك على البديهة: الله ، ولكن انظر إلى هذا الإنسان إذا ضيق عليه في الرزق ، يقول : فلان يريد قطع رزقي! فما دلالة هذه الكلمة ؟
دلالتها أن تلك البديهة ذهنية فحسب ، وبديهة تستقر في وقت السلم والأمن ، ولكنها تهتز إذا تعرضت للشدة ؛لأنها ليست عميقة الجذور ... فلا يصلح لتلك الأعباء إلا شخص قد استقر في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، وأن الله هو المحيي المميت، وأن الله هو الضار النافع ، وأن الله هو المعطي والمانع ، وأن الله هو المدبر، وأن الله هو الذي بيده كل شيء ...
ترى كم جلسة ؟!كم درساً؟! كم موعظة ؟!كم توجيهاً يحتاج إليها
الإنسان؟! ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الذي يدبر ، وأن المخلوقات البشرية التي يخالطها في حياته إن هي إلا أدوات لقدر الله ، وأنها حين تضره فهي بشيء قد قدره الله له، وحين تنفعه فإنما تنفعه بشيء قد كتبه الله له ، فلا يتوجه إلا إلى الله في سرائه وضرائه سواء ،ويعلم يقيناً أن الخلق كلهم لا يملكون له ولا لأنفسهم ضراً ولا نفعاً "اهـ .
الدرس الرابع:صحة الفهم وحسن القصد ودورهما في درء الفتن :
في أيام الفتن تضطرب الأفهام ،وتحتار العقول أمام الشبهات ، كما أن القلوب تضعف أمام الشهوات ، ولا يعصم منها إلا من عصمه الله تعالى بعلم صحيح ،وفهم دقيق يدرأ بهما الشبهات ، وبدين وتقوى وصبر يدرأ بها الشهوات ، فبالعلم واليقين تدرأ الشبهات ، وبالصبر وحسن القصد تدرأ الشهوات .
ولا يسلم من الفتن ورياحها إلا من تحلى بهاتين الصفتين : الفهم الصحيح والقصد الصحيح ، ومن فقد أحداً من هاتين الصفتين ؛ فقد عرض نفسه للفتن ، ولقد اتضح مظاهر فقد هذين الأمرين أو أحدهما في هذه الأيام، أيام الأحداث والفتن ، فسقط في هذه الفتن من سقط ، وهلك فيها من هلك ، ولا يتعدى أسباب السقوط هذين الأمرين الآنفي الذكر ؛ فبضعف اليقين والبصيرة تسيطر الشبهات ، وبضعف التقوى وفساد المقصد تسيطر الشهوات .
وصحة اليقين والفهم يتمان بأمرين اثنين : بالعلم بدين الله عز وجل وأحكامه وشرعه ، وبالعلم بالواقع وأبعاده؛ فمن فرط في أي من هذين العلمين والفهمين فسد فهمه ، وعرض نفسه للشبهات ، وأخذ الباطل يحسبه حقاً .
أما من تحلى بالفهم بأحكام الله والفهم بالواقع ، ثم وقَّع الأول على الثاني ؛ فقد تمت له البصيرة ، ووصل إلىها الحق ، ولكن معرفة الحق لا تكفي في النجاة من الفتن حتى ينضم إلىها التقوى والصبر وحسن القصد، فينقاد إلى الحق الذي ظهر ويذعن له ، وإلا لو كان الصبر ضعيفاً أو القصد فاسداً ؛ فإن المسلم يتعرض للفتن من باب الشهوات ، فلا يصبر على الحق ، ويثبت عليه أمام المغريات والشهوات .
ولقد ساق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذه المعاني بأوضح عبارة وأدقها وأبلغها؛حيث قال رحمه الله تعالى في كتابه القيم(إعلام الموقعين)، في معرض شرحه لخطاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في القضاء؛ فقال في شرحه لقول عمر:"فافهم إذا أدلي إليك":
" صحة الفهم ، وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما ، بل هما ساقا الإسلام ، وقيامه عليهما ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم ، وطريق الضالين الذين فسدت فهو مهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت فهومهم وقصودهم ، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة .
وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد ، يميز به الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، ويمده حسن القصد، وتحري الحق ، وتقوى الرب في السر والعلانية ، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا ، وطلب محمدة الخلق وترك التقوى .
__________
(1) الكلام هنا موجه لأولئك الشباب المتحمس الذي ينقضه التربية والعلم الشرعي والإمكانات ومع ذلك يطالب بإعلان الجهاد ضد الأنظمة التي تنكرت لشرع الله واستحلت ما حرم الله .(/50)
ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :
أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات،والعلامات حتى يحيط به علماً .
النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع؛وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله لله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر ، فمن بذل جهده ، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله "(1) اهـ .
وبعد هذا الكلام المفيد من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، وبعد النظر الدقيق للمواقف المضطربة إزاء الأحداث والفتن هذه الأيام ، وبعد خوض من خاض ، وهلاك من هلك فيها ، إما بقلبه أو لسانه أو يده ، يتبين لنا أن هناك خللاً في منهاج الدعوة عند بعض الدعاة ، ونقصاً في التربية،لعل من دروس هذه الأحداث اكتشافنا لهذا الخلل حتى نتفاداه .
ويمكن مما سبق تلخيص هذا الخلل في النقاط التالية :
1 ـ عدم التربية على طلب العلم الشرعي من مصادره الصحيحة وأصوله المنضبطة.
2 ـ عدم التربية على طلب العلم والفقه بالواقع ، والوعي الصحيح بسبيل المؤمنين فيه ، وبسبيل المجرمين .
3 ـ هناك خلل في القلوب ،وفساد في القصود، لابد من تداركه، والاهتمام بتزكية القلوب وتربيتها على الإخلاص لله عز وجل وإنشاءهم
الآخرة والزهد في الدنيا ، وعدم طلب محمدة الناس ، والتربية على الصبر والثبات أمام الشهوات والمغريات.
وعندما يتم التغلب على هذه الأنواع من الخلل ، ويربى الناس عليها، وعلى طلبها ؛ فإنه بإذن الله تتم العصمة من الفتن وأخطارها ؛ فبالعلم بدين الله ، والعلم بالواقع تتقى الشبهات ، وبحسن القصد ، والإخلاص لله عز وجل والصبر أمام المغريات تتقى الشهوات ، والله أعلم .
وبعد :
فإن الدروس والحكم كثيرة وكثيرة ، وليس مقصود البحث هنا هو التفصيل فيها ، ولكن ذكرت بعض هذه العبر والحكم والمصالح من هذا الحادث المحيط بنا هذه الأيام، لنتذكر من خلاله أن لأسماء الله عز وجل وصفاته لوازم ومقتضيات لا يتم الإيمان إلا بها ، ومن هذه الأسماء الكريمة اسم الحكيم-، والذي هو موضوع بحثنا في تفصيل لوازم هذا الاسم الجليل، والتعرف على العبوديات التي يتضمنها ، والآثار التي يتركها في القلب والجوارح، وما يلزم عليه من لوازم ومقتضيات ، ومنها ما تم استعراضه من الدروس الماضية، لحدث واحد مما يقضيه الله عز وجل ويقدره، من بين أحداث وأحداث كثيرة،وكثيرة تصغر في حجمها وتكبر ، ولكنها كلها لا تخرج عن علم الله عز وجل وتقديره ، ولا تخرج عن حكمته البالغة وتيسيره.
* * *
الخاتمة
لقد تبين من خلال هذه الدراسة السريعة أن الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته تقتضي إثباتها له سبحانه على الوجه الذي يليق به وعظمته من غير تكييف ولا تحريف ولا تعطيل ولاتمثيل ، كما أن الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته تقتضي التعبد لله سبحانه وتعالى بها والإيمان بلوازمها
ولقد اخترت في هذه الدراسة اسمين من أسماء الله عز وجل الجليلة هما ( العليم والحكيم ) وفصلت في الثاني وما فيه من العبوديات في اسم واحد من أسماء الله عز وجل، فكيف ببقية أسمائه سبحانه الحسنى وصفاته العلا؟.
إنني أتوجه في نهاية هذه الدراسة إلى علمائنا ، وأرباب التوجيه والتربية، بأن يولوا هذا الجانب المهم من أسماء الله عز وجل عناية كبيرة في دروسهم وحلقاتهم التعليمية ، وأن تتم التربية من خلاله على تقوية الإيمان وتجريد التوحيد لله والثبات على الإسلام ، والجهاد في سبيله ، وألا يقفوا في دراسة توحيد الأسماء والصفات على الجوانب الذهنية المجردة أو الردود على أهل البدع والأهواء فقط ، وإنما يجمعون ـ في دراسة هذا الجانب المهم من توحيد الله عز وجل ـ بين الجانب العلمي والعملي والتعبدي.
أسأل الله عز وجل أن يحسن فهومنا ومقاصدنا وختامنا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
* * *
متى نصر الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لله تسليماً كثيراً.
أما بعد:
لا ريب أن من أعز مقاصد المؤمنين وأشهى مطالبهم وغاية نفوسهم: رؤية دينهم ظاهراً وكتابهم مهيمناً وعلو راية التوحيد خفاقة مع قهر أهل الكفر والطغيان وإذلالهم.
إن هذا الهدف الأعظم وتلك الأمنية السامية لا تتحقق عن طريق الدعاوى والأماني بل عن طريق البحث والتنقيب عن سنن الله في النصر ، تلك السنن الربانية التي قدرها ـ تبارك وتعالى ـ لنصر حزبه الموحدين وخذلان حزب الشيطان اللعين .
__________
(1) إعلام الموقعين (1/87) .(/51)
فيجب علينا معشر المؤمنين حتى نحقق صدق الدعوة ونقيم عليها البينة العادلة أن نتعرف علي تلك السنن وطبيعة الصراع وحجم التكاليف وشراسة الأعداء ومباينة السبل واختلاف المناهج والغايات والتوجهات بين المؤمنين والكافرين ، حتى نقضي علي فرية وحدة الأديان وتوحيد الرايات والالتقاء في الطريق تحت ستار الأسرة الواحدة والشرعية الدولية.
إن دين الله-الذي اصطفاه لنا ولا يعبد إلا به-يقتضي أن يكون-جل شأنه-حاكماً لا معقب لحكمه ، وأن يوحد بالعبادة والتلقي والتوجه وأن يفرد بالولاء ، مع الكفر والبراءة والانخلاع من كل ما يعبد من دونه .
ومن هنا وجب إعداد العدة والأخذ بالسنن الربانية لتحقيق النصر المأمول مع الحذر الشديد من العوائق الداخلية والأمراض الفتاكة التي تفتك بجسد الأمة وتسلمها فريسة سهلة لأعدائها لتحول بينها وبين غايتها العظمى ودورها المنشود المناط بها، بل المدقق في تلك العوائق الداخلية ليتيقن أنها الأساس المنيع الذي تستمد منه العوائق الخارجية وجودها وهيمنتها .
إن الله -عز وجل- بعلمه الشامل وحكمته البالغة قدر وقضى أن يكون الصراع بين الحق والباطل موجوداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
وأما عن طبيعة هذا الصراع : فسمته أنه حرب ضروس لن يخمد لهيبها إلى قيام الساعة . قال تعالى: (( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)) [البقرة: 217]، ولا يخفى ما تحويه لفظة: (( وَلا يَزَالُونَ )) من الاستمرارية والبقاء دون انقطاع، ولهذا جاء الأمر واضحاً من العليم الحكيم لأوليائه: (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) [الأنفال:39]، والفتنة لن تخلو منها الأرض، بل الساعة تقوم على شر أهلها.
وكذلك أخبر النبي لله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم بأن : (( الخيل معقود فى نواصيها الخير إلي يوم القيامة)) "(1) .
هذه السنة الربانية قد خص بها حشد من النصوص المستفيضة حتى
بلغت حد التواتر اللفظي والمعنوي ،وغدت من المعلوم بالاضطرار من هذا الدين وأصبح المكذب بها مكذباً بالدين طاعناً على رب العالمين متبعاً غير سبيل المؤمنين .
وهذا من أبلغ الحجج والبراهين على دحض افتراءات العلمانيين و المنافقين ـ الذين وقفوا على طريق جهنم وأعلوا رايتهم ملوحين بها للناس أن هلموا إلينا ليقذفوهم فيها ـ الذين يزعمون ويفترون بأن الحرب الدينية اليوم قد انتهت، وحري بالعالم أجمع أن يجتمع تحت راية واحدة وأن يكونوا كالجسد الواحد المتجانس الشعور والإحساس ولا تحول معتقداتهم دون هذا البتة ، بل يجب أن تبقى هذه المعتقدات حبيسة القلوب وحبيسة دور العبادة والمحاريب ولا تتعدى جدارها ولا تتخطى حدودها .
ومن المعلوم أن الخصوم في حروبها تلجأ إلى ناصر وولي ومعين ، تحتمي بحماه وتقهر بقوته وتعتز بعزه،فالله ـ جل شأنه ـ لم يرتض لأوليائه ناصراً سواه ولا ولياً دونه ولا معيناً عداه ، قال تعالى : (( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا )) [البقرة: 257]، وقال سبحانه : (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ )) [محمد:11].
ومن هنا وجب علينا معشر المؤمنين وأمة التوحيد أن نتوكل على مولانا وناصرنا ، ونعي آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلىا ، فنتعبد لله بها وتظهر في القلوب آثارها فتطمئن لوعد الله وتثق بنصره ، حتى ولو صال الباطل وانتفش في وقت من الأوقات ، فإن المؤمن يوقن أن ما قدره الله هو الخير ويحوي في طياته الرحمة والنعمة وإن كان ظاهره الألم والمشقة ، ذلك أن رحمة الله سبحانه قد سبقت غضبه وأن الشر ليس إلى الله عز وجل .
إن معبود وولي المؤمنين هو الجبار القوى : الذي لا يعجزه شيء . العزيز: فلا يغلبه شيء . المتكبر : الذي تكبر عن السوء والظلم . الرحمن: الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها . العليم : فلا يخفى عليه شيء ، والسر والجهر عنده سواء لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض . الحكيم : في أفعاله وقدره وأحكامه . القدير : فالسماوات مطويات بيمينه والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ، ما قدره أولياؤه حق قدره فضلاً عن أعدائه . المحيط : بظلم الظالمين ومكر الماكرين لا يفوته شيء . العلىّ : قد علا على كل شيء دونه وتحت قهره وغلبته .
يقول ابن القيم رحمه الله :
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد (2850)، وفي المناقب (3644) .(/52)
"وكذلك اسمه السلام : فإنه الذي سَلِمَ من العيوب والنقائص . ووصفُه بالسلام أبلغ في ذلك من وصفه بالسالم ، ومن موجبات وصفه بذلك سلامةُ خَلْقه من ظُلمه لهم . فسَلِم سبحانه من إرادة الظلم والشر ، ومن التسمية به ، ومن فعله، ومن نسبته إليه . فهو السلامُ من صفات النقص وأفعال النقص وأسماء النقص ، المُسلِّم لخلقه من الظلم . ولهذا وصف سبحانه ليلة القدر بأنها سلام ، والجنة بأنها دار السلام ، وتحية أهلها السلام.وأثنى على أوليائه بالقول السلام . كل ذلك السالم من العيوب. وكذلك الكبير من أسمائه.
والمتكبر:قال قتادة وغيره: هو الذي تكبر عن السوء. وقال أيضاً: الذي تكبر عن السيئات. وقال مقاتل : المتعظم عن كل سوء . وقال أبو إسحاق: الذي يكبر عن ظلم عباده . وكذلك اسمه العزيز الذي له العزة التامة . ومن تمام عزته براءته عن كل سوء وشر وعيب، فإن ذلك ينافي العزة التامة.
كذلك اسمه العلىّ الذي علا عن كل عيب وسوء ونقص . ومن كمال عُلوه أن لا يكون فوقه شيء . بل يكون فوق كل شيء .
وكذلك اسمه الحميد ، وهو الذي له الحمد كله، فكمال حمده أن لا ينسب إليه شر ولا سوء ولا نقص لا في أسمائه ولا في أفعاله ولا في صفاته . فأسماؤه الحسنى تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه ، مع أنه سبحانه الخالقُ لكل شيء ، فهو الخالق للعباد وأفعالهم وحركاتهم وأقوالهم .
والعبد إذا فعل القبيح المنهيّ عنه كان قد فعل الشر والسوء. و الرب سبحانه هو الذي جعله فاعلاً لذلك . وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب، فجَعْلُهُ فاعلاً خير ، والمفعول شر قبيح ، فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التى يُحمد عليها ، فهو خير وحكمة ومصلحة ، وإن كان وقوعه من العبد عيباً ونقصاً وشراً وهذا أمر معقول مشاهد .
فإن الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء والحجر المكسور واللبنة الناقصة فوضع ذلك في موضع يليقُ به ويناسبه كان ذلك منه عدلاً وصواباً يمدح به ، وإن كان في المحل عوجٌ ونقص وعيب يُذم به المحل . ومن وضع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها كان ذلك منه حكمةً وعدلاً وصواباً. وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها . فمن وضع العمامة على الرأس ، والنعل في الرجل ، والكُحل في العين ، والزبالة في الكناسة ، فقد وضع الشيء موضعه ، ولم يظلم النعل والزبالة إذ هذا محلُّهما .
ومن أسمائه سبحانه العدل والحكيم الذي لا يضع الشيء إلا في موضعه، فهو المحسن الجواد الحكيم العدل في كل ما خلقه وفي كل ما وضعه
في محله وهيأه له . وهو سبحانه له الخلق والأمر . فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين ، ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وإذا تعارض أمران رجح أحسنهما وأصلحهما . وليس في الشريعة أمر يفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه ، ولا نهيٌ عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده "(1) اهـ.
وقد قضى الله سبحانه وتعالى بأن البقاء للحق ؛ لأنه الأصل الذي قامت عليه السماوات والأرض وأما الباطل فهو طارئ وزاهق ، قال تعالى: (( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)) [الاسراء:81]، وقال سبحانه : (( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ )) [الرعد:17].
ولكن حكمة الله عز وجل البالغة اقتضت أن يوجد الباطل لاختبار أوليائه وإظهار آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلا وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً، وإلا لو شاء الله عز وجل لم يكن هناك كفر ولا باطل. قال تعالى : (( ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ))
[محمد:4].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى :
" والرضا بالقضاء الكوني القدري ، الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته ـ مما لا يلائمه ، ولا يدخل تحت اختياره ـ مستحب .وهو من مقامات أهل الإيمان وفي وجوبه قولان ، وهذا كالمرض والفقر ، وأذى الخلق له، والحر والبرد ، والآلام ونحو ذلك .
والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره- مما يكرهه الله ويسخطه، وينهى عنه - كأنواع الظلم والفسوق والعصيان: حرام يعاقب عليه . وهو مخالفة لربه تعالى. فإن الله لا يرضا بذلك ولا يحبه . فكيف تتفق المحبة ورضا ما يسخطه الحبيب ويبغضه ؟ فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضا بالقضاء .
فإن قلت : كيف يريد الله سبحانه أمراً لا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويُكَوِّنه؟ وكيف تجتمع إرادة الله له وبغضه وكراهيته ؟
قيل : هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً، وتباينت عنده طرقهم وأقوالهم .
فاعلم أن " المراد " نوعان: مراد لنفسه ، ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه : مطلوب محبوب لذاته ولما فيه من الخير، فهو مرادٌ إرادة الغايات والمقاصد .
__________
(1) شفاء العليل. ص380.(/53)
والمراد لغيره: قد لا يكون في نفسه مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته . وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده . فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته،ومراد له من حيث إفضائه وإيصاله إلى مراده . فيجتمع فيه الأمران : بغضه ، وإرادته ، ولا يتنافيان ، لاختلاف متعلقهما ، وهذا كالدواء المتناهي في الكراهية، إذا علم متناوله أن فيه شفاءه، وكقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده،وكقطع المسافة الشاقة جداً إذا علم أنها توصله إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته ، وطويت عنه مغبته ، فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب ؟ فهو سبحانه وتعالى يكره الشيء ويبغضه في ذاته . ولا ينافي ذلك إرادته لغيره ، وكونه سبباً إلى ما هو أحب إليه من فوته .
مثال ذلك: أنه سبحانه خلق إبليس ، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال ، والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد ، وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى ، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل طريق وكل حيلة ، فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى ، مسخوط له ، لعنه الله ومقته ، وغضب عليه ، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب إليه من عدمها.
? منها : أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات .وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته، وسلطانه وملكه، فإنه خلق هذه المتضادات ، وقابل بعضها ببعض ، وجعلها محال تصرفه وتدبيره وحكمته . فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه وتدبير مملكته .
? ومنها : ظهور آثار أسمائه القهرية ، مثل (القهار، والمنتقم ، والعدل، والضار ، وشديد العقاب ،وسريع الحساب ، وذي البطش الشديد ، والخافض ، والمذل) فإن هذه الأسماء والأفعال كمال . فلابد من وجود متعلقها ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملَك : لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
? ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره ، وتجاوزه عن حقه ، وعتقه لمن شاء من عبيده. فلولا خلق ما يكره من
الأسباب المفضية إلى شهود آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا بقوله : (( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) "(1) .
? ومنها : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة ، فإنه سبحانه " الحكيم الخبير " الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها ، فلا يضع الشيء في غير موضعه ، ولا ينزله غير منزلته ، التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته ، فلا يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل ،ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب ، ولا العقاب موضع الثواب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا الرفع موضع الخفض، ولا العز مكان الذل ، ولا الذل مكان العز، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه ، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به .
فهو أعلم حيث يجعل رسالته ، وأعلم بمن يصلح لقبولها ، ويشكره على انتهائها إليه ووصولها ، وأعلم بمن لا يصلح لذلك ويستأهله ، وأحكم من أن يمنعها أهلها ، وأن يضعها عند غير أهلها .
فلو قُدِّر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار،ولم تظهر لخلقه ، ولفاتت الحكم والمصالح المترتبة عليها ، وفواتها شر من حصول تلك الأسباب .
فلو عطلت تلك الأسباب -لما فيها من الشر- لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب . وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر ، فلو قدر تعطيلها ـ لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي ـ لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك الشر بما لانسبة بينه وبينه .
? ومنها : حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت ، ولكان الحاصل بعضها ، لا كلها . فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها : من الموالاة فيه سبحانه ، والمعاداة فيه، والحب فيه والبغض فيه ، وبذل النفس له في محاربة عدوه،وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الرب على محاب النفس.
? ومنها :عبودية التوبة ، والرجوع إليه واستغفاره، فإنه سبحانه يحب التوابين ويحب توبتهم ، فلو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار منها .
? ومنها: عبودية مخالفة عدوه ، ومراغمته في الله وإغاظته فيه ، وهي من أحب أنواع العبودية إليه ، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه ويسوءه ، وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس .
? ومنها :أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه ، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده وأذاه .
__________
(1) رواه أحمد بنحوه (1/289)، وله شواهد في السلسلة الصحيحة (970) .(/54)
? ومنها : أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حلَّ بعدوه بمخالفته وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المرتبة الشيطانية ،فلا يُخلدون إلى غرور الأمل بعد ذلك.
? ومنها :أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته ، الذي حصوله مشروط بالمعاداة والمخالفة . فأكثر عبادات القلوب والجوارح مرتبة على مخالفته .
? ومنها : أن نفس اتخاذه عدواً من أكبر أنواع العبودية وأجلها . قال الله تعالى : (( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً )) [فاطر:6]، فاتخاذه عدواً أنفع شيء للعبد، وهو محبوب للرب .
? ومنها : أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر ، والطيب والخبيث ، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد . فخُلِقَ الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل ، وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل ، فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها ، ليترتب عليه آثاره ،وما في قوى أولئك من الشر ، ليترتب عليه آثاره ، وتظهر حكمته في الفريقين ، وينفذ حكمه فيهما،ويظهر ما كان معلوماً له مطابقاً لعلمه السابق"(1)اهـ.
إن المتأمل اليوم في عصرنا الحاضر وما فيه من الصراعات ،يجد أن الصراع بين الحق والباطل قد بلغ أشده ، وأن ملل الكفر قد جمعت كل إمكانياتها ضد عدو واحد ألا وهو الإسلام ودعاته الصادقون الذين يصفونهم تارة بالمتطرفين وتارة بالأصوليين وتارة بالإرهابيين .
وإن المراقب للأحداث التي ظهرت في السنوات الأخيرة وبالذات
بعد أحداث الخليج ونشوء ما يسمى النظام العالمي الجديد(2) ليلاحظ أنها
تتسم بسمتين رئيسيتين هما :
__________
(1) مدارج السالكين (2/197) .
(2) النظام العالمي الجديد: هذا المصطلح. الذي يحمل في طياته الكثير من الخبث والمكر للإسلام والمسلمين – قد اصطلح عليه أئمة الكفر من اليهود والنصارى والشيوعيين لزيادة النكاية بالمسلمين والعمل الدؤوب لمنع ظهور الإسلام مسيطراً ومهيمناً لأداء دوره المنشود. ومضمون هذا المصطلح : أن يكون العالم بأسره – على اختلاف ملله- تحت راية واحدة يوالي ويعادي من أجلها وتلك الراية بكل وضوح هي راية الصليب تحت ستار الأمم المتحدة – التي لم تتحد إلا على ضرب الإسلام وتمزيق أهله وإعلاء راية الكفر والطغيان – والقائمون على رأس هذا النظام من اليهود النصارى والمشركين لهم حق الحكم والقرارات والفصل في شتى المنازعات والخصومات بين كافة الدول والملل والمجتمعات دون حق التعقيب عليها من أحد ! بل على العالم أجمع الانصياع التام والعبودية الكاملة والطاعة المطلقة لتلك الطائفة الحاكمة .
وأما عن حكم هذا النظام الخبيث : فمن المعلوم بالاضطرار من الدين : أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، وهذا الحد متوفر في هذا النظام الخبيث لاستباحته حق التشريع وسن القوانين والحكم بما شاء من غير تقيد أو امتثال لحدود الله سبحانه التي حدها في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو لب العبادة وأصلها. والدليل على ذلك : حديث عدي بن حاتم – رضي الله عنه – عندما أقسم بالله للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم – أي أهل الكتاب – ما وقعوا في عبادة الأحبار والرهبان ، فاحتج النبي- صلى الله عليه وسلم - بوجود أصل العبادة ولبها ، فقال : " ألم يحلوا لكم الحرام، ويحرموا عليكم الحلال فاتبعتموهم " قال : بلى. قال : " فتلك عبادتكم إياهم: . وقال القرآن في حقهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].
فتلك الأمة عندما أنزلت أحبارها ورهبانها منزلة ربها في التحليل والتحريم والتشريع من دونه خرجت بذلك عن عبادة ربها إلى عبادة الأحبار والرهبان . فكيف بمن يتخذ أحبار ورهبان وأئمة الكفر لملة لا يدين بها أرباباً من دون الله ؟!!
أما عن كيفية الكفر والبراءة من هذا الطاغوت : فيجب على كل مسلم أن يعلن الكفر والبراءة من هذا الطاغوت والانخلاع من طاعته في شريعته امتثالاً لقوله تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] ولا يكفي هذا حتى يعادي عُبّاد هذا الطاغوت ويظهر لهم العداوة والبغضاء أبداً حتى يكفروا به ويؤمنوا بالله وحده، قال تعالى : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4].(/55)
1ـ التسارع الشديد والمفاجآت التي تصحبها، إلى حد أن المتابع لهذه الأحداث لا يفتأ يسمع بحدث ويبحث عن الموقف منه إلا وتفجؤه أحداث أخر تنسيه أو تشغله عن الحدث الأول .
2 ـ إن أغلب هذه الأحداث ـ إن لم نقل كلها ـ تقع في المنطقة الإسلامية وأن المسلمين فيها هم المستهدفون بالدرجة الأولى .
إن هذا الصراع الذي نعيشه في الآونة الأخيرة قد رجحت فيه قوة الكفر والكافرين ـ لحكمة يعلمها الله عز وجل ، كما سبق أن بينّا ـ فاستباحوا بذلك ديار المسلمين ودماءهم و أعراضهم وبلغ المسلمون من الذلة والمهانة واستخفاف أعدائهم بهم ما لا يعلمه إلا الله عزوجل .
وفي ظل هذه الحملة الشرسة على ديار المسلمين ودينهم وأعراضهم صار الكثير من الدعاة إلى الله عز وجل يتساءلون مع بعضهم أو مع أنفسهم.
أما آن لهذه المهانة أن تنقشع ؟ متي ينجلى هذا الليل الطويل الذى ناء تحت كلكله كل مسلم غيور يهمه أمر هذا الدين؟ متي يبزغ فجر الإسلام ؟ وبشكل عام ظهر سؤال كبير ألا وهو ذاك السؤال الذى سأله الرسول لله والذين آمنوا معه بعدما أصابتهم البأساء والضراء وزُلزلوا فقالوا : متى نصر الله؟
قال الله تعالى يحكي هذه الحالة : (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )) [البقرة:214].
من أجل ذلك جاءت هذه الدراسة المتواضعة في محاولة للإجابة على هذا السؤال الكبير من حيث الكيفية لا من حيث الموعد ، لأن الموعد قريب إن شاء الله (( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))، ولكن المهم هو الطريق المؤدي إليه .
أسأله سبحانه أن يلهمنا رشدنا وأن يرزقنا السداد في القول والعمل .
* * *
الرسالة الخامسة : (( مَتَى نَصْرُ اللّهِ)) ( البقرة : 214) .
* من سنن الله عز وجل في النصر *
لابد لمن يريد نصرة دين الله عز وجل والتمكين له في الأرض أن يتعرف على سنن الله تعالى في نصرة دينه، وبدون هذه المعرفة لن يتم الاهتداء إلى الطريق ، وبالتالي ستضيع الأوقات والجهود ولما يأت نصر الله .
ومن هذه السنن ما ورد في الآيات التالية من كتاب الله عز وجل:
السنة الأولى : (( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )) [الروم:47].
السنة الثانية : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ))
[الرعد:11].
السنة الثالثة : (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) [محمد:38].
وتفصيل هذه السنن فيما يلي.
السنة الأولى :
إن نصر الله عز وجل لدينه ولعباده المؤمنين آت لا محالة وإن التمكين للإسلام في الأرض سيتم بعز عزيز أو بذل ذليل ، هذا وعد الله سبحانه والله لا يخلف الميعاد ، يقول الله سبحانه : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)) [غافر:51].
ويقول تعالى : (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)) [النور:55].
ويقول سبحانه: (( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ))
[المجادلة:21]
وقال عز وجل : (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) [الصافات:171- 173].(/56)
والآيات في هذا المعنى كثيرة ، كما أن الوعد بنصرة دين الله عز وجل جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها)) (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يُذل به الكفر)) (2)، وقال صلى الله عليه وسلم : (( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة علي منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة علي منهاج النبوة ثم سكت)) (3).
يقول الإمام ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ عند تفسيره لقوله تعالى: (( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) [المجادلة:21].
" أي: قد حكم وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة فإن العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِين، كما قال تعالى : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )) [غافر:51، 52]. وقال هاهنا : (( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) أي: كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه وهذا قدر محكم وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة"ا هـ(4) .
ويقول رحمه الله تعالى عند تفسيره قوله تعالى : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ )) الآية
" قد أورد أبو جعفر ابن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) ، فقال : قد عُلم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه كيحيى وزكريا وشعياء، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجراً كإبراهيم، وإما إلى السماء كعيسى . فأين النصرة في الدنيا؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين :
أحدهما: أن يكون الخبر خرج عاماً والمراد به البعض فإن هذا سائغ في اللغة .
والثاني : أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم .
وقد ذكر أن النمرود أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأما الذين راموا صلب المسيح عليه السلام من اليهود فسلط عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم ، ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إماماً عادلاً وحاكماً مقسطاً فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام وهذه نصرة عظيمة .
وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه ، أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( يقول الله تبارك وتعالى : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) (5)، وفي الحديث الآخر (( إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب)) ، ولهذا أهلك الله عز وجل قوم نوح، وعاداً،وثمود، وأصحاب الرس،وقوم لوط، وأهل مدين، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق ، وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين فلم يُهلك منهم أحداً، وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً ، قال السدي : لم يبعث الله عزوجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق يُقتلون ، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم و يطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا . قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها .
__________
(1) رواه مسلم في الفتن وأشراط الساعة (2889) .
(2) رواه أحمد (4/103)، وهو في السلسلة الصحيحة(3) .
(3) رواه أحمد (4/273)، وهو في السلسلة الصحيحة (5).
(4) تفسير ابن كثير، سورة المجادلة ، الآية: 21 .
(5) رواه البخاري في الرقاق (6502) .(/57)
وهكذا نصر الله نبيه محمداً لله وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه؛ فجعل كلمته هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان ،وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية وجعل له فيها أنصاراً وأعواناً، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم وقتل صناديدهم ، وأسر سراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ، ثم مَنَّ عليهم بأخذه الفداء منهم ، ثم بعد مدة قريبة فتح عليهم مكة فقرت عينه ببلده وهو البلد المحرم الحرم المشرف المعظم ، فأنقذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر والشرك ، وفتح به اليمن ودانت له جزيرة العرب بكمالها ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده فبلغوا عنه دين الله عز وجل ، ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جل وعلا ، وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها ، ثم لا يزال هذا الدين قائماً منصوراً ظاهراً إلى قيام الساعة، ولهذا قال تعالى : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا ...)) الآية، أي: يوم القيامة يكون النصرة أعظم وأكبر وأجل " (1) اهـ .
ويقول سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ حول هذا المعنى: " إن وعد الله واقع وكلمة الله قائمة (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) [الصافات:171- 173] هذه هي الحقيقة في كل دعوة لله يخلص فيها الجند ويتجرد لها الدعاة أنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق وقامت في طريقها العراقيل ، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار وقوى الدعاية والافتراء،وقوى الحرب والمقاومة ، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله والذي لا يخلف ، ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه ؛ الوعد بالنصر والغلبة والتمكين ، هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية ، سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دورتها المنتظمة ، وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان، وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء ، ولكنها مرهونة بتقدير الله يحققها حين يشاء" .
إلى أن يقول رحمه الله تعالى: "والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة فهذا الواقع هو الباطل الزائل الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة لعل منها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم ،وحيث ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد في عهود متطاولة بلغ في بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية ، ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين يحميهم من الانهيار ويحمي شعوبهم كلها من ضياع شخصيتها وذوبانها في الأمم الهاجمة عليها ومن خضوعها للطغيان الغاشم إلا ريثما تنقض عليه وتحطمه ، حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى ، يجده في هذا الواقع دون الحاجة إلى الانتظار الطويل (( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) [المجادلة:20،21].
وعلى كل حال فلا يخالج المؤمن شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لابد أن تظهر في الوجود .
إن وعد الله قاطع جازم (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) [غافر:51] بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يلقى في الأخدود ومنهم من يستشهد ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا ؟ ويدخل الشيطان في النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل ، ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير!!
إن الناس يعيشون فترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من المكان ، وهي مقاييس بشرية صغيرة ، فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان ، ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك ، وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها ، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها ، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها"(2) ا هـ .
__________
(1) تفسير ابن كثير، سورة غافر ، الآية : 51 .
(2) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص354.(/58)
مما سبق يتببن لنا أهمية اليقين بوعد الله عز وجل فى نصرة أوليائه ، وأنه آت لا محالة ، فإذا تأخر نصر الله عز وجل ، واشتد الكرب علي المؤمنين بتسليط أعدائهم عليهم فإن هذا لا يعنى عدم تحقق وعد الله وعدم مجىء نصره سبحانه ، ولكن لتأخره حكم وأسباب، فبدلاً من اليأس من وعد الله عز وجل بالنصر يجب أن يتوجه البحث والتفكير عن أسباب تأخره التى يجب أن يتوجه الجهد لإزالتها ، وإيجاد المناخ والأسباب التى تهيئ لنصر الله عز وجل .
وقد ذكر سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ بعض الأمور التي قد يتأخر نصر الله عز وجل بسببها فقال :
? "والنصر قد يبطئ لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً ..
? وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة ، وآخر ما تملكه من رصيد فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً ، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله .
* وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر .. إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله..
? وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر معها قرار ، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه .
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية، وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه ، وأداء ثمنه ، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه ..
? وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهي تعاني وتتألم وتبذل ، ولا تجد لها سنداً إلا الله ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء..وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله.. فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به ..
? وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه ،أو تقاتل حمية لذاتها ،أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها ، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه .
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى ، فأيها في سبيل الله ؟ فقال : (( من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله)) "(1) .
? كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحص خالصاً ، ويذهب وحده هالكاً ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار ..
? وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً ، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله ، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية"(2)
__________
(1) متفق عليه .
(2) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص359.
تنبيه : وجوب تعرية الباطل :نعم لن تقوم لنا قائمة ويسود ديننا ـ الذي اصطفاه الله لنا ـ قبل تعرية الباطل والكشف عن وجهه الخبيث ، فكم من أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا أجسادهم أجساد إنس وقلوبهم قلوب شياطين ، دعاة على أبواب جهنم من قبل دعوتهم قذفوه فيها . وقد كان دور هؤلاء الشياطين : ضرب الدين بالدين وتزييف الحقائق وقلب الموازين ، فهم يُحسِّنون كل قبيح، ويُقبِّحون كل حسن . كل هذا عن طريق لي أعناق النصوص تارة ، وعن طريق التحريف لها تارة ، وعن طريق التحلل التام من قيودها تارة أخرى . ومن صور قلبهم للحقائق:أن أخرجوا الوثنية في ثوب التوحيد ، والبدعة في لباس السنة، وموالاة اليهود والنصارى تحت شعار التعايش السلمي ، والإخاء ووحدة الأديان ، وكذلك المعاصي والفجور تحت ستار الرقي والتقدم ، والقضاء على حاكمية القرآن لإنهاء التخلف والجمود والرجعية ، وإحلال رايات وثنية ـ مثل القومية العربية والوطنية والعلمانية ـ محل راية التوحيد ، وكذا التولي والخذلان والمهانة مكان الجهاد والنصرة والعزة.. فهؤلاء الشياطين وأعوانهم يجب فضحهم ، وكشف خبث طويتهم وحقدهم اللئيم على الإسلام والمسلمين ، حتى تكفر بهم الأمة ، وتبرأ إلى الله منهم، وتعلم الشعوب كم كانت ضحية لهؤلاء الشياطين يتاجرون بهم لتحقيق مآربهم وحظوظ نفوسهم ، وليعلم الدعاة إلى الله أن فضح وتعرية هؤلاء من أعز مقاصد التشريع امتثالاً لقول مولانا : {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }، وتحقيقاً لقول الله عز وجل: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } .(/59)
اهـ.
* * *
السنة الثانية
(( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) [الرعد:11].
إن كثيراً من الدعاة والمصلحين ليعلمون هذه السنة العظيمة القدر ، لكن الواقع العملي يغفل في كثير من الأحيان عن هذه السنة ، والتي هي مفتاح النصر والتمكين وهي المدخل لتغيير واقعنا ، حيث قضى الله عز وجل أنه لا يغير أحوال قوم أو أمة حتى يبدأوا هم فيغيروا ما بأنفسهم ويصلحوا أحوالهم، فيغير الله ما بهم ، يأخذ بأيديهم ويعينهم .
وهذا يعني أنه متى تأخر نصر الله عز وجل مع الحاجة الماسة إليه فإن هناك أسباباً في تأخره ولا شك،ومن أهم هذه الأسباب أن الذين يبحثون عن نصر الله تعالى لم يغيروا ما بأنفسهم بعد .
وحينئذ يجب أن تتوجه الجهود إلى العمل الجاد في التغيير الذي يبدأ من داخل النفس ومن داخل الصف المسلم حتى يغير الله عز وجل ما بنا وتتهيأ الأسباب الجالبة لنصر الله تعالى .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل : (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) [الأنفال:53]:يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه لقوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) "(1)اهـ .
وهذه السنة الربانية ذات دلالتين في حالنا وواقعنا المعاصر :
أولاهما : أن التباين الشديد والهوة السحيقة بين الحياة الذليلة المهينة والضعف والانحسار وفقدان الثقة الذاتية مع تلقي المناهج والقيم والشرائع الغربية لتحقيق الذات واستمداد العزة ، وكذلك الهزيمة النفسية التي حلت في جذر قلب الأمة اليوم ،إن الفرق بين حياتنا هذه وبين الحياة العزيزة المهيمنة المستعلية القوية المتملكة لزمام العالم أجمع ، لتلك الحياة التي كانت تُتبع ولا تَتبع وتقود ولا تقاد كانت أبرز سمات عصر سلفنا الصالح ، إن كل هذا التباين الشديد بيننا وبين سلف الأمة خير شاهد ودليل على أننا غيّرنا ما بأنفسنا فغيّر الله حالنا .
ثانيهما: أن حالنا اليوم لن يغيره الله حتى نغيّر ما بأنفسنا من كثرة البدع والشرك بشتى صوره-الجلية و الخفية ، الظاهرة والباطنة -، وكذلك التبعية الغربية النابعة من انحسار الإيمان وعدم الاستعلاء به في النفوس مع فقدان الثقة في نبع عزنا ، وأيضاً محو آثار المعاصي والفجور التي لبست ثوب المباح والتقدم والرقي ، وخلعت لباس التقوى والعزة والكرامة .. مع الفرار مما سبق كله إلى إفراد الله ـ جل ثناؤه ـ بالحب والخوف والإنابة والتلقي والتوجه مع تجريد الولاء لله ولدينه ولرسوله لله وللمؤمنين ، والشعور باستعلاء الإيمان في النفوس والثقة بهيمنة كتابنا وحاكميته المطلقة لكافة شؤون الحياة وأنه نبع العز والتمكين ، وأن تكون تلك هي الراية المعلنة الخالصة من أية إضافة أو شائبة ، فعند هذا يُغيّر الله حالنا .
ويقول صاحب الظلال ، رحمه الله تعالى :
" إن الله تبارك وتعالى يحرض المؤمنين على التجرد له والاتجاه إلى نصرة نهجه في الحياة ،ويعدهم على هذا النصر والتثبيت (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) [محمد:7، 8] وكيف ينصر المؤمنون الله ؛حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت ؟ إن لله في نفوسهم أن تتجرد له ، وألا تشرك به شيئاً ، شركاً ظاهراً أو خفياً ، وألا تستبقي فيها معه أحداً ولا شيئاً وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى ،وأن تُحكّمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها وسرها وعلانيتها ونشاطها كله وخلجاتها، فهذا نصر الله في ذوات النفوس .
وإن لله شريعة ومنهاجاً للحياة تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة ، ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء فهذا نصر الله في واقع الحياة..
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، سورة الأنفال 53 .(/60)
وإنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين وتمثلت في واقع حياتهم منهجاً للحياة ونظاماً للحكم وتجرداً لله في كل خاطرة وحركة وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة ، فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً..وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها.. ونحن نقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله،إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان ـ إما في الشعور وإما في العمل ـ ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله ، وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة ـ وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ثم يعود النصر للمؤمنين ـ حين يوجدون ..
ففي أحُد مثلاً كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطمع في الغنيمة ، وفي حُنيْن كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل، ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئاً من هذا .. نعرفه أو لا نعرفه .. أما وعد الله فهو حق في كل حين .. نعم إن المحنة قد تكون للابتلاء.. ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة هي استكمال حقيقة الإيمان ومقتضياته من الأعمال. فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين ..
ويجب أن نفهم أن الهزيمة هي هزيمة الروح وكلال العزيمة .. فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس هموداً وكلالاً وقنوطاً ، فأما إذا بعثت الهمة وأذكت الشعلة وبصرت بالمزالق وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق.. فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد والله سبحانه يقول: (( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)) [النساء:141]وإنما يشير سبحانه إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر والفكرة المؤمنة هي التي تسود . وإنما يدعو سبحانه الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصوراً وشعوراً ، وفي حياتها واقعاً وعملاً.. وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها . فالنصر ليس للعناوين وإنما هو للحقيقة التي وراءها .. وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك .
ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة . ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء وألا نطلب العزة إلا من الله ، ووعد الله هذا الأكيد يتفق تماماً مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون ، إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى التي لا تضعف ولا تفنى ، وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها ، ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون ، غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان ..
إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل.وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها . ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن حقيقة الكفر تغلبه إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها ؛ لأن حقيقة أي شيء أقوى من مظهر أي شيء ، ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان، إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)) [الانبياء :18].
والنصر الأخير مرتبط بالنصر الأول، فما يتحقق النصر في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير ، وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن ..
إن للحق والإيمان حقيقة متى تجسمت في المشاعر أخذت طريقها فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية ، فإذا ظل الإيمان مظهراً لم يتجسم في القلب ، والحق شعاراً لا ينبع من الضمير ، فإن الطغيان والباطل قد يغلبان ؛لأنهما يملكان قوة مادية حقيقية لا مقابل لها ولا كفاء في مظهر الحق والإيمان،يجب أن تتحقق حقيقة الإيمان في النفس وحقيقة الحق في القلب ، فتصبحان أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل ، ويصول بها الطغيان"(1)اهـ .
ونختم الحديث حول هذه السنة بكلام بديع لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ، ننقله بطوله لعظيم فائدته ـ حيث يقول :
__________
(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن ، ص248.(/61)
"ولكن تُذكر هنا نكتة نافعة، وهو أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيراً من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا من مصائب،وما يصيب كثيراً من الكفار والفجار في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك ، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور، وأن المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلاً ، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين ، وإذا سمع ما جاء في القرآن من أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين،وأن العاقبة للتقوى ، وقول الله تعالى : ((وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) [الصافات:173]-وهو ممن يصدِّق بالقرآن-حمل هذه الآيات على الدار الآخرة فقط ، وقال: أما في الدنيا فما نرى بأعيننا إلا أن الكفار والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين ، ولهم العزة والنصرة ، والقرآن لا يَرد بخلاف المحسوس ، ويعتمد على هذا فيما إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين أو الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى ، فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق ، فيقول : أنا على الحق وأنا مغلوب ، وإذا ذكره إنسان بما وعده الله من حسن العاقبة للمتقين، قال: هذا في الآخرة فقط .
وإذا قيل له: كيف يفعل الله بأوليائه مثل هذه الأمور ؟ قال: يفعل ما يشاء ، وربما قال بقلبه أو لسانه ، أو كان حاله يقتضي أن هذا من نوع الظلم، وربما ذكر قول بعضهم : ما على الخلق أضر من الخالق ، لكن يقول : يفعل الله ما يشاء . وإذا ذُكِّر برحمة الله وحكمته لم يقل إلا أنه يفعل ما يشاء، فلا يعتقدون أن صاحب الحق والتقوى منصور ومؤيد ، بل يعتقدون أن الله يفعل ما يشاء .
وهذه الأقوال مبنية على مقدمتين :
إحداهما : حسن ظنه بدين نفسه نوعاً أو شخصاً،واعتقاد أنه قائم بما يجب عليه ، وتارك ما نُهي عنه في الدين الحق ، واعتقاده في خصمه ونظيره خلاف ذلك: أن دينه باطل نوعاً أو شخصاً ، لأنه ترك المأمور وفعل المحظور.
والمقدمة الثانية : أن الله قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره. وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا ، فلا ينبغي الاغترار بهذا .
والمقدمتان اللتان بنيت عليهما هذه البلية مبناهما على الجهل بأمر الله
ونهيه، وبوعده ووعيده . فإن صاحبهما إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق ، فقد اعتقد أنه فاعل للمأمور ، وتارك للمحظور، وهو على عكس ذلك، وهذا يكون من جهله بالدين الحق .
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله في الدنيا ، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار على المؤمنين،ولأهل الفجور على أهل البر ، فهذا من جهله بوعد الله تعالى .
أما الأول: فما أكثر من يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها ، وما أكثر من يفعل محرمات لا يعلم بتحريمها، بل ما أكثر من يعبد الله بما حرم ويترك ما أوجب، وما أكثرمن يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، وأن خصمه هو الظالم المبطل من كل وجه ، ولا يكون الأمر كذلك ، بل يكون معه نوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل .
وحبك الشيء يعمي ويصم، والإنسان مجبول على محبة نفسه ، فهو لا يرى إلا محاسنها ، ومبغض لخصمه، فلا يرى إلا مساوئه ، وهذا الجهل غالبه مقرون بالهوى والظلم ، فإن الإنسان ظلوم جهول .
وأكثر ديانات الخلق إنما هي عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم ، وتقليدهم في التصديق والتكذيب، والحب والبغض ، والموالاة والمعاداة .
كما قال تعالى : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ )) [لقمان:21]. وقال تعالى : (( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا )) [الأحزاب:66، 67].
وقال تعالى : (( وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)) [الشورى:14].
وأما الثاني: فما أكثر من يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء معذبين بما فيه،بخلاف من فارقهم إلى طاعة أخرى أو سبيل آخر،ويكذب بوعدالله بنصرهم.
والله سبحانه قد بين بكتابه كلا المقدمتين فقال تعالى: (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)) [غافر:51].
وقال تعالى في كتابه : (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) [الصافات:171- 173].(/62)
وقال تعالى في كتابه : (( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) [المجادلة:5].
وقال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) [المجادلة:20، 21].
وقال تعالى في كتابه : (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)) [المائدة:55، 56].
وقال تعالى في كتابه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)) [الأنفال:29].
وقال تعالى في كتابه : (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)) [الطلاق:2، 3].
وقد روي عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم )) رواه ابن ماجه وغيره(1).
وأخبر أن ما يحصل لهم من مصيبة انتصار العدو وغيرها ، إنما هو بذنوبهم ، فقال تعالى في يوم أحد : (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ )) [آل عمران:165].
وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)) [آل عمران:155].
وقال تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) [الشورى:30].
وقال تعالى : (( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ )) [النساء:79].
وقال تعالى : (( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)) [الروم:36].
وقال تعالى : (( أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا )) [الشورى:34].
وذم في كتابه من لا يثق بوعده لعباده المؤمنين،وذكر ما يصيب الرسل والمؤمنين فقال تعالى: ((إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ
الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً* وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً)) [الأحزاب:10-14].
وقال تعالى : (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) [البقرة:214].
وقال تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ* حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [يوسف:109- 111].
__________
(1) رواه ابن ماجه في الزهد (4220)، ورواه أيضاً الإمام أحمد (5/178) بلفظ : " لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم " ، وقال الألباني في مشكاة المصابيح : إنه ضعيف .(/63)
ولهذا أمر الله رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم، وهو طاعته ، وهو المقدمة الأولى. وأمرهم بانتظار وعده ،وهي المقدمة الثانية . وأمرهم بالاستغفار والصبر، لأنهم لابد أن يحصل لهم تقصير وذنوب فيزيله الاستغفار ، ولابد مع انتظار الوعد من الصبر ، فبالاستغفار تتم الطاعة ، وبالصبر يتم اليقين بالوعد ، وإن كان هذا كله يدخل في مسمى الطاعة والإيمان .
قال تعالى (( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)) [يونس:109].
وقال تعالى : (( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ)) [الأنعام:34].
وقال تعالى : (( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )) [هود:49].
وأمرهم أيضاً بالصبر إذا أصابتهم مصيبة بذنوبهم ، مثل ظهور العدو ، وكما قال تعالى في قصة أحد : (( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ))
[آل عمران: 139 – 141].
وأيضاً فقد قص سبحانه في كتابه نصره لرسله ولعباده المؤمنين على الكفار في قصة نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وفرعون وغير ذلك . وقال تعالى: (( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)) [يوسف:111].
وقال تعالى: (( وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)) [النور:34].
وهذا يتبين بأصلين :
أحدهما: أن حصول النصر وغيره من أنواع النعيم لطائفة أو شخص لا ينافي ما يقع في خلال ذلك من قتل بعضهم وجرحه ومن أنواع الأذى، وذلك أن الخلق كلهم يموتون ، فليس في قتل الشهداء مصيبة زائدة على ما
هو معتاد لبني آدم ، فمن عد القتل في سبيل الله مصيبة مختصة بالجهاد كان من أجهل الناس ، بل إن الفتن التي تكون بين الكفار وتكون بين المختلفين من أهل القبلة ليس مما يختص بالقتال ، فإن الموت يعرض لبني آدم بأسباب عامة ، وهي المصائب التي تعرض لبني آدم من مرض بطاعون وغيره ، ومن جوع وغيره . وبأسباب خاصة ، فالذين يعتادون القتال لا يصيبهم أكثر مما يصيب من لا يقاتل ، بل الأمر بالعكس ، قد جرَّبه الناس .
ثم موت الشهيد من أيسر الميتات،ولهذا قال سبحانه وتعالى : ((قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً* قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً)) [الأحزاب:16، 17].
فأخبر سبحانه أن الفرار من القتل أو الموت لا ينفع ، فلا فائدة فيه ، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلاً ، إذ لابد من الموت.
وأخبر أن العبد لا يعصمه من الله أحد إن أراد به سوءاً أو أراد به رحمة وليس من دون الله ولي ولا نصير، فأين نَفرُّ من أمره وحكمه؟ ولا ملجأ منه إلا إليه،قال تعالى: (( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) [الذريات:50]
وهذا أمر يعرفه الناس من أهل طاعة الله وأهل معصيته ، كما قال أبو حازم الحكيم : " لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقاه الذي يتقي الله من معالجة التقوى ".
والله تعالى قد جعل أكمل المؤمنين إيماناً أعظمهم بلاء، كما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -:أي الناس أشد بلاء؟ قال: (( الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلي الرجل علي حسب دينه ، فإن كان فى دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان فى دينه رقة خُفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي
على الأرض وليس معه خطيئة )) (1) .
والجهاد للكفار أصلح من هلاكهم بعذاب سماء من وجوه:
أحدها : أن ذلك أعظم في ثواب المؤمنين وأجرهم وعلو درجاتهم ، لما يفعلونه من الجهاد في سبيل الله ، لأن تكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله .
الثاني : أن ذلك أنفع للكفار أيضاً ، فإنهم يؤمنون من الخوف ، ومن أُسر منهم وِسيمَ من الصغار يسلم أيضاً ، وهذا من معنى قوله تعالى: (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )) [آل عمران:110].
__________
(1) رواه الترمذي في الزهد(2400)، وابن ماجه في الفتن (4023) وهو في السلسلة الصحيحة (143) .(/64)
قال أبو هريرة : " وكنتم خير الناس للناس تأتون بهم من الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة "، فصارت الأمة بذلك خير أمة أخرجت للناس ، وأفلح بذلك المقاتَلون ، وهذا هو مقصود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا من معنى كون محمد صلى الله عليه وسلم ما أرسل إلا رحمة للعالمين ، فهو رحمة في حق كل أحد بحسبه حتى المكذبين له ، هو في حقهم رحمة أعظم مما كان غيره .
ولهذا لما أرسل الله إليه ملك الجبال وعرض عليه أن يقلب عليهم الأخشبين قال : (( لا ، استأن لهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له)) (1) .
الوجه الثالث : أن ذلك أعظم عزة للإيمان وأهله ، وأكثر لهم ، فهو يوجب من علو الإيمان وكثرة أهله ما لا يحصل بدون ذلك ، وأمر المنافقين الفجار بالمعروف ونهيهم عن المنكر هو من تمام الجهاد وكذلك إقامة الحدود.
ومعلوم أن في الجهاد وإقامة الحدود من إتلاف النفوس والأطراف والأموال ما فيه ، فلو بلغت هذه النفوس النصر بالدعاء ونحوه من غير جهاد ، لكان ذلك من جنس نصر الله للأنبياء المتقدمين من أممهم لمّا أهلك نفوسهم وأموالهم .
وأما النصر بالجهاد وإقامة الحدود فذلك من جنس نصر الله لما يختص به رسوله، وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم وأمته منصورين بالنوعين جميعاً ، لكن يشرع في الجهاد باليد ما يشرع في الدعاء"(2) ا هـ .
* السنة الثالثة *
بالجمع بين السنة الأولى والثانية تظهر معالم هذه السنة، وذلك لو أن الناس لم يغيروا ما بأنفسهم، فهل معنى هذا أن نصر الله عز وجل لن يأتي ؟
والجواب: كلا، فلا بد من أن يأتي نصر الله عز وجل، كما تقرر ذلك في السنة الأولى ولكن يقف في سبيل ذلك عدم الأخذ بالسنة الثانية في التغيير.وفي هذه الحالة تأتي سنة الله عز وجل الثالثة والمتضمنة تبديل من رفضوا تغيير ما بأنفسهم وواقعهم بجيل يحبهم الله عز وجل ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون في الله لومة لائم. فيحققون بذلك أسباب النصر، فينزل الله عز وجل عليهم نصره ويشرفهم به.
وهذا كثير في كتاب الله عز وجل حيث يقول سبحانه: (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) [محمد:38]، ويقول تعالى: (( إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ )) [التوبة:39] ، ويقول جل شأنه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) [المائدة:54].
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية :»يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته ، فإن الله يستبدل من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلاً "(3) .
* * *
محصلة السنن الثلاث :
إن نصر الله عز وجل آت لا محالة ، ولكن له أسباب وسنن وهو يبدأ من تغيير الناس ما بأنفسهم أولاً حتى يغير الله عز وجل ما بأرضهم ويمكن لهم دينهم ، وإنهم إن لم يغيروا ما بأنفسهم فإن هذا لا يعني عدم مجيء نصر الله عز وجل ، وإنما يستبدل الله عز وجل قوماً آخرين يحققون أسباب النصر والتغيير ويشرفهم سبحانه بأن ينزل عليهم نصره المبين ، ويدفع بهم الفساد ، ويعذب الكافرين بأيديهم .
وبعد إيضاح هذه السنن وعلاقة بعضها ببعض يحسن بنا أن نذكر جملة من العوائق في طريق النصر حتى يتوقاها المسلمون ويكونوا منها على بينة وبصيرة .
* * *
عوائق في طريق النصر
إن العوائق والتحديات التي تعترض سبيل الدعوة اليوم كثيرة جداً بعضها أخطر من بعض ، وقد أدت هذه العوائق ببعض النفوس إلى داء خطير إذا حل في النفوس حطمها وأذلها ، ألا وهو اليأس أو الهزيمة النفسية من الداخل ، وهذا الداء هو في حد ذاته من أكبر العوائق .
وقد حذر الله عز وجل من هذا الداء أن يتسرب إلى نفوس المؤمنين به سبحانه ، لأن بمجرد دخول الإيمان إلى القلوب ينفي الهوان والذلة والضعف عنها،ويورثها القوة والعزة والكرامة مهما كانت الظروف التي تعيشها هذه القلوب المؤمنة من تشريد أو سجن أو تعذيب . فغاية ما يملكه المتسلطون هو الجسد فقط ، أما القلب المعمور بالإيمان ففيه قوة الإيمان التي تستعلي على كل ابتلاء وهزيمة واستضعاف .
__________
(1) رواه البخاري بنحوه في بدء الخلق (3231)، ومسلم في الجهاد (1795) .
(2) جامع الرسائل ، جـ 2 الرسالة الثالثة ( قاعدة في المحبة )، ص324 – 339 .
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، سورة المائدة ، الآية : 54 .(/65)
والله سبحانه يقول للمؤمنين وقد أصابهم القرح في أحد : (( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [آل عمران:139]، فلا يجتمع الوهن والاستكانة مع الإيمان الحقيقي أبداً .
وقال أيضاً في هذا المقام: (( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) (1) [آل عمران:146، 147] .
فتأمل وصفه تعالى للربيين عند حلول المصيبة بأنهم ما ضعفوا .. وما استكانوا .. وما وهنوا .. فكيف بعد هذا للهوان أو اليأس أن يتطرق إلى قلوب المؤمنين في أي ظرف من الظروف وهم يملكون الإيمان الذي يرفعهم على كل هزيمة وكيد ومكر ؟
وبعد هذه التوطئة التي لا بد منها نعود إلى ذكر أهم هذه العوائق التي تقف في طريق النصر والتي يمكن إجمالها في :
1ـ العوائق الخارجية .
2ـ العوائق الداخلية .
أولاً ـ العوائق الخارجية :
ويقصد بها تلك العوائق والتحديات الواردة من خارج الصف الإسلامي وذلك من أعداء هذا الدين والمتمثلين فيما يلي :
1ـ الكفار الصرحاء الذين أسفروا عن عدائهم وحقدهم على الإسلام وأهله كاليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم .
2ـ المنافقون المظهرون للإسلام والمبطنون للكفر والزندقة ، وهؤلاء من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا كما هو الحال من العلمانيين و الباطنيين الذين يكيدون لهذا الدين ويوالون أعداءه من اليهود والنصارى .
3ـ الأنظمة الحاكمة في أكثر بلدان المسلمين التي وجهت عداءها وكيدها على شعوبها المسلمة باسم مكافحة التطرف والإرهاب فأكثروا في الأرض الفساد ووقفوا في وجه كل حركة إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ثانياً ـ العوائق الداخلية :
ويقصد بها العوائق التي توجد داخل الصف المسلم من الانحراف الموجود في الفهم أو القصد ، وهذه العوائق تتمثل فيما يلي :
1ـ عوائق داخل الصف الإسلامي للدعاة تتمثل في الفُرقة المشينة والاختلاف والشحناء والبغضاء .
2ـ عوائق داخل نفوس أفراد الدعوة من أمراض وأدران وركون إلى الدنيا وتحاسد ورياء وكبر .. إلخ .
وبمقارنة العوائق الواردة من الخارج بالعوائق الواردة من داخل الصف الإسلامي يظهر لنا خطورة العوائق الداخلية وأثرها في تأخر نصر الله عز وجل ، ولولم توجد العوائق الداخلية لما كان للعوائق الواردة من الخارج أن تؤثر بكيدها ومكرها في الصف الإسلامي والمجتمع المسلم .
قال تعالى : (( إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) [آل عمران:120].
ففي هذه الآية الكريمة يعلمنا الله عز وجل أن كيد العدو الخارجي لا يضر المؤمنين شيئاً إذا اتصفوا بالصبر والتقوى ، لأن الله عز وجل محيط بعمل الكفار وتخطيطهم ، وهم في قبضته والعكس بالعكس فمتى ظهر كيد الكفار في الصف المسلم فإن هذا دليل على ضعف الصبر والتقوى ، ويؤكد هذا المعنى أيضاً قوله تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) [الرعد: 11].
مما سبق يتبين لنا خطورة العوائق الداخلية وأن التغيير المنشود في الأرض يبدأ من التغيير في النفس وتفقدها سواءً في سلامة الفهم والمعتقد أو في سلامة المقصد والنوايا ، وأن أي خلل في الفهم والقصد يظهر أثره في تسلط الأعداء وتأخر نصر الله عز وجل .
إنه بدلاً من أن نسقط أسباب ضعفنا ومهانتنا على عدونا الخارجي ؛ يجب علينا أن نرجع إلى أنفسنا ونتوجه إلى إصلاحها وإصلاح ذات بيننا حتى نكون أهلاً لنصر الله عز وجل وحتى يغير الله ما بنا .
__________
(1) إن هذه الآية ترسم الموقف الشرعي حال الاستضعاف والهزيمة حيث يتمثل في أربعة معالم أساسية :
أ ـ الحذر من الهوان والذلة والاستكانة عند الهزيمة ، لأن المؤمن يركن إلى من بيده ملكوت كل شيء .
ب ـ مراجعة النفس لأنها في الغالب منها المصائب والهزائم وذلك من ذنوبها وإسرافها في أمرها ، وهذا هو الذي فعله الربيون عندما أصابهم القرح {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}الآية.
جـ ـ الصبر الجميل في مثل هذه الظروف ، ودعاء الله عز وجل، وهذا ما مدحهم الله عز وجل به حيث قال في آخر الآية:{والله يحب الصابرين}.
د ـ دعاء الله عز وجل بالثبات على الدين والانتصار على الكافرين.(/66)
إن إصلاح النفوس وإقامة حكم الله فيها عقيدة وعبادة وسلوكاً هو الطريق إلى إقامة حكم الله في الأرض .. وإلا فما قيمة المطالبة بإقامة حكم الله في الأرض واستعجال نصر الله تعالى ، ولما تستقم النفوس على منهج الله تعالى وتنقد له؟!
وما أحسن مقولة من قال : " أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم تقم على أرضكم " .
إن المسلم العارف لسنن الله عز وجل في التغيير ليتألم من حالنا وواقعنا وما حل بيننا من فرقة وشحناء وأهواء، ويتساءل بمرارة كيف يأتي نصر الله عز وجل في هذه الظروف والله عز وجل يقول : (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [الأنفال: 46]؛ هذا على مستوى الدعاة والجماعات ؟ !!
أما إذا جئنا إلى نفوس الدعاة كأفراد فإن المراقب لواقعنا وأخلاقنا واهتماماتنا لا ينقضي عجبه وهو يرى ذلك التناقض بين ما يدعو إليه الداعية وبين سلوكياته وأخلاقه ، وبالتالي يتكرر نفس السؤال المطروح آنفاً، كيف ينزل نصر الله عز وجل على أناس هذه أخلاقهم وتلك تضحياتهم وهذه مقاصدهم ؟!!
يقول الدكتور محمد أمين المصري ـ رحمه الله تعالى ـ حول هذا الموضوع:
"إن الأعداء في الخارج يرقبون حركات المسلمين ويتربصون بهم الدوائر ويكيدون لهم كيداً، ويمكرون بهم مكر الليل والنهار، ومرجع هذا الصراع إلى عصور مترامية تمتد إلى الحين الذي دكت فيه عروش القياصرة والأكاسرة وامتد حكم الإسلام إلى أطراف العالم ؛ فهنالك الحركة الصليبية، وهنالك الصهيونية والاستعمار الغربي والشرقي وهؤلاء جميعاً يختلفون فيما بينهم ولكنهم يصطلحون على حرب المسلمين ، ويجمعون أمرهم كيلا تقوم للمسلمين قائمة ولا تجتمع لهم كلمة . ويعتبر هذا الجانب خارجياً ، وهو
ـ وإن بلغ ذروة الكيد ـ ليس أكبر الجانبين أهمية بل هو ـ كما سنرى ـ نتيجة تابعة للعامل الثاني الذي هو الجانب الداخلي وهو المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون ، وهنا نجد عقبات في الأفراد أنفسهم وفي تنشئتهم وتربيتهم .
وليس من شك في أن أكبر الأخطار التي تواجه المسلمين اليوم كامنة في النقص في تربية أفراد المسلمين أنفسهم، والضعف الذي أصيب به شبابهم
وأكبر المصائب أن يصاب الفرد بنفسه؛ذلك لأن معالجة أي خطر ممكنة ميسرة حينما تكون تربية الأفراد تربية قوية تستطيع أن تجابه المصاعب وتصمد للحوادث .
ومن عادة الضعيف أن يلقي بأسباب ضعفه على عوامل خارجية يدَّعي أنه لا يملك التصرف فيها ليسوغ لنفسه ما هو فيه ، ولقد اعتدنا أن نفعل ذلك وأن نلقي تبعات ما نحن فيه من ضعف وتقصير على الاستعمال أولاً ، وعلى الماضي ثانياً ، وعلى مجتمعنا ثالثاً ، ولا يخطر ببال أحدنا أن يجعل نفسه مركز الاتهام بينما يجعل القرآن العامل الأساسي فيما يصيب الإنسان من مصيبة هو نفسه ، قال تعالى: (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) . (آل عمران:165 ) .
يبين الله تعالى بشأن بني النضير حين غلبهم المسلمون أنهم أُتوا من حيث لم يحتسبوا وكان ذلك من قِبل أنفسهم . قال تعالى : (( مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)) [الحشر:2].
لم يؤت هؤلاء من نقص في ذخيرتهم أو عددهم أو حصونهم ، ولكنهم أُتوا من قِبل أنفسهم ، أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن فى قلوبكم الوهن . قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت)) (1).
الحديث الكريم يخبر عن سنة عميقة من سنن الاجتماع تبين ما تنتهي إليه الجماعة حين تفسد فطرته وتملأ الدنيا قلوب أفرادها ، ولقد كشف هذه الحقيقة الباحثون المحدثون لدراسة الجماعات وعوامل انحطاطها. قال أحد هؤلاء : إن الأسباب الحقيقية لكل انحطاط داخلية لا خارجية . وليس علينا أن نلوم العواصف حين تحطم شجرة نخرة في أصولها ، إنما اللوم على الشجرة النخرة نفسها .
والقرآن الكريم يهدي إلى هذه السنة ويبين للناس بأنَّ ما يقع على الأمم من ظلم واضطهاد مرجعه إلى الناس أنفسهم وما كسبت أيديهم ، ولذا نجد التعبير بظلم النفس يتكرر في مواطن كثيرة في القرآن الكريم يقول تعالى: (( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) [النحل:118].
والأمة التي تصاب بأبنائها هي التي تتعرض للمصائب والنكبات وتصبح عرضة لغزو العدو .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم (4297). وهو في صحيح سنن أبي داود (3610) .(/67)
فهي إذن عوامل ثلاثة تعمل معاً :عدو خارجي متربص، ومجتمع، وأفراد . والمكانة التي تشغلها الأمة من محصلة هذه العوامل الثلاثة ، فقد تكون بسبب ضعفها الداخلي مغزوة من الخارج، وقد تكون بسبب قوتها الداخلية وتماسك مجتمعها غازية في الخارج.
وليست الحياة إلا صراعاً تقاوم فيه الصعوبات التي تتحدى الفرد والجماعة ثم تكون الغلبة والانتصار أو الاستسلام والهزيمة تلك سنة الله منذ بدء الخليقة (1) اهـ.
* * *
المعالم الرئيسية لمنهج التغيير الصحيح
إن عدم الانتباه لسنن الله عز وجل السابق ذكرها في التغيير مع العوائق الشديدة التي تواجه الدعاة إلى الله عز وجل في طريقهم قد يؤدي ذلك كله ببعض الطيبين -وقد أدى-إلى اليأس والإحباط حتى ألقى بيديه ينتظر خارقة أو مهدياً (2) ينصر الله به دينه، كما أدى ذلك بالبعض الآخر إلى أن يظن الحل يكمن في التنازل للأعداء والرضا بالحلول الوسط فدخل في تحالفات أو مجالس وبرلمانات ليحقق بذلك بعض المكاسب للدعوة أو يدفع بعض
المفاسد عنها .
وفي المقابل نشأ فريق آخر يرى المواجهة واستعجال النصر ولكن قبل أوانه . كل ذلك ـ والله أعلم ـ نشأ من الضغوط الشديدة من العوائق الخارجية والداخلية وإغفال سنن الله عز وجل في التغيير .
وإن الحل لواقعنا المرير هو المنهج الصحيح في التغيير والذي يكمن في منهج الرسول لله وبالذات في بدء الدعوة واستضعافها . وباستقراء معالم هذا المنهج الكريم يتبين أن أهمها ما يلي:
1ـ الانطلاق في الدعوة إلى الله عز وجل من أصلين عظيمين أمر الله عز وجل نبيه محمداً لله أن ينطلق بهما وهذان الأصلان مذكوران في سورة مكية حيث يقول الله عز وجل: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [يوسف:108] .
فقد حددت هذه الآية الكريمة صفات الدعوة الصالحة المقبولة عند الله عز وجل وأنها هي التي ترتكزعلى هذين الأصلين العظيمين وهما :
الأصل الأول: (( أَدْعُو إِلَى اللَّهِ )) والمراد من ذلك الدعوة إلى التوحيد بادئ ذي بدء(3) والموالاة والمعاداة على أساسه ، والإخلاص والصدق في
الدعوة وأن المراد منها وجه الله عز وجل وإخلاص العبادة له وتوحيده وأنه لا يدعو إلى شيء إلا إلى الله عز وجل لا إلى شخص أو حزب أو راية أو أي غرض من أغراض الدنيا ، والمراد من هذا الأصل سلامة القصد .
الأصل الثاني : (( عَلَى بَصِيرَةٍ)) : أي أن تكون الدعوة على بصيرة وعلم ودليل واتباع للرسول لله والمراد من هذا الأصل سلامة الفهم .
فإذا انطلقت الدعوة إلى الله عز وجل من قصد سليم وفهم سديد فهذه هي الدعوة الموفقة الموافقة لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) من كتاب المسؤولية – الدكتور / محمد أمين المصري، ص13 .
(2) المهدي حقيقة ثابتة نؤمن بها حيث ورد ذكره في أحاديث كثيرة أوصلها بعض العلماء إلى حد التواتر ، ولكن المؤمن بوعد الله عز وجل يوقن بانتصار هذا الدين ولا يربطه بخروج المهدي ، وإنما يربطه بأسبابه الشرعية. صحيح أن الانتصار النهائي الشامل لن يكون -والله أعلم- إلا بعد خروجه لكن المهدي حينها لن يخرج على الدنيا وحده ، وإنما لا بد وأن فئة من المؤمنين قد تهيأت لمخرجه وأعدت نفسها بكل ما تعني كلمة الإعداد من معنى .أما الذين أهملوا أنفسهم وركنوا لدنياهم ولم يعدوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله عز وجل سواء مع المهدي أو مع أي مصلح آخر فسوف يكونون أبعد الناس عن اتباعه ولو ظهر على يديه الخوارق المعجزات . إن الخوارق والمعجزات لم تنفع بني إسرائيل عندما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون معه مع أن الله عز وجل قد أيده بمعجزة التابوت الذي فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ، ومع ذلك فقد نكل أكثرهم ولما عرضهم على النهر شربوا منه إلا قليلاً منهم، والقليل منهم لما برزوا لجالوت وجنوده : {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } ، فالعبرة إذن ليست بخروج المهدي وخروج الخوارق وأن الناس سيتبعونه إذا رأوا ذلك منه .. كلا لن يثبت ويواصل السير إلا من وفقه الله عز وجل وكان له حظ من التربية على الإيمان والصبر واليقين .
(3) أورد الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى هذه الآية في كتاب التوحيد باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ليدلل على أهمية التوحيد وأنه أول ما يدعى الناس إليه، كما أنه استدل من هذه الآية أيضاً على وجوب التجرد لله سبحانه وتعالى في الدعوة إليه ، وأن تكون الدعوة خالصة له وحده ، فذكر رحمه الله تعالى في مسائل الباب حول هذه الآية قوله : التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه .(/68)
إذن فعلينا معاشر الدعاة إلى الله عز وجل أن نعيد النظر في مقاصدنا وفهومنا، إذ إن نصر الله عز وجل لا ينزل إلا على قوم قد صحت مقاصدهم فأخلصوا لله دعوتهم وعبوديتهم ، وصحت فهومهم بالسير على ما كان عليه الرسول- صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام عقيدة وعبادة وسلوكاً، أما إذا تأخر نصر الله تعالى فهذا دليل على خلل في القصد أو خلل في الفهم وعندئد يجب تلافي هذا الخلل والانسجام مع سنن الله عز وجل في التغيير (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) [الرعد: 11].
2ـ إيمان بالله عز وجل وبوعده الذي لا يتخلف وأن نصره تعالى لعباده المؤمنين آت لا محالة ، وأن نوقن بذلك كما نرى الشمس في رابعة النهار . وهذا ما كان يربى النبي لله عليه أصحابه وهم في حالة استضعاف وإيذاء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لخباب بن الأرت عندما جاءه يشكو إليه أذى المشركين ويطلب نصر الله تعالى : (( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتي يسير الراكب من صنعاء إلي حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب علي غنمه ، ولكنكم تستعجلون)) (1) .
3 ـ السعي إلى توحيد صفوف أهل السنة ورأب الصدع وتأليف القلوب وتحقيق معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر)) (2) .
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه)) (3) ، فهل هذه المعاني العظيمة متحققة الآن بين الدعاة المؤمنين أم أن الحاصل هو الفرقة والاختلاف ؟!
إن الله عز وجل قد حذرنا من التنازع والتفرق وأخبرنا أن الفشل والهزيمة وتغلب الأعداء ثمرة حتمية للتنازع ، قال تعالى : (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [الأنفال: 46]، فكيف نرجو نصراً ونحن بهذه الحالة ؟!
إن الواجب على كل مؤمن صادق مخلص أن يسعى جاهداً للوحدة والائتلاف ويكره وينبذ الفرقة والاختلاف، وإن لم يستطع جمع الكلمة فلا أقل من أن يكفَّ شره ولا يفرق ، فمن استطاع أن يجمع فليفعل ، ومن لم يستطع فلا يفرق فهذا منه خير .
كما يجب على الدعاة المخلصين المتبعين للسنة أن يتعاونوا بينهم وأن
يتركوا التلاوم والنقد فيما يسعه الاختلاف،وأن يقدر كل منهم الآخر ويذكر له خيره وجهده وأن يكمل بعضهم بعضاً، لا أن يضاد بعضهم بعضاً ويُسفِّه بعضهم البعض الآخر، ويحتقر جهده، ويسيء الظن به، فهذا كله من الشيطان الذي لا يفتأ يسعى للتحريش والتفريق بين المؤمنين .
4 ـ التربية الجادة للنفوس وإحياء السلوك الإسلامي وأخلاق السلف الفاضلة والقضاء على الرواسب والأخلاق الرديئة وهذا يحتاج إلى صبر طويل وجهد كبير .
5 ـ التركيز على الجانب العبادي وتكثيفه كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي عليه أصحابه في مكة من صلاة الليل والذكر وغيره ، والتربية على الزهد في الدنيا وإنشاء همّ الآخرة وانتظار موعود الله عز وجل فيها .
6 ـ توطين النفوس على الصبر على البلاء ، والنَفَس الطويل وعدم العجلة في ذلك حتى يتم صقلها وتمحيصها وأن تربى على الانطلاق من الشريعة وقواعدها لا من ردود الفعل والعواطف الملتهبة وهذا يحتاج إلى تربية طويلة وصبر جميل ودعوة هادئة مستمرة يتم فيها إبلاغ الناس بدين الله عز وجل وتهيئة الأوضاع للتغيير المنشود. كما هو الحال في العهد المكي الذي ظهرت فيه هذه المعاني بوضوح وجلاء ؛ليهلك من هلك عن بينة ويحىا من حيَّ عن بينة .
7 ـ توسيع نطاق الدعوة إلى الله عز وجل والبلاغ العام لكافة الطبقات وإقامة الحجة وتعرية الباطل باللسان والبيان .
8 -إعداد النفوس للجهاد في سبيل الله عز وجل والذي هو ذروة سنام
هذا الدين وهو ثمرة الفهم الصحيح والقصد الصحيح والصبر الطويل في التربية عليهما .
فلابد من الاستعداد والإعداد له ، فنحن نوقن تمام اليقين أنه لا يرفع عن المسلمين ما هم فيه من ذلة ومهانة إلا أن تحيا معاني الجهاد في نفوسهم، قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) (4) .
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب الإكراه (6943) .
(2) متفق عليه .
(3) متفق عليه .
(4) رواه أبو داود، في البيوع والإجارات (3462)، وقال محقق "جامع الأصول" : هو صحيح .(/69)
فحياة المسلمين وعزهم وشرفهم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، فوق أنه واجب شرعي لتبليغ دين الله عز وجل والقضاء على الفساد في الأرض وتعبيد الناس لربهم سبحانه ، قال تعالى: (( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) [الحج:40]، وقال سبحانه : (( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)) [البقرة: 251].
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)) (1) .
إن المتأمل في أحوالنا اليوم وطريقة تفكيرنا ومعيشتنا وتعاملاتنا ليرى عدم المصداقية الكافية عندنا في إعداد النفس للجهاد وتحديث النفس بالغزو على جميع المستويات إلا من رحم الله تعالى ، فمجرد نظرة سريعة إلى اهتماماتنا ، وما يشغل قلوبنا نرى أنها ليست اهتمامات مجاهدين . وأسلوب معيشتنا مما يشتمل عليه من الترف والترهل وحب الدعة والراحة والركون إلى الدنيا وكراهية الموت ، كل هذا لا يتفق مع حقيقة تحديث النفس بالغزو وإعدادها للجهاد .
إن » تحديث النفس بالغزو « الذي ينجي من شعب النفاق لا يكفي له أن يحدث الإنسان نفسه أنه سيغزو ويجاهد ويكتفي بهذا الحديث النفسي وهو متكئ على أريكته مشحون قلبه بدنياه ، كلا ليس هذا هو الحديث المنجي . إنما تحديث النفس بالغزو يعني أموراً عملية لابد من العزيمة على النفس بها من الآن أهمها ما يلي :
1ـ الإعداد العلمي والفقه في الدين والبصيرة فيه حتى تكون دعوته ويكون جهاده على بصيرة وروية ووضوح راية ، ويفقه لماذا يجاهد ؟ وكيف يجاهد ؟ ومن يجاهد ؟ وعلى أي عقيدة يجاهد ؟ كل هذا لا يتأتى إلا بالعلم والفقه في دين الله عز وجل .
2ـ الإعداد التربوي والسلوكي ابتداء من تقوية الصلة بالله عز وجل ، وإخلاص النية له ، والتقرب له بالطاعات ، والزهد في الدنيا والتخفف منها، والرغبة فيما عند الله عز وجل من الجنة والرضا ، والتخلق بأخلاق الإسلام ، وهذا كله يحتاج إلى جهد كبير وترويض شديد وصبر طويل .
3ـ التعبئة النفسية وبث روح الجهاد ، وانتشال النفس مما هي فيه من
كسل ودعة واستخذاء والارتفاع بها من الهزيمة النفسية إلى الاعتزاز بهذا الدين،والثقة بنصر الله عز وجل واليقين التام بأهمية الجهاد ، وما أعده الله عز وجل للمجاهدين .
4 ـ التربية على الإنفاق في سبيل الله عز وجل والتضحية بالغالي والنفيس في سبيله عز وجل وتخليص النفس من الشح وحب الدنيا .
5 ـ الشعور بواجب الدعوة إلى الله عز وجل وتجميع الناس حول الإسلام والاهتمام بأمر هذا الدين ، والغَيْرة على محارم الله عز وجل ، وأن هذا الأمر يتفاوت وجوبه والإثم المترتب على تركه حسب حال العبد ومرتبته من العلم أو القدرة أو الغنى .. إلخ . ويوضح ذلك الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه القيم إعلام الموقعين حيث يقول :
" ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته ، سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها ؛ فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل ، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره ، وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي ، وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير ، وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما .
وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يوماً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقالت له امرأة : هذا واجب قد وضع عنا ، فقال :هبي أنه قد وضع عنكن سلاح اليد واللسان ، فلم يوضع عنكن سلاح القلب ، فقالت: صدقت جزاك الله خيراً .
وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسَّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع ، وعطلوا هذه العبوديات ، فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها ، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به ، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي ، فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجهاً ذكرها شيخنا رحمه الله في بعض تصانيفه ، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله لله وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً ، والله المستعان .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة (1910) .(/70)
وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنْتهك وحدوده تُضاع ودينه يُترك وسنة رسوله لله يُرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذَّل وجَدَّ واجتهد ، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه.
وهؤلاء- مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم- قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب ، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى ، وانتصاره للدين أكمل"(1).
6 ـ الإعداد الجسمي والعضلي لتحمل الجهاد ومشاق الطريق وذلك بالرعاية الصحية والرياضة البدنية وركوب الخيل والسباحة والرماية وكل ما يحتاجه جهاد الكفار من إعداد وكل ما من شأنه إرهاب عدو الله وعدو المؤمنين قال تعالى : (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )) [الأنفال:60].
وكل هذه الأنواع من الإعداد قد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مكة حيث لم يؤذن له بعد بالقتال،وقد يقول قائل ما الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يدرب أصحابه على الرماية والرياضة في مكة؟
والجواب : إنهم لم يكونوا في حاجة إلى ذلك فطبيعة نشأتهم وبيئتهم وحياتهم كانت في الأصل طبيعة قتالية مدربة جاهزة لا يحتاجون معها إلا إلى الأمر ومجيء الوقت المناسب للجهاد.
7 ـ وقبل ذلك وبعده ( في الإعداد للجهاد ) يجب أن ترتبط النفوس المؤمنة بطلب رضا الله عز وجل وجنته قبل أن يحصل لها أي هدف في هذه الدنيا الفانية ولو كان إقامة حكم الله عز وجل؛ لأنه قد يتأخر إقامة علم الجهاد وقد يبطئ نصر الله عز وجل لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، وقد يموت المؤمن الذي أعد نفسه للغزو والجهاد ولم ير ثمرة الجهاد، لكن حسبه أنه أعد نفسه وحدثها بالغزو ونجا من النفاق وسار في مرضات الله عز وجل، وهذا في حقيقته انتصار كبير.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى :
"ولقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع -وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض. ولا تنتظر إلا الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله. قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب. ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين.. حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل، وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للجزاء.. وموعداً كذلك للفصل بين الحق والباطل.
وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، أتاها النصر في الأرض وائتمنها عليه. لا لنفسها، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة، منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه، وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه. فالنصر ليس بالعدد وليس بالعدة. وليس بالمال والزاد. إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد"(2) .
وختاماً أسأل الله عز وجل أن يرفع علم الجهاد وأن يقر أعيننا بنصرة دينه والتمكين لأوليائه وأن يجعلنا من الذين (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)) [المائدة:54].
كما أسأله سبحانه أن يجمع كلمة دعاته الصادقين على الحق، وأن يوحد صفوفهم ويؤلف بين قلوبهم، وأن يعيذهم من نزغات الشيطان، وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه ويريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
* * *
الرسالة السادسة : ((وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ )) ( التوبة : 119) .
مقدمة :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، من يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليما كثيرا .
أما بعد :
__________
(1) إعلام الموقعين (2/176) .
(2) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص361 .(/71)
فإن الله عز وجل خلق السموات والأرض بالحق وخلق الخلق ليعبدوه، وأمرهم بأن يقيموا حياتهم على الإيمان الحق الذي قامت عليه السموات والأرض ، ولا يكون الإيمان حقا حتى يكون قائما على الصدق المقتضي للإخلاص التام لله عز وجل باطنا وظاهرا ، والمقتضي للمتابعة الصادقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأحوال .وبالتالي تسعد البشرية بهذه الحياة المبنية على الحق والصدق ، وعندئذ تختفي كل مظاهر الظلم والكذب والنفاق والتي ترزح البشرية اليوم تحت وطأتها وتكتوي بنارها .
إن حيرة البشر اليوم وشقوتهم ترجع إلى انحرافهم عن هذا الأصل الواضح ، وإلى تسلط أكاذيب وأوهام المنافقين والدجاجلة على أنفسهم وأفكارهم حتى أبعدتهم عن الصراط المستقيم والنهج القويم .
إن منزلة الصدق منزلة عظيمة في دين الإسلام بل في جميع الأديان، لا لأن الصدق خلق من الأخلاق الحميدة فحسب، بل لأنه أصل الإيمان المقبول عند الله عز وجل، وهو أساس النجاة من عذاب الله عز وجل ، وبه يتميز أهل الإيمان الحق من المنافقين الكاذبين .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة الصدق :" وهي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين . وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان ، وسكان الجنان من أهل النيران. وهو سيف الله في أرضه الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه. مَنْ صال به لم ترد صولته،ومن نطق به علت على الخصوم كلمته. فهو روح الأعمال، ومَحكّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع العالمين،ومن مساكنهم في الجنات:تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين،كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومَعِين" .(1)
من الكلام السابق لابن القيم رحمه الله تعالى يتضح لنا أهمية الصدق وخطورة شأنه،ومدى الحاجة الماسة إلى معرفة حقيقته ومعناه؛ حتى تنصبغ قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا به،فلا نكنّ في صدورنا إلاالصدق،ولا نقول إلا الصدق،ولا نعمل إلا الصدق،ويالها من مرتبة ما أعزها ، وغاية ما أشرفها وأعظم أجرها ، والناس فيها متفاوتون ، وفي الوصول إليها متنافسون .
ولا يصل إلى تكميل هذه المنزلة إلا أولو العزائم القوية من أهل الإيمان والعلم والعمل الذين وفقهم الله عز وجل وأوصلهم إليها : (( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)) (فصلت:35)?.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن عظم منزلة الصدق وشدة
حمله : " وأيضا فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي ، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم ، فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل . والرياء والكذب خفيف كالريشة لا يجد له صاحبه ثقلا البتة . فهو حامل له في أي موضع اتفق ، بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة ، فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله "(2) اهـ .
أهمية الموضوع :
لقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف في فضل الصدق وخطورة أمره وعلو شأنه .
ولقد اخترت في هذه الرسالة ( من رسائل الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم ) أن يكون عنوانها (( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) ، وهي جزء من قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) [ التوبة:119] وذلك لأنطلق منها إلى هذا الموضوع المهم الذي يهم كل مسلم بصفة عامة ، ويهم الدعاة إلى الله عز وجل بصفة خاصة ، وبالذات في واقعنا المعاصر ، وإن أهميته لتأتي من الأمور التالية :
الأمر الأول :
لأنه أساس الإيمان وركنه الركين ، وأساس قبول الطاعات والقربات عند الله عز وجل ، وعليه يترتب الأجر والثواب يوم القيامة ، قال تعالى : (( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ )) [الأحزاب:24]،وقال تعالى: (( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار)) [ المائدة: 119] .
ولأنه أساس الطاعات وجماعها أصبحت الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق هي الصدق ، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
(( الصدق أساس الحسنات وجماعها ، والكذب أساس السيئات ونظامها ، ويظهر ذلك من وجوه [ منها ] :
__________
(1) مدارج السالكين ( 2/268)
(2) مدارج السالكين (2/276) .(/72)
* أن الصدق والكذب هو المميز بين المؤمن والمنافق ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ))(1) . وفي حديث آخر (( على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة ))(2) . ووصف الله المنافقين في القرآن بالكذب في مواضع متعددة ، ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة، وأن المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل من النار
* أن الصدق هو أصل البر ، والكذب هو أصل الفجور كما جاء في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، و إن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ))(3) .
*أن الصادق تنزل عليه الملائكة والكاذب تنزل عليه الشياطين،كما قال تعالى: (( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ)) [الشعراء :221-223]اهـ. باختصار(4) ?
الأمر الثاني :
أن الصدق في كل الأمور يوصل صاحبه إلى مرتبة الصديقية التي هي المرتبة التالية لمرتبة النبوة ، وعندما نقول : (( في كل الأمور )) نريد بذلك عدم حصر الصدق في اللسان فقط ، وإنما الصدق في النيات والأقوال والأعمال وتحري الصدق دائما في ذلك كله .إن مجاهدة النفس على تحري الصدق في جميع الأمور يوصلها إلى هذه المرتبة العظيمة: "مرتبة الصديقية" كما جاء في الحديث السالف الذكر (( .... وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا)) (5)،وهنيئا لمن وصل إلى هذه المرتبة فيالها من رتبة ما أشرف قدرها وأعظم فضلها.
يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله تعالى-في وصف أهل هذه الطبقة:
"(الطبقة الرابعة): ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم،وهم القائمون بما بعثوا به علما وعملا ودعوة الخلق إلى الله على طريقتهم ومنهاجهم.وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة، وهي مرتبة الصديقية ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال تعالى: (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)) [النساء:69]، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة وهؤلاء هم الربانيون ، وهم الراسخون في العلم ، وهم الوسائط بين الرسول وأمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه،وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ))(6) . اهـ .
ثم يقول بعد ذلك رحمه الله تعالى:"والمقصود أن درجة الصديقية والربانية ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هي أفضل درجات الأمة،ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من علم بتعليمهم وإرشادهم أو علم غيره شيئا من ذلك كان له مثل أجره مادام ذلك جاريا في الأمة على آباد الدهور
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي بن ابي طالب : (( والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)) (7)، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده ، كُتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء)) (8). وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أيضا أنه قال: (( إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له))(9)، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( من يرد الله به خيرا يفقه في الدين)) (10) .
__________
(1) البخاري في الإيمان(33)/ فتح (1/111)، مسلم في الإيمان (59)/ (1/78) .
(2) رواه الإمام أحمد (5/252) بنحوه، وضعفه الألباني/ السنة(114) .
(3) البخاري في الأدب (6094)/ فتح (10/523)، مسلم في البر والصلة(2607) / (4/ 2013).
(4) مجموع الفتاوى (20/74 – 77 ) باختصار وتصرف .
(5) سبيق تخريجه قريباً.
(6) طريق الهجرتين ص614 ط . الشؤون الدينية – قطر .
(7) البخاري في الجهاد (2942) / فتح (6/130)، مسلم في فضائل الصحابة (2406) / (4/1872)، كلاهما بنحوه .
(8) مسلم ك العلم (1017)/ (4/2059) .
(9) مسلم ك الوصية (1631) / ( 3/1255) بنحوه .
(10) البخاري في العلم (71) / فتح (1/197)، مسلم في الزكاة (1037)/ (2/718) .(/73)
وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( ... إن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى النملة في جحرها)) (1)، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير)) (2)، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) (3) ، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( العالم والمتعلم شريكان في الأجر، ولا خير في سائر الناس بعد)) "(4) ، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها)) (5)، والأحاديث في هذا كثيرة .
وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد ، فيالها من مرتبة ما أعلاها ، ومنقبة ما أجلها وأسناها ؛ أن يكون المرء في حياته مشغولا ببعض أشغاله ، أو في قبره صار أشلاء متمزقا وأوصالا متفرقة ، وصحف حسناته متزايدة تُملى فيها الحسنات كل وقت ، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب .
تلك والله المكارم والغنائم ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، وعليه يحسد الحاسدون ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . وحقيق بمرتبة هذا شأنها أن تفق نفائس الأنفاس عليها ، ويسبق السابقون إليها ، وتوفر عليها الأوقات وتتوجه نحوها الطلبات . فنسأ الله الذي بيده مفاتيح كل خير أن يفتح علينا خزائن رحمته ، ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنه وكرمه .
وأصحاب هذه المرتبة يُدعون عظماء في ملكوت السماء كما قال بعض السلف : من علم وعمل وعلّم فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء .وهؤلاء هم العدول حقا بتعديل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ، إذ يقول فيما يروى عنه من وجوه شد بعضها بعضا : (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) (6)"(7)اهـ .
الأمر الثالث :
ومما يؤكد أهمية الصدق تلك الثمرات العظيمة التي تحصل منه في الدنيا والآخرة من البركة والقبول والإصلاح في الدنيا ، والأجر العظيم والثواب الجزيل في الآخرة . وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في ( ثمرات الصدق ) في آخر البحث .
الأمر الرابع :
خطورة الكذب والنفاق وأثرهما على الفرد والمجتمع والأمة ، وخاصة في مجتمعاتنا اليوم والتي كثر فيها الكذب والدجل والمداهنة ، وقل الصدق فيها والصادقون . ولا أعلم- والعلم عند الله – عصرا ظهر فيه الكذب والنفاق بوسائله الماكرة المتطورة كما ظهر في عصرنا اليوم ، حتى أصبح الكذب والمكر له مدارسه وأساليبه التي تعلم الناس كيف يكذبون ، وكيف ينافقون ، وكيف يدلسون ...... إلخ .
ولا أبالغ إذا قلت: إن وسائل الإعلام اليوم- المقروء منها والمسموع
والمنظور – قد قامت في أغلب برامجها على الكذب وقلب الحقائق ، وتسمية الأمور بغير مسمياتها .
وقد تجاوز الأمر حده حتى أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا ، وظهر الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق ، وأصبحنا نسمع من يقول عن المسلم الصادق الذي يتحرى الصدق بإنه ساذج وبسيط وسطحي ...إلخ ، في الوقت الذي يوصف الكاذب والمنافق بإنه السياسي الحكيم المحنك .
إن مجتمعا كهذا حري بالسقوط والدمار ، ولا نجاة ولا فلاح إلا بالصدق ، والأمة الصادقة مع ربها سبحانه ومع رسولها - صلى الله عليه وسلم - ومع أبنائها لا تهزم أبدا .
الأمر الخامس :
ظهور بعض علامات ضعف الصدق في صفوفنا معشر الدعاة إلى الله عز وجل وذلك بوجود بعض التصرفات والممارسات التي تتنافى مع الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله ؛ فقل الصادقون الربانيون الذين يصدقون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم ويضحون في سبيل الله عز وجل بكل ما يملكون لنيل مرضات الله عز وجل وجنته .
__________
(1) الترمذي ك العلم ( تحت2683) / (7/325)، وأخرجه أيضاً غيره، وهو جزء من حديث طويل صححه الألباني . والذي فيه: " الحيتان في الماء " بدلاً من " النملة في جحرها "
(2) الترمذي ك العلم (2686) / (7/ 327) بنحوه ، وصححه الألباني .
(3) هو جزء من الحديث المخرج قريباً في الترمذي ( تحت 2683) وطرفه : " من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً ..." .
(4) رواه الطبراني بنحوه في الكبير (10461)، وفي الأوسط (7571)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (414).
(5) الترمذي بمعناه ك العلم (2660) / (7/307) . وفي الباب أحاديث بمعناه عن جمع من الصحابة وهي مخرجة في السنن ، وصححها الألباني .
(6) الحديث أخرجه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث (54)، وابن عبدالبر في التمهيد (1/59)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/209) .
(7) طريق الهجرتين ص619 ط . الشؤون الدينية بقطر .(/74)
نعم إنه بمحاسبة عجلى لنفوسنا يتبين لنا هذا الضعف وأننا في أمس الحاجة إلى تقوية هذا الأمر ، ونبذ كل ما يتنافى معه من صور الكذب والنفاق ووهن العزيمة وضعف الهمة . وإلا فما معنى وجود هذه الجهود الضخمة المبذولة اليوم في طريق الدعوة إلى الله عز وجل ثم لا نرى لها إلا أثرا ضعيفا لا يوازي تلك الجهود المبذولة .
الأمر السادس :
إن الصراع الذي نشاهده اليوم بين الحق والباطل ، بين دعاة الشر والكفر ودعاة الخير والإصلاح ؛ ليحتم على أهل الخير حرصهم الشديد على الصدق مع الله سبحانه واليقين بنصره وثوابه ؛ حتى لا تزل الأقدام وتضعف العزائم إزاء هذا البلاء العظيم والمعركة الشرسة بين الحق والباطل . وهذه المواطن هي التي يتميز فيها الصادقون عمن سواهم ، قال تعالى : (( الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )) (العنكبوت: 1-3)، وكذلك أيام الفتن لا يثبت فيها إلا الصادقون العالمون العاملون ، وهم الذين يشرفهم الله عز وجل بنصره ، ويمكن لهم في الأرض، ويجعلهم أئمة ، ويجعلهم الوارثين .
* * *
حقيقة الصدق ومعناه
تعريف الصدق :
قال في لسان العرب ( باختصار ) :
" الصدق : نقيض الكذب . صَدَق يَصْدُق صَدقا وصِدقا وتصداقا . وصَدَّقه : قبل قوله ، وصَدَقهُ الحديث : أنبأه بالصدق . ويقال : صدقت القوم أي قلت لهم صدقا . والمصدق : الذي يصدقك في حديثك . ورجل صِدق وامرأة صِدق : وُصِفا بالمصدر .
والصدِّيق : الدائم التصديق ، ويكون الذي يصدق بالعمل ، وفي التنزيل (( وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ)) (المائدة:75) أي مبالغة في الصدق والتصديق . وهذا مصداق هذا : أي ما يصدقه . ورجل ذو مصدق بالفتح : أي صادق الحملة، يقال ذلك للشجاع والفرس الجواد ، وصادق الجري . ومصداق الأمر : حقيقته"اهـ . لسان العرب .
وقال الراغب : (( أصل الصدق والكذب في القول ماضيا كان أو مستقبلا وعدا كان أو غيره ، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في الخبر ، وقد يكونان في غيره كالاستفهام والطلب . والصدق : مطابقة القول الضمير ، والمخبر عنه ، فإن انخرم شرط لم يكن صدقا ، بل إما أن يكون كذبا أو مترددا بينهما على اعتبارين، كقول المنافق: "محمد رسول الله " فإنه يصح أن يقال: "صدق " لكون المخبر عنه كذلك، ويصح أن يقال:"كذب " لمخالفة قوله ضميره ، والصدِّيق من كثر منه الصدق ، وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد نحو صدق ظني، وفي الفعل نحو: صدق في القتال ومنه "قد صدَّقت الرؤيا"(1) اهـ . ( ملخصاً ).
من هذه التعريفات السابقة للصدق يتضح لنا معنى الصدق اللغوي ، وانه نقيض الكذب ، وهو مطابقة القول للعمل ، ومن هذا التعريف استمدت حقيقة الصدق الواردة في كتاب الله عز وجل وأحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم - وأقوال العلماء ، وذلك فيما يلي :
حقيقة الصدق :
إن حقيقة الصدق أوسع من كونها الصدق في الحديث فقط ، وإنما حقيقة الصدق شاملة لصدق النية والعزيمة وصدق اللسان وصدق الأعمال كما سيتبين بتفصيل ذلك – إن شاء الله تعالى – في ( مراتب الصدق ) .
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( ومما ينبغي أن يعرف الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي الأعمال كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة ؛ فالعينان تزنيان وزناهما النظر ، والأذنان تزنيان وزناهما السمع ، واليدان تزنيان وزناهما البطش ، والرجلان تزنيان وزناهما المشي ، والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) "(2) .
ويقال : حملوا على العدو حملة صادقة ؛ إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة
جازمة ، ويقال :فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك . ولهذا يريدون بالصادق ؛ الصادق في إرادته وقصده وطلبه ، وهو الصادق في عمله ، ويريدون الصادق في خبره وكلامه ، والمنافق ضد المؤمن الصادق ، وهو الذي يكون كاذبا في خبره أو كاذبا في عمله كالمرائي في عمله . قال الله تعالى : (( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاس...)) [النساء:142]"(3) ا هـ .
ويفصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى القول في هذا المعنى فيقول : " والإيمان أساسه الصدق ، والنفاق أساسه الكذب ، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر .
__________
(1) مفردات الراغب ص409 .
(2) البخاري بنحوه ك الاستئذان ( 6243 ) / فتح ( 11 / 28 ) ، مسلم بنحوه أيضاً ك القدر (2657) / (4/2046) .
(3) مجموع الفتاوى (10/14) .(/75)
أخبر سبحانه : أنه يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه، قال تعالى : (( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [ المائدة:119]، وقال تعالى : (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) [ الزمر:33]، فالذي جاء بالصدق:هو مَنْ شأنُهُ الصدق في قوله وعمله وحاله . فالصدق في هذه الثلاثة .
فالصدق في الأقوال : استواء اللسان على الأقوال ، كاستواء السنبلة على ساقها .
والصدق في الأعمال : استواء الأفعال على الأمر والمتابعة ، كاستواء
الرأس على الجسد .
والصدق في الأحوال : كاستواء أعمال القلوب والجوارح على الإخلاص ،واستفراغ الوسع ، وبذل الطاقة .
فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق . وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به : تكون صديقيته . ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه : ذروة سنام الصدّيقية . لذلك سمي (( بالصديق )) على الإطلاق و (( الصديق )) أبلغ من الصدوق ، والصدوق أبلغ من الصادق .
فأعلى مراتب الصدق: مرتبة الصديقية. وهي كمال الانقياد للرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع كمال الإخلاص للمرسِل"(1) .
الفرق بين الصدق والإخلاص :
(( الصدق والإخلاص عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب وأهم أصول الإيمان . فأما الصدق فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق ، وأما الإخلاص فهو الفرقان بين التوحيد والشرك – في قول القلب واعتقاده أو في إرادته ونيته . والأعمال – التي رأسا وأعظمها (( شهادة أن لا إله إلا الله )) – لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص .
ومن هنا كنا شرطين من شروطها ، وأكذب الله المنافقين في دعوى
الإيمان ، وقول الشهادة لانتفاء الصدق فقال تعالى : (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) [المنافقون:1]، وقال تعالى: (( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) [العنكبوت:3].
كما أبطل سبحانه زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء الإخلاص فقال : (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) (البينة:1) إلى أن يقول : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) (البينة:5) .
والصدق والإخلاص مع تقاربهما ومع ترادفهما أحيانا يعرف التمييز بينهما بضد كل منهما : فالصدق ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلا كمن آمن أو صلى كاذبا ولم يرد الإيمان والصلاة وإنما فعل ذلك لسبب آخر ، كما فعله المنافقون حفظا لأنفسهم وأموالهم من السيف ، وجبنا عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان .
والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه كمن آمن أو صلى صارفا ذلك لأحد مع الله ، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين ومنهم أهل الكتاب والمشركون الذين اتخذوا من دون الله أولياء من الأنبياء أو غيرهم وعبدوهم زاعمين انهم يقربونهم إلى الله زلفى . ومما يميز بينهما أن الصدق لا يختص بالاعتقاد بل يكون في الأعمال أيضا بخلاف الإخلاص فإنه عمل قلبي محض لكن تظهر آثاره على الجوارح ، وعلى قدر تحقيق العبد لشعب الإيمان وأعماله يكون حظه من الصدق حتى يصل إلى درجة " الصديقية "، وعلى قدر ما يحقق العبد\ الإخلاص لربه يكون ترقيه في " المخلصين " الذين صرف الله عنهم غواية الشيطان وأثنى عليهم في كل أمة "(2) ا هـ .
مجالات الصدق كما يجب
مما سبق يتبين لنا أن حقيقة الصدق تشمل :
1- صدق النية :
بأن تكون خالصة لله عز وجل وابتغاء مرضاته ، وأن لايكون هناك باعث في الحركات والسكنات إلا لله عز وجل ، فإن شاب النية شيء من حظوظها لم تكن صادقة ، وإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا أيضا دليل على عدم الصدق في النية . والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله تعالى في وصف المنافقين: (( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ )) [الفتح :11 ] وقال تعالى: (( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [هود: 15-16] .
__________
(1) مدارج السالكين (2/269) .
(2) ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر ص438. (رسالة جامعية ) .(/76)
والأحاديث في ذلك كثيرة أشهرها حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة(1) .
ومن الصدق في النية : الصدق في العزيمة على الفعل إذا تمكن منه ، لأن النية قد تكون صادقة لكن العزيمة على الفعل ضعيفة وصاحبها متردد ، وقد تكون العزيمة صادقة لكن إذا جدالجد وعزم الأمر وهاجت الشهوات خارت وضعفت في بدايته ولم يحصل الوفاء بالعزيمة ، وقد لا تضعف في البداية
لكن إذا باشرت الفعل وذاقت مرارته ضعفت ونكلت ، والموفق من وفقه الله تعالى وأمده بعونه ورحمته ولو وكل العبد إلى نفسه ضاع وهلك .. فيا حي يا قيوم برحمتك تستغيث ، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا ...
وقد ذكر صاحب الإحياء كلاما جيدا حول المسألة ننقله باختصار حيث يقول : " فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل فيقول في نفسه : إن رزقني الله مالا تصدقت بجميعه – أو بشطره ، أو إن لقيت عدوا في سبيل الله تعالى قاتلت ولم أبال وإن قتلت ، وإن أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها ولم أعص الله تعالى بظلم وميل إلى خلق . فهذه العزيمة قد يصادفها من نفسه وهي عزيمة جازمة صادقة ، وقد يكون في عزمه نوع ميل و تردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة ، فكان الصدق هاهنا عبارة عن التمام والقوة كما يقال: لفلان شهوة صادقة . ويقال : هذا المريض شهوته كاذبة، إذا لم تكن شهوته عن سبب ثابت قوي أو كانت ضعيفة ، فقد يطلق الصدق ويراد به هذا المعنى .
والصادق والصديق هو الذي تصادف عزيمته في الخيرات لكها قوة تامة ليس فيها ميل ولا ضعف ولا تردد : بل تسخو نفسه أبدا بالعزم المصمم الجازم على الخيرات .
وأما الصدق في الوفاء بالعزم ، فإن النفس قد تسخو بالعزم في الحال إذ لا مشقة في الوعد والعزم والمؤنة فيه خفيفة . فإذا حقت الحقائق وحصل التمكن وهاجت الشهوات انحلت العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتفق الوفاء
بالعزم ، فهذا يضاد الصدق فيه ولذلك قال الله تعالى : (( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ )) [الأحزاب: 23]، فقد روي عن أنس : أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشق ذلك على قلبه وقال : أوّل مشهد شهده رسول الله- صلى الله عليه وسلم - غبت عنه ، والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله ما أصنع ! قال : فشهد أحدا في العام القابل فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو إلى أين ؟ فقال : واها لريح الجنة ! إني أجد ريحها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة فقالت أخته بنت النضر : ما عرفت أخي إلا ببنانه ، فنزلت هذه الآية : (( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)) "(2) أهـ .
ونختم الحديث عن صدق النوايا والعزائم بما قصه الله سبحانه علينا في كتابه الكريم عن الملأ من بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى عليه السلام وطلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله وفي هذه القصة من العبر والدروس خير شاهد على ما سبق الحديث عنه من صدق العزائم وضعفها وأن أصحاب العزائم الصادقة مع الله عز وجل هم الذين يثبتون إذا عزم الأمر وهم الذين ينصر الله بهم دينه ويدفع بهم الفساد عن الأرض ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم .
يقول الله في معرض قصة هؤلاء الملأ مع قائدهم طالوت وما جرى لهم من الاختبار الذي تنكشف به العزائم :
قال تعالى : (( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [البقرة:249]
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال هذه الآيات : " قال تعالى : (( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ))
__________
(1) انظر الحديث بطوله في صحيح مسلم- كتاب الإمارة (1905) / (3/1513) .
(2) مسلم ك الإمارة (1903) / (3/1512) .(/77)
هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل .. إنه مقدم على المعركة ؛ ومعه جيش من أمة مغلوبة ، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة ، الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات وتصمد للحرمان والمشاق وتستعلي على الضرورات والحاجات وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء .
فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه وصموده وصبره صموده أولا للرغبات والشهوات وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب ..واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه ويؤثر العافية ... وصحت فراسته :
(( فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا منهم ))
شربوا وارتووا فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف ! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة والجيوش ليست بالعدد الضخم ولكن بالقلب الصامد والإرادة الجازمة والإيمان الثابت المستقيم على الطريق .
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي ولا بد من التجربة العملية ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزمه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى بل مضى في طريقه .
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت – إلى حد – ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد :
(( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ))
لقد صاروا قلة وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته بقيادة جالوت إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته إنها التجربة الحاسمة تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم فاتصلت بالله قلوبهم وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم !
وهنا برزت الفئة المؤمنة . الفئة القليلة المختارة . ذات الموازين الربانية :
(( قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ))
هكذا.. ((كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً)) .. بهذا التكثير . فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقوا الله . القعدة : أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار . ولكنها تكون الغالبة لأهنا تتصل بمصدر القوى ؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة . قوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده ، محطم الجبارين ، ومخزي الظالمين ، وقاهر المتكبرين .
وهم يكلون هذا النصر لله : ((بِإِذْنِ اللَّهِ)) .. ويعللونه بعلته الحقيقية : ((وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)) .. فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل ..
ونمضي مع القصة . فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله ، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء ، وتستمد قوتها كلها من إذن الله ، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله ، وأنه مع الصابرين .. إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة ’ الثابتة ، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته ، مع ضعفها وقلتها .. إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة . بعد أن تجدد عهدها مع الله ، وتتجه بقلوبها إليه ، وتطلب النصر منه وحده ، وهي تواجه الهول الرعيب" (1) اهـ .
ويعلق القرطبي رحمه الله تعالى على هذه القصة بقوله : " قوله تعالى :
(( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً)) الفئة : الجماعة من الناس والقطعة منهم ؛ من فأوت رأسه بالسيف وفأيته أي قطعته . وفي قولهم رضي الله عنهم : (( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ... )) ، تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه .
قلت : هكذا يجب علينا نحن أن نفعل ، لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة ، وذلك بما كسبت أيدينا ! وفي البخاري : وقال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم . وفيه مسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم)) (2) .
__________
(1) في ظلا القرآن (1/268، 269) .
(2) رواه البخاري ك الجهاد (2896)/ (6/104) بنحوه .(/78)
فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة ! قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّه )) [ آل عمران: 200] ، وقال : (( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا)) [ المائدة: 23] ، وقال : (( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ )) [ النحل:128]، وقال: (( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ )) [ الحج:40] وقال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) [ الأنفال:45]
فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا ! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره ، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد
حتى استولى العدو شرقا غربا برا وبحرا ، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم"(1). ا هـ .
من خلال القصة السابقة يتبين دور العلماء الربانيين العلمين أن ووعد الله حق والعاملين الصابرين الصادقين في نياتهم وعزائمهم ، وأهم هم الذين يثبتون في الشدائد والمحن وهم الذين ينزل عليهم نصر الله وتأييده .
1- الصدق في الأقوال :
" وذلك لا يكون إلا في الإخبار أو ما يتضمن الإخبار وينبه عليه ، والخبر إما أن يتعلق بالماضي فلا يخبر عن الأشياء على خلاف ما هي عليه ، أو بالمستقبل كالوفاء بالوعد والعهد"(2) .
وهذه المريبة من الصدق هي التي يحصر كثير من الناس الصدق فيها ولا يتجاوزونها إلى غيرها ، ولا شك أنها مرتبة عظيمة وتكميلها من أعز الأمور وأشقها على النفس ، ولكنها يسيرة على من يسرها الله عليه وجاهد نفسه في تحقيقها . والصدق في الأقوال له صور عديدة منها :
أ – الصدق في نقل الأخبار :
فلا ينقل المسلم إلا الأخبار الصادقة وهذا بدوره يتطلب من الناقل التثبت فيما يقال واجتناب الظنون والأوهام والحذر من التحدث بكل ما يسمع . فمن حفظ لسانه من الأخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق في خبره، وهذا يقتضي الابتعاد عن الظنون والإشاعات،قال- صلى الله عليه وسلم - :
" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"(3) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)) "(4) .
ب – الصدق في الوعد والوفاء به :
لأن إعطاء الوعد غالبا ما يكون بالقول فالوفاء بالوعد من الصدق في الأقوال وإخلافه يعد كذبا ، إلا إذا كانت النية عند إعطاء الوعد صادقة ثم حال بينه وبين تنفيذ الوعد أمر خارج عن إرادته فإن هذا لا يعد إخلافا للوعد وبالتالي لا يعتبر كذبا .
والوعد قد يكون على مكان معين أو في زمن معين أو على أعطية أو زواج أو أي أمر آخر يعد به الرجل أخاه ؛ فإن الإخلاف في هذه الأمور وأمثالها بدون مبرر شرعي يعتبر كذبا ؛ يقول تعالى : (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً)) [مريم:54].
جـ - الوفاء بالعقود والعهود :
وهذا أيضا من الصدق في الأقوال . فإخلاف العهد والغدر فيه من أشد
أنواع الكذب ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )) [المائدة:1] وقال تعالى: (( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا )) [ البقرة:177]
ومن الوفاء بالعهود حفظ الأسرار وكتمانها . ولعل قوله- صلى الله عليه وسلم - في التحذير من صفات المنافقين خير شاهد لما سبق ذكره؛يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق : إذا
حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر))"(5) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ ، ولا يجتمع الكذب والصدق جميعا ، ولا تجتمع الخيانة والأمانة جميعا)) "(6) .
* * *
الصدق المذموم
وهنا مسألة تتعلق بالصدق في الأقوال ألا وهي : الأحوال التي يجوز فيها الكذب بل يجب أحيانا ، ويكره عندها الصدق أو يحرم .
إن هذه المسألة تتعلق بتعارض المصالح والمفاسد ؛ فالصدق ممدوح وواجب في أحوال وشؤون المسلم كلها إلا أن يترتب على قول الصدق مفاسد متحققة على أحد المقاصد التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها ( الدين ، النفس ، العقل ، النسل ، العرض ، المال ) ، ففي هذه الحالة يقوم الصدق مقام الكذب في القبح والمعرة أو يزيد . ومن ذلك ما يلي :
1- الغيبة :
__________
(1) تفسير القرطبي (3/ 255)
(2) إحياء علوم الدين (4/553) .
(3) رواه البخاري ك الأدب (6066) / فتح (10/499)، ومسلم ك البر والصلة (2563)/ (4/1985).
(4) رواه مسلم في المقدمة (5)/ (1/10) .
(5) البخاري ك الإيمان (34)/ فتح (1/111) ، ومسلم ك الإيمان (58)/ (1/78) واللفظ له.
(6) رواه مسلم في المقدمة (5) / (1/10) .(/79)
فإن الكلام في أعراض الناس ولو بصدق محرم ومذموم كما جاءت الأحاديث بذلك .
2- النميمة :
والسعاية ولو بشيء واقع صادق ، والأحاديث في تحريم النميمة معروفة ومشهورة .
3- في التأليف بين الزوجين والإصلاح بين الناس :
فإذا كان نقل الصدق سيترتب عليه إيغار الصدور وإثارة الشحناء فلا يجوز الصدق في ذلك بل يجوز الكذب تأليفا للقلوب .
4- في الحروب مع الكفار والمكايدة لأعداء الدين :
فلا يجوز الإخبار بالصدق إذا كان سيترتب عليه مفاسد على الدين أو على المسلمين وديارهم فهنا يتعين الكذب .
عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال : (( يا أيها الناس، ما يحملكم على أن تتابعوا على الكذب كتتابع الفراش على النار . الكذب كله على ابن آدم إلا في ثلاث خصال : رجل كذب امرأته ليرضيها، وجل كذب في الحرب فإن الحرب خدعة ، وجل كذب بين المسلمين ليصلح بينهما)) "(1) .
وذكر صاحب قواعد الأحكام العز بن عبد السلام مسائل في هذا الباب فقال : " المثال الرابع والأربعون : الكذب مفسدة محرمة إلا أن يكون فيه جلب منفعة أو درء مفسدة فيجوز تارة ويجب أخرى وله أمثلة :
أحدها : أن يكذب لزوجته لإصلاحها وحسن عشرتها فيجوز ؛ لأن قبح الكذب الذي لا يضر ولا ينفع يسير ، فإذا تضمن مصلحة تربي على قبحه أبيح الإقدام عليه تحصيلا لتلك المصلحة ، وكذلك الكذب للإصلاح بين الناس وهو أولى بالجواز لعموم مصلحته .
الثاني : أ، يختبئ عنده معصوم من ظالم يريد قطع يده فيسأله عنه فيقول: ما رأيته ، فهذا الكذب أفضل من الصدق ، لوجوبه من جهة أن مصلحة حفظ العضو أعظم من مصلحة الصدق الذي لا يضر ولا ينفع ، فما الظن بالصدق الضار ؟ وأولى من ذلك إذا اختبأ عنه معصوم ممن يريد قتله .
الثالث : أن يسأل الظالم القاصد لأخذ الوديعة المستودعَ عن الوديعة
فيجب عليه أن ينكرها ، لأن حفظ الودائع واجب وإنكارها هاهنا حفظ لها ولو أخبره بها لضمنها ، وإنكارها إحسان .
الرابع : أن تختبئ عنده امرأة أو غلام يقصدان بالفاحشة فيسأله القاصد عنهما فيجب عليه أن ينكرهما . الخامس : أن يكره على الشرك الذي هو أقبح الكذب أو على نوع من أنواع الكفر فيجوز له أن يتلفظ به حفظا لنفسه؛ لأن مفسدة لفظ الشرك من غير اعتقاد دون مفسدة فوات الأرواح .
والتحقيق في هذه الصور وأمثالها أن الكذب يصير مأذونا فيه ويثاب على المصلحة التي تضمنها على قدر رتبة تلك المصلحة من الوجوب في حفظ الأموال والأبضاع والأرواح ، ولو صدق في هذه المواطن لأثم إثم المتسبب إلى تحقيق هذه المفاسد ، وتتفاوت الرتب له ثم التسبب إلى المفاسد بتفاوت رتب تلك المفاسد .
المثال الخامس والأربعون من ترجيح المصالح على المفاسد : الغيبة مفسدة محرمة لكنها جائزة إذا تضمنت مصلحة واجبة التحصيل أو جائزة التحصيل ؛ ولها أحوال :
أحدها : أن يشاور في مصاهرة إنسان فذكره بما يكره ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس لما خطبها أبو جهم ومعاوية: (( إن أبا جهم ضراب للنساء، وإن معاوية صعلوك لا مال له )) (2) ؛ فذكرهما بما يكرهانه نصحا لها ودفعا لضيق عيشها مع معاوية وتعريضا لضرب أبي جهم ، فهذا جائز . والذي يظهر لي أنه واجب لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنصح لكل مسلم "(3) اهـ .
وقد ذكر صاحب الإحياء صورة مهمة لا يكمل الصدق في الأقوال إلا بها ، ألا وهي الصدق مع الله سبحانه فيما يناجي العبد به ربه من الألفاظ فيقول : (( يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله تعالى : (( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض)) [الأنعام: 79] فإن قلبه إن كان منصرفا عن الله تعالى مشغولا بأماني الدنيا وشهواتها فهو كذب . وكقوله تعالى (( إِيَّاكَ نَعْبُد)) [ الفاتحة: 5]
وقوله : أنا عبد الله ،فإنه إذا لم يتصف بحقيقة العبودية وكان له مطلب سوى الله لم يكن كلامه صدقا ،ولو طولب يوم القيامة بالصدق في قوله : أنا عبد الله ، لعجز [عن] تحقيقه ،فإنه إن كان عبدا لنفسه أو عبدا لدنيا أو عبدا لشهواته لك يكن صادقا في قوله . وكل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما قال عيسى عليه السلام : يا عبيد الدنيا! وقال نبينا - صلى الله عليه وسلم - : (( تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، وعبد الحلة وعبد الخميصة)) "(4) ، فسمى كل من تقيد قلبه بشيء عبدا له .
وإنما العبودية الحق – لله عز وجل – من أعتق أولا من غير الله تعالى فصار حرا مطلقا ، فإذا تقدمت هذه الحرية صار القلب فارغا فحلت فيه العبودية لله فتشغله بالله وبمحبته وتقيد باطنه وظاهره بطاعته فلا يكون له مراد إلا الله تعالى "(5) ا هـ .
1- الصدق في الأعمال :
__________
(1) رواه الترمذي في البر والصلة (1940) .
(2) متفق عليه .
(3) قواعد الأحكام ص96، 97 للعز بن عبد السلام .
(4) البخاري بنحوه ك الجهاد (2887) / فتح (6/95) .
(5) الإحياء (4/594) .(/80)
وهو استواء الأفعال على الأمر والمتابعة . وأن يجاهد العبد نفسه في أن تكون سريرته وعلانيته واحدة ، وأن لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به حقيقة ، كمن يتظاهر بالخشوع في الظهر والقلب ليس كذلك ، أو يتظاهر بالحرقة على الدين والغيرة على المحارم وهو في الباطن ليس كذلك . والصور كثيرة جدا منها صور الرياء المختلفة ، والقول باللسان ما ليس في القلب . وهذا لا يعني أن يترك المرء الأعمال الصالحة حتى يصلح باطنه ، كلا ، ولكن يجاهد نفسه في أن يستجر باطنه إلى تصديق ظاهره .
يقول صاحب الإحياء : (( إن مخالفة الظاهر للباطن إن كانت عن قصد سميت رياء ويفوت بها الإخلاص ، وإن كانت عن غير قصد فيفوت بها الصدق ، وقال يزيد بن الحارث : إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النصف ، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل ، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور . وقال معاوية بن قرة : من يدلني على بكاء في الليل بسام في النهار "(1) اهـ .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في شرحه لخطاب عمر ? المشهور في إعلام الموقعين :
"وأما قوله : (( ومن بما ليس فيه شانه الله )) لما كان المتزين بما ليس فيه ضد المخلص – فإنه يظهر للناس أمرا وهو في الباطن بخلافه – عامله الله بنقيض قصده ، فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعا وقدرا ، ولما كان المخلص يعجل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس عجل للمتزين بما ليس فيه عقوبته أن شانه الله بين الناس ، لأنه شان باطنه عند الله ، وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته في قضائه وشرعه .
هذا ، ولما كان من تزين للناس بما ليس فيه من الخشوع والدين والنسك والعلم وغير ذلك قد نصب نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضياتها فلا بد أن تطلب منه ، فإذ لم توجد عنده افتضح ، فيشينه ذلك من حيث ظن أنه يزينه ، وأيضا فإنه أخفى عن الناس ما أظهر لله خلافه ، فأظهر الله من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم ، جزاء له من جنس عمله ، وكان بعض الصحابة يقول : أعوذ بالله من خشوع النفاق ، قالوا : وما خشوع النفاق ؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع ، وأساس النفاق وأصله هو التزين للناس بما ليس في الباطن "(2) )) اهـ .
ومن الصدق في الأعمال :
حفظ الأمانة بمفهومها الواسع في الأموال والأولاد والودائع والأعراض وجميع الأوامر والنواهي .. إلخ ، كل هذا إذا صاحبه الإخلاص والتجرد لله عز وجل والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فصاحب العمل من الصادقين الأبرار ، ويدخل في ذلك الوفاء بجميع المعاملات مع الناس في البيع والشراء وتجنب الغش وحب الخير لهم ...إلخ . كل هذا من الصدق في الأعمال . قال تعالى: (( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)) [المؤمنون:8]
4- الصدق في مقامات الدين :
قال صاحب الإحياء في هذه المرتبة :
" وهو أعلى الدرجات وأعزها ؛ الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور . فإن هذه الأمور لها مباد ينطلق الاسم بظهورها ، ثم لها غايات وحقائق ، والصادق المحقق من نال حقيقتها ، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقا فيه ، كما يقال : فلان صادق القتال . ويقال : هذا هو الخوف الصادق ، وهذه هي الشهوة الصادقة .
وقال الله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)) إلى قوله (( أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)) [الحجرات: 15] وقال تعالى : (( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)) إلى قوله: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا)) [ البقرة: 177]
وسئل أبو ذر عن الإيمان فقرأ هذه الآية فقيل له : سألناك عن الإيمان ؟ فقال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فقرأ هذه الآية(3) .
__________
(1) الإحياء (4/598) .
(2) إعلام الموقعين (2/180).
(3) قال محقق الإحياء: رواه محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة بأسانيد منقطعة .(/81)
ولنضرب للخوف مثل: فما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفا ينطلق عليه هذا الاسم، ولكنه خوف غير صادق أي غير بالغ درجة الحقيقة، أما تراه إذا خاف سلطانا أو قاطع طريق في سفره كيف يصفر لونه وترتعد فرائصه ويتنغص عليه عيشه ويتعذر عليه أكله ونومه وينقسم عليه فكره ، حتى لا ينتفع به أهله وولده ، وقد ينزعج عن الوطن فيستبدل بالأنس الوحشة ، وبالراحة التعب والمشقة والتعرض للأخطار ، كل ذلك خوفا من درك المحذور . ثم إنه يخاف النار ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند جريان معصية عليه ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لم أر مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها)) "(1) . فالتحقيق في مثل هذه الأمور عزيز جدا ولا غاية لهذه المقامات حتى ينال تمامها ن ولكن لكل عبد منه حظ بحسب حاله إما ضعيف وإما قوي ، فإذا قوي سمي صادقا فيه"(2) )) اهـ .
* * *
ذكر بعض الآيات الواردة في معنى الصدق وفضله
الآية الأولى :
قال تعالى : (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) [البقرة:177]
يقول الإمام ابن كثير عن قوله تعالى : (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))
: (( أي أن هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في
إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فهؤلاء هم الذين
صدقوا . وأولئك هم المتقون ؛ لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات )) اهـ.
ويقول القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) : (( وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها ، وانهم كانوا جادين في الدين ، وهذا غاية الثناء . والصدق خلاف الكذب . ويقال : صدقوهم القتال . والصديق : الملازم للصدق )) اهـ .
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله عند تفسير هذه الآية كلاما طويلا ومفيدا أنصح بالرجوع إليه في كتابه القيم (( صفوة الآثار
والمفاهيم )) . وأكتفي بما عقب به بعد تفسير هذه الآية الكريمة حيث يقول رحمه الله :
(( فهذه الآية الكريمة - آية البر – جمعت بين الدين والسياسة في بدايتها
ونهايتها ، إذ اشتملت على أصول العقيدة وتكاليف النفس والمال ، وركزت حقيقة منهج الله في الحياة ، فقد ابتدأها الله بالسياسة العالمية وختمها بها : فأولها قوله : (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)) وقد أوضحنا حقيقة الإيمان بالله وأنه مستلزم عبادته الصحيحة المرضية له ، وعبادته مبنية على الحب والتعظيم ، ومحبته لا تتحقق إلا بمحبة ما يحبه ، والسعي لها يعني السعي لمحبوباته ، وبغض ما يبغضه وعدواته والابتعاد عنه ، وأن لا يوالي أحدا من أعدائه أو يسر إليهم بالمودة مهما كانت حالهم أو قرابتهم ، ولا يعادي أحدا من أحباب الله لأي غرض نفسي أو طريقة سياسية ، بل ولا يتخلى عن أهل الله الذين هم أهل ملته ، وإن ابتلوا بحكام يحيدون عن سبيل الله ، فليعامل الشعوب معاملة دينية مرضية لله . فعبادة الله التي هي نتيجة الإيمان ليست مقصورة على إقامة شيء من الشعائر الدينية أو جميعها ، بل هي شاملة لجميع نظام الحياة ، لا يستقيم حب الله وتعظيمه إلا برعايتها حق الرعاية . فتعظيم الله لا يتحقق إلا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه في كل ناحية من شؤون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية . ولا يحصل الإخلال بذلك إلا ممن ضعف إيمانه لنقص حبه لله وتعظيمه ، أو من جاهل لا يعرف معنى عبادة الله ، بل تسيره شياطين الجنوالأنس ، وتعصف بعقله أهازيج الدجاجلة .
ومن اعتقد قصر عبادة الله أو حصرها على الشعائر التعبدية فقط كما
يريده العصريون من قصر الدين على المساجد ونحوها ، فهذا من أجهل
الناس باللغة العربية ، فضلا عن المدلولات الشرعية ، ومن أجهل الناس
بمعاني الألوهية وحقيقة الإيمان بها ، فيكون جميع الكفار من أقوام الرسل
__________
(1) الترمذي بنحوه ك صفة جهنم (2604) / (7/264) .
(2) الإحياء (4/598) .(/82)
الذين أولهم نوح وأخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أعلم منه بمعنى دعوتهم : (( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ )) [المؤمنون: 32 ]
ومن لوازم الإيمان بالله جعل الحاكمية لله وحده ، فلا يحتكم إلى غير شريعته ، لا في الأمور السياسية ولا الاقتصادية ولا الاجتماعية ، لأن من احتكم إلى غير الله في شيء من هذه الشؤون كان رافضا لألوهية الله أو ملحدا في أسمائه ، كالذي يزعم التطور فيبيح ما أحل الله أو يحرم ما أباحه بهذا المزعم الخبيث ، أو يسقط حدود الله باسم الإنسانية ، زاعما أن حدود الله قاسية لا تناسب العصر .
فهذا وذاك قد ألحدوا في أسمائه ، فلم يعتبروه عليما ولا خبيرا ولا محيطا ولا حكيما ولا رحمانا ولا رحيما . وكذلك من يزعم أن سمة العصر أو متطلباته لا يناسبها دين الله ولا شرعه ، وأنهما لا يصلحان للعصر الصناعي المتطور في العلم والحضارة . وكذلك من يجعل لنفسه الخيرة في سلوك ما يشاؤه من أنواع الحكم والعلاقات الداخلية والخارجية ، فإن هذا منازع لله في سلطانه ، بعيد عن الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، فهكذا ابتدأ الله الآية بما هو من لباب السياسة التي توجب على عباده سلوكها في الحياة إيجابا قطعيا لا يجوز لهم تخطيه ، فلا يكون لهم قصد ولا غاية سواه ، ولا يكون لهم ولا يكون لهم نقطة ارتكاز يتجمعون حولها سوى دين الله ، فهو المبدأ الذي يتجمعون عليه ، ويقاتلون من أجله ، ويعيشون من أجله ، ويموتون في سبيله ، ويتجمع حولهم الوجود كله إذا أخلصوا المقاصد وأصلحوا الأعمال ، وأنه لا يجوز أن يكون لهم هدف سوى دين الله وطاعته ، فلم يخلقهم الله سدى وهملا ،يعملون ما يريدون ، وأن من خرج عن هذا فليس من الإيمان في شيء وسياسته شيطانية ، يتعثر بها ،ويشقى بها تابعوه .
ثم ثنى الله في هذه الآية بتكاليف النفس والمال من إيتاء المال حالة حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المفروضة زيادة على ذلك ، كما أوضحناه سابقا .فإن الجمع بين إيتاء الزكاة وبين دفع المال على حبه لتلك الجهات ، مما يحقق الإنسانية ويضمن كرامتها ويرفعها عن البؤس ، ويحفظها من شرور الحقد .
وإقامة الصلاة في الإسلام مظهر لنشاط الإنسان في قواه الثلاثة : جسمه وعقله وروحه ، بتوجهها إلى الله جميعا في ترابط واتحاد ، فقيامه وقعوده وركوعه وسجوده تحقيق لنشاط الجسد ، وتكبيراته بتفهم ، وقراءته بتدبر وتفكير في معانيها ومبانيها ، يتحقق به نشاط العقل ، وتوجهه واستسلامه لله يتحقق به نشاط الروح كلها في وقت واحد ، ففيها تعريف للمصلي بفكرة الإسلام كلها عن الحياة واتجاهها بجميع طاقاتها لله وحده في كل الشؤون .
ثم خم الله الآية أيضا بالسياسة العالمية المتضمنة للوفاء الصحيح بالعهد الذي لا يراه أهل الجاهلية قديما ولا حديثا ولا يتمسكون به إلا وفق أهوائهم ومصالحهم ، وقد كرر القرآن كما أسلفنا وجعله من الإيمان ، لأنه يحصل به إيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد والجماعات والدول والأمم .
ثم الصبر في البأساء والضراء وحين البأس ، وهو من صميم السياسة الإنسانية في الجهاد النفسي الداخلي والخارجي ، وفيه تربية وإعداد للنفوس ، كي لا تذهب حسرات مع أي فاجعة ولا تنهار جزعا في أي نازلة بل تثابر على الصبر والمصابرة ، ثقة بالله وانتظارا لفرجه ، حتى يحصل انجلاء الغمة ويتبدل العسر إلى يسر بإذن الله ورحمته وفضله ، وبذلك قوة ورباطة جأش للنفوس وسلامة من الهزيمة الحسية والمعنوية .
فيالها من آية جمعت أصول الحياة الطيبة السعيدة ، وجعلتها كلها جزءا لا يتجزأ ، ووحدة لا تنفصم عراها ، وطبعتها بعنوان واحد هو ( البر ) .
ولا شك أن هذه الآية خلاصة لمبادئ الإسلام الضرورية التي لا غنى للمسلمين عنها في دينهم ودنياهم والتي يتحقق بتطبيقها صدقهم مع الله وتقواهم له ، ولذلك ختمها الله بقوله : (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )) يعني صدقوا مع الله ومع خلقه في مطابقة أفعالهم لأقوالهم وفي الترجمة عما في قلوبهم من الإيمان أو ما يزعمونه من دعوى الإيمان ، فإن الإيمان ليس بالدعاوى بل بالأعمال التي تبرهن عما في القلب ، وهم المتقون الذين أخذوا لأنفسهم وقاية من الله بامتثال أوامره . فالمتقون هم الذين اتقوا مساخط الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، وأخذوا لأنفسهم وقاية من عذابه . وفي إتيان الله بضمير الفصل بقوله :(/83)
(( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )) حصر للصدق والتقوى على أهل هذه الأوصاف . كما أ، تكرير الله لهذه الواوات في الأوصاف بهذه الآية لاعتبار الجمع . فمن شرائط البر وتمامها أن تجتمع هذه الأوصاف في المؤمن البار ليكون من الصادقين المتقين ؛ ومن أتى ببعضها دون بعض لم يستحق هذا المقام إلا عند استجماعها ، فلا يظن الإنسان أنه إذا صبر حين البأس أو في الضراء والبأساء يكون منهم ، ولا المقتصر على الإنفاق أو على مجرد الإيمان أو مجرد الوفاء بعهد المخلوقين السياسي ؛ فإنه لا يكون منهم ، ولكن الموفي بعهد الله الكلي في معاملته لله معاملة المحب لحبيبه في جميع شؤون الحياة بتطبيق جميع أوامر الشريعة وتنفيذ جميع شعب الإيمان التي منها مضمون هذه الآية ، فهذا يكون من أهل البر الصادقين المتقين – جعلنا الله منهم أجمعين )) اهـ .
الآية الثانية : قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))
[ التوبة:119]
ومن هذه الآية أخذت عنوان هذه الدراسة . وقد جاءت هذه التوجيه الرباني في أعقاب قصة الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عيهم بسب صدقهم فيما اعتذروا به ، وعم كونهم مع المنافقين الذين كذبوا على الله ورسوله .
يقول كعب بن مالك ? ( وهو أحد الذين خلفوا ) : (( وقلت : يا رسول الله ، إما أنجاني الله بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت . فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلاني الله تعالى ، والله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا كذبا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي ، وأنزل الله : (( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار)) – إلى قوله – (( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) [ التوبة:117 -119] ، فو الله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه ، فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد – فقال : (( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ -على قوله – الْفَاسِقِينَ)) [ التوبة:95- 96 ]
يقول القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : (( فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : (( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين .
قال مطرف : سمعت مالك بن أنس يقول : قلما كان رجل صادقا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف .
واختلف في المراد هنا بالمؤمنين والصادقين على أقوال ؛ فقيل : هو خطاب لمن آمن من أهل الكتاب . وقيل : هو خطاب لجميع المؤمنين ؛ أي اتقوا مخالفة أمر الله . (( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) أي مع الذين خرجوا مع النبي- صلى الله عليه وسلم - لا مع المنافقين . أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم . وقيل : هم الأنبياء ؛ أي كونوا معهم بالأعمال الصالحة في الجنة . وقيل : هم المراد بقوله : (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ )) – الآية إلى قوله – (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) . وقيل : هم الموفون بما عاهدوا ؛ وذلك لقوله تعالى : (( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ )) . وقيل هم المهاجرون ؛ لقول أبي بكر
يوم السقيفة ؛ إن الله سمانا الصادقين فقال : (( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ )) الآية ،
ثم سماكم بالمفلحين فقال : (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ)) الآية . وقيل :
هم الذين استوت ظواهرهم و بواطنهم قال ابن العربي : وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى ؛ فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل ، وصاحبها يقال
له الصديق كأبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم على منازلهم وأزمانهم .
وأما من قال : إنهم المراد بآية البقرة فهو معظم الصدق ويتبعه الأقل وهو معنى آية الأحزاب . وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الأقوال كلها ؛ فإن جميع الصفات فيهم موجودة .
الثانية : حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال ،والإخلاص في الأعمال ، والصفاء في الأحوال ، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار ؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: (( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا )) . والكذب على الضد منذلك )) اهـ .
ويشير صاحب الظلال إلى جانب من جوانب الصدق في هذه الآية(/84)
ويربطها بالآيات التي بعدها فيقول رحمه الله تعالى : (( وفي ظل قصة التوبة على الذين ترددوا والذين خلفوا ؛ وفي ظل عنصر الصدق البادي في قصة الثلاثة الذين خلفوا ؛ يجيء الهتاف للذين آمنوا جميعا أن يتقوا الله ويكونوا مع الصادقين في إيمانهم من أهل السابقة ؛ ويجيء التنديد بتخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ، مع الوعد بالجزاء السخي للمجاهدين : (( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) (التوبة:120) (( وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (التوبة:121)
إن أهل المدينة هم الذين تبنوا هذه الدعوة وهذه الحركة ، فهم أهلها الأقربون . وهم الذين آووا رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وبايعوه ؛ وهم الذين باتوا يمثلون القاعدة الصلبة لهذا الدين في مجتمع الجزيرة كله .
وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة وقد أسلمت ؛ وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة .. فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ، وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه .
وحين يخرج رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - - في الحر أو البرد . في الشدة أو الرخاء . في اليسر أو العسر . ليواجه تكاليف هذه الدعوة وأعباءها ، فإنه لا يحق لأهل المدينة ، أصحاب الدعوة ، ومن حولهم من الأعراب ، وهم قريبون من شخص رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ولا عذر لهم في ألا يكونوا قد علموا – أن يشفقوا على أنفسهم مما يحتمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
من أجل هذه الاعتبارات يهتف بهم أن يتقوا الله وأن يكونوا مع الصادقين ، الذين لم يتخلفوا ، ولم تحدثهم نفوسهم بتخلف ، ولم يتزلزل إيمانهم في العسرة ولم يتزعزع ... وهم الصفوة المختارة من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان )) اهـ .
الآية الثالثة : قوله تعالى : (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً)) [الأحزاب:23-24]
ورد في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في أنس بن النضر ?
والذي ضرب أروع الأمثلة في الصدق والوفاء ، ويكفي في إيراد هذا السبب تفسيرا وتعليقا على هذه الآية الكريمة : روى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال : (( قال عمي أنس بن النضر – سميت به – ولم يشهد بدرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكَبُر عليه فقال : أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غبت عنه ، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيَرَيَنّ الله ما أصنع . قال فهاب أن يقول غيرها ؛ فشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد من العام القابل ، فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو أين ؟ قال : واها لريح الجنة ! أجدها دون أحد ؛ فقاتل حتى قتل ، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت عمتي الرُّبَيِّع بنت النضر : فما عرفت أخي إلا ببنانه ، ونزلت هذه الآية (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً )) . هذا لفظ الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح .
الآية الرابعة : قوله تعالى : (( فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ ))
[محمد:21]
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة فيصدقه في عزمه وفي جميع فعله : قال تعالى : (( فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ )) فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل ، فصدق العزيمة جمعها وجزمها وعدم التردد فيها ، بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوم : فإذا صدقت عزيمته بقي عليه صدق الفعل وهو استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه وألا يتخلف عنه بشيء من ظاهره وباطنه . فعزيم القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة ، وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور .(/85)
ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره . وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الإخلاص وصد\ق التوكل ؛ فأصدق الناس من صح إخلاصه وتوكله )) اهـ .
الآية الخامسة : قوله تعالى : (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))
[ الحجرات:15]
يقول سيد رحمه الله حول هذه الآية : (( فالإيمان تصديق القلب بالله ورسوله . والتصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب . التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب ، ولا تهجس فيه الهواجس ، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله .
فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه ، لا بد من دافع لتحقيق حقيقته في خارج القلب . وفي واقع الحياة . وفي دنيا الناس .
يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان ، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة . ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه ، والصورة الواقعية من حوله . لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة .
ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس . فهو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن . يريد أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه ، ليراها ممثلة في واقع الحياة والناس .
والخصومة بين المؤمن وبين الحياة الجاهلية من حوله خصومة ذاتية ناشئة من عدم استطاعته حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني ، وواقعه العملي . وعدم استطاعته كذلك التنازل عن تصوره الإيماني الكامل الجميل المستقيم في سبيل واقعه العملي الناقص الشائن المنحرف . فلا بد من حرب بينه وبين الجاهلية من حوله ، ومتى تنثني هذه الجاهلية إلى التصور الإيماني والحياة الإيمانية .
(( أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ )) .. الصادقون في عقيدتهم . الصادقون حين يقولون : إنهم مؤمنون . فإذا لم تتحقق تلك المشاعر في القلب ، ولم تتحقق آثارها في واقع الحياة . فالإيمان لا يتحقق . والصدق في العقيدة وفي ادعائها لا يكون .
ونقف قليلا أمام هذا الاحتراس المعترض في الآية : (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا )) .. إنه ليس مجرد عبارة . إنما هو لمس لتجربة شعورية واقعية . وعلاج لحالة تقوم في النفس . حتى بعد إيمانها .. (( ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا )) وشبيه بها الاحتراس في قوله تعالى : فعدم الارتياب ، والاستقامة على قوله : (( ربنا الله )) تشير إلى ما قد يعتري النفس المؤمنة – تحت تأثير التجارب القاسية ، والابتلاءات الشديدة – من ارتياب ومن اضطراب . وإن النفس المؤمنة لتصطدم في الحياة بشدائد تزلزل ، ونوازل تزعزع . والتي تثبت فلا تضطرب ، وتثق فلا ترتاب ، وتظل مستقيمة موصولة هي التي تستحق هذه الدرجة عند الله . والتعبير على هذا النحو ينبه القلوب المؤمنة ؟إلى مزالق الطريق ، وأخطار الرحلة ، لتعزم أمرها ، وتحتسب ، وتستقيم ، ولا ترتاب عندما يدلهم الأفق ، ويظلم الجو ، وتناوحها العواصف والرياح ! )) اهـ .
والآيات في معنى الصدق وفضله كثيرة جدا نكتفي بما تم إيراده فيما سبق ، والله نسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
* * *
ذكر الأحاديث والآثار الواردةفي معنى الصدق وفضله
الحديث الأول :
عن ابن مسعود ? عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا ،وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا )) متفق عليه .
فقه الحديث : أفاد الحديث الترغيب في الصدق لأنه سبب ككل خير وتقى ، وأن من تكرر منه الصدق حتى صار له سجية وخلقا في جميع أحواله فهو الصديق الذي له ثواب الصديقين ، كما أفاد التحذير من الكذب لأنه سبب كل شر وأن تكراره من الإنسان يصيره خلقا وسجية حتى يكتب عند الله من الكاذبين . كما أفاد الحديث عاقبة الصدق وهي الجنة ، وعاقبة الكذب وهي النار .
الحديث الثاني : عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال :
حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ؛ فإن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة )) رواه الترمذي وقال : حديث صحيح . قوله (( يريبك )) هو بفتح الياء وضمها : ومعناه اترك ما تشك في حله واعدل إلىما لا تشك فيه .
فقه الحديث : إن الصدق يبعث في النفس الطمأنينة والثقة والثبات والاستقرار وهذه
ثمرة من ثمرات الصدق ، وعكسه الكذب الذي لا يورث إلا الريبة والشك والقلق والاضطراب وعدم الثقة بين الناس .(/86)
الحديث الثالث : عن أبي خالد حكيم بن حزام ? قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما )) متفق عليه .
فقه الحديث : أفاد الحديث فضيلة الصدق في المعاملة وأنه سبب في نماء المال وبركته
وزكاته بخلاف الكذب والغش والكتمان التي تؤدي إلى محق البركة ونقص النماء ، كما يستفاد من الحديث بصورة عامة ثمرة الصدق في كل أنواع التعاملات . ويدخل في ذلك الصدق مع الله عز وجل وأنه سبب قبول الأعمال وبركتها .
الحديث الرابع : عن أبي ثابت ، وقيل أبي سعيد ، وقيل أبي الوليد ، سهل بن حنيف ،
وهو بدري ? أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من سأل الله تعالى الشهادة بصدق
بلغه الله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشه )) رواه مسلم .
فقه الحديث : أفاد الحديث ثمرة النية الصادقة ، وأن من نوى شيئا من أعمال البر أثابه الله عليه ولو قصرت النية عن العمل . والنية الصادقة هي التي لا يشوبها عرض من أعراض الدنيا ولم يصبها التردد والضعف في العزيمة على الوفاء بها . ومثل هذا الحديث ما رواه مسلم عن أنس بن مالك ? أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه )) .
ومثل هذا الحديث الحديث التالي :
الحديث الخامس : عن أبي سعيد الطائي أبي البختري أنه قال : حدثني أبو كبشة الأنماري أنه
سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه . قال : ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر – أو كلمة نحوها – وأحدثكم حديثا فاحفظوه . فقال : إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل به رحمه ، ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء ، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما يخبط في ماله بغير علم ، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقا ، فهو بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته فوزرهما سواء )) .
الحديث السادس : عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم إذ أصابهم مطر ، فأووا إلى غار فانطبق عليهم ، فقال بعضهم لبعض : إنه والله يا هؤلاء لاينجيكم إلا الصدق ، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه . فقال واحد منهم : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز ، فذهب وتركه ، وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته ، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا ، وأنه أتاني يطلب أجره ، فقلت له : اعمد إلى تلك البقر فسقها ، فقال لي : إنما لي عندك فرق من أرز . فقلت له : اعمد إلى تلك البقر ، فإنها من ذلك الفرق . فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا . فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي ، فأبطأت عنهما ليلة ، فجئت وقد رقدا ؛ وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع ، وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي ، فكرهت أن أوقظهما ، وكرهت أن ادعهما فيستكنا لشربتهما ، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر . فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا . فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء . فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وأني قد راودتها عن نفسها فأبت إلا أنآتيها بمائة دينار ، فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها ، فأمكنتني من نفسها ، فلما قعدت بين رجليها فقالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فقمت وتركت المائة الدينار . فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ، ففرج الله عنهم فخرجوا )) .
فقه الحديث : فضل الصدق وأثره في النجاة من الشدائد والكربات ، وأن المؤمن لا
يذكر حينئذ من أعماله إلا ما كان صادقا ، وهو الذب يبقى ثوابه عند الله عز وجل .
الحديث السابع : عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وحسن خليقة ، وصدق حديث
وعفة في مطعم )) . ...
فقه الحديث :
أن من حاز على هذه الفضائل فقد حاز على الخير كله ، وذلك لما في هذه الفضائل من خيري الدنيا والآخرة ، ولو تأملنا في كل هذه الفضائل لرأيناها تنبع من الصدق بمفهومه الواسع لأن الصدق مع الله عز وجل والصدق مع خلقه يقتضي هذه الفضائل وغيرها .
* * *
مواقف صادقة
وفي هذه الفقرة نستعرض بعض المواقف الصادقة التي أثمرها الصدق(/87)
مع الله عز وجل والصدق مع دينه سبحانه ، وهي على سبيل المثال لا الحصر وإلا فمواقف أنبياء الله عز وجل والتابعين لهم بإحسان ملها مواقف صدق وإخلاص وتضحية ، نسأل الله سبحانه أن يحشرنا في زمرتهم وإن قصرت أعمالنا وعزائمنا عنهم قصورا شديدا شديدا ، والمرء مع من أحب إن كان صادقا في حبه لهم صديق الأمة أبو بكر ? : إنه أبو بكر الصديق ? والذي اتسمت حياته كلها بالصدق والإخلاص والتضحية والبذل والمحبة الصادقة لله عز وجل ولنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أجل ذلك استحق هذا اللقب الشريف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي سبق به غيره من المؤمنين ، ومن أجل ذلك فاق إيمانه إيمان الأمة ، وبه فضل على الناس جميعا سوى الأنبياء .
ولا يعني هذا أن ليس في الأمة إلا أبا بكر ? ن كلا ، بل الصديقون في هذه الأمة كثير ، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، ولكن أبا بكر ? قد حاز الكمال في الصديقية ، وكل من وصل إلى رتبة الصديقية فهو دون أبي بكر عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
مثال في صدق العزائم : عن أبي هريرة ? قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( غزا نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، فقال لقومه : لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها ، ولا أحد بنى بيوتا لم يرفع سقوفها ولا آخر اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها . فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك ، فقال للشمس : إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسا علينا ، فحبست حتى فتح الله عليه ، فجمع الغنائم فجاءت - يعني النار – لتأكلها فلم تطعمها ، فقال : إن فيكم غلولا فليبايعني من كل قبيلة رجل ، فلزقت يد رجل بيده فقال : فيكم الغلول ، فلتبايعني قبيلتك ، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده فقال : فيكم الغلول . فجاوءا برأس بقرة من الذهب ، فوضعوها فجاءت النار فأكلتها ، ثم أحل الله لنا الغنائم ؛ رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا )) متفق عليه .
(( الخلفات )) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام : جمع خلفة وهي الناقة الحامل .
أمثلة الصدق مع الله عز وجل في الجهاد والوفاء بالعهد :
أ- قد مضت قصة أنس بن النضر في غزوة أحد وما نزل فيه من القرآن في قوله تعالى : (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ... ))
فليرجع إليها في الآيات الواردة في فضيلة الصدق .
عن شداد بن الهاد أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه ثم قال : أهاجر معك ،فأوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم -بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة غنم النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيا فقسم وقسم له ، فأعطى أصحابه ما
قسم له وكان يرعى ظهرها فلما جاء دفعوه إليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذه فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما هذا ؟ قال :
(( قسمته لك )) ، قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا – وأشار إلى حلقه – بسم فأموت فأدخل الجنة . فقال : (( إن تصدق الله يصدقك )) . فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل قد أصابه سهم حيث أشار ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أهوهو ؟ )) ، قالوا : نعم ، قال : (( صدق الله فصدقه )) ، ثم كفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبته ثم قدمه فصلى عليه ، فكان فيما ظهر من صلاته : (( اللهم هذا عبدك خرج في مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا ، أنا شهيد على ذلك )) .
وفي هذه القصة فضل احتساب جميع الأجر من الله في الآخرة والعزوف عن كل غرض دنيوي يأتي من وراء الدعوة والجهاد .
جـ - البكاءون : وهم الذين جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحملهم معه في
غزوة تبوك فاعتذر منهم بعدم الكفاية في الظهر ، فانصرفوا باكين لا لفوات دنيا ولكن لتخلفهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد معه والفوز بالثواب والأجر العظيم ، فقال تعالى عاذرا لهم : (( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)) (التوبة:92)(/88)
د – ومن ترجمة واثلة بن الأسقع ? : عن محمد بن سعد قال : (( أتى واثلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى معه الصبح . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه . فلما دنا من واثلة قال : من أنت ؟ فأخبره فقال : (( ما جاء بك)) ؟ قال : جئت أبايع . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( فيما أحببت وكرهت)) ؟ قال نعم . قال(( فيما أطقت)) ؟ قال نعم . فأسلم وبايعه . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قال : قد فعلتها ؟ قال : نعم . قال أبوه : والله لا أكلمك أبدا . فأتى عمه فسلم عليه فقال: قد فعلتها ؟ قال : نعم . قال : فلامه أيسر من ملامة أبيه وقال : لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر . فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام . فقال واثلة : أنى لك هذا يا أخية ؟ قالت : سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت . فقال : جهزي أخاك جهاز غاز فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جناح سفر . فجهزته فلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تحمل إلى تبوك وبقي غبرات الناس وهم على الشخوص فجعل ينادي بسوق بني قينقاع : من يحملني وله سهمي؟ قال : وكنت رجلا لا رحلة بي . قال : فدعاني كعب بن عجرة فقال : أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي . فقال واثلة : نعم . قال واثلة : جزاه الله خيرا لقد كان يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي ، حتى إذا بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئا كثيرا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص ، فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت : اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها ، فخرج وهو يبتسم ويقول : بارك الله لك فيها ما حملتك وأنا أريد أن أخذ منك شيئا )) .
هـ - وقال محمد بن المثنى : حدثنا عبد الله بن سنان قال : (( كنت مع ابن المبارك ، ومعتمر بن سليمان بطرسوس ، فصاح الناس : النفير ، فخرج ابن المبارك والناس ، فلما اصطف الجمعان ، وخرج رومي يطلب البراز ، فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله ، حتى قتل ستة من المسلمين ، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ، ولا يخرج إليه أحد ، فالتفت إلي ابن المبارك ، فقال : يا فلان ، إن قتلت فافعل كذا وكذا ، ثم حرك دابته ، وبرز للعلج ، فعالج معه ساعة ، فقتل العلج ، وطلب المبارزة ، فبرز له علج آخر فقتله حتى قتل ستة علوج ، وطلب البراز ، فكأنهم كاعوا عنه ، فضرب دابته ، وطرد بين الصفين ، ثم غاب ، فلم نشعر بشيء ، وإذا أنا به في الموضع الذي كان ، فقال لي : يا عبد الله لئن حدثت بهذا أحدا ، وأنا حي ، فذكر كلمة )) .
و – وعن عبد الله بن قيس ، أبي أمية الغفاري قال : (( كنا في غزاة لنا فحضر عدوهم ، فصاح في الناس ، فهم يثوبون إلى مصافهم ، وإذا رجل أمامي ، رأس فرسي عند عجز فرسه ، وهو يخاطب نفسه ويقول : أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي : أهلك وعيالك ، فأطعتك ورجعت ؟ ألم أِهد مشهد كذا وكذا فقلت : أهلك وعيالك ، فأطعتك ورجعت ؟ والله
لأعرضنك اليوم على الله ، أخذك أو تركك . فقلت : لأرمقنه اليوم . فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم . ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتهم ، ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم ، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم . قال : فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعا . فعددت به وبدابته ستين ، أو أكثر من ستين ، طعنة ))
أمثلة في الصدق مع الخلق :
أ – عن الفريابي : قال حدثني أبو بكر سعيد بن يعقوب الطالقاني ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن هارون بن رئاب ، أن عبد الله بن عمرو لما حضرته الوفاة قال : (( انظروا فلانا – لرجل من قريش – فإني كنت قلت له في ابنتي قولا كشبيه العدة ، وما أحب أن ألقى الله تعالى بثلث النفاق ، وأشهدكم أني قد زوجته )) .
ب- وعن جرير بن عبد الله البجلي ? قال : (( بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم )) . وزاد ابن حبان : (( فكان جرير بن عبد الله إذا بايع أحدا قال : اعلم يا أخي أن ما أخذنا منك خير مما أعطيناك فاختر )) . كل هذا من النصح والصدق للمسلم والصدق مع الناس .(/89)
مثال في الصدق مع النفس : عن جعفر بن برقان قال : (( بلغني عن يونس عبيد فضل وصلاح كتبت إليه : يا أخي بلغني عنك فضل وصلاح فأحببت أن أكتب إليك ، فاكتب إلي بما أنت عليه . فكتب غلي : أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه ، وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها وأن تكره لهم ما تكره لها ؛ فإذا هي من ذلك بعيد ، ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير ؛ فوجدت الصوم في اليوم الشديد الحر بالهواجر بالبصرة أيسر عليها من ترك ذكرهم ، هذا أمري والسلام )) .
مثال في الصدق في قول الحق : قال أبو الفرج ابن الجوزي : (( أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي ، وكان ينزل الأكواخ ، فقال له بلغنا أنك قلت :إذا كان مع الرجل عشرة أسم ، وجب أن يرمي في الروم سهما ، وفينا تسعة ، قال ما قلت هذا ، بل قلت : إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة ، وأن يرمي العاشر فيكم أيضا ، فإنكم غيرتم الملة ، وقتلتم الصالحين ، وادعيتم نور الإلهية ، فشهره ثم ضربه ، ثم أمر يهوديا فسلخه )) . وقال الذهبي في ترجمته لأبي بكر النابلسي : (( قال أبو ذر الحافظ : سجنه بنو عبيد ، وصلبوه على السنة ، وسمعت الدار قطني يذكره ، ويبكي ، ويقول : كان يقول وهو يسلخ (( كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً)) (الاسراء: من الآية58)
مثالان في الصدق مع الله عز وجل في الثبات على الإيمان والصبر على البلاء :
أ – قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام : وفي هذه القصة من الصدق والإيمان الحق الشيء العظيم ، فإن شئت رأيت ذلك في الراهب الذي قطع بالمنشار ليرجع عن دينه فلم يرجع ، وإن شئت رأيت ذلك في جليس الملك الذي فعل به ما فعل بالراهب ، وإن شئت وجدت ذلك في الغلام الذي هدد بجميع أصناف القتل فاستعلى على ذلك وأنجاه الله ، حتى إذا أن في قتله إيمان الناس من حوله فتح ذراعيه للقتل باذلا نفسه لربه عز وجل ، وإن شئت وجدت ذلك الصدق العظيم في المؤمنين الذين حرقوا بالنار ليرجعوا عن دينهم فاستعلوا على ذواتهم وعلى الحياة بأسرها وأقدموا على النيران المتأججة ليسقطوا فيها فداء لدينهم وشراء لرضوان الله عز وجل وجنته . والقصة طويلة أوردها الإمام في الحديث ( 3005 ) في كتاب الزهد والرقائق ، نقتطع الشاهد منها ، وذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى . فدعا بالمئشار . فوضع المئشار في مفرق رأسه . فشقه حتى وقع شقاه . ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك فأبى . فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه . ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك فأبى . فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا . فاصعدوا به الجبل . فإذا بلغتم ذروته ، فإن رجع عن دينه ، وإلا فاطرحوه . فذهبوا به فصعدوا به الجبل . فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت . فرجف بهم الجبل فسقطوا . وجاء يمشي إلى الملك . فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله . فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به في قرقور ، فتوسطوا به البحر . فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه . فذهبوا به . فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت . فانكفأت بهم السفينة فغرقوا . وجاء يمشي إلى الملك . فقال له الملك : ما فعل اصحابك ؟ قال كفانيهم الله . فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به . قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد . وتصلبني على جذع . ثم خذ سهما من كنانتي . ثم ضع السهم كبد القوس . ثم قل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارمني ؛ فإنك إن فعلت ذلك قتلتني . فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ، ثم قال بسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات . فقال الناس : آمنا برب الغلام . آمنا برب الغلام . آمنا برب الغلام . فأتي الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك ؛ قد آمن الناس . فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران ، وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها . أو قيل له اقتحم . ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها ؛ فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أمه اصبري ، فإنك على الحق )) .
ب – ماشطة ابنة فرعون :(/90)
عن ابن عباس ? أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لما كانت الليلة التي أسري بي فيها وجدت رائحة طيبة فقلت : ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل ؟ قال : هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها قلت : ما شأنها ؟ قال : بينما هي تمشط بنت فرعون ذات يوم إذ سقط المدرى من يدها ، فقالت : بسم الله ، قالت بنت فرعون : أبي ؟ فقالت : لا ولكن ربي ورب أبيك الله ، قالت : أخبره بذلك ؟ قالت نعم ، فأخبرته فدعاها ، وقال : يا فلانة وإن لك ربا غيري ؟!! قالت : نعم ربي وربك الله ، فأمر ببقرة من نحاس فأحميت ثم أمر أن تلقى هي وأولادها فيها ، قالت له : إن لي إليك حاجة ، قال : وما حاجتك ؟ قالت : أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا ، قال : ذلك لك علينا من الحق ، قال : فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحدا واحدا ، إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مرضع وكأنها تقاعست من أجله ، قال : يا أمه اقتحمي ؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فاقتحمت )) .
من علامات الصدق
إن للصدق علامات ومظاهر تنفي ضدها ، وإذا لم توجد أو كانت
ضعيفة فإن ذلك دليل على ضعف الصدق وتسلط العوائق عليه . ومن هذه العلامات ما يلي :
طمأنينة القلب واستقراره : عن الصدق في جميع الأحوال – باطنها وظاهرها – يورث الطمأنينة والسكينة في القلب ، وينفي عنه التردد والريبة والاضطراب التي لا توجد غلا في حالات الشك وضعف الصدق أو عدمه . وقد مر بنا في الأحاديث السابقة قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة )) ، فإذا وجدنا الطمأنينة وعدم الريبة فإن هذا علامة على وجود الصدق عن شاء الله تعالى .
ومن علامات هذه الطمأنينة الثبات في المواقف التي يختبر فيها الإيمان ،والصبر على البلاء ، والتسليم لله عز وجل . يقول الله تعالى في الثناء على أهل الصدق يوم الأحزاب : (( وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) (الأحزاب:22)
وفي مقابل هذه الصورة الوضيئة يصف الله سبحانه أهل الكذب والريبة والنفاق في يوم الأحزاب ، فيقول تعالى : (( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ....)) (الأحزاب : 19) ،
وهذه الحالة من الخوف والاضطراب إنما نشأت من الكذب والنفاق والريبة التي أفرزت انزعاج القلب وتقلبه وعدم استقراره .
وقد مر بنا في المواقف الصادقة قصة أصحاب الأخدود وغلامهم وغيرهم حيث ثبتوا على الأهوال والشدائد وباعوا أنفسهم لله عز وجل ، وليس ذلك إلا من الإيمان الحق والصدق العظيم الذي أورث طمأنينة القلب وشجاعته ، وهكذا يفعل الصدق بالقلوب . وينقل ابن القيم رحمه الله تعالى كلاما لشيخ الإسلام حول هذا المعنى نقتطف منه ما يلي : قال تعالى : (( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)) (الروم:60).
فإن الخفيف لا يثبت بل يطيش وصاحب اليقين ثابت . يقال : أيقن إذا كان مستقرا ، واليقين استقرار الإيمان في القلب علما وعملا ؛ فقد يكون علم العبد جيدا ، لكن نفسه لا تصبر عند المصائب بل تطيش . قال الحسن البصري : إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته ، وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته ، فإذا رأيت بصيرا صابرا فذاك . قال تعالى : (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ))
(السجدة:24) .
2- الزهد في الدنيا والتأهب للقاء الله عز وجل : ومن علامات طمأنينة القلب – النابعة عن الصدق – انشراحه وزهده في الدنيا والتأهب للآخرة قال تعالى : (( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ )) (الأنعام:125) لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن انشراح الصدر فقال : (( نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسخ )) ، وقيل : وهل لذلك أمارة ، قال : (( نعم ،الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت )) .(/91)
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في طريق الهجرتين كلاما بديعا حول حقيقة الاستعداد للقاء الله عز وجل وعلامة الصدق في ذلك فقال : (( ( فصل ) صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته ، فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها ، وخمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبت قلبه إلى الله ، وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته . إلى أن يقول : والمقصود أن صدق التأهب للقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه ، من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح ، فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله ، والمفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه .
ثم يقول رحمه الله تعالى : وإذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم ، وقد وفر عليه زمانه مبتغيا به وجه الله ، فلا يزال كذلك عاكفا على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له فيها الفتح الخاص أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته ، قال تعالى : (( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)) (النساء: 100) ، وقد حكى عن جماعة كثيرة ممن أدركه الأجل وهو مريض طالب للقرآن أنه رئي بعد موته وأخبر أنه في تكميل مطلوبه وأنه تعلم في البرزخ ، فإن العبد على ما عاش عليه .
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله ، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر . ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة ، فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها اظلم عليه وقته وضاق صدره . ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي ، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قد فتح له في هذا وسلك منه طريقا على ربه .
ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى افطر تغير عليه قلبه وساءت حاله ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القران وهي الغالب على أوقاته وهي أعظم أوراده ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة
ومراعاة الخواطر وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله في كل واد الواصل إليه من كل طريق فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها اين كانت ويسير معها حيث سارت قد ضرب مع كل فريق بسهم فاين كانت العبودية هناك ان كان علم وجدته في القانتين ،أو ذكر وجدته في الذاكرين ، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين ، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين ، يدين بالعبودية أنى استقلت ركائبها ، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها ، ولو قيل له : ما تريد من الأعمال ؟
لقال : أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت ، جالبة ما جلبت ، مقتضية ما اقتضت ، جكعتني أو فرقتني ، ليس لي مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبا له فيها عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن ، قد سلمت إليه المبيع منتظرا منه تسليم الثمن )) اهـ .
مما سبق يتبين لنا أن الصادق مع الله عز وجل لا يراه إلا متأهبا للقاء ربه مستعدا لذلك بالأعمال الصالحة والقيام بأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه ، يريد بذلك وجه الله عز وجل متبعا في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
3 – سلامة القلب :
إن من علامة الصدق سلامة القلب وخلوه من الغش والحقد والحسد للمسلمين ، فالعبد المؤمن الصادق في إيمانه لا يحمل في قلبه غلا للمؤمنين ولا شرا ، بل إن حب الخير والنصح للمسلمين هو طبعه وعادته . وهذه الحالة القلبية تظهر علاماتها على الأعمال وذلك بتجنب الظلم والعدوان والاستطالة على الأعراض والحرص على العدل والقسط مع الناس،والانطلاق بما في الوسع لقضاء حاجات المسلمين ، وإغاثة ملهوفهم ودفع الظلم عنهم ، والحزن على مصابهم والفرح لفرحهم . إن كل هذه الخلال يفرزها سلامة القلب والذي هو بدوره علامة من علامات الصدق . وهذه الحالة تفرز أيضا علامة أخرى من علامات الصدق ألا وهي : محبة الناس لمن هذه حاله فيصبح مألوفا لهم ؛ لأنه صدق معهم فألفهم وألفوه وتواضع لهم فأحبوه ، وهذا مصداق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( المؤمن مؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف )) .(/92)
4 – حفظ الوقت وتدارك العمر : إن الصادق في إيمانه لا تجده إلا محافظا على وقته شحيحا به ، لا ينفقه إلا فيما يرجو نفعه في الآخرة ، ينظر إلى العمر كله كأنه ساعة من نهار وإلى
الدنيا كأنها ظل شجرة نزل تحتها ثم قام وتركها ، فبادر بالأعمال الصالحة في فراغه وصحته وشبابه وحياته ، وابتعد عن كل آفة تقطع عليه طريقه وتضيع عليه وقته وتبدد عليه عمره القصير بما لا ينفع .
يقول الشيخ سفر وفقه الله تعالى :
(( فإذا عرف العبد أن الحياة ما هي إلا أنفاس تتلاحق ودقائق تتسابق وأنه لو أحصى حظه منها لوجده ينقص كثيرا عن عمر بعض الطيور والزواحف والأشجار فضلا عن أعمار الكواكب والنجوم فضلا عن عمر الكون كله فضلا عن مدى عالمي الغيب والشهادة مجتمعين .. وعلم مع هذا أنه مخلوق لحكمة واضحة وغاية محددة هي عبادة ربه سبحانه وحده لا شريك له ،
فلا بد أن يحرص أشد الحرص على حفظ الوقت ، وإشغاله بالعبودية وإعمال البدن في الطاعة وإلا اعتراه النقص في إيمانه بقدر ما يعتريه من نقص فيذلك )) .
وهذا ليس نقصا وحسب بل هو تأخر وانقطاع لأنه (( إن لم يكن في تقدم فهو في تأخر ولا بد ؛ فالعبد سائر لا واقف ؛ فإما إلى فوق وإما إلى أسفل ، وإما إلى الأمام وإما إلى وراء ، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة ، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار ؛ فمسرع ومبطئ ، ومتقدم ومتأخر ، وليس في الطريق واقف البتة ؛ وإنما يتخالفون في جهة السير وفي السرعة والبطء (( إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ . نَذِيراً لِلْبَشَرِ. لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ )) (المدثر:35-37) ، ولم يذكر واقفا ؛ إذ لا منزل بين الجنة والنار ولا طريق لسالك إلى غير الدارين ألبتة ، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة )) اهـ .
5 – الزهد في ثناء الناس ومدحهم بل و كراهة ذلك :
ويتبع ذلك الزهد فيما عند الناس والقناعة بما كتب الله عز وجل ، وهذه الصفة إذا وجدت فهي علامة على الصدق والإخلاص وهي تنبع أصلا من صحة المعتقد وكمال التوحيد لله عز وجل .
وحول هذه الصفة والوصول إليها يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحنة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس ، إلا كما يجتمع الماء والنار ، والضب والحوت ، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فأذبحه بسكين اليأس ، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة ، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص ؛ فإن قلت : وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح ؟ قلت : أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه .
وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده ، كما قال ذلك الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن مدحي زين وذمي شين ، فقال : (( ذلك الله عز وجل )) .
فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه ، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه . ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب . قال تعالى : (( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)) (الروم:60) ، وقال تعالى : (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ )) (السجدة:24)
6 – تصيق القول بالفعل وموافقة الظاهر الباطن :
يقول الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)) (الصف:2-3) ، فإذا وجدت تطابق القول مع الفعل عند أحد فهذا من علامة الصدق إن شاء الله ، وهذا مرتبط بموافقة الظاهر للباطن والسريرة للعلانية ؛ فإذا أمر بأمر كان أول الفاعلين له ، وإذا نهى عن شيء كان أول المنتهين عنه ، وإذا يكلم بأمر فهو الذي في قلبه وليس من الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .(/93)
ذكر الذهبي رحمه الله تعالى في السير في ترجمة الحسن البصري : (( عن عبد الصمد بن عبد الوارث : حدثنا محمد بن ذكوان ، حدثنا خالد ابن صفوان ، قال : لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال : يا خالد ، أخبرني عن حسن أهل البصرة ؟ قلت : أصلحك الله ، أخبرك عنه بعلم ، وأنا جاره إلى جنبه ، وجليسه في مجلسه ، وأعلم من قبلي به : أشبه الناس سريرة بعلانية ، وأشبهه قولا بفعل ، إن قعد على أمر قام به ، وإن قام على أمر قعد عليه ، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به ، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له ، رأيته مستغنيا عن الناس ، ورأيت الناس محتاجين إليه ، قال : حسبك ، كيف يضل قوم هذا فيهم ؟ ! )) .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تعليقه على قول عمر بن الخطاب ? : (( فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه )) : (( إشارة إلى أنه لا يكفي قيامه في الحق لله إذا كان على غيره ، حتى يكون أول قائم به على نفسه ، فحينئذ يقبل قيامه على غيره ، وإلا فكيف يقبل الحق ممن أهمل القيام به على نفسه )) .
7 – الصدق في الحديث :
ولعل هذه العلامة من أبرز علامات الصدق الظاهرة على اللسان . والذي يصدق فيما يخبر به من أمور ماضية ، ويصدق فيما يعد به من أمور مستقبلة ، ويأتي حديثه مطابقا لواقع الأمر ؛ إن مثل هذا يكون في العادة صادقا في أموره الأخرى إذا أراد التقرب بذلك لله عز وجل وقد مر بنا الحديث المشهور (( وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا .... الحديث )) .
ومما يرتبط بالصدق في نقل الأخبار التثبت في نقلها ، وعدم العجلة في تلقف الأخبار دون تمحيص وتبين ، واتباع الظن . قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ... الآية )) (الحجرات: 6) ، كما أن الصدق في الحديث يستلزم مجانبة الظنون كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث )) .
كما أن من علامات صدق الحديث : قلة الكلام وعدم التحدث بكل ما يسمع قال - صلى الله عليه وسلم - : (( كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع )) . كما أن من علامة الحرص على صدق الحديث عدم الدخول فيما لا يعني قال صلى الله عليه وسلم : (( من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه )) .
8– إخفاء الأعمال الصالحة وكراهة الظهور :
إن من علامة صدق العبد فيما يعمله لله عز وجل حرصه على إخفاء عمله وكراهة اطلاع الناس عليه ، كما أن كراهة الشهرة والظهور علامة من علامات الصدق الذي يبعد صاحبه عن الرياء والسمعة والتصنع للخلق ، فكلما كان العبد صادقا مع ربه عز وجل كان حريصا على إخفاء أعماله حيثلا يطلع عليها إلا الله عز وجل الذي يسمع ويرى ويجازي على الحسنة بعشر
أمثالها . وإن حياة سلفنا الصالح مليئة بهذه النماذج الوضيئة نذكر منها ما يلي :
عن بكر بن ماعز قال : ما رئي الربيع متطوعا في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة .
وعن سفيان قال : أخبرتني سرية الربيع بن خثيم قالت : كان عمل الربيع كله سرا ؛ إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه .
وعن منذر ، الربيع بن خثيم قال : كل مالا يبتغى به وجه الله عز وجل يضمحل .
وعن أبي حمزة الثمالي قال : كان علي بن الحسين يحمل جراب
الخبز على طهره بالليل فيتصدق به . ويقول : (( إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل )) .
وعن عمرو بن ثابت ، قال لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره ، فقالوا ما هذا ؟ فقالوا : كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء المدينة .
وقال عبد الله بن المبارك بن فضالة عن الحسن قال : إن كان الرجل لقد القرآن وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس ،وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به ، ولقد أدركت أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول : (( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً))
(الأعراف : 55 ).
9 – الشعور بالتقصير والانشغال بإصلاح النفس ونقدها أكثر من الآخرين : إن من أخطر ما على النفوس أن ينشغل العبد بغيره بالنقد والتقويم ونسى نفسه والتفتيش عن عيوبها وهذا – وللأسف – كثير عندنا في زماننا هذا .
وإن من علامات صدق العبد مع ربه ومع نفسه أن ينشغل بنفسه وإصلاحها وتقويمها أكثر مما يعطيه لغيرها ، وإذا وجدت هذه الصفة نتج عنها المحاسبة للنفس والتربية والتزكية لها ، كما ينتج عن ذلك أيضا احتقار النفس في ذات الله عز وجل والنظر إليها بعين التقصير في جنب الله ، وبالتالي تنتفي صفات العجب والغرور والاعتداد بالنفس ، وعلى هذا فلا يجتمع الصدق(/94)
والعجب في قلب المؤمن أبدا . كما أن هذه الصفة تطهر القلب من الحقد على المسلمين وتصيد أخطائهم وعثراتهم ، والتفكه بذلك في المجالس بحجة الدعوة وبيان الأخطاء والتحذير منها . وهاهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في محاسبتهم لأنفسهم ، واستصحابهم الشعور بالتقصير وسوء الظن بالنفس ، واستعظام الهفوة حتى أهم يرون ما ليس بذنب ذنبا .
عن عتبة بن غزوان ? – في حديث عظيم له – (( ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا ، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها ، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار ، وأني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وعند الله صغيرا .. )) .
وعن إبراهيم أن أباه عبد الرحمن بن عوف ? أتي بطعام وكان صائما فقال : (( قتل مصعب بن عمير – وهو خير مني – كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي رجلاه بدا رأسه – وأراه قال : وقتل حمزة _ وهو خير مني - ، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط ، أو قال : أعطينا من الدنيا
ما أعطينا ، وقد خشي أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا . ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام )) .
10 – الاهتمام بأمر هذا الدين والجهاد في سبيل الله عز وجل : إن الصدق في محبة الله عز وجل ومحبة دينه تقتضي أن يكون أمر هذا الدين هو شغل المؤمن الشاغل ؛ حيث لا يقر له قرار ولا يهدأ له بال وهو يرى دين الله عز وجل ينتهك ويقصى من الحياة ، وبالتالي يرى الفساد المستطير يدب في أديان الناس ودمائهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم ، إن المؤمن الصادق الإيمان لا يقدم على هذا الهم الأكبر أي اهتمام من أمور الدنيا الفانية .
ولكن إلى الله نشكو حالنا وضعف إيماننا وركوننا إلى دنيانا ؛ حيث إننا إذا رجعنا إلى قلبنا وفتشنا عن الاهتمامات التي تملؤها ؛ لم نجد عند أكثرنا – ويا للأسف – إلا اهتمامات دنيوية بحتة هي التي تحتل الأرقام الأولى في تفكيرنا : فمنا من همه الأول منصب يحصل عليه ، ومنا من همه شهادة يتسلمها ليعيش بها ، ومنا من همه زوجته وأولاده أو تجارته وأمواله
... إلخ . من هذه الاهتمامات الفانية . ثم إن كان هناك فضول تفكير واهتمامات جاء أمر هذا الدين والدعوة إليه بعد الاهتمامات السابقة ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف الصدق عندنا في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك ، وحدوده تضاع ، ودينه يترك ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يرغب عنها ، وهو بارد القلب ، وساكت اللسان ، شيطان أخرس ، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين ؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد ، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه ، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم – قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون ؛ وهو موت القلوب ؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى ، وانتصاره للدين أكمل )) اهـ .
11 – التميز :
إن التميز في حياة المؤمن أمر ضروري جدا خاصة في عصور الغربة وطغيان أعمال الجاهلية والحياة المادية على حياة الناس . وإن من علامة الصدق في التمسك بهذا الدين والعض عليه ؛ أن يتميز المسلم بالتمسك والقبض على دينه عقيدة وسلوكا ، وأن لا يتميع في دينه وينصهر مع المتفلتين منه تحت وطأة الفساد وضغوط الواقع ومسايرة المجتمع . نعم ، إن المسلم الصادق يعرف بتميزه وإصراره على دينه بين الناس ، فيعرف بصحة معتقده عند فساد المعتقدات ، وبالتزامه بالسنة عند فشو المبتدعات ، وبصدق إيمانه إذا فشا الكذب والنفاق ن وبعبادته إذ الناس يلهون ويلعبون ، وبأخلاقه إذا أهدرت الأخلاق وضيعت ، وبالصدق في المعاملات إذا فشا الغش والخيانة والغدر ، ويعرف بصمته إذا كثر الخوض والقيل والقال ، وبمحاسبة نفسه وتهذيبها إذا خاض الناس بعضهم في بعض ، وبدعوته وجهاده في سبيل الله عز وجل إذا أقبلت الدنيا على أهلها وغرقوا في لججها ... إلخ صور التميز التي يقتضيها الصدق والإخلاص . ولا شك أن المعاناة ستكون شديدة لكنها محمودة العواقب في الدنيا والآخرة . وهذه هي صفات الغرباء الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( طوبى للغرباء)) ؛ أناس صالحون في أناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم )) . (( والحقيقة أن قلب الصادق شديد الحساسية فلا يحتمل هؤلاء المثبطين ؛ ولهذا فهو يضيق بهم ولا يستطيع مجاورتهم ولا مصاحبتهم ولا مجالستهم . إنه ينشرح صدره ويهش لمن يشوقه إلى الإسراع إلى الله والدعوة إليه )) .
12 – قبول الحق والتسليم له :(/95)
إن من علامات الصدق لدى المسلم إذعانه للحق وقبوله من أي جهة كانت ، فالصادق لا يراه إلا باحثا عن الحق الذي يتعبد به لربه عز وجل ويقربه إلى مولاه ، وإذا بان له الدليل ولاح له الحق فرح به ووجد فيه بغيته ، ولا يرده أبدا مهما كان قائله : صغيرا كان أو كبيرا ، عدوا كان أو صديقا .
وإذا وجدت هذه الصفة الكريمة عند المسلم وصارت من عادته وأخلاقه فإنها تنفي كثيرا من الصفات الذميمة مثل : الكبر والاستعلاء والتعصب للآراء والتحزب للأشخاص والهيئات ، كما أنها تورث المحبة والألفة بين أهل العلم والدين ، وتورث الاجتماع والائتلاف وتنفي الفرقة والاختلاف .
كما أن قبول الحق والتمسك به يقتضي القول به والدعوة إليه دون لبس أو تردد ؛ فالصادق لا تراه إلا صادعا بالحق لا يخاف في الله لومة لائم ولا يجامل ويداهن في ذلك ، ولا تصده رغبة ولا رهبة عن قول الحق ، كما أن محبته للصدق وقول الحق يجعله لا يمدح أحدا بما ليس فيه ، ولا يبخس الناس أشياءهم وحقوقهم ؛ فلا يدفعه حبه لشخص ما أن يدفن عيوبه أو يبررها ، كما لا يدفعه بغضه لشخص أن يدفن محاسنه أو يسيء الظن بها ، وإنما رائده في ذلك كله الصدق والعدل والإنصاف .
* * *
بعض الوسائل الجالبة للصدق
إن معرفة الوسائل الجالبة للصدق لا تكفي وحدها لجلب الصدق ما لم يصاحبها الصدق في طلب الصدق ، فمتى علم الله سبحانه صدق عبده في التوجه إليه هداه لذلك . قال تعالى : (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ))
[ العنكبوت: 69 ]
ومن هذه الوسائل :
توحيد الله عز وجل وصحة المعتقد :عن توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة هو الغاية التي خلقنا الله من اجلها ، وهو أول واجب على المكلف ، وإن تحقيق التوحيد وتصحيح المعتقد
هو الذي يجلب الصدق والإخلاص للعبد ، فكلما تحقق التوحيد منه ظهر الصدق في حياته جليا واضحا ؛ لأن أكثر ما يوقع المرء في الكذب والنفاق هو الخوف من المخلوق أو الطمع فيما عنده . وبمعنى آخر : هو التعلق بغير الله عز وجل رغبة ورهبة . فإذا صح التوحيد وتعلق العبد بالله وحده في كل أموره ؛ فإن مظاهر الكذب والنفاق تختفي من حياته لأنه قد وجه وجهه لله وحده خوفا ومحبة ورجاء وتعظيما .
وإن حقيقة التوحيد لا توجد إلا بأن يعرف العبد ربه حق المعرفة بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، كما عرفنا هو سبحانه بنفسه وعرفه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، لا كما عرفه أهل الأهواء والبدع ، وبالتالي يذعن بقلبه وقالبه لربه فيمتلئ القلب بالمحبة والإجلال والخضوع والإخلاص والصدق وبقية أعمال القلوب ، ويظهر مصداق ذلك على استسلام الجوارح وانقيادها لطاعة الله عز وجل ؛ وبذلك يتوزع الصدق على قلبه ولسانه وجوارحه .
وإن معرفة الله عز وجل وتوحيده لا بد لها من العلم الشرعي والفقهالصحيح لهذا الدين ؛ حتى تتم عبادة الله عز وجل على بصيرة واتباع لا على عماية وابتداع ن ومن هنا نقول أيضا : إن العلم الشرعي وسيلة هامة من الوسائل الجالبة للصدق .
2 – الإيمان باليوم الآخر واليقين بلقاء الله عز وجل :
إن المؤمن حقا باليوم الآخر وبالحساب والجزاء وبالجنة والنار لا تراه إلا صادقا في جميع أموره ، وغن حصل منه كبوة فسرعان ما يقلع عنها بالتوبة والاستغفار ؛ لأن من أيقن بالوقوف بين يدي ربه عز وجل والإحصاء الدقيق لكل أقواله وأعماله وأحواله وعرضها على الله عز وجل يوم القيامة ؛ سوف يكون حذرا في الدنيا وسوف تنصبغ حياته بالصدق ؛ لأنه يوقن أنه لا ينفع يوم القيامة غلا الصدق ن قال تعالى : (( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ))
[ المائدة: 119]
إن الإيمان باليوم الآخر وملاقاة الله عز وجل هو الذي دفع المؤمنين لطاعة ربهم ، وهو الذي دفع المجاهدين في سبيل الله عز وجل لبذلوا أنفسهم وأموالهم رخيصة لربهم عز وجل ، ولولا صدق هذا الإيمان لما كانت هذه التضحيات وهذه البطولات الصادقة ، قال تعالى : (( لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) [ التوبة:44-45] .
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى : ((هذه هي القاعدة التي لا تخطئ . فالذين يؤمنون بالله ، ويعتقدون بيوم الجزاء ، لا ينتظرون ان يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد ؛ ولا يتلكأون في(/96)
تلبية داعي النفرة في سبيل الله بالأموال والأرواح ؛ بل يسارعون إليها خفافا وثقالا كما أمرهم الله ، طاعة لأمره ، ويقينا بلقائه ، وثقة بجزائه ، وابتغاء لرضاه . وإنهم ليتطوعون تطوعا فلا يحتاجون إلى من يستحثهم ، فضلا عن الإذن لهم . إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكأون ويتلمسون المعاذير ، لعل عائقا من العوائق يحول بينهم وبين النهوض
بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها ، وهم يرتابون فيها ويترددون .
إن الطريق إلى الله واضحة مستقيمة ، فما يتردد ويتلكأ إلا الذي لا يعرفالطريق ، أو الذي يعرفها ويتنكبها اتقاء لمتاعب الطريق ! )) اهـ .
وقد مر بنا في قصة بني إسرائيل الذين قاتلوا مع طالوت أن الذين ثبتوافي النهاية وحثوا قومهم على الثبات ؛ هم الذين أيقنوا بلقاء الله عز وجل في الدار الآخرة ، قال تعالى : (( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [البقرة: 249].
3 – التخفف من الدنيا وعدم الركون إليها :
إن التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله ، كل هذا من الوسائل المهمة في إنشاء الصدق في حياة المسلم والعكس صحيح ؛ فالانغماس في ملذات الدنيا وترفها والركون إليها ينتج عنه غفلة عن الآخرة وينشأ عنه تشتت القلب في أوديتها وإعمال الفكر للاستزادة منها والخوف على فواتها ، وهنا يضعف الصدق لشحن القلب بها . كما أن ضعف الصدق ينشأ أيضا من مظاهر الكذب والتدليس والطمع والجشع والمعاملات المحرمة والتي قل من يسلم منها من أهل الدنيا ، وخاصة واقعنا المعاصر والذي كثرت فيه المعاملات المحرمة والشبهات والكذب والغش والجشع .
4 – مصاحبة الصادقين :
إن في صحبة الصادقين من المؤمنين نفعا عظيما لمن صاحبهم وخالطهم وهذا شيء معروف ومجرب ؛ فالإنسان تؤثر فيه البيئة التي يعيش فيها والخلطاء الذين يخالطهم . وهذا هو ما يسميه المربون وعلماء النفس التربية بالقدوة ؛ لأن رؤية القدوات الصادقة لا بد أن تؤثر فيمن صاحبهم – إذا كان أهلا للخير - ، والعكس صحيح فصحبة المنافقين والكذابين والدجالين لابد
أن تظهر صفاتهم على من صاحبهم . قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) [التوبة:119] ، فالكون مع الصادقين طريق إلى الصدق والاتصاف بصفاتهم والتحلي بأخلاقهم ، وهم الذين ظهرت عليهم علامات الصدق التي أشرنا إليها في المبحث السابق .
قال يوسف الواعي في سلوك المسلم : (( العيش مع الصادقين نعمة لا ينالها إلا كل سعيد ، ومخالطتهم هناء لا يحظى به إلا كل موفق ، ومصاحبتهم أمان لا يحسه إلا أصحاب البصائر
والنهى ؛ لأن للكذابين ضمائر خربة وذمما ملوثة ، لا يؤمن لهم جانب ، أو يطمأن إلى قولهم أو يؤنس إلى فعلهم ، فمن سمات الصادقين ، شفافية ووضوح ، ونقاء وطهر ، ورجولة ووفاء ، ومن علامات الصدق طمأنينة القلب إليه )) اهـ .
وقد روي عن عمر بن الخطاب ? أنه قال : (( لولا ثلاث لما أحببت البقاء : لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله ، ومكابدة الليل ، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر )) . وقال أيضا :
(( اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون ، فإنهم تجلى لهم أمور صادقة ، وذلك لقرب قلوبهم من الله )) .
كما يدخل في هذه الوسيلة الإكثار من قراءة سير الصالحين الصادقين من أنبياء الله الكرام وصحبهم الأجلاء والتابعين لهم بإحسان ؛ فإن في ذلك تربية بالقدوة والسير على آثارهم .
5 – النظر في عاقبة الصدق :
إنه يكفي لجلب الصدق والتخلق به أن ننظر في عاقبته الحميدة في الدنيا والآخرة ؛ ففي الدنيا تحصل منه البركة والنماء في الأموال كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما )) ، كما أن فيه النجاة من مضايق الدنيا وشدائدها كما سبق في حديث الثلاثة أصحاب الغار ، كما أ، فيه كسب محبة الناس وتقديرهم ، وغير هذا كثير في الدنيا . أما في الآخرة فيكفي أن نعلم أنه لا ينفع من الأعمال والأقوال عند الله عز وجل يوم القيامة إلا ما كان فيه الصدق والإخلاص ، وأما ما سوى ذلك فيذهب أدراج الرياح ولا يكون حظ صاحبه منه إلا التعب والسهر . قال تعالى : (( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )) [ المائدة: 119] ، وقال
عز وجل : (( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ )) [الأحزاب: 24] ، والآيات في
هذا المعنى كثيرة . والمقصود أن من أعظم الوسائل الجالبة للصدق هو استشعار هذا الأمر ،(/97)
وتحري الصدق في كل الأحوال حتى يربح العبد ثواب الله عز وجل ، ويحرص أشد الحرص على تجنب ما يفسدها مما ينافي الصدق ، فتضيع عليه أعماله في يوم أشد ما يكون حاجة إلى حسنة واحدة يرجح بها ميزانه .
6 – الإكثار من الأعمال الصالحة وإخفاء ما يمكن منها أن الإكثار من الأعمال الصالحة وخاصة المخفي منها يعتبر من الوسائل التي يتوصل بها إلى الصدق والإخلاص ، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي : (( وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى احبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها .... الحديث )) .
فالشاهد من هذا الجزء الحديث القدسي هو محبة الله عز وجل للمكثر من النوافل حتى تصبح جوارحه لا تنطلق إلا في مرضاة الله عز وجل ، وهذا هو حقيقة الصدق ، ثم إنه كلما كان العمل لا يراه إلا الله عز وجل كان أقرب للصدق والإخلاص ، ولذا جاء الترغيب في أداء النوافل في البيوت وإخفاء ما يمكن إخفاءه لأنه أرجى للقبول والثواب لتحقق الصدق ، أما مالا يمكن إخفاؤه كأداء الفرائض فهذه لابد من إظهارها مع جماعة المسلمين ، وهي وسيلة مهمة من وسائل جلب الصدق والتعود عليها إذا صاحبها الإخلاص .
7 – تحري الصدق في الحديث وتجنب الكذب :
إن توطين النفس على الصدق في الحديث ومجاهدتها في ذلك هو بداية الطريق الموصل بإذن الله عز وجل للوصول إلى الصدق الشامل في جميع الأحوال ، بل هو الوسيلة إلى نيل مرتبة الصديقية الشريفة . قال - صلى الله عليه وسلم - : (( .. وما يزال عبدي يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا .... الحديث )) .
فتحري الصدق وترويض النفس عليه يصيره خلقا وعادة للنفس يسري على جميع الأحوال ، وكذا الحال في الكذب فإن التهاون به والترخص فيهوعدم محاسبة النفس في ذلك يبعدها عن الصدق بل يصير عادة وطبعا للعبد ، وقد يؤدي به ذلك إلى أن يكتب عند الله كذابا والعياذ بالله .
والمقصود أن تحري الصدق والوسائل الموصلة إليه ، وتجنب الكذب والوسائل المؤدية إليه ، كل ذلك يؤدي إلى الصدق ، وبالتالي إلى المرتبة العظيمة ؛ ألا وهي مرتبة الصديقية التي يتنافس فيها الصادقون ويشمر إليها المشمرون .
وثمة مسألة أرى لها علاقة بهذه الوسيلة وهي من أكثر الوسائل التي توقع المرء في الكذب ألا وهي ( الوقوع فيما يعتذر منه ) ؛ فإن الوقوع فيما يعتذر منه وينتقد فيه صاحبه لهو من الأسباب التي تلجئ إلى الكذب حتى يبرر موقفه أو يزيل عن نفسه التبعة والخطأ ؛ فيلجأ إلى الكذب ويفر من الصدق لأنه بظنه يؤدي إلى سقوطه من أعين الناس أو تحميله مسؤولية
خطئه ، مع العلم أن النجاة في الصدق ولو بعد حين ، ولذلك أرى من الوسائل الجالبة للصدق هو تجنب ما يعتذر منه ما أمكن ، هذا أولا ، وثانيا لو وقع منه ما يعتذر منه فإن النجاة في الصدق ولو حصل مفسدة قليلة من جراء ذلك ، اللهم إلا إذا كانت المفسدة كبيرة وعامة فحينئذ يوازن بين الأمرين كما سبق إيضاحه في الصدق المذموم .(( وقد يندفع الإنسان إلى الكذب حين يعتذر عن خطأ وقع منه ، ويحاول التملص من عواقبه . وهذا غباء وهوان ، وهو فرار من الشر إلى مثله أو أشد . والواجب أن يعترف الإنسان بغلطه ، فلعل صدقه في ذكر
الواقع ، وألمه لما بدر منه يمسحان هفوته ويغفران زلته . ومهما هجس في النفس من مخاوف- إذا قيل الحق- فالأجدر بالمسلم أن يتشجع ، وأن يتحرج من لوثات الكذب )) اهـ .
8 – الإكثار من دعاء الله عز وجل والاستغفار :
إن ما سبق ذكره من الوسائل لا تحصل للعبد بدون توفيق الله عز وجل وإعانته له على تحصيله لها ؛ ولهذا فلا بد للعبد أن يستعين بربه عز وجل في أموره كلها ؛ ومنها هذا الأمر .
فالأمر كله بيد الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا به ، ولو تخلى الله سبحانه عن عبده لحظة واحدة لهلك ؛ ولذلك جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الإكثار من هذا الدعاء : (( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين )) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل : (( يا معاذ ، والله إني لأحبك ؛ أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة يقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )) . فالعبد لا يقدر على شيء من أمور الدين أو الدنيا إلا بتوفيق الله سبحانه والاستعانة به عز وجل
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (( وشهدت شيخ الإسلام قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستعصت عليه فر منها إلى التوبة والاستغفار والاستعانة بالله واللجوء إليه ، واستنزال(/98)
الصواب من عنده ، والاستفتاح من خزائن رحمته . فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدا ، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ ، ولا ريب أن من وفق لهذا الافتقار علما وحالا وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطي حظه من التوفيق ، ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق ، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )) اهـ .
والمقصود أن من أعظم الوسائل الجالبة للصدق دعاء الله سبحانه بصدق للتوفيق إلى الصدق ، وقد كان من الدعاء الذي علمه الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - هو قوله : (( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً)) [الإسراء:80] ، ففي هذا الدعاء العظيم سؤال الله عز وجل الصدق في جميع المداخل والمخارج أن تكون لله وبالله وبأمره وابتغاء مرضاته .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (( وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه - أو مدخلا آخر - إلا بصدق أو بكذب ، فمخرج كل واحد ومدخله : لا يعدو الصدق والكذب ، والله المستعان )) اهـ .
وقال القرطبي رحمه الله عن هذه الآية : (( فهي دعاء ، ومعناه : رب أصلح لي وردي وصدري في كل الأمور )) اهـ .
وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - دعاؤه : (( اللهم طهر قلبي من النفاق ، وعملي من الرياء ، ولساني من الكذب ، وعيني من الخيانة ؛ فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور )) .
وهذا دعاء بالصدق الشامل للقلب واللسان والعمل . والأدعية كثيرة ، وما تم إيراده على سبيل المثال لا الحصر ، والمقصود من ذلك التنبيه على هذا الباب العظيم من الوسائل الجالبة للصدق ألا وهو اللجوء إلى الله عز وجل بنية صادقة لالتزام الصدق وما يؤدي إليه .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (( والمعول في ذلك كله على حسن النية ، وخلوص القصد ، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول : معلم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ؛ فإنه لا يرد من صدق في التوجه إليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصيحتهم والتخلص من القول عليه بلا علم )) اهـ .
ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - : (( اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد )) .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح وما أتي العبد إلا من تضييعهما أو تضييع أحدهما ، فما أتي أحد إلا من باب العجلة والطيش واستفزاز البداآت له ، أو من باب التهاون والتماوت وتضييع الفرصة بعد موافاتها . فإذا حصل الثبات أولا ، والعزيمة ثانيا أفلح كل الفلاح ، والله ولي التوفيق )) اهـ .
* * *
من ثمرات الصدق
إن عاقبة الصدق حميدة في الدنيا والآخرة وثمراته كثيرة وعظيمة ، وإن
مدار القبول والثواب عند الله عز وجل على الصدق والإخلاص .
وعكس ذلك الكذب الذي هو اساس الفجور والفساد والهلاك .
يقول الإمام ابن القيم رحمه اله تعالى : (( إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه ، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس ؛ فإن الكاذب يصور المعدوم موجودا والموجود معدوما ، والحق باطلا والباطل حقا ، والخير شرا والشر خيرا ؛ فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له ، ثم يصور ذلك في نفس المخاطب المغتر به الراكن إليه فيفسد عليه تصوره
وعلمه .
ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة ، نزاعة إلى العدم ، مؤثرة للباطل ، وإذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل فعل إرادي فسدت عليه تلك الأفعال وسرى حكم الكذب إليها ؛ فصار صدورها عنه كصدور الكذب عن اللسان فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله : ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار )) .
وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله ؛ فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من أصلها .
ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق ، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب ؛ فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق ، وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب .
والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه ، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته ، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))
[ التوبة:119] )) اهـ .(/99)
وقد سبق في مبحث ( علامات الصدق ) ذكر شيء من هذه الثمرات ؛ لأن الثمرة إذا أينعت فإنها تصير علامة ظاهرة على صاحبها ، ولذا فقد أضطر إلى التكرار لما جاء هناك ولكن بمنظار آخر .
ومن هذه الثمار ما يلي :
1 – الحصول على الأجر العظيم والثواب الجزيل عند الله عز وجل :
إن الأعمال التي يصدق فيها صاحبها مع الله عز وجل ويبتغى بها وجهه سبحانه هي التي يبقى ذخرها ونفعها يوم القيامة ، قال تعالى : (( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (المائدة:119)
يقول القرطبي عند تفسير هذه الآية : (( وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه )) اهـ .
ويقول الإمام الطبري عند هذه الآية : (( (( يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ )) في الدنيا ،(( صِدْقُهُمْ )) ذلك في الآخرة عند الله ، (( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ )) يقول : للصادقين في الدنيا جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة ثوابا لهم من الله عز وجل ، على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه ، فوفوا به لله ، فوفى الله عز وجل لهم ما وعدهم من ثوابه )) اهـ .
ومثل ذلك قوله تعالى : (( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً)) (الأحزاب:24)
وقوله تعالى : (( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)) (الحج: 37) أي ما كان خالصا لوجه الله عز وجل ، صادقا فيه لربه سبحانه .
2 – الطمأنينة والسكينة والثبات :
لقد مر بنا في علامات الصدق الحديث عن هذه الثمرة ، وقد اوردتها هناك لأنها من علامات الصدق العظيمة التي يثمرها الصدق مع الله عز وجل في الأحوال كلها ، ومن آثار الطمأنينة والسكينة في القلب عدم اضطرابه وتقلبه عند ثورة الشبهات أو الشهوات ، بل يبقى ثابتا مطمئنا لا تزعزعه الفتن ولا تقلقه البلايا والنوازل ؛ وذلك لما في قلبه من الصدق الذي صار به مطمئنا مقتنعا بما يعتقد ، تزول الجبال ولا تزول هذه القناعة من قلبه ؛ بعكس القلوب المريضة المليئة بالكذب والريبة فلا تراها إلا مضطربة لا تثبت علىشيء ولا تتماسك أمام الشبهات أو الشهوات ، وهذا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة ))
وقد أورد الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلاما نفيسا حول هذا المعنى فقال : (( تحت قوله : (( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة )) [إبراهيم: 27] ، كنز عظيم من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ، ومن حرمه فقد حرم ، وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين ، فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه
وأرضه عن مكانهما .
وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه وعبده ورسوله : (( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) (الاسراء:74) وقال تعالى لأكرم خلقه : (( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا )) [لأنفال: 12] .
وفي الصحيحين من حديث البجلي قال : (( وهو يسألهم ويثبتهم )) ، وقال تعالى لرسوله : (( وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ )) [هود: 120]
فالخلق كلهم قسمان : موفق بالتثبيت ، ومخذول بترك التثبيت ، ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أمر به الله ، فبهما يثبت الله عبده ، فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا ، قال تعالى (( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً )) [النساء: 66] ،
فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا ، والقول الثابت هو القول الحق والصدق ، وهو ضد القول الباطل الكذب ؛ فالقول نوعان : ثابت له حقيقة ، وباطل لاحقيقة له ، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها ، فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا ، والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا وأقلهم ثباتا ، وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار وشجاعته ومهابته ، ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك ، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة .(/100)
وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به ، فقال : والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل ، فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت ، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم ، كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر )) اهـ .
وإن من آثار الطمأنينة في القلب سكينته واستقراره ، وهذا يظهر على الجوارح والمواقف المختلفة ، وأنقل هنا كلاما بديعا مفيدا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حول السكينة فيقول :
(( فالسكينة فعيلة من السكون ، وهي طمأنينة القلب واستقراره ، وأصلها في القلب ، ويظهر أثرها على الجوارح ، وهي عامة وخاصة .
فسكينة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أخص مراتبها وأعلى أقسامها ، كالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافرا إلى ما أضرم له أعداء الله من النار ، فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر ! وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم والبحر أمامهم ، وقد استغاث بنو إسرائيل : يا موسى إلى أين تذهب بنا ؟ هذا البحر أمامنا وهذا فرعون خلفنا ! وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم الله له نداء ونجاء كلاما حقيقة سمعه حقيقة بأذنه ، وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعبانا مبينا ، وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة .
وكذلك السكينة التي حصلت لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار ، فلو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما ، وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة ، وأعداء الله قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره .
فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر ، وهي من أعظم معجزاته عند أرباب البصائر ، فإن الكذاب – ولا سيما على الله – أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطرابا في مثل هذه المواطن ؛ فلو لم يكن للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم .
وأما الخاصة فتكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم ، وهي سكينة الإيمان وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك ، ولهذا أنزلها الله على المؤمنين في أصعب المواطن أحوج ما كانوا إليها (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)) (الفتح:4) ، فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم والجنود الداخلة فيهم ، وهي السكينة عند القلق والاضطراب الذي لم يصبر عليه مثل عمر بن الخطاب ? ، وذلك يوم الحديبية .
قال الله سبحانه وتعالى يذكر نعمته عليهم بإنزالها أحوج ما كانوا إليها :
(( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)) (الفتح:18) ، لما علم الله سبحانه وتعالى ما في قلوبهم من القلق والاضطراب لما منعهم كفار قريش من دخول بيت الله ، وحبسوا الهدي عن محله ، واشترطوا عليهم تلك الشروط الجائرة الظالمة ، فاضطربت قلوبهم ، وقلقت ولم تطق الصبر ، فعلم تعالى ما فيها ، فثبتها بالسكينة رحمة منه ورأفة ولطفا ، وهو اللطيف الخبير .
وتحتمل الآية وجها آخر ، وهو أنه سبحانه علم ما في قلوبهم من الإيمان والخير ومحبته ومحبة رسوله فثبتها بالسكينة وقت قلقها واضطرابها .
والظاهر أن الآية تعم الأمرين ، وهو أنه علم ما في قلوبهم مما يحتاجون معه إلى إنزال السكينة وما في قلوبهم من الخير الذي هو سبب إنزالها .
ثم قال بعد ذلك : (( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)) (الفتح:26) ، لما كانت
حمية الجاهلية توجب من الأقوال والأعمال ما يناسبها جعل الله في قلوب أوليائه سكينة تقابل حمية الجاهلية ، وفي ألسنتهم كلمة التقوى مقابلة لما توجبه حمية الجاهلية من كلمة الفجور ، فكان حظ المؤمنين السكينة في قلوبهم ، وكلمة التقوى على ألسنتهم ، وحظ أعدائهم حمية الجاهلية في قلوبهم ، وكلمة الفجور والعدوان على ألسنتهم .(/101)
فكانت هذه السكينة وهذه الكلمة جندا من جند الله أيد بها الله ورسوله والمؤمنين في مقابلة جند الشيطان الذي في قلوب أوليائه وألسنتهم . وثمرة هذه السكينة الطمأنينة للخبر تصديقا وإيقانا وللأمر تسليما وإذعانا ، فلا تدع شبهة تعارض الخبر ولا إرادة تعارض الأمر ، فلا تمر معارضات السوء بالقلب غلا وهي مجتازة من مرور الوساوس الشيطانية التي يبتلى بها العبد
ليقوى إيمانه ، ويعلو عند الله ميزانه ، بمدافعتها وردها وعدم السكون إليها ،فلا يظن المؤمن أنها لنقص درجته عند الله .
ومنها السكينة عند القيام بوظائف العبودية ، وهي التي تورث الخضوع والخشوع وغض الطرف وجمعية القلب على الله تعالى بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه ، والخشوع نتيجة هذه السكينة وثمرتها ، وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب ، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : (( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه )) .
فإن قلت : قد ذكرت أقسامها ونتيجتها وثمرتها وعلامتها ، فما أسبابها الجالبة لها ؟ قلت : سببها استيلاء مراقبة العبد لربه جل جلاله حتى كأنه يراه ، وكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء والسكينة والمحبة والخضوع والخشوع والخوف والرجاء مالا يحصل بدونها ، فالمراقبة أساس الأعمال القلبية كلها وعمودها الذي قيامها به ، ولقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصول أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة ، وهي قوله الإحسان : (( أن تعبد الله كأنك تراه )) . فتأمل كل مقام من مقامات الدين ، وكل عمل من أعمال القلوب ، كيف تجد هذا أصله ومنبعه ؟ ولمقصود أن العبد محتاج إلى السكينة عند الوساوس المعترضة في أصل الإيمان ليثبت قلبه ولا يزيغ ، وعند الوساوس والخطرات القادحة في أعمال الإيمان لئلا تقوى وتصير هموما وغموما وإرادات ينقص بها إيمانه ، وعند أسباب المخاوف على اختلافها ليثبت قلبه ويسكن جأشه ، وعند أسباب الفرح لئلا يطمح به مركبه فيجاوز الحد الذي لا يعبر فينقلب ترحا وحزنا ، وكم ممن أنعم الله عليه بما يفرحه فجمح به مركب الفرح وتجاوز الحد فانقلب ترحا عاجلا )) اهـ .
مما سبق يتبين لنا أهمية الصدق مع الله عز وجل ومراقبته في جلب السكينة والطمأنينة ، وهذه الثمرة العظيمة هي محك اليقين والإيمان الحق ، ولا تظهر أو تختفي إلا حين الشدائد وثوران الشهوات والشبهات أو الخوف والطمع وقد مر بنا قصة الذين خرجوا مع طالوت وتساقطوا فئة فئة أمام الامتحان ، ولم يثبت إلا الصادقون الموقنون بلقاء الله عز وجل : (( قَالَ الَّذِينَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [البقرة: 249]
قال القرطبي عند تفسير هذه الآية : (( قال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالى عند ذلك وهم عدة أهل بدر : (( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ))) ......
قال ابن عباس والسدي : جاز معه النهر أربعة آلاف رجل فيهم من شرب ، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده وكانوا مائة ألف كلهم شاكون في السلاح رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون )) اهـ .
والحاصل : أن الثبات والطمأنينة أمام الخوف والطمع وأمام فتنالشبهات والشهوات ؛ لا تتم إلا بالصدق في عبادة الله عز وجل واتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - والاستعداد الصادق للقاء اله سبحانه .
نسأل الله تعالى أن يربط على قلوبنا بالإيمان الصادق ، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، فهو سبحانه الذي بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء ، وينزل السكينة على من يشاء ويصرفها عمن يشاء بعلمه وحكمته ؛ فلا يثبت إلا من ثبته الله عز وجل وعلم منه صدق التوجه واللجوء إليه سبحانه .
وعلى العبد أن لا يعرض نفسه للفتن والبلايا لأنه لا يدري ما تكون حاله حينئذ ، بل يسأل الله عز وجل العافية ، كما يسأله الصبر والثبات عند نزولها .
3 – الاندفاع في الدعوة إلى الله عز وجل والتضحية في سبيله : وهذه الثمرة هي محصلة الثمرة السابقة ؛ فإن صدق في عبادة الله عز وجل والاطمئنان لوعد اله عز وجل لعباده المؤمنين كل هذا يثمر في حياة المسلم اندفاعا شديدا وحماسا متقدا للدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله ؛ وذلك لاطمئنانه بصحة طريقه ومنهجه ويقينه بلقاء ربه عز وجل ومجازاته على عمله يوم القيامة .
فبقدر ما يكون في القلب من الطمأنينة والقناعة بصحة المسار تكون الدعوة والتضحية ، بعكس من لم يكن لديه القناعة والاطمئنان الكافيان فإن الحماس للدعوة يكون ضعيفا ، ولو كان قويا في بداية الأمر فسرعان ما يضعف إذا لم يتحقق الصدق المثمر للثبات على الأمر وعدم الاهتزاز والتردد فيه .(/102)
وهذا أمر مهم يجب أن ننتبه إليه وينتبه إليه المربون وذلك في التربية على الصدق واليقين والقناعة التامة القائمة على الإخلاص لله عز وجل ، والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . وهذا بدوره ينبهنا على بعض الأخطاء في التربية والتي يقوم بعضها على غير بصيرة وبالتالي على غير قناعة ، وفي النهاية يخبو الحماس وتضعف التضحية أو لا توجد ألبتة .
إنه ليس أفضل ولا أربح في الدنيا والآخرة من العمل النابع من القناعة التامة بما يعمله المسلم والذي يثمر الاندفاع الشديد والعمل المتواصل إلى نهاية الأجل ، وحتى توجد هذه الثمرة يجب علينا أن تفقد حقيقة الصدق في نفوسنا نحو ديننا ونحو موعود الله عز وجل لنا ، وأن لا نعلق أنفسنا ونحن ندعو إلى الله عز وجل في هذه الدنيا بشيء من مكاسبها ، وإما نربي أنفسنا ومن حولنا على أن نبذل كل ما في وسعنا في هذا العمر القصير لنفوز برضوان الله عز وجل وجنته هناك في الدار الآخرة ؛ لأن من تعلق بشيء من هذه الدنيا في عمله فإنه وإن اندفع في البداية فسيخبو بعد حين إذا نال مطلوبه أو يئس من الحصول عليه ، بينما المؤمن الصادق المطمئن في سيره إلى الله عز وجل لا يتوقف أبدا إلا عند الموت ؛ لأنه ربى نفسه على أن يعطي في هذه الدنيا ولا يأخذ فيها شيئا وإنما علق نفسه بالآخرة هناك حيث الأجر والثواب .
وهذا ما كان يربي عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه حيث لم يعلقهم بشيء من هذه الدنيا وإن كان الله عز وجل قد فتح عليهم خزائنها ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلقهم بالجنة ، فيمر على آل ياسر وهم يعذبون فلا يجد ما يواسيهم به غلا أن يقول : (( صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة )) .
وعندما سأله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار في بيعة العقبة بعد أن ذكر شرطه عليهم في البيعة فقالوا : ما لنا إن بايعناك على ذلك ؟ قال : (( لكم الجنة )) ، فلم يعدهم بشيء غير ذلك مع أنه قد تحقق لهم بهذه البيعة الفتوحات العظيمة ، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعلقهم بذلك وإنما علقهم برضوان الله سبحانه والجنة ، وهكذا تكون التربية .
والحاصل أنه كلما كان العبد صادقا في معتقده وصادقا في الاستعداد للقاء ربه سبحانه كلما كان مندفعا مضحيا صابرا محتسبا في سبيل الله عز وجل ، وإلا فما الذي جعل غلام الأخدود وإخوانه يقدمون على الموت الأحمر وهم يرونه رأي العين ولا يترددون ؟ إنه والله الإيمان الصادق الراسي في قلوبهم رسو الجبال ، وكذلك الذين قدموا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله
عز وجل ما الذي دفعهم إلى التضحية بكل ذلك غير الإيمان الحق واليقين الصادق . نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم .
4 – القبول عند الناس والتأثير فيهم : وهذه من أعظم ثمرات الصدق في الدنيا لأن الكلمة الصادقة والتي تنبع من قلب صادق تفعل فعلها في القلوب ويكتب الله لها القبول عند الناس ، وهذا أمر مشاهد ؛ فما من رجل حقق الصدق مع ربه عز وجل ووافقت سريرته علانيته ، والتزم بما يدعو غليه مع نفسه قبل دعوة الناس إليه ؛ إلا ويستجيب الناس له وتؤثر دعوته فيهم ، إلا من أعرض ونأى بجانبه عن الحق ، فمثل هذا لا تنفع فيه المواعظ من أي جهة كانت ولو من أنبياء الله عز وجل الذين بلغوا الكمال في الصدق والإخلاص وإن أكثر ما ينفر الناس عن الداعية هو تناقض الداعية مع نفسه ؛ حيث يدعو إلى الخير والبر وينسى نفسه ، فهذه الحالة تجعل الناس في حيرة واضطراب بين سماع الطيب من كلام الداعية وبين ما يضاد ذلك من فعله وأحواله .
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ )) (البقرة:44)
(( والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه ، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها . وهي التي تبلبل الناس وأفكارهم ، لأنهم يسمعون قولا جميلا ، ويشهدون فعلا قبيحا ، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل ؛ وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة ؛ وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان ؛ ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين .
إن الكلمة لتبعث ميتة ، وتصل هامدة مهما تكن طنانة رنانة متحمسة ، إذا لم تبعث من قلب يؤمن بها . ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول ، وتجسيما واقعيا لما ينطق .. عندئذ يؤمن الناس ، ويثق الناس ، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق .. إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها ؛ وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها .. إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة ، لأنها منبثقة من حياة .(/103)
والمطابقة بين القول والفعل ، وبين العقيدة والسلوك ، ليست مع هذا أمرا هينا ، ولا طريقا معبدا . إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة . وإلى صلة بالله ، واستمداد منه ، واستعانة بهديه ؛ فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره ، أو عما يدعو إليه غيره . والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته ، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه ؛ وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ؛ ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى ، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله ؛ فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي ، أقوى من كل قوي . قوي على شهوته وضعفه . قوي على ضروراته واضطراراته . قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه )) .
وذكر صاحب الحلية عن مالك بن دينار قوله : (( الصدق والكذب يعتركان ، حتى يخرج أحدهما صاحبه ، وإن الصدق يبدو في القلب ضعيفا كما يبدو نبات النخلة ، يبدو غصنا واحدا ، فإذا شقها الصبي ذهب أصلها ، وإن أكلتها عنز ذهب أصلها فتسقى فتنتشر ، وتسقى فتنتشر حتى يكون لها أصل أصيل يوطأ ، وظل يستظل به ، وثمرة يؤكل منها . كذلك الصدق يبدو
في القلب ضعيفا ، فيتفقده صاحبه ويزيده الله تعالى ، ويتفقده صاحبه ، فيزيده الله ، حتى يجعله الله بركة على نفسه ، ويكون كلامه دواء للخاطئين .
ثم قال مالك : أما رأيتموهم ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : بلى والله لقد رأيناهم : الحسن البصري ، وسعيد بن جبير وأشباهم ، الرجل منهم يحيي الله بكلامه الفئام - الجماعات - من الناس )) .
وذكر الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة محمد بن واسع رحمه الله تعالى فقال : (( روي أن قاصا كان بقرب محمد بن واسع فقال : مالي أرى القلوب لا تخشع ، والعيون لا تدمع ، والجلود لا تقشعر ؟ فقال محمد : يا فلان ما أرى القوم أتوا إلا من قبلك ، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب )) .
5 – الألفة والمحبة بين الناس :
لقد يبق في مبحث ( علامات الصدق ) الحديث عن سلامة القلب وحب الخير للناس ونقاء القلب من الحسد والبغضاء لهم ، وإن من علامات الصدق ، بالتالي فإن مثل هذه الصفات إذا وجدت بين الناس فلا شك أن الألفة والمحبة ستسود بينهم ، بالتالي ينشأ المجتمع متآلفا متكافلا تنتشر بين أفراده المحبة والإخاء والتعاون ، فلا يخشى بعضهم من بعض أن يخونه أو يغشه أو يكيد له أو يمكر به ؛ لأن كل هذه الخلال الذميمة ينفيها الصدق كما ينفي الكير خبث الحديد .
فإذا وجد مثل هذا في المجتمع المتواد المتراحم المتلاحم فهو حري بالخير العميم والوقوف أمام كيد الأعداء ومخططاتهم ؛ لأن الله سبحانه يقول : (( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) [آل عمران: 120 ] .
ثم إن الصدق مع الله سبحانه في النصح للمسلمين يقتضي ترك الظنون والإشفاق عليهم والحرص على جماعتهم ، وهو بدوره يثمر المحبة والإخاء بين الناس . وعكس ذلك مشاهد ؛ فالمجتمعات التي ينتشر فيها الكذب والظنون والغش والخداع مجتمعات متفككة متدابرة متناحرة ، وقد ذهبت ريحها وعرضت نفسها لكيد الأعداء واستباحة الديار ، قال تعالى : (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ .... )) [ الأنفال: 46]
نعم ، إن الفشل هو ثمرة التنازع والتدابر والتباغض الناشئ عن ضعف الصدق مع الله سبحانه في عباده المؤمنين ، كما أن التآلف واجتماع الكلمة ثمرة من ثمار الصدق والإخلاص ، فلا تكاد تجد صادقا مع الله سبحانه ومع عباده المؤمنين ، إلا ويحرص ويسعى إلى كل ما من شأنه التآلف والاجتماع ويكره وينبذ كل ما يؤدي إلى الفرقة والاختلاف ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم الجماعة ؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم )) .
6 – الخير والنماء والبركة : إن الصدق خير كله ليس في الآخرة فحسب وإنما في الدنيا قبل الآخرة فبالصدق يأتي الخير والنجاح وتحل البركة في الأموال والأولاد وكل المعاملات والتصرفات ، والعكس يكون في الكذب حيث يمحق الله بركة الشيء الناتج عن الكذب والخداع والمكر ، وهذا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما )) .
فهذا الحديث وإن كان في البيع والشراء فإنه يفيد أيضا بركة الصدق في كل الأمور . ولو ظهر أن في الصدق خسارة أو هلاك الأموال فالعاقبة حميدة .
وقد يتوهم بعض الناس أن ستر الحقائق ودفن الأخطاء والعيوب في التعاملات يدر عليهم ربحا ويدفع عنهم شرا ، وهذا وهم وسراب فلا شيء أفضل وأحسن بركة من الصدق ولو كان قليلا ، فقليل يبارك الله فيه خير من كثير يمحق الله بركته .(/104)
فإن التاجر قد يكذب في بيعه أو شرائه ويظن أن هذا فطنة وذكاء في كسب المال ، وما علم المسكين أن ماله الذي اكتسبه من ذلك هو محق وخسارة وضياع .
وهذا أمر مشاهد وملاحظ حيث نسمع كثيرا من التجار وأصحاب الأموال الطائلة الذين لم يتحروا في مكاسبهم الصدق والحلال ؛ نسمعهم يقولون : إننا لا ندري أين أموالنا ولا نحس ببركتها ونمائها ، وغيرهم من الذين حاسبوا أنفسهم في كسب الحلال والصدق في المعاملات ؛ نجدهم مطمئنين لما رزقهم الله عز وجل ويشعرون بالبركة فيه ولو كان قليلا .
7 – تفريج الشدائد وكشف الكربات والنصر على الأعداء : لقد سبق وأن مر بنا في فضل الصدق حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة فسدت عليهم باب الغار ، وكيف أن الله عز وجل أنجاهم من هذه الشدة والضائقة بفضل صدقهم مع الله عز وجل في أعمالهم التي توسلوا بها إلى الله سبحانه .
وكذلك مر بنا قصة الثلاثة ? كيف أن الله سبحانه تاب عليهم ونجاهم من الكرب الذي أصابهم بسبب صدقهم في عذرهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقهم في توبتهم ، وقد جاء بعد توبتهم قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) [ التوبة:119] .
وقد أدرك كعب بن مالك ? – وهو أحد الثلاثة – فضل الصدق وكيف أن الله سبحانه قد نجاه بالصدق فقال : (( وقلت : يا رسول الله ،إنما نجاني الله بالصدق ، ومن توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت )) . ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية : (( أي اصدقوا والزموا الصدق ، تكونوا مع أهله وتنجوا من المهالك ، ويجعل لكم فرجا من أموركم ومخرجا )) .
ويقول الله تعالى : (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً )) [ الطلاق: من الآية2 ] ،
ويقول سبحانه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )) [ الأنفال:29] . والآيات في هذا المعنى كثيرة .
أما أثر الصدق في تحقيق النصر والتمكين في الأرض فيشهد لهذا أدلة الكتاب والسنة والحس والتجارب ، ولا يتحقق الصدق في طلب النصر حتى يقوم العبد بالحق على نفسه وعلى غيره ، ويكون قيامه بالحق لله عز وجل ويستعين في إقامة هذا الحق بالله سبحانه ؛ فهذه ثلاث دعائم لتحقيق الصدق في طلب النصر والفرج من الله سبحانه .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى (( ... فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا ، وكان قيامه بالله ولله لم يقم شيء ، ولو كادته السموات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها ، وجعل له فرجا ومخرجا ، وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة ، أو في اثنين منها ، أو في واحد ، فمن كان قيامه في باطل لم ينصر ، وإن نُصِر نصرا عارضا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول ، وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولا والقيام في الحق وسيلة إليه فهذا لم تضمن له النصرة ، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله ، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه ، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين ، وإن نصر فبحسب ما معه من الحق فإن الله لا ينصر إلا الحق ، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر ، والصبر منصور أبدا ، فإن كان صاحبه محقا كان منصورا له العاقبة ، وإن كان مبطلا لم يكن له عاقبة ، وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعينا به متوكلا عليه مفوضا إليه بريا من الحول والقوة إلا به فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك ، ونكتة المسألة أن تجريد التوحيد في أمر الله لا يقوم له شيء البتة ، وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء )) .
8 – غفران الذنوب وتكفير السيئات : مر بنا في الفقرة السابقة قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم ، وأن صدقهم كان سببا في توبة الله عز وجل عليهم ، فالصدق في التوبة من الذنب سبب في المغفرة وتكفير السيئات ، قال تعالى : (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً )) [الطلاق: 5 ]
وأن التوبة النصوح التي أمر الله سبحانه عباده بها هي التوبة التي صدرت من قلب صادق ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )) [ التحريم: 8 ]
ولا توصف التوبة بأنها صادقة إلا بالشروط التي ذكرها العلماء لقبول التوبة وغفران الذنوب ، وألا وهي الندم والإقلاع والعهد بعدم العودة إليه مع الإخلاص في ذلك لله عز وجل .(/105)
إذن فالتوبة الصادقة ثمرتها المغفرة وتكفير السيئات ، كما أن الصدق في أداء الأعمال الصالحة والإكثار من الحسنات يؤدي إلى محو السيئات وتكفيرها كما قال تعالى : (( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ )) [ هود:114]
9 – الهداية للحق دلالة وانقيادا : يقول الله عز وجل : (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )) [ العنكبوت:69 ] ، فمن هذه الآية نفهم أثر الصدق في مجاهدة النفس ابتغاء مرضاة الله عز وجل بفعل الطاعات والجهاد في سبيل الله سبحانه ، وأن ثمرة ذلك الهداية للطريق المستقيم في الدنيا والآخرة والتوفيق لمعرفة الحق واتباعه والانقياد له .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية (( لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )) : (( أي لنبصرنهم سبلنا ، أي طرقنا في الدنيا والآخرة . قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، أخبرنا عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكا في قول الله تعالى : (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )) قال : الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا
يعلمون . قال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه ، وقال :ليس ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر ، فإذا سمعه في الأثر عمل به ، وحمد الله حتى وافق ما في قلبه )) اهـ .
ويقول العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى : (( وكلما كثرت الطاعات وتراكمت الأنوار حتى يصير المطيع إلى درجات العارفين الأبرار (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )) ، وهذا مما يعرفه المطيعون المخلصون ، فإذا خلت الأعمال عن الإخلاص لم يزدد العاملون إلا ظلمة في القلوب ، لأنهم عاصون بترك الإخلاص ، وإبطال ما أفسده الرياء والتصنع من الأعمال )) .
ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى : (( فإذا اجتهد العبد في طاعة الله وتقواه كان ترجيحه لما رجح أقوى من أدلة كثيرة ضعيفة . فإلهام مثل هذا دليل في حقه ، وهو أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة والموهومة ، والظواهر والاستصحابات الكثيرة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذاهب والخلاف والفقه .
وقد قال عمر بن الخطاب : اقربوا من أفواه المطيعين ، واسمعوا ما يقولون ؛ فإنهم تتجلى لهم أمور صادقة . وحديث مكحول المرفوع (( ما أخلص عبد العبادة لله أربعين يوما إلا أجرى الله الحكمة على قلبه وأنطق بها لسانه )) ، وفي رواية : (( إلا ظهرت ينابيع الحكمة من على لسانه )) .
وقال أبو سليمان الداراني : إن القلوب إذا اجتمعت على التقوى جالت في الملكوت ورجعت إلى أصحابها بطرف الفوائد من غير أن يؤدي إليها عالم علما .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( الصلاة نور ؛ والصدقة برهان ؛ والصبر ضياء )) . ومن معه نور وبرهان وضياء كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها ؟ ولا سيما الأحاديث النبوية ؛ فإنه يعرف ذلك معرفة تامة ؛ لأنه قاصد العمل بها ؛ فتتساعد في حقه هذه الأشياء مع الامتثال ومحبة الله ورسوله ، حتى أن المحب يعرف من فحوى كلام محبوبه مراده منه تلويحا لا تصريحا .
والعين تعرف من عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها إنارة العقل مكشوف بطوع هوى وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا وفي الحديث الصحيح : (( ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها )) ، ومن كان توفيق الله له كذلك فكيف لا يكون ذا بصيرة نافذة ونفس فعالة ؟ وإذا كان الإثم والبر في صدور الخلق له تردد وجولان ؛ فكيف حال من الله سمعه وبصره وهو في قلبه ؟ وقد قال ابن مسعود : (( الإثم حواز القلوب )) ، وقد قدمنا أن الكذب ريبة والصدق طمأنينة ، فالحديث الصدق تطمئن إليه النفس ، ويطمئن إليه القلب )) .(/106)
وقال أيضا رحمه الله تعالى : (( وإذا كان القلب معمورا بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت ؛ بخلاف القلب الخراب المظلم ، قال حذيفة بن اليمان : إن في قلب المؤمن سراجا يزهر . وفي الحديث الصحيح : (( إن الدجال مكتوب بين عينيه كافر ، يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ )) ، فدل على أن المؤمن يتبين له مالا يتبين لغيره ؛ ولا سيما في الفتن ، وينكشف له حال الكذاب الوضاع على الله ورسوله ؛ فإن الدجال أكذب خلق الله ، مع أن الله يجري على يديه أمورا هائلة ومخاريق مزلزلة ، حتى أن من رآه افتتن به ، فيكشفها الله للمؤمن حتى يعتقد كذبها وبطلانها وكلما قوي الإيمان في القلب قوي انكشاف الأمور له ؛ وعرف حقائقها من بواطلها ، وكلما ضعف الإيمان ضعف الكشف ، وذلك مثل السراج القوي والسراج الضعيف في البيت المظلم ؛ ولهذا قال بعض السلف في قوله : (( نُورٌ عَلَى نُورٍ )) [ النور: 35 ] قال : هو المؤمن ينطق بالحكمة المطابقة للحق وإن لم يسمع فيها بالأثر ، فإذا سمع فيها بالأثر كان نورا على نور .
فالإيمان الذي في قلب المؤمن يطابق نور القرآن ؛ فالإلهام القلبي تارة يكون من جنس القول والعلم ؛ والظن أن هذا القول كذب ؛ وأن هذا العمل باطل ؛ وهذا أرجح من هذا ؛ أو هذا أصوب )) اهـ .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( تكرر في القرآن جعل الأعمال القائمة بالقلب والجوارح سبب الهداية والإضلال ، فيقوم بالقلب والجوارح أعمال تقتضي الهدى اقتضاء السبب لمسببه والمؤثر لأثره ، وكذلك الضلال . فأعمال البر تثمر الهدى وكلما ازداد منها ازداد هدى ، وأعمال الفجور بالضد ، وذلك أن الله سبحانه يحب أعمال البر فيجازي عليها الهدى والفلاح ، ويبغض الفجور ويجازي عليها بالضلال والشقاء )) .
وقال أيضا في قوله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ )) [ يونس: 9 ] : (( فهداهم أولا للإيمان فلما آمنوا هداهم للإيمان هداية بعد هداية ، ونظير هذا قوله : (( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً)) [ مريم: 76 ] ، وقوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً )) [ الأنفال: 29 ] ، ومن الفرقان ما يعطيهم من النور الذي يفرقون به بين الحق والباطل ، والنصر والعز الذي يتمكنون به من إقامة الحق وكسر الباطل )) اهـ .
ويقول رحمه الله تعالى في موطن آخر : (( كلما قرب القلب من الله زالت عنه معارضات السوء ، وكان نور كشفه للحق أتم وأقوى ، وكلما بعد عن الله كثرت عليه المعارضات ، وضعف نور كشفه للصواب ؛ فإن العلم نور يقذفه الله في القلب ، ويفرق به العبد بين الخطأ والصواب .
وقال مالك للشافعي رضي الله عنهما في أول ما لقيه : إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية ، وقد قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً )) ، ومن الفرقان النور الذي يفرق به العبد بين الحق والباطل ، وكلما كان قلبه أقرب إلى الله كان فرقانه أتم ، وبالله التوفيق )) اهـ .
والحاصل من كل ما سبق أن الصدق مع الله سبحانه وتقواه كل هذا يثمر توفيق الله عز وجل للعبد إلى الحق والصواب ، وبخاصة إذا التبست الأمور وحارت العقول وكثرت الفتن كما هو الحال في زماننا هذا . فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه يا أرحم الراحمين .
10 – الزهد في الدنيا والتزود للآخرة :
(( إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلب وصدقه العمل )) فالإيمان الصادق بالله عز وجل وباليوم الآخر لابد أن يثمر العمل الصالح ، والاستعداد للرحيل والإكثار من الزاد ليوم المعاد . وهذا بدوره يحمل على الحذر من كل ما يشغل عن هذه الغاية العظمى من فتن الدنيا المختلفة ؛ فيزهد في ذلك كله ويجعلها في يده لا في قلبه ، وقد مر بنا في
علامات الصدق الحديث المروي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل عن شرح الصدر في قوله تعالى : (( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلام ))
[ الأنعام: 125] ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح )) ، قيل فهل لذلك إمارة ؟ قال : (( نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت )) .
وقد فصلت القول في مبحث ( علامات الصدق ) حول هذه المسألة وذلك ببعض النقولات عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ؛ فليرجع إليها هناك حيث لاداعي لتكرارها .
11 – حسن الخاتمة :(/107)
وهذه خاتمة المسك في ثمار الصدق فما أعظمها من ثمرة وما أشرفها من غاية ، فهي التي شمر إليها المشمرون ، وهي التي أقضت مضاجع الصالحين وأوجلت قلوب العارفين . فما هو السبيل إليها ؟ إن أعظم سبيل إليها هو الصدق مع الله سبحانه في الإيمان به وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، والذي يثمر بدوره الأعمال الصالحة المنبثقة من العبودية الحقة لله عز وجل .
إن الصدق وتحريه طريق إلى مرتبة الصديقية والخاتمة الحسنة الموصلة لركب الصديقين ، وهذا هو ما يفهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( وما يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا )) ، وهذا يفيد حسن خاتمة من صدق وتحرى الصدق ؛ لأن الله عز وجل يكتبه عنده صديقا ، ولا يكون هذه المرتبة إلا لمن علم اله حسن خاتمته وأنه سيموت على الإيمان الحق . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة )) . فما هو السر في حسن خاتمة من ختم كلامه بكلمة التوحيد ؟
يجيب عن ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى جوابا عظيم الفائدة له علاقة بالصدق في كلمة التوحيد وأثر ذلك في حسن الخاتمة فيقول : (( لشهادة أن لا إله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها ؛ لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها ، وقد ماتت منه
الشهوات ، ولانت نفسه المتمردة ، وانقادت بعد إبائها واستعصائها ، وأقبلت بعد إعراضها ، وذلت بعد عزها ، وخرج منها حرصها على الدنيا وفضولها ، واستسلمت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق ، وأذل ما كانت له ، وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته ، وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب
الشرك وتحقق بطلانه ، فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها ، واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه ، فوجه العبد وجهه بكليته إليه وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه ، فاستسلم وحده ظاهرا وباطنا ، واستوى سره وعلانيته ؛ فقال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه ، وقد تخلص قلبه من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه ، قد خرجت الدنيا كلها من قلبه ، وشارف القدوم على ربه ، وخمدت نيران شهوته ، وامتلأ قلبه من الآخرة فصارت نصب عينيه وصارت الدنيا وراء ظهره ؛ فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه ؛ لنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها ، فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا وأهلها وفر إلى الله من الناس وأنس به دون ما سواه ، لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأسبابها ، ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله ، فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي ، والله المستعان )) اهـ .
* * *
الخاتمة
لا يسعني في نهاية هذا البحث وقبل ختمه إلا أن أفضي ببعض الخواطر التي جالت في الذهن أثناء كتابة الموضوع ، وما هي إلا هموم وأشجان أبثها في صورة نصائح أخص بها نفسي بادئ ذي بدء ن ثم أبعثها بعد ذلك إلى من يهمهم أمر هذا الدين من علماء وطلبة علم ودعاة ومجاهدين ومربين وإعلاميين ، ومن يملكون الكلمة في هذه الأمة كل في موقعه ، فأقول وبالله
التوفيق :
1 – إلى علماء الأمة وطلبة العلم فيها : أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به ربنا عز وجل عباده المؤمنين : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) .
يا علماء الأمة : هذه وصية الله إليكم فاقبلوها ، واصدقوا مع ربكم فيما أنعم به عليكم من العلم ، وأروا الأمة من أنفسكم خيرا بالعمل بما تعلمون .
واصدقوا مع عباد الله عز وجل في تعليمهم الخير وتحذيرهم من الشر ؛ فإن الله سبحانه سائلكم عن علمكم فيما عملتم به .
يا علماءنا الأجلاء : يا من تعقد عليهم الأمة أملها بعد الله سبحانه في إنقاذها مما هي من جهل ومحن وبلاء (( اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) وإن من لوازم الصدق مع الله سبحانه ومع عباده المؤمنين الحذر الشديد من الدنيا وزينتها ومناصبها وزخرفها ، فلا أضر على العالم منها ؛ ولذا كان سلفنا الصالح يحذرونها أشد الحذر فبارك الله في علمهم وعملهم وأصلح الله بهم ما فسد .(/108)
وأسوق بهذه المناسبة كلاما مفيدا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أذكر فيه علمائي الأفاضل وإخواني طلاب العلم بخطر الدنيا وضرورة الحذر الشديد منها ، ولا شك أنه معلوم للجميع ، ولا يساق التمر إلى هجر . . ولكن من باب الذكرى والذكرى تنفع المؤمنين : يقول رحمه الله تعالى : (( كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه وفي خبره وإلزامه ؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيرا ما تأتي على أغراض الناس ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات ؛ فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرا ، فإذا كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع
ما يضاده من الحق ، ولا سيما إذا قامت له شبهة ، فتتفتق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق ، وإن كان الحق ظاهرا لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته وقال : لي مخرج بالتوبة .
وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى : (( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)) [مريم:59 ]
وقال تعالى فيهم أيضا : (( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى
وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ))
[الأعراف:169]
فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا : سيغفر لنا ، وإن عرض لهم عرض آخر أخذوه فهم مصرون على ذلك ، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق ، فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه ، وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه ،خلاف ذلك ،أولا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه ، فتارة يقولون على الله مالا يعلمون ، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه .
وهؤلاء لابد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل ، فيجتمع لهم الأمران ، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب فلا يميز بين السنة والبدعة ، أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة .
فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات ، وهذه الآيات فيهم إلى قوله : (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) [ الأعراف:175- 176] .
فهذا مثل عالم السوء الذي عمل بخلاف علمه )) .
وقد ذكر الآجري رحمه الله تعالى كلاما يجدر بكل عالم وطالب علم أن يقرأه وذلك في كتابه القيم أخلاق العلماء ، أقتطف منه المناسب للمقام هنا في التحذير من الدنيا وفتنة السلاطين فيقول : (( أخبرنا عمر بن أيوب السقطي أخبرنا الحسن بن حماد الكوفي أخبرنا أبو أسامة عن عيسى بن سنان قال : سمعت وهب بن منبه يقول لعطاء الخراساني : كان العلماء قبلنا استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم ، فكانوا لا يلتفتون إلى دنياهم ، فكان أهل الدنيا يبذلون لهم دنياهم رغبة في علمهم ، فأصبح أهل العلم منا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في دنياهم ، فأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم .
فإياك وأبواب السلاطين ؛ فإن عند أبوابهم فتنا كمبارك الإبل ، لا تصيب من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينك مثله .
قال محمد بن الحسين الآجري : فإذا كان يخاف على العلماء في ذلك الزمان أن تفتنهم الدنيا فما ظنك به في زماننا هذا ؟ والله المستعان ما أعظم ما قد حل بالعلماء من الفتن وهم عنه غفلة )) .
يا علماء الأمة في كل مكان : هكذا خوف سلفنا الصالح وحذرهم الشديد من الدنيا ومن تبعة العلم وحمله الثقيل . فالله الله في أمتكم ودينكم .. اصدقوا مع ربكم في تعليم الأمة دينها ، واصدقوا مع ربكم في قول الحق وإبطال الباطل ، ولا تتركوا الأمة في حيرتها وضلالها .(/109)
أيها العلماء الأجلاء : إن أمتنا الإسلامية تمر في هذا الزمان بساعات رهيبة ومحن عظيمة ونوازل شديدة ، وهي تنتظر كلمتكم وإرشادها بالنور الذي تحملونه لتسير به في دياجير الظلمة التي تعيشها في هذا الزمان .. بالله عليكم لا تتركوها في حيرتها ، ولا تسلموها لأعداء الملة من الكافرين والمنافقين يسيرونها وفق أهوائهم ويكيدون لها كيدا . وأنتم بارك الله فيكم تعلمون ذلك كله و أن الله سبحانه سائلكم عن علمكم فيما عملتم به فـ (( لاتَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) .
يا علماءنا الكرام ، ويا من نعقد عليهم الآمال بعد الله سبحانه : إن الأمة تنتظر كلمتكم في قضايا كبيرة تصدعون فيها بالحق ، وتبلغونها الموقف الشرعي فهذا أملنا فيكم وظننا بكم . وأملنا في الله عز وجل أن تلتحم صفوف المصلحين في هذه الأمة من علمائها ودعاتها ومجاهديها ليكونوا يدا واحدة في الإصلاح ومحاربة الفساد ورد شبه المفسدين في نحورهم ،
وعندئذ يزهق باطلهم ويرد كيدهم في نحورهم (( بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) [الروم:5]
وأخيرا: أرجوا من علمائنا الأجلاء أن يقبلوا هذه المناصحات ، ولو صدرت من العبد الفقير والابن الصغير ؛ فالحق يؤخذ من كل أحد .
ولكم في سيرة الإمام أحمد رحمه الله تعالى قدوة حيث استفاد في محنته من أعرابي عامي ، فقد ذكر الذهبي في السير (( عن أحمد بن أبي الحواري : حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، قال : قال أحمد بن حنبل : ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق قال : يا أحمد ، إن يقتلك الحق مت شهيدا ، وإن عشت عشت حميدا . فقوي قلبي )) .
2 – إلى دعاة الأمة ومجاهديها :
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى به الله سبحانه عباده المؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) .
* وإن من لوازم الصدق ومقتضياته أن تكون الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله لأجل الله عز وجل وابتغاء مرضاته ، فلا تكون لأجل مال أو منصب أو جاه أو كسب شهرة أو التعصب لشيخ أو حزب أو طائفة ؛ لأن كل ذلك ذاهب وضائع وممحوق البركة في الدنيا والآخرة ، فحري بنا أن نحاسب أنفسنا ونحن في طريق الدعوة والجهاد ف سبيل الله . ما مدى
صدقنا في دعوتنا إلى الله سبحانه ؟ وهل هي خالصة لله وحده أم يشوبها ما يشوبها من أغراض الدنيا الفانية ؟
* وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يبادر الداعية إلى تصديق قوله وما يدعو إليه بفعله ، وأن لا يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، أو يرغب في فعل ولا ينوي القيام به ، أو أن يظهر للناس حرقة وغيرة على هذا الدين ، والأمر لا يتعدى اللسان والكلام حيث القلب مشحون بأمر الدنيا وشهواتها وغارق في وديانها .
إن كل ذلك مما ينافي الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل .
* وإن من لوازم الصدق أيضا في الدعوة إلى الله عز وجل سلامة قلب الداعية من الغل والحسد على إخوانه الآخرين من الدعاة ، وغنما يكن المحبة لكل مصلح يدعو إلى الخير ويتعاون معه في طاعة الله عز وجل ولا يحتقر جهده مهما قل . ولا تراه إلا حريصا وساعيا إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف ؛ فالداعية الصادق يكره الفرقة والاختلاف إذا لم يكن في أصول الدين وكلياته ، والدعاة الصادقون يرحم بعضهم بعضا ويرفق بعضهم ببعض ويتناصحون بينهم .
* كما أن الصدق مع الله سبحانه في الدعوة والجهاد يفرض على السلم أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه ويجاهد من أجله ، وهذا يلزم التفقه في الدين والبصيرة فيه بما قال الله عز وجل وقال رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفهمه الصحابة الكرام ? .
* وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه الحذر من كيد الأعداء المتربصين بهذا الدين وأهله من الكافرين والمنافقين ، وخاصة في زماننا هذا والذي تنوعت فيه أساليب المكر والخبث ، فحري بالداعية الصادق أن يتفطن لدسائس الأعداء ودجلهم ونفاقهم ولو ألبسوا ذلك كله لبوس الحكمة والمصلحة ودرء الفتن .
إن التنازل اليسير من الداعية إلى الله سبحانه لا يقف عند حد بل يتبعه تنازلات وتنازلات ؛ لأن أعداء هذا الدين لا يكتفون بالقليل من الداعية ، وقد حذر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - من هذا الخطر فقال : (( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ )) [ القلم: 8-9 ] ، وقال تعالى : (( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً )) [ الانسان:24]
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى :(/110)
(( والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى - صلى الله عليه وسلم - .. هي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله فهو صاحبها ، وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار . فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم ، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق ، والقائمين على الباطل .
فهما منهجان مختلفان .. وطريقان لا يلتقيان . فأما حين يغلبه الباطل بقوته وجمعه ، على قلة المؤمنين وضعفهم ، لحكمة يراها الله .. فالصبر حتى يأتي الله بحكمه ، والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح وهي الزاد المضمون لهذا الطريق .. إنها حقيقة كبيرة لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق .. فالمحاولات كثيرة تلك التي حاولها المشركون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المساومة بالدعوة ، ولكن الله عصم منها رسوله ، وهي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما . محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلا عن استقامة الدعوة وصلابتها . ويرضوا بالحل الوسط الذي يغرونهم به في مقابل مغانم كثيرة .
ومن جملة الدعاة من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كليا . إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق .
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة . فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ، ولو بالتنازل عن جانب منها ..ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق ..وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء ولو يسير . وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل لا يملك أن يقف ، عندما سلم به أول مرة . لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء .والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها . فالذي ينزل عن جزء منها مهما صغر ، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل ، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان . فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر )).
* ومن لوازم الصدق في الدعوة أن يحذر الداعية من الكذب على إخوانه المسلمين والدعاة المصلحين ، ومن ذلك إشاعة الأخبار قبل التحقق من صحتها واستخدام الأساليب الملتوية والمراواغات بحجة السياسة والمصلحة ، كل هذا لا يتفق وصدق الداعية وسلامة قلبه .
* ومن لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يعتني كل منا بنفسه بالوسائل الشرعية للتربية ، وذلك في وسط بيئة صالحة معروفة بصحة الفهم وحسن القصد يتربى معها ، ويعد نفسه للتضحية في سبيل الله عز وجل وبذلالمال والنفس في ذلك ، وأن يوطن نفسه لابتلاءات الطريق ومشاقه ، والتي هي سنة من سنن الله عز وجل لتمحيص الصفوف ، قال تعالى : (( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )) [ العنكبوت: 1- 3 ] ؛
فلا يتبين الصادق في دعوته من الكاذب إلا بالابتلاء . نسأل الله عز وجل العافية والصبر عند البلاء .
إن الداعية الذي يهمل نفسه فلا يربيها ويعدها للبيع لله عز وجل يوشك أن ينهزم وتخذله نفسه أول هزة وأول اختبار ، مع أنه يحسب نفسه غير ذلك مما يعيشه – في حال الرخاء والأمن – من الحماس العاطفي والكلام الذي لا يجاوز التراقي .
يقول سيد رحمه الله تعالى : (( إن العقيدة وطريقها لشاقة بعيدة تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة . إن تكليف العقيدة هو جهد خطر ، تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب الخاوية . ولكنه الأفق العالي الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبيئة المهزولة . قال تعالى : (( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ )) [ التوبة: 42]
وأنني بهذه المناسبة أوصي نفسي وإخواني الدعاة والمجاهدين أن لا نتكلم في أمر أو نقدم على موقف من مواقف الدعوة حتى تتوفر فيه الشروط التالية :
1- الاطمئنان التام أنه الحق الذي يحبه الله تعالى ، وإعداد النفس لتحمل تبعاته .
2- الاطمئنان التام على أن القيام في هذا الأمر هو لله سبحانه وحده وابتغاء مرضاته .
3- الاستعانة بالله وحده في تحقيق هذا الأمر والثبات عليه ؛ إذ لا قدرة للعبد لحظة واحدة بدون عون الله وتوفيقه .
وإن عدم الالتفات للشروط السابقة هو الذي يوقعنا في عدم إتمام الأمر أو التخاذل وعدم الجدية في أخذه .(/111)
إن السبب في مثل هذه المواقف – والعلم عند الله سبحانه – هو أن أحد الشروط السابقة أو أكثر قد تخلف ، فإما أن الأمر الذي أقدم عليه لم يكن مقتنعا أنه الحق الذي يرضي الله ، أو أنه كان مقتنعا بأنه الحق لكن قومته لم تكن لله ، أو أ، استعانته بالله سبحانه في الدخول في هذا الأمر كانت ضعيفة ، أو أنه لم يوطن نفسه ويهيئها لتبعات كلمة الحق وإنما الأمر كلام فحسب .
إذن يا إخواني الدعاة : إن الأمر جد ليس بالهزل .
فإذا كنا بهذه الحالة في أمر يسير ، فكيف الحال بما هو أشد وأقسى ؟ !
نسأل الله عز وجل العون والثبات ، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد .
3 – إلى المربين في هذه الأمة :
أوصي نفسي وإياكم بما أوصى الله سبحانه به عباده المؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) .
أيها المربون من آباء وأمهات ومعلمين وموجهين إن المسؤولية عظيمة والأمانة جسيمة .
وإن الصدق مع الله عز وجل يستلزم أن تكونوا قدوات صالحة لمن ولاكم الله تربيته وتعليمه ن فمعلوم أثر القدوة في التربية وأنها تفعل مالا يفعله كثير من وسائل التربية الأخرى ، وإن الصدق في الإيمان باللع عز وجل والالتزام بأخلاق هذا الدين العظيم والدعوة إلى الله سبحانه ، كل ذلك له أثره العظيم في تربية الأجيال وتعريفهم برسالة أمتهم التي ينتمون إليها والعقيدة التي يجتمعون عليها .
إن التربية لها معنى أوسع من التعليم وتلقين المعلومات ؛ فالتربية هي الجهد الذي يبذله المربون في كل مجتمع من آباء ومعلمين وغيرهم في إنشاء الأجيال القادمة على أساس العقيدة التي يؤمنون بها ، ومنحهم الفرصة الكافية لتشرب معاني الدين والتضحية من أجله والاعتزاز به بين الأمم .
فالأمة الجادة هي التي تربي أبناءها طبقا للعقيدة التي تدين بها لله تعالى وتسعى لنشرها بين الأمم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تعالى ، وهذه مهمة المربين في هذه الأمة فما أثقلها من تبعة وما أشرفها من رسالة .
* ومن لوازم الصدق أيها المربون الكرام أن تصدقوا مع من ولاكم الله تربيتهم وتعليمهم ؛ وذلك بتعليمهم الخير وربطهم بأبطال هذه الأمة ورعيلها الكرام ، وتحذيرهم من الشر وأهله وتبصيرهم بسبيل المجرمين وأفكارهم الخبيثة وتفنيدها والتحذير منها .
* ومن لوازم الصدق في التربية إعداد المناهج الكريمة المستمدة من
الكتاب والسنة وفهم الصحابة وفقه الواقع الذي تعيشه الأمة ، فعلى المسؤولين عن مناهج التعليم في المجتمعات المسلمة أمانة عظيمة وتبعة ثقيلة فليصدقوا مع الله عز وجل في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبنائها ، فلا يختاروا إلا ما فيه الخير والإصلاح وتنشئة الأجيال على العقيدة العظيمة لهذا الدين وأخلاقه السامقة . وأن يردوا ويسقطوا كل ما من شأنه إفساد العقيدة والأخلاق والأفكار والهمم ؛ فنحن أمة ذات رسالة عظيمة خالدة ينبغي للناشئة أن يدركوا رسالة أمتهم وأنها خير أمة أخرجت للناس ؛ لتنقذهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
أيها المربون من آباء ومعلمين : إن الله سبحانه سائلكم عما استرعاكم فأعدوا للسؤال جوابا (( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ )) [ البقرة: 281] ، وتذكروا أثر العمل الطيب والسنة الحسنة حين تسري في هذه الأمة وينتشر الخير بسببها وتنالون أجر ذلك من كل من تأثر به ، والعكس من ذلك والعياذ بالله تذكروا أثر العمل السيئ والسنة السيئة حين تسري في أبناء الأمة
ويتربون عليها فتنالون وزر ذلك ووزر من تأثر به نعيذكم بالله من هذا المآل .
وهذا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ))
* ومن لوازم الصدق في التربية : أن يربط الأبناء والطلاب في حياتهم بالأهداف العالية النبيلة ولا يربطون بالتوافه من الأمور والأهداف الهابطة ؛ لأن النظرة السائدة اليوم في أكثر بيوت المسلمين ومدارسهم أن طلب العلم قد ربط بالمصلحة الدنيوية ,انه وسيلة للعيش ، ولا يوجد في جو المنزل أو جو المدرسة – إلا من رحم الله – من يقول للمتربي : إن لك أمة تنتظرك ، وإن لك دورا ينتظرك في الدعوة إلى التوحيد وهداية الناس بإذن الله تعالى والجهاد
في سبيله والذود عن حمى الأمة وعقيدتها .
إن هذا النوع من التربية قليل ، فعلى المربين الصادقين مع ربهم سبحانه أن يحيوا هذه المعاني عند إخوانهم المربين ، ويصبغوا بها المناهج المعدة لذلك ، وينشروها في صفوف أبنائهم وطلابهم حتى يخرج جيل قوي متماسك يشعر بانتمائه لهذا الدين ويشعر بمسؤوليته ؛ ليتولى هو بدوره إكمال الطريق وتربية الأجيال التي تأتي بعد ذلك .(/112)
* وبقيت كلمة أخيرة أوصي بها نفسي وأخواني الآباء ، ألا وهي الصدق مع الله سبحانه في جعل البيت محضنا من محاضن التربية الكريمة للأبناء والبنات والإخوان والأخوات والزوجات ؛ وذلك بعمارته بذكر الله عز وجل ووجود القدوات الصالحة وتطهيره من أسباب الرجس والفساد فـ (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن راعيته )) . إن العجب كل العجب من أناس أنعم الله عليهم بنعمة الأموال والأولاد ،ثم هم يخربون بيوتهم بأيديهم ويلقون بأنفسهم وأهليهم إلى النار ، والله تعالى يقول : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )) [ التحريم: 6 ] .
إن أحدنا لو رأى ابنه أو بنته أو أخاه أو أخته أو زوجته يتعرض أحدهم لهلاك في الدنيا بحريق أو غرق أو سقوط من عل لهبَّ مسرعا لإنقاذه ، وإن لم يكن قريبا منه صاح به محذرا من السقوط في المهلكة .
وإن الله سبحانه يحذرنا من نار تلظى لا تأتي نار الدنيا عندها إلا جزءا من سبعين جزءا منها ، ومع ذلك لا يتحرك الكثير منا في إنقاذ نفسه وأهله منها (( قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ )) [التوبة: 81] ، والأعجب من ذلك أن ترى بعض الظالمين لأنفسهم وأهليهم يجلب النار بنفسه ليحرق بها بيته وأهله ؛ فامتلأت أكثر بيوت المسلمين بأجهزة الفساد من أغان هابطة وأفلام ماجنة ومجلات عارية وقصص سافلة .
فهذه والله هي الخيانة وتضييع الأمانة ، وهذا والله مما ينافي الصدق مع الله سبحانه في أداء الأمانة ورعاية العهود . وما يدري المسكين أنه لو مات على هذه الحالة فإنه يموت غاشا لمن استرعاه الله من رعيته ؛ لأنه بهذه الحالة يصدق عليه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من عبد يسترعيه الله رعية ، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة )) .
ثم ألا يشعر هذا الظالم لنفسه ولرعيته أن وزر ما جلبه لبيته من آلات اللهو والفساد يبقى يتابعه ويحمله على ظهره في قبره ويوم القيامة لرب العالمين ، وذلك بقدر ما أفسدت هذه الأمور في نفوس أبنائه وأهله من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا . ألا فلنع خطورة هذا الأمر وأنه جد عظيم ، وأنه خيانة لله ورسوله : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) [ الأنفال:27 ] .
أسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من الصادقين الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً )) [ الفرقان:74 ] .
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد .
4 – إلى الإعلاميين في هذه الأمة : أوصي نفسي وإياكم بما أوصى الله سبحانه به عباده المؤمنين (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) [ التوبة:119 ] .
أيها المؤمنون من إعلاميي هذه الأمة : إني أخاطب فيكم عقيدتكم الإسلامية التي تحملونها بين جوانحكم والتي تحدد هويتكم بين بني البشر وترفع رؤوسكم بين بني الإنسان ، وأخاطب فيكم غيرتكم الإسلامية ومروءتكم العربية وأخلاقكم العريقة التي تميز المسلم عن غيره ، وأخاطب
فيكم الأمانة العظيمة التي حملكم الله إياها من خلال مسؤولياتكم الخطيرة التي أنتم فيها ، وأخاطب فيكم المسؤولية التي أناطتها الأمة بكم لتربوا أبناءها على الإيمان الصادق والعفة والطهارة والعزة والكرامة .
أيها الإعلاميون المؤتمنون على عقيدة الأمة وأخلاقها : اصدقوا مع ربكم سبحانه في الوفاء له بما عهد إليكم (( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً )) [ الاسراء:34 ] ، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [ الأنفال:27 ] ، (( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ )) [ النحل:91 ] .(/113)
واصدقوا مع أمتكم المسلمة التي أمنتكم على دينها وأعراضها وعقولها وأفكارها ؛ فلا تخونوا أمتكم وكونوا عند حسن ظنها بكم . إن إعلام أية أمة يعبر عن عقيدتها وهويتها ، وإذا أردنا أخذ صورة سريعة عن أي أمة أو مجتمع فلننظر إلى إذاعتها وتلفازها وصحفها وما ينشر فيها ؛ فإن ذلك يدلنا على ما يقوم عليه المجتمع من عقيدة وأخلاق . إن لكل أمة هوية ، فأين هويتنا الإسلامية في إعلامنا ؟! إن الإسلام ليس كلمة فحسب ، وليس عقيدة مستترة في القلب فحسب ، بل الإسلام هو الاستسلام لله عز وجل وحده في جميع شئون الحياة . قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ )) [ البقرة:208 ] ، وقال سبحانه : (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )) [ الأنعام:163]
هذا هو الإسلام الذي جاء من عند الله عز وجل ، وإن الناظر في إعلام المجتمعات المسلمة اليوم ليأخذه الدوار والعجب وهو يرى التناقض الخطير والفصام النكد بين الهوية الإسلامية للقائمين عليه وبين ما يفرزه للمجتمع ويبرى عليه الأمة من قلب للحقائق ، وترويض للنفوس على النفاق والكذب وتشرب الفساد والرذائل ، وقتل لمعاني العقيدة الشاملة المستلزمة للإذعان
التام لله سبحانه في كافة أحوال العبد وكافة شؤون المجتمع .
فماذا يعني هذا التناقض وهذه الازدواجية ؟ إنه يعني أحد أمرين :
1 ـ غما أن يكون هناك جهل بحقيقة هذا الدين ويظن انه بالإمكان أن يكون المرء مسلماً بقلبه ولسانه فقط ثم يفعل بعد ذلك ما يشاء ويعمل ما يحلو له أن يعمل ما دام انه ينطق بالشهادتين والهوية التي يحملها هي الإسلام !! وهذه عقيدة المرجئة التي أفسدت في الأرض ودخل من خلالها العلمانيون الذين يفصلون الدين عن الحياة ويجعلونها عقيدة مستكنة في الضمير وبين جدران المساجد فحسب !!
2 ـ أو أن حقيقة الدين ومفهومه الواسع واضحة في أذهان القوم ولكنهم آثروا الحياة الدنيا ومناصبها وزخرفها على مرضاة الله سبحانه والدار الآخرة ؛ فاشتروا الحياة الدنيا الخسيسة بالدار الآخرة الباقية ، فما أشد خسارتهم وأكسد تجارتهم . ألا ذلك هو الخسران المبين .
وسواء كان الأمر الأول أو الثاني فإني أناشد كل إعلامي ينتسب إلى هذه الأمة المسلمة وقد ابتلاه الله عز وجل بمسؤولية ما في هذا المضمار ؛ أناشده بأن يصدق مع ربه سبحانه وأن يعد للموقف الرهيب بين يدي الله عز وجل عدته ؛ فإن الله سائله عن هذه الأمانة . نعم إن الله سيسأله عن أديان الناس وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم ماذا فعل بها من خلال مسؤوليته . نعم ليتذكر الموقف العصيب الذي سيقف فيه عاريا من كل شيء ، عاري الجسد وعاري الضمير وعاري التاريخ سيقف فردا ليس معه رئيسه ولا مرءوسه ولا والده ولا ولده (( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )) [عبس:34- 37 ] .
فماذا سيكون الجواب ؟ نعم ماذا سيكون جوابك إذا حاكمتك الأمة بأسرها على ما قدمت لها من كلمة مسموعة أو مرئية أو مقروءة كانت سببا في إضلال أبنائها ؟! أناشدك بما معك من الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا تفغل عن هذا اليوم الرهيب ، فوالله إنه لقريب
(( وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ . يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ)) [ الشورى:17- 18] .
وبعد هذا ما يسر الله سبحانه كتابته حول هذا الموضوع عسى الله أن ينفع به كاتبه وقارئه في الدنيا والآخرة ، وأطلب من الأخوان الذي يتفضلون بقراءة هذا البحث أن لا ينسوني من نصائحهم وتوجيهاتهم جزى الله الجميع خيرا .
(( فيا أيها القارئ والناظر فيه ، هذه بضاعة صاحبها المزجاة يسوقها إليك ، وهذا فهمه وعقله معروض بين عليك لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه ، ولك ثمرته وعليه عائدته ، فإن عدم منك دعاء ، فلا يعدم منك عذرا ، وإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح ، وقد : قد استأثر الله بالثناء وبالـ الحمد وولى الملامة الرجلا ))
(( وما كان في هذا البحث من حق وصواب فمن الله تعالى هو المان به فإن التوفيق بيده ، وما كان فيه من زلل فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله منه براء )) .
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ؛ أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم . اللهم اجعل أعمالنا كلها صالحة ، واجعلها لوجهك خالصة ، ولا تجعل لأحد فيها شيئا .(/114)
اللهم اهدنا صراطك المستقيم ؛ صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
***(/115)
وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم
الجزء الأول
الرسالة الأولى : وإذا قلتم فاعدلوا .
الرسالة الثانية : قل إنما أعظكم بواحدة .
الرسالة الثالثة : قل هو من عند أنفسكم .
الرسالة الرابعة : إن ربك حكيم عليم .
الرسالة الخامسة : متى نصر الله ؟
الرسالة السادسة : وكونوا مع الصادقين .
الرسالة السابعة : ولا تلبسوا الحق بالباطل .
بقلم / الشيخ الدكتور
عبد العزيز بن ناصر الجليل
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده،ونستعينه،ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لله تسليماً كثيراً.ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إلا حذرها منه .
وإن من أعظم ما دلهم عليه وحثهم عليه الاجتماع والاعتصام بحبل الله عز وجل ؛قال تعالى : (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا )) (آل عمران: 103) ،وقال عز من قائل : (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (آل عمران:105)
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو يسأله عن الفتن وسبيل النجاة منها : ((... الزم جماعة المسلمين وإمامهم ))(1). وقال عليه الصلاة والسلام : (( عليكم بالجماعة))(2)، وقال : (( إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ))(3) .
والآيات والأحاديث في هذا الأمر كثيرة .
وإن اجتماع كلمة المسلمين اليوم ـ وبخاصة دعاة الحق من علماء الأمة ورجال الدعوة المخلصين ـ أصبح أمراً لا بديل عنه ، وضرورة ينبغي أن تسبق كل ضرورة ؛ فنصرة الله تعالى لعباده المؤمنين مشروطة بشروط تمر عبر الاجتماع ووحدة كلمة أهل الحق .
وإن هذه الوحدة ينبغي أن تتجه القلوب لتحقيقها ، وترتفع الأكف في طلبها ، ويتحرك المخلصون في تحصيلها ، فإلى متى يدور المسلمون في حلقة مفرغة ؟! وإلى متى هذا التحزب والانشطار والتساقط المتتابع للجماعات والدعاة تحت قوة الدافع ومرارة الانقسام والاختلاف ؟!
إن الكثيرين من الدعاة قد أعياهم هذا المرض العضال ، وذلك الداء الفتاك الذي استشرى في أوساط الدعاة ؛ فلزموا بيوتهم ، وألقوا بأيديهم حرصاً على سلامة قلوبهم ـ كما زين لهم الشيطان الرجيم الذي لا يألو جهداً في بث الفرقة والاختلاف ، ثم هو في نفس الوقت يبث اليأس في القلوب الضعيفة التي أعياها السير وكثرة الاختلاف ، فيزين لهم اعتزال أي عمل إسلامي يوجد في هذه الأزمنة ،حتى يأتي الله بفتح من عنده. كل هذا بسبب الفرقة والاختلاف . وبدلاً من العمل والسعي لتغيير هذا الواقع الأليم والتحرك لجمع الكلمة ووحدة الصف ، آثروا السلامة والنجاة بنفوسهم ، وربما كانت النجاة في غير ما اختاروا .
فيا طلاب العلم المخلصين! ويا دعاة الحق المبين! ألا من رجعة صادقة إلى الله عز وجل نرتفع بها على ذواتناوأشخاصنا وأغراضنا الدنيوية!ألا من
رجل رشيد يفكر بعمق في هذه المأساة وخطرها على الأمة الإسلامية بأسرها! وإنه إن لم نسع لرأب الصدع ، وبذل الولاء والمحبة لكل مؤمن ، فإن هناك فتنة وفساداً كبيراً سيحلان بنا ؛ إن لم يتداركنا الله برحمة من عنده ؛ يجمع بها شتات القلوب ، وتتوحد بها كلمة دعاته الصادقين ؛ يقول تعالى : ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)) (لأنفال:73) .
ومما يزيد الأمر حسرة وألماً، أن هذه الفرقة تحصل بين من ينتسبون إلى عقيدة واحدة ومنهج واحد هو عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم ، فإذا كان الجميع بهذه الصورة، وهم يواجهون عدواً واحداً يحارب الإسلام وأهله أيّاً كان ثوبه أو اسمه ، وإذا كان الجميع يهدفون إلى غاية واحدة ؛ وهي استئناف الحياة الإسلامية ، وإقامة دين الله عز وجل وشريعته ، ومحاربة الباطل وأهله ، إذا كان الجميع متفقين على ذلك كله ، فلماذا هذه الفرقة ؟
لا شك أن للشيطان وحظوظ أنفسنا سبباً كبيراً في وجود هذه الفرقة، وهناك سبب آخر لا يقل عن سابقيه في كونه سبباً من أسباب الفرقة والاختلاف ، ألا وهو الجهل بدين الله عز وجل وأحكام شريعته ـ كما سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله .
__________
(1) رواه البخاري في الفتن ( 7084 ) ، ومسلم في الإمارة ( 1847 ) .
(2) رواه أحمد ( 5 / 145 ) ، والنسائي في الإمامة ( 2 / 107 ) ، والترمذي في الفتن
( 2165) والحديث في صحيح النسائي ( 817 ) .
(3) رواه أحمد ( 5 / 191 ) ، وأبو داود في الصلاة ( 547 ) ، والنسائي في الإمامة (2 / 107) والحديث في صحيح سنن أبي داود ( 511 ) .(/1)
وإن ما سبق ذكره لا يعني ألا يوجد خلاف أبداً بين الأفراد أو الجماعات،كلا...فالخلاف ـ والله أعلم ـ أمر حتمي تفرضه اختلاف الطبائع والمقومات الشخصية والفكرية والميول النفسية...إلخ،ولكن ليس كل اختلاف
يوجب الفرقة والتنازع والتباغض ، وأوضح مثال لذلك أن السلف رحمهم الله قد اختلفوا في كثير من المسائل ، ومع ذلك كانت كلمتهم مجتمعة ولم يتفرقوا ، والكلام هنا منصب على من هم في دائرة أهل السنة والجماعة ولم يختلفوا في أصولها ؛ أما المخالفون لأهل السنة من أهل الأهواء والبدع، فإن خلافنا معهم أصيل ومتعين ، ومثل هؤلاء ينبغي أن نفارقهم ونتبرأ من بدعهم وضلالاتهم .
وإن الأمة ـ منذ عهد أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - ـ قد وقع بينهم اختلاف في بعض المسائل ، ولم يكن هذا الاختلاف يوجب الفرقة ، إلا عندما يدخل الشيطان أو أولياؤه من الجن والإنس ، أو يكون المفارق لا علم عنده بالأدلة ومسائل الخلاف، وما يجوز الخلاف فيه وما لا يجوز ، وهذا أدى إلى تحول الخلاف ـ الذي تحتمله الشريعة،ويسعه أقوال الصحابة رضي الله عنهم ، ومن بعدهم من سلف هذه الأمة وأئمتهم ـ إلى عداوة وفرقة .
وإن أهل السنة يمكن أن يقع بينهم اختلاف حول بعض المسائل التي يجوز الاختلاف فيها ، ولكن هذا لا يؤدي إلى اختلاف القلوب ، لعلمهم بأن هناك أسباباً كثيرة ترفع اللوم عن الأئمة الأعلام لعدم وصول الدليل إليهم،أو أن الدليل وصل إليهم ولكن اختلفت الأذهان في فهم دلالته ، أو غير ذلك من أسباب الخلاف المحتمل في الشريعة (ارجع إلى كتاب . رفع الملام لشيخ الإسلام ابن تيمية لتفصيل هذه الأسباب ) .
من أجل ذلك ، ومن أجل جوانب تربوية أخرى،تأتي هذه الوقفات القرآنية لتلمس هذه الحقائق،ولتكون خطوة على طريق إزالة هذه الخلافات الحادة ، لعلنا نهتدي إلى أول الطريق ، فنبصر آخره ؛ لأن من ضل أول الطريق فقد صعب عليه أن يمسك بنهايته .
أسأل الله عز وجل أن ينفع بها ، وأن تكون مثار اهتمام بهذا لمن يهمهم هذا الأمر، وإلى أن تكون مجالاً للكتابة والبحث والحوار والعمل ، والله من وراء القصد ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الرسالة الأولى : وقفات تربوية في ضوء القرآن الكريم ((وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ )) ( الأنعام : 152)
أهمية الموضوع
((وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ )) ( الأنعام : 152) إن أهمية الموضوع تأتي من أنه مفتاح الحق ، وجامع الكلمة ، والمؤلف بين القلوب ؛ لأن من أقوى أسباب الاختلاف بين العباد : الظلم والاعتداء، وفقدان العدل والإنصاف . ولو جاهد المسلم نفسه لتحقيق صفة العدل على نفسه ومع الناس ؛ فإن كثيراً من المشاكل التي تحصل بين المسلمين ـ سواء منها الفردية أو الجماعية ـ ستزول وتحل بإذن الله ؛ وذلك لأن سبب الانحراف عن الحق والإصرار على الأخطاء: إما الجهل وإما الظلم ؛ فالجهل علاجه العلم، والظلم علاجه العدل والإنصاف والقسط .
ولقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيراً ما يرجع أسباب الفرقة والتعدي والتعصب إلى الأمرين المذكورين سابقاً ؛ فتراه يقول : ((الإنسان خُلق ظلوماً جهولاً ؛ فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله ، وعدل في محبته وبغه ، ورضاه وغضبه،وفعله وتركه،وإعطائه ومنعه،وأكله وشربه،ونومه ويقظته .
وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله ، وعدل ينافي ظلمه ؛ فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل ، وإلا كان منه من الجهل والظلم ما يخرج به من الصراط المستقيم ، وقد قال تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم - بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان : ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)) إلى قوله تعالى ((وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً)) (الفتح:1،2) ، فإذا كان هذه حاله
في آخر حياته أو قريباً منها، فكيف حال غيره؟! ))(1) اهـ.
وقال رحمه الله : ((والعدل هو الاعتدال،والاعتدال هو صلاح القلب، كما أن الظلم فساده ، ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالماً لنفسه، والظلم خلاف العدل ، فلم يعدل على نفسه بل ظلمها ، فصلاح القلب بالعدل ، وفساده في الظلم ، وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم المظلوم، كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه ، فمنه العمل ، وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر ، قال تعالى : (( لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت )) (البقرة:286) ... ))(2) ، إلى أن قال في الجزء نفسه ص 99:
(( مع أن الاعتدال المحض السالم من الأخلاط لا سبيل إليه ، لكن الأمثل فالأمثل ، فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ، ومرضه من الزيغ والظلم والإعراض ، والعدل المحض في كل شيء متعذر علماً وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل ؛ولهذا يقال : هذا أمثل ، ويقال : الطريقة السلفية الطريقة المثلى .
__________
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ( 14 / 38 ) .
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ( 10 / 98 ) .(/2)
وقال تعالى : ((وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ )) (النساء:129) ، وقال تعالى (( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا )) (الأنعام:152) ، والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط . وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له ، ثم العدل على الناس في حقوقهم ، ثم العدل على النفس ))اهـ.
وهنا نرى أن شيخ الإسلام قد بيَّن أهمية العدل ، وأنه أساس النجاة في الدنيا والآخرة ، وقد قسَّمه حسب الأهمية إلى : أعظم العدل ؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، ثم العدل على الناس ، ثم العدل على النفس، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في ثنايا هذا البحث .
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أيضاً أهمية العدل مع الخصوم والمفارقين لأهل السنة ؛ حيث قال :
((وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق ، ويرحمون الخلق، ويتبعون الرسول- صلى الله عليه وسلم - ولا يبتدعون ، ومن اجتهد فأخطأ خطأ ً يعذره فيه الرسول- صلى الله عليه وسلم -عذروه...إلى أن قال: ((والله يحب الكلام بعلم وعدل ، ويكره الكلام بجهل وظلم ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار وقاض في الجنة: رجل قضى للناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ))(1) .
وقد حرم سبحانه وتعالى الكلام بلا علم مطلقاً ، وخص القول عليه بلا علم بالنهي؛ فقال تعالى : (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) (الاسراء:36)، وقال تعالى : (( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) (الأعراف:33) وأمر بالعدل على أعداء المسلمين؛فقال تعالى: ((كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )) (المائدة:8 ] ))(2) .
إذن مما سبق ذكره من كلام شيخ الإسلام يتبين لنا أهمية العدل في القول والعمل ، وأن الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها،لا يستطيع أن يحملها الإنسان إلا بأن يتغلب على صفة الجهل، بالعلم والتفقه في دين الله عز وجل ، وبأن يتغلب على صفة الظلم، بالعدل والإنصاف.
ومع ذلك ـ وكما أشار شيخ الإسلام ـ فلن يستطيع أن يكمل العدل كله ، ولا أن ينفك عن الجهل كله ، وكذلك فهو في حاجة لأن يتوب الله عليه ويغفر له تقصيره وضعفه ، وهذا هو ما يفهم من آية الأمانة في سورة الأحزاب؛ حيث ذكر الله عز وجل لنا صنفين من الناس:
الصنف الأول : المؤمنون الذين بذلوا جهدهم في طلب العلم المنافي للجهل ، والعدل المنافي للظلم ، فاستحقوا من الله عز وجل أن يتوب عليهم ما لم يستطيعوا تحقيقه من العلم والعدل .
الصنف الثاني : أولئك المشركون والمنافقون الذين أعرضوا عن دين الله عز وجل فلم يتعلموه ، وأعرضوا عن العدل والقسط ، فسقطوا في ظلمات الجهل والظلم ، ووقعوا في الشرك والنفاق ، فاستحقوا العذاب الأليم ، يقول الله تعالى : (( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) (الأحزاب:72 ، 73) .
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين أعانهم على حمل الأمانة وغفر لهم تقصيرهم .
* * *
تعريف العدل
ومنزلته في الكتاب والسنة
قال في لسان العرب : العدل : ما قام في النفوس أنه مستقيم ، وهو ضد الجور . عدل الحاكم في الحكم يعدل عدلاً ، وهو عادل من قوم عدول.. وفي أسماء الله الحسنى ( العدل ) وهو الذي لا يميل فيجور في الحكم. والعدل : الحكم بالحق .
__________
(1) رواه أبو داود في الأقضية ( 3573 ) ، وابن ماجه في الأحكام ( 2315 ) .
والحديث في صحيح سنن أبي داود ( 3051 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 16 / 96 ) .(/3)
وكتب عبد الملك إلى سعيد بن جبير يسأله عن العدل فأجابه : إن العدل على أربع أنحاء : العدل في الحكم ، قال الله تعالى : (( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ )) (المائدة:42) ، والعدل في القول ، قال تعالى : (( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)) (الأنعام:152) ، والعدل في الفدية ، قال تعالى: ((وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ )) (البقرة:123) ، والعدل في الإشراك ، قال تعالى: (( ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)) (الأنعام:1) .أي يشركون .
وفلان يعدل فلاناً : أي يساويه ، وعدّل الموازين والمكاييل : ساواها، وتعديل الشيء : تقويمه ، والاعتدال : توسط حال بين حالين في كم وكيف، كقولهم : جسم معتدل بين الطول والقصر ، وجو معتدل بين الحر والبرد ... إلخ ، والمعادلة : الشك في أمرين ، يقال : أنا في عدال في هذا الأمر ؛أي : في شك منه أأمضي عليه أم أتركه؟. اهـ .(باختصار).
والآيات والأحاديث الواردة في ذكر العدل، والحث عليه، والتحذير
من ضده كثيرة جداً ، لكننا نقتصر على بعضها مع نقل بعض أقوال علماء التفسير حولها .
الآيات الواردة في ذلك :
الآية الأولى :
يقول الله عز وجل في سورة آل عمران (( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) (آل عمران:18)
يعلق شيخ الإسلام على قوله تعالى: (( قَائِماً بِالْقِسْطِ )) فيقول :((فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان ، فمن كان قوله وعمله بالقسط كان مستقيماً ، ومن كان قوله وعمله مستقيماً كان قائماً بالقسط ، ولهذا أمرنا الله عز وجل أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم ؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وصراطهم هو العدل والميزان ليقوم الناس بالقسط، والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه ، فالمعاصي كلها ظلم مناقض للعدل مخالف للقيام بالقسط والعدل ))(1) .
ويعلق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية في ظلال القرآن ؛فيقول:
((وتدبير الله عز وجل لهذا الكون والحياة متلبس دائماً بالقسط وهو العدل ، فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس ، ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون،التي يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دوركل كائن آخر..لايتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس ، وبيَّنه في كتابه ، وإلا فلا عدل ،ولا قسط ، ولا استقامة ، ولا تناسق، ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان ، وهو الظلم إذن والتصادم والتشتت والصراع ... )) .
إلى أن قال رحمه الله تعالى: في الصفحة نفسها :
((وأنه حيث حكم في حياة الناس منهج آخر من وضع البشر لازمه جهل البشر وقصور البشر ، كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور : ظلم الفرد للجماعة ، أو ظلم الجماعة للفرد ، أو ظلم طبقة لطبقة ، أو ظلم أمة لأمة أو ظلم جيل لجيل .
وعدل الله عز وجل وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء ، وهو إله جميع العباد، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ((لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) (2) اهـ .
الآية الثانية : قوله عز وجل : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً )) (النساء:135) .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية :((يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط ، أي العدل ، فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين ، يقول: (( شُهَدَاءَ لِلَّهِ )) كما قال تعالى : (( وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ )) (الطلاق:2) أي أدوها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً ، خالية من التحريف والتبديل والكتمان ، ولهذا قال : (( وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) أي : اشهد بالحق ولو عاد ضرره عليك،وإذا سئلت عن الأمر، فقل الحق فيه ولو عاد ضرره عليك ؛ فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه.
وقوله : (( أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)) أي : وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها ، بل اهد بالحق وإن عاد الضرر عليهم ؛ فإن الحق حاكم على كل أحد.
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 14 / 179 ) .
(2) في ظلال القرآن ( 1 / 55 ) ط . دار المعرفة .(/4)
وقوله: (( إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)) أي:لا ترعاه لغناه، ولا تشفق عليه لفقره،فالله يتولاهما،بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما.
وقوله : (( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)) أي : لا يحملنكم الهوى والمعصية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ؛ كما قال تعالى : (( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)) (المائدة:8) .
ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه الرسول- صلى الله عليه وسلم - على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من أحب الخلق إلي ، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم، فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض ))(1) اهـ .
ويعلق سيد قطب على هذه الآية نفسها بقوله :
((إنها أمانة القيام بالقسط على إطلاقه في كل حال ، وفي كل مجال ؛ القسط الذي يمنع البغي والظلم في الأرض ، والذي يكفل العدل بين الناس، والذي يعطي كل ذي حق حقه ، من المسلمين وغير المسلمين ، وفي هذا الحق يتساوى عند الله عز وجل المؤمنون وغير المؤمنين ، ويتساوى الأقارب والأباعد ويتساوى الأعداء والأصدقاء ، والأغنياء والفقراء ..
والمنهج الرباني يجنِّد النفس في وجه ذاتها ، وفي وجه عواطفها تجاه ذاتها أولاً (( وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ )) ، وتجاه الوالدين والأقربين ثانياً ، وهي محاولة شاقة أشق بكثير من نطقها باللسان ...)) إلى أن قال : (( ثم هو يجنِّد النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية ، أو الاجتماعية حين يكون المشهود له أو عليه فقيراً ؛ تشفق النفس من شهادة الحق ضده ، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه ، أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده ، بحكم الرواسب الاجتماعية ، كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية وحين يكون المشهود له أو عليه غنياً تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته ، أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده ...))(2) .
الآية الثالثة :
قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) (المائدة:8).
يعلق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية بقوله :
((لقد نهى الله عز وجل الذين آمنوا من قبل، أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام على الاعتداء ، وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة ، يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم ، فها هم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل ، وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق ، فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده، تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض .. )) إلى أن قال رحمه الله تعالى :
((إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله عز وجل؛حين تقوم لله متجردة عن كل ما عداه،وحين تستشعر تقواه وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور ))(3) اهـ (باختصار).
الآية الرابعة :
قوله تعالى : ((وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (الأنعام:152)
يعلق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية ، فيقول :
((وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري ـ وقد ربطه بالله ابتداءً ـ إلى مستوى سامق رفيع على هدى من العقيدة في الله ومراقبته . فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري ؛ الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكافل والامتداد،بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل، وفي قوة القرابة سند لضعفه،وفي سعة رقعتها كمال لوجوده ، وإن امتدادها جيلاً بعد جيل حماية لامتداده ، ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم أو القضاء بينهم وبين الناس.
__________
(1) تفسير ابن كثير ( 2 / 412 ) ط . دار الفكر . وحادثة ابن رواحة رواها بنحوها أحمد ( 3 / 367 ) من حديث جابر ، وأبو داود في البيوع ( 3410 ) من حديث ابن عباس .
(2) في ظلال القرآن ( 2 / 549 ) ط . دار المعرفة .
(3) في ظلال القرآن ( 2 / 667 ) ط . دار المعرفة .(/5)
وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل، على هدى من الاعتصام بالله وحده، ومراقبة الله وحده، اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى ، وتقوى له من الوفاء بحق دون حقه وهو سبحانه أقرب إلى المرء من حبل الوريد ))(1) اهـ .
أما الأحاديث الواردة في الحث على العدل ، وتجنب الظلم والبغي فكثيرة جداً نقتصر على بعضها :
الحديث الأول : ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال : ((نحلني أبي نحلاً ، فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ،فجاءه ليشهده على صدقتي، فقال: ((أكل ولدك نحلت مثله ؟ )) فقال : لا ، فقال :((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم))، وقال : ((إني لا أشهد على جور)). قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة))(2) .
الحديث الثاني :
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ؛ يعدل بين اثنين صدقة ))(3) .
الحديث الثالث : ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : ((بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا ، وعلى ألا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول الحق أينما كان؛ لا نخاف في الله لومة لائم )) ، وزاد النسائي: (( وعلى أن نقول بالعدل أين كنا ))(4) .
الحديث الرابع :روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو،قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا ))(5)
الحديث الخامس : روى النسائي والحاكم في مستدركه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يدعو بهذا الدعاء : ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق ، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحق والعدل في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى ، وأسألك نعيماً لا ينفد ، وقرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضا بعد القضاء،
وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين ))(6) .
* * *
أقسام العدل
ينقسم العدل حسب متعلقاته إلى الأقسام التالية :
1ـ أعظم العدل :
وهو توحيد الله عز وجل لا شريك له ؛ وهو الحق الذي قامت به السموات والأرض ،ومن أجله خلق الله الخلق، قال الله عز وجل : (( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ )) (الدخان:38 ، 39) .
وقال تعالى : (( مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ )) (الاحقاف:3) .
ويقابل هذا القسم من العدل أعظم الظلم؛وهو الإشراك بالله عز وجل والكفر به ، حيث قال عز وجل : (( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) (لقمان:13)،ومثله قول الله تعالى : (( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) (الأنعام:82) ،قوله تعالى : ((وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) (البقرة:254) .
2 ـ العدل مع النفس :
ويدخل في هذا العدل قيام العبد بالأمانة التي كلفه الله عز وجل بها ، ودلك فيما بين العبد وربه ، من الالتزام بأوامره واجتناب نواهيه ،من غير إفراط ولا تفريط،ويقابل هذا القسم من العدل ظلم العبد لنفسه بارتكابه ما
حرم الله عز وجل مما هو دون الشرك ، أو تركه ما أمر الله عز وجل مما يتعلق به نفسه ، ولا يتعدى إلى غيره .
__________
(1) في ظلال القرآن ( 3 / 426 ) ط . دار المعرفة .
(2) رواه البخاري في الهبة ( 2587 ) ، ومسلم في الهبات ( 11623 ) .
(3) رواه البخاري في الصلح ( 2707 ) ، ومسلم في الزكاة ( 1009 ) .
(4) رواه البخاري في الأحكام ( 7199 ) ، ( 7200 ) ، ومسلم في الإمارة ( 1709 ) واللفظ له ، والنسائي في البيعة على السمع والطاعة ( 7 / 137 ) .
(5) رواه مسلم في الإمارة ( 1827 ) باب : فضيلة الإمام العادل .
(6) رواه النسائي في كتاب السهو ( 3/ 55 ). وهو في صحيح سنن النسائي (1237 ) ، ( 1238 ) .(/6)
وهذا النوع من الظلم من أخف أنواع الظلم ؛حيث إن صاحبه قد يتوب فيتوب الله عليه ، ولو مات عنه بدون توبة فإنه تحت المشيئة،بينما الظلم العظيم وهو الشرك بالله لو مات عليه فلن يغفر الله له؛كما قال تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً )) (النساء:48) .
وهو أخف من ظلم العباد لأنه يشترط في التوبة من ظلم العباد رد الحقوق إلى أهلها واستباحتهم منها .
3 ـ العدل مع العباد :
وهذا النوع من العدل هو الذي يهمنا في هذا الحديث ، والقسمان السابقان ليس هنا موضع تفصيلهما ، ويقابل هذا القسم من العدل ظلم العباد واعتداء بعضهم على بعض ، سواء في القول أو الفعل .
وسنذكر في هذا القسم ـ إن شاء الله ـ بعض مقتضيات ولوازم هذا العدل، مع الإشارة في أثناء ذلك إلى بعض المواقف المؤسفة،التي تنافي العدل والإنصاف، مع ذكر المنهج الشرعي الذي ينبغي سلوكه حيال هذه المواقف .
ويحسن بنا قبل ذكر هذه اللوازم أن نقدم لها بكلام نفيس للإمام ابن القيم رحمه الله ـ في مدارج السالكين ـ حول (منزلة الخُلق).قال رحمه الله تعالى:
(( وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان،لا يتصور قيام ساقه إلا عليها : الصبر ، العفة ، الشجاعة ، العدل .
فالصبر: يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ ، وكف الأذى ، والحلم والأناة، والرفق ، وعدم الطيش والعجلة .
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل ، وتحمله على الحياء ، وهو رأس كل خير ،وتمنعه من الفحشاء ، والبخل والكذب والغيبة والنميمة .
والشجاعة: تحمله على عزة النفس ، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى ، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته،وتحمله على كظم الغيظ والحلم ؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها ، ويكبحها بلجامها عن النزع والبطش ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))(1) ، وهو حقيقة الشجاعة ؛ وهو ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه .
والعدل : يحمله على اعتدال أخلاقه ، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط ؛ فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقِحة ، وعلى خلق الشجاعة الذي هو التوسط بين الجبن والتهور،وعلى خلق الحلم الذي هو التوسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس . ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة .
ومنشأ جميع الأخلاق السافلة ، وبناؤها على أربعة أركان : الجهل ، والظلم ، والشهوة ، والغضب .
فالجهل : يريه الحسن في صورة القبيح ، والقبيح في صورة الحسن ،
والكمال نقصاً ، والنقص كمالاً .
والظلم : يحمله على وضع الشيء في غير موضعه ، فيغضب في موضع الرضى ، ويرضى في موضع الغضب ، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام ، ويلين في موضع الشدة ، ويشتد في موضع اللين ، ويتواضع في موضع العزة ، ويتكبر في موضع التواضع .
والشهوة : تحمله على الحرص والشح والبخل ، وعدم العفة والنهمة والجشع ، والذل والدناءات كلها .
والغضب : يحمله على الكبر والحقد والحسد ، والعدوان والسفه .
ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق:أخلاق مذمومة .
وملاك هذه الأربعة أصلان : إفراط النفس في الضعف ، وإفراطها في القوة.
فيتولد في إفراطها في الضعف : المهانة والبخل ، والخسة واللؤم ، والذل والحرص، والشح وسفاسف الأمور والأخلاق .
ويتولد من إفراطها في القوة : الظلم والغضب والحدة ، والفحش والطيش .
ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غية كثيرون ، فإن النفس قد تجمع قوة وضعفاً ؛ فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر ، وأذلهم إذا قهر ، ظالم عنوف جبار ، فإذا قهر صار أذل من امرأة ؛ جبان عن القوي ، جريء على الضعيف ؛ فالأخلاق الذميمة يولد بعضها بعضاً ، كما أن الأخلاق الحميدة يولد بعضها بعضاً .
وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما ، وطرفاه خلقان ذميمان ، كالجود :الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير ، والتواضع : الذي يكتنفه خلقا الذل والمهانة والكبر والعلو ))(2) اهـ.
* * *
من لوازم العدل ومقتضياته
هذا الباب هو بيت القصيد من هذا البحث ؛ لأن المقصود من إثارة هذا الموضوع ، هو التعرض للجوانب العملية التي يفرضها العدل على المسلم ، وخاصة في واقعنا المعاصر ، ومانشأ فيه من تفريط في هذه الجوانب ، ونقتصر فيها على ما يلي :
1 ـ التثبت من الأمر قبل الحكم عليه :
__________
(1) رواه البخاري في الأدب ( 6114 ) ، ومسلم في البر والصلة ( 2609 ) .
(2) مدارج السالكين( 2 / 308 )، تحقيق: محمد حامد الفقي ، ط . دار الكتاب العربي .(/7)
إن من العدل والإنصاف أن يتثبت المسلم من كل خبر أو ظاهرة ، قبل الحكم عليها ، وإن من الظلم والاعتداء الحكم على أمر بمجرد الظنون والأوهام ، وقبل التثبت التام منه ، ولقد بين الله سبحانه وتعالى لنا في سورة الإسراء وفي آية واحدة المنهج الصحيح، الذي ينبغي سلوكه في مثل هذه الأمور ، يقول الله عز وجل: (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) (الاسراء:36) ، وحول تفسير هذه الآية قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى :
((قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:يقول : لا تقل . وقال العوفي عنه: لا ترم أحداً بما ليس لك به علم . وقال محمد بن الحنفية : يعني : شهادة الزور. وقال قتادة : لا تقل رأيت ولم تر ، وسمعت ولم تسمع ، وعلمت ولم تعلم؛فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله.ومضمون ما ذكروه : أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم ، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى : (( اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ )) [الحجرات:12] ))(1) اهـ.
وحول ظلال هذه الآية ، قال سيد قطب رحمه الله تعالى :
((والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة ، فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) ، وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجاً كاملاً للقلب والعقل ، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثاً جداً ، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله ، ميزة الإسلام عن المناهج العقلية الجافة .
فالتثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها ؛ هو دعوة القرآن الكريم ، ومنهج الإسلام الدقيق ، ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة، ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل ، ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم.
والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى ، ويجعل الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده،أمام واهب السمع والبصر والفؤاد.
إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب ، أمانة يسأل عنها صاحبها وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعاً ، أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة ، وكلما روى الإنسان رواية ، وكلما أصدر حكماً على شخص أو أمر أوحادثة .
(( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )) ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين ، ومالم تتثبت من صحته:من قول يقال ورواية تروى.من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل . ومن حكم شرعي ، أو قضية اعتقادية .
وفي الحديث : (( إياكم والظن فإنه أكذب الحديث)) (2) ، وفي سنن أبي داود : ((بئس مطية الرجل : زعموا)) (3) ،وفي الحديث الآخر : (( إن أفرى الفرى أي يُري الرجل عينيه ما لم تريا))(4) .
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه والتثبت في استقرائه؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته ، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة ، ولا يروي حادثة ، ولاينقل رواية،ولا يحكم العقل حكماً،ولا يبرم الإنسان أمراً إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة ، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها : (( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ))(5) اهـ.
2 ـ العدل في النقل ومعالجة الخطأ :
هذا الجانب من جوانب العدل نحتاج إليه في كل حال من أحوالنا
الفردية والجماعية ، وذلك في حل مشاكلنا ومعالجة أخطائنا معالجة شرعية تسيطر عليها روح المحبة والإخلاص .
__________
(1) تفسير ابن كثير ، جـ4 ص307 ، ط. دار الفكر .
(2) رواه البخاري في النكاح ( 5134 ) ، ومسلم في البر ( 2563 ) .
(3) رواه أبو داود في الأدب ( 4972 ) ، وهو في صحيح سنن أبي داود ( 4158 ) .
(4) مسند أحمد ( 2 / 92 ) من حديث ابن عمر ، وله شاهد عند البخاري في المناقب ( 3509 ) من حديث واثلة بن الأسقع .
(5) في ظلال القرآن ، ( 5 / 326 ) ط . دار المعرفة اللبنانية .(/8)
ويجدر بنا أن نذكر هنا المنهج العادل والطريقة المثالية لمعالجة الخطأ ، وذلك حسبما رسمه لنا من أمرنا الله عز وجل بأن تكون لنا أسوة حسنة فيه لله، وما أكثر المواقف العادلة في سيرته- صلى الله عليه وسلم -، بل إن سيرته- صلى الله عليه وسلم - كلها عدل،ونكتفي هنا بمثال واحد ألا وهو موقفه لله من صنيع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في فتح مكة ، ويحسن أن نذكر القصة بتمامها ؛ ليتضح لنا ذلك القسطاس المستقيم الذي انتهجه الرسول- صلى الله عليه وسلم - في معالجة هذا الخطأ ، رغم شناعته وخطورته :
روى الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه ، عن علي رضي الله عنه قال : ((بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأبا مرثد والزبير ـ وكلنا فارس ـ قال : (( انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب ابن أبي بلتعة إلى المشركين )) ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، فقلنا:الكتاب ، فقالت : ما معي من كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتاباً،فقلنا:ما كذب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها ـ وهي محتجزة بكساء ـ فأخرجته ، فانطلقنا بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - ، فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه .
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( ما حملك على ما صنعت ؟)) قال حاطب: والله ما بي ألا أكون مؤمناً بالله ورسوله- صلى الله عليه وسلم - ، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي ، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال- صلى الله عليه وسلم -: (( صدق،ولا تقولوا إلا خيراً )). فقال عمر : إنه قد خان الله والمؤمنين ، فدعني فلأضرب عنقه ، فقال : (( أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ـ أو فقد غفرت لكم ـ)) ، فدمعت عينا عمر ، وقال : الله ورسوله أعلم ))(1) اهـ .
من هذه الحادثة نستطيع أن نحدد ثلاث مراحل للمعالجة العادلة للخطأ، مهما كانت ضخامته :
المرحلة الأولى : مرحلة التثبت من وقوع الخطأ :
وفي هذه الحادثة قد تم التثبت عن طريق أوثق المصادر ألا وهو الوحي، حيث أوصى الله عز وجل إلى الرسول لله بخبر الكتاب الذي أرسله حاطب مع المرأة،وأين هي المرأة.
المرحلة الثانية: مرحلة التثبت من الأسباب التي دفعت إلى ارتكاب الخطأ:
وهذا الأمر متمثل في قوله- صلى الله عليه وسلم -لحاطب: ((ما حملك على ما صنعت ؟ )) وهذه المرحلة مهمة ؛ لأنه قد يتبين بعد طرح هذا السؤال أن هناك عذراً شرعياً في ارتكاب الخطأ ، وتنتهي القضية عند هذا الحد ، فإذا لم تنته عند هذا الحد مثل ما ظهر في قضية حاطب ، وأن العذر الذي أبداه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - لم يكن مقنعاً لكنه طمأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - على صدق حاطب ، وأنه لا زال مسلماً، نقول : إذا لم يكن العذر مقنعاً من الناحية الشرعية ، فإنه يصار إلى :
المرحلة الثالثة : وفيها يتم جمع الحسنات والأعمال الخيرة لمرتكب الخطأ وحشدها إلى جانب خطئه فقد ينغمر هذا الخطأ أو هذه السيئة في بحر حسناته : وهذا هو الذي سلكه الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع حاطب رضي الله عنه ؛ حيث قال لله لعمر عندما استأذن في قتل حاطب : (( أليس من أهل بدر ؟ )) فقال : (( لعل الله اطلع على أهل بدر ،فقال : اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ـ أو غفرت لكم )) .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله كلاماً جيداً حول هذا الموضوع ؛ حيث قال في رده على من قال : إن الله يعافي الجهال ما لا يعافي العلماء:
(( فالجواب : أن هذا الذي ذكرتموه حق لا ريبة فيه ، ولكن من قواعد الشرع والحكمة أيضاً أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر ، فإنه يحتمل له مالا يحتمل من غيره ، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره ؛ فإن المعصية خبث ، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث ؛ بخلاف الماء القليل فإنه يحمل أدنى الخبث .
ومن هذا قول النبي- صلى الله عليه وسلم - لعمر : (( وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) وقد ارتكب مثل ذلك الذنب العظيم ، فأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه شهد بدراً ، فدل على أن مقتضى عقوبته قائم لكن منع من ترتيب أثره عليه ما له من المشهد العظيم ؛ فوقعت تلك السقطة العظيمة مغتفرة في جنب ما له من الحسنات .
ولما حض النبي لله على الصدقة فأخرج عثمان رضي الله عنه تلك الصدقة العظيمة ، قال : ((ما ضر عثمان ما عمل بعدها))(2)
__________
(1) رواه البخاري في المغازي ( 3983 ) ، ومسلم في فضائل الصحابة ( 2494 ) .
(2) رواه الحاكم ( 3 / 102 ) ، وصححه ووافقه الذهبي ، وله شواهد أشار إليها الألباني
في تخريج فقه السيرة ص405 .(/9)
، وقال لطلحة لما تطأطأ للنبي- صلى الله عليه وسلم - حتى صعد على ظهره إلى الصخرة : (( أوجب طلحة))(1).
وهذا موسى كليم الرحمن عز وجل ألقى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه له ، ألقاها على الأرض حتى تكسرت ، ولطم عين ملك الموت ففقأها، وعاتب ربه ليلة الإسراء في النبي لله ، وقال : شاب بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ، وأخذ بلحية هارون وجره إليه وهو نبي الله ، وكل هذا لم ينقص من قدره شيئاً عند ربه ، وربه تعالى يكرمه ويحبه، فإن الأمر الذي قام به موسى ، والعدو الذي برز له ، والصبر الذي صبره، والأذى الذي أوذي به في الله أمر لا تؤثر فيه أمثال هذه الأمور ، ولا تغير في وجهه ولا تخفى منزلته .
وهذا أمر معلوم عند الناس مستقر في فطرهم أنه من له ألوف من الحسنات ؛ فإنه يسامح بالسيئة والسيئتين ونحوهما ، حتى إنه ليختلج داعي عقوبته على إساءته وداعي شكره على إحسانه ؛ فيغلب داعي الشكر داعي العقوبة ، كما قيل :
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
وقال آخر :
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً فأفعاله اللائي سررن كثير
والله سبحانه يوازن يوم القيامة بين حسنات العبد وسيئاته ، فأيهما غلب كان التأثير له ،فيفعل بأهل الحسنات ـ الذين آثروا محابه ومراضيه، وغلبتهم دواعي طبعهم أحياناً ـ من العفو والمسامحة ما لا يفعله مع غيرهم ))(2) اهـ .
خلاصة ما سبق حول هذا اللازم :
أن العدل في القول والفعل ، ومعالجة الأخطاء لو سلكنا فيها ذلك المسلك النبوي السابق تفصيله لما وقع كثير من المسلمين فيما وقعوا فيه اليوم من كيل التهم ، والتشهير ، وتتبع العثرات ، والذي لا يستفيد منه إلا الشيطان وأولياؤه ، ولا يفرح الشيطان بشيء كفرحه بالفرقة والاختلاف بين المسلمين ، فقد روى الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه عن جابر رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( إن إبليس يضع عرشه على الماء ، ثم يبعث سراياه ، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة ؛ فيجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا ، فيقول : ما صنعت شيئاً ، قال : ثم يجئ أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته ، قال: فيدنيه منه ويقول : نعم أنت)) قال الأعمش : أراه قال : (( يلتزمه ))(3) .
فإذا كان فرح الشيطان بالفرقة بين الزوجين بهذه الدرجة ؛ فكيف يكون فرحه بالفرقة بين دعاة المسلمين ؟
ولو أن أحدنا إذا سمع شائعة عن مسلم أو طائفة ما قام بالتثبت منها، فإنه يصبح أمام أحد أمرين :
إما أن تكون الشائعة لا أصل لها ، وأنها مجرد ظنون وأوهام كاذبة ، فيقضي عليها في مهدها.
وإما أن يكون الأمر صحيحاً بعد التثبت فيصار إلى المرحلة الأخرى ، ألا وهي البحث عن الأسباب والدوافع التي أدت إلى وجود هذا الخطأ ؛ إما من صاحب الشأن ،إن كان ذلك ممكناً ، أو سؤال من يعرفه ، أو من التمعن فيما كتبه إن كان ذلك مكتوباً ...إلخ .
وهذا هو مراد الرسول- صلى الله عليه وسلم - عندما قال لحاطب : ((ما حملك على ما صنعت ؟ )) وإذا اتضح الدافع المؤدي إلى وجود هذا الخطأ وكان مقنعاً من الناحية الشرعية فإن الأمر ينتهي عند ذلك ، وإن لم يكن مقنعاً ؛ فإنه يصار إلى المرحلة الثالثة، ألا وهي النظر إلى حسنات هذا الشخص وبلائه وجهاده،لعل له حسنات عظيمة ينغمر فيها هذا الخطأ ويصبح ضئيلاً ، في الوقت الذي يسعى لتعديل الخطأ والمناصحة فيه بمحبة وإخلاص وحكمة.
ولعله قد تبين لنا الآن من الحديث حول هذا اللازم المهم ـ من لوازم العدل ـ الفرق بين العدل في القول والعمل ، وأثر ذلك في النصيحة والإصلاح والائتلاف ، وبين الاعتداء في القول والعمل ، وما ينتج عنه من تشهير وفرقة واختلاف ، وذلك في وقت نحن معاشر أهل السنة والجماعة بحاجة شديدة إلى الوحدة والائتلاف،لا إلى الفرقة والاختلاف .
3 ـ الفرح بإصابة الغير للحق والحزن على مجانبتهم له :
ولعل هذا اللازم من أصعب لوازم العدل تحقيقاً ؛ لأنه يمثل ـ في نظري ـ قمة العدل والتقوى والورع ، حيث نرى الكثير من دعاة المسلمين اليوم ـ فضلاً عن عامتهم ـ إذا رأوا غيرهم قد أخطأوا فإنهم يفرحون بذلك ، حتى يحسبونه عليهم ، بل إنك ترى البعض منهم يتتبع الكتابات والمقالات التي قالها غيرهم ، وهمهم الوحيد هو تتبع العثرات ، والفرح باصطيادها ، في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك (من إصابة غيرهم للحق) فإنهم يحزنون لهذه الإصابة ، وهذا ـ والعياذ بالله ـ هو الظلم والحقد والحسد ، والذي لا يلتقي مع العدل وحب الخير للناس .
وما أحسن الحكاية التي ذكرها ابن رجب رحمه الله حول هذا الأمر ؛ حيث قال :
__________
(1) رواه أحمد ( 1 / 165 ) . وهو في السلسلة الصحيحة ( 945 ) .
(2) مفتاح دار السعادة ، ص192 ، ط2 المصرية .
(3) رواه مسلم في صفات المنافقين ( 2813 ) ، وهو في شرح مسلم للنووي ( 17 / 157 ) ، ط . المطبعة المصرية ومكتبتها .(/10)
(( وقد استحسن الإمام أحمد ما حكى عن حاتم الأصم أنه قيل له : أنت رجل أعجمي لا تفصح ، وما ناظرك أحد إلا قطعته ؛ فبأي شيء تغلب خصمك ؟ فقال : بثلاث : أفرح إذا أصاب خصمي ، وأحزن إذا أخطأ ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوءه ؛أو معنى هذا ، فقال أحمد : ما أعقله من رجل )) (1) .
4 ـ الشهادة للمحسن بإحسانه وللمسيء بإساءته :
ومن المواقف المؤسفة التي تنافي هذا اللازم أننا نرى اليوم كثيراً من الناس يفرطون في محبتهم أو كرههم ، فإذا أحبوا شخصاً أو طائفة ما فإنهم يفرطون في هذا الحب ، ولا يعدلون فيه ؛ حيث إنهم لا يرون إلا الحسنات ويغمضون أعينهم عن الأخطاء والسيئات ويبررونها ويؤولونها ، وكأن من أحبوه لا يجوز عليه الخطأ ، وهذا غلو واعتداء في الحب ، قد يؤدي إلى الغلو في الرجال وتقديسهم ، وفرق بين التقدير والتقديس .
وفي مقابل ذلك إذا أبغضوا شخصاً أو هيئة ما فإن هذا الكره ينسيهم كل الحسنات والإيجابيات ، أو أنهم يشككون في نوايا فاعليها، في الوقت الذي لا يذكرون إلا الأخطاء مع التضخيم والتهويل لها ، ومعلوم ما في ذلك من ظلم واعتداء ومجانبة للعدل والإنصاف ،وما أظن أحداً من المسلمين يوافق على هذا المنهج الجائر ، لكن القناعات النظرية شيء والتزامها في الواقع شيء آخر !!.
بقي أن نعرف أن المنهج الشرعي في مثل هذه المواقف ،هو الشهادة
للمحسن أنه محسن، ويذكر له ذلك بتجرد وإنصاف ، والشهادة للمسيء بأنه مسيء ، والنصح له في ذلك وتلمس العذر ـ إن كان ثمة عذر شرعي ـ لإساءته( كما سبق في المنهج الشرعي لمعالجة الأخطاء) ، والانتباه إلى أن كل بني آدم خطاء ، وكلٌ يؤخذ من قوله ويرد ؛ إلا المعصوم لله ، وأن الاعتدال في الحب والكره من لوازم قول الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)) (النساء:135)
ويا ليتنا نرجع إلى سيرة سلفنا الصالح ـ رضي الله عنهم ـ ، وكيف كانوا في مواقفهم مع المخالفين!، وكيف كانوا يقومون الرجال! ، فلقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن شماسة ، قال : أتيت عائشة أسألها عن شيء ، فقالت : ممن أنت ؟ فقال : رجل من أهل مصر ، فقالت: كيف صاحبكم لكم في غزاتكم ؟ فقال : ما نقمنا منه شيئاً ؛ إن كان ليموت للرجل البعير فيعطيه البعير ، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة ، فقالت : أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أن أخبرك : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول وفي بيتي هذا : (( اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ، ومن ولي من أمر أمتي فَرَفَق بهم فارفق به ))(2) .
ويعلق الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث بقوله : (( وفيه أنه ينبغي أن يذكر فضل أهل العلم ، ولا يمنع منه سبب عداوة ونحوها ))(3).
وهذا الإمام ابن كثير رحمه الله ، يقول في ترجمته لشيخ الإسلام ابن
تيمية بعد كلام طويل :
(( وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء ، وممن يخطئ ويصيب، ولكن خطؤه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي ، وخطؤه مغفور له ، كما في صحيح البخاري : (( إذا اجتهد العالم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر))(4)فهو مأجور،وقال الإمام مالك بن أنس:(( كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر- صلى الله عليه وسلم - )) ))(5) اهـ.
ويقول الإمام ابن رجب رحمه الله في كتابه:(الفرق بين النصيحة والتعيير):
((ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله يذكر إسحاق بن راهويه ويمدحه ويثني عليه ، ويقول : وإن كان يخالف في أشياء ؛ فإن الناس لم يزل بعضهم يخالف بعضاً ؛أو كما قال . وكان كثيراً ما يعرض عليه كلام إسحاق وغيره من الأئمة ومأخذهم من أقوالهم ؛ فلا يوافقهم في قولهم ، ولا ينكر عليهم أقوالهم واستدلالهم ، وإن لم يكن هو موافقاً على ذلك كله ))(6) اهـ.
ويذكر ابن الجوزي رحمه الله في كتابه (سيرة عمر ) قول عمر رضي الله عنه : (( ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ، ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً ، وما كافأت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ))(7) اهـ.
__________
(1) الفرق بين النصيحة والتعيير لابن رجب ، تحقيق نجم الخلف ، ص32 ، دار ابن القيم .
(2) رواه مسلم في الإمارة ( 1828 ) .
(3) شرح مسلم للنووي ( 12 / 212 ) ط . دار الكتب العلمية .
(4) رواه البخاري بنحوه في الاعتصام بالكتاب والسنة ( 7352 ) ، ومسلم في الأقضية
( 1716 ) .
(5) البداية والنهاية ( 14 / 139 ) دار المعارف .
(6) الفرق بين النصيحة والتعيير ص31 ، 32 . دار ابن القيم .
(7) خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ووصاياه ، جمع محمد أحمد عاشور ص132 ،
دار الاعتصام .(/11)
ونختتم هذا اللازم من لوازم العدل ببعض آراء ومواقف شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من مخالفيه ؛سواء في الفروع أو الأصول.
يقول رحمه الله في جوابه عن قوله- صلى الله عليه وسلم - : (( تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ))(1) ما الفرق؟، وما تعتقده كل فرقة من هذه الصنوف ؟؛ فقال في معرض جوابه :
(( ... ومما ينبغي أيضاً أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات: منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ، ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة ، ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه ؛ فيكون محموداً فيما رده من الباطل وقال من الحق ، لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق،وقال بعض الباطل ، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها ، ورد باطلاً بباطل أخف منه .
وهذا حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين ، يوالون عليه ويعادون ، كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك ؛ ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها ؛ بخلاف من والى موافقه وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات ، واستحل قتال مخالفه دون موافقه ؛ فهؤلاء من أهل التفرق والاختلافات))(2)اهـ .
5 ـ الابتعاد عن النجوى :
إن مما يفرضه العدل على المسلم أن يبتعد عن النجوى التي من شأنها إحزان المسلمين وإثارة العداوة والبغضاء بينهم ، وهي عامل مهم في ترويج الشائعات . يقول الله عز وجل : (( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ )) (النساء:114) ، وما سوى ذلك فهو شر وتفريق بين المؤمنين .
والناس إزاء الشائعات التي تثار حول شخص أو هيئة ما، ينقسمون حسب تعاملهم مع هذه الشائعات إلى ثلاثة أصناف :
الصنف الأول : من يقبل هذه الشائعات على علاتها ، ويكتمها في نفسه ، ويرتب عليها أموراً ومواقف من غير تثبت ولا تبين .
الصنف الثاني : من يقوم بالتناجي بها بعيداً عن صاحب الشأن فيها ، ومعلوم ما في ذلك من الوقوع في الغيبة ، وإذكاء الشائعات وانتشارها .
الصنف الثالث: من يسارع إلى التثبت من الشائعة ممن أثيرت حوله مباشرة ، ولا يذهب مع الظنون والوساوس النفسية أو المناجاة التي تحزن المسلم.
ولو حاكمنا معاملة هذه الأصناف الثلاثة إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم - لاتضح لنا أن الصنف الأول والثاني مخالفان للشرع ، وأن طريق الصنف الثالث هي الطريقة الشرعية،التي تقوم على التثبت وحب الخير للمسلمين ورعاية حقوقهم وأعراضهم والتماس الأعذار لهم .
وهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية في عتاب المسلم لأخيه المسلم ، إذا وصله من أخيه ما يسوءه .
6 ـ سلامة القلب :
يقول الله ـ عز وجل ـ : (( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) (الشعراء: 88 ، 89) ، وقد ورد في تفسير ابن كثير حول هذه الآية : (( أن القلب السليم هو السالم من الشرك ، وهو قول مجاهد والحسن وغيرهما ، وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو القلب الصحيح ، وهو قلب المؤمن ))(3) اهـ .
وعلق القرطبي في تفسيره : ((عن عوف الأعرابي قال:سألت محمد ابن سيرين ما القلب السليم؟قال:الناصح لله عز وجل في خلقه))(4) اهـ.
وروى البخاري في صحيحه عن جرير بن عبد الله قال : ((بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم ))(5) .
وعلق ابن حجر رحمه الله بقوله : ورواه ابن حبان... ، وزاد فيه : (( فكان جرير إذا اشترى أو باع قال لصاحبه : اعلم أن ما أخذناه منك أحب إلينا مما أعطيناك ، فاختر ))(6) .
من ذلك يتبين أثر سلامة القلب في العدل مع الناس ، حيث إن صاحب هذا القلب مطمئن البال هادئ النفس يحب الخير للناس ، ويبذل النصح لهم ، وهذه صفات أصحاب رسول الله الذين مدحهم الله عز وجل بقوله: ((مُّحَمَّدٌ َّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ )) لفتح:29)
__________
(1) رواه أبو داود في السنة(4596)،والترمذي في الإيمان(2642) ، وابن ماجه في الفتن
(3991) وله طرق أخرى وشواهد. انظر السلسلة الصحيحة(203)،(1492) .
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 3 / 348 ) .
(3) تفسير ابن كثير ( 5 / 191 ) ط . دار الفكر .
(4) تفسير القرطبي ( 15 / 91 ) .
(5) رواه البخاري في الإيمان ( 57 ) .
(6) فتح الباري ( 1 / 168 ) السلفية .(/12)
ومثل هذا يلقى له القبول بين الناس ،حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات ؛ فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة وحب الهداية للغير ، لا مجرد الرد والخصومة والجدال ، كما هو الحال في كثير ممن يتصدى اليوم للمخالفين له أولشيخه ؛ حيث إن الأمر يصل به إلى الاعتداء في كلامه لمن يخالفه في الفروع التي يسعها الخلاف، لا لشيء إلا لأنه خالفه أو خالف شيخه وكفى .
وخلاصة القول في ( سلامة القلب ) أنه أصل للَّوازم السابقة كلها ، فبسلامة القلب ، والنصح لله عز وجل في الخلق يتم العدل في جميع الأمور السابقة ، وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه ، ولا ينتقم لنفسه .
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله ـ في مدارج السالكين ـ أحد عشر مشهداً فيما يصيب المسلم من أذى الخلق وجنايتهم عليه ، نكتفي بمشهد واحد ؛ حيث قال رحمه الله :
(( المشهد السادس : مشهد ( السلامة وبرد القلب ) ، وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته ؛وهو ألا يشغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره ، وشفاء نفسه ، بل يفرغ قلبه من ذلك ، ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له، وألذ وأطيب،وأعون على مصالحه.
فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه فيكون بذلك مغبوناً ، والرشيد لا يرضى بذلك ، ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس ، وإعمال الفكر في إدراك
الانتقام؟ ))(1) اهـ.
ولقد اطلعت على رسالة كتبها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى تلامذته بدمشق ، وفيها تبرز هذه الصفة بجلاء ، ولولا خشية الإطالة لنقلتها بتمامها ، ولكن نكتفي بمقاطع منها ، قال رحمه الله بعد السلام والأشواق إلى تلامذته :
(( وتعلمون من القواعد العظيمة ـ التي هي من جماع الدين ـ تأليف القلوب ، واجتماع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، فإن الله تعالى يقول : (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)) (آل عمران:103) ، ويقول : (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) (آل عمران:105) ، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف .وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة ، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة...)) إلى أن قال في الرسالة نفسها :
(( وأول ما أبدأ به من هذا الأصل : ما يتعلق بي ، فتعلمون رضي الله عنكم جميعاً أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين ـ فضلاً عن أصحابنا ـ بشيء أصلاً ، لا باطنا ، ولا ظاهراً ، ولا عندي عتب على أحد منهم ، ولا لوم أصلاً ، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان ، كل بحسبه .
ولايخلو الرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً ، أو مخطئاً ، أو مذنباً ، فالأول: مشكور ،
والثاني : أجره على الاجتهاد ؛ فمعفو عنه مغفور له ،
والثالث : يغفر الله لنا وله ولسائر المؤمنين ، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل : فلان كان سبب هذه القضية ، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب ولا حول ولا قوة إلا بالله ، بل مثل هذا يعود على قائله بالملام ، إلا أن يكون له من حسنة ، وممن يغفر الله له إن شاء الله، وقد عفا الله عما سلف... )) إلى أن قال رحمه الله في الرسالة نفسها :
(( فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي ، أو ظلمه وعدوانه ، فإني قد أحللت كل مسلم ، وأنا أحب الخير لكل المسلمين ،وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي ، والذين كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي ))(2) اهـ.
7 ـ الصدق والوضوح :
إن هذا اللازم يعتبر أيضاً سبباً من أسباب حصول العدل ؛ فهو نتيجة وسبب في نفس الوقت ؛ لأن الصدق يؤدي إلى العدل ، والعدل يستلزم الصدق والوضوح في الأقوال والأفعال ، وأردت من إيراد هذا اللازم الإشارة إلى ما يقع في زماننا هذا من الأساليب الغامضة في تعامل المسلمين بعضهم مع بعض ، وعدم الوضوح في المقاصد والوسائل ، وهذا كله يؤدي ـ شِئْنا أم أبينا ـ إلى مجانبة الصدق والوقوع في الكذب الصريح .
وهذا الغموض وعدم الوضوح وسوء الظن بالمسلمين،من الأمراض الخطيرة التي تؤدي إلى إذكاء العداوة والفرقة بين المسلمين ، وعدم اطمئنان بعضهم إلى بعض ، في الوقت الذي يفترض الصدق في المسلم، وألا يساء الظن به ، أو أن مراده من كلامه كذا وكذا ...إلخ.
ولقد مر بنا في الطريقة التي عالج بها الرسول لله خطأ حاطب رضي الله عنه ، وكيف أنه لله عندما سمع من حاطب عذره ، قال : (( صدق، لا تقولوا إلا خيراً )) ، ولم يذهب إلى سوء الظن به ، واتهامه بالكذب ، أو اللف والدوران كما يقولون .
__________
(1) مدارج السالكين ( 2 / 320 ) ، تحقيق : محمد حامد الفقي . دار الكتاب العربي .
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ( 28 / 51 ـ 57 ) .(/13)
وإن الصدق منجاة وخير كله في الدنيا والآخرة ، والصدق في الحديث أمر لازم لاطمئنان القلوب بعضها ببعض ، وطريق إلى التآلف وحصول البركة ؛ فلقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن حكيم بن حزام رضي الله عنهما أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال : (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، أو قال: حتى يتفرقا ؛ فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ))(1) .
فإن كان الصدق سبباً لحصول البركة للمتبايعين على سلعة ، والكذب والكتمان يمحق بركة بيعهما ، أقول : إذا كان الأمر كذلك في أمر من أمور الدنيا؛فكيف يكون الحال إذا كان الصدق أو الكذب على أمر من أمور الآخرة ؟، لأن الدعوة عبادة يراد بها الدار الآخرة ؛فلأن يصدق هذا الحديث على ذلك من باب أولى، والتجربة أكبر شاهد ؛ حيث إن الصدق والوضوح بين أصحاب الدعوة وحسن الظن فيما بينهم ينتج عنه نتائج طيبة،ويبارك الله عز وجل في جهودهم وتعاونهم ، والعكس بالعكس ؛ فإن الكذب والأساليب الملتوية لم ينتج عنهما إلا الفرقة وسوء الظن وتشتيت الشمل .
وهنا يجب إيضاح أن لا تعارض بين وجود الصدق والوضوح وبين
الكتمان ؛ فإن كان لابد متحدثاً فليكن صادقاً وواضحاً وإلا فليصمت .
ثم إننا نقصد بكل ما سبق أهمية هذا اللازم بين المسلمين بعضهم مع بعض ، أما الكافرون والمنافقون ؛ فإن التعامل معهم يجب أن يكون بحذر ، وتقدير ما ينبغي أن يقال ، وألا يطلعوا على أسرار المسلمين بحجة الصدق.
* * *
الخاتمة
ولعلنا في هذه الخاتمة نجمل ما تم تفصيله في ثنايا هذا البحث ؛ حيث طرحت فيه النقاط التالية :
1 ـ إن الإنسان في طبيعته كان ظلوماً جهولاً .
2 ـ إن الأمانة العظيمة التي أشفقت من حملها السموات والأرض لن
يستطيع أن يحلمها الإنسان إلا بالعلم والعدل .
3 ـ إن العدل كلمة يراد بها التوسط في الأمور ،وذلك بين الإفراط
والتفريط، فالجافي والغالي كلاهما قد جانب العدل .
4 ـ للعدل صور كثيرة مردها إلى ثلاثة أقسام : العدل الأعظم وهو
توحيد الله عز وجل ، والعدل مع النفس ، والعدل مع العباد .
5 ـ كان التركيز في هذا البحث على العدل مع العباد ؛ وذلك للحاجة
الماسة إليه ،وخاصة في هذاالعصر الذي بغى بعض الناس فيه على بعض .
6 ـ للعدل مقتضيات ولوازم كثيرة لا يمكن استيعابها في مثل هذا
البحث وقد ركزت على أهمها،وخاصة فيما يتعلق بالتعامل مع
الناس من إقالة العثرات ، وإحسان الظن ، وقطع الطريق على
الشيطان الذي يسعى إلى إيجاد الإحن والأحقاد والظلم بين
المسلمين .
7 ـ إن سبب الاختلاف والتفرق بين المسلمين يرجع إلى أمرين مهمين :
أ ـ الجهل الناشئ من فقدان أو قلة العلم بدين الله ، والذي يؤدي
بدوره إلى الأخذ بالباطل محسوباً أنه هو الحق .
ب ـ الظلم الناشئ من الهوى وعدم العدل والإنصاف ، ومثل هذا قد
يعلم صاحبه أن الحق مع مخالفه ، ولكن التعصب والهوى ومجانبة
العدل يجعله يصر على الباطل ، ولو علم أنه باطل.
8 ـ إن وسائل رفع الجهل عن النفس يتم بتعلم دين الله عز وجل
وحدوده ، كما بلغها الرسول لله لأصحابه وسار عليها سلف الأمة
من التابعين وتابعيهم من أئمة هذا الدين وأعلامه .
أما وسائل رفع الظلم والتحلي بالعدل والإنصاف؛ فإنه لا يتم بالتعلم فقط ، فقد يعلم الإنسان بتلك الوسائل ولا يعمل بها .
وللعدل مفاتيح وعلامات وتباشير أجملها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله:
(( وإن للعدل أمارات وتباشير ؛ فأما الأمارات: فالحياء ، والسخاء ، والهين ، واللين . وأما التباشير : فالرحمة ، وقد جعل الله لكل أمر باباً ، ويسر لكل باب مفتاحاً ؛ فباب العدل الاعتبار ، ومفتاحه الزهد ، والاعتبار: ذكر الموت بتذكر الأموات ، والاستعداد له بتقديم الأعمال ، والزهد : أخذ الحق من كل أحد قبله حق ، وتأدية الحق إلى كل أحد له حق، ولا تصانع في ذلك أحداً ))(2) اهـ .
وخلاصة القول في مفتاح العدل أنه تقوى الله عز وجل ، والتجافي عن دار الغرور،والإنابة إلى دار الخلود؛حيث يقول الله عز وجل : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) (المائدة:8) ، حيث إنه لا مفتاح للعدل إلا بالتقوى ، والتقوى فقط .
__________
(1) رواه البخاري في البيوع ( 2110 ) ، ومسلم في المساقاة رقم ( 1607 ) .
(2) خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ووصاياه ، جمع : د . محمد أحمد عاشور ،
ص62 ، دار الاعتصام .(/14)
وتبقى كلمة أخيرة في هذه الخاتمة أنصح بها نفسي وإخواني الدعاة من أهل السنة ، بأن نتقي الله عز وجل ، ونصلح ذات بيننا ، وأن نلزم أنفسنا بالعدل في أقوالنا وأعمالنا ،وأن نحذر من نزغات الشيطان ، فكما أسلفت في ثنايا البحث إن أعظم فرحة للشيطان يوم أن يفرق بين المسلمين ، ويخالف بين كلمتهم ، فهو ما يألو يسعى للتحريش بالمسلمين ، كما جاء في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم - : (( إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن رضي بالتحريش بينهم ))(1) .
وإن الواجبات الملقاة على أهل السنة اليوم أكبر وأضخم مما تستطيعه طائفة واحدة من طوائف أهل السنة ، فإن لم يَسْعَ المصلحون والمتقون من أهل السنة لجمع الكلمة وتأليف القلوب ؛ فإن فساداً كبيراً لا شك نازل؛ كما قال عز وجل : (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )) (لأنفال:73) ؛ أي إلا يوالى المسلمون ويعادى الكافرون تكن فتنة للناس(2) .
أسأل الله عز وجل أن يجمع دعاة الإسلام على الحق ، وأن يؤلف بين قلوبهم ويسدد آراءهم ، وأن ينصرهم على أعدائهم ، إنه سميع مجيب ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
* * *
الرسالة الثانية : (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ )) ( سبأ 46)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لله وعلى آله وصحبه تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فقد أنزل الله تبارك وتعالى القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، وقد ضمن في هذا الكتاب الهدى والشفاء، لأوليائه المؤمنين خاصة وللناس عامة، موعظة وإنذاراً ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )) (يونس:57، 58) .
ففي هذه الآية يبين الله عز وجل أن هذا القرآن العظيم ؛ جاء موعظة للناس كافة ، وشفاء لصدور المؤمنين ، ورحمة لهم بصفة خاصة .
فالمؤمنون وحدهم هم الذين ينتفعون بمواعظ القرآن ، ومن سواهم فهو عليهم عمىً ؛ كما قال تعالى : (( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً )) (فصلت:44).
ومن بين مواعظ القرآن العظيمة ما ذكره سبحانه وتعالى في سورة سبأ، عن محاجة المشركين الذي كذبوا رسول - صلى الله عليه وسلم - ورموه بالسحر تارة وبالجنون تارة أخرى : قال تعالى : (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) (سبأ:46) .
وهذه الآية وإن كانت موجهة إلى المشركين الذين رموا الرسول لله بما هو منه براء إما لجهل أو لهوى، فإنها تخاطب جميع المشركين في كل زمان ومكان ، بل جميع المختلفين في قضايا هذا الدين أصوله وفروعه، وترسم منهجاً لحل خلافاتهم ، وأصولاً لحواراتهم ، وتخط لهم صراطاً مستقيماً من وحي كتاب الله العظيم ، والذي من سار عليه واتبعه وصل إلى الحق والهدى ،ومن تنكبه واتبع هواه ضل طريقه ،وإن واصل السعي بالليل والنهار .
تفسير الآية
قبل ذكر أقوال بعض المفسرين حول هذه الآية نذكر ما قبلها من الآيات حتى يتضح المقصود . يقول الله عز وجل : (( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ * وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) (سبأ:43 - 46)
__________
(1) رواه مسلم في صفات المنافقين ( 2812 ) .
(2) تفسير ابن كثير ( 3 / 354 ) ، ط . دار الفكر .(/15)
من هذه الآيات البيّنات يتضح لنا أن هذه الموعظة الموجهة إلى مشركي قريش كانت بسبب اتهامهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -بالكذب تارة ،وبالسحرة تارة أخرى ، دون تفكير أو تدبر، شأنهم في ذلك شأن الذين يتبعون أهواءهم ، وآثار آبائهم ومتبوعيهم دون دليل.
وقد أقام الله عز وجل هذه الموعظة العظيمة التي مَنْ أخذها بجميع مقوماتها فلابد أن يصل إلى الحق ؛ وهو في الآية:كون النبي- صلى الله عليه وسلم - رسولاً من عند الله عز وجل ،ونذيراً لهم بين يدي عذاب شديد، وليس كما يزعمون ويرددون دون وعي ولا نظر بأنه ساحر أو كاذب أو مجنون (( مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) [سبأ:46].
ولكي يحصل الانتفاع بهذه الموعظة العظيمة فلابد من الأخذ بجميع المقومات التي قامت عليها هذه الموعظة ، وهي :
* القيام لله تعالى : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ )) ، والتجرد في طلب الحق.
* مراجعة النفس والخلوة بها أو مع شخص ثانٍ : (( مَثْنَى وَفُرَادَى )).
* التفكر فيما يقوله المخالف : (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) .
وتظهر أهمية هذه المقومات في كلام علماء التفسير رحمهم الله تعالى.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى في فتح القدير- حول قوله تعالى : (( إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ)) :
(( أي أحذركم بواحدة،وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه،وأوصيكم بخصلة واحدة؛وهي : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى )) . وهذا تفسير للخصلة الواحدة أو بدل منها ، أي هي : قيامكم وتشميركم في طلب الحق بالفكرة الصادقة متفرقين ؛ اثنين اثنين ، وواحداً واحداً ؛ لأن الاجتماع يشوش الفكر.
وليس المراد القيام على الرجلين بل المراد القيام لطلب الحق وإصداق الفكر فيه؛ (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) في أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - ، وما جاء به من الكتاب ، فإنكم عند ذلك تعلمون أن (( مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ )) ؛وذلك لأنهم كانوا يقولون: إن محمداً مجنون.
فقال لهم : اعتبروا أمري بواحدة ؛وهي أن تقوموا لله وفي ذاته مجتمعين ومتفرقين ، فيقول الرجل لصاحبه:هلم فلنصدق ، هل رأينا بهذا الرجل من جنة ـ أي جنون ـ أو جربنا عليه كذباً ؟.
ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه ، وليتفكر ولينظر ؛ فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - صادق ، وأنه رسول من عند الله عز وجل ، وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون )) (1) اهـ .
وقال النسفي رحمه الله في تفسيره : (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ )) أي بخصلة واحدة وقد فسرها بقوله: (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ...)) الآية،على أنه عطف بيان لها . وقيل: في محل الرفع،والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم ؛وهي أن (( تَقُومُوا لِلَّهِ )) أي لوجه الله خالصة ، لا لحمية ، ولا لعصبية ، بل لطلب الحق (( مَثْنَى)) اثنين اثنين ، ((وَفُرَادَى )) فرداً فرداً (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) في أمر محمد ، وما جاء به .
أما الاثنان فيتفكران؛ يعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران نظرة الصدق والإنصاف حتى يؤدي النظر الصحيح إلى الحق وكذلك الفرد يتفكر مع نفسه بعدل وإنصاف ويعرض فكره على عقله.
ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ، ويعمي البصائر ، ويمنع الروية ، ويقل الإنصاف فيه ، ويكثر الاعتساف ، ويثور عجاج التعصب ، ولا يسمع إلا نصرة المذهب )) (2) اهـ .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى في تفسير الكريم المنان- في تفسيره لهذه الآية :
((أي أعظكم بخصلة واحدة أشير عليكم بها وأنصح لكم في سلوكها، وهي طريق نصف،لست أدعوكم إلى اتباع قولي ولا إلى ترك قولكم من دون موجب لذلك؛وهي ((أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى)) أي تنهضوا بهمة ونشاط وقصد لاتباع الصواب وإخلاص لله عز وجل، مجتمعين ومتباحثين في ذلك ومتناظرين ، وفرادى كل واحد يخاطب نفسه بذلك ، فإذا قمتم لله مثنى وفرادى واستعملتم فكركم ، وأجلتموه ،وتدبرتم أحوال رسولكم ، هل هو مجنون فيه صفات المجانين؛من كلامه ، وهيئته ووصفه ، أم هو نبي صادق منذر لكم ؟
فلو قبلوا هذه الموعظة واستعملوها لتبين لهم أكثر من غيرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بمجنون ؛ لأن هيئته ليست كهيئة المجانين وخنقهم واختلاجهم..فكل من رأي أحواله وقصده استعلام هل هو رسول الله أم لا؟ سواء تفكر وحده أو مع غيره ؛ جزم بأنه رسول الله حقاً وتبين صدقه)) (3) اهـ.
وقال سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ حول ظلال هذه الآية :
__________
(1) فتح القدير ، عند الآية 46 من سورة سبأ .
(2) تفسير النسفي ، عند الآية 46 من سورة سبأ .
(3) تفسير الكريم المنان ، عند الآية 46 من سورة سبأ .(/16)
((وهنا يدعوهم دعوة خالصة إلى منهج البحث عن الحق ، ومعرفة الافتراء من الصدق،وتقدير الواقع الذي يواجهونه من غير زيف ولا دخل: (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) ، إنها دعوة إلى القيام لله عز وجل بعيداً عن الهوى ، بعيداً عن المصلحة ، بعيداً عن ملابسات الأرض ، بعيداً عن الهواتف والدوافع التي تشتجر في القلب ، فتبعد به عن الله ، بعيداً عن التأثر بالتيارات السائدة في البيئة والمؤثرات الشائعة في الجماعة.
دعوة إلى التعامل مع الواقع البسيط لا مع القضايا والدعاوي الرائجة ولا مع العبارات المطاطة التي تبعد القلب والعقل عن مواجهة الحقيقة في بساطتها ، دعوة إلى منطق الفطرة الهادي الصافي بعيداً عن الضجيج ، والخلط، واللبس،والرؤية المضطربة ، والغبش الذي يحجب صفاء الحقيقة، وهي في الوقت ذاته منهج في البحث عن الحقيقة ، منهج بسيط يعتمد على التجرد من الرواسب والمؤثرات ، وعلى مراقبة الله عز وجل وتقواه.
وهي (( وّاحٌدّةُ)) إن تحققت صح المنهج واستقام الطريق :القيام لله ، لا لغرض،ولا لهوى،ولا لمصلحة،ولا لنتيجة،التجرد،الخلوص،ثم التفكر والتدبر بلا مؤثر خارج عن الواقع الذي يواجهه القائمون لله المتجردون.
(( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى )) مثنى ليراجع أحدهما الآخر، ويأخذ معه ويعطي في غير تأثر بعقلية الجماهير التي تتبع الانفعال الطارئ، ولا تتلبث لتتبع الحجة في هدوء ، وفرادى مع النفس وجهاً لوجه في تمحيص هادئ عميق .
(( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ )) فما عرفتم عنه إلا العقل والتدبر وما يقول شيئاً يدعو إلى التظنن بعقله ورشده، إن هو إلا القول المحكم القوي المبين )) (1) اهـ.
وبعد هذه النقولات من بعض كتب التفسير حول هذه الآية نستطيع الآن توضيح مقومات هذه الموعظة العظيمة وشروط الانتفاع بها بما يلي:
الشرط الأول : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ )) :
إن هذا الشرط هو الأساس لكل عمل ، وبدونه يفسد العمل ، ولا يوفق فيه صاحبه ، ولا يبارك له فيه ، فالقيام لله عز وجل هو المنطلق لصحة العمل إذا اقترن ذلك مع المتابعة فيه للرسول - صلى الله عليه وسلم - .
فالإخلاص في البحث عن الحق ، والصدق في طلبه، شرط أساسي للوصول إلى ذلك الحق ، وعندما يغيب الإخلاص ينعدم الانقياد إلى الحق، حتى ولو كان مثل فلق الصبح ؛ لأن من تعلق قصده بغير وجه ربه عز وجل ثقل عليه الانقياد للحق وقصرت همته عن بلوغه والعمل به .
فوجب على من أراد معرفة وجه الحق في أي أمر أن يخلص قصده ونيته لله عز وجل ، وأن يتجرد لاتباع الحق عند ظهوره ،ولو على لسان مخالفه ، وأن يعلم أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .
ولكن قد يكتنف القائم لله عز وجل بعض الملابسات والظروف التي قد تغطي الحق أو تلبسه بالباطل ، فيقبل به ظاناً أنه الحق،وذلك بسبب بعض الظروف المحيطة به،لذلك فإنه لا مناص من توفر باقي الشروط للانتفاع بموعظة الله عز وجل ومنهجه السوي في الوصول إلى الحق المنشود، وذلك من :
الشرط الثاني : (( مَثْنَى وَفُرَادَى )) :
والالتزام بهذا الشرط يقضي على عامل مهم من العوامل التي تغطي الحق أو تشوه وجهه ، وذلك في مثل الأجواء الجماعية والجماهير الجاهلة والتي غالباً ما تتصف بالغوغائية والتقليد الأعمى ، واتباع كل ناعق من رؤوس الضلال ، مما قد يؤدي بطالب الحق المخلص إلى اتباع الأكثرية من الناس متهماً نفسه،ظاناً أن الحق مع الأكثرية،دون أن يدري أن هذه الحركة الغوغائية قد غطت الحق ،وضيعت معالمه ، فاشتبه مع غيره ، خاصة عند من قلت بصيرته ، وقل نصيبه من هدى الله عز وجل ، وهدى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا ما حدث من اتهام قريش للرسول لله بشكل جماهيري غوغائي ، وقولهم ساحر وكاهن ومجنون ...إلخ.
فوعظهم الله عز وجل أن يقوموا لله ويخلصوا وجوههم له، ويبتعدوا عن هذه الأجواء ، ويرجعوا إلى أنفسهم ، حيث يقف الإنسان مع نفسه أو مع صاحبه ، ويصحب ذلك التفكير العميق والتدبر لحال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلابد أن يصلوا إلى الحق والهدى، وهو ما جاء في ختام الآية (( مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)) [سبأ :46] .
__________
(1) في ظلال القرآن ، عند الآية 46 من سورة سبأ .(/17)
ونخرج من هذه الآية بفائدة سيأتي تفصيلها في ثنايا البحث إن شاء الله ، وهي أن القاصد للحق أو الباحث في مسألة خلافية كبيرة أو صغيرة عليه أن يتجنب المناظرة في جو جماعي ، لأن المُناظر يكون أقرب إلى ترك رأيه إذا تبين أن الحق في خلافه إذا كان التفكير مع شخص واحد بخلاف حال الجماعة ، فقد يعز عليه الاعتراف بالخطأ أمام مؤيديه أو مخالفيه المجتمعين حوله،والله تعالى عليم بمسارب نفوس خلقه ، خبير بطبائعهم ، فلذلك وعظهم موعظة من يعلم حالهم ، ويعلم ما يصلحهم ويهديهم إلى صراطه المستقيم ،ومنهجه القويم (( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) (الملك:14) .
الشرط الثالث : (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا)) :
وهذا الشرط هو الوسيلة الأساسية للوصول إلى الحق بعد الالتزام بالشرطين السابقين ؛ فالتفكير ، والعلم ، وإعمال الرأي هو المتمم لهذا المنهج الإلهي للوصول إلى الحق وتَبَيُّن الهدى من الضلال .
وهذا الشرط يقودنا إلى قضية هامة؛ألا وهي قضية العلم الشرعي ، ومعرفة دين الله عز وجل ، وإقامة الدليل والبرهان على ما يعتقد أنه الحق، وإذا كان الكفار الذين خوطبوا مباشرة بهذه الآية، ووجهت إليهم هذه الموعظة العظيمة ما كان عندهم علم شرعي ، وليس عندهم الدليل فيما يعتقدونه ، فلذلك كان المطلوب منهم التفكير بحال الرسول لله ، وإقامة الدليل على ما يتهمونه به .
فإذا كان الأمر بالتفكير مع الكفار بهذه الصورة ؛ فإن الأمر بالنسبة لطالب الحق في المسائل الشرعية والعقائدية والفكرية آكد ؛ حيث لابد أن يكون مؤهلاً من الناحية العلمية لبحث هذه المسألة ، ودراسة أوجه الخلاف حولها ، وإلالم يكن للتفكير فائدة ، كمن يحارب بغير سلاح ولا عدة ، وقد كان عند كفار مكة من العلم بأحوال الرسول لله وصفاته ،وصدقه ، وأمانته ما يكفي ، ولو أنهم فكروا في ذلك لقادهم ذلك إلى الإذعان والانقياد للحق الذي جاءهم به الرسول- صلى الله عليه وسلم - .
وكذلك الحال لكل المختلفين أو المتناظرين إذا لم يكن لديهم علم بما يختلفون فيه ؛ فإنه لا فائدة من التفكير ؛ لأن أداة التفكير الأساسية هي العلم بحال القضية المختلف فيها .
فالمقصود إذن بالتفكير هنا هو البحث عن الأدلة الشرعية والتحقق من ثبوتها ودلالتها على المراد ، كما يدخل في العلم أيضاً العلم بحال القضية المختلف حولها وملابساتها ...إلخ .
فالجاهل بذلك كله لا يستطيع الوصول إلى الحق لفقده الأدوات الموصلة إليه ، فلذلك نجد أمثال هؤلاء يوجههم التقليد الأعمى دون فكر أو نظر .
وإذا كان الله عز وجل قد بين لنا في كتابه الكريم منهجاً للوصول إلى الحق
فيما اختلف فيه ، فإن هذا المنهج وذلك الطريق السوي يمر أحياناً عبر أنواع من الحوار والمناظرة لابد منها .
فالمتتبع لمنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله وحده، يجد أن أكثرهم قد وقف مع قومه موقف المناظرة وإقامة الحجة والنصح ، وتبيين الحق من الباطل ، والصبر على ذلك ، مع شدة رفضهم للحق وعنادهم وتعنتهم ، ولكن مهمة البلاغ والدعوة إلى الله عز وجل تستلزم شيئاً من ضبط النفس والتحمل حتى يتم البلاغ على أكمل وجه .
ولكثرة الخلاف الواقع بين طوائف المسلمين اليوم ، وخاصة بين الطوائف من أهل السنة ؛ فإنا نقدم هذه الكلمات التي نحسب أن فيها إشارة إلى الطريقة المثلى في الحوار والمناظرة المؤدية بإذن الله عز وجل إلى الاجتماع والائتلاف في حدود منهج السلف وأصول الشريعة .
وقد اتضح من الآية السابقة التي هي موضع البحث أصول للحوار نطرحها بهذه المناسبة ،ونضيف عليها ما وقع عليه الفكر والنظر من آداب الخلاف . وقبل ذكر هذه الأصول يحسن التقدمة لها بأهمية هذا الموضوع ، وبعض التعريفات والوقفات السريعة .
أهمية هذا الموضوع
إن الإلمام بآداب الحوار والاختلاف أمر مهم ينفع صاحبه في حياته كلها، وبخاصة الداعية إلى الله عز وجل ، وهذه الجوانب المفيدة كثيرة نقتصر منها على ما يلي :
1- من المعلوم أن مهمة الداعية إلى الله عز وجل هي بذل الأسباب في هداية الناس ودلالتهم إلى الخير ، ولابد أن يواجهه في ذلك التواءات النفوس وخلافهم معه في الرأي ، فإذا لم يكن لديه من الإلمام بآداب الحوار والاختلاف الشيء الكافي،لكي يصبر ويستمر في دعوته ، فقد ينفر الناس منه ، وهو يسعى لجمعهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
2- إن أهمية الإلمام بآداب الحوار والاختلاف،ترجع للظروف الملحة في هذا العصر الذي يعد عصر تعدد الجماعات الإسلامية والفُرقة الموجودة بينهم ؛ وذلك لأن الإلمام بذلك يساعد في تقارب القلوب وتفهم الأفكار؛مما يكون له الأثر في تضييق هوة الخلاف والتماس العذر للعاملين في الدعوة الإسلامية ،وهذا يؤدي إلى الوحدة المنشودة .(/18)
3- كما يفيد تفهم هذه الآداب أيضاً في معالجة وجهات النظر المختلفة التي تكون بين أفراد المجموعة الواحدة ، بل أفراد العائلة الواحدة ؛ لأن فقد هذه الآداب يضخم المشاكل ، ويجعل من الحبة قبة كما يقولون
* * *
الفرق بين الجدال والحوار
الجدال : مصدر جادل وهو المناقشة على سبيل المخاصمة ، ومقابلة الحجة بالحجة .
والحوار : الجواب . حاوره محاورة وحواراً جاوبه وراجعه ، فهو مراجعة في الكلام بين طرفين أو أكثر دون ما يدل بالضرورة على وجود خصومة بينهما .
وقد يكون الجدل والحوار بمعنى واحد إذا خلا الجدل من العناد والتعنت للرأي ، كما ذكر تعالى في سورة المجادلة : ((قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ )) (المجادلة:1) .
فسمى الله سبحانه وتعالى مجادلة المرأة للرسول لله ومجاوبته لها محاورة ، والله أعلم .
وعلى أية حال ؛ فالحوار كلمة غالباً ما تستعمل في المناظرة الهادئة التي يسود عليها الألفة والبحث عن الحق ، والجدال غالباً ما يكون جَوّه صاخباً، وقد ينشأ عنه خصومة وعناد .
ما هي نتيجة الحوار :
ليس شرطاً للحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر، ويتفقان على موقف واحد ، فهذا نجاح لا شك فيه ، وإنما يعتبر الحوار ناجحاً أيضاً إذا توصل الطرفان إلى أن كل قول يقوله أحدهما هو صحيح ، أو في الإطار الذي يسعه الخلاف ، أما فشل الحوار فيكون عندما يتشبث كل طرف برأيه ويُخَطِّئْ الآخر أو يفارقه .
بعض الآيات والأحاديث الواردة
في آداب الحوار وحسن المناظرة
قال تعالى :
- (( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)) (البقرة:83).
- (( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ )) (الإسراء:53)
- (( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ )) (المؤمنون:3)
- (( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ )) (القصص:55) )
- (( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ)) (المؤمنون:96)
- (( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )) (النحل:125)
- (( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)) (النساء:114) .
- (( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )) (طه:44)
والآيات في ذلك كثيرة .
أما الأحاديث النبوية ، فمنها :
- ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) (1).
- (( الكلمة الطيبة صدقة )) (2) .
- (( تبسمك في وجه أخيك صدقة )) (3) .
- (( وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)) (4)
- (( الكبر بطر الحق وغمط الناس )) (5) .
- (( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا )) (6) .
- (( ليس الشديد بالصرعة ، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) (7) .
- (( إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا يعطيه على العنف ، وما لا يعطي على سواه ))(8) .
والأحاديث في ذلك كثيرة .
والآن وبعد هذه التعريفات والآيات والأحاديث التي تشير إلى الآداب الإسلامية في المعاملة مع الناس ومحاورتهم ، نأتي لتفصيل أصول الحوار في ضوء الآية الكريمة التي كانت منطلق هذا البحث ، وهي قوله تعالى : (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )) [سبأ:46].
وكما تمت الإشارة في تفسير هذه الآية وما يتعلق بها أنها تعتبر منهجاً قويماً لمن أراد الوصول إلى الحق ، ولأن المقصود من الحوار الوصول إلى الحق ؛ فإن هذه الآية الكريمة ترسم لنا بمقوماتها الثلاثة أصول الحوار الصادق، وذلك فيما يلي :
الأصل الأول : الإخلاص لله عز وجل ، والتجرد الكامل قبل الحوار وأثنائه وبعده : (( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ )) .
الأصل الثاني : العلم بحقيقة واقع القضية المطروحة من الناحية الشرعية والواقعية : (( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا )) .
الأصل الثالث : اعتبار مراعاة ظروف الحوار والمحاورة : (( مَثْنَى وَفُرَادَى)) .
الأصل الأول
الإخلاص لله عز وجل والقيام له وحده
(( أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ ))
ويدخل تحت هذا الأصل عدة متعلقات ، نذكر منها ما يلي :
__________
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(3) رواه الترمذي في البر والصلة(1956)،والحديث في صحيح سنن الترمذي (1602) .
(4) رواه الترمذي في الإيمان (2616)،وابن ماجه في الفتن (3973)، والحديث في صحيح سنن الترمذي ( 2110 ) ، وفي صحيح سنن ابن ماجه ( 3209 ) .
(5) رواه مسلم في الإيمان ( 91 ) .
(6) متفق عليه .
(7) متفق عليه .
(8) رواه مسلم في البر والصلة ( 2593 ) .(/19)
1- تصحيح النية قبل الدخول في الحوار :
وذلك بمساءلة النفس عن الغرض من الحوار ؛ أهو إرادة الحق فحسب، أو أن هناك أغراضاً أخرى:كحب الظهور،وإفحام الخصم، و أن يرى الناس مكانه؟،فإذا كانت هذه الأغراض موجودة فليحجم المحاور عن الحوار حتى تتجرد نيته تماماً لله عز وجل، وأنه يريد الحق،ولو ظهر على لسان الطرف الآخر .
12- حسن الاستماع والاهتمام بكلام الطرف الآخر :
فالمتحدث البارع مستمع بارع ، فلابد من حسن الاستماع ، والانتباه لما يقوله الطرف المقابل ، وعدم مقاطعته ، وتركه حتى ينتهي ، وتدوين أي فكرة تطرأ أثناء كلامه حتى يفرغ تماماً ، وهذا من التواضع ، وإعطاء الأهمية لكلام الآخرين ؛ حتى لايحصل العجب بالنفس ، وأنه الذي ينبغي أن يستمع له وأن غيره ليس عنده ما يستحق ذلك.
كذلك على المحاور المخلص أن يراعي الوقت أثناء حديثه فلا يستأثر بالكلام كله ، بل يعطي الفرصة المكافئة للطرف الآخر؛حتى لا يحصل العجب بالنفس المنافي للإخلاص ، أو الاحتقار للطرف الآخر .وكذلك لأن المستمع لا يستطيع أن يركز في سماع من يحاوره دون مقاطعة له أو انشغال عنه أكثر من ربع ساعة ، وبعد ذلك يكل الذهن ويقل التركيز ، وكما يقال : » إذا أردت أن ينفضّ الناس من حولك ويسخرون منك فتكلم بغير انقطاع ، ولا تعطي لأحد الفرصة في الحديث)) .
3- مراقبة النفس أثناء الحوار :
جرت العادة عند أكثر المتحاورين أن يركزوا انتباههم على الطرف الآخر؛ يحصون الملاحظات على فكرته وطريقته في الحوار ، دون أن يراقبوا أنفسهم بنفس المقياس ، فينسى الإنسان نفسه ونوازعها ، ونبرات صوته وطريقته في الرد مما يكون له أثر سيء على الحوار ، ولا شك أن الإخلاص في الحوار يجعل الإنسان ينتبه لنفسه وعيوبه أكثر من غيره . وضعف الإخلاص يحدث في النفس عجباً وشعوراً بأنها فوق الملاحظات .
4- التسليم بالخطأ:
الإنسان بشر يخطئ ويصيب ، فمن الطبيعي أن يخطئ المحاور في مناقشاته وحواره مع غيره ، والإخلاص لله عز وجل ، يفرض عليه التسليم بالخطأ عندما يتبين له وجه الصواب ، بل يشكر لصاحبه فضله في تبصيره له بالخطأ.
5- الحذر من الكذب والغموض والمراوغة :
قد يلجأ إلى الأساليب الغامضة ـ بل الكذب أحياناً ـ إذا أحس بضعف حجته، أو أنه يريد أن يلبس على الطرف الآخر ويوهمه بما ليس له حقيقة، وهذه صفة ذميمة يرفضها الإخلاص لله تعالى، والخلق الكريم، بل إن الحوار المبارك هو الحوار الصادق الذي يطمئن كل طرف فيه إلى الآخر، وإذا طُرِحَ سؤال لا يريد أحد الطرفين الإجابة عليه فيعتذر عن الإجابة ، ولا يلجأ إلى الغموض والمراوغة ؛ لأنه إذا فقدت الثقة بين الطرفين فقد فشل الحوار .
6- الأمانة :
لابد من الأمانة في العرض والنقل واحترام الحقيقة ، وألاّ تقطع عبارة عن سابقتها أو لاحقتها عند الاقتباس لتخضعها لخدمة فكرتك ، فهذا نقص في الدين والإخلاص؛لأنه أخو الكذب،فضلاً عن أنه يعرض من هذه صفته للسخرية وعدم الثقة به لتلاعبه بالنصوص.
7- الإنصاف :
من الإنصاف أن يبدي المحاور إعجابه وثناءه على الأفكار الصحيحة ، والأدلة الجيدة، وحسن الاستدلال، والمعلومات الجديدة التي يوردها الطرف الآخر، والإيجابيات والحسنات التي تتمثل فيه أو في فكرته وإن ظهر معها جوانب سلبية ، كما أن من الإنصاف وضع النفس موضع الطرف الآخر ، والظروف المحيطة به ، والتي أدت به إلى الرأي المخالف .
8- وضع الخطأ في حجمه الطبيعي ، وتجنب الشماتة :
عند وضوح خطأ الطرف الآخر يجب أن يشعر بأن الخطأ ميسور التصحيح حتى لا يداخله الشيطان ، وتفقده مسيرة الدعوة من جراء خطئه،كما أن تواضع الطرف المصيب أمر مهم حتى لا يداخله الشيطان ؛ فيشعر بالتعالي على الطرف الآخر، أو يشمت به وبفكرته الخاطئة ؛ فالمسلم المخلص يقصد من الحوار إظهار الحق ولو على لسان مخالفه .
9- على كل طرف في الحوار تجنب الهزء والسخرية :
وكل ما يشعر باحتقار أحدهما للآخر، أو ازدرائه لفكرته،أو وسمه بالجهل،أو قلة الفهم، أو التبسمات والضحكات التي تدل على السخرية .
10- تجنب ضمائر المتكلم أثناء الحديث :
حتى لا يدخل الشيطان إلى النفس ؛ فيقع فيها العجب والغرور ، ينبغي تجنب إدخال ضمائر المتكلم أو ضمير الجماعة في الحديث كتكرار ((نحن، أنا، عندنا...إلخ )) مع ما فيها من المضايقة للطرف الآخر .
* * *
لأصل الثاني : العلم
(( ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ))
ويدخل تحته التفصيلات التالية :
1- الاتفاق على منهج الاستدلال والتلقي قبل البدء في نقاش أي مسألة علمية:
لأن النقاش والمنهج مختلف سيؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة ، وسوف لا يسلم أي طرف لما عند الطرف الآخر من دليل أو استنباط ، وحتى تتضح هذه المسألة أكثر ، نضرب لذلك بعض الصور كما ذكرها الشاطبي في(الاعتصام ـ الباب الرابع) تحت عنوان : مآخذ أهل البدع في الاستدلال ، فنذكر منها(باختصار وتصرف) ما يلي :(/20)
* إن من أهل البدع من منهجه الاستدلال بالأحاديث الضعيفة ـ أو الموضوعة أحياناً ـ في العقائد والأحكام ، وهذا المأخذ مرفوض عند أهل السنة ؛ لأنهم لا يرضون الاستدلال بالضعيف ـ فضلاً عن الموضوع ـ في باب العقائد والأحكام ، فإذا لم يتفق مع الطرف المحاور على خطأ هذا المنهج ، فلن يفلح الحوار في أي نتيجة ، لأن الأدلة التي سيستدل بها الطرف الآخر مرفوضة ابتداء من الطرف الثاني لعدم ثبوتها عنده .
* ومن أهل البدع من هو عكس الصورة السابقة ؛ حيث يرفض الاستدلال بالأحاديث الصحيحة بحجة أنها آحاد ، ولا يقبل من ذلك إلا المتواتر ، وهذا المنهج مرفوض أيضاً عند أهل السنة ؛ حيث إن الدليل إذا ثبتت صحته أصبح صالحاً للاستدلال ولو كان آحاداً ، وبدون الاتفاق على هذا المنهج ابتداء فلن يفلح الحوار في أي نتيجة. إذن فمن الأولى في مثل هذه الحالات ، وقبل طرح الأدلة ودلالتها عن المقصود،لابد من الاتفاق على قبول الاستدلال بأحاديث الآحاد الصحيحة .
* كما أن هناك من أهل البدع من منهجه الاحتجاج بأقوال شيخه أو إمامه والتعصب لها ، ونبذ أي دليل يخالف ذلك ، بل إن أهل بعض الملل المبتدعة يرون أن أقوال أئمتهم ومشايخهم هي التشريع بذاته ، وممكن أن يأخذ الحلال والحرام من أقوالهم ، بل إن لهم نسخ الشريعة وتحليل الحرام أو تحريم الحلال .
فإذا لم يتفق على خطأ هذا المنهج وأن ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع هو الأصل ، وأن كل ما خالف ذلك فهو مرفوض مهما كان قائله ، فإنه لا فائدة من النقاش .
* ومن أهل البدع من يعتمد في استدلاله على الرؤى والمكاشفات ، فيصحح بهما الضعيف ، ويضعف الصحيح ،ويحلل ، ويحرم ، ويشرع بهما ما لم يأذن به الله ، فإذا لم يتفق ابتداء على ضلال وخطأ هذا الاستدلال ، فلن يفلح الحوار ، ولن تتحقق أهدافه أبداً .
وصور مآخذ أهل البدع في الاستدلال كثيرة من أراد التوسع فيها فليرجع إلى الباب المذكور في الاعتصام فإنه مفيد جدّاً.
* مراعاة تفاوت الناس في عقولهم وثقافتهم :
فالعلم بما عند الطرف الآخر من علم وثقافة يعين على اختيار الأسلوب ، والمعلومات التي تناسب عقله وحصيلته العلمية، فتحديث الناس بما يعقلون أمر مهم في الحوار ؛ لأن عدم مراعاة ذلك يحصل بسببه فتنة وتشويش للطرف الآخر ، ينعكس أثره على إيجابية الحوار .
3- البيان وحسن العرض :
إن قوة التعبير وفصاحة اللسان وحسن البيان والعرض من العوامل في إيضاح الفكرة وأدلتها ؛مما يكون له أكبر الأثر على قبول الطرف الآخر للفكرة ، وإقناعه بحسن الاستدلال عليها ، وهنا يجب تجنب الألفاظ الغريبة صعبة الفهم ، أو الألفاظ المجملة التي تحتمل عدة معانٍ من غير توضيح للمعنى المراد منها .
4- البدء بمواطن الاتفاق والنقاط المشتركة :
إن البدء بنقاط الاتفاق لدى الطرفين،كالمسلمات والبديهيات وغيرها من الأمور المتفق عليها كل ذلك يقلل الفجوة ويوثق الصلة بين الطرفين ، ويحس كل منهما أن هوة الخلاف قليلة ،وهذا له مردوده النفسي في الحوار. وبالعكس ؛ فإن البدء بنقاط الخلاف يوسع فجوة الخلاف، ولو من الناحية النفسية ، ولذلك يحرص أن يلقي على الطرف الآخر الأسئلة التي سيكون جوابها » بنعم « ، ويتجنب ما يكون جوابه النفي ؛ لأن كلمة ((لا)) عقبة كؤود يصعب التراجع عنها .
والأمثلة في القرآن الكريم كثيرة ؛ فمثلاً في سورة المؤمنون ، يقول تعالى : (( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ )) (المؤمنون:84 ـ 89) .
فهنا نجد أن الله سبحانه وتعالى ألقى عليهم الأسئلة التي يعرف أن جوابهم عليها بالموافقة ، وذلك لإقامة الحجة عليهم في تقرير توحيد الألوهية؛ لأن ما وافقوا عليه مستلزم لما أنكروه.
5- التوثيق :
ينبغي أن تكون مسائل الحوار موثقة من الناحية العلمية والإسنادية ، فلا يستدل بشيء إلا مسنداً لقائله ، ومصدره الذي أخذه منه ، وأن يستعان بذكر الإحصاءات التي تخدم الفكرة ، والمراجع التي رجع إليها ؛ لأن ذكر الحقائق مدعمة بذكر المصادر والإحصائيات الموثقة ،أعمق أثراً في النفوس من ذكرها مجردة ، كما ينبغي في مثل هذه الحالات الإعراض عن النقول الضعيفة ، والحجج الواهية .
6- عدم تعرض أحد الطرفين لكلام الآخر ومناقشته قبل فهم مراده تماماً : والتفكير العميق في أدلته ثبوتاً ودلالة ، وألا يقدم على تصحيح فكرة ما أو تخطئتها قبل التأكد من ذلك تماماً .
7- الإحاطة بمواطن الخلاف في القضية المطروحة :(/21)
للحوار والإلمام بأنواع الاختلاف ما يجوز فيه ومالا يجوز ؛ لأن جهل هذا الأمر يوسع دائرة الاختلاف ، فيحصل الاختلاف والفرقة حول مسألة قد يسع الخلاف فيها والاجتهاد ، كما ينبغي الإلمام بأسباب الاختلاف بين علماء الأمة والتي ذكرها شيخ الإسلام في رسالته القيمة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام ).
وبهذه المناسبة ينبغي الإشارة إلى مسائل الخلاف ،وأنواعها ، ومن هو المحمود فيها ، ومن هو المذموم؟ ، وما هي المسائل التي يسعها الخلاف ، والمسائل التي لا يسعها؟ إلى آخر ذلك مما يتعلق بموضوع الاختلاف ، فنقول وبالله التوفيق :
إن الاختلاف ينقسم إلى قسمين :
1- قسم يحمد فيه أحد الطرفين، ويذم الطرف الآخر ؛مثل الاختلاف الواقع بين المؤمنين والكافرين ، أو بين أهل السنة وأرباب البدع.
وهذا القسم من الاختلاف هو المذكور في قوله تعالى : (( وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ)) (البقرة:253)،وكقوله تعالى: (( هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ )) (الحج:19) ، فكل ما يتصل بقضايا العقيدة وأصولها والتي لم يختلف عليها سلف الأمة ،وإنما ظهر الاختلاف واستشرى بعدهم ، هو داخل تحت هذا القسم.
2- قسم يذم فيه الطرفان المختلفان، إذا سبَّب هذا الاختلاف الفرقة والعداوة ، ويحمد فيه الطرف الذي لم يجعل هذا الاختلاف سبباً في الفرقة والمفاصلة .
وهذا النوع من الاختلاف هو الذي وَسِع السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ ولم يحصل بينهم بسببه افتراق ولا بغضاء؛ فكل ما وسع السلف الصالح رحمهم الله تعالى فيما اختلفوا فيه ، فيجب أن يسعنا ، ويندرج تحت هذا القسم عدة صور نجملها ، فيما يلي :
* اختلاف في تحديد موضوع الخلاف:وذلك بأن نجد أحد المختلفين قد ذهب إلى موضع من النزاع غير ما ذهب إليه الآخر أو أن أحدهما سماه باصطلاح معين، والآخر سماه باسم آخر ، فظهر أن هناك اختلافاً ، والحقيقة أنهما اسمان مشتركان لمسمى واحد ، فلو حددت المصطلحات ، ودقق في المعاني والألفاظ لظهر أن هناك اتفاقاً وليس اختلافاً ؛ كالاختلاف الحاصل في تفسير الصراط المستقيم في قوله تعالى : (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) (الفاتحة:6) .
حيث فسر بالإسلام والقرآن وسنة الرسول- صلى الله عليه وسلم - ، وكلها أسماء مشتركة لمعنى واحد هو الدين الإسلامي ؛ حيث إن كل قول داخل في معنى القول الآخر ، وهذا الأمر لا يأتي إلا بالتفكير الهادئ مع الإخلاص لله عز وجل.
* قد يتضح بعد التفكير وتحديد موضع النزاع أن هناك اختلافاً لكن هذا الاختلاف ليس اختلاف تضاد ؛ بمعنى أن المعنى الكلي ليس فيه خلاف ، إنما الخلاف في تنوع آحاد هذا الكلي ، وتعدد الأمثلة التي تحته ؛ كمن يذهب إلى معنى جزئي ، وآخر يذهب إلى معنى جزئي آخر يندرج كلاهما تحت المعنى العام الكلي .
مثال ذلك : تفسير قوله تعالى: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه)) (فاطر:32) .
حيث ذهب بعض المفسرين إلى أن الظالم لنفسه المفرط في الصلوات المكتوبة ، والذي يؤخرها عن وقتها ، والمقتصد المؤدي للصلاة أثناء وقتها، والسابق بالخيرات المؤدي للصلاة في أول وقتها .
وذهب بعضهم إلى أن السابق هو المحسن بالصدقة مع الزكاة ، والظالم آكل الربا ومانع الزكاة،والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المطلوبة ، ولا يأتي
الربا.
وكل قول، فيه ذكر نوع داخل في الآية، إنما ذُكر لتعريف المستمع بتناول الآية له ، وتنبيهه على نظيره.وكل هذه الأقوال ليس بينها خلاف تضاد ؛ لأنها ترجع إلى معنى واحد ، وهو أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات ، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات ، والسابق بالخيرات يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات .(انظر : مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية).
6- وهذه الصورة من الاختلاف الذي وسع السلف - رحمهم الله تعالى - بأن يكون المعنيان متغايرين لكن ليس بينهما منافاة ؛ لأن هذا قول صحيح ورد فيه دليل ، وذلك قول صحيح ورد فيه دليل أيضاً ، ولا يجوز أن يكون هذا سبباً في الاختلاف وهذا كثير في المنازعات لعدم معرفة أحد الطرفين بما عند الآخر من دليل.
ومثال ذلك : الاختلاف في صفة الإقامة للصلاة ، فمن قائل بشفعها وقائل بإفرادها ، والاختلاف في القراءات ...إلخ .
وكل ما ورد في الشريعة، عليه دليل صحيح ، ووسع السلف الصالح، فإنه لا يجوز أن يكون سبباً في الاختلاف المؤدي إلى الفرقة والتباغض، وهذا بالطبع لا يأتي إلا نتيجة التفكير والبحث وعدم التعجل في رد قول المخالف إلا بعد الاطلاع على كل ما يتعلق بالموضوع من أدلة واستنباطات ، فقد يتضح بعد البحث أن كلا القولين ثابت وصحيح عن الرسول لله ، وبذلك ينتهي الخلاف.(/22)
7- الخلاف حول قضية معينة ورد الدليل عليها وأورد المخالف دليلاً آخر مخالفاً لها، لكن أحد الدليلين أقوى من الآخر وأرجح ، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يكون سبباً في الفرقة ؛ لأن ما وسع أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -وأئمة السلف ينبغي أن يسعنا .
وهذا يقع في كثير من الأحكام التي اختلف فيها العلماء ، وعندما يعلم أن هؤلاء الأئمة ما اختلفوا لهوىً في نفوسهم ، بل وقف كل منهم مع ما عنده من الدليل ، فربما وصل أحدهم ما لم يصل الآخر ، أو صح عنده ما لم يصح عند غيره كما بيَّن ذلك شيخ الإسلام في رسالته: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) ، ولكن مع ذلك فالواجب في هذه الحالة العمل بالدليل الراجح وترك المرجوح ،عند من تبين له ذلك بوجه شرعي.
ولكن هذا لا يعني موافقة من يأخذ بالأقوال الشاذة أو بعض سقطات العلماء ، والتي يكون الدليل على خلافها ؛ بل الواجب تصحيح المخالف وإرجاعه إلى الدليل ، وتوضيح وجه الشذوذ فيما أخذ به ؛ لأن هناك من يقول : ( أي قضية لم يجمع عليها الصحابة فالأمر فيها واسع) وهذا القول ليس صحيحاً على إطلاقه ، فقد ذكر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله في رسالته :( إتمام المنة والنعمة في ذم اختلاف الأمة) بعد كلامٍ جيدٍ حول هذا الأمر ننقل منه المناسب لموضوعنا . قال رحمه الله تعالى:
((وأما احتجاجه بقول النووي : (( إن العلماء إنما ينكرون على من خالف ما أجمع عليه، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب.قال:وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم)) انتهى ما حكاه . فيقال في جوابه : أنت لم تستكمل عبارة النووي ، بل تصرفت فيها ، وأخذت ما تهوى وتركت بقية العبارة ؛لأنه عليك مع اتصالها وتقييد بعضها ببعض .
قال النووي بعد ما تقدم : لكن إن أريد به على جهة النصيحة ـ أي الخروج من الخلاف ـ فهذا حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق ، فإن العلماء متفقون على الحث إلى الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بالسنة أو وقوع في خلاف آخر .
هذا كلام النووي قد استبان لك أن مراده إذا لم يظهر دليل ، ولم يترجح جانب الإنكار بكتاب أو سنة أو إجماع أو قياس جلي.. وأما أقوال الآحاد من العلماء فليست بحجة إذا لم يقترن بها دليل شرعي ، وما زال العلماء يردون على من هو أجل منه )) (1) اهـ .
وبعد هذا التفصيل فيما يجوز الاختلاف فيه وما لا يجوز ، نتوجه إلى جميع المختلفين أن يقفوا وقفة مع نفوسهم ، ويسأل كل واحد منهم نفسه أو صاحبه ، ومن يخلص له النصح والتذكرة : أين نحن من أنواع الاختلاف ؟ وأين نحن من البغي والاعتداء في الخلاف؟ ، وأين نحن من أدب الخلاف وأخلاقه ؟،وما كانت الأمة لتفترق إلا بسبب البغي والحسد والجهل ؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : (( ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي لا مجرد الاجتهاد)) (2) .
8- أن يعطى كل طرف في الحوار راحته وحريته في التعبير عن فكرته والإحاطة بها من جميع الوجوه ؛ لأن قطع الفكرة أو التشويش عليها يؤثر على تسلسل الأفكار وترابطها .
9- لا أعلم :
وذلك بأن يكون عند أصحاب الحوار من الإخلاص والخوف من الله عز وجل بأن يقول : لا أعلم ، عند السؤال عن مسألة لا يعلمها ، أو لم يبحثها بحثاً كافياً ، وألا يستحي من ذلك ، وأن يطلب الإمهال حتى لقاء آخر ليأتي بالجواب عنها إن وجد جواباً .
10- التفريق بين الفكرة وصاحبها :
وذلك بأن يتم تناول الفكرة المطروحة بالبحث والتحليل والنقد أو التزكية ، بعيداً عن صاحبها حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية تناقش فيها تصرفات الأشخاص ونواياهم ، ولكن في بعض الأحوال ينبغي تناول أصحاب الأفكار أنفسهم بالجرح والتعديل حسب مقاييس أهل السنة ، وذلك عندما نخشى ضلالاتهم أو تأثر الناس بأفكارهم ، ولكن كل ذلك يتم بإخلاص وإنصاف .
11- إقفال المناقشة :
عندما تتسع شقة الحوار ، أو يتضح أثناء النقاش أن هناك أموراً أساسية برزت لم يتم التحضير لها ، أو لا يكفي الوقت لمناقشتها ، فيحسن في مثل هذه الأحوال إقفال النقاش وتأجيله إلى وقت آخر يتم التحضير والاستعداد الجيد له ، كما ينبغي قفل النقاش عندما يتبين أن الطرف الآخر في الحوار غير جاد، أو مستهتر ، أو كان دون المستوى المطلوب للخوض في القضايا المعدة للحوار .
* * *
الأصل الثالث
ظروف الحوار والمتحاورين
(( مَثْنَى وَفُرَادَى))
وهذا هو الأصل الثالث الذي يراعى عند الحوار والمناظرة ، وقد أشارت الآية الكريمة إلى جانب من ذلك عند قوله تعالى:{مَثْنَى وَفُرَادَى}، وسنشير هنا ـ إن شاء الله تعالى ـ إلى بعض الجوانب التي تتعلق بظروف الحوار؛ لأن إلغاءها يؤثر كثيراً على طبيعة الحوار ونتيجته ، ومن هذه الجوانب ما يلي :
1- مراعاة الجو المحيط بالحوار :
__________
(1) إتمام المنة والنعمة : ص47 ، ص48 .
(2) الاستقامة ( 1 / 31 ) .(/23)
ويقصد بالجو هنا الجو النفسي ، والمؤثرات المحيطة بالحوار ، وذلك كما في الآية الكريمة ؛ حيث يوجه الله عز وجل طلاب الحق أن يبتعدوا عن الأجواء الجماعية والغوغائية ؛ لأن الحق قد يضيع في مثل هذه الأجواء ؛ حيث التقليد الأعمى ، والتبعية للأكثرية ، بينما لو قام الإنسان مع نفسه أو مع شخص آخر للتفكير حول قضية ما ، فإنه أقرب إلى إصابة الحق منه في الاجتماعات الكبيرة ، وبقدر ما يقل المتحاورون أو السامعون في الحوار بقدر ما ينقاد إلى الحق عند ظهوره .
2- مراعاة الجو الحسي للحوار :
وذلك من حيث البرودة والحرارة والاتساع والضيق ..إلخ ؛ لأن وجود ما يؤذي في جو الحوار يؤثر على طبيعة النقاش ونتيجته ، وقد يبتر
النقاش ، أو يختصر دون وصول إلى نتيجة ، وكذلك ـ مما يتعلق بهذا الجانب ـ اختيار المكان الهادئ ، وإتاحة الزمن الكافي للحوار ، فلا تصلح أماكن الدراسة ، والعمل ، والأسواق للحوار ، وذلك لضيق الوقت ، ولوجود ما يشغل.
3- مراعاة الظرف النفسي والاجتماعي للطرف المحاوَر أو المحاوِر :
فلا يصلح أبداً أن يتم الحوار مع شخص يعاني من الإرهاق الجسدي لتعب ، أو حاجة لنوم ، أو بسبب جوع ، أو يعاني من إرهاق نفسي : كهمٍ، أو غمِ ، أو حزن ؛ لأن هذه الظروف لابد أن تؤثر حتماً على الحوار؛ إما ببتره قبل تمامه ، أو حدوث انفعالات ، وغضب ، وتوتر ، يؤدي بالحوار إلى الفشل الذريع.
4- أهمية المحادثة الأولى والتعارف الذي يسبق الحوار:
إن المحادثات الأولى والتعارف الأول على الطرف المحاور يساعد على سهولة البدء في المناظرة وسيرها فيما بعد بالشكل المناسب؛ إذ من الصعب أن يبتدأ مباشرة بالحوار مع أشخاص لم يتم أي تعارف معهم ولو كان يسيراً؛ لأن في جلسة التعارف هذه فائدة في التعرف على طبيعة الطرف الآخر، ولو بشكل مبدئي من خلال مظهره، وحديثه، ونبرات صوته، وحصيلته العلمية ؛ مما يكون له الأثر في معرفة الظروف النفسية، والميول الذهنية للشخص المحاور، وهذا بدوره يساعد في طريقة وأسلوب الحوار مع الناس، كلٌ حسب ظروفه .
ويمكن أن تتم جلسة التعارف هذه على شكل دعوة غداء أو عشاء يتم فيها أحاديث غير رسمية عن : الصحة ، والعمل ، والأولاد ، وعن رأيه في الكتاب الفلاني ، وفي الفكرة الفلانية ، وعن أي أمر عام ليس له علاقة بموضوع الحوار .
فهذه الطريقة على أي حال أفضل بكثير من أن يفاجأ المرء بأشخاص لم يضع لهم في ذهنه أي تقدير لهم ، ولظروفهم ، فيؤدي إلى فشل الحوار كأن يخبر بأن الشخص لطيف ، وسهل التعامل ، وحليم ، ويفاجأ بالعكس تماماً .
5- أن يكون المتحاوران متقاربين ما أمكن في العلم والجاه : وأن يتجنب مناظرة ذي هيبة يخشى أو يستحي من مناظرته ؛ لأن ذلك يؤثر على قوة الحجة والجرأة على الإدلاء بها .
6- ينبغي اجتماع أصحاب الحوار في مكان واحد ، وتقابلهما فيه : وأن ينظر بعضهم للآخر ؛ لأن رؤية الوجوه والملامح له أثر في قوة الحجة أو ضعفها ، وفي هذه الحالة لا تصلح المراسلات للحوار ، ولا يصلح كذلك الحوار بواسطة الهاتف إلا في أضيق الظروف .
7- مراعاة الآداب الإسلامية (القولي منها والعملي) :
والذي يكون له مردوده النفسي على أطراف الحوار ، وسلامة قلوبهم وصفائها ، والانقياد للحق عند ظهوره ، ومن هذه الآداب :
* احترام الطرف الآخر ، والتأدب معه ، وحفظ اللسان عما يسوءه من الألفاظ ، وعدم السخرية برأيه، وأن يثني عليه بما فيه وفكرته ، من الإيجابيات والخير الكثير.
* التلطف في العبارات أثناء الحوار ، فبعض العبارات قد تفتح
مغاليق النفوس ، وهي يسيرة على من يسرها الله عليه ؛ من الكلمة الطيبة التي تقرب النفوس، وتزيل الجفوة ، وتهيئ النفوس لاستقبال الحق ، والأمثلة في ذلك كثيرة ؛ كمناداة الطرف الآخر بكنيته ، وإذا كان أكبر سناً أو علماً ، يا أستاذي ويا شيخي ... اسمح لي ... عفواً .
* ابتسم في وجه محدثك وأطلق أسارير الوجه أثناء الحوار ؛ فهذا يضفي على الحوار جو الألفة والأنس.
* اجتنب الغضب ما أمكن ، ولو عارضك الطرف الأخر ، أو أغلظ القول لك ، واستخدم الرفق واللين.
* تجنب اللوم المباشر عند وضوح خطأ الطرف الآخر ؛ فالنفس غالباً لا تتحمل قول: ( أخطأت ) أو ( سأثبت لك أنك مخطئ ) أو ( أنا أخالفك في الرأي )؛ فهذه الألفاظ قد تجرح عند بعض الناس كبرياءه وشخصيته .
لكن عندما يبدو الخطأ فيمكن معالجته بمثل قولك:لكن أرى رأياً آخر قد أكون مخطئاً فيه ، أو لعلك تصلح لي خطئي. وإذا كان الخطأ يمكن إصلاحه ببعض الإضافات، فتقول:هل لك أن تفعل هذا؟ أو ما رأيك في إضافة هذه العبارة ..؟ ، أو ما المانع لو اتفقنا على هذا التعديل ؟...إلخ.
9- التحدي والإفحام :
وهذا الأسلوب يلجأ إليه مع المماحكين الذين همهم الجدال والاستهزاء وإثارة الشبه وتضليل الناس؛ فمثل هؤلاء لا ينفع معهم اللين والرفق، وإنما(/24)
الذي ينبغي في حقهم إفحامهم ومناظرتهم على الملأ الذين قد ضللوا بسببهم؛ وذلك حتى تدحض حجتهم وتسقط هيبتهم من النفوس وتبين وهن فكرتهم واضطرابها . لكن ينبغي لمن أراد مناظرتهم أن يكون على مستوى من العلم، والذكاء ، والشجاعة ؛ بحيث لا يؤتى من قبل قلة علمه، أو سطحيته ، أو نحو ذلك .
9- المحافظة على هدف الحوار والوصول إلى نتيجة :
تحديد هدف الحوار ـ قبل الدخول فيه ـ أمر مهم ، والمحافظة على الهدف أثناء الحوار أيضاً أمر مهم ؛ لأن ذلك يحافظ على التركيز ، وعدم الخروج عن موضوع الحوار بمناقشة جزئيات أو أمور جانبية بعيدة عن موضوع الحوار؛ مما يكون له الأثر في ضياع الوقت ، وعدم الوصول إلى نتيجة في آخر الأمر.
وبعد : فهذه جملة من أصول الحوار وآدابه ،أعرضها على عِلاتها ونقصها، لعلها تفتح المجال لعلماء الأمة ودعاتها أن يفصلوا الأمر حول هذا الموضوع ويكملوا ما نقص منه ، فالمسلمون في حاجة ماسة إلى استقصائه وإتمامه .
أسأل الله عز وجل أن ينفع بهذا الحديث القلوب المخلصة التي أدمتها الخلافات وخيم اليأس على بعضها ، ولعل الأخوة الذين صاروا أعداء وهم أقرب الناس بعضهم إلى بعض، أن يقوموا لله عز وجل ويتفكروا مع أنفسهم أو مع بعضهم البعض ، وأن يحفظ كل واحد منهم حق أخيه ، ويعلم أن أخاه وإن كان مخطئاً في شيء فقد أصاب في أشياء أخرى ؛ ما دام أنه من أهل السنة وأتباع السلف .
فيا أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويا محبي محمد - صلى الله عليه وسلم - جردوا أنفسكم لله تعالى ، واقتدوا بسلف الأمة،الذين كانوا حريصين على جمع الكلمة وسلامة القلوب، وكان أبغض شيء لديهم الفرقة والاختلاف ، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما قيل له : إن عثمان بن عفان أتم بالمسلمين في منى وكانت السنة القصر ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثم لم يمنعه ذلك من أن يأتم بعثمان ويتم الصلاة معه أربعاً ، فلما قيل له في ذلك ، قال : إن الخلاف شر .
فحري بمن أحب السلف والتزم بمنهجهم أن يلتزم بمنهجهم الشامل في الاعتقاد والسلوك .
وما تم عرضه في هذا البحث يمثل إن شاء الله تعالى بعض آداب السلف الصالح في حوارهم واختلافهم ، وهي بدورها الآداب التي هدانا الشرع إليها لنخرج من الاختلاف؛ بل ننازعه بقدر الله عز وجل ، وأسبابه الشرعية التي شرعها الله لنا والتي لا سبيل للنجاة والخلوص من الشرور إلا بالرجوع إليها .
ومن سلك سبيل الهدي وصدق مع الله عز وجل،في طلبه للجماعة والائتلاف ، يسر الله له سبيله ، وألَّف بينه وبين إخوانه من الدعاة الصادقين، ومن سلك سبيل الضلال من أهل الزيغ والفرقة والاختلاف، أضل الله سبيله وأزاغه عن الهدى : (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )) (العنكبوت:69) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ,,,
* *
الرسالة الثالثة : (( قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ)) ( آل عمران : 165)
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فإن عنوان هذا الموضوع جزء من آية كريمة نزلت مع ما قبلها وما بعدها في غزوة أحد الشهيرة ، والتي أصاب المسلمين فيها ما أصابهم من القرح الشديد ؛ حيث قُتِل فيها سبعون من الصحابة ، وجُرِح الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم -، وشُجَّ وجهه الشريف ، وانكسرت رباعيته- صلى الله عليه وسلم - ، وهذه الآية واحدة من ثمانين آية نزلت في سياق الغزوة في سورة آل عمران ، وفي هذه الآيات من العبر والدروس الشيء العظيم ، ونكتفي في موضوعنا هذا بالآية المذكور جزء منها في عنواننا هذا ؛ حيث يقول الله تعالى : (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [آل عمران:165] .
وقد جاءت هذه الآية تعقيباً على سؤال سأله أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -عن سبب الهزيمة التي حلت بهم،وجواباً لاستغرابهم القرح الشديد الذي أصابهم وهم المسلمون وقائدهم سيد البشر ، وحبيب الرحمن محمد لله، وعدوهم(/25)
المشركون المشاقون لله وللرسول ، فجاءهم الجواب من العليم الخبير العزيز الحكيم أنهم أ ُتوا من عند أنفسهم،وبسبب ذنوبهم قدقدر الله عزوجل هذه المصيبة ،لحكم أخرى ذكرتها الآية التالية لهذه الآية، وهي قوله تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ)) [آل عمران:166، 167].
قال الإمام الشوكاني رحمه الله حول قوله تعالى : (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ....)) الآية :
" الألف للاستفهام بقصد التقريع، والواو للعطف . والمصيبة : للغلبة والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد. (( قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا )) يوم بدر ؛ وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعون ، وقد كانوا قتلوا يوم بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين ، فكان مجموع القتلى والأسرى يوم بدر مثلي القتلى من المسلمين يوم أحد.
والمعنى : أحين أصابكم من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم: من أين أصابنا هذا ؟، ونحن نقاتل في سبيل الله ، ومعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد وعدنا الله بالنصر عليهم.
وقوله : (( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) أمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يجيب عن سؤالهم بهذا الجواب ؛ أي هذا الذي سألتم عنه هو من عند أنفسكم بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم به الرسول لله من لزوم المكان الذي عينه لهم، وعدم مفارقتهم له على كل حال .
وقيل : المراد بقوله : (( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) خروجهم من المدينة ، وقيل: هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل " .اهـ .
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية بقوله :
" لقد كتب الله عز وجل على نفسه النصر لأوليائه حملة رايته ، وأصحاب عقيدته ، ولكن علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم، وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم ، وسلوكهم ،وباستكمال العدة التي في طاقتهم ، وبذل الجهد الذي في وسعهم ، فهذه سنة الله ، وسنة الله لا تحابي أحداً.
فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور ، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير ؛ فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن ، وإبطال النواميس؛ فإنما هم مسلمون ؛ لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس .
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدراً ، كذلك ، ولا يضيع هباءً ؛ فإن استسلامهم لله وحملهم الراية وعزمهم على طاعته ، والتزام منهجه ـ من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيراً وبركة في النهاية ، بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح ، وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب تزيد من نقاء العقيدة ،وتمحيص القلوب ، وتطهير الصفوف، وتؤهل للنصر الموعود ، تنتهي بالخير والبركة، ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته ، بل تمدهم بزاد الطريق ،مهما يمسهم من القرح والألم والضيق أثناء الطريق .
وبهذا الوضوح والصراحة معاً يأخذ الله الجماعة المسلمة ، وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع،ويكشف عن السبب القريب من أفعالها : (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) ، أنفسكم هي التي تخلخلت وفشلت وتنازعت في الأمر (( حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ)) فأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنفسكم هي التي خالجها الهواجس والأطماع ، وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ )) ؛ فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم وتقولون: كيف هذا ؟، هو من عند أنفسكم بانطباق سنن الله عز وجل عليكم حين عرضتم أنفسكم لها" اهـ .
ومثل هذه الآية قوله تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) [الشورى:30]، ومعنى هذه الآية من الوضوح بحيث لا يحتاج معه إلى توضيح وتفسير .
ويقول الله عز وجل : (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الأنفال:53].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية:(/26)
" يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحدٍ إلا بسبب ذنب ارتكبه كما قال تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ )) [الرعد:11] اهـ .
وقال صاحب الظلال رحمه الله حول نفس هذه الآية :
" إنه من جانب يقرر عدل الله عز وجل في معاملة العباد ،فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم ، ويبدلوا سلوكهم ، ويقلبوا أوضاعهم ، ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختيار، من النعمة التي لم يقدروها ويشكروها .
ومن الجانب الآخر يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري، عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ، ويحصل التغيير القدري في حياة الناس مبنياً على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم ، وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم ، ومن جانب ثالث يلقى تبعة عظيمة ـ تقابل التكريم العظيم ـ على هذا الكائن ، فهو يملك أن يستبقي نعمة الله عليه ، ويملك أن يزاد عليها إذا هو عرف فشكر ، كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكر وبطر وانحرفت نواياه ، فانحرفت خطاه " اهـ.
* * *
أهمية الموضوع
ومن هذا الاستعراض العام لمفهوم هذه الآيات يتبين لنا خطورة العوائق الداخلية في أنفسنا ، والتي لها دور كبير في حصول المصائب الفردية والجماعية ، فنحن المسلمين اليوم كثيراً ما نلقي أسباب هزائمنا وتأخرنا عن غيرنا على العوائق الخارجية كالغزو الفكري ، وكيد الكفار والمفسدين .
ولا شك أن للعوائق الخارجية دوراً في مصائبنا ، لكنها لم تكن لتؤدي دورها لوأصلحنا ما بأنفسنا، كما قال تعالى: (( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) [آل عمران:120]، فما كان لكيد الأعداء الخارجيين أثر لو صبرنا واتقينا الله عز وجل وحاربنا عدونا الداخلي الذي بين جوارحنا ، كما قال أحد الدعاة ـ رحمه الله تعالى ـ تلك المقولة الحكيمة : " أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم تقم في أرضكم ".
إن الاهتمام بإزالة العوائق الداخلية،جزء أساسي من اهتمامنا بتوفير شروط الانتصار على العوائق الخارجية، التي تحاول منع تحركنا نحو أهدافنا.
إننا معشر الدعاة كثيراً ما ننسى أنفسنا ، ونحن ندعو الناس ؛ حيث نجعل أكثر همنا في الآخرين ، والتفتيش عن عيوبهم ونقدهم، وفي هذه الزحمة ينسى أو يتناسى الإنسان نفسه ، وما فيها من الأمراض والمخالفات التي قد تفتك به في يوم من الأيام ، وإن نسيان النفس والحرص على إصلاحها والوقوف على سيئاتها،علامة خطيرة يخشى على صاحبها أن يقع تحت قوله تعالى : (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [الحشر:19].
وعندما نطرح مثل هذا الموضوع ؛ فإننا نحتاج في ذلك إلى قومة لله عزوجل صادقة ، ووقفة شجاعة مع أنفسنا، لنفتش وننقب في أعمالنا الظاهرة والباطنة ، وسنجد وللأسف - كما سيتبين ـ أشياء وأشياء،لولا ستر الله عز وجل ورحمته لما قبل الناس منا كلمة واحدة .
وقبل أن نستعرض هذه الأمراض والمثالب الموجودة في حياة بعضنا ، أنبه إلى ملاحظة مهمة : وهي أن ننتبه لخطر الشيطان ومداخله ونحن نطرح مثل هذه المواضيع ؛ لئلا يدخل علينا مدخلاً آخر فيزيد الطين بلة كما يقال
وذلك لأنه قد نجد بعد طرح هذه المخاطر أننا أو بعضنا واقعون في بعضها أو أكثرها ، وهنا ينبغي ألا ندع للشيطان فرصة ولا مدخلاً علينا ليحطم نفوسنا ، ويبث اليأس فيها محاولاً القضاء على ما فيها من خير بقوله لمن هذه حاله : أنت لست على مستوى الدعوة ، ولا على مستوى من يدعو إلى الله ، ويمثل الإسلام ، وأنت منافق ، وأنت وأنت ... فيزداد بذلك انحرافاً ، وبعداً عن الخير ، وأهله . فالحذر الحذر من هذا المزلق والمدخل الخطير .
والمقصود من طرح هذا الموضوع هو تنبيه الغافل ، وتذكير الناسي إلى ضرورة الرجوع إلى أنفسنا ، ومحاسبتها وتفقدها ، وأن نتذكر أثر الخلل الداخلي في مصائبنا أفراداً وجماعات ، لعلنا نقوم من عثرتنا ، ونصلح فساد قلوبنا وأخلاقنا .
وبداية العلاج اكتشاف المرض والشعور بوجوده.والشعور بالمرض
مصيبة ، ولكن أعظم من ذلك أن يكون موجوداً ولا يشعر بوجوده ، أو يشعر به لكنه يسلك بها سبيلاً،يوحي إلى نفسه ومن حوله أن ما هو عليه كياسة وفطنة ، وقد يتعسف ببعض الأدلة لتبرير حاله المتردية .
إذن يصبح الخطب غير خطير إذا اكتشف الإنسان هذه الأمراض من نفسه في وقت مبكر ، واعترف بها ، ولم يحاول تسويغها ؛ لأن العلاج يبدأ من معرفة الداء ، والله المستعان .(/27)
وما سنتعرض له في هذه الدراسة هو بعض ما توصل له الذهن من العوائق الداخلية ، رآها الكاتب واستقرأها من نفسه أو ممن حوله من دعاة المسلمين ، ويمكن تلخيص هذه الأمراض والعوائق فيما يلي :
1 ـ مساوئ القلوب وأمراضها :
إن أمراض القلوب لتعتبر أخطر الأمراض ، وأشنعها على الإطلاق ، وما ذاك إلا من أن القلب هو سيد الأعضاء ؛ فبصلاحه تصلح سائر الأعضاء، وبفساده يحصل الفساد للجميع ، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب)) ’(1) .
فبصلاح القلب تصلح النيات والمقاصد،وتصلح العين فلا تنظر إلا في مرضات الله عزوجل، وتصلح الأذن فلا تسمع إلا ما يرضي الله عزوجل، ويصلح اللسان فلا ينطق ولا ينفلت إلا ما فيه مرضات الله عز وجل ، وتصلح اليد فلا تبطش إلا فيما يحبه الله عز وجل ، وتصلح الرجل فلا تخطو إلا إلى ما يرضي الله عز وجل ، وبالجملة يصلح كل كيان الإنسان؛ ظاهره وباطنه ، فلا يتحرك إلا في نور الله عز وجل، وبنور الله عز وجل.
وإن هذا القلب ـ على عظم شأنه ـ كثيراً ما ننساه ، ونتشاغل بغيره من الأعمال الظاهرة ، ومع أن هذا مطلوب إلا أنه لابد أن يكون لأعمال الجوارح أصل منطلق إيماني قلبي ، وهذا واضح من تعريف الإيمان عند أهل السنة ؛ فهو قول وعمل ؛ قول القلب ، وقول اللسان ، وعمل الجوارح ، ومع أنه لا ينبغي أن يطغى اهتمام بشيء على شيء،إلا أنه ينبغي أن نعطي لأعمال القلوب اهتماماً خاصاً باعتبارها الأصل الأصيل في كل الأعمال .
والمقصود أن هناك تفريطاً في التفتيش عن القلوب وأمراضها ودسائسها، في الوقت الذي نجد من أصيب ببعض هذه الأمراض قد حافظ على الأعمال الظاهرة ، وتورع عن بعض الصغائر والمشتبهات ، ويحسب أن الذي ينقصه هو هذه فقط، وما درى المسكين أن لديه في قلبه من الأمراض ما يوجب عليه التورع منها ، وتقديم معالجتها على غيرها .
ولا يعني هذا أن يترك المسلم الورع في الصغائر والمشتبهات ؛ كلا ، فهذا شيء طيب ، ولكن الذي أردنا التنبيه إليه هو أن هذا الذي يتورع عن شيء صغير - قد يكون من الأمور المباحة، ويتصور أن هذا ما ينقصه فحسب -قد فرط في واجب صريح ، أو ارتكب عملاً محرماً صريحاً .
ونظراً لأهمية هذه المسألة أنقل كلاماً نفيساً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يتعلق بهذا الموضوع ، أو قريباً منه؛ حيث يتحدث عن غلط بعض الناس في فهم الورع ، فقال :
"... لكن يقع الغلط في الورع على ثلاث جهات :
أحدها : اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك ، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام ، لا في أداء الواجب ، وهذا ما ابتلي به كثير من المتدينة المتورعة ، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة ، وعن الدرهم فيه شبهة لكونه من مال ظالم ، أو معاملة فاسدة ، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين ، وذوي الفجور في الدنيا ، ومع هذا يترك أموراً واجبة عليه ؛ إما عيناً أو كفاية وقد تعينت عليه، من : صلة رحم ، وحق جار، ومسكين ، وصاحب ، ويتيم ، وابن سبيل ، وحق مسلم ، وذي سلطان ، وذي علم ،وعن أمر بمعروف ،ونهي عن منكر ، وعن الجهاد في سبيل الله ... إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه . أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى ؛ بل من جهة التكليف ونحو ذلك "(2) اهـ .
وقال رحمه الله تعالى حول المسألة أيضاً :
" وتمام الورع أن يتعلم الإنسان خير الخيرين ، وشر الشرين ، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد ، وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية ، والمفسدة الشرعية ؛ فقد يدع واجبات ، ويفعل محرمات ، ويرى ذلك من الورع ، كمن يدع الجمعة والجماعات خلف الأئمة الذين فيهم بدعة ، أو فجور، ويرى ذلك من الورع ، ويمتنع من قبول شهادة الصادق ، وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفيفة ، ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع "(3) اهـ .
إذن فالاهتمام بتقوى الله عز وجل وابتغاء مرضاته في العمل هو الذي ينبغي أن يُحرص عليه أشد من حرصنا على العمل نفسه ؛ لقوله تعالى : (( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُم)) [الحج:37].
__________
(1) متفق عليه .
(2) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (20/139) .
(3) المصدر السابق (10/512) .(/28)
وعلى هذا ؛ فأعمالنا القلبية من أهم الأمور التي يجب أن نعتني بها ونلتفت إليها ولا ننساها ؛ لأن نسيان هذا الأمر يفرز رجالاً يحسنون الحديث عن الإسلام ، ويجيدون الوعظ والتدريس والخطابة ، ويظهرون الحرقة على هذا الدين حتى يخيل للسامع أنهم عمالقة مجاهدون صادقون ، وهم ليسوا كذلك ، وقد يوجد هذا الصنف من الناس في طبقات المؤلفين الكتاب ، فكم رأينا رجالاً ظننا أنهم أصحاب تضحيات وهمم عالية ، وذلك من خلال ما يقرأ لهم من مؤلفات ، لكن ما أن يقع البصر عليهم ، ويحصل الاحتكاك والمصاحبة لهم حتى يتبين شيء آخر يناقض ما تخيله المتخيل عنهم قبل رؤيتهم .وهنا مكمن الخطر ؛ أن يوجد داعية ما ، يعجب الناس بدعوته ، ويكبر في أعينهم مع أن في قلبه من الأمراض ما لا يعلمه الناس، والله به عليم. نسأل الله عزوجل أن يصلح فساد قلوبنا.
وتزداد خطورة هذا الأمر عندما نتذكر قول الرسول- صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه نذكر منه الشاهد هنا وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فيما يبدو للناس ، وهو من أهل الجنة)) (1) .
ومناسبة هذا الحديث لموضوعنا قوله- صلى الله عليه وسلم -: (( فيما يبدو للناس)) ؛ فقد يبدو للناس عن شخص ما أنه من أهل الجنة، فيما يظهر لهم من أعماله الصالحة ، ودعوته ، ووعظه ، فيغبطه الناس على ذلك ، ولكن قد يكون في قلب هذا الرجل دسيسة من شبهة أوشهوة لا يعلمها الناس ، ولكن يعلمها علام الغيوب، وقد يعلم بها صاحبها لكنه يتغافل عنها ، أو يبررها، وقد لا يحس بها أصلاً إذا فتش ونقب ، ومن هنا تتبين خطورة هذه الدسائس القلبية الخفية ، وما قد تؤدي إليه من خاتمة مأساوية ، وكل مأساة تهون عند مأساة النار والعياذ بالله .
فيا أخوة الإيمان ؛ لنفتش في قلوبنا عن هذه الأمراض قبل فوات الأوان، ولا نتصور أننا بريئون منها ، أو أن غيرنا هم الواقعون فيها ، ولكي يتضح هذا الأمر بصورة جلية نذكر بعض الأمراض القلبية والتي لا يسلم منها إلا من رحم الله :
1 ـ مرض الحسد :
هذا المرض العضال الذي قل من يسلم منه ، لكن بين مقل منه ومكثر. هذا المرض الذي يتصور أحدنا أنه معاف منه، لكن ما أن يمر به موقف يتطلب منه سلامة القلب ، وحب الخير للغير حتى يكتشف هذا المرض من نفسه .
والحسد : هو تمني زوال النعمة عن صاحبها ، أو هو كراهية نعمة الله على الغير ، ولو لم يتمن زوالها .
فإذا أنعم الله عز وجل على أحد المسلمين بنعمة من مال، أو منصب، أو زوجة، أو أولاد، أو غير ذلك من متاع الدنيا ،أو كانت النعمة دينية؛كطلب علم ، وعبادة ، ودعوة ...إلخ. فليتفقد أحدنا قلبه تجاه من أنعم الله عز وجل عليه بإحدى ؛هذه النعم؛ أيجد في قلبه شعور الارتياح والفرح، أم إنه يجد عكس ذلك من الشعور بالغم، والانقباض ، والضيق لذلك ، ويتمنى أن لو لم تأته هذه النعم ؟.
وقبل ذلك: ما هو الشعور لو زالت عنه هذه النعم؟ ؛أهو شعور الفرح، والغبطة ، والسرور ، والشماتة ، أو هو شعور المتألم لألمه ؟، فإن كان الأول فهو الحسد بعينه ، نعوذ بالله من ذلك .
إن هذا الموقف من المساءلة والمحاسبة للنفس لابد منه إذا أردنا معالجة أمراضها،وعلينا أن نتحمل مسؤولية هذه المحاسبة،ولوكان جوابها بالاعتراف بوجود هذه الأمراض ؛ لأن بداية العلاج كما سبق أن ذكرنا هو اكتشاف الداء. وأخطر من المرض نفسه أن يكون موجوداً ولا نحس بوجوده
ومعلوم أن الغل ، والحقد ، والشحناء ، والبغضاء كل أولئك ثمرة من ثمار الحسد ، ومعارضة لعلم الله عز وجل وحكمته وقدرته .
وليس أروح وأسعد للمسلم،ولا أطرد لهمومه من أن يعيش سليم القلب مبرأ من وساوس الضغينة والأحقاد؛لاتراه إلا ويحب الخير للمسلمين. وما أسرع ما يتسرب الإيمان من القلب الغشوش ، وعند ذلك لا يكون في أداء العبادة لذة ، ولا خير، ولا تستفيد منها النفس تقوى ولا عصمة.
وأتوجه بهذه المناسبة بنصيحتي إلى نفسي وإخواني الدعاة أن يصلحوا ذات بينهم ، ويزيلوا الشحناء من نفوسهم ، وأن يتعلموا أن نعم الله عز وجل ورحمته لا ينزلان على قلوب متنافرة ومتباغضة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ " قالوا: بلى، قال : " إصلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هو الحالقة ؛ لا أقول تحلق الشعر ، ولكن تحلق الدين)) "(2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ، وكونوا عباد الله إخواناً)) "(3) .
__________
(1) رواه البخاري في الجهاد (2898)، ومسلم في الإيمان (112) .
(2) رواه أبو داود في الأدب (4919)، والترمذي في صفة القيامة (2511). والحديث في صحيح سنن أبي داود (4111) .
(3) رواه البخاري في الأدب (6064)، ومسلم في البر (2563) .(/29)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( تعرض الأعمال كل اثنين وخميس ؛ فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئاً إلا امرؤ كانت بينه وبين أخيه شحناء ؛ فيقول اتركوا هذين حتى يصطلحا)) "(1) .
وهناك رذائل كثيرة حذر منها الإسلام ، تختلف في مظاهرها ، لكنها تعود إلى علة الحسد والحقد ؛ فالكذب والافتراء على الأبرياء ، وقول الزور، والغيبة والنميمة ...إلخ كلها رذائل ذات مصدر واحد،لذلك إذا أردنا التخلص من هذه الرذائل وغيرها فعلينا إصلاح قلوبنا، فبذلك تصلح شؤوننا كلها ، ويكون لدعوتنا حينئذ دور وأثر في حياة الناس ، وإلا فما قيمة أن ندعو الناس لترك الحسد والغش والشحناء ونحن بدورنا لم نعالج نفوسنا منه ؟! (( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)) [هود:88].
2 ـ أمراض الشرك الخفي :
كالنفاق ، والرياء ، والعجب ، والكبر ، والغرور ، وحب الشهرة والظهور ، كل هذه الأمراض الفتاكة يكفي أن نفتش عنها وعن أشكالها الكثيرة في حياتنا؛ لنتعرف على مدى كثرة أو قلة هذه الأمراض في قلوبنا، وهي من الوضوح في حرمتها وخستها ، وشدة فتكها ؛ بحيث لا نطيل ونفصل فيها ، ولأن المقام مقام إشارة ،والحر تكفيه الإشارة ، ويكفي في هذا المقام أن نتعرف على معنى قوله: (( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) [يوسف:106].
قال صاحب الظلال رحمه الله تعالى :
" وحتى الذين يؤمنون، كثير منهم يتدسس الشرك ـ في صورة من صوره-إلى قلوبهم؛ فالإيمان الخالص يحتاج إلى يقظة دائمة تنفي عن القلب أولاً بأول كل خالجة شيطانية ،وكل اعتبار من اعتبارات هذه الأرض في كل حركة وكل تصرف ، لتكون كلها لله ، خالصة له دون سواه ، والإيمان الخالص يحتاج إلى حسم كامل في قضية السلطان على القلب، وعلى التصرف والسلوك ، فلا تبقى في القلب دينونة إلا لله سبحانه ، ولا تبقى في الحياة عبودية إلا للمولى الواحد الذي لا راد لما يريد.
(( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ))...مشركون قيمة من قيم هذه الأرض في تقريرهم للأحداث، والأشياء، والأشخاص. مشركون سبباً من الأسباب مع قدرة الله ، في النفع ، أو الضر سواء . مشركون في الدينونة لقوة غيرقوة الله من حاكم أوموجه لا يستمد من شرع الله دون سواه.مشركون في رجاء يتعلق بغيرالله من عباده على الإطلاق. مشركون في تضحية يشوبها التطلع إلى تقدير الناس. مشركون في جهاد لتحقيق نفع أو دفع ضر،ولكن لغير الله.مشركون في عبادة يلحظ فيهاوجه مع وجه الله . لذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل)) (2)، وفي الأحاديث نماذج من هذا الشرك الخفي:
روى الترمذي- وحسنه- من رواية ابن عمر: (( من حلف بغير الله فقد أشرك)) (3) وروى الإمام أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الرقى والتمائم شرك)) (4) .
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر،قال : قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( من علق تميمة فقد أشرك )) (5) .
وعن أبي هريرة ـ بإسناده ـ قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشريكه )) (6) .
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد بن أبي فضالة ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك )) (7) .
وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ، قال : (( الرياء . يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاء الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا ؛ هل تجدون عندهم من جزاء ؟)) (8) .
فهذا هو الشرك الخفي الذي يحتاج إلى اليقظة الدائمة للتحرز منه ليخلص الإيمان .
__________
(1) رواه مسلم في البر (2565) .
(2) رواه أبو يعلى (58، 59، 60، 61) . والحديث في صحيح الجامع(3731) .
(3) رواه الترمذي الأيمان والنذور (1535)، والحاكم (1/18) وصححه .
(4) رواه أبو داود في الطب (3883)، وابن ماجه في الطب (3530) ، وأحمد (1/381).
(5) رواه أحمد (4/156)، وهو في السلسلة الصحيحة (492) .
(6) رواه مسلم في الزهد والرقائق (2895) .
(7) رواه الترمذي في التفسير (3152)، وابن ماجه في الزهد (4203)، وأحمد (3/466) (4/215). وهو في صحيح ابن ماجه : حسن (3388) .
(8) رواه احمد (5/428 ، 429) وهو في السلسلة الصحيحة (951).(/30)
وهناك الشرك الواضح الظاهر ، وهو الدينونة لغير الله في شأن من شؤون الحياة ،الدينونة في شرع يتحاكم إليه-وهو نص في الشرك لا يجادَل عليه- والدينونة في تقليد من التقاليد ؛ كاتخاذ أعياد ومواسم يشرعها الناس ولم يشرعها الله ، والدينونة في زيّ من الأزياء يخالف ما أمر الله به من
الستر، ويكشف أو يحدد العورات التي نصت شريعة الله أن تستر.
والأمر في مثل هذه الشؤون يتجاوز منطقة الإثم والذنب بالمخالفة، حين يكون طاعة وخضوعاً ودينونة لعرف اجتماعي سائد من صنع العبيد، وتركاً للأمر الواضح الصادر من رب العبيد .. إنه عندئذ لا يكون ذنباً ، ولكنه يكون شركاً ؛ لأنه يدل على الدينونة لغير الله فيما يخالف أمر الله.. وهو من هذه الناحية أمر خطير ..، ومن ثم يقول الله : (( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ)) (1)اهـ .
3 ـ شهوة الدنيا والركون إليها :
إن هذا المرض يعتبر من أخطر الأمراض التي بدأت تسري في حياتنا ، وحياة كثير من الدعاة إلى الله عز وجل وبأشكال كثيرة وأودية متشعبة قدلا يشعربها،أو يشعر بها،ولكنها من الثقل بحيث لا يستطيع التغلب عليها
وعلى أية حال؛ فحب الدنيا ، والسعي وراءها ، وامتلاء القلب بها ، واستحواذها على همنا وتفكيرنا ، هو الواقع المر الذي يجب أن نعترف به إلا من رحم الله .
ولو وازن أحدنا بين هم الدنيا والحيز الذي تشغله من قلبه وتفكيره ، وبين هم الآخرة،وهم هذا الدين لوجد أن البون شاسع والفرق كبير، ولوجد أن الدعوة وأمرهذا الدين يظهر على اللسان والأعمال الظاهرة،أما القلوب؛فلم يشغل منها إلا القليل،وإنما الهم الأكبر فهو لهذه الدنيا ومتاعها الزائل؛كل حسب اهتمامه وواديه الذي ذهب فيه من وديانها وشعابها التي ذكر الله عز وجل أهمها في سورة آل عمران بقوله : (( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ )) [آل عمران:14].
وقال تعالى في سورة التوبة: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )) [التوبة:24].
وإن هذا المرض تشتد بشاعته عندأولئك الذين تصدرواللدعوة وقيادة المسلمين،وتوجيههم،فبالله العظيم كيف يمكن لمن ملأت الدنيا قلبه أن يدعو الناس إلى الآخرة؟!أويتصدر الدعاة إلى الله عزوجل وقيادتهم، وإن وجودهذه الشهوة في قلوب الدعاة إلى الله عز وجل من أكبر العوائق التي تعوق الدعوة عن تحقيق أهدافها ؛ بل تؤخرها إلى الوراء إن لم تقض عليها
إن مرض إيثار العاجلة على الآخرة يكاد أن يطم على حياة كثير من الدعاة؛حيث نجد أن الكثرة الكاثرة في حقل الدعوة إلى الله عز وجل تحصر انتماءها إلى الدعوة في إلقاء خطبة ، أو موعظة ، أو حضور جلسة، أو درس أسبوعي أو شهري ثم ينصرف من ذلك بقلبه وقالبه إلى أعمال الدنيا ، والتمتع بملذاتها ، ومساكنها ، ومراكبها، ويتوسع في ذلك بشكل يوحي إلى المتأمل فيمن هذه حاله أنه سيخلد في هذه الدنيا ، وأن ليس له ما يشغل ذهنه إلا متاعها الزائل.
أما أن يسهم في دفع الغالي والنفيس في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل ومرضاته ،والجهاد في سبيله ، فأحسب أن هذا الصنف من الدعاة قليل في هذا العصر ، وصدق الرسول- صلى الله عليه وسلم - : (( إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)) (2) .
ولا يفهم من هذا الكلام الامتناع عما أحل الله من الطيبات أو الامتناع عن التجارة ،والوظيفة ، بل كل ذلك محمود ما دامت التجارة، أو الوظيفة لا تطغى على الدعوة ، وما دام الداعية يستفيد من ذلك كله في دعوته ، والتقديم لآخرته. أما أن تطغى الوظيفة والتجارة ، والدنيا بشكل عام ، على الدعوة ، والاهتمامات العالية، ويبدأ الداعية يعيش حياة التجار في ترف ، وتنعم ورفاه ، فهذا هو المذموم، وهذا هو الذي بدأ ينتشر في حياة الدعاة اليوم ، وهنا بداية الانزلاق ، وبالذات إذا كان الداعية رأساً وموجهاً في حقل الدعوة إلى الله عز وجل .
فلنتصور داعية وموجهاً يقود دعوة ، ويعتبر موجهاً لها ، ثم هو في نفس الوقت نراه من تجار الدنيا ، يبيع ويشتري ، ويشغل جسمه في النهار ، وفكره في الليل بهذه الدنيا ومتاعها ؛ إنه لا يمكن تصور ذلك أبداً ؛فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .
__________
(1) في ظلال القرآن عند الآية 106 من سورة يوسف (باختصار) .
(2) رواه البخاري في الرقاق (6498)، ومسلم في فضائل الصحابة (2547).(/31)
ومثل ذلك ، هذا الداعية الموظف الذي أخذت عليه وظيفته كل وقته؛ عملاً رسمياً في نصف النهار الأول ، ثم إضافياً في آخره ، فأين ومتى وقت الدعوة والعمل في سبيل الله عز وجل؟، اللهم إلا ما تبقى من الوقت في الليل ، فيأتيه وهو كال الذهن ، متعب الجسد ، ويعزي نفسه بذلك ، ثم يدور الوقت هكذا ، وينصرم العمر القصير ، والهم الأكبر هو متاع الدنيا وزخرفها الفاني . والله المستعان .
أيها الإخوة في الله:
يجب أن نلتفت إلى قلوبنا،وأن نتحسس هذه الأمراض وجودها ، وكيف نعالجها.يجب أن يسأل كل منا نفسه:كم من الأقوال والأعمال التي كان يدعوالناس إليها وهي تخالف ما في قلبه ؟،يجب أن نحذر من قوله
تعالى : (( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ )) [آل عمران:167]، في الوقت الذي يتصور الناس عن هذا الداعية أنه من أحسن الدعاة خلقاً وعبادة، والحالة ليست كذلك ؛ فالقلوب القلوب!؛ عناية وإصلاحاً ومعالجة أمراضها التي تعد أخطر الأمراض وأشدها فتكًا .
والآن وبعد الحديث عن أصل المثالب والمساوئ وهي القلوب، نستعرض بعض المثالب السلوكية،التي يكثر انتشارها في أوساط الطيبين من الدعاة، فضلاً عن عامة الناس ودهمائهم .
2 ـ المخالفات في الهدي الظاهر :
يقول الله تعالى : (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب:21].
والتأسي بالرسول لله يشمل شئون حياته كلها وأحواله كلها الظاهرة والباطنة ، وأول من يخاطب بهذا التوجيه الدعاة إلى الله عز وجل ، والذين هم بدورهم يوجهون الناس إلى العمل بمقتضى هذه الآية .
ولكن مع ذلك في حياتنا كثير من التساهل في التأسي به لله ، فمن هذه المخالفات في الهدي الظاهر : التساهل في إعفاء اللحية وإكرامها ، أو قص الشارب أو حفه ، وكذلك في اللباس والهيئة، والمسكن ، والمأكل ، والمركب ...إلخ.
كل هذه الأمور قد يحصل التساهل فيها ، ويقع البعض في الإسراف المحرم ،والمخيلة، وحب الشهرة ، وليس هنا موضع التفصيل وضرب الأمثلة ؛ فكل إنسان أعلم بنفسه وحاله .
وقد نجد من يقول عند الحديث حول هذه المخالفات : إنها من القشور ،
وينبغي أن نهتم باللب ... إلخ .
وهذا القول في نظري خاطئ ، ومنحرف ، وغريب على معنى الاستسلام لله عز وجل وشرعه ،فليس في الدين قشور ولباب ، وإنما هو لحمة واحدة ، والاستسلام لله عز وجل في الصغير كالاستسلام له في الكبير.
يقول تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) [البقرة:208].
3 ـ منكرات البيوت :
يوجد من الدعاة إلى الله عز وجل من يتساهل في أمور البيوت، ومقتنياتها ، فلا يحكم فيها بشرع الله عز وجل ، وهو الداعية المتصدر لإرشاد الناس وتوجيههم .
? فنجد مثلاً من يتساهل في إبقاء التلفاز مع ما فيه من شر مستطير ، وإثم كبير يغضب رب العالمين ، فبالله كيف يقوى على ذلك داعية يخاف حساب الله عز وجل ويرجو ثوابه ، ويريد هداية الناس .
كيف يطاوع نفسه الأمارة، أو يطاوع أهله وأولاده في البقاء على هذا المنكر ؟ ثم بعد ذلك يدعو الناس ويرشدهم ، بل كيف سيقبل الناس دعوة من يناقض نفسه بنفسه ؟ .
والأخطر من ذلك تضليل الناس ودهمائهم، وتحبيب هذا المنكر لهم بحجة التأسي بهذا الداعية ، ولو كان منكراً لما أبقاه فلان وفلان من الدعاة وطلبة العلم !!.
* ومن منكرات البيوت أيضاً : والتي يحصل التساهل والترخص فيها وجود الخدم الأجانب والخادمات الأجنبيات الحرائر ، ووجود السائقين الذي يخلون بالمحارم من البنات والأخوات والزوجات ، ومعلوم ما في هذا من المخالفة لشرع الله جهاراً نهاراً ، وكل هذه المنكرات لا تحتاج إلى مناقشة وتدليل على حرماتها لوضوح ذلك وبيانه، ومع ذلك يحصل الترخص من بعض الطيبين في ذلك ، ويرضخ للأمر الواقع على حد زعمهم ، وتنتشر مثل هذه المخالفات في البيئات المترفة المنعمة دون التقيد بالضوابط الشرعية في ذلك .
? ومن منكرات البيوت أيضاً : التساهل في صور ذوات الأرواح حتى أصبح ذلك الأمر طبيعياً في حياة الناس ـ دعاتهم وعوامهم ـ إلا من رحم الله، ويتمثل ذلك في إدخال المجلات المصورة ومجلات الأزياء والمجلات النسائية ...إلخ ، بحجج واهية لا تسمن ولا تغني من جوع.
? ومن منكرات البيوت أيضاً : التساهل في حشمة النساء داخل المنزل، خاصة إذا وجد أكثر من عائلة ، وكان هناك عرضة للاختلاط ، كما يحصل نوع من التبرج المقصود أو غير المقصود عند الخروج من المنزل ، كما أن هناك من يترخص ويتوسع في أدوات الزينة والتجميل ؛ مما قد يكون بعضه محرماً، وولي الأمر في غفلة من هذا، أو في تغافل عنه.
4 ـ إهمال تربية الأهل والأولاد :(/32)
يقول الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)) [التحريم:6].
وهذه الفقرة متعلقة أو مرتبطة بما قبلها ؛ بل إن الملاحظة السابقة ثمرة من ثمار الإهمال والتساهل في تربية الأهل والأولاد ، ومعلوم أن أولى الناس بالمعروف والدعوة، هم أهل الإنسان وخاصته، ولكن –وللأسف- نجد التساهل الشديد في هذا الأمر عند الكثير منا .
ومن مظاهر هذا التساهل ؛ أن نرى الداعية نشيطاً ومتحركاً في الخارج ، في جميع المجالات ، بينما لا ينعم أهله ومن استرعاه الله عليهم برؤيته إلا قليلاً، وتراهم يجهلون كثيراً من أحكام الدين الأساسية ، وقد يقعون في بعض المحظورات والمنهيات ، فلا يهتم بهم ولا يأمرهم وينهاهم، بل لا يتفقد أحوالهم ليعلم وقوعها منهم؛لأنه لا يجد الوقت الذي يجلس معهم فيه ليعلمهم ويربيهم.
أليس من المؤسف له أن يوجد في بيوت كثير من الدعاة من الأهل والأولاد من لا يعرف كيف يتوضأ أو كيف يصلي؟ أو يجهلون أحكام الصيام وكثيراًمن فروض العين الواجب على كل مسلم بعينه أن يتعلمها؟؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ؛ فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها،والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته" قال الرواي وهو عبد الله بن عمر : فسمعت هؤلاء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحسب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( والرجل في مال أبيه راع ومسؤول عن رعيته ؛ فكلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته)) (1) .
وهناك معالجات خاطئة لحقوق الزوجة والأولاد بين الإفراط والتفريط؛ فقد يوجد من يهمل أهله، وبيته بحجة الدعوة إلى الله عز وجل، والتضحية وفقه في سبيله، كما يوجد في الطرف الثاني من يهمل أمور الدعوة ، وطلب العلم والجهاد ،بحجة حقوق الزوجة والأولاد ؛ فلا تجده إلا وهو يدور في فلكهم وطلباتهم ، والموفق من وفقه الله عز وجل في هذا الأمر وإعطاء كل ذي حق حقه ، والوسطية سمة من سمات هذا الدين العظيم.
5 ـ التفريط في حقوق الوالدين وصلة الأرحام وحقوق الجار:
قال الله تعالى : (( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً)) [النساء:36].
إن هذه الحقوق قد تساهل فيها كثير من الطيبين، مع المعرفة بها وبفرضيتها ، وبالذات حقوق الوالدين التي تأتي بعد الأمر بتوحيد الله عزوجل ، وما بعد الشرك بالله عز وجل ذنب أشد من عقوق الوالدين ، ومع ذلك فهناك تفريط في هذا الحق ، وبالأخص حق الأم ، والمقام هنا ليس مقام تفصيل وتدليل ؛ إنما المراد التذكير والإشارة إلى ضرورة الانتباه إلى هذا الواجب العظيم ، وألا يفرط فيه بحجة أو بأخرى .
ومن أمثلة التساهل في هذه الحقوق التقصير في خدمة الوالدين ، وتلبية طلباتهم ، وتقديم النوافل على طاعتهم الواجبة ، ومن ذلك أيضاً عدم التلطف معهم ، وخفض الجناح لهم والصبر عليهم ، وتفقد أحوالهم، وما يطرأ عليهم من الكبر ،وتقديم رضا الآخرين عليهم ...إلخ .
وهناك أمثلة أخرى من التفريط لا يتسع لها المقام، وكل هذا مع الأسف
يصدر من بعض الدعاة الذين يحضون في دعوتهم على بر الوالدين ، والقيام بحقوقهم ، فليت شعري كيف يستقيم الظل والعود أعوج!!
ومن الحقوق المتساهل فيها أيضاً : حقوق الأقارب ، وصلة الأرحام، وعدم زيارتهم ومواساتهم،وتفقد أحوالهم ، وخدمتهم عند الحاجة ، وذلك من الأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات ونحوهم.
ومن الحقوق التي يحصل التفريط فيها أيضاً:حقوق الجار،وعدم الإحسان إليه ، بل يتعدى الأمر إلى الإيذاء والمضايقة والهجران .
6 ـ التساهل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
هناك من الدعاة من يهون من شأن هذا الأمر ، وأنه ترقيع وتضييع للجهود ، ومعلوم ما في هذا القول من خطر ، وفتح الباب للفساد ، وترك المفسدين ليفسدوا في الأرض ، والله تعالى يقول : (( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)) [البقرة: 251].
فياليت أن مثل هذا الصنف من الناس لهم جهود أخرى في الدعوة والتعليم والتوجيه،ليعذروا في تركهم هذا الواجب العظيم ، وياليتهم إذ عجزوا عن هذه الشعيرة العظيمة تركوا غيرهم ليسدها .
7 ـ التساهل في صلاة الجماعة :
__________
(1) متفق عليه .(/33)
ويظهر ذلك في التأخر عنها وعدم التبكير لها، وإدراك الصف الأول، وتكبيرة الإحرام، بل قد تفوت الصلاة كلها أو بعضها بغير عذر شرعي، وخاصة صلاة الفجر والعصر،واللتان همامن أفضل الصلوات،بل إن ظاهرة تأخر الطيبين عن الصلاة بدأت تلاحظ في كثير من المساجد، وأصبح
بعض العوام يشهرون ويتندرون، بأن الذين يقضون بعد الصلاة ،من بينهم كثير من الطيبين الملتحين !!.
8 ـ التفريط في طلب العلم والتفقه في الدين :
يكتفي كثير من الطيبين بالتقليد ، والنتف من العلم : كالاكتفاء بالرسائل الصغيرة ، والأشرطة المسجلة،والخطب ، والمحاضرات ، وكل هذه الأمور طيبة ، وضرورية ، خاصة وإن الذي يغلب عليها الوعظ والتذكير ، أما الدروس العلمية والكتب العلمية المؤصلة فتضعف النفس إزاءها ، ولا يوجد الجلد والصبر على قراءتها وملازمة العلماء، رغم كثرة الكتب، وتوفرها وتفننها،ورغم توفر الدروس والعلماء وطلاب العلم ووجود الفراغ الذي لم يستثمر ، وإنما يضيع في ما لا ينفع في أكثر الأحيان، ومعلوم ما للعلم من دور كبير في معرفة الحق ، واستنارة الطريق، والدعوة إلى الله عز وجل ببصيرة.
9 ـ آفات اللسان :
وهي كثيرة ومتنوعة ولا يكاد يخلو منها مسلم إلا من رحم الله تعالى ، وأعانه على نفسه وشيطانه ، فمن هذه الآفات :
? تساهل الكثير من الطيبين في صدق الحديث والوقوع في ضده؛وهو الكذب والخداع والمراوغة ، وأكثر الأحيان لا يوجد مبرر لذلك .ومن المؤسف له أننا نعلم حرمة هذه المخالفات وعدم شرعيتها ، فكيف يتصور وقوع هذه المحرمات من دعاة يرجون النصر من الله عز وجل على أعدائهم؟!.
? ومن آفات اللسان أيضاً : الغيبة ، والنميمة ، واللمز ، والهمز ،
واللغو ، والسخرية ، وكل هذه الآفات قد جاء الإسلام بتحريمها ، ومع ذلك يترخص الكثير فيها بمبرر أحياناً وبدون مبرر أحياناً كثيرة ، والجدير بالذكر هنا أنه لا ينقصنا معرفة حرمة هذه المنهيات ؛ فكم قرأنا في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله لله عن التحذير منها ، ومع ذلك لم يحصل الارتداع والانتهاء ، فما السر في ذلك ؟ !.
السر في ذلك ـ والله أعلم ـ هو ما ذكرته آنفاً في مقدمة الموضوع عن أمراض القلوب، وأنها أساس الأمراض كلها ، فما لم نصلح أمراض قلوبنا، ونطهرها من الحسد وحب الترفع عن الناس والكبر ...إلخ ، فإنا لن نستطيع الإقلاع عن هذه المساوئ من الأخلاق ، مهما قرأنا وعلمنا ؛ فلا يصلح الغصن والجذر فاسد .
ولشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كلام نفيس حول دوافع الغيبة،يرجعها إلى فساد القلوب،فتراه يقول رحمه الله تعالى (جـ82 ص632 ـ 832) (باختصار):
" ? من الناس من يغتاب موافقةً لجلسائه وأصحابه وعشائره، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون ، أو فيه بعض ما يقولون ، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم لقطع المجلس ، واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه .
? ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى : تارة في قالب ديانة وصلاح ، ويقول : ليس لي عادة أن أذكر أحداً ، إلا بخير ولا أحب الغيبة والكذب ، وإنما أخبركم بأحواله ، ويقول : والله إنه مسكين ورجل جيد ولكن فيه كيت وكيت ، وربما يقول : دعونا منه ، الله يغفر لنا وله ، وقصده من ذلك استنقاصه .
? ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة ؛ فيجمع بين أمرين قبيحين : الغيبة والحسد .
? ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ؛ ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به .
? ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب فيقول : تعجب من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت؟!،ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت؟!.
? ومنهم من يخرج الاغتمام ، فيقول : مسكين فلان غمني ما جرى له، وما تم له ، فيظن من سمعه أنه يغتم له ، ويتأسف ، وقلبه منطو على التشفي به ، ولو قدر لزاد على ما به .
? ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر وقصده غير ما أظهر "(1) اهـ باختصار.
? ومن آفات اللسان : الفحش والبذاءة في القول، خاصة عند الخصومة والجدال، فقد يوجد داعية طيب حسن المعتقد ذو همة في دعوته، ولكن ما إن يحصل بينه وبين أحدٍ خصومة أو جدل ،حتى ينقلب إلى وحش كاسر قد اشتد غضبه، وارتفع صوته ، وسفه عقل مخاصمه ، وبالتالي يفجر في خصومته، والرسول لله قد عد الفجور في الخصومة من خصال المنافق ، وبين لنا أن المؤمن ليس بالسباب ولا اللعان ، ولا الفاحش البذيء.
10 ـ التفريط في غض البصر :
وهذه السيئة لا يكاد يخلو منها أحد إلا من رحم الله ، وجاهد نفسه
وهواه. والناس فيها بين مقل ومكثر ؛ فالنظر إلى النساء الأجنبيات وإلى صورهن في الأفلام أو المجلات والصحف؛كل هذا قدجاءت الشريعة بتحريمه إلا نظرة الفجاءة الأولى ، ويكفي في ذلك قوله تعالى : (( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ )) [النور:30].
__________
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (28/236 – 238 ) .(/34)
والمطلوب منا في هذا الأمر أن نبذل أسباب الوقاية من ذلك ؛ فيجاهد المسلم نفسه ألا يعرض نفسه لمواطن النساء قدر ما يستطيع: كالأسواق والحدائق والمطارات والأسفار ...إلخ، وأن يعمل جاهداً ـ كما سبق أن أشرنا إليه في منكرات البيوت ـ أن يمنع دخول بيته المجلات والأفلام والصحف، التي تتخذ المرأة سلعة رخيصة للدعاية وجلب الأنظار، والله المستعان .
11 ـ الرضى من النفس بالدون :
يوجد من الطيبين من يحقر نفسه،حتى يحط من قدرها وهمتها ، وأنها ليست على مستوى طلاب العلم ، والدعاة إلى الله عز وجل ؛ وهذا مدخل شيطاني دقيق ؛ لأن الشيطان حريص على تخذيل الإنسان وتحطيم همته ، كما قال تعالى: (( وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً)) [الفرقان:29].
فيجب أن ننتبه لهذا الأمر ، ونرتفع بأنفسنا إلى مستوى إسلامنا وإلى المهام العليا ، وفرق بين قوة النفس والهمة العالية وبين الغرور والعجب، كما أن هناك فرقاً بين التواضع المحمود وبين الدونية الممقوتة ،ويكفي أن قدوتنا في ذلك عباد الرحمن الذين قال الله تعالى عنهم : (( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)) [الفرقان:74].
فهم يسألون الله عز وجل أن يجعلهم أئمة وقادة وقدوة للمتقين، وليسوا
من المتقين فحسب ، فما أعظمها من همة.
12 ـ السفر إلى بلاد الكفر والفساد لغير ضرورة:
ويقع في هذه المخالفة بعض الطيبين من الدعاة، بحجة السياحة واستطلاع أحوال الأعداء!،وحضور بعض المنتديات أو المعارض والمؤتمرات، التي لا تكافئ مصلحة حضورها المفسدة الناجمة عنها ؛ إذ إنها من باب الكماليات وليست من الضروريات ولا الحاجيات ، ومما يزيد الأمر سوءاً تساهل هؤلاء الطيبين باصطحاب أهلهم وأولادهم ، وهذا مما يزيد الطين بلة؛ حيث يتحمل وزر نفسه ووزر من سافر معه ، والجميع يعرف ما في بلاد الكفر ، ودول الفساد من الفتن ، والمفاسد العظيمة التي تؤثر في الدين ، والأخلاق . والمسلم مطلوب منه أن يفر بدينه من الفتن لا أن يفر بدينه إلى الفتن.
13 ـ التهوين من شأن العلماء والدعاة والحط من قدرهم :
ويصدر هذا العمل المشين من بعض الطيبين المتعجلين أو المتعصبين ، وذلك عندما يقع بعض العلماء أو الدعاة في بعض الأخطاء التي صدرت منهم اجتهاداً أو ضعفاً ؛مما يؤدي إلى انتقادهم ، والتشهير بأخطائهم من قبل هؤلاء المتعصبين .
ومن المعلوم أن غيبة العلماء والتهوين من قدرهم ـ بسبب خطأ ارتكبوه ـ فيه فتنة وخطر كبير؛ لأن أهل الشر والفساد يستغلون مثل ذلك للنيل من علماء الإسلام ، وتوهين الارتباط بينهم وبين عامة الناس ، وبالتالي فإن هذا يمهد للنيل من الإسلام نفسه .
وفرق بين النصيحة للعالم ومعالجة الخطأ الصادر منه ، وفهم المبررات والملابسات التي أدت إلى ذلك ، والاعتذار له بعد ذلك ؛ فرق بين هذا وبين التشهير به، والنيل من عرضه ؛ فلحوم العلماء مسمومة (كما يقال).
وعندما نذكر العلماء والدعاة في هذا الصدد نقصد أولئك العلماء المخلصين ؛ حيث إنهم صمام الأمان لأمتهم ، وإذا ذهب العلماء ، وذهبت هيبتهم ذهب الدين تبعاً لذلك . أما علماء السوء ، وكل منافق عليم اللسان، فلا يدافع عنه ولا كرامة ؛ لأنه قد عرض نفسه للتهم والشبهات، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه .
والحديث عن العلماء يجرنا إلى الحديث عن الدعاة المخلصين ؛ حيث يوجد من يهون من شأنهم وجهدهم وتراثهم وفكرهم، لا لشيء إلا أنه خالف في الأسلوب أو الطريقة أو أنه ليس من طائفته ، وفي هذا بخس للناس في أشيائهم ، وفيه لوثة الكبر والعجب . فكأن ليس في الساحة الدعوية إلا هو ومن حوله ، وليس من يؤلف ويكتب ويحلل إلا هو ، أما الآخرون فهم أقل من ذلك، وإن وجد من يؤلف أو يقوم بدور دعوي ، فإنه يغمض عينه عن ذلك ، أو يشكك في مقاصدهم.. إلى غير ذلك من الظلم والعدوان.
ولو كانت القلوب سليمة نقية لحصل العكس؛ألا وهو الفرح بدعوة الدعاة الآخرين وجهودهم؛فالداعية المخلص يفرح بذلك ويرى أن الدعاة يكمل بعضهم بعضاً،والداعية الصادق يذكرلأهل الفضل فضلهم وخيرهم وبلاءهم، والداعية الناصح يسعى لإقامة التعاون بين الدعاة ، ويسعى لوحدة الصف واجتماع الكلمة،وإن تعذر فلا أقل من أن يحب بعضهم
بعضاً ، وأن يثني بعضهم على ما يرى عند البعض من خير ، وسلامة منهج، ونظافة سلوك ، وهذا كله من مقتضيات الولاء ، ومن لوازم العدل والإنصاف .
14 ـ الحزبية المقيتة :
وهذه السيئة متعلقة بما قبلها ؛ بل هي سبب لها . ومنبع هذه الخلة المذمومة تلوث معنى الولاء في القلب ، فبدل أن يبذل الولاء لكل مسلم صحيح المعتقد، نرى أنه يوجه لأفراد الحزب أو الطائفة أو القوم الذين هو منهم ، فلا يحب ولا يبغض إلا على أساسهم ، ولا ينظر إلا بمنظارهم .(/35)
وواضح ما في هذا من انحراف وتخبط، يتحمل وزره ، ويبوء بإثمه من تلبس به ، ومن ربى غيره عليه ، فأصل الموالاة والمعاداة في الإسلام على العقيدة ؛ فكل مسلم صحيح الإيمان يجب أن يبذل له من المحبة والموالاة بغض النظر عن جنسه ولونه أو لغته،وصاحب العقيدة الصحيحة من أهل السنة والجماعة، والمتخلق بأخلاق السلف،يجب أن يبذل له الولاء التام الكامل .
أما المسلم المقدوح في عقيدته أو سلوكه ـ لكن لا تصل هذه القوادح إلى حد الكفر ـ فمثل هذا يبذل له الولاء العام المكافئ لما فيه من الإيمان والخير، ويتبرأ من بدعته ، وخلقه المشين . أما الذي ينتفي عنه الولاء بالكلية ، ولا يجوز في حقه إلا البراءة التامة ، فهو الكافر المنافق نفاقاً اعتقادياً ظهرت عليه علاماته .
15 ـ إهمال كتاب الله عز وجل قراءة وتدبراً :
هناك تقصير ملاحظ في حق كتاب الله عز وجل،والذي قال الله عز
وجل عنه: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) [يونس:57، 58].
ومن مظاهر هذا التقصير هجر قراءته، إلا في أوقات متباعدة ، وهجر تدبره وتعاهده ، والعمل به ، وقد يبرر هذا الانشغال بأمور الدعوة ، أو القراءة في كتب العلم الأخرى ، وقد يمر على الداعية يوم أو يومان أو أكثر ، وما قرأ فيها من كتاب الله عز وجل شيئاً ، وإن قرأ فبدون تدبر وخشوع ؛ بل يقرأ أحدنا القرآن وهو متلبس ببعض المنهيات التي نهى عنها القرآن ، أو تاركاً لبعض الواجبات التي أمر بها القرآن،والإصرار على ذلك ؛كمن يقع منه الكذب والغيبة والنميمة والظلم والعدوان وإطلاق البصر وقطيعة الرحم والحسد والرياء ...إلخ .
وما كان هذا هو منهج السلف في قراءتهم للقرآن وتلقيهم لأحكامه؛ بل المعروف عنهم أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يفهموها ، ويعملوا بها؛ فيتعلمون العلم والعمل ، وجاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في وصف حالة السلف مع القرآن ، ووصف من بعده قوله : " كنا نؤتى الإيمان من قبل القرآن ، فيقرأ أحدنا القرآن فيقف عند زاجره وآمره ، وحلاله وحرامه .ولقد أدركت أناساً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ أحدهم القرآن من فاتحته إلى خاتمته لا يقف عند زاجره ولا آمره "، أو كما قال رضي الله تعالى عنه .
إذن كان السلف رحمهم الله تعالى يقرءون القرآن ، وقد امتلأت قلوبهم بالإيمان؛ فيكون لكلام الله عز وجل أثر في حياتهم وسلوكهم،أما من أوتي
القرآن والقلب خاوياً من الإيمان ؛ فإنه يقرأ القرآن والقلب مشحون ، ومملوء بشهوات الدنيا ، ومتفرق في شعابها ، وقد يكون حافظاً للقرآن ، ويقرؤه بتجويد وصوت حسن لكن بدون تدبر وخشوع وعمل . وأكبر دليل على ذلك أن كثيراً منا يقرأ القرآن من جلدته إلى جلدته دون أن تقطر عينه من خشية الله وسماع كلامه عز وجل .
16 ـ التفريط في كسب المال الحلال :
إن هناك تساهلاً كبيرًا عند بعض الدعاة ، في تحري الحلال والطيبات من الرزق، في الوقت الذي ينبغي فيه الحذر الشديد من جراء التساهل في هذا الأمر، وخاصة في عصرنا اليوم ، والذي عز فيه المكسب الحلال لكثرة الشبه ، وانفتاح كثير من أبواب الربا ، والبيوع المحرمة ، وغموض كثير من المعاملات التجارية، مع ما يصاحبها من قلة إيمان وضعف نفس.
ويتمثل هذا التساهل،إما في عين المال المكتسب في بعض التجارات المشبوهة،والتي لا يمكن الحصول عليها إلا بالوقوع في الحرام أو شبه الحرام أو يتمثل هذا التساهل أيضاً في طريقة الكسب؛ كالتقصير في إتقان الوظيفة أو المهمة المسندة لصاحبها؛سواء في ضبط دوامها أو تضييع الوقت أثناءها، أو الاستفادة من الوظيفة وخدماتها في الأغراض الشخصية
كما يظهر التساهل أيضاً في الترخص في مصاحبة من لا خلاق له من تجار الدنيا، ومداومة الجلوس معهم ومداهنتهم،وبالذات إذا كانت المعاملة مع غير المسلمين .
17 ـ الجبن والبخل :
إن هذين الخلقين الذميمين قد أكثر الرسول لله من التعوذ منهما في أكثر
من دعاء ، فقال : (( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)) (1)، وقال: (( اللهم إني أعوذ بك من الجبن ، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر ، وأعوذ بك من فتنة الدنيا ، وأعوذ بك من عذاب القبر)) (2).
__________
(1) رواه البخاري في الدعوات (6369) ، ومسلم في الذكر والدعاء (2706) .
(2) رواه البخاري في الدعوات (6374) .(/36)
وقد يظهر الجبن والبخل على اللسان ، وقد لا يظهران إلا عند المواقف التي تتطلب الشجاعة والكرم ، وهذان الخلقان لا يجوز أن يجتمعا عند داعية، مع العلم أنه قلما يوجد أحد هذين الخلقين عند شخص إلا ويوجد مع الخلق الآخر، وغالباً ما يكون البخيل جباناً ، والجبان بخيلاً ؛ لأن الشح يجمعهما ؛ فالجبان شح بنفسه ، والبخيل شح بماله ، قال تعالى: (( وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) [الحشر:9].
وإن داعية فيه هاتان الخلتان الذميمتان ،لا يصلح لدعوة فيها بذل وتضحية؛ لأن الدعوة إلى الله عز وجل تتطلب التضحية بالمال والنفس .
ولما جاء وفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو وفد بني سلمة من الأنصار ، قال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : الجد بن قيس على أنا نبخله ، فقال بيده هكذا ، ومد يده ، وأي داء أدوأ من البخل، بل سيدكم عمرو بن الجموح )) (1) .
فمن هذه القصة نرى أن الرسول لله لم يرض لمن يسود الناس أن يكون بخيلاً .
وقد يظهر شخص ما أنه سالم من هاتين الصفتين ، والحقيقة غير ذلك لأنه لم تأت المواقف التي توضح وجودهما من عدمهما.
وهناك موقفان يبتلي الله عز وجل بهما عباده المؤمنين ليعلم من يثبت ممن يزل ويزيغ ؛ألا وهما: موقفا الخوف والطمع ؛ فموقف الخوف يظهر الجبن والشجاعة ، وموقف الطمع يظهر البخل والشح ،وإيثار الحياة الدنيا، من غير ذلك .
ولقد ابتلى الله عز وجل بهذين الموقفين بني إسرائيل فسقطوا؛ ابتلاهم بالخوف عندما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة فنكلوا وجبنوا ، وقالوا: (( إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ)) [المائدة: 22].
وابتلاهم الله عز وجل بالطمع فحجز الحيتان عنهم إلا يوم السبت ، فما صبروا على شهواتهم ، بل خارت نفوسهم ، وانساقوا مع شهواتهم .
وابتلى الله عز وجل أصحاب محمد لله بالخوف والطمع فنجحوا واستعلوا عليهما ، فقالوا للرسول لله عندما استشارهم في غزوة بدر : "والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك " .
ومدحهم الله عز وجل في أعقاب غزوة أحد بقوله تعالى : (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) [آل عمران:173].
وقال عنهم يوم الأحزاب : (( وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) [الأحزاب:22]، ثم ابتلاهم الله عز وجل بالدنيا وانفتاحها عليهم ؛ فاستعلوا عليها وزهدوا فيها ورضوا منها بالكفاف.
إذن؛إذا أردنا أن نكشف وجود هذين الداءين في نفوسنا من عدمهما
فلنتفقدهما عند موقفي الخوف والطمع ، وإن هذا لا يعني أن نتعمد مواطن الخوف والطمع ؛ كلا ،فالمطلوب من المسلم أن يفر بنفسه عن مواطن الفتن؛ لأنه لا يدري ما ستكون حاله حينئذ ، وكما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تتمنوا لقاء العدو ، وإذا لقيتموه فاصبروا)) (2).
وثمة مسألة أخيرة تتعلق بهذا الموضوع؛ ألا وهي:وقوع بعض الطيبين في الحب المفرط لنفسه ومصالحها،مما قد يؤدي به إلى الأنانية والأثرة الممقوتة، وإن هذه الصفة الذميمة لها نتائج وخيمة ، ومن أبرز هذه النتائج: وقوع صاحبها في الشح والجبن المشار إليهما سابقاً ، ووقوعه أيضاً في ضعف الهمة وخور العزيمة ، وضعف النفس ودناءتها ، وإذلالها للغير في سبيل تحقيق مصلحة ، أو دفع مفسدة عنها.
ومن نتائج حب الذات المفرط أيضاً : العجب،والغرور،والأنانية،وقلة المروءة،وحب الظهور والمدح، وإهمال حقوق الأخوة وحقوق الآخرين ، وعدم المسارعة في خدمة المسلمين وإعانتهم على حوائجهم ...إلخ.
18 ـ نقل الأخبار دون تمحيص وتثبيت :
لقد ابتلي بهذه الصفة كثير من الطيبين؛ حيث تراه يحدث بكل ما سمع دون تثبت ولا تمحيص، وقد يكون ما سمعه لا أصل له، وقد يكون مزاداً عليه ، وقد ينقله دون فهم ووعي لمراد المتكلم به ، وقد ينقله بعبارة يفهم السامع الآخر منها غير المراد ، ومعلوم ما ينتج من ذلك كله من إذكاء الشائعات ، والوقوع في الكذب ، وسوء الظن ، والعدوان على الناس بغير حق . يقول الله تعالى : (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الاسراء:36].
19 ـ التصدر للتدريس والجرأة على الفتوى بلا علم :
__________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد ، وصححه الألباني – صحيح الأدب المفرد (227/296)، وانظر : الإصابة – ترجمة عمرو بن الجموح .
(2) رواه البخاري في الجهاد (3025)، (3026)، ومسلم في الجهاد (1741)، (1742).(/37)
يقول الله تعالى: (( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الاسراء:36].ومع ذلك يوجد في بعض الدعاة،من لا يتردد في إفتاء الناس عما يسألون،بشبهة علم أو بغير علم أصلاً، أو أن يتصدر للتدريس في فن من الفنون قبل أن تجتمع عنده الآلة في ذلك ، كل ذلك سببه مرض في القلب ؛ وهذا المرض هو حب الشهرة والظهور بمظهر العالم الواعي الذي حوى من كل علم بنصيب ، ولا يريد أن يتصف بالجهل ، ومعلوم ما في هذا من الإثم والمنقصة في الدين ، وفي النهاية يجازى بنقيض قصده؛وهو استنقاص الناس له ومقتهم له وعدم الثقة به وبعلمه .
20 ـ الغلظة والفظاظة :
يقول الله تعالى: (( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ))
[آل عمران:159].
قال سيد قطب حول ظلال هذه الآية :
" فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ود يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم ... في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ، ولا يحتاج منهم إلى عطاء ،ويحمل همومهم ،ولا يعنيهم بهمه ،ويجدون عنده دائماً الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء ...
وهكذا كان قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهكذا كانت حياته مع الناس ؛ ما غضب لنفسه قط ، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئاً من أعراض هذه الحياة ، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه، نتيجة لما أفاض عليه لله من نفسه الكبيرة الرحيبة "(1) اهـ .
هذه هي صفات نبينا محمد لله الذي أمرنا الله عز وجل بالتأسي به ، واقتفاء أثره ، وهي نموذج لكل داعية يريد دعوة الناس إلى الخير ، ويحببهم فيه ، ولكن مع ذلك بعضنا يفرط في هذه الصفات ، ويصدر منه من المواقف والتصرفات ما ينم عن الغلظة ،والفظاظة ، وعدم الحلم ، وسعة الصدر، متمثلاً في تقطيب الوجه، وانقباض النفس، والتعنيف على الأخطاء، وفقدان الرفق والأناة ، ومعلوم ما ينتج عن ذلك من نفرة الناس وكرههم لمن هذه أخلاقه، فوق ما في ذلك من الإثم وحرمان الأجر.
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)) (2) .
وثمة شيء آخر يتعلق بهذا الموضوع ألا وهو ما درج عليه بعض المربين والموجهين من الدعاة من القسوة على من معهم ، وتربيتهم على التقليد الأعمى ، وعدم السماح لهم بإبداء آرائهم ،ومعارضتهم ، وقفل باب التشاور معهم .
وهذه الطريقة الخاطئة من التربية، تفرز لنا دعاة مقلدين متعصبين منفذين لما يقال لهم بدون بصيرة،وهذه في الحقيقة تربية عبيد لا تربية قادة ، وهذا يخالف قوله تعالى: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [يوسف:108].
الخاتمة
في ختام هذا الموضوع أود التنبيه إلى الملاحظات التالية :
1 ـ لم أراع ـ في ترتيب الملاحظات السلوكية في هذا البحث ـ الأولوية والأهمية، إلا فيما يتعلق بأمراض القلوب باعتبارها أخطر الأمراض ، فاحتلت الرقم الأول على بقية الملاحظات لأهميتها وشدة خطرها ، أما ما تم سرده بعد ذلك فلم يكن حسب الأهمية ، بل كلما عن للخاطر ملاحظة دونتها ، وقد يكون ما بعدها أخطر منها ، وهكذا.
2 ـ إن ما تم طرحه من المساوئ السلوكية والقلبية هو على سبيل المثال من الواقع العملي ، وليس على سبيل الحصر ، وإلا لو رجع كل منا إلى نفسه أو ما يشاهد من حوله لوجد أكثر مما طرح في هذا الموضوع.ولما كان هدف هذه الدراسة هو التنبيه على خطر هذه الأمراض وخطر نسيان النفس في زحمة الدعوة للآخرين ـ لما كان الأمر كذلك ـ اكتفيت بذكر نماذج من هذه القوادح؛ لعلها تكون حافزاً لنا،لتوجيه الدعوة والتربية إلى أنفسنا في الوقت الذي نوجهها لغيرنا ، كما أرجو أن يكون هذا الموضوع حافزاً لأهل الخير والصلاح وأرباب التربية والتوجيه إلى الاعتناء بمثل هذه المواضيع توجيهاً وكتابة ونصحاً .
3 ـ لعل مما يلاحظ على هذا الموضوع أنه لم يتطرق للقوادح التصورية والعقدية المنتشرة عند بعض الدعاة ، ولكن تعمدت ترك ذلك ؛ لأن المقصود بهذا البحث الذين يفترض فيهم صحة المعتقد وسلامة المنهج من أهل السنة والجماعة .
وهنا ملاحظة مهمة يحسن طرحها بهذه المناسبة ؛ ألا وهي ضرورة العلم بأن منهج السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ ليس فكراً مجرداً في الذهن ،وإنما هو عقيدة وسلوك، وتصور وأخلاق، ولكن المتأمل في حياتنا معشر أهل السنة يلحظ انفصالاً ـ ولو بصفة جزئية ـ بين الجانب العقدي النظري وبين الجانب السلوكي العملي ، انفصالاً بين النظرية والتطبيق .
__________
(1) في ظلال القرآن ، عند الآية 159 من سورة آل عمران .
(2) رواه مسلم في البر والصلة (2626) .(/38)
فقد يلاحظ مثلاً أن هناك داعية عالماً معتقداً لعقيدة السلف في التوحيد بأنواعه، وفي أصول الاستدلال ، وفي ... إلخ ؛ ولكن ما إن يختبر في سلوكه إلا ويظهر عليه بعض الأخلاق المشينة المخالفة لعمل السلف .
إذن عندما ننادي بمنهج أهل السنة ومنهج السلف، فإنا نري من ذلك منهجهم الشامل في العقيدة وفي السلوك ، ولا نريد جزئية المنهج بأن يحصل الالتزام في الجانب العقدي ويفرط في الجانب السلوكي ، كما لا نريد العكس ؛ بحيث يكون الالتزام بالجانب السلوكي والتفريط في الجانب العقدي ، ولكن نريد الأمرين جميعاً.ولو رجعنا إلى سيرة سلفنا الصالح لوجدناهم خير مثال لهذا المنهج المتكامل .
وإذ كان الأمر كذلك فنحن بحاجة إلى إدراك المقصود بمنهج أهل السنة أو منهج السلف ، وأن المراد منه الجانبان معاً :العقدي والسلوكي،ونحن بحاجة إلى أن نكون على منهج السلف في السلوك والأخلاق كحرصنا على أن نكون على أثرهم في المعتقد والفهم ، وإذا تم إدراك ذلك فسوف تختفي من حياتنا تلك الصور والمواقف المتناقضة .
نعم، لن نجد شخصاً هو على عقيدة السلف في توحيد الألوهية والأسماء والصفات ومحاربته للبدع ، ومع ذلك يخالف سلوك السلف في حبهم للجماعة وكرههم للفرقة ، أو يخالف سلوك السلف في اقترافه للظلم، والكذب ، والغيبة ، والحق ، والشحناء، والتي ليست من أخلاق السلف .
إن هذه الازدواجية في الالتزام بمنهاج السلف سوف تزول أو تقل ـ إن شاء الله تعالى ـ بإدراك الأمر المشار إليه آنفاً .
ومن أجل ذلك الأمر-والله أعلم- نجد أن كتابات السلف- رحمهم الله تعالى - في عقيدة أهل السنة والجماعة تشير دائماً إلى بعض الجوانب السلوكية؛ وذلك لأهميتها ، فنرى مثلاً شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يذكر ذلك في العقيدة الواسطية ، وهو يسرد أصول أهل السنة ، فقال :
" ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة ، ويرون إقامة الحج والجهاد ، والجمع ، والأعياد ،مع الأمراء أبراراً كانوا أو فجاراً ، ويحافظون على الجماعات ، ويدينون بالنصيحة للأمة ، ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً)) .وشبك بين أصابعه)) (1)، وقوله- صلى الله عليه وسلم - : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد،إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) (2)،ويأمرون بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء ،ويدعون إلى مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، ويعتقدون معنى قوله- صلى الله عليه وسلم - : (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا))ً (3)ويندبون إلى أن تصل من قطعك،وتعطي من
حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام ، وحسن الجوار ، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل ، والرفق بالمملوك ،وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق ، ويأمرون بمعالي الأخلاق ، وينهون عن سفاسفها « اهـ .
رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية ، فلقد كان مدركاً للترابط بين العقيدة والأخلاق ، وما إيراده لهذه الأخلاقيات في كتاب العقيدة الواسطية إلا أكبر دليل على أن الالتزام بمنهج السلف رحمهم الله تعالى يعني أن تتمثل في أهله عقيدة السلف وأخلاقهم ، وبقدر ما ينقص من هذه الجوانب سواء في المعتقد أو الأخلاق بقدر ما يحصل النقص في الالتزام بهذا المنهاج العظيم الكريم، الذي من سار عليه نجا وأفلح ،ومن تركه خاب وخسر .
نسأل الله عز وجل أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، كما نسأله سبحانه أن يهدينا لأحسن الأخلاق ؛ لا يهدي لأحسنها إلا هو ، وأن يصرف عنا سيئها؛لا يصرف عنا سيئها إلا هو.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه .
* * *
الرسالة الرابعة : ((إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )) ( الأنعام : 83) ... ... ... .
إن ربك حكيم عليم
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
__________
(1) رواه البخاري في المظالم (2446)، ومسلم في البر والصلة (2585) .
(2) رواه البخاري في الأدب (6011) ، ومسلم في البر والصلة (2586) .
(3) رواه أبو داود في السنة (4682)، والترمذي في الرضاع (1162)، وانظر السلسلة الصحيحة (284).(/39)
فإن الله عز وجل خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له . وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه، حيث يرجعون إليه سبحانه فيحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون،ثم إن الله سبحانه وتعالى قد ركب في فطر خلقه الاستعداد للتوحيد،والانجذاب إليه سبحانه فيما لوتركت النفس بدون مغير؛كما قال الله عزوجل في الحديث القدسي ((إني خلقت عبادي حنفاء ...الحديث)) (1)
وقد أودع عز وجل في هذا الكون من الآيات الباهرات التي تدل عليه سبحانه وأنه وحده الخالق المدبر لهذا الكون،وأنه هو المستحق للعبادة وحده.
ولكن مع كل هذا الاستعداد الفطري للتوحيد ومعرفة الله عزّ وجلّ بآياته إلا أنه سبحانه وتعالى وبواسع رحمته ، وعظيم إحسانه لم يكلنا إلى فطرتنا وحدها ؛ذلك لما يعتري الفطرة السليمة من الفساد والركام بفعل المؤثرات الخارجية أولاً ، وثانياً: لأن الفطرة الإنسانية مهما كانت سليمة وموحدة لبارئها وعالمة به في الجملة؛إلا أن هذا العمل والتوحيد سيبقى مجملاً وناقصاً .
ومن أجل ذلك أرسل الله عز وجل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليزيلوا ركام الوثنية والشرك الذي تراكم على النفوس ليردوها إلى التوحيد الخالص لله عز وجل ويعرفوهم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى والتي لا تدركها الفطرة بدون معلم، كما يعلمونهم الأحكام ، والتشريعات الربانية التي تُصلح أمور دينهم ودنياهم ،ويعلموهم أن لهم ميعاد يوم لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون ، وأن هناك جنة وناراً وللجنة أهلون لهم صفات يليقون بها ، وللنار أهلون لهم صفات يستحقون العذاب بسببها، وكل هذه المعارف والعقائد لا تعرف لولا رحمة الله عز وجل ، بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
قال تعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )) [الأنبياء:107].
وقال تعالى: (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ )) [الأنبياء:25].
ومن أمور التوحيد التي فصلها سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله لله أمر أسمائه الحسنى وصفاته العليا، التي يعرف بها العباد خالقهم ورازقهم ومعبودهم سبحانه حتى يقدروه حق قدره ،ويعبدوه حق عبادته،ولتمتلئ النفوس بعظمته وجلاله وليتعبدوا لله سبحانه ويدعونه بها، قال تعالى : (( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) [الأعراف:180].
وإن توحيد الأسماء والصفات له شأن عظيم ، وأثر كبير في النفوس
والقلوب ، ولا يصح إيمان عبد إلا بإيمانه بأسماء الله عز وجل وصفاته ، ولكن ما معنى الإيمان بالأسماء والصفات ؟ .
إن الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته لا يتم على الوجه الصحيح إلا أن ينبني الفهم فيها على ثلاث أسس مهمة ذكرها الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى في محاضرة له عن منهج دراسة لآيات الأسماء والصفات- ، قال في خاتمتها : إنا نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله ، وأن تلتزموا بثلاث آيات من كتاب الله :
الأولى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) [الشورى: 11]؛ فنزهوا رب السموات والأرض عن مشابهة الخلق .
الثانية : (( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) [الشورى:11] ؛ فتؤمنوا بصفات الجلال والكمال الثابتة بالكتاب والسنة، على أساس التنزيه كما جاء (( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) بعد قوله تعالى : (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) .
الثالثة : أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية ؛ لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل،وهذا نص الله عليه في سورة طه؛حيث قال تعالى: (( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)) [طه:110].
وإن هذا الذي ذكره الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في المنهج الصحيح لفهم الأسماء والصفات ،لابد أن ينضم إليه الشعور بآثارها القلبية، والتعبد لله عز وجل ودعائه بها ، وإلا لن يتم الإيمان بالأسماء والصفات كما آمن به سلف الأمة الذين جمعوا بين الفهم والعمل ، ونظروا إلى كل اسم من أسماء الله عز وجل بأن فيه حقاً من العبودية لله عز وجل على العباد، يتعبدون لله سبحانه وتعالى به .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى(2) :
»فصل« والأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر ،اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين ، فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها؛أعني من موجبات العلم بها ، والتحقق بمعرفتها ، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح .
فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة؛ يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً ، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً .
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب الجنة وصفة نعيمها (2865) .
(2) مفتاح دار السعادة ص424 .(/40)
وعلمه بسمعه تعالى وبصره،وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، وأنه يعلم السر وأخفى ،ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ؛ يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله . وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه، فيثمر له ذلك الحياء باطناً ، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح .
ومعرفته بغناه، وجوده ،وكرمه،وبره ،وإحسانه، ورحمته ؛توجب له سعة الرجاء ،ويثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه ،وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة. وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية الظاهرة هي من موجباتها .
وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلى يوجب له محبة خاصة
بمنزلة أنواع العبودية ، فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها ارتباط الخلق بها ، فخلقه سبحانه وأمره هو موجب أسمائه وصفاته في العالم وآثارها ومقتضياتها .اهـ .
وقال رحمه الله تعالى في (طريق الهجرتين) :
» والمقصود أن الرب أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء ، وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقص ، وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خال عن الحكمة والمصلحة ،وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ، موصوف بصفة الكمال ، مذكور بنعوت الجلال منزه عن الشبيه والمثال ، ومنزه عما يضاد صفات كماله ؛ فمنزه عن الموت المضاد للحياة ، وعن السِّنَةِ والنوم والسهو والغفلة المضاد للقيومية ،وموصوف بالعلم منزه عن أضداده كلها،من النسيان والذهول وعزوب شيء عن علمه، موصوف بالقدرة التامة منزه عن ضدها من العجز ، واللغوب ، والإعياء ، موصوف بالعدل منزه عن الظلم ، موصوف بالحكمة منزه عن العبث ، موصوف بالسمع والبصر منزه عن أضدادهما من الصمم والبكم، موصوف بالعلو والفوقية منزه عن أضداد ذلك ، موصوف بالغنى التام منزه عما يضاده بوجه من الوجوه مستحق للحمد كله .
فيستحيل أن يكون غير محمود كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي وله الحمد كله واجب لذاته ، فلا يكون إلا محموداً كما لا يكون إلا إلهاً ورباً قادراً «(1) .
مما سبق من هذه النقول، يتبين أن المقصود من الإيمان بتوحيد الأسماء
والصفات ليس مجرد المعرفة الذهنية فقط ، وإنما المقصود أن نفهمها كما فهمها رسول الله لله وصحابته الكرام لفظاً ومعنى ، والتعبد لله سبحانه وتعالى بها والعمل بمقتضاها .
ولقد أحدث أهل الكلام وتلامذتهم من المبتدعة حدثاً كبيراً في هذا الركن الركين من التوحيد ؛ حيث تحول التعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته إلى جدل كلامي ، ودراسات فلسفية ، وانعكس ذلك بدوره حتى على الذين يدرسون أو يُدرِّسون الأسماء والصفات على منهاج أهل السنة والجماعة ، فقلما نجد من الدارسين أو المدرسين لهذا العلم العظيم من يشير إلى المقصود الأساسي من دراسة هذا العلم ؛ ألا وهو التعبد لله تعالى بأسمائه وصفاته والعمل بمقتضاها كما مر بنا في كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى .
ولكي يثبت لنا صحة هذه الملاحظة وأننا نمر على أسماء الله تعالى وصفاته ولا نقف عند مدلولاتها وآثارها في القلب وفي الواقع، نأخذ على سبيل المثال ـ لا على سبيل الحصر ـ اسمين من أسماء الله تعالى الحسنى طالما قرأناهما مقترنين في كتاب الله تعالى ، ومع ذلك لا نقف على سر اقترانهما، ولا على مدلول ولوازم كل اسم منهما ، وماذا يجب علينا من العبودية فيهما .
وهذان الاسمان هما المذكوران في عنوان هذا البحث : (( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )) .
قال تعالى : (( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )) [الأنعام:83].
وقال تعالى : (( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)) [الأنعام:128].
وقال تعالى : (( وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [يوسف:6].
والآيات التي ختمت بهذين الاسمين الكريمين كثيرة جداً في كتاب الله عز وجل ، فما معنى هذين الاسمين الجليلين، وما مقتضاهما ومدلولهما ؟.
قال الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى : (( إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )) :
__________
(1) طريق الهجرتين ص203 .(/41)
الحكم في الاصطلاح: هو من يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها ، فالله جل وعلا حكم لا يضع أمراً إلا في موضعه ، ولا يوقعه إلا في موقعه ، ولا يأمر إلا بما فيه الخير ، ولا ينهى إلا عما فيه الشر ، ولا يعذب إلا من يستحق العذاب وهو جل وعلا ذو الحكمة البالغة له الحجة والحكمة البالغة .
وأصل الحكم في لغة العرب: معناه : المنع ؛ نقول : حكمه ، وأحكمه إذا منعه . قال الشاعر :
أبني حنيفة احكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
وقال آخر :
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماء
هذا هو أصل الحكم .
والحكمة: فعلة من الحكم ، وأظهر تفسير لها : العلم النافع ؛ لأن العلم النافع هو الذي يحكم الأقوال والأفعال؛ أي يمنعها من أن يعتريها الخلل ؛ فمن كان عنده العلم الكامل ؛ فإنه لا يضع الأمر إلا في موضعه ، ولا يوقعه إلا في موقعه ؛ لأن كل إخلال في الأحكام إنما هو من الجهل بعاقبة الأمور ، فترى الرجل الحاذق البصير يفعل الأمر ؛ يظن أنه في غاية الإحكام ، ثم ينكشف الغيب أنه فيه هلاكه؛ فيندم حين لاينفع الندم ؛ ويقول : ليتني لم أفعل ، أو لو أني فعلت كذا لكان أحسن .
أما الله سبحانه العالم بعواقب الأمور وما تصير إليه والعالم بما كان ويكون ، فلا يضع أمراً إلا في موضعه . ومحال أن ينكشف الغيب عن أن ذلك الأمر على خلاف الصواب لعلمه سبحانه بما تؤول إليه الأمور .
والعليم : صيغة مبالغة ؛ لأن علم الله جل وعلا محيط بكل شيء؛ يعلم خطرات القلوب ، وخائنات العيون ، وما تخفي الصدور ؛ حتى إن من إحاطة علمه سبحانه علمه بالعدم الذي سبق في علمه ألا يوجد ، فهو عالم أن لو وجد كيف يكون.
وأن اسم (الحكيم العليم) فيه أكبر مدعاة للعباد أن يطيعوه ، ويتبعوا تشريعه؛لأن حكمته سبحانه تقتضي ألا يأمرهم إلا بما فيه الخير،ولا ينهاهم إلا عما فيه الشر،ولا يضع أمراً إلا في موضعه ، وبإحاطة علمه يعلمون أن ليس هنالك غلط في ذلك الفعل، أو أن ينكشف عن غير المراد؛بل هو في غاية الإحاطة والإحكام ، وإذا كان من يأمرك بحكم لا يخفى عليه شيء حكيم في غاية الإحكام لا يأمرك إلا بما فيه الخير ، ولا ينهاك إلا عن ما فيه الشر ، فإنه يحق عليك أن تطيع وتمتثل "(1) اهـ .
مما سبق من كلام الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى يتبين أن اسم الحكيم يقتضي الإيمان بأن الله عز وجل حكيم في أحكامه وقضائه وقدره؛ فكما أنه حكيم في شرعه ودينه فهو حكيم في قضائه وقدره؛ لأن من المعلوم أن ما يحكم به سبحانه وتعالى ويقتضيه في هذا الكون نوعين من الحكم :
1 ـ حكم كوني قدري .
وهو قسمان :
ـ قسم يمكن مدافعته .
ـ قسم ليس في الوسع مدافعته .
2 ـ حكم ديني شرعي :
والله سبحانه وتعالى حكيم عليم في أحكامه الكونية القدرية ، وحكيم عليم في أحكامه الدينية الشرعية . قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في (طريق الهجرتين):
" بل الأحكام ثلاثة :
الحكم الأول : حكم شرعي ديني :
فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة ؛ بل الانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة ؛ فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد ، ولا يرى إلى خلافه سبيلاً البتة ، وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول .
فإذا تلقي بهذا التسليم والمسالمة،إقراراً وتصديقاً بقي هناك انقياد آخر،
وتسليم آخر له، إرادة وتنفيذاً وعملاً ؛ فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه ، كما لا تكون له شبهة تعارض إيمانه وإقراره ، وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق ، وشهوة تعارض الأمر ، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات ، ولا خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات ، بل اندرج خلاقه تحت الأمر ، واضمحل خوضه في معرفته بالحق ، فاطمأن إلى الله معرفة به ، ومحبة له ، وعلماً بأمره ، وإرادة لمرضاته ، فهذا حق الحكم الديني الشرعي .
الحكم الثاني: الحكم الكوني القدري، والذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة :
والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه ، فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة ، بل ينازع بالحكم الكوني أيضاً ، فينازع حكم الحق بالحق للحق ؛ فيدافع به وله،كما قال شيخ العارفين في وقته عبد القادر الجيلي :" الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة ، فنازعت أقدار الحق بالحق للحق ، والعارف من يكون منازعاً للقدر لا واقفاً مع القدر " .
فإن ضاق ذرعك عن هذا ، فتأمل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد عوتب على فراره من الطاعون ، فقيل له : أتفر من قدر الله ؟، فقال : " نفر من قدر الله إلى قدره ".
ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به، ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه؛فإنه إذا جاء قدر الجوع والعطش أو البرد نازعه وترك
__________
(1) من شريط مسجل بصوت الشيخ رحمه الله تعالى .(/42)
الانقياد له ومسالمته ودفعه بقدر من الأكل والشرب واللباس ؛ فقد دفع قدر الله بقدره.
وكذا إذا وقع الحريق في داره ، فهذا بقدر الله ، فما بالله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان؟، بل ينازعه ويدافعه بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله .
وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بكل ما يمكنه ؛ فإن غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر ، ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطيها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع شاء أو أبى ، فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه ، وأسباب معاشه ، ومصالحه الدنيوية ، ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه ؟ وهل هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه ؟!.
ولو أن عدواً للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله ، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله ؛وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب،دفعاً لقدر الله بقدره ، فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية ؛ اللهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة ، وخرج الأمر عن يده ، فحينئذ يبقى من أهل :
الحكم الثالث : وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ، ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته :
فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة،وترك المخاصمة، وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل،وكمن انكسربه المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة ،وعن سبب يدنيه من النجاة ، فها هنا يحسن الاستسلام والمسالمة؛مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخرى سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه ، وعدله في قضائه ، وحكمته في جريانه عليه ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطئه لم يكن ليصيبه ، وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلب بما يلقاه كل عبد،فمن رضي، فله الرضا،ومن سخط فله السخط.
ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة ، وأن القدر قد أصاب مواقعه ، وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به ، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل ، فهو موجب أسمائه الحسنى ، وصفاته العلى ، فله عليه أكمل حمد وأتمه ، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره"(1)اهـ.
وفي ضوء هذا الكلام البديع للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تبرز لنا حقيقتان مهمتان من لوازم ومقتضيات اسم الله عز وجل (الحكيم):
الحقيقة الأولى :
أن (اسم الحكيم) يلزم على الإيمان به لوازم قلبية تعبدية تقتضي الإيمان الجازم بأن الله عز وجل حكيم في جميع أحكامه الدينية الشرعية ، ليس لأحد من البشر أن يعارضها أو يأتي بما يناقضها أو يخلطها بغيرها.
بل إن اسم (الحكيم) لله سبحانه يفرض على العبد الاستسلام لشرع الله الحكيم، فيحكم به، ويتحاكم إليه،ويرفض كل شرع يخالف شرع الله حكماً وتحاكماً ، ويؤمن إيماناً جازماً أن من شرع ديناً ونظاماً لم يأذن به الله تعالى،وادعى أنه أصلح لحياة الناس ومعاشهم،أو ساواه بشرع الله ، أو جوز الحكم به ، فإنه قد أشرك بالله عز وجل ، ومن أطاعه في ذلك على علم فقد أشرك بالله أيضاً .
ذلك لأن في هذا الصنيع كفراً بأسماء الله عز وجل وصفاته ، ومنها اسم (الحكيم)، فوق ما فيه من كفر بتوحيد الألوهية ، وبالذات توحيد الطاعة والاتباع. قال تعالى : (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65].
وقال تعالى : (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً )) [الأحزاب:36].
وقال تعالى : (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) [الأنعام:121].
وإن خطورة هذا الشرك لتظهر في عصرنا اليوم الذي أ ُقْصِي فيه شرع الله عز وجل جانباً،وحكم في الأنفس والعقول والأموال والأعراض بأنظمة البشر وأهواء البشر،التي تخلو من العلم والحكمة ، ومعرفة عواقب الأمور، وإنما الذي يسيطر عليها الجهل والهوى والتخبط . وإنه لم يظهر مثل هذا الشرك الخطير في تاريخ الأمة الإسلامية كما ظهر في زماننا اليوم
ونظراً لخطورة هذا الأمر، وقلة من تكلم عنه أنقل كلاماً نافعاً للشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى ،وهو يتحدث عن هذا الشرك الجديد في (أضواء البيان) عند قوله تعالى: (( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً )) [الكهف:26].
__________
(1) طريق الهجرتين، ص63.(/43)
قال رحمه الله تعالى : " قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر »ولا يشركُ« بالياء المثناه التحتية ، وضم الكاف على الخبر ، ولا نافية ، والمعنى : ولا يشرك الله جل وعلا أحداً في حكمه ، بل الحكم له وحده جل وعلا ، لا حكم لغيره البتة ، فالحلال ما أحله تعالى ،والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه ، والقضاء ما قضاه ، وقرأه ابن عامر من السبعة: "ولا تُشركْ " بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي ؛أي لاتشرك يا نبي الله ، أو لا تشرك أيها المخاطب أحداً في حكم الله جل وعلا ، بل اخلص الحكم لله في شوائب شرك غيره في الحكم ، وحكمه جل وعلا المذكور في قوله : (( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً )) شامل لكل ما يقضيه جل وعلا ، ويدخل ـ في ذلك ـ التشريع دخولاً أولياً .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه، على كلتا القراءتين،جاء مبيناً في آيات أخر ؛ كقوله تعالى : (( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ )) [يوسف:40]، قوله تعالى : (( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت)) [يوسف:67]، وقوله تعالى : (( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)) [الشورى:10]، وقوله تعالى: (( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ )) [غافر:12].
وقوله تعالى: (( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [القصص:88]، وقوله تعالى : (( لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )) [القصص:70]، وقوله تعالى : (( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ )) [المائدة:50]، وقوله تعالى : ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً )) [الأنعام: 114]، إلى غير ذلك من الآيات .
ويفهم من هذه الآيات كقوله: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)) أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله، وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخرى ؛ كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله (( وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) [الأنعام:121] فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم .
وهذا الإشراك في الطاعة واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى : (( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)) [يّس:60، 61]، وقوله تعالى تعالى عن نبيه إبراهيم: (( يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً)) [مريم:44]، وقوله تعالى: ((إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً)) [النساء:117]، أي : ما يعبدون إلا شيطاناً ، وذلك باتباع تشريعه ؛ ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء، في قوله تعالى : (( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ )) [الأنعام:137].
وقد بين النبي لله هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ )) [التوبة:31]، فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله ، فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً .
ومن أصرح الأدلة في هذا أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ماشرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب ؛ وذلك في قوله تعالى : (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً )) [النساء:60].(/44)
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، وأنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم"(1)اهـ .
وحول هذا الموضوع أيضاً قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )) [النساء: 59]: " إن هذه الآية تتضمن أموراً ... " إلى أن قال :
"ومنها : أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه ، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ؛ ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه ، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين؛فإنه من الطرفين،وكلاً منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خيرٌ وأن عاقبته أحسن عاقبة ، ثم أخبر أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكَّم الطاغوت وتحاكم إليه .
والطاغوت:كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله،أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله .
فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم [عَدَلُوا] من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت ،وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت ، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم،ولا قصدوا قصدهم ؛ بل خالفوهم في الطريق والقصد معاً .
ثم أخبر تعالى عن هؤلاء ، بأنهم إذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك ،ولم يستجيبوا للداعي ،ورضوا بحكم غيره ، ثم توعدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم ، وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول ، وتحكيم غيره، والتحاكم إليه ، كما قال تعالى: (( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِم)) [المائدة:49]، اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق ؛ أي بفعل ما يرضي الفريقين، ويوفق بينهما، كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول ، وبين ما خالفه ، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق .
والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي ؛ فمحض الإيمان في هذه الحرب لا في التوفيق ، وبالله التوفيق.
ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الدقيق والجليل ، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحرج، والضيق عن قضائه وحكمه ، ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلموا تسليماً ،وينقادوا انقياداً.
وقال تعالى : (( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب:36]، فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله ،ومن تخير بعد ذلك فقد ضل ضلالاً مبيناً.
وقال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الحجرات:1]؛ أي: لا تقولوا حتى يقول ، ولا تأمروا حتى يأمر ، ولا تفتوا حتى يفتي ، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه ، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة ، وروى العوفي عنه قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه .
والقول الجامع في معنى الآية : لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يفعل .
وقال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ)) [الحجرات:2]. فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم ، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه ؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم ؟ .
وقال تعالى : ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا
__________
(1) أضواء البيان (4/90 – 92) .(/45)
مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)) [النور:62]،فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه إلا باستئذانه ، فأولى أن يكون من لوازمه ألا يذهبوا إلى قول ولا مذهب إلا بعد استئذانه ، وإذنه معروف بدلالة ما جاء به على أنه أذن فيه"(1)اهـ .
الحقيقة الثانية :
ومن لوازم الإيمان باسم الله (الحكيم) الإيمان بأن ما يقضيه الله عز وجل من أحكامه الكونية القدرية فيها الحكمة البالغة ،وفيها الصلاح والخير ، إما في الحال أو المآل ، ولو ظهر فيها شيء مما تكرهه النفوس وتتألم منه مما يقدره الله سبحانه ، ففيه الخير والصلاح للناس ولو لم يظهر للبشر هذه الخيرية ؛ فلابد من الإيمان بأن الله عز وجل له الحكمة البالغة فيما يقدر ، وهذا ما يقتضيه اسم الله (الحكيم).
يقول الله تعالى : (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة:216].
قال سيد قطب رحمه الله حول هذه الآية:"..إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيراً ، ووراء المحبوب شراً.إن العليم بالغايات البعيدة المطلع على العواقب المستورة هو الذي يعلم وحده ،حيث لا يعلم الناس شيئاً"(2)اهـ
والمقصود أن الإيمان بأن الله سبحانه حكيم في قضائه وقدره ؛ يفرض على المسلم الاستسلام والرضا بما يقدره الله عز وجل، من الأحكام الكونية القدرية،من مصائب وأمراض وغيرها،وما لا يستطيع دفعه بالأسباب الشرعية، أما ما يمكن دفعه ومنازعته بقدر آخر من أقدار الله عز وجل؛فإن هذا لا يعارض الإيمان بالقدر،كما سبق نقله عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى(3)
فالإيمان بعلم الله عز وجل وكتابته لجميع المقادير قبل وقوعها ، ثم الإيمان بأنه سبحانه حكيم فيما يفعل ، ويقضي ويقدر كل هذا ببث الرُّوح والطمأنينة ويسكبها في قلب المسلم المخبت لربه ، المطمئن لقضائه وقدره ، الموقن بأن كل ما يكتبه الله عز وجل عليه من مصائب وغيرها فهي خير له إما عاجلاً أو آجلاً ، كما قال تعالى : (( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة:185]،وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( عجباً لأمر المؤمن!إن أمره كله له خير؛ وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً ل))) (4)، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((.. والخير كله في يديك والشر ليس إليك)) (5) .
فالشر ليس إليه سبحانه ولو ظهر لنا أن هذا الفعل شر ومكروه، فهو بالمآل خير وصلاح. ولقد كان أنبياء الله عز وجل يدركون ما في أسماء الله عز وجل من العبوديات وما يلزم عليها من الرضا والتسليم والطمأنينة لقضاء الله وقدره .
فهذانبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام عندما جاءه الخبر بحجز ابنه الثاني عند عزيز مصر-وقد سبق ذلك فقده ليوسف عليه السلام-توجه برجائه ودعائه لله عزوجل.قال تعالى يحكي حاله (( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَىاللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) [يوسف:83]
وكذلك الحال ليوسف عليه السلام عندما جمعه الله بأبويه حيث قال : (( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)) [يوسف:100].
ومن خلال التأمل للآيتين السابقتين نلاحظ أن يعقوب وابنه عليهما الصلاة والسلام قد ختما تضرعهما لله عز وجل بعد المصائب التي حلت بهما بهذين الاسمين العظيمين (العليم الحكيم).
واختيار هذين الاسمين الجليلين في هذا المقيام له دلالته ومغزاه ؛ لأن أعرف الناس بالله عز وجل هم أنبياؤه ورسله،ولقد ختما تضرعهما إلى الله عز وجل باسم العليم الحكيم- ، وذلك والله أعلم لما يبثه هذان الاسمان الكريمان في قلب المسلم من الرضا والطمأنينة والتسليم لقدر الله عز وجل ، وأن شيئاً في هذا الكون لا يحدث إلا بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة .
__________
(1) إعلام الموقعين (1/50).
(2) في ظلال القرآن ص323 – دار المعرفة .
(3) انظر ص: 154 – 155 .
(4) صحيح مسلم – كتاب الزهد والرقائق (2999 ) .
(5) مسلم – كتاب صلاة المسافرين (771) .(/46)
وبينما كنت في نهاية هذا البحث وخاتمته قدر الله عز وجل الأحداث الموجعة التي تعيشها المنطقة الإسلامية هذه الأسابيع ، والتي تعرف بأحداث الخليج على إثر الاجتياح العراقي لدولة الكويت ، ومع ما تحمله هذه الأحداث من مصائب ونكبات، إلا أنه ظهر وسيظهر من مقتضيات اسم الله ( العليم الحكيم) دروس وعبر ومشاهد ، تزيد في إيمان المؤمن بأسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته العليا .
ولذا أحببت أن أ ُدلي ببعض المعاني التي جالت في الخاطر إزاء هذه الأحداث بعد ربطها بهذين الاسمين الجليلين العظيمين من أسماء الله عز وجل الحسنى العليم- ، الحكيم- ، فأقول وبالله التوفيق :
إن من الأصول المستقرة في باب الإيمان بالله عز وجل، الإيمان بقضائه وقدره، وأن شيئاً لا يحدث في هذا الكون صغيراً أو كبيراً إلا بعلم الله عز وجل وإرادته وخلقه له ؛ قال تعالى: (( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)) [القمر:49]، وقال تعالى : (( وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ)) [القمر:53].
كما أن الإيمان بالله سبحانه وقضائه وقدره وأسمائه وصفاته ،لايحصل إلا بأن يجزم المسلم أن ما يكتبه الله عز وجل ويقدره في هذا الكون من ورائه حكمة بالغة ، ولو ظهر للناظر أنه شر ومكروه ؛ فالإنسان بإدراكه المحدود في الزمان والمكان ، ولأن من طبيعته الجهل والظلم ، فإنه لا يمكن أن يدرك مآلات الأمور وعواقبها ، ولا يعلم بذلك إلا العليم الحكيم ، خالق الأشياء ومقدرها ، وعالم الغيب والشهادة .
قال تعالى : (( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)) [النمل:65]. وقال تعالى : (( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الملك:14]، وقال تعالى : (( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [الحديد:22].
إذ الأمر كذلك ؛ فلا شك ولا ريب،أن ما حصل من أحداث، وشرور في أحداث الخليج إثر الاجتياح البعثي للكويت لابد وأن نخضعه للأصول الآنفة الذكر ، وأن من حاد عن هذا المنهج فقد خسر إيمانه بالله عز وجل أصلاً، وانحاز إلى معسكر الكفر والإلحاد ، الذين لا يؤمنون بشيء من هذه الحقائق ، وإنما يفسرون أحداث التاريخ تفسيراً مادياً معزولاً عن علم الله عز وجل وتقديره، وحكمته البالغة فيما يخلق ويقدر.
وعلى ضوء ما سبق ؛ فإن الواجب على المسلم إزاء هذه الأحداث أن يؤمن إيماناً جازماً أن ماقدره الله عز وجل في أحداث الخليج، وإن كانت موجعة مؤلمة ؛ فإن من ورائها حكمة بالغة اقتضتها حكمة أحكم الحاكمين والمرتبطة باسمه (الحكيم) سبحانه وتعالى .
ولقد ظهرت بعض الدروس والحكم جلية من خلال هذه الأحداث المؤلمة ، مع أن ما خفي علينا في غيب الله عز وجل من الحكم والمصالح أكثر، ومن هذه الدروس التي ظهرت ما يلي :
الدرس الأول : التعرف على سنة الله عز وجل في التغيير وهي التفسير الإسلامي للأحداث :
إن ما حصل من أحداث في دولة الكويت ، وما ترتب على هذا الحدث من أمور ومستجدات قد فتح أعيناً عمياً وآذاناً صماً على حقيقة مهمة وسنة ثابتة لا تتغير ؛ ألا وهي : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) [الرعد:11]، وأصبحنا والحمد لله نجد هذه الحقيقة على ألسن كثير من الناس الذين منَّ الله عليهم باليقظة بعد الغفلة رجالاً ونساءً وعوام ومثقفين ، وهذا بحد ذاته نعمة ومنحة ورحمة من الله عز وجل لم تكن لتحصل لولا قدر الله عز وجل لهذا الحدث .
لقد كنا نعترف ونؤمن بهذه الحقيقة قبل ذلك ، ولكنه إيمان ضعيف، أما الآن فقد تحول هذا الإيمان إلى صورة واقعية عملية ؛ صار الخبر فيها عياناً، ولا شك أن الإيمان بهذه السنة الثابتة وأثرها على النفوس سيكون أبلغ وأقوى من الإيمان بها قبل وقوعها ، وكما هو معروف أن الطرق على الحديد وهو ساخن أقوى بكثير في تليينه وتأثره من الطرق عليه وهو بارد .
كما أن رحمة الله عز وجل وحكمته البالغة قد تجلت في هذا الحادث بأنه لم يترك الناس ينحدرون وبعجلة سريعة إلى الفساد ، وهم غافلون عما ينتظرهم من الهوة السحيقة التي هم قادمون عليها لو استمر انحدارهم، ولم يأت ما يوقفهم ويحد من انحدارهم إذا لم يصلحوا أنفسهم، ويوقفوا فسادهم بالوسائل الشرعية للإصلاح ، فيقدر عليه أحداثاً مؤلمة تشدهم عن المزيد من الانحدار ، وتقف أمام تهالكهم على الفساد لعلهم يرجعون ويتوبون ويستيقظون من غفلتهم .(/47)
قال الله تعالى : (( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )) [الروم:41]، وهذه والله هي عين النعمة والرحمة ،وإن كان ظاهرها التشريد والقتل وفقد الأموال ، فإن كل هذه المصائب تهون وتصغر عند فقد الدين ، وما يترتب على ذلك من مفاسد كبيرة ،لو استمرت عجلة الفساد في انحدارها الشديد ، ولم يأت للناس ما يوقفهم ويهز رؤوسهم ليستيقظوا ويتداركوا أنفسهم من السقوط في هوة سحيقة هم يتجهون إليها لو لم يوقفهم الله عز وجل بما يقدره من أحداث.
وإن هذا الدرس العظيم لا يدركه ، ولا يستفيد منه إلا المؤمن الذي يجعل من مثل هذه الأحداث باباً إلى التوبة ومحاسبة النفس ، والرجوع إلى الله عز وجل ، وتغيير الأحوال .
أما المنافق، والمادي، والعلماني، وغيرهم من أهل الإلحاد والزندقة، فلا تراهم إلا ساخرين ومستهزئين من هذه المعاني العظيمة ، والأصول الإيمانية الثابتة ، ولا تزيدهم هذه الأمور إلا كبراً ما هم ببالغيه ، ولن
يزيدهم هذا إلا رجساً إلى رجسهم ، كما قال تعالى : (( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ)) [التوبة:124- 126].
وقال تعالى : (( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الأنعام:43].
الدرس الثاني : تمييز الخبيث من الطيب :
يقول الله تعالى : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ )) [آل عمران:179]
إن من رحمته تعالى وحكمته البالغة أن يقدر أحداثاً مؤلمة تتميز من خلالها الصفوف ، وتتعرى فيها النفوس ، فتظهر على حقيقتها للناس . وهذا هو الذي ظهر من خلال هذه الأحداث ؛ حيث ظهرت حقائق مهمة ساهمت في توعية الناس ، والدعاة منهم بصفة خاصة ، وذلك بحقيقة أعدائهم ، وتهافت راياتهم ، وانكشاف مخططاتهم ، وادعاءاتهم الكاذبة التي كانوا يخدعون بها الناس .
وتعرت بذلك دول وأفكار ودعوات، بل إن الإنسان نفسه قد تعرى أمام نفسه، وكشف من خلال هذه الأحداث حقائق من حوله،ومن نفسه ،ما كانت لتعرف لو لم يقدر الله عزوجل مثل هذه الأحداث،وإن هذه الثمرة الكبيرة، من توعية المسلمين بحقيقة أعدائهم ، وبحقيقة الأفكار والنحل التي تتلاطم من حولهم ، ما كانوا ليعرفوا عنها شيئاً ، وبهذا الكم الهائل من المعلومات،لولا تقدير الله عز وجل لهذا الحدث.
وقد حقق الله عز وجل هذه الثمرة في أسابيع عدة ما كانت الدعوة الإسلامية لتحصل عليها في عدة سنوات ، والأيام حبلى بدروس وعبر جديدة ؛ أليس هذا من رحمة الله وفضله ؟ ، بلى والله .
ولا يعني هذا أنا نتمنى المصائب والفتن ؛ معاذ الله ، فإن المسلم لا يدري ما تكون حاله حينئذ ، وقد نهانا رسول الله لله عن ذلك بقوله : (( لا تتمنوا لقاء العدو ، وإذا لقيتموه فاصبروا)) (1) .
ولكن أردت الإشارة هنا إلى ربط الأحداث بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة ، وأن شيئاً في هذا الكون لا يكون إلا بعلم الله عز وجل وحكمته البالغة ، ويريد الله عز وجل منه الخير للمسلمين في الحال أو المآل .
الدرس الثالث : أهمية التوحيد والتربية عليه :
لقد ظهر من خلال هذه الأحداث الأهمية البالغة لتربية النفوس على عقيدة التوحيد الخالص ، ولقد بدا من خلال الأحداث أن هناك ضعفاً شديداً في هذا الجانب المهم في حياة المسلم ، كما ظهر من خلال الأحداث أن هذا الأصل المهم من أصول الإيمان لم يأخذ حقه من التربية العلمية والعملية.
ولعل من أهم دروس هذا الحدث أن يشعر المسلمون وأرباب التوجيه والتربية بضعف هذا الجانب ، وما كان ليعرف هذا الخلل لولا تقدير الله
سبحانه وتعالى هذه الأحداث .
ومن مظاهر هذا الضعف ما حصل من الارتباك الشديد في بعض المفاهيم العقدية،والتي تعتبر من الثوابت والأصول التي لا تتزعزع ، ولا تهتز ولا تتغير مهما تغيرت الأحوال والأزمان والأمكنة ، ومن أهم هذه الأصول التي اعتراها الاهتزاز ،مفهوم الولاء والبراء،والعداوة للكافرين والمشركين والمنافقين بشتى مللهم وأفكارهم .
__________
(1) متفق عليه .(/48)
أما أن يصبح العدو صديقاً والصديق عدواً ، وأما أن تبذل المحبة للكافر والعداوة للمسلم ، ويكون الميزان في الحب والعداوة موازين الأرض وموازين المصالح الشخصية ؛ فهذا كله مما ترفضه عقيدة التوحيد الثابتة ، والتي تقوم الموالاة والمعاداة على أساسها ، وهذا هو أصل لا إله إلا الله ؛ الكلمة الطيبة التي وصفها الله عز وجل بقوله : (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)) [ابراهيم:24، 25].
وهي الكلمة التي من أجلها أُرسِل الرسل وأ ُنزلت الكتب ، وجاهد من أجلها أنبياء الله عز وجل ودعاته الصادقين ، كما قال تعالى : (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ )) [الممتحنة:4].
أما ما سواها من المصالح الشخصية والموازين الأرضية فليس لها صفة الثبات؛ بل إن أبرز خصائص المصالح والموازين الأرضية ؛ عدم الثبات والروغان ، فالذي يحب ويعادي من أجل المصالح الدنيوية يدور مع هذه المصالح حيث دارت ، فقد يعادي في الصباح من أحبه في المساء ، وقد يوالي في المساء من عاداه في الصباح ،وصدق الله العظيم: (( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ )) [ابراهيم:26، 27]، اللهم ثبتنا بقولك الثابت ، ولا تضلنا مع الظالمين .
ومما يؤيد الاهتمام الشديد بالتربية على التوحيد ؛ ما ظهر من النقص والضعف في توحيد التوكل والاستعانة والاستغاثة وغيرها ، وما نتج عن هذا الضعف من الركون إلى غير الله عز وجل من أعداء هذا الدين ، والثقة بما عندهم أكثر من الثقة فيما عند الله عز وجل .
ولأجل كل ما سبق،ظهر أن الحاجة الماسة جداً إلى مزيد من التربية على العقيدة علماً وعملاً ؛بأن نتعلم أركان التوحيد ، وما يضاده من الشرك القديم والجديد،وألا يستخفنا الذين لا يوقنون من أرباب السياسة والمصالح الأرضية ، فيستهووننا معهم ، ويركبوننا في ركابهم ، بل يجب علينا الحذر الشديد منهم ومن مكرهم ، وأن نقبل على ديننا نتعلمه ، ونعمل به وندعو إلى الله ،ونصبر على الأذى فيه ، وألا نستطول الطريق أو الوقت الذي نمضيه في تعلم التوحيد ، وكل متعلقاته .
كما يجب علينا أن نعي واقعنا، وأن نربط ما تعلمناه من دين الإسلام بقضايا عصرنا ، ومستجداته من الأفكار والنحل التي لم تكن موجودة عند أسلافنا ، وأن يكون للتربية الشاملة على التوحيد دورها في مواجهة الشرك المعاصر ،والتي تشن فيه العلمانية معارك طاحنة ضد المسلمين بوسائل شتى.
أي أننا نريد منهجاً دعوياً يقوم على (سلفية المنهج وعصرية المواجهة)(1) ونقصد بالسلفية: العودة بأصول الفهم والاستدلال إلى الكتاب والسنة ، وقواعد الفهم المعتبرة لدى أصحاب رسول الله لله ومن تبعهم بإحسان ؛ وذلك لنتمكن من خلال هذا المنهج من المواجهة السلفية المعاصرة لمشكلات عصرنا،التي واجه بها سلفنا الصالح انحرافات عصرهم ، وكانت فريضة الوقت يومئذ ، ثم نتخلى عن المعارك الطاحنة التي تديرها الجاهلية في المجتمعات المعاصرة ؛ حيث ضاعت إسلامية الراية وإسلامية النظم وذلك في أكثر بلدان المسلمين.
إن السلفية الحقة لا تقبل أن تستهدف الدعوة في بعض المواقع تحرير العقائد من شرك الأموات،والتمائم،وتضرب صفحاً عن شرك الأحياء والأوضاع والنظم؛والتي لا تقل خطراً عن شرك الأصنام ، وكلا الشركين خطير.
كما لا تقبل السلفية الحقة أن تحارب التشبيه والتعطيل في صفات الله عزوجل وتقف عند ذلك،ولا تعلن الحرب على تعطيل الشريعة،وتحكيم القوانين الوضعية،وفصل الدين عن الدولة،وإننا بهذا المنهج الشامل والسلفية المعاصرة،نسلم وتسلم عقيدتنا الثابتة من أي خلط أو اهتزاز،كما هو الحاصل في هذه الأيام ،ولكنها الفتن ؛ نعوذ بالله منها ؛ ما ظهر منها وما بطن .
__________
(1) المراد (بعصرية المواجهة) أن يواجه أصحاب المنهج السلفي في كل عصر ما يكون في عصرهم من بدع وشركيات ومنكرات سواء كانت لها جذور قديمة أو كانت جديدة لم يسبق لها نظير بعينها وإن كان إنكارها له أصل شرعي .(/49)
وما أحسن ما كتبه الأستاذ محمد قطب في كتابه القيم (واقعنا المعاصر)حول أهمية التربية والرد على من يستطول طريقها ويريد قطف الثمرة قبل استكمالها،فقال ص684:" أما الذين يسألون إلى متى نظل نربي دون أن (نعمل)(1)؟ فلا نستطيع أن نعطيهم موعداً ؛ فنقول لهم : عشر سنوات من الآن أو عشرين سنة من الآن!، فهذا رجم بالغيب لا يعتمد على دليل واضح، وإنما نستطيع أن نقول لهم : نظل نربي حتى تتكون القاعدة المطلوبة بالحجم المعقول ..." ثم يستمر وفقه الله حول هذا الموضوع إلى أن قال : " ... ونكتفي بثلاثة أبعاد ، ننتقيها من بين أبعاد كثيرة ومجالات عديدة ؛ لأنها ذات أهمية خاصة ؛ وذلك بالنسبة لبناء القاعدة المطلوبة .
يقول سبحانه وتعالى: (( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) [الذريات:58]، ولو أنك سألت أي إنسان في الطريق من الذي يرزقك لقال لك على البديهة: الله ، ولكن انظر إلى هذا الإنسان إذا ضيق عليه في الرزق ، يقول : فلان يريد قطع رزقي! فما دلالة هذه الكلمة ؟
دلالتها أن تلك البديهة ذهنية فحسب ، وبديهة تستقر في وقت السلم والأمن ، ولكنها تهتز إذا تعرضت للشدة ؛لأنها ليست عميقة الجذور ... فلا يصلح لتلك الأعباء إلا شخص قد استقر في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ، وأن الله هو المحيي المميت، وأن الله هو الضار النافع ، وأن الله هو المعطي والمانع ، وأن الله هو المدبر، وأن الله هو الذي بيده كل شيء ...
ترى كم جلسة ؟!كم درساً؟! كم موعظة ؟!كم توجيهاً يحتاج إليها
الإنسان؟! ليرسخ في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الذي يدبر ، وأن المخلوقات البشرية التي يخالطها في حياته إن هي إلا أدوات لقدر الله ، وأنها حين تضره فهي بشيء قد قدره الله له، وحين تنفعه فإنما تنفعه بشيء قد كتبه الله له ، فلا يتوجه إلا إلى الله في سرائه وضرائه سواء ،ويعلم يقيناً أن الخلق كلهم لا يملكون له ولا لأنفسهم ضراً ولا نفعاً "اهـ .
الدرس الرابع:صحة الفهم وحسن القصد ودورهما في درء الفتن :
في أيام الفتن تضطرب الأفهام ،وتحتار العقول أمام الشبهات ، كما أن القلوب تضعف أمام الشهوات ، ولا يعصم منها إلا من عصمه الله تعالى بعلم صحيح ،وفهم دقيق يدرأ بهما الشبهات ، وبدين وتقوى وصبر يدرأ بها الشهوات ، فبالعلم واليقين تدرأ الشبهات ، وبالصبر وحسن القصد تدرأ الشهوات .
ولا يسلم من الفتن ورياحها إلا من تحلى بهاتين الصفتين : الفهم الصحيح والقصد الصحيح ، ومن فقد أحداً من هاتين الصفتين ؛ فقد عرض نفسه للفتن ، ولقد اتضح مظاهر فقد هذين الأمرين أو أحدهما في هذه الأيام، أيام الأحداث والفتن ، فسقط في هذه الفتن من سقط ، وهلك فيها من هلك ، ولا يتعدى أسباب السقوط هذين الأمرين الآنفي الذكر ؛ فبضعف اليقين والبصيرة تسيطر الشبهات ، وبضعف التقوى وفساد المقصد تسيطر الشهوات .
وصحة اليقين والفهم يتمان بأمرين اثنين : بالعلم بدين الله عز وجل وأحكامه وشرعه ، وبالعلم بالواقع وأبعاده؛ فمن فرط في أي من هذين العلمين والفهمين فسد فهمه ، وعرض نفسه للشبهات ، وأخذ الباطل يحسبه حقاً .
أما من تحلى بالفهم بأحكام الله والفهم بالواقع ، ثم وقَّع الأول على الثاني ؛ فقد تمت له البصيرة ، ووصل إلىها الحق ، ولكن معرفة الحق لا تكفي في النجاة من الفتن حتى ينضم إلىها التقوى والصبر وحسن القصد، فينقاد إلى الحق الذي ظهر ويذعن له ، وإلا لو كان الصبر ضعيفاً أو القصد فاسداً ؛ فإن المسلم يتعرض للفتن من باب الشهوات ، فلا يصبر على الحق ، ويثبت عليه أمام المغريات والشهوات .
ولقد ساق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذه المعاني بأوضح عبارة وأدقها وأبلغها؛حيث قال رحمه الله تعالى في كتابه القيم(إعلام الموقعين)، في معرض شرحه لخطاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في القضاء؛ فقال في شرحه لقول عمر:"فافهم إذا أدلي إليك":
" صحة الفهم ، وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما ، بل هما ساقا الإسلام ، وقيامه عليهما ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم ، وطريق الضالين الذين فسدت فهو مهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت فهومهم وقصودهم ، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة .
وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد ، يميز به الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، ويمده حسن القصد، وتحري الحق ، وتقوى الرب في السر والعلانية ، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا ، وطلب محمدة الخلق وترك التقوى .
__________
(1) الكلام هنا موجه لأولئك الشباب المتحمس الذي ينقضه التربية والعلم الشرعي والإمكانات ومع ذلك يطالب بإعلان الجهاد ضد الأنظمة التي تنكرت لشرع الله واستحلت ما حرم الله .(/50)
ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم :
أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات،والعلامات حتى يحيط به علماً .
النوع الثاني: فهم الواجب في الواقع؛وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله لله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر ، فمن بذل جهده ، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله "(1) اهـ .
وبعد هذا الكلام المفيد من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، وبعد النظر الدقيق للمواقف المضطربة إزاء الأحداث والفتن هذه الأيام ، وبعد خوض من خاض ، وهلاك من هلك فيها ، إما بقلبه أو لسانه أو يده ، يتبين لنا أن هناك خللاً في منهاج الدعوة عند بعض الدعاة ، ونقصاً في التربية،لعل من دروس هذه الأحداث اكتشافنا لهذا الخلل حتى نتفاداه .
ويمكن مما سبق تلخيص هذا الخلل في النقاط التالية :
1 ـ عدم التربية على طلب العلم الشرعي من مصادره الصحيحة وأصوله المنضبطة.
2 ـ عدم التربية على طلب العلم والفقه بالواقع ، والوعي الصحيح بسبيل المؤمنين فيه ، وبسبيل المجرمين .
3 ـ هناك خلل في القلوب ،وفساد في القصود، لابد من تداركه، والاهتمام بتزكية القلوب وتربيتها على الإخلاص لله عز وجل وإنشاءهم
الآخرة والزهد في الدنيا ، وعدم طلب محمدة الناس ، والتربية على الصبر والثبات أمام الشهوات والمغريات.
وعندما يتم التغلب على هذه الأنواع من الخلل ، ويربى الناس عليها، وعلى طلبها ؛ فإنه بإذن الله تتم العصمة من الفتن وأخطارها ؛ فبالعلم بدين الله ، والعلم بالواقع تتقى الشبهات ، وبحسن القصد ، والإخلاص لله عز وجل والصبر أمام المغريات تتقى الشهوات ، والله أعلم .
وبعد :
فإن الدروس والحكم كثيرة وكثيرة ، وليس مقصود البحث هنا هو التفصيل فيها ، ولكن ذكرت بعض هذه العبر والحكم والمصالح من هذا الحادث المحيط بنا هذه الأيام، لنتذكر من خلاله أن لأسماء الله عز وجل وصفاته لوازم ومقتضيات لا يتم الإيمان إلا بها ، ومن هذه الأسماء الكريمة اسم الحكيم-، والذي هو موضوع بحثنا في تفصيل لوازم هذا الاسم الجليل، والتعرف على العبوديات التي يتضمنها ، والآثار التي يتركها في القلب والجوارح، وما يلزم عليه من لوازم ومقتضيات ، ومنها ما تم استعراضه من الدروس الماضية، لحدث واحد مما يقضيه الله عز وجل ويقدره، من بين أحداث وأحداث كثيرة،وكثيرة تصغر في حجمها وتكبر ، ولكنها كلها لا تخرج عن علم الله عز وجل وتقديره ، ولا تخرج عن حكمته البالغة وتيسيره.
* * *
الخاتمة
لقد تبين من خلال هذه الدراسة السريعة أن الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته تقتضي إثباتها له سبحانه على الوجه الذي يليق به وعظمته من غير تكييف ولا تحريف ولا تعطيل ولاتمثيل ، كما أن الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته تقتضي التعبد لله سبحانه وتعالى بها والإيمان بلوازمها
ولقد اخترت في هذه الدراسة اسمين من أسماء الله عز وجل الجليلة هما ( العليم والحكيم ) وفصلت في الثاني وما فيه من العبوديات في اسم واحد من أسماء الله عز وجل، فكيف ببقية أسمائه سبحانه الحسنى وصفاته العلا؟.
إنني أتوجه في نهاية هذه الدراسة إلى علمائنا ، وأرباب التوجيه والتربية، بأن يولوا هذا الجانب المهم من أسماء الله عز وجل عناية كبيرة في دروسهم وحلقاتهم التعليمية ، وأن تتم التربية من خلاله على تقوية الإيمان وتجريد التوحيد لله والثبات على الإسلام ، والجهاد في سبيله ، وألا يقفوا في دراسة توحيد الأسماء والصفات على الجوانب الذهنية المجردة أو الردود على أهل البدع والأهواء فقط ، وإنما يجمعون ـ في دراسة هذا الجانب المهم من توحيد الله عز وجل ـ بين الجانب العلمي والعملي والتعبدي.
أسأل الله عز وجل أن يحسن فهومنا ومقاصدنا وختامنا، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
* * *
متى نصر الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ،ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لله تسليماً كثيراً.
أما بعد:
لا ريب أن من أعز مقاصد المؤمنين وأشهى مطالبهم وغاية نفوسهم: رؤية دينهم ظاهراً وكتابهم مهيمناً وعلو راية التوحيد خفاقة مع قهر أهل الكفر والطغيان وإذلالهم.
إن هذا الهدف الأعظم وتلك الأمنية السامية لا تتحقق عن طريق الدعاوى والأماني بل عن طريق البحث والتنقيب عن سنن الله في النصر ، تلك السنن الربانية التي قدرها ـ تبارك وتعالى ـ لنصر حزبه الموحدين وخذلان حزب الشيطان اللعين .
__________
(1) إعلام الموقعين (1/87) .(/51)
فيجب علينا معشر المؤمنين حتى نحقق صدق الدعوة ونقيم عليها البينة العادلة أن نتعرف علي تلك السنن وطبيعة الصراع وحجم التكاليف وشراسة الأعداء ومباينة السبل واختلاف المناهج والغايات والتوجهات بين المؤمنين والكافرين ، حتى نقضي علي فرية وحدة الأديان وتوحيد الرايات والالتقاء في الطريق تحت ستار الأسرة الواحدة والشرعية الدولية.
إن دين الله-الذي اصطفاه لنا ولا يعبد إلا به-يقتضي أن يكون-جل شأنه-حاكماً لا معقب لحكمه ، وأن يوحد بالعبادة والتلقي والتوجه وأن يفرد بالولاء ، مع الكفر والبراءة والانخلاع من كل ما يعبد من دونه .
ومن هنا وجب إعداد العدة والأخذ بالسنن الربانية لتحقيق النصر المأمول مع الحذر الشديد من العوائق الداخلية والأمراض الفتاكة التي تفتك بجسد الأمة وتسلمها فريسة سهلة لأعدائها لتحول بينها وبين غايتها العظمى ودورها المنشود المناط بها، بل المدقق في تلك العوائق الداخلية ليتيقن أنها الأساس المنيع الذي تستمد منه العوائق الخارجية وجودها وهيمنتها .
إن الله -عز وجل- بعلمه الشامل وحكمته البالغة قدر وقضى أن يكون الصراع بين الحق والباطل موجوداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
وأما عن طبيعة هذا الصراع : فسمته أنه حرب ضروس لن يخمد لهيبها إلى قيام الساعة . قال تعالى: (( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)) [البقرة: 217]، ولا يخفى ما تحويه لفظة: (( وَلا يَزَالُونَ )) من الاستمرارية والبقاء دون انقطاع، ولهذا جاء الأمر واضحاً من العليم الحكيم لأوليائه: (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) [الأنفال:39]، والفتنة لن تخلو منها الأرض، بل الساعة تقوم على شر أهلها.
وكذلك أخبر النبي لله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم بأن : (( الخيل معقود فى نواصيها الخير إلي يوم القيامة)) "(1) .
هذه السنة الربانية قد خص بها حشد من النصوص المستفيضة حتى
بلغت حد التواتر اللفظي والمعنوي ،وغدت من المعلوم بالاضطرار من هذا الدين وأصبح المكذب بها مكذباً بالدين طاعناً على رب العالمين متبعاً غير سبيل المؤمنين .
وهذا من أبلغ الحجج والبراهين على دحض افتراءات العلمانيين و المنافقين ـ الذين وقفوا على طريق جهنم وأعلوا رايتهم ملوحين بها للناس أن هلموا إلينا ليقذفوهم فيها ـ الذين يزعمون ويفترون بأن الحرب الدينية اليوم قد انتهت، وحري بالعالم أجمع أن يجتمع تحت راية واحدة وأن يكونوا كالجسد الواحد المتجانس الشعور والإحساس ولا تحول معتقداتهم دون هذا البتة ، بل يجب أن تبقى هذه المعتقدات حبيسة القلوب وحبيسة دور العبادة والمحاريب ولا تتعدى جدارها ولا تتخطى حدودها .
ومن المعلوم أن الخصوم في حروبها تلجأ إلى ناصر وولي ومعين ، تحتمي بحماه وتقهر بقوته وتعتز بعزه،فالله ـ جل شأنه ـ لم يرتض لأوليائه ناصراً سواه ولا ولياً دونه ولا معيناً عداه ، قال تعالى : (( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا )) [البقرة: 257]، وقال سبحانه : (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ )) [محمد:11].
ومن هنا وجب علينا معشر المؤمنين وأمة التوحيد أن نتوكل على مولانا وناصرنا ، ونعي آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلىا ، فنتعبد لله بها وتظهر في القلوب آثارها فتطمئن لوعد الله وتثق بنصره ، حتى ولو صال الباطل وانتفش في وقت من الأوقات ، فإن المؤمن يوقن أن ما قدره الله هو الخير ويحوي في طياته الرحمة والنعمة وإن كان ظاهره الألم والمشقة ، ذلك أن رحمة الله سبحانه قد سبقت غضبه وأن الشر ليس إلى الله عز وجل .
إن معبود وولي المؤمنين هو الجبار القوى : الذي لا يعجزه شيء . العزيز: فلا يغلبه شيء . المتكبر : الذي تكبر عن السوء والظلم . الرحمن: الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها . العليم : فلا يخفى عليه شيء ، والسر والجهر عنده سواء لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض . الحكيم : في أفعاله وقدره وأحكامه . القدير : فالسماوات مطويات بيمينه والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ، ما قدره أولياؤه حق قدره فضلاً عن أعدائه . المحيط : بظلم الظالمين ومكر الماكرين لا يفوته شيء . العلىّ : قد علا على كل شيء دونه وتحت قهره وغلبته .
يقول ابن القيم رحمه الله :
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد (2850)، وفي المناقب (3644) .(/52)
"وكذلك اسمه السلام : فإنه الذي سَلِمَ من العيوب والنقائص . ووصفُه بالسلام أبلغ في ذلك من وصفه بالسالم ، ومن موجبات وصفه بذلك سلامةُ خَلْقه من ظُلمه لهم . فسَلِم سبحانه من إرادة الظلم والشر ، ومن التسمية به ، ومن فعله، ومن نسبته إليه . فهو السلامُ من صفات النقص وأفعال النقص وأسماء النقص ، المُسلِّم لخلقه من الظلم . ولهذا وصف سبحانه ليلة القدر بأنها سلام ، والجنة بأنها دار السلام ، وتحية أهلها السلام.وأثنى على أوليائه بالقول السلام . كل ذلك السالم من العيوب. وكذلك الكبير من أسمائه.
والمتكبر:قال قتادة وغيره: هو الذي تكبر عن السوء. وقال أيضاً: الذي تكبر عن السيئات. وقال مقاتل : المتعظم عن كل سوء . وقال أبو إسحاق: الذي يكبر عن ظلم عباده . وكذلك اسمه العزيز الذي له العزة التامة . ومن تمام عزته براءته عن كل سوء وشر وعيب، فإن ذلك ينافي العزة التامة.
كذلك اسمه العلىّ الذي علا عن كل عيب وسوء ونقص . ومن كمال عُلوه أن لا يكون فوقه شيء . بل يكون فوق كل شيء .
وكذلك اسمه الحميد ، وهو الذي له الحمد كله، فكمال حمده أن لا ينسب إليه شر ولا سوء ولا نقص لا في أسمائه ولا في أفعاله ولا في صفاته . فأسماؤه الحسنى تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه ، مع أنه سبحانه الخالقُ لكل شيء ، فهو الخالق للعباد وأفعالهم وحركاتهم وأقوالهم .
والعبد إذا فعل القبيح المنهيّ عنه كان قد فعل الشر والسوء. و الرب سبحانه هو الذي جعله فاعلاً لذلك . وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب، فجَعْلُهُ فاعلاً خير ، والمفعول شر قبيح ، فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء موضعه لما له في ذلك من الحكمة البالغة التى يُحمد عليها ، فهو خير وحكمة ومصلحة ، وإن كان وقوعه من العبد عيباً ونقصاً وشراً وهذا أمر معقول مشاهد .
فإن الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء والحجر المكسور واللبنة الناقصة فوضع ذلك في موضع يليقُ به ويناسبه كان ذلك منه عدلاً وصواباً يمدح به ، وإن كان في المحل عوجٌ ونقص وعيب يُذم به المحل . ومن وضع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها كان ذلك منه حكمةً وعدلاً وصواباً. وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها . فمن وضع العمامة على الرأس ، والنعل في الرجل ، والكُحل في العين ، والزبالة في الكناسة ، فقد وضع الشيء موضعه ، ولم يظلم النعل والزبالة إذ هذا محلُّهما .
ومن أسمائه سبحانه العدل والحكيم الذي لا يضع الشيء إلا في موضعه، فهو المحسن الجواد الحكيم العدل في كل ما خلقه وفي كل ما وضعه
في محله وهيأه له . وهو سبحانه له الخلق والأمر . فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين ، ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، وإذا تعارض أمران رجح أحسنهما وأصلحهما . وليس في الشريعة أمر يفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه ، ولا نهيٌ عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده "(1) اهـ.
وقد قضى الله سبحانه وتعالى بأن البقاء للحق ؛ لأنه الأصل الذي قامت عليه السماوات والأرض وأما الباطل فهو طارئ وزاهق ، قال تعالى: (( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً)) [الاسراء:81]، وقال سبحانه : (( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ )) [الرعد:17].
ولكن حكمة الله عز وجل البالغة اقتضت أن يوجد الباطل لاختبار أوليائه وإظهار آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلا وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً، وإلا لو شاء الله عز وجل لم يكن هناك كفر ولا باطل. قال تعالى : (( ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ))
[محمد:4].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى :
" والرضا بالقضاء الكوني القدري ، الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته ـ مما لا يلائمه ، ولا يدخل تحت اختياره ـ مستحب .وهو من مقامات أهل الإيمان وفي وجوبه قولان ، وهذا كالمرض والفقر ، وأذى الخلق له، والحر والبرد ، والآلام ونحو ذلك .
والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره- مما يكرهه الله ويسخطه، وينهى عنه - كأنواع الظلم والفسوق والعصيان: حرام يعاقب عليه . وهو مخالفة لربه تعالى. فإن الله لا يرضا بذلك ولا يحبه . فكيف تتفق المحبة ورضا ما يسخطه الحبيب ويبغضه ؟ فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضا بالقضاء .
فإن قلت : كيف يريد الله سبحانه أمراً لا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويُكَوِّنه؟ وكيف تجتمع إرادة الله له وبغضه وكراهيته ؟
قيل : هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً، وتباينت عنده طرقهم وأقوالهم .
فاعلم أن " المراد " نوعان: مراد لنفسه ، ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه : مطلوب محبوب لذاته ولما فيه من الخير، فهو مرادٌ إرادة الغايات والمقاصد .
__________
(1) شفاء العليل. ص380.(/53)
والمراد لغيره: قد لا يكون في نفسه مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته . وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده . فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته،ومراد له من حيث إفضائه وإيصاله إلى مراده . فيجتمع فيه الأمران : بغضه ، وإرادته ، ولا يتنافيان ، لاختلاف متعلقهما ، وهذا كالدواء المتناهي في الكراهية، إذا علم متناوله أن فيه شفاءه، وكقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده،وكقطع المسافة الشاقة جداً إذا علم أنها توصله إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته ، وطويت عنه مغبته ، فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب ؟ فهو سبحانه وتعالى يكره الشيء ويبغضه في ذاته . ولا ينافي ذلك إرادته لغيره ، وكونه سبباً إلى ما هو أحب إليه من فوته .
مثال ذلك: أنه سبحانه خلق إبليس ، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال ، والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد ، وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى ، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل طريق وكل حيلة ، فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى ، مسخوط له ، لعنه الله ومقته ، وغضب عليه ، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودها أحب إليه من عدمها.
? منها : أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات .وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته، وسلطانه وملكه، فإنه خلق هذه المتضادات ، وقابل بعضها ببعض ، وجعلها محال تصرفه وتدبيره وحكمته . فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته، وكمال تصرفه وتدبير مملكته .
? ومنها : ظهور آثار أسمائه القهرية ، مثل (القهار، والمنتقم ، والعدل، والضار ، وشديد العقاب ،وسريع الحساب ، وذي البطش الشديد ، والخافض ، والمذل) فإن هذه الأسماء والأفعال كمال . فلابد من وجود متعلقها ولو كان الخلق كلهم على طبيعة الملَك : لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
? ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه، ومغفرته وستره ، وتجاوزه عن حقه ، وعتقه لمن شاء من عبيده. فلولا خلق ما يكره من
الأسباب المفضية إلى شهود آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا بقوله : (( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) "(1) .
? ومنها : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة ، فإنه سبحانه " الحكيم الخبير " الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها ، فلا يضع الشيء في غير موضعه ، ولا ينزله غير منزلته ، التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته ، فلا يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل ،ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب ، ولا العقاب موضع الثواب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا الرفع موضع الخفض، ولا العز مكان الذل ، ولا الذل مكان العز، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه ، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به .
فهو أعلم حيث يجعل رسالته ، وأعلم بمن يصلح لقبولها ، ويشكره على انتهائها إليه ووصولها ، وأعلم بمن لا يصلح لذلك ويستأهله ، وأحكم من أن يمنعها أهلها ، وأن يضعها عند غير أهلها .
فلو قُدِّر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له لتعطلت هذه الآثار،ولم تظهر لخلقه ، ولفاتت الحكم والمصالح المترتبة عليها ، وفواتها شر من حصول تلك الأسباب .
فلو عطلت تلك الأسباب -لما فيها من الشر- لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب . وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر والضرر ، فلو قدر تعطيلها ـ لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي ـ لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك الشر بما لانسبة بينه وبينه .
? ومنها : حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت ، ولكان الحاصل بعضها ، لا كلها . فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها : من الموالاة فيه سبحانه ، والمعاداة فيه، والحب فيه والبغض فيه ، وبذل النفس له في محاربة عدوه،وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الرب على محاب النفس.
? ومنها :عبودية التوبة ، والرجوع إليه واستغفاره، فإنه سبحانه يحب التوابين ويحب توبتهم ، فلو عطلت الأسباب التي يتاب منها لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار منها .
? ومنها: عبودية مخالفة عدوه ، ومراغمته في الله وإغاظته فيه ، وهي من أحب أنواع العبودية إليه ، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ويراغمه ويسوءه ، وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس .
? ومنها :أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه ، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده وأذاه .
__________
(1) رواه أحمد بنحوه (1/289)، وله شواهد في السلسلة الصحيحة (970) .(/54)
? ومنها : أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حلَّ بعدوه بمخالفته وسقوطه من المرتبة الملكية إلى المرتبة الشيطانية ،فلا يُخلدون إلى غرور الأمل بعد ذلك.
? ومنها :أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته ، الذي حصوله مشروط بالمعاداة والمخالفة . فأكثر عبادات القلوب والجوارح مرتبة على مخالفته .
? ومنها : أن نفس اتخاذه عدواً من أكبر أنواع العبودية وأجلها . قال الله تعالى : (( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً )) [فاطر:6]، فاتخاذه عدواً أنفع شيء للعبد، وهو محبوب للرب .
? ومنها : أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر ، والطيب والخبيث ، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد . فخُلِقَ الشيطان مستخرجاً لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل ، وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل ، فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها ، ليترتب عليه آثاره ،وما في قوى أولئك من الشر ، ليترتب عليه آثاره ، وتظهر حكمته في الفريقين ، وينفذ حكمه فيهما،ويظهر ما كان معلوماً له مطابقاً لعلمه السابق"(1)اهـ.
إن المتأمل اليوم في عصرنا الحاضر وما فيه من الصراعات ،يجد أن الصراع بين الحق والباطل قد بلغ أشده ، وأن ملل الكفر قد جمعت كل إمكانياتها ضد عدو واحد ألا وهو الإسلام ودعاته الصادقون الذين يصفونهم تارة بالمتطرفين وتارة بالأصوليين وتارة بالإرهابيين .
وإن المراقب للأحداث التي ظهرت في السنوات الأخيرة وبالذات
بعد أحداث الخليج ونشوء ما يسمى النظام العالمي الجديد(2) ليلاحظ أنها
تتسم بسمتين رئيسيتين هما :
__________
(1) مدارج السالكين (2/197) .
(2) النظام العالمي الجديد: هذا المصطلح. الذي يحمل في طياته الكثير من الخبث والمكر للإسلام والمسلمين – قد اصطلح عليه أئمة الكفر من اليهود والنصارى والشيوعيين لزيادة النكاية بالمسلمين والعمل الدؤوب لمنع ظهور الإسلام مسيطراً ومهيمناً لأداء دوره المنشود. ومضمون هذا المصطلح : أن يكون العالم بأسره – على اختلاف ملله- تحت راية واحدة يوالي ويعادي من أجلها وتلك الراية بكل وضوح هي راية الصليب تحت ستار الأمم المتحدة – التي لم تتحد إلا على ضرب الإسلام وتمزيق أهله وإعلاء راية الكفر والطغيان – والقائمون على رأس هذا النظام من اليهود النصارى والمشركين لهم حق الحكم والقرارات والفصل في شتى المنازعات والخصومات بين كافة الدول والملل والمجتمعات دون حق التعقيب عليها من أحد ! بل على العالم أجمع الانصياع التام والعبودية الكاملة والطاعة المطلقة لتلك الطائفة الحاكمة .
وأما عن حكم هذا النظام الخبيث : فمن المعلوم بالاضطرار من الدين : أن كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، وهذا الحد متوفر في هذا النظام الخبيث لاستباحته حق التشريع وسن القوانين والحكم بما شاء من غير تقيد أو امتثال لحدود الله سبحانه التي حدها في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو لب العبادة وأصلها. والدليل على ذلك : حديث عدي بن حاتم – رضي الله عنه – عندما أقسم بالله للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم – أي أهل الكتاب – ما وقعوا في عبادة الأحبار والرهبان ، فاحتج النبي- صلى الله عليه وسلم - بوجود أصل العبادة ولبها ، فقال : " ألم يحلوا لكم الحرام، ويحرموا عليكم الحلال فاتبعتموهم " قال : بلى. قال : " فتلك عبادتكم إياهم: . وقال القرآن في حقهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].
فتلك الأمة عندما أنزلت أحبارها ورهبانها منزلة ربها في التحليل والتحريم والتشريع من دونه خرجت بذلك عن عبادة ربها إلى عبادة الأحبار والرهبان . فكيف بمن يتخذ أحبار ورهبان وأئمة الكفر لملة لا يدين بها أرباباً من دون الله ؟!!
أما عن كيفية الكفر والبراءة من هذا الطاغوت : فيجب على كل مسلم أن يعلن الكفر والبراءة من هذا الطاغوت والانخلاع من طاعته في شريعته امتثالاً لقوله تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256] ولا يكفي هذا حتى يعادي عُبّاد هذا الطاغوت ويظهر لهم العداوة والبغضاء أبداً حتى يكفروا به ويؤمنوا بالله وحده، قال تعالى : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة:4].(/55)
1ـ التسارع الشديد والمفاجآت التي تصحبها، إلى حد أن المتابع لهذه الأحداث لا يفتأ يسمع بحدث ويبحث عن الموقف منه إلا وتفجؤه أحداث أخر تنسيه أو تشغله عن الحدث الأول .
2 ـ إن أغلب هذه الأحداث ـ إن لم نقل كلها ـ تقع في المنطقة الإسلامية وأن المسلمين فيها هم المستهدفون بالدرجة الأولى .
إن هذا الصراع الذي نعيشه في الآونة الأخيرة قد رجحت فيه قوة الكفر والكافرين ـ لحكمة يعلمها الله عز وجل ، كما سبق أن بينّا ـ فاستباحوا بذلك ديار المسلمين ودماءهم و أعراضهم وبلغ المسلمون من الذلة والمهانة واستخفاف أعدائهم بهم ما لا يعلمه إلا الله عزوجل .
وفي ظل هذه الحملة الشرسة على ديار المسلمين ودينهم وأعراضهم صار الكثير من الدعاة إلى الله عز وجل يتساءلون مع بعضهم أو مع أنفسهم.
أما آن لهذه المهانة أن تنقشع ؟ متي ينجلى هذا الليل الطويل الذى ناء تحت كلكله كل مسلم غيور يهمه أمر هذا الدين؟ متي يبزغ فجر الإسلام ؟ وبشكل عام ظهر سؤال كبير ألا وهو ذاك السؤال الذى سأله الرسول لله والذين آمنوا معه بعدما أصابتهم البأساء والضراء وزُلزلوا فقالوا : متى نصر الله؟
قال الله تعالى يحكي هذه الحالة : (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )) [البقرة:214].
من أجل ذلك جاءت هذه الدراسة المتواضعة في محاولة للإجابة على هذا السؤال الكبير من حيث الكيفية لا من حيث الموعد ، لأن الموعد قريب إن شاء الله (( أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))، ولكن المهم هو الطريق المؤدي إليه .
أسأله سبحانه أن يلهمنا رشدنا وأن يرزقنا السداد في القول والعمل .
* * *
الرسالة الخامسة : (( مَتَى نَصْرُ اللّهِ)) ( البقرة : 214) .
* من سنن الله عز وجل في النصر *
لابد لمن يريد نصرة دين الله عز وجل والتمكين له في الأرض أن يتعرف على سنن الله تعالى في نصرة دينه، وبدون هذه المعرفة لن يتم الاهتداء إلى الطريق ، وبالتالي ستضيع الأوقات والجهود ولما يأت نصر الله .
ومن هذه السنن ما ورد في الآيات التالية من كتاب الله عز وجل:
السنة الأولى : (( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )) [الروم:47].
السنة الثانية : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ))
[الرعد:11].
السنة الثالثة : (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) [محمد:38].
وتفصيل هذه السنن فيما يلي.
السنة الأولى :
إن نصر الله عز وجل لدينه ولعباده المؤمنين آت لا محالة وإن التمكين للإسلام في الأرض سيتم بعز عزيز أو بذل ذليل ، هذا وعد الله سبحانه والله لا يخلف الميعاد ، يقول الله سبحانه : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)) [غافر:51].
ويقول تعالى : (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً)) [النور:55].
ويقول سبحانه: (( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ))
[المجادلة:21]
وقال عز وجل : (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) [الصافات:171- 173].(/56)
والآيات في هذا المعنى كثيرة ، كما أن الوعد بنصرة دين الله عز وجل جاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها)) (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يُذل به الكفر)) (2)، وقال صلى الله عليه وسلم : (( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة علي منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة علي منهاج النبوة ثم سكت)) (3).
يقول الإمام ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ عند تفسيره لقوله تعالى: (( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) [المجادلة:21].
" أي: قد حكم وكتب في كتابه الأول وقدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة فإن العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِين، كما قال تعالى : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )) [غافر:51، 52]. وقال هاهنا : (( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) أي: كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه وهذا قدر محكم وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة"ا هـ(4) .
ويقول رحمه الله تعالى عند تفسيره قوله تعالى : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ )) الآية
" قد أورد أبو جعفر ابن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) ، فقال : قد عُلم أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه كيحيى وزكريا وشعياء، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجراً كإبراهيم، وإما إلى السماء كعيسى . فأين النصرة في الدنيا؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين :
أحدهما: أن يكون الخبر خرج عاماً والمراد به البعض فإن هذا سائغ في اللغة .
والثاني : أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعياء سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم .
وقد ذكر أن النمرود أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وأما الذين راموا صلب المسيح عليه السلام من اليهود فسلط عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم ، ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إماماً عادلاً وحاكماً مقسطاً فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام وهذه نصرة عظيمة .
وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه ، أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم ، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( يقول الله تبارك وتعالى : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) (5)، وفي الحديث الآخر (( إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب)) ، ولهذا أهلك الله عز وجل قوم نوح، وعاداً،وثمود، وأصحاب الرس،وقوم لوط، وأهل مدين، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق ، وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين فلم يُهلك منهم أحداً، وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً ، قال السدي : لم يبعث الله عزوجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه ، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق يُقتلون ، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم و يطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا . قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها .
__________
(1) رواه مسلم في الفتن وأشراط الساعة (2889) .
(2) رواه أحمد (4/103)، وهو في السلسلة الصحيحة(3) .
(3) رواه أحمد (4/273)، وهو في السلسلة الصحيحة (5).
(4) تفسير ابن كثير، سورة المجادلة ، الآية: 21 .
(5) رواه البخاري في الرقاق (6502) .(/57)
وهكذا نصر الله نبيه محمداً لله وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه؛ فجعل كلمته هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الأديان ،وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية وجعل له فيها أنصاراً وأعواناً، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم وقتل صناديدهم ، وأسر سراتهم فاستاقهم مقرنين في الأصفاد ، ثم مَنَّ عليهم بأخذه الفداء منهم ، ثم بعد مدة قريبة فتح عليهم مكة فقرت عينه ببلده وهو البلد المحرم الحرم المشرف المعظم ، فأنقذه الله تعالى به مما كان فيه من الكفر والشرك ، وفتح به اليمن ودانت له جزيرة العرب بكمالها ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده فبلغوا عنه دين الله عز وجل ، ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جل وعلا ، وفتحوا البلاد والرساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها ، ثم لا يزال هذا الدين قائماً منصوراً ظاهراً إلى قيام الساعة، ولهذا قال تعالى : (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا ...)) الآية، أي: يوم القيامة يكون النصرة أعظم وأكبر وأجل " (1) اهـ .
ويقول سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ حول هذا المعنى: " إن وعد الله واقع وكلمة الله قائمة (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) [الصافات:171- 173] هذه هي الحقيقة في كل دعوة لله يخلص فيها الجند ويتجرد لها الدعاة أنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق وقامت في طريقها العراقيل ، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار وقوى الدعاية والافتراء،وقوى الحرب والمقاومة ، وإن هي إلا معارك تختلف نتائجها ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله والذي لا يخلف ، ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه ؛ الوعد بالنصر والغلبة والتمكين ، هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية ، سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دورتها المنتظمة ، وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان، وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء ، ولكنها مرهونة بتقدير الله يحققها حين يشاء" .
إلى أن يقول رحمه الله تعالى: "والمؤمن يتعامل مع وعد الله على أنه الحقيقة الواقعة فإذا كان الواقع الصغير في جيل محدود أو في رقعة محدودة يخالف تلك الحقيقة فهذا الواقع هو الباطل الزائل الذي يوجد فترة في الأرض لحكمة خاصة لعل منها استجاشة الإيمان وإهاجته لتحقيق وعد الله في وقته المرسوم ،وحيث ينظر الإنسان اليوم إلى الحرب الهائلة التي شنها أعداء الإيمان على أهل الإيمان في صورها المتنوعة من بطش ومن ضغط ومن كيد بكل صنوف الكيد في عهود متطاولة بلغ في بعضها من عنف الحملة على المؤمنين أن قتلوا وشردوا وعذبوا وقطعت أرزاقهم وسلطت عليهم جميع أنواع النكاية ، ثم بقي الإيمان في قلوب المؤمنين يحميهم من الانهيار ويحمي شعوبهم كلها من ضياع شخصيتها وذوبانها في الأمم الهاجمة عليها ومن خضوعها للطغيان الغاشم إلا ريثما تنقض عليه وتحطمه ، حين ينظر الإنسان إلى هذا الواقع في المدى المتطاول يجد مصداق قول الله تعالى ، يجده في هذا الواقع دون الحاجة إلى الانتظار الطويل (( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) [المجادلة:20،21].
وعلى كل حال فلا يخالج المؤمن شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لابد أن تظهر في الوجود .
إن وعد الله قاطع جازم (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) [غافر:51] بينما يشاهد الناس أن الرسل منهم من يقتل ومنهم من يلقى في الأخدود ومنهم من يستشهد ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، فأين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا ؟ ويدخل الشيطان في النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل ، ولكن الناس يقيسون بظواهر الأمور ويغفلون عن قيم كثيرة وحقائق كثيرة في التقدير!!
إن الناس يعيشون فترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من المكان ، وهي مقاييس بشرية صغيرة ، فأما المقياس الشامل فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ولا بين مكان ومكان ، ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال لرأيناها تنتصر من غير شك ، وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها ، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها ، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم ويبرزوها"(2) ا هـ .
__________
(1) تفسير ابن كثير، سورة غافر ، الآية : 51 .
(2) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص354.(/58)
مما سبق يتببن لنا أهمية اليقين بوعد الله عز وجل فى نصرة أوليائه ، وأنه آت لا محالة ، فإذا تأخر نصر الله عز وجل ، واشتد الكرب علي المؤمنين بتسليط أعدائهم عليهم فإن هذا لا يعنى عدم تحقق وعد الله وعدم مجىء نصره سبحانه ، ولكن لتأخره حكم وأسباب، فبدلاً من اليأس من وعد الله عز وجل بالنصر يجب أن يتوجه البحث والتفكير عن أسباب تأخره التى يجب أن يتوجه الجهد لإزالتها ، وإيجاد المناخ والأسباب التى تهيئ لنصر الله عز وجل .
وقد ذكر سيد قطب ـ رحمه الله تعالى ـ بعض الأمور التي قد يتأخر نصر الله عز وجل بسببها فقال :
? "والنصر قد يبطئ لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً ..
? وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة ، وآخر ما تملكه من رصيد فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً ، لا تبذله هيناً رخيصاً في سبيل الله .
* وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر .. إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله..
? وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر معها قرار ، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه .
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية، وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه ، وأداء ثمنه ، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه ..
? وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهي تعاني وتتألم وتبذل ، ولا تجد لها سنداً إلا الله ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء..وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله.. فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به ..
? وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه ،أو تقاتل حمية لذاتها ،أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها ، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه .
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى ، فأيها في سبيل الله ؟ فقال : (( من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله)) "(1) .
? كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحص خالصاً ، ويذهب وحده هالكاً ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار ..
? وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً ، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه ، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله ، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية"(2)
__________
(1) متفق عليه .
(2) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص359.
تنبيه : وجوب تعرية الباطل :نعم لن تقوم لنا قائمة ويسود ديننا ـ الذي اصطفاه الله لنا ـ قبل تعرية الباطل والكشف عن وجهه الخبيث ، فكم من أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا أجسادهم أجساد إنس وقلوبهم قلوب شياطين ، دعاة على أبواب جهنم من قبل دعوتهم قذفوه فيها . وقد كان دور هؤلاء الشياطين : ضرب الدين بالدين وتزييف الحقائق وقلب الموازين ، فهم يُحسِّنون كل قبيح، ويُقبِّحون كل حسن . كل هذا عن طريق لي أعناق النصوص تارة ، وعن طريق التحريف لها تارة ، وعن طريق التحلل التام من قيودها تارة أخرى . ومن صور قلبهم للحقائق:أن أخرجوا الوثنية في ثوب التوحيد ، والبدعة في لباس السنة، وموالاة اليهود والنصارى تحت شعار التعايش السلمي ، والإخاء ووحدة الأديان ، وكذلك المعاصي والفجور تحت ستار الرقي والتقدم ، والقضاء على حاكمية القرآن لإنهاء التخلف والجمود والرجعية ، وإحلال رايات وثنية ـ مثل القومية العربية والوطنية والعلمانية ـ محل راية التوحيد ، وكذا التولي والخذلان والمهانة مكان الجهاد والنصرة والعزة.. فهؤلاء الشياطين وأعوانهم يجب فضحهم ، وكشف خبث طويتهم وحقدهم اللئيم على الإسلام والمسلمين ، حتى تكفر بهم الأمة ، وتبرأ إلى الله منهم، وتعلم الشعوب كم كانت ضحية لهؤلاء الشياطين يتاجرون بهم لتحقيق مآربهم وحظوظ نفوسهم ، وليعلم الدعاة إلى الله أن فضح وتعرية هؤلاء من أعز مقاصد التشريع امتثالاً لقول مولانا : {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ }، وتحقيقاً لقول الله عز وجل: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } .(/59)
اهـ.
* * *
السنة الثانية
(( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) [الرعد:11].
إن كثيراً من الدعاة والمصلحين ليعلمون هذه السنة العظيمة القدر ، لكن الواقع العملي يغفل في كثير من الأحيان عن هذه السنة ، والتي هي مفتاح النصر والتمكين وهي المدخل لتغيير واقعنا ، حيث قضى الله عز وجل أنه لا يغير أحوال قوم أو أمة حتى يبدأوا هم فيغيروا ما بأنفسهم ويصلحوا أحوالهم، فيغير الله ما بهم ، يأخذ بأيديهم ويعينهم .
وهذا يعني أنه متى تأخر نصر الله عز وجل مع الحاجة الماسة إليه فإن هناك أسباباً في تأخره ولا شك،ومن أهم هذه الأسباب أن الذين يبحثون عن نصر الله تعالى لم يغيروا ما بأنفسهم بعد .
وحينئذ يجب أن تتوجه الجهود إلى العمل الجاد في التغيير الذي يبدأ من داخل النفس ومن داخل الصف المسلم حتى يغير الله عز وجل ما بنا وتتهيأ الأسباب الجالبة لنصر الله تعالى .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل : (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) [الأنفال:53]:يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه لقوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) "(1)اهـ .
وهذه السنة الربانية ذات دلالتين في حالنا وواقعنا المعاصر :
أولاهما : أن التباين الشديد والهوة السحيقة بين الحياة الذليلة المهينة والضعف والانحسار وفقدان الثقة الذاتية مع تلقي المناهج والقيم والشرائع الغربية لتحقيق الذات واستمداد العزة ، وكذلك الهزيمة النفسية التي حلت في جذر قلب الأمة اليوم ،إن الفرق بين حياتنا هذه وبين الحياة العزيزة المهيمنة المستعلية القوية المتملكة لزمام العالم أجمع ، لتلك الحياة التي كانت تُتبع ولا تَتبع وتقود ولا تقاد كانت أبرز سمات عصر سلفنا الصالح ، إن كل هذا التباين الشديد بيننا وبين سلف الأمة خير شاهد ودليل على أننا غيّرنا ما بأنفسنا فغيّر الله حالنا .
ثانيهما: أن حالنا اليوم لن يغيره الله حتى نغيّر ما بأنفسنا من كثرة البدع والشرك بشتى صوره-الجلية و الخفية ، الظاهرة والباطنة -، وكذلك التبعية الغربية النابعة من انحسار الإيمان وعدم الاستعلاء به في النفوس مع فقدان الثقة في نبع عزنا ، وأيضاً محو آثار المعاصي والفجور التي لبست ثوب المباح والتقدم والرقي ، وخلعت لباس التقوى والعزة والكرامة .. مع الفرار مما سبق كله إلى إفراد الله ـ جل ثناؤه ـ بالحب والخوف والإنابة والتلقي والتوجه مع تجريد الولاء لله ولدينه ولرسوله لله وللمؤمنين ، والشعور باستعلاء الإيمان في النفوس والثقة بهيمنة كتابنا وحاكميته المطلقة لكافة شؤون الحياة وأنه نبع العز والتمكين ، وأن تكون تلك هي الراية المعلنة الخالصة من أية إضافة أو شائبة ، فعند هذا يُغيّر الله حالنا .
ويقول صاحب الظلال ، رحمه الله تعالى :
" إن الله تبارك وتعالى يحرض المؤمنين على التجرد له والاتجاه إلى نصرة نهجه في الحياة ،ويعدهم على هذا النصر والتثبيت (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)) [محمد:7، 8] وكيف ينصر المؤمنون الله ؛حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت ؟ إن لله في نفوسهم أن تتجرد له ، وألا تشرك به شيئاً ، شركاً ظاهراً أو خفياً ، وألا تستبقي فيها معه أحداً ولا شيئاً وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى ،وأن تُحكّمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها وسرها وعلانيتها ونشاطها كله وخلجاتها، فهذا نصر الله في ذوات النفوس .
وإن لله شريعة ومنهاجاً للحياة تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة ، ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء فهذا نصر الله في واقع الحياة..
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، سورة الأنفال 53 .(/60)
وإنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين وتمثلت في واقع حياتهم منهجاً للحياة ونظاماً للحكم وتجرداً لله في كل خاطرة وحركة وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة ، فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً..وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها.. ونحن نقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله،إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان ـ إما في الشعور وإما في العمل ـ ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله ، وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة ـ وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ثم يعود النصر للمؤمنين ـ حين يوجدون ..
ففي أحُد مثلاً كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطمع في الغنيمة ، وفي حُنيْن كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ونسيان السند الأصيل، ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم لوجدنا شيئاً من هذا .. نعرفه أو لا نعرفه .. أما وعد الله فهو حق في كل حين .. نعم إن المحنة قد تكون للابتلاء.. ولكن الابتلاء إنما يجيء لحكمة هي استكمال حقيقة الإيمان ومقتضياته من الأعمال. فمتى اكتملت تلك الحقيقة بالابتلاء والنجاح فيه جاء النصر وتحقق وعد الله عن يقين ..
ويجب أن نفهم أن الهزيمة هي هزيمة الروح وكلال العزيمة .. فالهزيمة في معركة لا تكون هزيمة إلا إذا تركت آثارها في النفوس هموداً وكلالاً وقنوطاً ، فأما إذا بعثت الهمة وأذكت الشعلة وبصرت بالمزالق وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة وطبيعة الطريق.. فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد والله سبحانه يقول: (( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)) [النساء:141]وإنما يشير سبحانه إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر والفكرة المؤمنة هي التي تسود . وإنما يدعو سبحانه الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها تصوراً وشعوراً ، وفي حياتها واقعاً وعملاً.. وألا يكون اعتمادها كله على عنوانها . فالنصر ليس للعناوين وإنما هو للحقيقة التي وراءها .. وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك .
ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة . ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء وألا نطلب العزة إلا من الله ، ووعد الله هذا الأكيد يتفق تماماً مع حقيقة الإيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون ، إن الإيمان صلة بالقوة الكبرى التي لا تضعف ولا تفنى ، وإن الكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها ، ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون ، غير أنه يجب أن نفرق دائما بين حقيقة الإيمان ومظهر الإيمان ..
إن حقيقة الإيمان قوة حقيقية ثابتة ثبوت النواميس الكونية ذات أثر في النفس وفيما يصدر عنها من الحركة والعمل.وهي حقيقة ضخمة هائلة كفيلة حين تواجه حقيقة الكفر المنعزلة المبتوتة المحدودة أن تقهرها . ولكن حين يتحول الإيمان إلى مظهر فإن حقيقة الكفر تغلبه إذا هي صدقت مع طبيعتها وعملت في مجالها ؛ لأن حقيقة أي شيء أقوى من مظهر أي شيء ، ولو كانت هي حقيقة الكفر وكان هو مظهر الإيمان، إن قاعدة المعركة لقهر الباطل هي إنشاء الحق وحين يوجد الحق بكل حقيقته وبكل قوته يتقرر مصير المعركة بينه وبين الباطل مهما يكن هذا الباطل من الضخامة الظاهرية الخادعة للعيون (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)) [الانبياء :18].
والنصر الأخير مرتبط بالنصر الأول، فما يتحقق النصر في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير ، وما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن ..
إن للحق والإيمان حقيقة متى تجسمت في المشاعر أخذت طريقها فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية ، فإذا ظل الإيمان مظهراً لم يتجسم في القلب ، والحق شعاراً لا ينبع من الضمير ، فإن الطغيان والباطل قد يغلبان ؛لأنهما يملكان قوة مادية حقيقية لا مقابل لها ولا كفاء في مظهر الحق والإيمان،يجب أن تتحقق حقيقة الإيمان في النفس وحقيقة الحق في القلب ، فتصبحان أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل ، ويصول بها الطغيان"(1)اهـ .
ونختم الحديث حول هذه السنة بكلام بديع لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ، ننقله بطوله لعظيم فائدته ـ حيث يقول :
__________
(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن ، ص248.(/61)
"ولكن تُذكر هنا نكتة نافعة، وهو أن الإنسان قد يسمع ويرى ما يصيب كثيراً من أهل الإيمان والإسلام في الدنيا من مصائب،وما يصيب كثيراً من الكفار والفجار في الدنيا من الرياسة والمال وغير ذلك ، فيعتقد أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور، وأن المؤمنين ليس لهم في الدنيا ما يتنعمون به إلا قليلاً ، وكذلك قد يعتقد أن العزة والنصرة قد تستقر للكفار والمنافقين على المؤمنين ، وإذا سمع ما جاء في القرآن من أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين،وأن العاقبة للتقوى ، وقول الله تعالى : ((وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) [الصافات:173]-وهو ممن يصدِّق بالقرآن-حمل هذه الآيات على الدار الآخرة فقط ، وقال: أما في الدنيا فما نرى بأعيننا إلا أن الكفار والمنافقين فيها يظهرون ويغلبون المؤمنين ، ولهم العزة والنصرة ، والقرآن لا يَرد بخلاف المحسوس ، ويعتمد على هذا فيما إذا أديل عليه عدو من جنس الكفار والمنافقين أو الظالمين، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى ، فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق ، فيقول : أنا على الحق وأنا مغلوب ، وإذا ذكره إنسان بما وعده الله من حسن العاقبة للمتقين، قال: هذا في الآخرة فقط .
وإذا قيل له: كيف يفعل الله بأوليائه مثل هذه الأمور ؟ قال: يفعل ما يشاء ، وربما قال بقلبه أو لسانه ، أو كان حاله يقتضي أن هذا من نوع الظلم، وربما ذكر قول بعضهم : ما على الخلق أضر من الخالق ، لكن يقول : يفعل الله ما يشاء . وإذا ذُكِّر برحمة الله وحكمته لم يقل إلا أنه يفعل ما يشاء، فلا يعتقدون أن صاحب الحق والتقوى منصور ومؤيد ، بل يعتقدون أن الله يفعل ما يشاء .
وهذه الأقوال مبنية على مقدمتين :
إحداهما : حسن ظنه بدين نفسه نوعاً أو شخصاً،واعتقاد أنه قائم بما يجب عليه ، وتارك ما نُهي عنه في الدين الحق ، واعتقاده في خصمه ونظيره خلاف ذلك: أن دينه باطل نوعاً أو شخصاً ، لأنه ترك المأمور وفعل المحظور.
والمقدمة الثانية : أن الله قد لا يؤيد صاحب الدين الحق وينصره. وقد لا يجعل له العاقبة في الدنيا ، فلا ينبغي الاغترار بهذا .
والمقدمتان اللتان بنيت عليهما هذه البلية مبناهما على الجهل بأمر الله
ونهيه، وبوعده ووعيده . فإن صاحبهما إذا اعتقد أنه قائم بالدين الحق ، فقد اعتقد أنه فاعل للمأمور ، وتارك للمحظور، وهو على عكس ذلك، وهذا يكون من جهله بالدين الحق .
وإذا اعتقد أن صاحب الحق لا ينصره الله في الدنيا ، بل قد تكون العاقبة في الدنيا للكفار على المؤمنين،ولأهل الفجور على أهل البر ، فهذا من جهله بوعد الله تعالى .
أما الأول: فما أكثر من يترك واجبات لا يعلم بها ولا بوجوبها ، وما أكثر من يفعل محرمات لا يعلم بتحريمها، بل ما أكثر من يعبد الله بما حرم ويترك ما أوجب، وما أكثرمن يعتقد أنه هو المظلوم المحق من كل وجه، وأن خصمه هو الظالم المبطل من كل وجه ، ولا يكون الأمر كذلك ، بل يكون معه نوع من الباطل والظلم، ومع خصمه نوع من الحق والعدل .
وحبك الشيء يعمي ويصم، والإنسان مجبول على محبة نفسه ، فهو لا يرى إلا محاسنها ، ومبغض لخصمه، فلا يرى إلا مساوئه ، وهذا الجهل غالبه مقرون بالهوى والظلم ، فإن الإنسان ظلوم جهول .
وأكثر ديانات الخلق إنما هي عادات أخذوها عن آبائهم وأسلافهم ، وتقليدهم في التصديق والتكذيب، والحب والبغض ، والموالاة والمعاداة .
كما قال تعالى : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ )) [لقمان:21]. وقال تعالى : (( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا )) [الأحزاب:66، 67].
وقال تعالى : (( وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ)) [الشورى:14].
وأما الثاني: فما أكثر من يظن أن أهل الدين الحق في الدنيا يكونون أذلاء معذبين بما فيه،بخلاف من فارقهم إلى طاعة أخرى أو سبيل آخر،ويكذب بوعدالله بنصرهم.
والله سبحانه قد بين بكتابه كلا المقدمتين فقال تعالى: (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)) [غافر:51].
وقال تعالى في كتابه : (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) [الصافات:171- 173].(/62)
وقال تعالى في كتابه : (( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)) [المجادلة:5].
وقال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) [المجادلة:20، 21].
وقال تعالى في كتابه : (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)) [المائدة:55، 56].
وقال تعالى في كتابه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)) [الأنفال:29].
وقال تعالى في كتابه : (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)) [الطلاق:2، 3].
وقد روي عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لوسعتهم )) رواه ابن ماجه وغيره(1).
وأخبر أن ما يحصل لهم من مصيبة انتصار العدو وغيرها ، إنما هو بذنوبهم ، فقال تعالى في يوم أحد : (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ )) [آل عمران:165].
وقال تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ)) [آل عمران:155].
وقال تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) [الشورى:30].
وقال تعالى : (( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ )) [النساء:79].
وقال تعالى : (( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)) [الروم:36].
وقال تعالى : (( أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا )) [الشورى:34].
وذم في كتابه من لا يثق بوعده لعباده المؤمنين،وذكر ما يصيب الرسل والمؤمنين فقال تعالى: ((إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ
الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً* وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً)) [الأحزاب:10-14].
وقال تعالى : (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) [البقرة:214].
وقال تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ* حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [يوسف:109- 111].
__________
(1) رواه ابن ماجه في الزهد (4220)، ورواه أيضاً الإمام أحمد (5/178) بلفظ : " لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لكفتهم " ، وقال الألباني في مشكاة المصابيح : إنه ضعيف .(/63)
ولهذا أمر الله رسوله والمؤمنين باتباع ما أنزل إليهم، وهو طاعته ، وهو المقدمة الأولى. وأمرهم بانتظار وعده ،وهي المقدمة الثانية . وأمرهم بالاستغفار والصبر، لأنهم لابد أن يحصل لهم تقصير وذنوب فيزيله الاستغفار ، ولابد مع انتظار الوعد من الصبر ، فبالاستغفار تتم الطاعة ، وبالصبر يتم اليقين بالوعد ، وإن كان هذا كله يدخل في مسمى الطاعة والإيمان .
قال تعالى (( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ)) [يونس:109].
وقال تعالى : (( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ)) [الأنعام:34].
وقال تعالى : (( فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )) [هود:49].
وأمرهم أيضاً بالصبر إذا أصابتهم مصيبة بذنوبهم ، مثل ظهور العدو ، وكما قال تعالى في قصة أحد : (( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ))
[آل عمران: 139 – 141].
وأيضاً فقد قص سبحانه في كتابه نصره لرسله ولعباده المؤمنين على الكفار في قصة نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وفرعون وغير ذلك . وقال تعالى: (( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)) [يوسف:111].
وقال تعالى: (( وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ)) [النور:34].
وهذا يتبين بأصلين :
أحدهما: أن حصول النصر وغيره من أنواع النعيم لطائفة أو شخص لا ينافي ما يقع في خلال ذلك من قتل بعضهم وجرحه ومن أنواع الأذى، وذلك أن الخلق كلهم يموتون ، فليس في قتل الشهداء مصيبة زائدة على ما
هو معتاد لبني آدم ، فمن عد القتل في سبيل الله مصيبة مختصة بالجهاد كان من أجهل الناس ، بل إن الفتن التي تكون بين الكفار وتكون بين المختلفين من أهل القبلة ليس مما يختص بالقتال ، فإن الموت يعرض لبني آدم بأسباب عامة ، وهي المصائب التي تعرض لبني آدم من مرض بطاعون وغيره ، ومن جوع وغيره . وبأسباب خاصة ، فالذين يعتادون القتال لا يصيبهم أكثر مما يصيب من لا يقاتل ، بل الأمر بالعكس ، قد جرَّبه الناس .
ثم موت الشهيد من أيسر الميتات،ولهذا قال سبحانه وتعالى : ((قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً* قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً)) [الأحزاب:16، 17].
فأخبر سبحانه أن الفرار من القتل أو الموت لا ينفع ، فلا فائدة فيه ، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلاً ، إذ لابد من الموت.
وأخبر أن العبد لا يعصمه من الله أحد إن أراد به سوءاً أو أراد به رحمة وليس من دون الله ولي ولا نصير، فأين نَفرُّ من أمره وحكمه؟ ولا ملجأ منه إلا إليه،قال تعالى: (( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) [الذريات:50]
وهذا أمر يعرفه الناس من أهل طاعة الله وأهل معصيته ، كما قال أبو حازم الحكيم : " لما يلقى الذي لا يتقي الله من معالجة الخلق أعظم مما يلقاه الذي يتقي الله من معالجة التقوى ".
والله تعالى قد جعل أكمل المؤمنين إيماناً أعظمهم بلاء، كما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -:أي الناس أشد بلاء؟ قال: (( الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلي الرجل علي حسب دينه ، فإن كان فى دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان فى دينه رقة خُفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي
على الأرض وليس معه خطيئة )) (1) .
والجهاد للكفار أصلح من هلاكهم بعذاب سماء من وجوه:
أحدها : أن ذلك أعظم في ثواب المؤمنين وأجرهم وعلو درجاتهم ، لما يفعلونه من الجهاد في سبيل الله ، لأن تكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله .
الثاني : أن ذلك أنفع للكفار أيضاً ، فإنهم يؤمنون من الخوف ، ومن أُسر منهم وِسيمَ من الصغار يسلم أيضاً ، وهذا من معنى قوله تعالى: (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ )) [آل عمران:110].
__________
(1) رواه الترمذي في الزهد(2400)، وابن ماجه في الفتن (4023) وهو في السلسلة الصحيحة (143) .(/64)
قال أبو هريرة : " وكنتم خير الناس للناس تأتون بهم من الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة "، فصارت الأمة بذلك خير أمة أخرجت للناس ، وأفلح بذلك المقاتَلون ، وهذا هو مقصود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا من معنى كون محمد صلى الله عليه وسلم ما أرسل إلا رحمة للعالمين ، فهو رحمة في حق كل أحد بحسبه حتى المكذبين له ، هو في حقهم رحمة أعظم مما كان غيره .
ولهذا لما أرسل الله إليه ملك الجبال وعرض عليه أن يقلب عليهم الأخشبين قال : (( لا ، استأن لهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له)) (1) .
الوجه الثالث : أن ذلك أعظم عزة للإيمان وأهله ، وأكثر لهم ، فهو يوجب من علو الإيمان وكثرة أهله ما لا يحصل بدون ذلك ، وأمر المنافقين الفجار بالمعروف ونهيهم عن المنكر هو من تمام الجهاد وكذلك إقامة الحدود.
ومعلوم أن في الجهاد وإقامة الحدود من إتلاف النفوس والأطراف والأموال ما فيه ، فلو بلغت هذه النفوس النصر بالدعاء ونحوه من غير جهاد ، لكان ذلك من جنس نصر الله للأنبياء المتقدمين من أممهم لمّا أهلك نفوسهم وأموالهم .
وأما النصر بالجهاد وإقامة الحدود فذلك من جنس نصر الله لما يختص به رسوله، وإن كان محمد صلى الله عليه وسلم وأمته منصورين بالنوعين جميعاً ، لكن يشرع في الجهاد باليد ما يشرع في الدعاء"(2) ا هـ .
* السنة الثالثة *
بالجمع بين السنة الأولى والثانية تظهر معالم هذه السنة، وذلك لو أن الناس لم يغيروا ما بأنفسهم، فهل معنى هذا أن نصر الله عز وجل لن يأتي ؟
والجواب: كلا، فلا بد من أن يأتي نصر الله عز وجل، كما تقرر ذلك في السنة الأولى ولكن يقف في سبيل ذلك عدم الأخذ بالسنة الثانية في التغيير.وفي هذه الحالة تأتي سنة الله عز وجل الثالثة والمتضمنة تبديل من رفضوا تغيير ما بأنفسهم وواقعهم بجيل يحبهم الله عز وجل ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون في الله لومة لائم. فيحققون بذلك أسباب النصر، فينزل الله عز وجل عليهم نصره ويشرفهم به.
وهذا كثير في كتاب الله عز وجل حيث يقول سبحانه: (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) [محمد:38]، ويقول تعالى: (( إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ )) [التوبة:39] ، ويقول جل شأنه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) [المائدة:54].
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية :»يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته ، فإن الله يستبدل من هو خير لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلاً "(3) .
* * *
محصلة السنن الثلاث :
إن نصر الله عز وجل آت لا محالة ، ولكن له أسباب وسنن وهو يبدأ من تغيير الناس ما بأنفسهم أولاً حتى يغير الله عز وجل ما بأرضهم ويمكن لهم دينهم ، وإنهم إن لم يغيروا ما بأنفسهم فإن هذا لا يعني عدم مجيء نصر الله عز وجل ، وإنما يستبدل الله عز وجل قوماً آخرين يحققون أسباب النصر والتغيير ويشرفهم سبحانه بأن ينزل عليهم نصره المبين ، ويدفع بهم الفساد ، ويعذب الكافرين بأيديهم .
وبعد إيضاح هذه السنن وعلاقة بعضها ببعض يحسن بنا أن نذكر جملة من العوائق في طريق النصر حتى يتوقاها المسلمون ويكونوا منها على بينة وبصيرة .
* * *
عوائق في طريق النصر
إن العوائق والتحديات التي تعترض سبيل الدعوة اليوم كثيرة جداً بعضها أخطر من بعض ، وقد أدت هذه العوائق ببعض النفوس إلى داء خطير إذا حل في النفوس حطمها وأذلها ، ألا وهو اليأس أو الهزيمة النفسية من الداخل ، وهذا الداء هو في حد ذاته من أكبر العوائق .
وقد حذر الله عز وجل من هذا الداء أن يتسرب إلى نفوس المؤمنين به سبحانه ، لأن بمجرد دخول الإيمان إلى القلوب ينفي الهوان والذلة والضعف عنها،ويورثها القوة والعزة والكرامة مهما كانت الظروف التي تعيشها هذه القلوب المؤمنة من تشريد أو سجن أو تعذيب . فغاية ما يملكه المتسلطون هو الجسد فقط ، أما القلب المعمور بالإيمان ففيه قوة الإيمان التي تستعلي على كل ابتلاء وهزيمة واستضعاف .
__________
(1) رواه البخاري بنحوه في بدء الخلق (3231)، ومسلم في الجهاد (1795) .
(2) جامع الرسائل ، جـ 2 الرسالة الثالثة ( قاعدة في المحبة )، ص324 – 339 .
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ، سورة المائدة ، الآية : 54 .(/65)
والله سبحانه يقول للمؤمنين وقد أصابهم القرح في أحد : (( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [آل عمران:139]، فلا يجتمع الوهن والاستكانة مع الإيمان الحقيقي أبداً .
وقال أيضاً في هذا المقام: (( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) (1) [آل عمران:146، 147] .
فتأمل وصفه تعالى للربيين عند حلول المصيبة بأنهم ما ضعفوا .. وما استكانوا .. وما وهنوا .. فكيف بعد هذا للهوان أو اليأس أن يتطرق إلى قلوب المؤمنين في أي ظرف من الظروف وهم يملكون الإيمان الذي يرفعهم على كل هزيمة وكيد ومكر ؟
وبعد هذه التوطئة التي لا بد منها نعود إلى ذكر أهم هذه العوائق التي تقف في طريق النصر والتي يمكن إجمالها في :
1ـ العوائق الخارجية .
2ـ العوائق الداخلية .
أولاً ـ العوائق الخارجية :
ويقصد بها تلك العوائق والتحديات الواردة من خارج الصف الإسلامي وذلك من أعداء هذا الدين والمتمثلين فيما يلي :
1ـ الكفار الصرحاء الذين أسفروا عن عدائهم وحقدهم على الإسلام وأهله كاليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم .
2ـ المنافقون المظهرون للإسلام والمبطنون للكفر والزندقة ، وهؤلاء من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا كما هو الحال من العلمانيين و الباطنيين الذين يكيدون لهذا الدين ويوالون أعداءه من اليهود والنصارى .
3ـ الأنظمة الحاكمة في أكثر بلدان المسلمين التي وجهت عداءها وكيدها على شعوبها المسلمة باسم مكافحة التطرف والإرهاب فأكثروا في الأرض الفساد ووقفوا في وجه كل حركة إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ثانياً ـ العوائق الداخلية :
ويقصد بها العوائق التي توجد داخل الصف المسلم من الانحراف الموجود في الفهم أو القصد ، وهذه العوائق تتمثل فيما يلي :
1ـ عوائق داخل الصف الإسلامي للدعاة تتمثل في الفُرقة المشينة والاختلاف والشحناء والبغضاء .
2ـ عوائق داخل نفوس أفراد الدعوة من أمراض وأدران وركون إلى الدنيا وتحاسد ورياء وكبر .. إلخ .
وبمقارنة العوائق الواردة من الخارج بالعوائق الواردة من داخل الصف الإسلامي يظهر لنا خطورة العوائق الداخلية وأثرها في تأخر نصر الله عز وجل ، ولولم توجد العوائق الداخلية لما كان للعوائق الواردة من الخارج أن تؤثر بكيدها ومكرها في الصف الإسلامي والمجتمع المسلم .
قال تعالى : (( إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) [آل عمران:120].
ففي هذه الآية الكريمة يعلمنا الله عز وجل أن كيد العدو الخارجي لا يضر المؤمنين شيئاً إذا اتصفوا بالصبر والتقوى ، لأن الله عز وجل محيط بعمل الكفار وتخطيطهم ، وهم في قبضته والعكس بالعكس فمتى ظهر كيد الكفار في الصف المسلم فإن هذا دليل على ضعف الصبر والتقوى ، ويؤكد هذا المعنى أيضاً قوله تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) [الرعد: 11].
مما سبق يتبين لنا خطورة العوائق الداخلية وأن التغيير المنشود في الأرض يبدأ من التغيير في النفس وتفقدها سواءً في سلامة الفهم والمعتقد أو في سلامة المقصد والنوايا ، وأن أي خلل في الفهم والقصد يظهر أثره في تسلط الأعداء وتأخر نصر الله عز وجل .
إنه بدلاً من أن نسقط أسباب ضعفنا ومهانتنا على عدونا الخارجي ؛ يجب علينا أن نرجع إلى أنفسنا ونتوجه إلى إصلاحها وإصلاح ذات بيننا حتى نكون أهلاً لنصر الله عز وجل وحتى يغير الله ما بنا .
__________
(1) إن هذه الآية ترسم الموقف الشرعي حال الاستضعاف والهزيمة حيث يتمثل في أربعة معالم أساسية :
أ ـ الحذر من الهوان والذلة والاستكانة عند الهزيمة ، لأن المؤمن يركن إلى من بيده ملكوت كل شيء .
ب ـ مراجعة النفس لأنها في الغالب منها المصائب والهزائم وذلك من ذنوبها وإسرافها في أمرها ، وهذا هو الذي فعله الربيون عندما أصابهم القرح {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}الآية.
جـ ـ الصبر الجميل في مثل هذه الظروف ، ودعاء الله عز وجل، وهذا ما مدحهم الله عز وجل به حيث قال في آخر الآية:{والله يحب الصابرين}.
د ـ دعاء الله عز وجل بالثبات على الدين والانتصار على الكافرين.(/66)
إن إصلاح النفوس وإقامة حكم الله فيها عقيدة وعبادة وسلوكاً هو الطريق إلى إقامة حكم الله في الأرض .. وإلا فما قيمة المطالبة بإقامة حكم الله في الأرض واستعجال نصر الله تعالى ، ولما تستقم النفوس على منهج الله تعالى وتنقد له؟!
وما أحسن مقولة من قال : " أقيموا دولة الإسلام في نفوسكم تقم على أرضكم " .
إن المسلم العارف لسنن الله عز وجل في التغيير ليتألم من حالنا وواقعنا وما حل بيننا من فرقة وشحناء وأهواء، ويتساءل بمرارة كيف يأتي نصر الله عز وجل في هذه الظروف والله عز وجل يقول : (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [الأنفال: 46]؛ هذا على مستوى الدعاة والجماعات ؟ !!
أما إذا جئنا إلى نفوس الدعاة كأفراد فإن المراقب لواقعنا وأخلاقنا واهتماماتنا لا ينقضي عجبه وهو يرى ذلك التناقض بين ما يدعو إليه الداعية وبين سلوكياته وأخلاقه ، وبالتالي يتكرر نفس السؤال المطروح آنفاً، كيف ينزل نصر الله عز وجل على أناس هذه أخلاقهم وتلك تضحياتهم وهذه مقاصدهم ؟!!
يقول الدكتور محمد أمين المصري ـ رحمه الله تعالى ـ حول هذا الموضوع:
"إن الأعداء في الخارج يرقبون حركات المسلمين ويتربصون بهم الدوائر ويكيدون لهم كيداً، ويمكرون بهم مكر الليل والنهار، ومرجع هذا الصراع إلى عصور مترامية تمتد إلى الحين الذي دكت فيه عروش القياصرة والأكاسرة وامتد حكم الإسلام إلى أطراف العالم ؛ فهنالك الحركة الصليبية، وهنالك الصهيونية والاستعمار الغربي والشرقي وهؤلاء جميعاً يختلفون فيما بينهم ولكنهم يصطلحون على حرب المسلمين ، ويجمعون أمرهم كيلا تقوم للمسلمين قائمة ولا تجتمع لهم كلمة . ويعتبر هذا الجانب خارجياً ، وهو
ـ وإن بلغ ذروة الكيد ـ ليس أكبر الجانبين أهمية بل هو ـ كما سنرى ـ نتيجة تابعة للعامل الثاني الذي هو الجانب الداخلي وهو المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون ، وهنا نجد عقبات في الأفراد أنفسهم وفي تنشئتهم وتربيتهم .
وليس من شك في أن أكبر الأخطار التي تواجه المسلمين اليوم كامنة في النقص في تربية أفراد المسلمين أنفسهم، والضعف الذي أصيب به شبابهم
وأكبر المصائب أن يصاب الفرد بنفسه؛ذلك لأن معالجة أي خطر ممكنة ميسرة حينما تكون تربية الأفراد تربية قوية تستطيع أن تجابه المصاعب وتصمد للحوادث .
ومن عادة الضعيف أن يلقي بأسباب ضعفه على عوامل خارجية يدَّعي أنه لا يملك التصرف فيها ليسوغ لنفسه ما هو فيه ، ولقد اعتدنا أن نفعل ذلك وأن نلقي تبعات ما نحن فيه من ضعف وتقصير على الاستعمال أولاً ، وعلى الماضي ثانياً ، وعلى مجتمعنا ثالثاً ، ولا يخطر ببال أحدنا أن يجعل نفسه مركز الاتهام بينما يجعل القرآن العامل الأساسي فيما يصيب الإنسان من مصيبة هو نفسه ، قال تعالى: (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) . (آل عمران:165 ) .
يبين الله تعالى بشأن بني النضير حين غلبهم المسلمون أنهم أُتوا من حيث لم يحتسبوا وكان ذلك من قِبل أنفسهم . قال تعالى : (( مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ)) [الحشر:2].
لم يؤت هؤلاء من نقص في ذخيرتهم أو عددهم أو حصونهم ، ولكنهم أُتوا من قِبل أنفسهم ، أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن فى قلوبكم الوهن . قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت)) (1).
الحديث الكريم يخبر عن سنة عميقة من سنن الاجتماع تبين ما تنتهي إليه الجماعة حين تفسد فطرته وتملأ الدنيا قلوب أفرادها ، ولقد كشف هذه الحقيقة الباحثون المحدثون لدراسة الجماعات وعوامل انحطاطها. قال أحد هؤلاء : إن الأسباب الحقيقية لكل انحطاط داخلية لا خارجية . وليس علينا أن نلوم العواصف حين تحطم شجرة نخرة في أصولها ، إنما اللوم على الشجرة النخرة نفسها .
والقرآن الكريم يهدي إلى هذه السنة ويبين للناس بأنَّ ما يقع على الأمم من ظلم واضطهاد مرجعه إلى الناس أنفسهم وما كسبت أيديهم ، ولذا نجد التعبير بظلم النفس يتكرر في مواطن كثيرة في القرآن الكريم يقول تعالى: (( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) [النحل:118].
والأمة التي تصاب بأبنائها هي التي تتعرض للمصائب والنكبات وتصبح عرضة لغزو العدو .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم (4297). وهو في صحيح سنن أبي داود (3610) .(/67)
فهي إذن عوامل ثلاثة تعمل معاً :عدو خارجي متربص، ومجتمع، وأفراد . والمكانة التي تشغلها الأمة من محصلة هذه العوامل الثلاثة ، فقد تكون بسبب ضعفها الداخلي مغزوة من الخارج، وقد تكون بسبب قوتها الداخلية وتماسك مجتمعها غازية في الخارج.
وليست الحياة إلا صراعاً تقاوم فيه الصعوبات التي تتحدى الفرد والجماعة ثم تكون الغلبة والانتصار أو الاستسلام والهزيمة تلك سنة الله منذ بدء الخليقة (1) اهـ.
* * *
المعالم الرئيسية لمنهج التغيير الصحيح
إن عدم الانتباه لسنن الله عز وجل السابق ذكرها في التغيير مع العوائق الشديدة التي تواجه الدعاة إلى الله عز وجل في طريقهم قد يؤدي ذلك كله ببعض الطيبين -وقد أدى-إلى اليأس والإحباط حتى ألقى بيديه ينتظر خارقة أو مهدياً (2) ينصر الله به دينه، كما أدى ذلك بالبعض الآخر إلى أن يظن الحل يكمن في التنازل للأعداء والرضا بالحلول الوسط فدخل في تحالفات أو مجالس وبرلمانات ليحقق بذلك بعض المكاسب للدعوة أو يدفع بعض
المفاسد عنها .
وفي المقابل نشأ فريق آخر يرى المواجهة واستعجال النصر ولكن قبل أوانه . كل ذلك ـ والله أعلم ـ نشأ من الضغوط الشديدة من العوائق الخارجية والداخلية وإغفال سنن الله عز وجل في التغيير .
وإن الحل لواقعنا المرير هو المنهج الصحيح في التغيير والذي يكمن في منهج الرسول لله وبالذات في بدء الدعوة واستضعافها . وباستقراء معالم هذا المنهج الكريم يتبين أن أهمها ما يلي:
1ـ الانطلاق في الدعوة إلى الله عز وجل من أصلين عظيمين أمر الله عز وجل نبيه محمداً لله أن ينطلق بهما وهذان الأصلان مذكوران في سورة مكية حيث يقول الله عز وجل: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [يوسف:108] .
فقد حددت هذه الآية الكريمة صفات الدعوة الصالحة المقبولة عند الله عز وجل وأنها هي التي ترتكزعلى هذين الأصلين العظيمين وهما :
الأصل الأول: (( أَدْعُو إِلَى اللَّهِ )) والمراد من ذلك الدعوة إلى التوحيد بادئ ذي بدء(3) والموالاة والمعاداة على أساسه ، والإخلاص والصدق في
الدعوة وأن المراد منها وجه الله عز وجل وإخلاص العبادة له وتوحيده وأنه لا يدعو إلى شيء إلا إلى الله عز وجل لا إلى شخص أو حزب أو راية أو أي غرض من أغراض الدنيا ، والمراد من هذا الأصل سلامة القصد .
الأصل الثاني : (( عَلَى بَصِيرَةٍ)) : أي أن تكون الدعوة على بصيرة وعلم ودليل واتباع للرسول لله والمراد من هذا الأصل سلامة الفهم .
فإذا انطلقت الدعوة إلى الله عز وجل من قصد سليم وفهم سديد فهذه هي الدعوة الموفقة الموافقة لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) من كتاب المسؤولية – الدكتور / محمد أمين المصري، ص13 .
(2) المهدي حقيقة ثابتة نؤمن بها حيث ورد ذكره في أحاديث كثيرة أوصلها بعض العلماء إلى حد التواتر ، ولكن المؤمن بوعد الله عز وجل يوقن بانتصار هذا الدين ولا يربطه بخروج المهدي ، وإنما يربطه بأسبابه الشرعية. صحيح أن الانتصار النهائي الشامل لن يكون -والله أعلم- إلا بعد خروجه لكن المهدي حينها لن يخرج على الدنيا وحده ، وإنما لا بد وأن فئة من المؤمنين قد تهيأت لمخرجه وأعدت نفسها بكل ما تعني كلمة الإعداد من معنى .أما الذين أهملوا أنفسهم وركنوا لدنياهم ولم يعدوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله عز وجل سواء مع المهدي أو مع أي مصلح آخر فسوف يكونون أبعد الناس عن اتباعه ولو ظهر على يديه الخوارق المعجزات . إن الخوارق والمعجزات لم تنفع بني إسرائيل عندما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون معه مع أن الله عز وجل قد أيده بمعجزة التابوت الذي فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة ، ومع ذلك فقد نكل أكثرهم ولما عرضهم على النهر شربوا منه إلا قليلاً منهم، والقليل منهم لما برزوا لجالوت وجنوده : {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ } ، فالعبرة إذن ليست بخروج المهدي وخروج الخوارق وأن الناس سيتبعونه إذا رأوا ذلك منه .. كلا لن يثبت ويواصل السير إلا من وفقه الله عز وجل وكان له حظ من التربية على الإيمان والصبر واليقين .
(3) أورد الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى هذه الآية في كتاب التوحيد باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ليدلل على أهمية التوحيد وأنه أول ما يدعى الناس إليه، كما أنه استدل من هذه الآية أيضاً على وجوب التجرد لله سبحانه وتعالى في الدعوة إليه ، وأن تكون الدعوة خالصة له وحده ، فذكر رحمه الله تعالى في مسائل الباب حول هذه الآية قوله : التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه .(/68)
إذن فعلينا معاشر الدعاة إلى الله عز وجل أن نعيد النظر في مقاصدنا وفهومنا، إذ إن نصر الله عز وجل لا ينزل إلا على قوم قد صحت مقاصدهم فأخلصوا لله دعوتهم وعبوديتهم ، وصحت فهومهم بالسير على ما كان عليه الرسول- صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام عقيدة وعبادة وسلوكاً، أما إذا تأخر نصر الله تعالى فهذا دليل على خلل في القصد أو خلل في الفهم وعندئد يجب تلافي هذا الخلل والانسجام مع سنن الله عز وجل في التغيير (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) [الرعد: 11].
2ـ إيمان بالله عز وجل وبوعده الذي لا يتخلف وأن نصره تعالى لعباده المؤمنين آت لا محالة ، وأن نوقن بذلك كما نرى الشمس في رابعة النهار . وهذا ما كان يربى النبي لله عليه أصحابه وهم في حالة استضعاف وإيذاء، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لخباب بن الأرت عندما جاءه يشكو إليه أذى المشركين ويطلب نصر الله تعالى : (( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتي يسير الراكب من صنعاء إلي حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب علي غنمه ، ولكنكم تستعجلون)) (1) .
3 ـ السعي إلى توحيد صفوف أهل السنة ورأب الصدع وتأليف القلوب وتحقيق معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالحمى والسهر)) (2) .
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك بين أصابعه)) (3) ، فهل هذه المعاني العظيمة متحققة الآن بين الدعاة المؤمنين أم أن الحاصل هو الفرقة والاختلاف ؟!
إن الله عز وجل قد حذرنا من التنازع والتفرق وأخبرنا أن الفشل والهزيمة وتغلب الأعداء ثمرة حتمية للتنازع ، قال تعالى : (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [الأنفال: 46]، فكيف نرجو نصراً ونحن بهذه الحالة ؟!
إن الواجب على كل مؤمن صادق مخلص أن يسعى جاهداً للوحدة والائتلاف ويكره وينبذ الفرقة والاختلاف، وإن لم يستطع جمع الكلمة فلا أقل من أن يكفَّ شره ولا يفرق ، فمن استطاع أن يجمع فليفعل ، ومن لم يستطع فلا يفرق فهذا منه خير .
كما يجب على الدعاة المخلصين المتبعين للسنة أن يتعاونوا بينهم وأن
يتركوا التلاوم والنقد فيما يسعه الاختلاف،وأن يقدر كل منهم الآخر ويذكر له خيره وجهده وأن يكمل بعضهم بعضاً، لا أن يضاد بعضهم بعضاً ويُسفِّه بعضهم البعض الآخر، ويحتقر جهده، ويسيء الظن به، فهذا كله من الشيطان الذي لا يفتأ يسعى للتحريش والتفريق بين المؤمنين .
4 ـ التربية الجادة للنفوس وإحياء السلوك الإسلامي وأخلاق السلف الفاضلة والقضاء على الرواسب والأخلاق الرديئة وهذا يحتاج إلى صبر طويل وجهد كبير .
5 ـ التركيز على الجانب العبادي وتكثيفه كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي عليه أصحابه في مكة من صلاة الليل والذكر وغيره ، والتربية على الزهد في الدنيا وإنشاء همّ الآخرة وانتظار موعود الله عز وجل فيها .
6 ـ توطين النفوس على الصبر على البلاء ، والنَفَس الطويل وعدم العجلة في ذلك حتى يتم صقلها وتمحيصها وأن تربى على الانطلاق من الشريعة وقواعدها لا من ردود الفعل والعواطف الملتهبة وهذا يحتاج إلى تربية طويلة وصبر جميل ودعوة هادئة مستمرة يتم فيها إبلاغ الناس بدين الله عز وجل وتهيئة الأوضاع للتغيير المنشود. كما هو الحال في العهد المكي الذي ظهرت فيه هذه المعاني بوضوح وجلاء ؛ليهلك من هلك عن بينة ويحىا من حيَّ عن بينة .
7 ـ توسيع نطاق الدعوة إلى الله عز وجل والبلاغ العام لكافة الطبقات وإقامة الحجة وتعرية الباطل باللسان والبيان .
8 -إعداد النفوس للجهاد في سبيل الله عز وجل والذي هو ذروة سنام
هذا الدين وهو ثمرة الفهم الصحيح والقصد الصحيح والصبر الطويل في التربية عليهما .
فلابد من الاستعداد والإعداد له ، فنحن نوقن تمام اليقين أنه لا يرفع عن المسلمين ما هم فيه من ذلة ومهانة إلا أن تحيا معاني الجهاد في نفوسهم، قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلّط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)) (4) .
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب الإكراه (6943) .
(2) متفق عليه .
(3) متفق عليه .
(4) رواه أبو داود، في البيوع والإجارات (3462)، وقال محقق "جامع الأصول" : هو صحيح .(/69)
فحياة المسلمين وعزهم وشرفهم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، فوق أنه واجب شرعي لتبليغ دين الله عز وجل والقضاء على الفساد في الأرض وتعبيد الناس لربهم سبحانه ، قال تعالى: (( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) [الحج:40]، وقال سبحانه : (( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)) [البقرة: 251].
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)) (1) .
إن المتأمل في أحوالنا اليوم وطريقة تفكيرنا ومعيشتنا وتعاملاتنا ليرى عدم المصداقية الكافية عندنا في إعداد النفس للجهاد وتحديث النفس بالغزو على جميع المستويات إلا من رحم الله تعالى ، فمجرد نظرة سريعة إلى اهتماماتنا ، وما يشغل قلوبنا نرى أنها ليست اهتمامات مجاهدين . وأسلوب معيشتنا مما يشتمل عليه من الترف والترهل وحب الدعة والراحة والركون إلى الدنيا وكراهية الموت ، كل هذا لا يتفق مع حقيقة تحديث النفس بالغزو وإعدادها للجهاد .
إن » تحديث النفس بالغزو « الذي ينجي من شعب النفاق لا يكفي له أن يحدث الإنسان نفسه أنه سيغزو ويجاهد ويكتفي بهذا الحديث النفسي وهو متكئ على أريكته مشحون قلبه بدنياه ، كلا ليس هذا هو الحديث المنجي . إنما تحديث النفس بالغزو يعني أموراً عملية لابد من العزيمة على النفس بها من الآن أهمها ما يلي :
1ـ الإعداد العلمي والفقه في الدين والبصيرة فيه حتى تكون دعوته ويكون جهاده على بصيرة وروية ووضوح راية ، ويفقه لماذا يجاهد ؟ وكيف يجاهد ؟ ومن يجاهد ؟ وعلى أي عقيدة يجاهد ؟ كل هذا لا يتأتى إلا بالعلم والفقه في دين الله عز وجل .
2ـ الإعداد التربوي والسلوكي ابتداء من تقوية الصلة بالله عز وجل ، وإخلاص النية له ، والتقرب له بالطاعات ، والزهد في الدنيا والتخفف منها، والرغبة فيما عند الله عز وجل من الجنة والرضا ، والتخلق بأخلاق الإسلام ، وهذا كله يحتاج إلى جهد كبير وترويض شديد وصبر طويل .
3ـ التعبئة النفسية وبث روح الجهاد ، وانتشال النفس مما هي فيه من
كسل ودعة واستخذاء والارتفاع بها من الهزيمة النفسية إلى الاعتزاز بهذا الدين،والثقة بنصر الله عز وجل واليقين التام بأهمية الجهاد ، وما أعده الله عز وجل للمجاهدين .
4 ـ التربية على الإنفاق في سبيل الله عز وجل والتضحية بالغالي والنفيس في سبيله عز وجل وتخليص النفس من الشح وحب الدنيا .
5 ـ الشعور بواجب الدعوة إلى الله عز وجل وتجميع الناس حول الإسلام والاهتمام بأمر هذا الدين ، والغَيْرة على محارم الله عز وجل ، وأن هذا الأمر يتفاوت وجوبه والإثم المترتب على تركه حسب حال العبد ومرتبته من العلم أو القدرة أو الغنى .. إلخ . ويوضح ذلك الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه القيم إعلام الموقعين حيث يقول :
" ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته ، سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها ؛ فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل ، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره ، وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي ، وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير ، وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما .
وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يوماً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقالت له امرأة : هذا واجب قد وضع عنا ، فقال :هبي أنه قد وضع عنكن سلاح اليد واللسان ، فلم يوضع عنكن سلاح القلب ، فقالت: صدقت جزاك الله خيراً .
وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسَّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع ، وعطلوا هذه العبوديات ، فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها ، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً، فإن الدين هو القيام لله بما أمر به ، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي ، فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجهاً ذكرها شيخنا رحمه الله في بعض تصانيفه ، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله لله وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً ، والله المستعان .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة (1910) .(/70)
وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنْتهك وحدوده تُضاع ودينه يُترك وسنة رسوله لله يُرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذَّل وجَدَّ واجتهد ، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه.
وهؤلاء- مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم- قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب ، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى ، وانتصاره للدين أكمل"(1).
6 ـ الإعداد الجسمي والعضلي لتحمل الجهاد ومشاق الطريق وذلك بالرعاية الصحية والرياضة البدنية وركوب الخيل والسباحة والرماية وكل ما يحتاجه جهاد الكفار من إعداد وكل ما من شأنه إرهاب عدو الله وعدو المؤمنين قال تعالى : (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )) [الأنفال:60].
وكل هذه الأنواع من الإعداد قد قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مكة حيث لم يؤذن له بعد بالقتال،وقد يقول قائل ما الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يدرب أصحابه على الرماية والرياضة في مكة؟
والجواب : إنهم لم يكونوا في حاجة إلى ذلك فطبيعة نشأتهم وبيئتهم وحياتهم كانت في الأصل طبيعة قتالية مدربة جاهزة لا يحتاجون معها إلا إلى الأمر ومجيء الوقت المناسب للجهاد.
7 ـ وقبل ذلك وبعده ( في الإعداد للجهاد ) يجب أن ترتبط النفوس المؤمنة بطلب رضا الله عز وجل وجنته قبل أن يحصل لها أي هدف في هذه الدنيا الفانية ولو كان إقامة حكم الله عز وجل؛ لأنه قد يتأخر إقامة علم الجهاد وقد يبطئ نصر الله عز وجل لحكمة يعلمها سبحانه وتعالى، وقد يموت المؤمن الذي أعد نفسه للغزو والجهاد ولم ير ثمرة الجهاد، لكن حسبه أنه أعد نفسه وحدثها بالغزو ونجا من النفاق وسار في مرضات الله عز وجل، وهذا في حقيقته انتصار كبير.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى :
"ولقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع -وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض. ولا تنتظر إلا الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله. قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال، بلا جزاء في هذه الأرض قريب. ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين.. حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل، وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للجزاء.. وموعداً كذلك للفصل بين الحق والباطل.
وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت، أتاها النصر في الأرض وائتمنها عليه. لا لنفسها، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة، منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه، وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه. فالنصر ليس بالعدد وليس بالعدة. وليس بالمال والزاد. إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد"(2) .
وختاماً أسأل الله عز وجل أن يرفع علم الجهاد وأن يقر أعيننا بنصرة دينه والتمكين لأوليائه وأن يجعلنا من الذين (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)) [المائدة:54].
كما أسأله سبحانه أن يجمع كلمة دعاته الصادقين على الحق، وأن يوحد صفوفهم ويؤلف بين قلوبهم، وأن يعيذهم من نزغات الشيطان، وأن يريهم الحق حقاً ويرزقهم اتباعه ويريهم الباطل باطلاً ويرزقهم اجتنابه.
اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
* * *
الرسالة السادسة : ((وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ )) ( التوبة : 119) .
مقدمة :
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، من يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليما كثيرا .
أما بعد :
__________
(1) إعلام الموقعين (2/176) .
(2) طريق الدعوة في ظلال القرآن، ص361 .(/71)
فإن الله عز وجل خلق السموات والأرض بالحق وخلق الخلق ليعبدوه، وأمرهم بأن يقيموا حياتهم على الإيمان الحق الذي قامت عليه السموات والأرض ، ولا يكون الإيمان حقا حتى يكون قائما على الصدق المقتضي للإخلاص التام لله عز وجل باطنا وظاهرا ، والمقتضي للمتابعة الصادقة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأحوال .وبالتالي تسعد البشرية بهذه الحياة المبنية على الحق والصدق ، وعندئذ تختفي كل مظاهر الظلم والكذب والنفاق والتي ترزح البشرية اليوم تحت وطأتها وتكتوي بنارها .
إن حيرة البشر اليوم وشقوتهم ترجع إلى انحرافهم عن هذا الأصل الواضح ، وإلى تسلط أكاذيب وأوهام المنافقين والدجاجلة على أنفسهم وأفكارهم حتى أبعدتهم عن الصراط المستقيم والنهج القويم .
إن منزلة الصدق منزلة عظيمة في دين الإسلام بل في جميع الأديان، لا لأن الصدق خلق من الأخلاق الحميدة فحسب، بل لأنه أصل الإيمان المقبول عند الله عز وجل، وهو أساس النجاة من عذاب الله عز وجل ، وبه يتميز أهل الإيمان الحق من المنافقين الكاذبين .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة الصدق :" وهي منزلة القوم الأعظم الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين . وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان ، وسكان الجنان من أهل النيران. وهو سيف الله في أرضه الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه. مَنْ صال به لم ترد صولته،ومن نطق به علت على الخصوم كلمته. فهو روح الأعمال، ومَحكّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع العالمين،ومن مساكنهم في الجنات:تجري العيون والأنهار إلى مساكن الصديقين،كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متصل ومَعِين" .(1)
من الكلام السابق لابن القيم رحمه الله تعالى يتضح لنا أهمية الصدق وخطورة شأنه،ومدى الحاجة الماسة إلى معرفة حقيقته ومعناه؛ حتى تنصبغ قلوبنا وألسنتنا وجوارحنا به،فلا نكنّ في صدورنا إلاالصدق،ولا نقول إلا الصدق،ولا نعمل إلا الصدق،ويالها من مرتبة ما أعزها ، وغاية ما أشرفها وأعظم أجرها ، والناس فيها متفاوتون ، وفي الوصول إليها متنافسون .
ولا يصل إلى تكميل هذه المنزلة إلا أولو العزائم القوية من أهل الإيمان والعلم والعمل الذين وفقهم الله عز وجل وأوصلهم إليها : (( وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)) (فصلت:35)?.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن عظم منزلة الصدق وشدة
حمله : " وأيضا فحمل الصدق كحمل الجبال الرواسي ، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم ، فهم يتقلبون تحته تقلب الحامل بحمله الثقيل . والرياء والكذب خفيف كالريشة لا يجد له صاحبه ثقلا البتة . فهو حامل له في أي موضع اتفق ، بلا تعب ولا مشقة ولا كلفة ، فهو لا يتقلب تحت حمله ولا يجد ثقله "(2) اهـ .
أهمية الموضوع :
لقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف في فضل الصدق وخطورة أمره وعلو شأنه .
ولقد اخترت في هذه الرسالة ( من رسائل الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم ) أن يكون عنوانها (( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) ، وهي جزء من قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) [ التوبة:119] وذلك لأنطلق منها إلى هذا الموضوع المهم الذي يهم كل مسلم بصفة عامة ، ويهم الدعاة إلى الله عز وجل بصفة خاصة ، وبالذات في واقعنا المعاصر ، وإن أهميته لتأتي من الأمور التالية :
الأمر الأول :
لأنه أساس الإيمان وركنه الركين ، وأساس قبول الطاعات والقربات عند الله عز وجل ، وعليه يترتب الأجر والثواب يوم القيامة ، قال تعالى : (( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ )) [الأحزاب:24]،وقال تعالى: (( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار)) [ المائدة: 119] .
ولأنه أساس الطاعات وجماعها أصبحت الصفة الفارقة بين المؤمن والمنافق هي الصدق ، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
(( الصدق أساس الحسنات وجماعها ، والكذب أساس السيئات ونظامها ، ويظهر ذلك من وجوه [ منها ] :
__________
(1) مدارج السالكين ( 2/268)
(2) مدارج السالكين (2/276) .(/72)
* أن الصدق والكذب هو المميز بين المؤمن والمنافق ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ))(1) . وفي حديث آخر (( على كل خلق يطبع المؤمن ليس الخيانة ))(2) . ووصف الله المنافقين في القرآن بالكذب في مواضع متعددة ، ومعلوم أن المؤمنين هم أهل الجنة، وأن المنافقين هم أهل النار في الدرك الأسفل من النار
* أن الصدق هو أصل البر ، والكذب هو أصل الفجور كما جاء في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، و إن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ))(3) .
*أن الصادق تنزل عليه الملائكة والكاذب تنزل عليه الشياطين،كما قال تعالى: (( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ)) [الشعراء :221-223]اهـ. باختصار(4) ?
الأمر الثاني :
أن الصدق في كل الأمور يوصل صاحبه إلى مرتبة الصديقية التي هي المرتبة التالية لمرتبة النبوة ، وعندما نقول : (( في كل الأمور )) نريد بذلك عدم حصر الصدق في اللسان فقط ، وإنما الصدق في النيات والأقوال والأعمال وتحري الصدق دائما في ذلك كله .إن مجاهدة النفس على تحري الصدق في جميع الأمور يوصلها إلى هذه المرتبة العظيمة: "مرتبة الصديقية" كما جاء في الحديث السالف الذكر (( .... وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا)) (5)،وهنيئا لمن وصل إلى هذه المرتبة فيالها من رتبة ما أشرف قدرها وأعظم فضلها.
يقول الإمام ابن القيم-رحمه الله تعالى-في وصف أهل هذه الطبقة:
"(الطبقة الرابعة): ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم،وهم القائمون بما بعثوا به علما وعملا ودعوة الخلق إلى الله على طريقتهم ومنهاجهم.وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة، وهي مرتبة الصديقية ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال تعالى: (( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)) [النساء:69]، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة وهؤلاء هم الربانيون ، وهم الراسخون في العلم ، وهم الوسائط بين الرسول وأمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه،وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ))(6) . اهـ .
ثم يقول بعد ذلك رحمه الله تعالى:"والمقصود أن درجة الصديقية والربانية ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هي أفضل درجات الأمة،ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من علم بتعليمهم وإرشادهم أو علم غيره شيئا من ذلك كان له مثل أجره مادام ذلك جاريا في الأمة على آباد الدهور
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعلي بن ابي طالب : (( والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم)) (7)، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده ، كُتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء)) (8). وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أيضا أنه قال: (( إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له))(9)، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( من يرد الله به خيرا يفقه في الدين)) (10) .
__________
(1) البخاري في الإيمان(33)/ فتح (1/111)، مسلم في الإيمان (59)/ (1/78) .
(2) رواه الإمام أحمد (5/252) بنحوه، وضعفه الألباني/ السنة(114) .
(3) البخاري في الأدب (6094)/ فتح (10/523)، مسلم في البر والصلة(2607) / (4/ 2013).
(4) مجموع الفتاوى (20/74 – 77 ) باختصار وتصرف .
(5) سبيق تخريجه قريباً.
(6) طريق الهجرتين ص614 ط . الشؤون الدينية – قطر .
(7) البخاري في الجهاد (2942) / فتح (6/130)، مسلم في فضائل الصحابة (2406) / (4/1872)، كلاهما بنحوه .
(8) مسلم ك العلم (1017)/ (4/2059) .
(9) مسلم ك الوصية (1631) / ( 3/1255) بنحوه .
(10) البخاري في العلم (71) / فتح (1/197)، مسلم في الزكاة (1037)/ (2/718) .(/73)
وفي السنن عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( ... إن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى النملة في جحرها)) (1)، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير)) (2)، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) (3) ، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( العالم والمتعلم شريكان في الأجر، ولا خير في سائر الناس بعد)) "(4) ، وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها)) (5)، والأحاديث في هذا كثيرة .
وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد ، فيالها من مرتبة ما أعلاها ، ومنقبة ما أجلها وأسناها ؛ أن يكون المرء في حياته مشغولا ببعض أشغاله ، أو في قبره صار أشلاء متمزقا وأوصالا متفرقة ، وصحف حسناته متزايدة تُملى فيها الحسنات كل وقت ، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب .
تلك والله المكارم والغنائم ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، وعليه يحسد الحاسدون ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . وحقيق بمرتبة هذا شأنها أن تفق نفائس الأنفاس عليها ، ويسبق السابقون إليها ، وتوفر عليها الأوقات وتتوجه نحوها الطلبات . فنسأ الله الذي بيده مفاتيح كل خير أن يفتح علينا خزائن رحمته ، ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنه وكرمه .
وأصحاب هذه المرتبة يُدعون عظماء في ملكوت السماء كما قال بعض السلف : من علم وعمل وعلّم فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء .وهؤلاء هم العدول حقا بتعديل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم ، إذ يقول فيما يروى عنه من وجوه شد بعضها بعضا : (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) (6)"(7)اهـ .
الأمر الثالث :
ومما يؤكد أهمية الصدق تلك الثمرات العظيمة التي تحصل منه في الدنيا والآخرة من البركة والقبول والإصلاح في الدنيا ، والأجر العظيم والثواب الجزيل في الآخرة . وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى في ( ثمرات الصدق ) في آخر البحث .
الأمر الرابع :
خطورة الكذب والنفاق وأثرهما على الفرد والمجتمع والأمة ، وخاصة في مجتمعاتنا اليوم والتي كثر فيها الكذب والدجل والمداهنة ، وقل الصدق فيها والصادقون . ولا أعلم- والعلم عند الله – عصرا ظهر فيه الكذب والنفاق بوسائله الماكرة المتطورة كما ظهر في عصرنا اليوم ، حتى أصبح الكذب والمكر له مدارسه وأساليبه التي تعلم الناس كيف يكذبون ، وكيف ينافقون ، وكيف يدلسون ...... إلخ .
ولا أبالغ إذا قلت: إن وسائل الإعلام اليوم- المقروء منها والمسموع
والمنظور – قد قامت في أغلب برامجها على الكذب وقلب الحقائق ، وتسمية الأمور بغير مسمياتها .
وقد تجاوز الأمر حده حتى أصبح المعروف منكرا والمنكر معروفا ، وظهر الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق ، وأصبحنا نسمع من يقول عن المسلم الصادق الذي يتحرى الصدق بإنه ساذج وبسيط وسطحي ...إلخ ، في الوقت الذي يوصف الكاذب والمنافق بإنه السياسي الحكيم المحنك .
إن مجتمعا كهذا حري بالسقوط والدمار ، ولا نجاة ولا فلاح إلا بالصدق ، والأمة الصادقة مع ربها سبحانه ومع رسولها - صلى الله عليه وسلم - ومع أبنائها لا تهزم أبدا .
الأمر الخامس :
ظهور بعض علامات ضعف الصدق في صفوفنا معشر الدعاة إلى الله عز وجل وذلك بوجود بعض التصرفات والممارسات التي تتنافى مع الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله ؛ فقل الصادقون الربانيون الذين يصدقون في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم ويضحون في سبيل الله عز وجل بكل ما يملكون لنيل مرضات الله عز وجل وجنته .
__________
(1) الترمذي ك العلم ( تحت2683) / (7/325)، وأخرجه أيضاً غيره، وهو جزء من حديث طويل صححه الألباني . والذي فيه: " الحيتان في الماء " بدلاً من " النملة في جحرها "
(2) الترمذي ك العلم (2686) / (7/ 327) بنحوه ، وصححه الألباني .
(3) هو جزء من الحديث المخرج قريباً في الترمذي ( تحت 2683) وطرفه : " من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً ..." .
(4) رواه الطبراني بنحوه في الكبير (10461)، وفي الأوسط (7571)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل (414).
(5) الترمذي بمعناه ك العلم (2660) / (7/307) . وفي الباب أحاديث بمعناه عن جمع من الصحابة وهي مخرجة في السنن ، وصححها الألباني .
(6) الحديث أخرجه الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث (54)، وابن عبدالبر في التمهيد (1/59)، والبيهقي في السنن الكبرى (10/209) .
(7) طريق الهجرتين ص619 ط . الشؤون الدينية بقطر .(/74)
نعم إنه بمحاسبة عجلى لنفوسنا يتبين لنا هذا الضعف وأننا في أمس الحاجة إلى تقوية هذا الأمر ، ونبذ كل ما يتنافى معه من صور الكذب والنفاق ووهن العزيمة وضعف الهمة . وإلا فما معنى وجود هذه الجهود الضخمة المبذولة اليوم في طريق الدعوة إلى الله عز وجل ثم لا نرى لها إلا أثرا ضعيفا لا يوازي تلك الجهود المبذولة .
الأمر السادس :
إن الصراع الذي نشاهده اليوم بين الحق والباطل ، بين دعاة الشر والكفر ودعاة الخير والإصلاح ؛ ليحتم على أهل الخير حرصهم الشديد على الصدق مع الله سبحانه واليقين بنصره وثوابه ؛ حتى لا تزل الأقدام وتضعف العزائم إزاء هذا البلاء العظيم والمعركة الشرسة بين الحق والباطل . وهذه المواطن هي التي يتميز فيها الصادقون عمن سواهم ، قال تعالى : (( الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ )) (العنكبوت: 1-3)، وكذلك أيام الفتن لا يثبت فيها إلا الصادقون العالمون العاملون ، وهم الذين يشرفهم الله عز وجل بنصره ، ويمكن لهم في الأرض، ويجعلهم أئمة ، ويجعلهم الوارثين .
* * *
حقيقة الصدق ومعناه
تعريف الصدق :
قال في لسان العرب ( باختصار ) :
" الصدق : نقيض الكذب . صَدَق يَصْدُق صَدقا وصِدقا وتصداقا . وصَدَّقه : قبل قوله ، وصَدَقهُ الحديث : أنبأه بالصدق . ويقال : صدقت القوم أي قلت لهم صدقا . والمصدق : الذي يصدقك في حديثك . ورجل صِدق وامرأة صِدق : وُصِفا بالمصدر .
والصدِّيق : الدائم التصديق ، ويكون الذي يصدق بالعمل ، وفي التنزيل (( وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ)) (المائدة:75) أي مبالغة في الصدق والتصديق . وهذا مصداق هذا : أي ما يصدقه . ورجل ذو مصدق بالفتح : أي صادق الحملة، يقال ذلك للشجاع والفرس الجواد ، وصادق الجري . ومصداق الأمر : حقيقته"اهـ . لسان العرب .
وقال الراغب : (( أصل الصدق والكذب في القول ماضيا كان أو مستقبلا وعدا كان أو غيره ، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في الخبر ، وقد يكونان في غيره كالاستفهام والطلب . والصدق : مطابقة القول الضمير ، والمخبر عنه ، فإن انخرم شرط لم يكن صدقا ، بل إما أن يكون كذبا أو مترددا بينهما على اعتبارين، كقول المنافق: "محمد رسول الله " فإنه يصح أن يقال: "صدق " لكون المخبر عنه كذلك، ويصح أن يقال:"كذب " لمخالفة قوله ضميره ، والصدِّيق من كثر منه الصدق ، وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحق ويحصل في الاعتقاد نحو صدق ظني، وفي الفعل نحو: صدق في القتال ومنه "قد صدَّقت الرؤيا"(1) اهـ . ( ملخصاً ).
من هذه التعريفات السابقة للصدق يتضح لنا معنى الصدق اللغوي ، وانه نقيض الكذب ، وهو مطابقة القول للعمل ، ومن هذا التعريف استمدت حقيقة الصدق الواردة في كتاب الله عز وجل وأحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم - وأقوال العلماء ، وذلك فيما يلي :
حقيقة الصدق :
إن حقيقة الصدق أوسع من كونها الصدق في الحديث فقط ، وإنما حقيقة الصدق شاملة لصدق النية والعزيمة وصدق اللسان وصدق الأعمال كما سيتبين بتفصيل ذلك – إن شاء الله تعالى – في ( مراتب الصدق ) .
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( ومما ينبغي أن يعرف الصدق والتصديق يكون في الأقوال وفي الأعمال كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة ؛ فالعينان تزنيان وزناهما النظر ، والأذنان تزنيان وزناهما السمع ، واليدان تزنيان وزناهما البطش ، والرجلان تزنيان وزناهما المشي ، والقلب يتمنى ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) "(2) .
ويقال : حملوا على العدو حملة صادقة ؛ إذا كانت إرادتهم للقتال ثابتة
جازمة ، ويقال :فلان صادق الحب والمودة ونحو ذلك . ولهذا يريدون بالصادق ؛ الصادق في إرادته وقصده وطلبه ، وهو الصادق في عمله ، ويريدون الصادق في خبره وكلامه ، والمنافق ضد المؤمن الصادق ، وهو الذي يكون كاذبا في خبره أو كاذبا في عمله كالمرائي في عمله . قال الله تعالى : (( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاس...)) [النساء:142]"(3) ا هـ .
ويفصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى القول في هذا المعنى فيقول : " والإيمان أساسه الصدق ، والنفاق أساسه الكذب ، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر .
__________
(1) مفردات الراغب ص409 .
(2) البخاري بنحوه ك الاستئذان ( 6243 ) / فتح ( 11 / 28 ) ، مسلم بنحوه أيضاً ك القدر (2657) / (4/2046) .
(3) مجموع الفتاوى (10/14) .(/75)
أخبر سبحانه : أنه يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه، قال تعالى : (( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [ المائدة:119]، وقال تعالى : (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) [ الزمر:33]، فالذي جاء بالصدق:هو مَنْ شأنُهُ الصدق في قوله وعمله وحاله . فالصدق في هذه الثلاثة .
فالصدق في الأقوال : استواء اللسان على الأقوال ، كاستواء السنبلة على ساقها .
والصدق في الأعمال : استواء الأفعال على الأمر والمتابعة ، كاستواء
الرأس على الجسد .
والصدق في الأحوال : كاستواء أعمال القلوب والجوارح على الإخلاص ،واستفراغ الوسع ، وبذل الطاقة .
فبذلك يكون العبد من الذين جاءوا بالصدق . وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به : تكون صديقيته . ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه : ذروة سنام الصدّيقية . لذلك سمي (( بالصديق )) على الإطلاق و (( الصديق )) أبلغ من الصدوق ، والصدوق أبلغ من الصادق .
فأعلى مراتب الصدق: مرتبة الصديقية. وهي كمال الانقياد للرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع كمال الإخلاص للمرسِل"(1) .
الفرق بين الصدق والإخلاص :
(( الصدق والإخلاص عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب وأهم أصول الإيمان . فأما الصدق فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق ، وأما الإخلاص فهو الفرقان بين التوحيد والشرك – في قول القلب واعتقاده أو في إرادته ونيته . والأعمال – التي رأسا وأعظمها (( شهادة أن لا إله إلا الله )) – لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص .
ومن هنا كنا شرطين من شروطها ، وأكذب الله المنافقين في دعوى
الإيمان ، وقول الشهادة لانتفاء الصدق فقال تعالى : (( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)) [المنافقون:1]، وقال تعالى: (( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) [العنكبوت:3].
كما أبطل سبحانه زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء الإخلاص فقال : (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) (البينة:1) إلى أن يقول : (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)) (البينة:5) .
والصدق والإخلاص مع تقاربهما ومع ترادفهما أحيانا يعرف التمييز بينهما بضد كل منهما : فالصدق ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلا كمن آمن أو صلى كاذبا ولم يرد الإيمان والصلاة وإنما فعل ذلك لسبب آخر ، كما فعله المنافقون حفظا لأنفسهم وأموالهم من السيف ، وجبنا عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان .
والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه كمن آمن أو صلى صارفا ذلك لأحد مع الله ، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين ومنهم أهل الكتاب والمشركون الذين اتخذوا من دون الله أولياء من الأنبياء أو غيرهم وعبدوهم زاعمين انهم يقربونهم إلى الله زلفى . ومما يميز بينهما أن الصدق لا يختص بالاعتقاد بل يكون في الأعمال أيضا بخلاف الإخلاص فإنه عمل قلبي محض لكن تظهر آثاره على الجوارح ، وعلى قدر تحقيق العبد لشعب الإيمان وأعماله يكون حظه من الصدق حتى يصل إلى درجة " الصديقية "، وعلى قدر ما يحقق العبد\ الإخلاص لربه يكون ترقيه في " المخلصين " الذين صرف الله عنهم غواية الشيطان وأثنى عليهم في كل أمة "(2) ا هـ .
مجالات الصدق كما يجب
مما سبق يتبين لنا أن حقيقة الصدق تشمل :
1- صدق النية :
بأن تكون خالصة لله عز وجل وابتغاء مرضاته ، وأن لايكون هناك باعث في الحركات والسكنات إلا لله عز وجل ، فإن شاب النية شيء من حظوظها لم تكن صادقة ، وإن تكلم العبد بلسانه خلاف ما في قلبه فهذا أيضا دليل على عدم الصدق في النية . والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله تعالى في وصف المنافقين: (( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ )) [الفتح :11 ] وقال تعالى: (( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [هود: 15-16] .
__________
(1) مدارج السالكين (2/269) .
(2) ظاهرة الإرجاء في الفكر المعاصر ص438. (رسالة جامعية ) .(/76)
والأحاديث في ذلك كثيرة أشهرها حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة(1) .
ومن الصدق في النية : الصدق في العزيمة على الفعل إذا تمكن منه ، لأن النية قد تكون صادقة لكن العزيمة على الفعل ضعيفة وصاحبها متردد ، وقد تكون العزيمة صادقة لكن إذا جدالجد وعزم الأمر وهاجت الشهوات خارت وضعفت في بدايته ولم يحصل الوفاء بالعزيمة ، وقد لا تضعف في البداية
لكن إذا باشرت الفعل وذاقت مرارته ضعفت ونكلت ، والموفق من وفقه الله تعالى وأمده بعونه ورحمته ولو وكل العبد إلى نفسه ضاع وهلك .. فيا حي يا قيوم برحمتك تستغيث ، أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا ...
وقد ذكر صاحب الإحياء كلاما جيدا حول المسألة ننقله باختصار حيث يقول : " فإن الإنسان قد يقدم العزم على العمل فيقول في نفسه : إن رزقني الله مالا تصدقت بجميعه – أو بشطره ، أو إن لقيت عدوا في سبيل الله تعالى قاتلت ولم أبال وإن قتلت ، وإن أعطاني الله تعالى ولاية عدلت فيها ولم أعص الله تعالى بظلم وميل إلى خلق . فهذه العزيمة قد يصادفها من نفسه وهي عزيمة جازمة صادقة ، وقد يكون في عزمه نوع ميل و تردد وضعف يضاد الصدق في العزيمة ، فكان الصدق هاهنا عبارة عن التمام والقوة كما يقال: لفلان شهوة صادقة . ويقال : هذا المريض شهوته كاذبة، إذا لم تكن شهوته عن سبب ثابت قوي أو كانت ضعيفة ، فقد يطلق الصدق ويراد به هذا المعنى .
والصادق والصديق هو الذي تصادف عزيمته في الخيرات لكها قوة تامة ليس فيها ميل ولا ضعف ولا تردد : بل تسخو نفسه أبدا بالعزم المصمم الجازم على الخيرات .
وأما الصدق في الوفاء بالعزم ، فإن النفس قد تسخو بالعزم في الحال إذ لا مشقة في الوعد والعزم والمؤنة فيه خفيفة . فإذا حقت الحقائق وحصل التمكن وهاجت الشهوات انحلت العزيمة وغلبت الشهوات ولم يتفق الوفاء
بالعزم ، فهذا يضاد الصدق فيه ولذلك قال الله تعالى : (( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ )) [الأحزاب: 23]، فقد روي عن أنس : أن عمه أنس بن النضر لم يشهد بدرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشق ذلك على قلبه وقال : أوّل مشهد شهده رسول الله- صلى الله عليه وسلم - غبت عنه ، والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله ما أصنع ! قال : فشهد أحدا في العام القابل فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو إلى أين ؟ فقال : واها لريح الجنة ! إني أجد ريحها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين رمية وضربة وطعنة فقالت أخته بنت النضر : ما عرفت أخي إلا ببنانه ، فنزلت هذه الآية : (( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)) "(2) أهـ .
ونختم الحديث عن صدق النوايا والعزائم بما قصه الله سبحانه علينا في كتابه الكريم عن الملأ من بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى عليه السلام وطلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله وفي هذه القصة من العبر والدروس خير شاهد على ما سبق الحديث عنه من صدق العزائم وضعفها وأن أصحاب العزائم الصادقة مع الله عز وجل هم الذين يثبتون إذا عزم الأمر وهم الذين ينصر الله بهم دينه ويدفع بهم الفساد عن الأرض ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم .
يقول الله في معرض قصة هؤلاء الملأ مع قائدهم طالوت وما جرى لهم من الاختبار الذي تنكشف به العزائم :
قال تعالى : (( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [البقرة:249]
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في ظلال هذه الآيات : " قال تعالى : (( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ))
__________
(1) انظر الحديث بطوله في صحيح مسلم- كتاب الإمارة (1905) / (3/1513) .
(2) مسلم ك الإمارة (1903) / (3/1512) .(/77)
هنا يتجلى لنا مصداق حكمة الله في اصطفاء هذا الرجل .. إنه مقدم على المعركة ؛ ومعه جيش من أمة مغلوبة ، عرفت الهزيمة والذل في تاريخها مرة بعد مرة وهو يواجه جيش أمة غالبة فلا بد إذن من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف به أمام القوة الظاهرة الغالبة هذه القوة الكامنة لا تكون إلا في الإرادة ، الإرادة التي تضبط الشهوات والنزوات وتصمد للحرمان والمشاق وتستعلي على الضرورات والحاجات وتؤثر الطاعة وتحتمل تكاليفها فتجتاز الابتلاء بعد الابتلاء .
فلا بد للقائد المختار إذن أن يبلو إرادة جيشه وصموده وصبره صموده أولا للرغبات والشهوات وصبره ثانيا على الحرمان والمتاعب ..واختار هذه التجربة وهم كما تقول الروايات عطاش ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على عقبيه ويؤثر العافية ... وصحت فراسته :
(( فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلا منهم ))
شربوا وارتووا فقد كان أباح لهم أن يغترف منهم من يريد غرفة بيده تبل الظمأ ولكنها لا تشي بالرغبة في التخلف ! وانفصلوا عنه بمجرد استسلامهم ونكوصهم انفصلوا عنه لأنهم لا يصلحون للمهمة الملقاة على عاتقه وعاتقهم وكان من الخير ومن الحزم أن ينفصلوا عن الجيش الزاحف لأنهم بذرة ضعف وخذلان وهزيمة والجيوش ليست بالعدد الضخم ولكن بالقلب الصامد والإرادة الجازمة والإيمان الثابت المستقيم على الطريق .
ودلت هذه التجربة على أن النية الكامنة وحدها لا تكفي ولا بد من التجربة العملية ومواجهة واقع الطريق إلى المعركة قبل الدخول فيها ودلت كذلك على صلابة عود القائد المختار الذي لم يهزمه تخلف الأكثرية من جنده عند التجربة الأولى بل مضى في طريقه .
وهنا كانت التجربة قد غربلت جيش طالوت – إلى حد – ولكن التجارب لم تكن قد انتهت بعد :
(( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ))
لقد صاروا قلة وهم يعلمون قوة عدوهم وكثرته بقيادة جالوت إنهم مؤمنون لم ينكصوا عن عهدهم مع نبيهم ولكنهم هنا أمام الواقع الذي يرونه بأعينهم فيحسون أنهم أضعف من مواجهته إنها التجربة الحاسمة تجربة الاعتزاز بقوة أخرى أكبر من قوة الواقع المنظور وهذه لا يصمد لها إلا من اكتمل إيمانهم فاتصلت بالله قلوبهم وأصبحت لهم موازين جديدة يستمدونها من واقع إيمانهم غير الموازين التي يستمدها الناس من واقع حالهم !
وهنا برزت الفئة المؤمنة . الفئة القليلة المختارة . ذات الموازين الربانية :
(( قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ))
هكذا.. ((كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً)) .. بهذا التكثير . فهذه هي القاعدة في حس الذين يوقنون أنهم ملاقوا الله . القعدة : أن تكون الفئة المؤمنة قليلة لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاق حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء والاختيار . ولكنها تكون الغالبة لأهنا تتصل بمصدر القوى ؛ ولأنها تمثل القوة الغالبة . قوة الله الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده ، محطم الجبارين ، ومخزي الظالمين ، وقاهر المتكبرين .
وهم يكلون هذا النصر لله : ((بِإِذْنِ اللَّهِ)) .. ويعللونه بعلته الحقيقية : ((وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)) .. فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل ..
ونمضي مع القصة . فإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله ، التي تستمد صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء ، وتستمد قوتها كلها من إذن الله ، وتستمد يقينها كله من الثقة في الله ، وأنه مع الصابرين .. إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة ’ الثابتة ، التي لم تزلزلها كثرة العدو وقوته ، مع ضعفها وقلتها .. إذا هذه الفئة هي التي تقرر مصير المعركة . بعد أن تجدد عهدها مع الله ، وتتجه بقلوبها إليه ، وتطلب النصر منه وحده ، وهي تواجه الهول الرعيب" (1) اهـ .
ويعلق القرطبي رحمه الله تعالى على هذه القصة بقوله : " قوله تعالى :
(( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً)) الفئة : الجماعة من الناس والقطعة منهم ؛ من فأوت رأسه بالسيف وفأيته أي قطعته . وفي قولهم رضي الله عنهم : (( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ... )) ، تحريض على القتال واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق ربه .
قلت : هكذا يجب علينا نحن أن نفعل ، لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك حتى ينكسر العدد الكبير منا قدام اليسير من العدو كما شاهدناه غير مرة ، وذلك بما كسبت أيدينا ! وفي البخاري : وقال أبو الدرداء : إنما تقاتلون بأعمالكم . وفيه مسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم)) (2) .
__________
(1) في ظلا القرآن (1/268، 269) .
(2) رواه البخاري ك الجهاد (2896)/ (6/104) بنحوه .(/78)
فالأعمال فاسدة والضعفاء مهملون والصبر قليل والاعتماد ضعيف والتقوى زائلة ! قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّه )) [ آل عمران: 200] ، وقال : (( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا)) [ المائدة: 23] ، وقال : (( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ )) [ النحل:128]، وقال: (( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ )) [ الحج:40] وقال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) [ الأنفال:45]
فهذه أسباب النصر وشروطه وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما أصابنا وحل بنا ! بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره ، ولا من الدين إلا رسمه لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد
حتى استولى العدو شرقا غربا برا وبحرا ، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم"(1). ا هـ .
من خلال القصة السابقة يتبين دور العلماء الربانيين العلمين أن ووعد الله حق والعاملين الصابرين الصادقين في نياتهم وعزائمهم ، وأهم هم الذين يثبتون في الشدائد والمحن وهم الذين ينزل عليهم نصر الله وتأييده .
1- الصدق في الأقوال :
" وذلك لا يكون إلا في الإخبار أو ما يتضمن الإخبار وينبه عليه ، والخبر إما أن يتعلق بالماضي فلا يخبر عن الأشياء على خلاف ما هي عليه ، أو بالمستقبل كالوفاء بالوعد والعهد"(2) .
وهذه المريبة من الصدق هي التي يحصر كثير من الناس الصدق فيها ولا يتجاوزونها إلى غيرها ، ولا شك أنها مرتبة عظيمة وتكميلها من أعز الأمور وأشقها على النفس ، ولكنها يسيرة على من يسرها الله عليه وجاهد نفسه في تحقيقها . والصدق في الأقوال له صور عديدة منها :
أ – الصدق في نقل الأخبار :
فلا ينقل المسلم إلا الأخبار الصادقة وهذا بدوره يتطلب من الناقل التثبت فيما يقال واجتناب الظنون والأوهام والحذر من التحدث بكل ما يسمع . فمن حفظ لسانه من الأخبار عن الأشياء على خلاف ما هي عليه فهو صادق في خبره، وهذا يقتضي الابتعاد عن الظنون والإشاعات،قال- صلى الله عليه وسلم - :
" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"(3) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)) "(4) .
ب – الصدق في الوعد والوفاء به :
لأن إعطاء الوعد غالبا ما يكون بالقول فالوفاء بالوعد من الصدق في الأقوال وإخلافه يعد كذبا ، إلا إذا كانت النية عند إعطاء الوعد صادقة ثم حال بينه وبين تنفيذ الوعد أمر خارج عن إرادته فإن هذا لا يعد إخلافا للوعد وبالتالي لا يعتبر كذبا .
والوعد قد يكون على مكان معين أو في زمن معين أو على أعطية أو زواج أو أي أمر آخر يعد به الرجل أخاه ؛ فإن الإخلاف في هذه الأمور وأمثالها بدون مبرر شرعي يعتبر كذبا ؛ يقول تعالى : (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً)) [مريم:54].
جـ - الوفاء بالعقود والعهود :
وهذا أيضا من الصدق في الأقوال . فإخلاف العهد والغدر فيه من أشد
أنواع الكذب ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )) [المائدة:1] وقال تعالى: (( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا )) [ البقرة:177]
ومن الوفاء بالعهود حفظ الأسرار وكتمانها . ولعل قوله- صلى الله عليه وسلم - في التحذير من صفات المنافقين خير شاهد لما سبق ذكره؛يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق : إذا
حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر))"(5) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ ، ولا يجتمع الكذب والصدق جميعا ، ولا تجتمع الخيانة والأمانة جميعا)) "(6) .
* * *
الصدق المذموم
وهنا مسألة تتعلق بالصدق في الأقوال ألا وهي : الأحوال التي يجوز فيها الكذب بل يجب أحيانا ، ويكره عندها الصدق أو يحرم .
إن هذه المسألة تتعلق بتعارض المصالح والمفاسد ؛ فالصدق ممدوح وواجب في أحوال وشؤون المسلم كلها إلا أن يترتب على قول الصدق مفاسد متحققة على أحد المقاصد التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها ( الدين ، النفس ، العقل ، النسل ، العرض ، المال ) ، ففي هذه الحالة يقوم الصدق مقام الكذب في القبح والمعرة أو يزيد . ومن ذلك ما يلي :
1- الغيبة :
__________
(1) تفسير القرطبي (3/ 255)
(2) إحياء علوم الدين (4/553) .
(3) رواه البخاري ك الأدب (6066) / فتح (10/499)، ومسلم ك البر والصلة (2563)/ (4/1985).
(4) رواه مسلم في المقدمة (5)/ (1/10) .
(5) البخاري ك الإيمان (34)/ فتح (1/111) ، ومسلم ك الإيمان (58)/ (1/78) واللفظ له.
(6) رواه مسلم في المقدمة (5) / (1/10) .(/79)
فإن الكلام في أعراض الناس ولو بصدق محرم ومذموم كما جاءت الأحاديث بذلك .
2- النميمة :
والسعاية ولو بشيء واقع صادق ، والأحاديث في تحريم النميمة معروفة ومشهورة .
3- في التأليف بين الزوجين والإصلاح بين الناس :
فإذا كان نقل الصدق سيترتب عليه إيغار الصدور وإثارة الشحناء فلا يجوز الصدق في ذلك بل يجوز الكذب تأليفا للقلوب .
4- في الحروب مع الكفار والمكايدة لأعداء الدين :
فلا يجوز الإخبار بالصدق إذا كان سيترتب عليه مفاسد على الدين أو على المسلمين وديارهم فهنا يتعين الكذب .
عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال : (( يا أيها الناس، ما يحملكم على أن تتابعوا على الكذب كتتابع الفراش على النار . الكذب كله على ابن آدم إلا في ثلاث خصال : رجل كذب امرأته ليرضيها، وجل كذب في الحرب فإن الحرب خدعة ، وجل كذب بين المسلمين ليصلح بينهما)) "(1) .
وذكر صاحب قواعد الأحكام العز بن عبد السلام مسائل في هذا الباب فقال : " المثال الرابع والأربعون : الكذب مفسدة محرمة إلا أن يكون فيه جلب منفعة أو درء مفسدة فيجوز تارة ويجب أخرى وله أمثلة :
أحدها : أن يكذب لزوجته لإصلاحها وحسن عشرتها فيجوز ؛ لأن قبح الكذب الذي لا يضر ولا ينفع يسير ، فإذا تضمن مصلحة تربي على قبحه أبيح الإقدام عليه تحصيلا لتلك المصلحة ، وكذلك الكذب للإصلاح بين الناس وهو أولى بالجواز لعموم مصلحته .
الثاني : أ، يختبئ عنده معصوم من ظالم يريد قطع يده فيسأله عنه فيقول: ما رأيته ، فهذا الكذب أفضل من الصدق ، لوجوبه من جهة أن مصلحة حفظ العضو أعظم من مصلحة الصدق الذي لا يضر ولا ينفع ، فما الظن بالصدق الضار ؟ وأولى من ذلك إذا اختبأ عنه معصوم ممن يريد قتله .
الثالث : أن يسأل الظالم القاصد لأخذ الوديعة المستودعَ عن الوديعة
فيجب عليه أن ينكرها ، لأن حفظ الودائع واجب وإنكارها هاهنا حفظ لها ولو أخبره بها لضمنها ، وإنكارها إحسان .
الرابع : أن تختبئ عنده امرأة أو غلام يقصدان بالفاحشة فيسأله القاصد عنهما فيجب عليه أن ينكرهما . الخامس : أن يكره على الشرك الذي هو أقبح الكذب أو على نوع من أنواع الكفر فيجوز له أن يتلفظ به حفظا لنفسه؛ لأن مفسدة لفظ الشرك من غير اعتقاد دون مفسدة فوات الأرواح .
والتحقيق في هذه الصور وأمثالها أن الكذب يصير مأذونا فيه ويثاب على المصلحة التي تضمنها على قدر رتبة تلك المصلحة من الوجوب في حفظ الأموال والأبضاع والأرواح ، ولو صدق في هذه المواطن لأثم إثم المتسبب إلى تحقيق هذه المفاسد ، وتتفاوت الرتب له ثم التسبب إلى المفاسد بتفاوت رتب تلك المفاسد .
المثال الخامس والأربعون من ترجيح المصالح على المفاسد : الغيبة مفسدة محرمة لكنها جائزة إذا تضمنت مصلحة واجبة التحصيل أو جائزة التحصيل ؛ ولها أحوال :
أحدها : أن يشاور في مصاهرة إنسان فذكره بما يكره ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس لما خطبها أبو جهم ومعاوية: (( إن أبا جهم ضراب للنساء، وإن معاوية صعلوك لا مال له )) (2) ؛ فذكرهما بما يكرهانه نصحا لها ودفعا لضيق عيشها مع معاوية وتعريضا لضرب أبي جهم ، فهذا جائز . والذي يظهر لي أنه واجب لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنصح لكل مسلم "(3) اهـ .
وقد ذكر صاحب الإحياء صورة مهمة لا يكمل الصدق في الأقوال إلا بها ، ألا وهي الصدق مع الله سبحانه فيما يناجي العبد به ربه من الألفاظ فيقول : (( يراعي معنى الصدق في ألفاظه التي يناجي بها ربه كقوله تعالى : (( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض)) [الأنعام: 79] فإن قلبه إن كان منصرفا عن الله تعالى مشغولا بأماني الدنيا وشهواتها فهو كذب . وكقوله تعالى (( إِيَّاكَ نَعْبُد)) [ الفاتحة: 5]
وقوله : أنا عبد الله ،فإنه إذا لم يتصف بحقيقة العبودية وكان له مطلب سوى الله لم يكن كلامه صدقا ،ولو طولب يوم القيامة بالصدق في قوله : أنا عبد الله ، لعجز [عن] تحقيقه ،فإنه إن كان عبدا لنفسه أو عبدا لدنيا أو عبدا لشهواته لك يكن صادقا في قوله . وكل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما قال عيسى عليه السلام : يا عبيد الدنيا! وقال نبينا - صلى الله عليه وسلم - : (( تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، وعبد الحلة وعبد الخميصة)) "(4) ، فسمى كل من تقيد قلبه بشيء عبدا له .
وإنما العبودية الحق – لله عز وجل – من أعتق أولا من غير الله تعالى فصار حرا مطلقا ، فإذا تقدمت هذه الحرية صار القلب فارغا فحلت فيه العبودية لله فتشغله بالله وبمحبته وتقيد باطنه وظاهره بطاعته فلا يكون له مراد إلا الله تعالى "(5) ا هـ .
1- الصدق في الأعمال :
__________
(1) رواه الترمذي في البر والصلة (1940) .
(2) متفق عليه .
(3) قواعد الأحكام ص96، 97 للعز بن عبد السلام .
(4) البخاري بنحوه ك الجهاد (2887) / فتح (6/95) .
(5) الإحياء (4/594) .(/80)
وهو استواء الأفعال على الأمر والمتابعة . وأن يجاهد العبد نفسه في أن تكون سريرته وعلانيته واحدة ، وأن لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به حقيقة ، كمن يتظاهر بالخشوع في الظهر والقلب ليس كذلك ، أو يتظاهر بالحرقة على الدين والغيرة على المحارم وهو في الباطن ليس كذلك . والصور كثيرة جدا منها صور الرياء المختلفة ، والقول باللسان ما ليس في القلب . وهذا لا يعني أن يترك المرء الأعمال الصالحة حتى يصلح باطنه ، كلا ، ولكن يجاهد نفسه في أن يستجر باطنه إلى تصديق ظاهره .
يقول صاحب الإحياء : (( إن مخالفة الظاهر للباطن إن كانت عن قصد سميت رياء ويفوت بها الإخلاص ، وإن كانت عن غير قصد فيفوت بها الصدق ، وقال يزيد بن الحارث : إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النصف ، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل ، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور . وقال معاوية بن قرة : من يدلني على بكاء في الليل بسام في النهار "(1) اهـ .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في شرحه لخطاب عمر ? المشهور في إعلام الموقعين :
"وأما قوله : (( ومن بما ليس فيه شانه الله )) لما كان المتزين بما ليس فيه ضد المخلص – فإنه يظهر للناس أمرا وهو في الباطن بخلافه – عامله الله بنقيض قصده ، فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعا وقدرا ، ولما كان المخلص يعجل له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس عجل للمتزين بما ليس فيه عقوبته أن شانه الله بين الناس ، لأنه شان باطنه عند الله ، وهذا موجب أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته في قضائه وشرعه .
هذا ، ولما كان من تزين للناس بما ليس فيه من الخشوع والدين والنسك والعلم وغير ذلك قد نصب نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضياتها فلا بد أن تطلب منه ، فإذ لم توجد عنده افتضح ، فيشينه ذلك من حيث ظن أنه يزينه ، وأيضا فإنه أخفى عن الناس ما أظهر لله خلافه ، فأظهر الله من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم ، جزاء له من جنس عمله ، وكان بعض الصحابة يقول : أعوذ بالله من خشوع النفاق ، قالوا : وما خشوع النفاق ؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب غير خاشع ، وأساس النفاق وأصله هو التزين للناس بما ليس في الباطن "(2) )) اهـ .
ومن الصدق في الأعمال :
حفظ الأمانة بمفهومها الواسع في الأموال والأولاد والودائع والأعراض وجميع الأوامر والنواهي .. إلخ ، كل هذا إذا صاحبه الإخلاص والتجرد لله عز وجل والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فصاحب العمل من الصادقين الأبرار ، ويدخل في ذلك الوفاء بجميع المعاملات مع الناس في البيع والشراء وتجنب الغش وحب الخير لهم ...إلخ . كل هذا من الصدق في الأعمال . قال تعالى: (( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)) [المؤمنون:8]
4- الصدق في مقامات الدين :
قال صاحب الإحياء في هذه المرتبة :
" وهو أعلى الدرجات وأعزها ؛ الصدق في مقامات الدين كالصدق في الخوف والرجاء والتعظيم والزهد والرضا والتوكل والحب وسائر هذه الأمور . فإن هذه الأمور لها مباد ينطلق الاسم بظهورها ، ثم لها غايات وحقائق ، والصادق المحقق من نال حقيقتها ، وإذا غلب الشيء وتمت حقيقته سمي صاحبه صادقا فيه ، كما يقال : فلان صادق القتال . ويقال : هذا هو الخوف الصادق ، وهذه هي الشهوة الصادقة .
وقال الله تعالى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)) إلى قوله (( أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)) [الحجرات: 15] وقال تعالى : (( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)) إلى قوله: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا)) [ البقرة: 177]
وسئل أبو ذر عن الإيمان فقرأ هذه الآية فقيل له : سألناك عن الإيمان ؟ فقال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان فقرأ هذه الآية(3) .
__________
(1) الإحياء (4/598) .
(2) إعلام الموقعين (2/180).
(3) قال محقق الإحياء: رواه محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة بأسانيد منقطعة .(/81)
ولنضرب للخوف مثل: فما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وهو خائف من الله خوفا ينطلق عليه هذا الاسم، ولكنه خوف غير صادق أي غير بالغ درجة الحقيقة، أما تراه إذا خاف سلطانا أو قاطع طريق في سفره كيف يصفر لونه وترتعد فرائصه ويتنغص عليه عيشه ويتعذر عليه أكله ونومه وينقسم عليه فكره ، حتى لا ينتفع به أهله وولده ، وقد ينزعج عن الوطن فيستبدل بالأنس الوحشة ، وبالراحة التعب والمشقة والتعرض للأخطار ، كل ذلك خوفا من درك المحذور . ثم إنه يخاف النار ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند جريان معصية عليه ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لم أر مثل النار نام هاربها ولا مثل الجنة نام طالبها)) "(1) . فالتحقيق في مثل هذه الأمور عزيز جدا ولا غاية لهذه المقامات حتى ينال تمامها ن ولكن لكل عبد منه حظ بحسب حاله إما ضعيف وإما قوي ، فإذا قوي سمي صادقا فيه"(2) )) اهـ .
* * *
ذكر بعض الآيات الواردة في معنى الصدق وفضله
الآية الأولى :
قال تعالى : (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) [البقرة:177]
يقول الإمام ابن كثير عن قوله تعالى : (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))
: (( أي أن هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في
إيمانهم لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فهؤلاء هم الذين
صدقوا . وأولئك هم المتقون ؛ لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات )) اهـ.
ويقول القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) : (( وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها ، وانهم كانوا جادين في الدين ، وهذا غاية الثناء . والصدق خلاف الكذب . ويقال : صدقوهم القتال . والصديق : الملازم للصدق )) اهـ .
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله عند تفسير هذه الآية كلاما طويلا ومفيدا أنصح بالرجوع إليه في كتابه القيم (( صفوة الآثار
والمفاهيم )) . وأكتفي بما عقب به بعد تفسير هذه الآية الكريمة حيث يقول رحمه الله :
(( فهذه الآية الكريمة - آية البر – جمعت بين الدين والسياسة في بدايتها
ونهايتها ، إذ اشتملت على أصول العقيدة وتكاليف النفس والمال ، وركزت حقيقة منهج الله في الحياة ، فقد ابتدأها الله بالسياسة العالمية وختمها بها : فأولها قوله : (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)) وقد أوضحنا حقيقة الإيمان بالله وأنه مستلزم عبادته الصحيحة المرضية له ، وعبادته مبنية على الحب والتعظيم ، ومحبته لا تتحقق إلا بمحبة ما يحبه ، والسعي لها يعني السعي لمحبوباته ، وبغض ما يبغضه وعدواته والابتعاد عنه ، وأن لا يوالي أحدا من أعدائه أو يسر إليهم بالمودة مهما كانت حالهم أو قرابتهم ، ولا يعادي أحدا من أحباب الله لأي غرض نفسي أو طريقة سياسية ، بل ولا يتخلى عن أهل الله الذين هم أهل ملته ، وإن ابتلوا بحكام يحيدون عن سبيل الله ، فليعامل الشعوب معاملة دينية مرضية لله . فعبادة الله التي هي نتيجة الإيمان ليست مقصورة على إقامة شيء من الشعائر الدينية أو جميعها ، بل هي شاملة لجميع نظام الحياة ، لا يستقيم حب الله وتعظيمه إلا برعايتها حق الرعاية . فتعظيم الله لا يتحقق إلا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه في كل ناحية من شؤون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية . ولا يحصل الإخلال بذلك إلا ممن ضعف إيمانه لنقص حبه لله وتعظيمه ، أو من جاهل لا يعرف معنى عبادة الله ، بل تسيره شياطين الجنوالأنس ، وتعصف بعقله أهازيج الدجاجلة .
ومن اعتقد قصر عبادة الله أو حصرها على الشعائر التعبدية فقط كما
يريده العصريون من قصر الدين على المساجد ونحوها ، فهذا من أجهل
الناس باللغة العربية ، فضلا عن المدلولات الشرعية ، ومن أجهل الناس
بمعاني الألوهية وحقيقة الإيمان بها ، فيكون جميع الكفار من أقوام الرسل
__________
(1) الترمذي بنحوه ك صفة جهنم (2604) / (7/264) .
(2) الإحياء (4/598) .(/82)
الذين أولهم نوح وأخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أعلم منه بمعنى دعوتهم : (( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ )) [المؤمنون: 32 ]
ومن لوازم الإيمان بالله جعل الحاكمية لله وحده ، فلا يحتكم إلى غير شريعته ، لا في الأمور السياسية ولا الاقتصادية ولا الاجتماعية ، لأن من احتكم إلى غير الله في شيء من هذه الشؤون كان رافضا لألوهية الله أو ملحدا في أسمائه ، كالذي يزعم التطور فيبيح ما أحل الله أو يحرم ما أباحه بهذا المزعم الخبيث ، أو يسقط حدود الله باسم الإنسانية ، زاعما أن حدود الله قاسية لا تناسب العصر .
فهذا وذاك قد ألحدوا في أسمائه ، فلم يعتبروه عليما ولا خبيرا ولا محيطا ولا حكيما ولا رحمانا ولا رحيما . وكذلك من يزعم أن سمة العصر أو متطلباته لا يناسبها دين الله ولا شرعه ، وأنهما لا يصلحان للعصر الصناعي المتطور في العلم والحضارة . وكذلك من يجعل لنفسه الخيرة في سلوك ما يشاؤه من أنواع الحكم والعلاقات الداخلية والخارجية ، فإن هذا منازع لله في سلطانه ، بعيد عن الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، فهكذا ابتدأ الله الآية بما هو من لباب السياسة التي توجب على عباده سلوكها في الحياة إيجابا قطعيا لا يجوز لهم تخطيه ، فلا يكون لهم قصد ولا غاية سواه ، ولا يكون لهم ولا يكون لهم نقطة ارتكاز يتجمعون حولها سوى دين الله ، فهو المبدأ الذي يتجمعون عليه ، ويقاتلون من أجله ، ويعيشون من أجله ، ويموتون في سبيله ، ويتجمع حولهم الوجود كله إذا أخلصوا المقاصد وأصلحوا الأعمال ، وأنه لا يجوز أن يكون لهم هدف سوى دين الله وطاعته ، فلم يخلقهم الله سدى وهملا ،يعملون ما يريدون ، وأن من خرج عن هذا فليس من الإيمان في شيء وسياسته شيطانية ، يتعثر بها ،ويشقى بها تابعوه .
ثم ثنى الله في هذه الآية بتكاليف النفس والمال من إيتاء المال حالة حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المفروضة زيادة على ذلك ، كما أوضحناه سابقا .فإن الجمع بين إيتاء الزكاة وبين دفع المال على حبه لتلك الجهات ، مما يحقق الإنسانية ويضمن كرامتها ويرفعها عن البؤس ، ويحفظها من شرور الحقد .
وإقامة الصلاة في الإسلام مظهر لنشاط الإنسان في قواه الثلاثة : جسمه وعقله وروحه ، بتوجهها إلى الله جميعا في ترابط واتحاد ، فقيامه وقعوده وركوعه وسجوده تحقيق لنشاط الجسد ، وتكبيراته بتفهم ، وقراءته بتدبر وتفكير في معانيها ومبانيها ، يتحقق به نشاط العقل ، وتوجهه واستسلامه لله يتحقق به نشاط الروح كلها في وقت واحد ، ففيها تعريف للمصلي بفكرة الإسلام كلها عن الحياة واتجاهها بجميع طاقاتها لله وحده في كل الشؤون .
ثم خم الله الآية أيضا بالسياسة العالمية المتضمنة للوفاء الصحيح بالعهد الذي لا يراه أهل الجاهلية قديما ولا حديثا ولا يتمسكون به إلا وفق أهوائهم ومصالحهم ، وقد كرر القرآن كما أسلفنا وجعله من الإيمان ، لأنه يحصل به إيجاد جو من الثقة والطمأنينة في علاقات الأفراد والجماعات والدول والأمم .
ثم الصبر في البأساء والضراء وحين البأس ، وهو من صميم السياسة الإنسانية في الجهاد النفسي الداخلي والخارجي ، وفيه تربية وإعداد للنفوس ، كي لا تذهب حسرات مع أي فاجعة ولا تنهار جزعا في أي نازلة بل تثابر على الصبر والمصابرة ، ثقة بالله وانتظارا لفرجه ، حتى يحصل انجلاء الغمة ويتبدل العسر إلى يسر بإذن الله ورحمته وفضله ، وبذلك قوة ورباطة جأش للنفوس وسلامة من الهزيمة الحسية والمعنوية .
فيالها من آية جمعت أصول الحياة الطيبة السعيدة ، وجعلتها كلها جزءا لا يتجزأ ، ووحدة لا تنفصم عراها ، وطبعتها بعنوان واحد هو ( البر ) .
ولا شك أن هذه الآية خلاصة لمبادئ الإسلام الضرورية التي لا غنى للمسلمين عنها في دينهم ودنياهم والتي يتحقق بتطبيقها صدقهم مع الله وتقواهم له ، ولذلك ختمها الله بقوله : (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )) يعني صدقوا مع الله ومع خلقه في مطابقة أفعالهم لأقوالهم وفي الترجمة عما في قلوبهم من الإيمان أو ما يزعمونه من دعوى الإيمان ، فإن الإيمان ليس بالدعاوى بل بالأعمال التي تبرهن عما في القلب ، وهم المتقون الذين أخذوا لأنفسهم وقاية من الله بامتثال أوامره . فالمتقون هم الذين اتقوا مساخط الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه ، وأخذوا لأنفسهم وقاية من عذابه . وفي إتيان الله بضمير الفصل بقوله :(/83)
(( وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )) حصر للصدق والتقوى على أهل هذه الأوصاف . كما أ، تكرير الله لهذه الواوات في الأوصاف بهذه الآية لاعتبار الجمع . فمن شرائط البر وتمامها أن تجتمع هذه الأوصاف في المؤمن البار ليكون من الصادقين المتقين ؛ ومن أتى ببعضها دون بعض لم يستحق هذا المقام إلا عند استجماعها ، فلا يظن الإنسان أنه إذا صبر حين البأس أو في الضراء والبأساء يكون منهم ، ولا المقتصر على الإنفاق أو على مجرد الإيمان أو مجرد الوفاء بعهد المخلوقين السياسي ؛ فإنه لا يكون منهم ، ولكن الموفي بعهد الله الكلي في معاملته لله معاملة المحب لحبيبه في جميع شؤون الحياة بتطبيق جميع أوامر الشريعة وتنفيذ جميع شعب الإيمان التي منها مضمون هذه الآية ، فهذا يكون من أهل البر الصادقين المتقين – جعلنا الله منهم أجمعين )) اهـ .
الآية الثانية : قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))
[ التوبة:119]
ومن هذه الآية أخذت عنوان هذه الدراسة . وقد جاءت هذه التوجيه الرباني في أعقاب قصة الثلاثة الذين خلفوا وتاب الله عيهم بسب صدقهم فيما اعتذروا به ، وعم كونهم مع المنافقين الذين كذبوا على الله ورسوله .
يقول كعب بن مالك ? ( وهو أحد الذين خلفوا ) : (( وقلت : يا رسول الله ، إما أنجاني الله بالصدق ، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت . فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما أبلاني الله تعالى ، والله ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا كذبا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي ، وأنزل الله : (( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار)) – إلى قوله – (( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) [ التوبة:117 -119] ، فو الله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ ألا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه ، فإن الله قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد – فقال : (( سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ -على قوله – الْفَاسِقِينَ)) [ التوبة:95- 96 ]
يقول القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : (( فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : (( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) هذا الأمر بالكون مع أهل الصدق حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق وذهب بهم عن منازل المنافقين .
قال مطرف : سمعت مالك بن أنس يقول : قلما كان رجل صادقا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخرف .
واختلف في المراد هنا بالمؤمنين والصادقين على أقوال ؛ فقيل : هو خطاب لمن آمن من أهل الكتاب . وقيل : هو خطاب لجميع المؤمنين ؛ أي اتقوا مخالفة أمر الله . (( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) أي مع الذين خرجوا مع النبي- صلى الله عليه وسلم - لا مع المنافقين . أي كونوا على مذهب الصادقين وسبيلهم . وقيل : هم الأنبياء ؛ أي كونوا معهم بالأعمال الصالحة في الجنة . وقيل : هم المراد بقوله : (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ )) – الآية إلى قوله – (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) . وقيل : هم الموفون بما عاهدوا ؛ وذلك لقوله تعالى : (( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ )) . وقيل هم المهاجرون ؛ لقول أبي بكر
يوم السقيفة ؛ إن الله سمانا الصادقين فقال : (( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ )) الآية ،
ثم سماكم بالمفلحين فقال : (( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ)) الآية . وقيل :
هم الذين استوت ظواهرهم و بواطنهم قال ابن العربي : وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى ؛ فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل ، وصاحبها يقال
له الصديق كأبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم على منازلهم وأزمانهم .
وأما من قال : إنهم المراد بآية البقرة فهو معظم الصدق ويتبعه الأقل وهو معنى آية الأحزاب . وأما تفسير أبي بكر الصديق فهو الذي يعم الأقوال كلها ؛ فإن جميع الصفات فيهم موجودة .
الثانية : حق من فهم عن الله وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال ،والإخلاص في الأعمال ، والصفاء في الأحوال ، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار ؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: (( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا )) . والكذب على الضد منذلك )) اهـ .
ويشير صاحب الظلال إلى جانب من جوانب الصدق في هذه الآية(/84)
ويربطها بالآيات التي بعدها فيقول رحمه الله تعالى : (( وفي ظل قصة التوبة على الذين ترددوا والذين خلفوا ؛ وفي ظل عنصر الصدق البادي في قصة الثلاثة الذين خلفوا ؛ يجيء الهتاف للذين آمنوا جميعا أن يتقوا الله ويكونوا مع الصادقين في إيمانهم من أهل السابقة ؛ ويجيء التنديد بتخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ، مع الوعد بالجزاء السخي للمجاهدين : (( ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)) (التوبة:120) (( وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (التوبة:121)
إن أهل المدينة هم الذين تبنوا هذه الدعوة وهذه الحركة ، فهم أهلها الأقربون . وهم الذين آووا رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وبايعوه ؛ وهم الذين باتوا يمثلون القاعدة الصلبة لهذا الدين في مجتمع الجزيرة كله .
وكذلك القبائل الضاربة من حول المدينة وقد أسلمت ؛ وباتت تؤلف الحزام الخارجي للقاعدة .. فهؤلاء وهؤلاء ليس لهم أن يتخلفوا عن رسول الله ، وليس لهم أن يؤثروا أنفسهم على نفسه .
وحين يخرج رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - - في الحر أو البرد . في الشدة أو الرخاء . في اليسر أو العسر . ليواجه تكاليف هذه الدعوة وأعباءها ، فإنه لا يحق لأهل المدينة ، أصحاب الدعوة ، ومن حولهم من الأعراب ، وهم قريبون من شخص رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ولا عذر لهم في ألا يكونوا قد علموا – أن يشفقوا على أنفسهم مما يحتمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
من أجل هذه الاعتبارات يهتف بهم أن يتقوا الله وأن يكونوا مع الصادقين ، الذين لم يتخلفوا ، ولم تحدثهم نفوسهم بتخلف ، ولم يتزلزل إيمانهم في العسرة ولم يتزعزع ... وهم الصفوة المختارة من السابقين والذين اتبعوهم بإحسان )) اهـ .
الآية الثالثة : قوله تعالى : (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً)) [الأحزاب:23-24]
ورد في سبب نزول هذه الآية أنها نزلت في أنس بن النضر ?
والذي ضرب أروع الأمثلة في الصدق والوفاء ، ويكفي في إيراد هذا السبب تفسيرا وتعليقا على هذه الآية الكريمة : روى البخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال : (( قال عمي أنس بن النضر – سميت به – ولم يشهد بدرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكَبُر عليه فقال : أول مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غبت عنه ، أما والله لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَيَرَيَنّ الله ما أصنع . قال فهاب أن يقول غيرها ؛ فشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد من العام القابل ، فاستقبله سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو أين ؟ قال : واها لريح الجنة ! أجدها دون أحد ؛ فقاتل حتى قتل ، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت عمتي الرُّبَيِّع بنت النضر : فما عرفت أخي إلا ببنانه ، ونزلت هذه الآية (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً )) . هذا لفظ الترمذي ، وقال حديث حسن صحيح .
الآية الرابعة : قوله تعالى : (( فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ ))
[محمد:21]
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة فيصدقه في عزمه وفي جميع فعله : قال تعالى : (( فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ )) فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل ، فصدق العزيمة جمعها وجزمها وعدم التردد فيها ، بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوم : فإذا صدقت عزيمته بقي عليه صدق الفعل وهو استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه وألا يتخلف عنه بشيء من ظاهره وباطنه . فعزيم القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة ، وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور .(/85)
ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره . وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الإخلاص وصد\ق التوكل ؛ فأصدق الناس من صح إخلاصه وتوكله )) اهـ .
الآية الخامسة : قوله تعالى : (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))
[ الحجرات:15]
يقول سيد رحمه الله حول هذه الآية : (( فالإيمان تصديق القلب بالله ورسوله . والتصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب . التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب ، ولا تهجس فيه الهواجس ، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله .
فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه ، لا بد من دافع لتحقيق حقيقته في خارج القلب . وفي واقع الحياة . وفي دنيا الناس .
يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان ، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة . ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه ، والصورة الواقعية من حوله . لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة .
ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس . فهو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن . يريد أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه ، ليراها ممثلة في واقع الحياة والناس .
والخصومة بين المؤمن وبين الحياة الجاهلية من حوله خصومة ذاتية ناشئة من عدم استطاعته حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني ، وواقعه العملي . وعدم استطاعته كذلك التنازل عن تصوره الإيماني الكامل الجميل المستقيم في سبيل واقعه العملي الناقص الشائن المنحرف . فلا بد من حرب بينه وبين الجاهلية من حوله ، ومتى تنثني هذه الجاهلية إلى التصور الإيماني والحياة الإيمانية .
(( أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ )) .. الصادقون في عقيدتهم . الصادقون حين يقولون : إنهم مؤمنون . فإذا لم تتحقق تلك المشاعر في القلب ، ولم تتحقق آثارها في واقع الحياة . فالإيمان لا يتحقق . والصدق في العقيدة وفي ادعائها لا يكون .
ونقف قليلا أمام هذا الاحتراس المعترض في الآية : (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا )) .. إنه ليس مجرد عبارة . إنما هو لمس لتجربة شعورية واقعية . وعلاج لحالة تقوم في النفس . حتى بعد إيمانها .. (( ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا )) وشبيه بها الاحتراس في قوله تعالى : فعدم الارتياب ، والاستقامة على قوله : (( ربنا الله )) تشير إلى ما قد يعتري النفس المؤمنة – تحت تأثير التجارب القاسية ، والابتلاءات الشديدة – من ارتياب ومن اضطراب . وإن النفس المؤمنة لتصطدم في الحياة بشدائد تزلزل ، ونوازل تزعزع . والتي تثبت فلا تضطرب ، وتثق فلا ترتاب ، وتظل مستقيمة موصولة هي التي تستحق هذه الدرجة عند الله . والتعبير على هذا النحو ينبه القلوب المؤمنة ؟إلى مزالق الطريق ، وأخطار الرحلة ، لتعزم أمرها ، وتحتسب ، وتستقيم ، ولا ترتاب عندما يدلهم الأفق ، ويظلم الجو ، وتناوحها العواصف والرياح ! )) اهـ .
والآيات في معنى الصدق وفضله كثيرة جدا نكتفي بما تم إيراده فيما سبق ، والله نسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
* * *
ذكر الأحاديث والآثار الواردةفي معنى الصدق وفضله
الحديث الأول :
عن ابن مسعود ? عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقا ،وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا )) متفق عليه .
فقه الحديث : أفاد الحديث الترغيب في الصدق لأنه سبب ككل خير وتقى ، وأن من تكرر منه الصدق حتى صار له سجية وخلقا في جميع أحواله فهو الصديق الذي له ثواب الصديقين ، كما أفاد التحذير من الكذب لأنه سبب كل شر وأن تكراره من الإنسان يصيره خلقا وسجية حتى يكتب عند الله من الكاذبين . كما أفاد الحديث عاقبة الصدق وهي الجنة ، وعاقبة الكذب وهي النار .
الحديث الثاني : عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال :
حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ؛ فإن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة )) رواه الترمذي وقال : حديث صحيح . قوله (( يريبك )) هو بفتح الياء وضمها : ومعناه اترك ما تشك في حله واعدل إلىما لا تشك فيه .
فقه الحديث : إن الصدق يبعث في النفس الطمأنينة والثقة والثبات والاستقرار وهذه
ثمرة من ثمرات الصدق ، وعكسه الكذب الذي لا يورث إلا الريبة والشك والقلق والاضطراب وعدم الثقة بين الناس .(/86)
الحديث الثالث : عن أبي خالد حكيم بن حزام ? قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما )) متفق عليه .
فقه الحديث : أفاد الحديث فضيلة الصدق في المعاملة وأنه سبب في نماء المال وبركته
وزكاته بخلاف الكذب والغش والكتمان التي تؤدي إلى محق البركة ونقص النماء ، كما يستفاد من الحديث بصورة عامة ثمرة الصدق في كل أنواع التعاملات . ويدخل في ذلك الصدق مع الله عز وجل وأنه سبب قبول الأعمال وبركتها .
الحديث الرابع : عن أبي ثابت ، وقيل أبي سعيد ، وقيل أبي الوليد ، سهل بن حنيف ،
وهو بدري ? أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من سأل الله تعالى الشهادة بصدق
بلغه الله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشه )) رواه مسلم .
فقه الحديث : أفاد الحديث ثمرة النية الصادقة ، وأن من نوى شيئا من أعمال البر أثابه الله عليه ولو قصرت النية عن العمل . والنية الصادقة هي التي لا يشوبها عرض من أعراض الدنيا ولم يصبها التردد والضعف في العزيمة على الوفاء بها . ومثل هذا الحديث ما رواه مسلم عن أنس بن مالك ? أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه )) .
ومثل هذا الحديث الحديث التالي :
الحديث الخامس : عن أبي سعيد الطائي أبي البختري أنه قال : حدثني أبو كبشة الأنماري أنه
سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه . قال : ما نقص مال عبد من صدقة ، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا ، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر – أو كلمة نحوها – وأحدثكم حديثا فاحفظوه . فقال : إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي فيه ربه ويصل به رحمه ، ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل ، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء ، وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما يخبط في ماله بغير علم ، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقا ، فهو بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته فوزرهما سواء )) .
الحديث السادس : عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم إذ أصابهم مطر ، فأووا إلى غار فانطبق عليهم ، فقال بعضهم لبعض : إنه والله يا هؤلاء لاينجيكم إلا الصدق ، فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه . فقال واحد منهم : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرز ، فذهب وتركه ، وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته ، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا ، وأنه أتاني يطلب أجره ، فقلت له : اعمد إلى تلك البقر فسقها ، فقال لي : إنما لي عندك فرق من أرز . فقلت له : اعمد إلى تلك البقر ، فإنها من ذلك الفرق . فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا . فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي ، فأبطأت عنهما ليلة ، فجئت وقد رقدا ؛ وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع ، وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي ، فكرهت أن أوقظهما ، وكرهت أن ادعهما فيستكنا لشربتهما ، فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر . فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا . فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء . فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وأني قد راودتها عن نفسها فأبت إلا أنآتيها بمائة دينار ، فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها ، فأمكنتني من نفسها ، فلما قعدت بين رجليها فقالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فقمت وتركت المائة الدينار . فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ، ففرج الله عنهم فخرجوا )) .
فقه الحديث : فضل الصدق وأثره في النجاة من الشدائد والكربات ، وأن المؤمن لا
يذكر حينئذ من أعماله إلا ما كان صادقا ، وهو الذب يبقى ثوابه عند الله عز وجل .
الحديث السابع : عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وحسن خليقة ، وصدق حديث
وعفة في مطعم )) . ...
فقه الحديث :
أن من حاز على هذه الفضائل فقد حاز على الخير كله ، وذلك لما في هذه الفضائل من خيري الدنيا والآخرة ، ولو تأملنا في كل هذه الفضائل لرأيناها تنبع من الصدق بمفهومه الواسع لأن الصدق مع الله عز وجل والصدق مع خلقه يقتضي هذه الفضائل وغيرها .
* * *
مواقف صادقة
وفي هذه الفقرة نستعرض بعض المواقف الصادقة التي أثمرها الصدق(/87)
مع الله عز وجل والصدق مع دينه سبحانه ، وهي على سبيل المثال لا الحصر وإلا فمواقف أنبياء الله عز وجل والتابعين لهم بإحسان ملها مواقف صدق وإخلاص وتضحية ، نسأل الله سبحانه أن يحشرنا في زمرتهم وإن قصرت أعمالنا وعزائمنا عنهم قصورا شديدا شديدا ، والمرء مع من أحب إن كان صادقا في حبه لهم صديق الأمة أبو بكر ? : إنه أبو بكر الصديق ? والذي اتسمت حياته كلها بالصدق والإخلاص والتضحية والبذل والمحبة الصادقة لله عز وجل ولنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أجل ذلك استحق هذا اللقب الشريف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي سبق به غيره من المؤمنين ، ومن أجل ذلك فاق إيمانه إيمان الأمة ، وبه فضل على الناس جميعا سوى الأنبياء .
ولا يعني هذا أن ليس في الأمة إلا أبا بكر ? ن كلا ، بل الصديقون في هذه الأمة كثير ، وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، ولكن أبا بكر ? قد حاز الكمال في الصديقية ، وكل من وصل إلى رتبة الصديقية فهو دون أبي بكر عدا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
مثال في صدق العزائم : عن أبي هريرة ? قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( غزا نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، فقال لقومه : لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها ، ولا أحد بنى بيوتا لم يرفع سقوفها ولا آخر اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها . فغزا فدنا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك ، فقال للشمس : إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسا علينا ، فحبست حتى فتح الله عليه ، فجمع الغنائم فجاءت - يعني النار – لتأكلها فلم تطعمها ، فقال : إن فيكم غلولا فليبايعني من كل قبيلة رجل ، فلزقت يد رجل بيده فقال : فيكم الغلول ، فلتبايعني قبيلتك ، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده فقال : فيكم الغلول . فجاوءا برأس بقرة من الذهب ، فوضعوها فجاءت النار فأكلتها ، ثم أحل الله لنا الغنائم ؛ رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا )) متفق عليه .
(( الخلفات )) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام : جمع خلفة وهي الناقة الحامل .
أمثلة الصدق مع الله عز وجل في الجهاد والوفاء بالعهد :
أ- قد مضت قصة أنس بن النضر في غزوة أحد وما نزل فيه من القرآن في قوله تعالى : (( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ... ))
فليرجع إليها في الآيات الواردة في فضيلة الصدق .
عن شداد بن الهاد أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآمن به واتبعه ثم قال : أهاجر معك ،فأوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم -بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة غنم النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيا فقسم وقسم له ، فأعطى أصحابه ما
قسم له وكان يرعى ظهرها فلما جاء دفعوه إليه فقال : ما هذا ؟ قالوا : قسم قسمه لك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذه فجاء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما هذا ؟ قال :
(( قسمته لك )) ، قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكن اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا – وأشار إلى حلقه – بسم فأموت فأدخل الجنة . فقال : (( إن تصدق الله يصدقك )) . فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل قد أصابه سهم حيث أشار ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( أهوهو ؟ )) ، قالوا : نعم ، قال : (( صدق الله فصدقه )) ، ثم كفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في جبته ثم قدمه فصلى عليه ، فكان فيما ظهر من صلاته : (( اللهم هذا عبدك خرج في مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا ، أنا شهيد على ذلك )) .
وفي هذه القصة فضل احتساب جميع الأجر من الله في الآخرة والعزوف عن كل غرض دنيوي يأتي من وراء الدعوة والجهاد .
جـ - البكاءون : وهم الذين جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحملهم معه في
غزوة تبوك فاعتذر منهم بعدم الكفاية في الظهر ، فانصرفوا باكين لا لفوات دنيا ولكن لتخلفهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجهاد معه والفوز بالثواب والأجر العظيم ، فقال تعالى عاذرا لهم : (( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)) (التوبة:92)(/88)
د – ومن ترجمة واثلة بن الأسقع ? : عن محمد بن سعد قال : (( أتى واثلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى معه الصبح . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه . فلما دنا من واثلة قال : من أنت ؟ فأخبره فقال : (( ما جاء بك)) ؟ قال : جئت أبايع . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( فيما أحببت وكرهت)) ؟ قال نعم . قال(( فيما أطقت)) ؟ قال نعم . فأسلم وبايعه . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قال : قد فعلتها ؟ قال : نعم . قال أبوه : والله لا أكلمك أبدا . فأتى عمه فسلم عليه فقال: قد فعلتها ؟ قال : نعم . قال : فلامه أيسر من ملامة أبيه وقال : لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر . فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام . فقال واثلة : أنى لك هذا يا أخية ؟ قالت : سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت . فقال : جهزي أخاك جهاز غاز فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جناح سفر . فجهزته فلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تحمل إلى تبوك وبقي غبرات الناس وهم على الشخوص فجعل ينادي بسوق بني قينقاع : من يحملني وله سهمي؟ قال : وكنت رجلا لا رحلة بي . قال : فدعاني كعب بن عجرة فقال : أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي . فقال واثلة : نعم . قال واثلة : جزاه الله خيرا لقد كان يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي ، حتى إذا بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئا كثيرا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص ، فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت : اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها ، فخرج وهو يبتسم ويقول : بارك الله لك فيها ما حملتك وأنا أريد أن أخذ منك شيئا )) .
هـ - وقال محمد بن المثنى : حدثنا عبد الله بن سنان قال : (( كنت مع ابن المبارك ، ومعتمر بن سليمان بطرسوس ، فصاح الناس : النفير ، فخرج ابن المبارك والناس ، فلما اصطف الجمعان ، وخرج رومي يطلب البراز ، فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله ، حتى قتل ستة من المسلمين ، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ، ولا يخرج إليه أحد ، فالتفت إلي ابن المبارك ، فقال : يا فلان ، إن قتلت فافعل كذا وكذا ، ثم حرك دابته ، وبرز للعلج ، فعالج معه ساعة ، فقتل العلج ، وطلب المبارزة ، فبرز له علج آخر فقتله حتى قتل ستة علوج ، وطلب البراز ، فكأنهم كاعوا عنه ، فضرب دابته ، وطرد بين الصفين ، ثم غاب ، فلم نشعر بشيء ، وإذا أنا به في الموضع الذي كان ، فقال لي : يا عبد الله لئن حدثت بهذا أحدا ، وأنا حي ، فذكر كلمة )) .
و – وعن عبد الله بن قيس ، أبي أمية الغفاري قال : (( كنا في غزاة لنا فحضر عدوهم ، فصاح في الناس ، فهم يثوبون إلى مصافهم ، وإذا رجل أمامي ، رأس فرسي عند عجز فرسه ، وهو يخاطب نفسه ويقول : أي نفس ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي : أهلك وعيالك ، فأطعتك ورجعت ؟ ألم أِهد مشهد كذا وكذا فقلت : أهلك وعيالك ، فأطعتك ورجعت ؟ والله
لأعرضنك اليوم على الله ، أخذك أو تركك . فقلت : لأرمقنه اليوم . فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم . ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في حماتهم ، ثم إن الناس حملوا فكان في أوائلهم ، ثم حمل العدو وانكشف الناس فكان في حماتهم . قال : فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعا . فعددت به وبدابته ستين ، أو أكثر من ستين ، طعنة ))
أمثلة في الصدق مع الخلق :
أ – عن الفريابي : قال حدثني أبو بكر سعيد بن يعقوب الطالقاني ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن هارون بن رئاب ، أن عبد الله بن عمرو لما حضرته الوفاة قال : (( انظروا فلانا – لرجل من قريش – فإني كنت قلت له في ابنتي قولا كشبيه العدة ، وما أحب أن ألقى الله تعالى بثلث النفاق ، وأشهدكم أني قد زوجته )) .
ب- وعن جرير بن عبد الله البجلي ? قال : (( بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم )) . وزاد ابن حبان : (( فكان جرير بن عبد الله إذا بايع أحدا قال : اعلم يا أخي أن ما أخذنا منك خير مما أعطيناك فاختر )) . كل هذا من النصح والصدق للمسلم والصدق مع الناس .(/89)
مثال في الصدق مع النفس : عن جعفر بن برقان قال : (( بلغني عن يونس عبيد فضل وصلاح كتبت إليه : يا أخي بلغني عنك فضل وصلاح فأحببت أن أكتب إليك ، فاكتب إلي بما أنت عليه . فكتب غلي : أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه ، وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها وأن تكره لهم ما تكره لها ؛ فإذا هي من ذلك بعيد ، ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير ؛ فوجدت الصوم في اليوم الشديد الحر بالهواجر بالبصرة أيسر عليها من ترك ذكرهم ، هذا أمري والسلام )) .
مثال في الصدق في قول الحق : قال أبو الفرج ابن الجوزي : (( أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي ، وكان ينزل الأكواخ ، فقال له بلغنا أنك قلت :إذا كان مع الرجل عشرة أسم ، وجب أن يرمي في الروم سهما ، وفينا تسعة ، قال ما قلت هذا ، بل قلت : إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة ، وأن يرمي العاشر فيكم أيضا ، فإنكم غيرتم الملة ، وقتلتم الصالحين ، وادعيتم نور الإلهية ، فشهره ثم ضربه ، ثم أمر يهوديا فسلخه )) . وقال الذهبي في ترجمته لأبي بكر النابلسي : (( قال أبو ذر الحافظ : سجنه بنو عبيد ، وصلبوه على السنة ، وسمعت الدار قطني يذكره ، ويبكي ، ويقول : كان يقول وهو يسلخ (( كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً)) (الاسراء: من الآية58)
مثالان في الصدق مع الله عز وجل في الثبات على الإيمان والصبر على البلاء :
أ – قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام : وفي هذه القصة من الصدق والإيمان الحق الشيء العظيم ، فإن شئت رأيت ذلك في الراهب الذي قطع بالمنشار ليرجع عن دينه فلم يرجع ، وإن شئت رأيت ذلك في جليس الملك الذي فعل به ما فعل بالراهب ، وإن شئت وجدت ذلك في الغلام الذي هدد بجميع أصناف القتل فاستعلى على ذلك وأنجاه الله ، حتى إذا أن في قتله إيمان الناس من حوله فتح ذراعيه للقتل باذلا نفسه لربه عز وجل ، وإن شئت وجدت ذلك الصدق العظيم في المؤمنين الذين حرقوا بالنار ليرجعوا عن دينهم فاستعلوا على ذواتهم وعلى الحياة بأسرها وأقدموا على النيران المتأججة ليسقطوا فيها فداء لدينهم وشراء لرضوان الله عز وجل وجنته . والقصة طويلة أوردها الإمام في الحديث ( 3005 ) في كتاب الزهد والرقائق ، نقتطع الشاهد منها ، وذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى . فدعا بالمئشار . فوضع المئشار في مفرق رأسه . فشقه حتى وقع شقاه . ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك فأبى . فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه . ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك فأبى . فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا . فاصعدوا به الجبل . فإذا بلغتم ذروته ، فإن رجع عن دينه ، وإلا فاطرحوه . فذهبوا به فصعدوا به الجبل . فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت . فرجف بهم الجبل فسقطوا . وجاء يمشي إلى الملك . فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : كفانيهم الله . فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا به في قرقور ، فتوسطوا به البحر . فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه . فذهبوا به . فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت . فانكفأت بهم السفينة فغرقوا . وجاء يمشي إلى الملك . فقال له الملك : ما فعل اصحابك ؟ قال كفانيهم الله . فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به . قال : وما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد . وتصلبني على جذع . ثم خذ سهما من كنانتي . ثم ضع السهم كبد القوس . ثم قل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارمني ؛ فإنك إن فعلت ذلك قتلتني . فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ، ثم قال بسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات . فقال الناس : آمنا برب الغلام . آمنا برب الغلام . آمنا برب الغلام . فأتي الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ؟ قد والله نزل بك حذرك ؛ قد آمن الناس . فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت وأضرم النيران ، وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها . أو قيل له اقتحم . ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها ؛ فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الغلام : يا أمه اصبري ، فإنك على الحق )) .
ب – ماشطة ابنة فرعون :(/90)
عن ابن عباس ? أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لما كانت الليلة التي أسري بي فيها وجدت رائحة طيبة فقلت : ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل ؟ قال : هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها قلت : ما شأنها ؟ قال : بينما هي تمشط بنت فرعون ذات يوم إذ سقط المدرى من يدها ، فقالت : بسم الله ، قالت بنت فرعون : أبي ؟ فقالت : لا ولكن ربي ورب أبيك الله ، قالت : أخبره بذلك ؟ قالت نعم ، فأخبرته فدعاها ، وقال : يا فلانة وإن لك ربا غيري ؟!! قالت : نعم ربي وربك الله ، فأمر ببقرة من نحاس فأحميت ثم أمر أن تلقى هي وأولادها فيها ، قالت له : إن لي إليك حاجة ، قال : وما حاجتك ؟ قالت : أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد وتدفننا ، قال : ذلك لك علينا من الحق ، قال : فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحدا واحدا ، إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مرضع وكأنها تقاعست من أجله ، قال : يا أمه اقتحمي ؛ فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فاقتحمت )) .
من علامات الصدق
إن للصدق علامات ومظاهر تنفي ضدها ، وإذا لم توجد أو كانت
ضعيفة فإن ذلك دليل على ضعف الصدق وتسلط العوائق عليه . ومن هذه العلامات ما يلي :
طمأنينة القلب واستقراره : عن الصدق في جميع الأحوال – باطنها وظاهرها – يورث الطمأنينة والسكينة في القلب ، وينفي عنه التردد والريبة والاضطراب التي لا توجد غلا في حالات الشك وضعف الصدق أو عدمه . وقد مر بنا في الأحاديث السابقة قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة )) ، فإذا وجدنا الطمأنينة وعدم الريبة فإن هذا علامة على وجود الصدق عن شاء الله تعالى .
ومن علامات هذه الطمأنينة الثبات في المواقف التي يختبر فيها الإيمان ،والصبر على البلاء ، والتسليم لله عز وجل . يقول الله تعالى في الثناء على أهل الصدق يوم الأحزاب : (( وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) (الأحزاب:22)
وفي مقابل هذه الصورة الوضيئة يصف الله سبحانه أهل الكذب والريبة والنفاق في يوم الأحزاب ، فيقول تعالى : (( فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ....)) (الأحزاب : 19) ،
وهذه الحالة من الخوف والاضطراب إنما نشأت من الكذب والنفاق والريبة التي أفرزت انزعاج القلب وتقلبه وعدم استقراره .
وقد مر بنا في المواقف الصادقة قصة أصحاب الأخدود وغلامهم وغيرهم حيث ثبتوا على الأهوال والشدائد وباعوا أنفسهم لله عز وجل ، وليس ذلك إلا من الإيمان الحق والصدق العظيم الذي أورث طمأنينة القلب وشجاعته ، وهكذا يفعل الصدق بالقلوب . وينقل ابن القيم رحمه الله تعالى كلاما لشيخ الإسلام حول هذا المعنى نقتطف منه ما يلي : قال تعالى : (( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)) (الروم:60).
فإن الخفيف لا يثبت بل يطيش وصاحب اليقين ثابت . يقال : أيقن إذا كان مستقرا ، واليقين استقرار الإيمان في القلب علما وعملا ؛ فقد يكون علم العبد جيدا ، لكن نفسه لا تصبر عند المصائب بل تطيش . قال الحسن البصري : إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته ، وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته ، فإذا رأيت بصيرا صابرا فذاك . قال تعالى : (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ))
(السجدة:24) .
2- الزهد في الدنيا والتأهب للقاء الله عز وجل : ومن علامات طمأنينة القلب – النابعة عن الصدق – انشراحه وزهده في الدنيا والتأهب للآخرة قال تعالى : (( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ )) (الأنعام:125) لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن انشراح الصدر فقال : (( نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسخ )) ، وقيل : وهل لذلك أمارة ، قال : (( نعم ،الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت )) .(/91)
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في طريق الهجرتين كلاما بديعا حول حقيقة الاستعداد للقاء الله عز وجل وعلامة الصدق في ذلك فقال : (( ( فصل ) صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته ، فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها ، وخمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبت قلبه إلى الله ، وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته . إلى أن يقول : والمقصود أن صدق التأهب للقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه ، من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح ، فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله ، والمفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه .
ثم يقول رحمه الله تعالى : وإذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم ، وقد وفر عليه زمانه مبتغيا به وجه الله ، فلا يزال كذلك عاكفا على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له فيها الفتح الخاص أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته ، قال تعالى : (( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)) (النساء: 100) ، وقد حكى عن جماعة كثيرة ممن أدركه الأجل وهو مريض طالب للقرآن أنه رئي بعد موته وأخبر أنه في تكميل مطلوبه وأنه تعلم في البرزخ ، فإن العبد على ما عاش عليه .
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله ، فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر . ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة ، فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها اظلم عليه وقته وضاق صدره . ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي ، كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قد فتح له في هذا وسلك منه طريقا على ربه .
ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى افطر تغير عليه قلبه وساءت حاله ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القران وهي الغالب على أوقاته وهي أعظم أوراده ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة
ومراعاة الخواطر وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله في كل واد الواصل إليه من كل طريق فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها اين كانت ويسير معها حيث سارت قد ضرب مع كل فريق بسهم فاين كانت العبودية هناك ان كان علم وجدته في القانتين ،أو ذكر وجدته في الذاكرين ، أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين ، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين ، يدين بالعبودية أنى استقلت ركائبها ، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها ، ولو قيل له : ما تريد من الأعمال ؟
لقال : أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت ، جالبة ما جلبت ، مقتضية ما اقتضت ، جكعتني أو فرقتني ، ليس لي مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبا له فيها عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن ، قد سلمت إليه المبيع منتظرا منه تسليم الثمن )) اهـ .
مما سبق يتبين لنا أن الصادق مع الله عز وجل لا يراه إلا متأهبا للقاء ربه مستعدا لذلك بالأعمال الصالحة والقيام بأوامر الله عز وجل والانتهاء عن نواهيه ، يريد بذلك وجه الله عز وجل متبعا في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
3 – سلامة القلب :
إن من علامة الصدق سلامة القلب وخلوه من الغش والحقد والحسد للمسلمين ، فالعبد المؤمن الصادق في إيمانه لا يحمل في قلبه غلا للمؤمنين ولا شرا ، بل إن حب الخير والنصح للمسلمين هو طبعه وعادته . وهذه الحالة القلبية تظهر علاماتها على الأعمال وذلك بتجنب الظلم والعدوان والاستطالة على الأعراض والحرص على العدل والقسط مع الناس،والانطلاق بما في الوسع لقضاء حاجات المسلمين ، وإغاثة ملهوفهم ودفع الظلم عنهم ، والحزن على مصابهم والفرح لفرحهم . إن كل هذه الخلال يفرزها سلامة القلب والذي هو بدوره علامة من علامات الصدق . وهذه الحالة تفرز أيضا علامة أخرى من علامات الصدق ألا وهي : محبة الناس لمن هذه حاله فيصبح مألوفا لهم ؛ لأنه صدق معهم فألفهم وألفوه وتواضع لهم فأحبوه ، وهذا مصداق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( المؤمن مؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف )) .(/92)
4 – حفظ الوقت وتدارك العمر : إن الصادق في إيمانه لا تجده إلا محافظا على وقته شحيحا به ، لا ينفقه إلا فيما يرجو نفعه في الآخرة ، ينظر إلى العمر كله كأنه ساعة من نهار وإلى
الدنيا كأنها ظل شجرة نزل تحتها ثم قام وتركها ، فبادر بالأعمال الصالحة في فراغه وصحته وشبابه وحياته ، وابتعد عن كل آفة تقطع عليه طريقه وتضيع عليه وقته وتبدد عليه عمره القصير بما لا ينفع .
يقول الشيخ سفر وفقه الله تعالى :
(( فإذا عرف العبد أن الحياة ما هي إلا أنفاس تتلاحق ودقائق تتسابق وأنه لو أحصى حظه منها لوجده ينقص كثيرا عن عمر بعض الطيور والزواحف والأشجار فضلا عن أعمار الكواكب والنجوم فضلا عن عمر الكون كله فضلا عن مدى عالمي الغيب والشهادة مجتمعين .. وعلم مع هذا أنه مخلوق لحكمة واضحة وغاية محددة هي عبادة ربه سبحانه وحده لا شريك له ،
فلا بد أن يحرص أشد الحرص على حفظ الوقت ، وإشغاله بالعبودية وإعمال البدن في الطاعة وإلا اعتراه النقص في إيمانه بقدر ما يعتريه من نقص فيذلك )) .
وهذا ليس نقصا وحسب بل هو تأخر وانقطاع لأنه (( إن لم يكن في تقدم فهو في تأخر ولا بد ؛ فالعبد سائر لا واقف ؛ فإما إلى فوق وإما إلى أسفل ، وإما إلى الأمام وإما إلى وراء ، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة ، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار ؛ فمسرع ومبطئ ، ومتقدم ومتأخر ، وليس في الطريق واقف البتة ؛ وإنما يتخالفون في جهة السير وفي السرعة والبطء (( إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ . نَذِيراً لِلْبَشَرِ. لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ )) (المدثر:35-37) ، ولم يذكر واقفا ؛ إذ لا منزل بين الجنة والنار ولا طريق لسالك إلى غير الدارين ألبتة ، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة )) اهـ .
5 – الزهد في ثناء الناس ومدحهم بل و كراهة ذلك :
ويتبع ذلك الزهد فيما عند الناس والقناعة بما كتب الله عز وجل ، وهذه الصفة إذا وجدت فهي علامة على الصدق والإخلاص وهي تنبع أصلا من صحة المعتقد وكمال التوحيد لله عز وجل .
وحول هذه الصفة والوصول إليها يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحنة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس ، إلا كما يجتمع الماء والنار ، والضب والحوت ، فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولا فأذبحه بسكين اليأس ، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة ، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص ؛ فإن قلت : وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح ؟ قلت : أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه .
وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمه ويشين إلا الله وحده ، كما قال ذلك الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن مدحي زين وذمي شين ، فقال : (( ذلك الله عز وجل )) .
فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشينك ذمه ، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه . ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب . قال تعالى : (( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)) (الروم:60) ، وقال تعالى : (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ )) (السجدة:24)
6 – تصيق القول بالفعل وموافقة الظاهر الباطن :
يقول الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)) (الصف:2-3) ، فإذا وجدت تطابق القول مع الفعل عند أحد فهذا من علامة الصدق إن شاء الله ، وهذا مرتبط بموافقة الظاهر للباطن والسريرة للعلانية ؛ فإذا أمر بأمر كان أول الفاعلين له ، وإذا نهى عن شيء كان أول المنتهين عنه ، وإذا يكلم بأمر فهو الذي في قلبه وليس من الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .(/93)
ذكر الذهبي رحمه الله تعالى في السير في ترجمة الحسن البصري : (( عن عبد الصمد بن عبد الوارث : حدثنا محمد بن ذكوان ، حدثنا خالد ابن صفوان ، قال : لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال : يا خالد ، أخبرني عن حسن أهل البصرة ؟ قلت : أصلحك الله ، أخبرك عنه بعلم ، وأنا جاره إلى جنبه ، وجليسه في مجلسه ، وأعلم من قبلي به : أشبه الناس سريرة بعلانية ، وأشبهه قولا بفعل ، إن قعد على أمر قام به ، وإن قام على أمر قعد عليه ، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به ، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له ، رأيته مستغنيا عن الناس ، ورأيت الناس محتاجين إليه ، قال : حسبك ، كيف يضل قوم هذا فيهم ؟ ! )) .
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تعليقه على قول عمر بن الخطاب ? : (( فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه )) : (( إشارة إلى أنه لا يكفي قيامه في الحق لله إذا كان على غيره ، حتى يكون أول قائم به على نفسه ، فحينئذ يقبل قيامه على غيره ، وإلا فكيف يقبل الحق ممن أهمل القيام به على نفسه )) .
7 – الصدق في الحديث :
ولعل هذه العلامة من أبرز علامات الصدق الظاهرة على اللسان . والذي يصدق فيما يخبر به من أمور ماضية ، ويصدق فيما يعد به من أمور مستقبلة ، ويأتي حديثه مطابقا لواقع الأمر ؛ إن مثل هذا يكون في العادة صادقا في أموره الأخرى إذا أراد التقرب بذلك لله عز وجل وقد مر بنا الحديث المشهور (( وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا .... الحديث )) .
ومما يرتبط بالصدق في نقل الأخبار التثبت في نقلها ، وعدم العجلة في تلقف الأخبار دون تمحيص وتبين ، واتباع الظن . قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ... الآية )) (الحجرات: 6) ، كما أن الصدق في الحديث يستلزم مجانبة الظنون كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث )) .
كما أن من علامات صدق الحديث : قلة الكلام وعدم التحدث بكل ما يسمع قال - صلى الله عليه وسلم - : (( كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع )) . كما أن من علامة الحرص على صدق الحديث عدم الدخول فيما لا يعني قال صلى الله عليه وسلم : (( من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه )) .
8– إخفاء الأعمال الصالحة وكراهة الظهور :
إن من علامة صدق العبد فيما يعمله لله عز وجل حرصه على إخفاء عمله وكراهة اطلاع الناس عليه ، كما أن كراهة الشهرة والظهور علامة من علامات الصدق الذي يبعد صاحبه عن الرياء والسمعة والتصنع للخلق ، فكلما كان العبد صادقا مع ربه عز وجل كان حريصا على إخفاء أعماله حيثلا يطلع عليها إلا الله عز وجل الذي يسمع ويرى ويجازي على الحسنة بعشر
أمثالها . وإن حياة سلفنا الصالح مليئة بهذه النماذج الوضيئة نذكر منها ما يلي :
عن بكر بن ماعز قال : ما رئي الربيع متطوعا في مسجد قومه قط إلا مرة واحدة .
وعن سفيان قال : أخبرتني سرية الربيع بن خثيم قالت : كان عمل الربيع كله سرا ؛ إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف فيغطيه بثوبه .
وعن منذر ، الربيع بن خثيم قال : كل مالا يبتغى به وجه الله عز وجل يضمحل .
وعن أبي حمزة الثمالي قال : كان علي بن الحسين يحمل جراب
الخبز على طهره بالليل فيتصدق به . ويقول : (( إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل )) .
وعن عمرو بن ثابت ، قال لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره ، فقالوا ما هذا ؟ فقالوا : كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء المدينة .
وقال عبد الله بن المبارك بن فضالة عن الحسن قال : إن كان الرجل لقد القرآن وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس ،وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به ، ولقد أدركت أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول : (( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً))
(الأعراف : 55 ).
9 – الشعور بالتقصير والانشغال بإصلاح النفس ونقدها أكثر من الآخرين : إن من أخطر ما على النفوس أن ينشغل العبد بغيره بالنقد والتقويم ونسى نفسه والتفتيش عن عيوبها وهذا – وللأسف – كثير عندنا في زماننا هذا .
وإن من علامات صدق العبد مع ربه ومع نفسه أن ينشغل بنفسه وإصلاحها وتقويمها أكثر مما يعطيه لغيرها ، وإذا وجدت هذه الصفة نتج عنها المحاسبة للنفس والتربية والتزكية لها ، كما ينتج عن ذلك أيضا احتقار النفس في ذات الله عز وجل والنظر إليها بعين التقصير في جنب الله ، وبالتالي تنتفي صفات العجب والغرور والاعتداد بالنفس ، وعلى هذا فلا يجتمع الصدق(/94)
والعجب في قلب المؤمن أبدا . كما أن هذه الصفة تطهر القلب من الحقد على المسلمين وتصيد أخطائهم وعثراتهم ، والتفكه بذلك في المجالس بحجة الدعوة وبيان الأخطاء والتحذير منها . وهاهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في محاسبتهم لأنفسهم ، واستصحابهم الشعور بالتقصير وسوء الظن بالنفس ، واستعظام الهفوة حتى أهم يرون ما ليس بذنب ذنبا .
عن عتبة بن غزوان ? – في حديث عظيم له – (( ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا ، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها ، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار ، وأني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وعند الله صغيرا .. )) .
وعن إبراهيم أن أباه عبد الرحمن بن عوف ? أتي بطعام وكان صائما فقال : (( قتل مصعب بن عمير – وهو خير مني – كفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه ، وإن غطي رجلاه بدا رأسه – وأراه قال : وقتل حمزة _ وهو خير مني - ، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط ، أو قال : أعطينا من الدنيا
ما أعطينا ، وقد خشي أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا . ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام )) .
10 – الاهتمام بأمر هذا الدين والجهاد في سبيل الله عز وجل : إن الصدق في محبة الله عز وجل ومحبة دينه تقتضي أن يكون أمر هذا الدين هو شغل المؤمن الشاغل ؛ حيث لا يقر له قرار ولا يهدأ له بال وهو يرى دين الله عز وجل ينتهك ويقصى من الحياة ، وبالتالي يرى الفساد المستطير يدب في أديان الناس ودمائهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم ، إن المؤمن الصادق الإيمان لا يقدم على هذا الهم الأكبر أي اهتمام من أمور الدنيا الفانية .
ولكن إلى الله نشكو حالنا وضعف إيماننا وركوننا إلى دنيانا ؛ حيث إننا إذا رجعنا إلى قلبنا وفتشنا عن الاهتمامات التي تملؤها ؛ لم نجد عند أكثرنا – ويا للأسف – إلا اهتمامات دنيوية بحتة هي التي تحتل الأرقام الأولى في تفكيرنا : فمنا من همه الأول منصب يحصل عليه ، ومنا من همه شهادة يتسلمها ليعيش بها ، ومنا من همه زوجته وأولاده أو تجارته وأمواله
... إلخ . من هذه الاهتمامات الفانية . ثم إن كان هناك فضول تفكير واهتمامات جاء أمر هذا الدين والدعوة إليه بعد الاهتمامات السابقة ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف الصدق عندنا في الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك ، وحدوده تضاع ، ودينه يترك ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يرغب عنها ، وهو بارد القلب ، وساكت اللسان ، شيطان أخرس ، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين ؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجد واجتهد ، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه ، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم – قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون ؛ وهو موت القلوب ؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى ، وانتصاره للدين أكمل )) اهـ .
11 – التميز :
إن التميز في حياة المؤمن أمر ضروري جدا خاصة في عصور الغربة وطغيان أعمال الجاهلية والحياة المادية على حياة الناس . وإن من علامة الصدق في التمسك بهذا الدين والعض عليه ؛ أن يتميز المسلم بالتمسك والقبض على دينه عقيدة وسلوكا ، وأن لا يتميع في دينه وينصهر مع المتفلتين منه تحت وطأة الفساد وضغوط الواقع ومسايرة المجتمع . نعم ، إن المسلم الصادق يعرف بتميزه وإصراره على دينه بين الناس ، فيعرف بصحة معتقده عند فساد المعتقدات ، وبالتزامه بالسنة عند فشو المبتدعات ، وبصدق إيمانه إذا فشا الكذب والنفاق ن وبعبادته إذ الناس يلهون ويلعبون ، وبأخلاقه إذا أهدرت الأخلاق وضيعت ، وبالصدق في المعاملات إذا فشا الغش والخيانة والغدر ، ويعرف بصمته إذا كثر الخوض والقيل والقال ، وبمحاسبة نفسه وتهذيبها إذا خاض الناس بعضهم في بعض ، وبدعوته وجهاده في سبيل الله عز وجل إذا أقبلت الدنيا على أهلها وغرقوا في لججها ... إلخ صور التميز التي يقتضيها الصدق والإخلاص . ولا شك أن المعاناة ستكون شديدة لكنها محمودة العواقب في الدنيا والآخرة . وهذه هي صفات الغرباء الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( طوبى للغرباء)) ؛ أناس صالحون في أناس سوء كثير ، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم )) . (( والحقيقة أن قلب الصادق شديد الحساسية فلا يحتمل هؤلاء المثبطين ؛ ولهذا فهو يضيق بهم ولا يستطيع مجاورتهم ولا مصاحبتهم ولا مجالستهم . إنه ينشرح صدره ويهش لمن يشوقه إلى الإسراع إلى الله والدعوة إليه )) .
12 – قبول الحق والتسليم له :(/95)
إن من علامات الصدق لدى المسلم إذعانه للحق وقبوله من أي جهة كانت ، فالصادق لا يراه إلا باحثا عن الحق الذي يتعبد به لربه عز وجل ويقربه إلى مولاه ، وإذا بان له الدليل ولاح له الحق فرح به ووجد فيه بغيته ، ولا يرده أبدا مهما كان قائله : صغيرا كان أو كبيرا ، عدوا كان أو صديقا .
وإذا وجدت هذه الصفة الكريمة عند المسلم وصارت من عادته وأخلاقه فإنها تنفي كثيرا من الصفات الذميمة مثل : الكبر والاستعلاء والتعصب للآراء والتحزب للأشخاص والهيئات ، كما أنها تورث المحبة والألفة بين أهل العلم والدين ، وتورث الاجتماع والائتلاف وتنفي الفرقة والاختلاف .
كما أن قبول الحق والتمسك به يقتضي القول به والدعوة إليه دون لبس أو تردد ؛ فالصادق لا تراه إلا صادعا بالحق لا يخاف في الله لومة لائم ولا يجامل ويداهن في ذلك ، ولا تصده رغبة ولا رهبة عن قول الحق ، كما أن محبته للصدق وقول الحق يجعله لا يمدح أحدا بما ليس فيه ، ولا يبخس الناس أشياءهم وحقوقهم ؛ فلا يدفعه حبه لشخص ما أن يدفن عيوبه أو يبررها ، كما لا يدفعه بغضه لشخص أن يدفن محاسنه أو يسيء الظن بها ، وإنما رائده في ذلك كله الصدق والعدل والإنصاف .
* * *
بعض الوسائل الجالبة للصدق
إن معرفة الوسائل الجالبة للصدق لا تكفي وحدها لجلب الصدق ما لم يصاحبها الصدق في طلب الصدق ، فمتى علم الله سبحانه صدق عبده في التوجه إليه هداه لذلك . قال تعالى : (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ))
[ العنكبوت: 69 ]
ومن هذه الوسائل :
توحيد الله عز وجل وصحة المعتقد :عن توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة هو الغاية التي خلقنا الله من اجلها ، وهو أول واجب على المكلف ، وإن تحقيق التوحيد وتصحيح المعتقد
هو الذي يجلب الصدق والإخلاص للعبد ، فكلما تحقق التوحيد منه ظهر الصدق في حياته جليا واضحا ؛ لأن أكثر ما يوقع المرء في الكذب والنفاق هو الخوف من المخلوق أو الطمع فيما عنده . وبمعنى آخر : هو التعلق بغير الله عز وجل رغبة ورهبة . فإذا صح التوحيد وتعلق العبد بالله وحده في كل أموره ؛ فإن مظاهر الكذب والنفاق تختفي من حياته لأنه قد وجه وجهه لله وحده خوفا ومحبة ورجاء وتعظيما .
وإن حقيقة التوحيد لا توجد إلا بأن يعرف العبد ربه حق المعرفة بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ، كما عرفنا هو سبحانه بنفسه وعرفه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، لا كما عرفه أهل الأهواء والبدع ، وبالتالي يذعن بقلبه وقالبه لربه فيمتلئ القلب بالمحبة والإجلال والخضوع والإخلاص والصدق وبقية أعمال القلوب ، ويظهر مصداق ذلك على استسلام الجوارح وانقيادها لطاعة الله عز وجل ؛ وبذلك يتوزع الصدق على قلبه ولسانه وجوارحه .
وإن معرفة الله عز وجل وتوحيده لا بد لها من العلم الشرعي والفقهالصحيح لهذا الدين ؛ حتى تتم عبادة الله عز وجل على بصيرة واتباع لا على عماية وابتداع ن ومن هنا نقول أيضا : إن العلم الشرعي وسيلة هامة من الوسائل الجالبة للصدق .
2 – الإيمان باليوم الآخر واليقين بلقاء الله عز وجل :
إن المؤمن حقا باليوم الآخر وبالحساب والجزاء وبالجنة والنار لا تراه إلا صادقا في جميع أموره ، وغن حصل منه كبوة فسرعان ما يقلع عنها بالتوبة والاستغفار ؛ لأن من أيقن بالوقوف بين يدي ربه عز وجل والإحصاء الدقيق لكل أقواله وأعماله وأحواله وعرضها على الله عز وجل يوم القيامة ؛ سوف يكون حذرا في الدنيا وسوف تنصبغ حياته بالصدق ؛ لأنه يوقن أنه لا ينفع يوم القيامة غلا الصدق ن قال تعالى : (( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ))
[ المائدة: 119]
إن الإيمان باليوم الآخر وملاقاة الله عز وجل هو الذي دفع المؤمنين لطاعة ربهم ، وهو الذي دفع المجاهدين في سبيل الله عز وجل لبذلوا أنفسهم وأموالهم رخيصة لربهم عز وجل ، ولولا صدق هذا الإيمان لما كانت هذه التضحيات وهذه البطولات الصادقة ، قال تعالى : (( لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) [ التوبة:44-45] .
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى : ((هذه هي القاعدة التي لا تخطئ . فالذين يؤمنون بالله ، ويعتقدون بيوم الجزاء ، لا ينتظرون ان يؤذن لهم في أداء فريضة الجهاد ؛ ولا يتلكأون في(/96)
تلبية داعي النفرة في سبيل الله بالأموال والأرواح ؛ بل يسارعون إليها خفافا وثقالا كما أمرهم الله ، طاعة لأمره ، ويقينا بلقائه ، وثقة بجزائه ، وابتغاء لرضاه . وإنهم ليتطوعون تطوعا فلا يحتاجون إلى من يستحثهم ، فضلا عن الإذن لهم . إنما يستأذن أولئك الذين خلت قلوبهم من اليقين فهم يتلكأون ويتلمسون المعاذير ، لعل عائقا من العوائق يحول بينهم وبين النهوض
بتكاليف العقيدة التي يتظاهرون بها ، وهم يرتابون فيها ويترددون .
إن الطريق إلى الله واضحة مستقيمة ، فما يتردد ويتلكأ إلا الذي لا يعرفالطريق ، أو الذي يعرفها ويتنكبها اتقاء لمتاعب الطريق ! )) اهـ .
وقد مر بنا في قصة بني إسرائيل الذين قاتلوا مع طالوت أن الذين ثبتوافي النهاية وحثوا قومهم على الثبات ؛ هم الذين أيقنوا بلقاء الله عز وجل في الدار الآخرة ، قال تعالى : (( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [البقرة: 249].
3 – التخفف من الدنيا وعدم الركون إليها :
إن التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله ، كل هذا من الوسائل المهمة في إنشاء الصدق في حياة المسلم والعكس صحيح ؛ فالانغماس في ملذات الدنيا وترفها والركون إليها ينتج عنه غفلة عن الآخرة وينشأ عنه تشتت القلب في أوديتها وإعمال الفكر للاستزادة منها والخوف على فواتها ، وهنا يضعف الصدق لشحن القلب بها . كما أن ضعف الصدق ينشأ أيضا من مظاهر الكذب والتدليس والطمع والجشع والمعاملات المحرمة والتي قل من يسلم منها من أهل الدنيا ، وخاصة واقعنا المعاصر والذي كثرت فيه المعاملات المحرمة والشبهات والكذب والغش والجشع .
4 – مصاحبة الصادقين :
إن في صحبة الصادقين من المؤمنين نفعا عظيما لمن صاحبهم وخالطهم وهذا شيء معروف ومجرب ؛ فالإنسان تؤثر فيه البيئة التي يعيش فيها والخلطاء الذين يخالطهم . وهذا هو ما يسميه المربون وعلماء النفس التربية بالقدوة ؛ لأن رؤية القدوات الصادقة لا بد أن تؤثر فيمن صاحبهم – إذا كان أهلا للخير - ، والعكس صحيح فصحبة المنافقين والكذابين والدجالين لابد
أن تظهر صفاتهم على من صاحبهم . قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)) [التوبة:119] ، فالكون مع الصادقين طريق إلى الصدق والاتصاف بصفاتهم والتحلي بأخلاقهم ، وهم الذين ظهرت عليهم علامات الصدق التي أشرنا إليها في المبحث السابق .
قال يوسف الواعي في سلوك المسلم : (( العيش مع الصادقين نعمة لا ينالها إلا كل سعيد ، ومخالطتهم هناء لا يحظى به إلا كل موفق ، ومصاحبتهم أمان لا يحسه إلا أصحاب البصائر
والنهى ؛ لأن للكذابين ضمائر خربة وذمما ملوثة ، لا يؤمن لهم جانب ، أو يطمأن إلى قولهم أو يؤنس إلى فعلهم ، فمن سمات الصادقين ، شفافية ووضوح ، ونقاء وطهر ، ورجولة ووفاء ، ومن علامات الصدق طمأنينة القلب إليه )) اهـ .
وقد روي عن عمر بن الخطاب ? أنه قال : (( لولا ثلاث لما أحببت البقاء : لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله ، ومكابدة الليل ، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر )) . وقال أيضا :
(( اقتربوا من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون ، فإنهم تجلى لهم أمور صادقة ، وذلك لقرب قلوبهم من الله )) .
كما يدخل في هذه الوسيلة الإكثار من قراءة سير الصالحين الصادقين من أنبياء الله الكرام وصحبهم الأجلاء والتابعين لهم بإحسان ؛ فإن في ذلك تربية بالقدوة والسير على آثارهم .
5 – النظر في عاقبة الصدق :
إنه يكفي لجلب الصدق والتخلق به أن ننظر في عاقبته الحميدة في الدنيا والآخرة ؛ ففي الدنيا تحصل منه البركة والنماء في الأموال كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما )) ، كما أن فيه النجاة من مضايق الدنيا وشدائدها كما سبق في حديث الثلاثة أصحاب الغار ، كما أ، فيه كسب محبة الناس وتقديرهم ، وغير هذا كثير في الدنيا . أما في الآخرة فيكفي أن نعلم أنه لا ينفع من الأعمال والأقوال عند الله عز وجل يوم القيامة إلا ما كان فيه الصدق والإخلاص ، وأما ما سوى ذلك فيذهب أدراج الرياح ولا يكون حظ صاحبه منه إلا التعب والسهر . قال تعالى : (( هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ )) [ المائدة: 119] ، وقال
عز وجل : (( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ )) [الأحزاب: 24] ، والآيات في
هذا المعنى كثيرة . والمقصود أن من أعظم الوسائل الجالبة للصدق هو استشعار هذا الأمر ،(/97)
وتحري الصدق في كل الأحوال حتى يربح العبد ثواب الله عز وجل ، ويحرص أشد الحرص على تجنب ما يفسدها مما ينافي الصدق ، فتضيع عليه أعماله في يوم أشد ما يكون حاجة إلى حسنة واحدة يرجح بها ميزانه .
6 – الإكثار من الأعمال الصالحة وإخفاء ما يمكن منها أن الإكثار من الأعمال الصالحة وخاصة المخفي منها يعتبر من الوسائل التي يتوصل بها إلى الصدق والإخلاص ، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي : (( وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى احبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها .... الحديث )) .
فالشاهد من هذا الجزء الحديث القدسي هو محبة الله عز وجل للمكثر من النوافل حتى تصبح جوارحه لا تنطلق إلا في مرضاة الله عز وجل ، وهذا هو حقيقة الصدق ، ثم إنه كلما كان العمل لا يراه إلا الله عز وجل كان أقرب للصدق والإخلاص ، ولذا جاء الترغيب في أداء النوافل في البيوت وإخفاء ما يمكن إخفاءه لأنه أرجى للقبول والثواب لتحقق الصدق ، أما مالا يمكن إخفاؤه كأداء الفرائض فهذه لابد من إظهارها مع جماعة المسلمين ، وهي وسيلة مهمة من وسائل جلب الصدق والتعود عليها إذا صاحبها الإخلاص .
7 – تحري الصدق في الحديث وتجنب الكذب :
إن توطين النفس على الصدق في الحديث ومجاهدتها في ذلك هو بداية الطريق الموصل بإذن الله عز وجل للوصول إلى الصدق الشامل في جميع الأحوال ، بل هو الوسيلة إلى نيل مرتبة الصديقية الشريفة . قال - صلى الله عليه وسلم - : (( .. وما يزال عبدي يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا .... الحديث )) .
فتحري الصدق وترويض النفس عليه يصيره خلقا وعادة للنفس يسري على جميع الأحوال ، وكذا الحال في الكذب فإن التهاون به والترخص فيهوعدم محاسبة النفس في ذلك يبعدها عن الصدق بل يصير عادة وطبعا للعبد ، وقد يؤدي به ذلك إلى أن يكتب عند الله كذابا والعياذ بالله .
والمقصود أن تحري الصدق والوسائل الموصلة إليه ، وتجنب الكذب والوسائل المؤدية إليه ، كل ذلك يؤدي إلى الصدق ، وبالتالي إلى المرتبة العظيمة ؛ ألا وهي مرتبة الصديقية التي يتنافس فيها الصادقون ويشمر إليها المشمرون .
وثمة مسألة أرى لها علاقة بهذه الوسيلة وهي من أكثر الوسائل التي توقع المرء في الكذب ألا وهي ( الوقوع فيما يعتذر منه ) ؛ فإن الوقوع فيما يعتذر منه وينتقد فيه صاحبه لهو من الأسباب التي تلجئ إلى الكذب حتى يبرر موقفه أو يزيل عن نفسه التبعة والخطأ ؛ فيلجأ إلى الكذب ويفر من الصدق لأنه بظنه يؤدي إلى سقوطه من أعين الناس أو تحميله مسؤولية
خطئه ، مع العلم أن النجاة في الصدق ولو بعد حين ، ولذلك أرى من الوسائل الجالبة للصدق هو تجنب ما يعتذر منه ما أمكن ، هذا أولا ، وثانيا لو وقع منه ما يعتذر منه فإن النجاة في الصدق ولو حصل مفسدة قليلة من جراء ذلك ، اللهم إلا إذا كانت المفسدة كبيرة وعامة فحينئذ يوازن بين الأمرين كما سبق إيضاحه في الصدق المذموم .(( وقد يندفع الإنسان إلى الكذب حين يعتذر عن خطأ وقع منه ، ويحاول التملص من عواقبه . وهذا غباء وهوان ، وهو فرار من الشر إلى مثله أو أشد . والواجب أن يعترف الإنسان بغلطه ، فلعل صدقه في ذكر
الواقع ، وألمه لما بدر منه يمسحان هفوته ويغفران زلته . ومهما هجس في النفس من مخاوف- إذا قيل الحق- فالأجدر بالمسلم أن يتشجع ، وأن يتحرج من لوثات الكذب )) اهـ .
8 – الإكثار من دعاء الله عز وجل والاستغفار :
إن ما سبق ذكره من الوسائل لا تحصل للعبد بدون توفيق الله عز وجل وإعانته له على تحصيله لها ؛ ولهذا فلا بد للعبد أن يستعين بربه عز وجل في أموره كلها ؛ ومنها هذا الأمر .
فالأمر كله بيد الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا به ، ولو تخلى الله سبحانه عن عبده لحظة واحدة لهلك ؛ ولذلك جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الإكثار من هذا الدعاء : (( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين )) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل : (( يا معاذ ، والله إني لأحبك ؛ أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة يقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )) . فالعبد لا يقدر على شيء من أمور الدين أو الدنيا إلا بتوفيق الله سبحانه والاستعانة به عز وجل
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (( وشهدت شيخ الإسلام قدس الله روحه إذا أعيته المسائل واستعصت عليه فر منها إلى التوبة والاستغفار والاستعانة بالله واللجوء إليه ، واستنزال(/98)
الصواب من عنده ، والاستفتاح من خزائن رحمته . فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدا ، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ ، ولا ريب أن من وفق لهذا الافتقار علما وحالا وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطي حظه من التوفيق ، ومن حرمه فقد منع الطريق والرفيق ، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق فقد سلك به الصراط المستقيم ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )) اهـ .
والمقصود أن من أعظم الوسائل الجالبة للصدق دعاء الله سبحانه بصدق للتوفيق إلى الصدق ، وقد كان من الدعاء الذي علمه الله سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - هو قوله : (( وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً)) [الإسراء:80] ، ففي هذا الدعاء العظيم سؤال الله عز وجل الصدق في جميع المداخل والمخارج أن تكون لله وبالله وبأمره وابتغاء مرضاته .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (( وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه - أو مدخلا آخر - إلا بصدق أو بكذب ، فمخرج كل واحد ومدخله : لا يعدو الصدق والكذب ، والله المستعان )) اهـ .
وقال القرطبي رحمه الله عن هذه الآية : (( فهي دعاء ، ومعناه : رب أصلح لي وردي وصدري في كل الأمور )) اهـ .
وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - دعاؤه : (( اللهم طهر قلبي من النفاق ، وعملي من الرياء ، ولساني من الكذب ، وعيني من الخيانة ؛ فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور )) .
وهذا دعاء بالصدق الشامل للقلب واللسان والعمل . والأدعية كثيرة ، وما تم إيراده على سبيل المثال لا الحصر ، والمقصود من ذلك التنبيه على هذا الباب العظيم من الوسائل الجالبة للصدق ألا وهو اللجوء إلى الله عز وجل بنية صادقة لالتزام الصدق وما يؤدي إليه .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (( والمعول في ذلك كله على حسن النية ، وخلوص القصد ، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول : معلم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ؛ فإنه لا يرد من صدق في التوجه إليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصيحتهم والتخلص من القول عليه بلا علم )) اهـ .
ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - : (( اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد )) .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( وهاتان الكلمتان هما جماع الفلاح وما أتي العبد إلا من تضييعهما أو تضييع أحدهما ، فما أتي أحد إلا من باب العجلة والطيش واستفزاز البداآت له ، أو من باب التهاون والتماوت وتضييع الفرصة بعد موافاتها . فإذا حصل الثبات أولا ، والعزيمة ثانيا أفلح كل الفلاح ، والله ولي التوفيق )) اهـ .
* * *
من ثمرات الصدق
إن عاقبة الصدق حميدة في الدنيا والآخرة وثمراته كثيرة وعظيمة ، وإن
مدار القبول والثواب عند الله عز وجل على الصدق والإخلاص .
وعكس ذلك الكذب الذي هو اساس الفجور والفساد والهلاك .
يقول الإمام ابن القيم رحمه اله تعالى : (( إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه ، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس ؛ فإن الكاذب يصور المعدوم موجودا والموجود معدوما ، والحق باطلا والباطل حقا ، والخير شرا والشر خيرا ؛ فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له ، ثم يصور ذلك في نفس المخاطب المغتر به الراكن إليه فيفسد عليه تصوره
وعلمه .
ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة ، نزاعة إلى العدم ، مؤثرة للباطل ، وإذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه التي هي مبدأ كل فعل إرادي فسدت عليه تلك الأفعال وسرى حكم الكذب إليها ؛ فصار صدورها عنه كصدور الكذب عن اللسان فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله : ولهذا كان الكذب أساس الفجور كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار )) .
وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله ؛ فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلع تلك المادة من أصلها .
ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق ، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب ؛ فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق ، وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب .
والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه ، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته ، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))
[ التوبة:119] )) اهـ .(/99)
وقد سبق في مبحث ( علامات الصدق ) ذكر شيء من هذه الثمرات ؛ لأن الثمرة إذا أينعت فإنها تصير علامة ظاهرة على صاحبها ، ولذا فقد أضطر إلى التكرار لما جاء هناك ولكن بمنظار آخر .
ومن هذه الثمار ما يلي :
1 – الحصول على الأجر العظيم والثواب الجزيل عند الله عز وجل :
إن الأعمال التي يصدق فيها صاحبها مع الله عز وجل ويبتغى بها وجهه سبحانه هي التي يبقى ذخرها ونفعها يوم القيامة ، قال تعالى : (( قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (المائدة:119)
يقول القرطبي عند تفسير هذه الآية : (( وإنما ينفعهم الصدق في ذلك اليوم وإن كان نافعا في كل الأيام لوقوع الجزاء فيه )) اهـ .
ويقول الإمام الطبري عند هذه الآية : (( (( يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ )) في الدنيا ،(( صِدْقُهُمْ )) ذلك في الآخرة عند الله ، (( لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ )) يقول : للصادقين في الدنيا جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة ثوابا لهم من الله عز وجل ، على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه ، فوفوا به لله ، فوفى الله عز وجل لهم ما وعدهم من ثوابه )) اهـ .
ومثل ذلك قوله تعالى : (( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً)) (الأحزاب:24)
وقوله تعالى : (( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ)) (الحج: 37) أي ما كان خالصا لوجه الله عز وجل ، صادقا فيه لربه سبحانه .
2 – الطمأنينة والسكينة والثبات :
لقد مر بنا في علامات الصدق الحديث عن هذه الثمرة ، وقد اوردتها هناك لأنها من علامات الصدق العظيمة التي يثمرها الصدق مع الله عز وجل في الأحوال كلها ، ومن آثار الطمأنينة والسكينة في القلب عدم اضطرابه وتقلبه عند ثورة الشبهات أو الشهوات ، بل يبقى ثابتا مطمئنا لا تزعزعه الفتن ولا تقلقه البلايا والنوازل ؛ وذلك لما في قلبه من الصدق الذي صار به مطمئنا مقتنعا بما يعتقد ، تزول الجبال ولا تزول هذه القناعة من قلبه ؛ بعكس القلوب المريضة المليئة بالكذب والريبة فلا تراها إلا مضطربة لا تثبت علىشيء ولا تتماسك أمام الشبهات أو الشهوات ، وهذا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة ))
وقد أورد الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كلاما نفيسا حول هذا المعنى فقال : (( تحت قوله : (( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة )) [إبراهيم: 27] ، كنز عظيم من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ، ومن حرمه فقد حرم ، وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له طرفة عين ، فإن لم يثبته وإلا زالت سماء إيمانه
وأرضه عن مكانهما .
وقد قال تعالى لأكرم خلقه عليه وعبده ورسوله : (( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)) (الاسراء:74) وقال تعالى لأكرم خلقه : (( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا )) [لأنفال: 12] .
وفي الصحيحين من حديث البجلي قال : (( وهو يسألهم ويثبتهم )) ، وقال تعالى لرسوله : (( وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ )) [هود: 120]
فالخلق كلهم قسمان : موفق بالتثبيت ، ومخذول بترك التثبيت ، ومادة التثبيت أصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أمر به الله ، فبهما يثبت الله عبده ، فكل من كان أثبت قولا وأحسن فعلا كان أعظم تثبيتا ، قال تعالى (( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً )) [النساء: 66] ،
فأثبت الناس قلبا أثبتهم قولا ، والقول الثابت هو القول الحق والصدق ، وهو ضد القول الباطل الكذب ؛ فالقول نوعان : ثابت له حقيقة ، وباطل لاحقيقة له ، وأثبت القول كلمة التوحيد ولوازمها ، فهي أعظم ما يثبت الله بها عبده في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا ترى الصادق من أثبت الناس وأشجعهم قلبا ، والكاذب من أمهن الناس وأخبثهم وأكثرهم تلونا وأقلهم ثباتا ، وأهل الفراسة يعرفون صدق الصادق من ثبات قلبه وقت الإخبار وشجاعته ومهابته ، ويعرفون كذب الكاذب بضد ذلك ، ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة .(/100)
وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم به ، فقال : والله ما فهمت منه شيئا إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل ، فما منح العبد منحة أفضل من منحة القول الثابت ، ويجد أهل القول الثابت ثمرته أحوج ما يكونون إليه في قبورهم ويوم معادهم ، كما في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر )) اهـ .
وإن من آثار الطمأنينة في القلب سكينته واستقراره ، وهذا يظهر على الجوارح والمواقف المختلفة ، وأنقل هنا كلاما بديعا مفيدا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حول السكينة فيقول :
(( فالسكينة فعيلة من السكون ، وهي طمأنينة القلب واستقراره ، وأصلها في القلب ، ويظهر أثرها على الجوارح ، وهي عامة وخاصة .
فسكينة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أخص مراتبها وأعلى أقسامها ، كالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل وقد ألقي في المنجنيق مسافرا إلى ما أضرم له أعداء الله من النار ، فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر ! وكذلك السكينة التي حصلت لموسى وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم والبحر أمامهم ، وقد استغاث بنو إسرائيل : يا موسى إلى أين تذهب بنا ؟ هذا البحر أمامنا وهذا فرعون خلفنا ! وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم الله له نداء ونجاء كلاما حقيقة سمعه حقيقة بأذنه ، وكذلك السكينة التي حصلت له وقد رأى العصا ثعبانا مبينا ، وكذلك السكينة التي نزلت عليه وقد رأى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة .
وكذلك السكينة التي حصلت لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار ، فلو نظر أحدهم تحت قدميه لرآهما ، وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة ، وأعداء الله قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره .
فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر ، وهي من أعظم معجزاته عند أرباب البصائر ، فإن الكذاب – ولا سيما على الله – أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطرابا في مثل هذه المواطن ؛ فلو لم يكن للرسل صلوات الله وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم .
وأما الخاصة فتكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم ، وهي سكينة الإيمان وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك ، ولهذا أنزلها الله على المؤمنين في أصعب المواطن أحوج ما كانوا إليها (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)) (الفتح:4) ، فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم والجنود الداخلة فيهم ، وهي السكينة عند القلق والاضطراب الذي لم يصبر عليه مثل عمر بن الخطاب ? ، وذلك يوم الحديبية .
قال الله سبحانه وتعالى يذكر نعمته عليهم بإنزالها أحوج ما كانوا إليها :
(( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)) (الفتح:18) ، لما علم الله سبحانه وتعالى ما في قلوبهم من القلق والاضطراب لما منعهم كفار قريش من دخول بيت الله ، وحبسوا الهدي عن محله ، واشترطوا عليهم تلك الشروط الجائرة الظالمة ، فاضطربت قلوبهم ، وقلقت ولم تطق الصبر ، فعلم تعالى ما فيها ، فثبتها بالسكينة رحمة منه ورأفة ولطفا ، وهو اللطيف الخبير .
وتحتمل الآية وجها آخر ، وهو أنه سبحانه علم ما في قلوبهم من الإيمان والخير ومحبته ومحبة رسوله فثبتها بالسكينة وقت قلقها واضطرابها .
والظاهر أن الآية تعم الأمرين ، وهو أنه علم ما في قلوبهم مما يحتاجون معه إلى إنزال السكينة وما في قلوبهم من الخير الذي هو سبب إنزالها .
ثم قال بعد ذلك : (( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)) (الفتح:26) ، لما كانت
حمية الجاهلية توجب من الأقوال والأعمال ما يناسبها جعل الله في قلوب أوليائه سكينة تقابل حمية الجاهلية ، وفي ألسنتهم كلمة التقوى مقابلة لما توجبه حمية الجاهلية من كلمة الفجور ، فكان حظ المؤمنين السكينة في قلوبهم ، وكلمة التقوى على ألسنتهم ، وحظ أعدائهم حمية الجاهلية في قلوبهم ، وكلمة الفجور والعدوان على ألسنتهم .(/101)
فكانت هذه السكينة وهذه الكلمة جندا من جند الله أيد بها الله ورسوله والمؤمنين في مقابلة جند الشيطان الذي في قلوب أوليائه وألسنتهم . وثمرة هذه السكينة الطمأنينة للخبر تصديقا وإيقانا وللأمر تسليما وإذعانا ، فلا تدع شبهة تعارض الخبر ولا إرادة تعارض الأمر ، فلا تمر معارضات السوء بالقلب غلا وهي مجتازة من مرور الوساوس الشيطانية التي يبتلى بها العبد
ليقوى إيمانه ، ويعلو عند الله ميزانه ، بمدافعتها وردها وعدم السكون إليها ،فلا يظن المؤمن أنها لنقص درجته عند الله .
ومنها السكينة عند القيام بوظائف العبودية ، وهي التي تورث الخضوع والخشوع وغض الطرف وجمعية القلب على الله تعالى بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه ، والخشوع نتيجة هذه السكينة وثمرتها ، وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب ، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : (( لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه )) .
فإن قلت : قد ذكرت أقسامها ونتيجتها وثمرتها وعلامتها ، فما أسبابها الجالبة لها ؟ قلت : سببها استيلاء مراقبة العبد لربه جل جلاله حتى كأنه يراه ، وكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء والسكينة والمحبة والخضوع والخشوع والخوف والرجاء مالا يحصل بدونها ، فالمراقبة أساس الأعمال القلبية كلها وعمودها الذي قيامها به ، ولقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصول أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة ، وهي قوله الإحسان : (( أن تعبد الله كأنك تراه )) . فتأمل كل مقام من مقامات الدين ، وكل عمل من أعمال القلوب ، كيف تجد هذا أصله ومنبعه ؟ ولمقصود أن العبد محتاج إلى السكينة عند الوساوس المعترضة في أصل الإيمان ليثبت قلبه ولا يزيغ ، وعند الوساوس والخطرات القادحة في أعمال الإيمان لئلا تقوى وتصير هموما وغموما وإرادات ينقص بها إيمانه ، وعند أسباب المخاوف على اختلافها ليثبت قلبه ويسكن جأشه ، وعند أسباب الفرح لئلا يطمح به مركبه فيجاوز الحد الذي لا يعبر فينقلب ترحا وحزنا ، وكم ممن أنعم الله عليه بما يفرحه فجمح به مركب الفرح وتجاوز الحد فانقلب ترحا عاجلا )) اهـ .
مما سبق يتبين لنا أهمية الصدق مع الله عز وجل ومراقبته في جلب السكينة والطمأنينة ، وهذه الثمرة العظيمة هي محك اليقين والإيمان الحق ، ولا تظهر أو تختفي إلا حين الشدائد وثوران الشهوات والشبهات أو الخوف والطمع وقد مر بنا قصة الذين خرجوا مع طالوت وتساقطوا فئة فئة أمام الامتحان ، ولم يثبت إلا الصادقون الموقنون بلقاء الله عز وجل : (( قَالَ الَّذِينَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )) [البقرة: 249]
قال القرطبي عند تفسير هذه الآية : (( قال المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالى عند ذلك وهم عدة أهل بدر : (( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ))) ......
قال ابن عباس والسدي : جاز معه النهر أربعة آلاف رجل فيهم من شرب ، فلما نظروا إلى جالوت وجنوده وكانوا مائة ألف كلهم شاكون في السلاح رجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون )) اهـ .
والحاصل : أن الثبات والطمأنينة أمام الخوف والطمع وأمام فتنالشبهات والشهوات ؛ لا تتم إلا بالصدق في عبادة الله عز وجل واتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - والاستعداد الصادق للقاء اله سبحانه .
نسأل الله تعالى أن يربط على قلوبنا بالإيمان الصادق ، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، فهو سبحانه الذي بيده قلوب العباد يقلبها كيف يشاء ، وينزل السكينة على من يشاء ويصرفها عمن يشاء بعلمه وحكمته ؛ فلا يثبت إلا من ثبته الله عز وجل وعلم منه صدق التوجه واللجوء إليه سبحانه .
وعلى العبد أن لا يعرض نفسه للفتن والبلايا لأنه لا يدري ما تكون حاله حينئذ ، بل يسأل الله عز وجل العافية ، كما يسأله الصبر والثبات عند نزولها .
3 – الاندفاع في الدعوة إلى الله عز وجل والتضحية في سبيله : وهذه الثمرة هي محصلة الثمرة السابقة ؛ فإن صدق في عبادة الله عز وجل والاطمئنان لوعد اله عز وجل لعباده المؤمنين كل هذا يثمر في حياة المسلم اندفاعا شديدا وحماسا متقدا للدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله ؛ وذلك لاطمئنانه بصحة طريقه ومنهجه ويقينه بلقاء ربه عز وجل ومجازاته على عمله يوم القيامة .
فبقدر ما يكون في القلب من الطمأنينة والقناعة بصحة المسار تكون الدعوة والتضحية ، بعكس من لم يكن لديه القناعة والاطمئنان الكافيان فإن الحماس للدعوة يكون ضعيفا ، ولو كان قويا في بداية الأمر فسرعان ما يضعف إذا لم يتحقق الصدق المثمر للثبات على الأمر وعدم الاهتزاز والتردد فيه .(/102)
وهذا أمر مهم يجب أن ننتبه إليه وينتبه إليه المربون وذلك في التربية على الصدق واليقين والقناعة التامة القائمة على الإخلاص لله عز وجل ، والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - . وهذا بدوره ينبهنا على بعض الأخطاء في التربية والتي يقوم بعضها على غير بصيرة وبالتالي على غير قناعة ، وفي النهاية يخبو الحماس وتضعف التضحية أو لا توجد ألبتة .
إنه ليس أفضل ولا أربح في الدنيا والآخرة من العمل النابع من القناعة التامة بما يعمله المسلم والذي يثمر الاندفاع الشديد والعمل المتواصل إلى نهاية الأجل ، وحتى توجد هذه الثمرة يجب علينا أن تفقد حقيقة الصدق في نفوسنا نحو ديننا ونحو موعود الله عز وجل لنا ، وأن لا نعلق أنفسنا ونحن ندعو إلى الله عز وجل في هذه الدنيا بشيء من مكاسبها ، وإما نربي أنفسنا ومن حولنا على أن نبذل كل ما في وسعنا في هذا العمر القصير لنفوز برضوان الله عز وجل وجنته هناك في الدار الآخرة ؛ لأن من تعلق بشيء من هذه الدنيا في عمله فإنه وإن اندفع في البداية فسيخبو بعد حين إذا نال مطلوبه أو يئس من الحصول عليه ، بينما المؤمن الصادق المطمئن في سيره إلى الله عز وجل لا يتوقف أبدا إلا عند الموت ؛ لأنه ربى نفسه على أن يعطي في هذه الدنيا ولا يأخذ فيها شيئا وإنما علق نفسه بالآخرة هناك حيث الأجر والثواب .
وهذا ما كان يربي عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصحابه حيث لم يعلقهم بشيء من هذه الدنيا وإن كان الله عز وجل قد فتح عليهم خزائنها ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعلقهم بالجنة ، فيمر على آل ياسر وهم يعذبون فلا يجد ما يواسيهم به غلا أن يقول : (( صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة )) .
وعندما سأله - صلى الله عليه وسلم - الأنصار في بيعة العقبة بعد أن ذكر شرطه عليهم في البيعة فقالوا : ما لنا إن بايعناك على ذلك ؟ قال : (( لكم الجنة )) ، فلم يعدهم بشيء غير ذلك مع أنه قد تحقق لهم بهذه البيعة الفتوحات العظيمة ، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعلقهم بذلك وإنما علقهم برضوان الله سبحانه والجنة ، وهكذا تكون التربية .
والحاصل أنه كلما كان العبد صادقا في معتقده وصادقا في الاستعداد للقاء ربه سبحانه كلما كان مندفعا مضحيا صابرا محتسبا في سبيل الله عز وجل ، وإلا فما الذي جعل غلام الأخدود وإخوانه يقدمون على الموت الأحمر وهم يرونه رأي العين ولا يترددون ؟ إنه والله الإيمان الصادق الراسي في قلوبهم رسو الجبال ، وكذلك الذين قدموا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله
عز وجل ما الذي دفعهم إلى التضحية بكل ذلك غير الإيمان الحق واليقين الصادق . نسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم .
4 – القبول عند الناس والتأثير فيهم : وهذه من أعظم ثمرات الصدق في الدنيا لأن الكلمة الصادقة والتي تنبع من قلب صادق تفعل فعلها في القلوب ويكتب الله لها القبول عند الناس ، وهذا أمر مشاهد ؛ فما من رجل حقق الصدق مع ربه عز وجل ووافقت سريرته علانيته ، والتزم بما يدعو غليه مع نفسه قبل دعوة الناس إليه ؛ إلا ويستجيب الناس له وتؤثر دعوته فيهم ، إلا من أعرض ونأى بجانبه عن الحق ، فمثل هذا لا تنفع فيه المواعظ من أي جهة كانت ولو من أنبياء الله عز وجل الذين بلغوا الكمال في الصدق والإخلاص وإن أكثر ما ينفر الناس عن الداعية هو تناقض الداعية مع نفسه ؛ حيث يدعو إلى الخير والبر وينسى نفسه ، فهذه الحالة تجعل الناس في حيرة واضطراب بين سماع الطيب من كلام الداعية وبين ما يضاد ذلك من فعله وأحواله .
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ )) (البقرة:44)
(( والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه ، هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك لا في الدعاة وحدهم ولكن في الدعوات ذاتها . وهي التي تبلبل الناس وأفكارهم ، لأنهم يسمعون قولا جميلا ، ويشهدون فعلا قبيحا ، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل ؛ وتخبو في أرواحهم الشعلة التي توقدها العقيدة ؛ وينطفئ في قلوبهم النور الذي يشعه الإيمان ؛ ولا يعودون يثقون في الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين .
إن الكلمة لتبعث ميتة ، وتصل هامدة مهما تكن طنانة رنانة متحمسة ، إذا لم تبعث من قلب يؤمن بها . ولن يؤمن إنسان بما يقول حقا إلا أن يستحيل هو ترجمة حية لما يقول ، وتجسيما واقعيا لما ينطق .. عندئذ يؤمن الناس ، ويثق الناس ، ولو لم يكن في تلك الكلمة طنين ولا بريق .. إنها حينئذ تستمد قوتها من واقعها لا من رنينها ؛ وتستمد جمالها من صدقها لا من بريقها .. إنها تستحيل يومئذ دفعة حياة ، لأنها منبثقة من حياة .(/103)
والمطابقة بين القول والفعل ، وبين العقيدة والسلوك ، ليست مع هذا أمرا هينا ، ولا طريقا معبدا . إنها في حاجة إلى رياضة وجهد ومحاولة . وإلى صلة بالله ، واستمداد منه ، واستعانة بهديه ؛ فملابسات الحياة وضروراتها واضطراراتها كثيرا ما تنأى بالفرد في واقعه عما يعتقده في ضميره ، أو عما يدعو إليه غيره . والفرد الفاني ما لم يتصل بالقوة الخالدة ضعيف مهما كانت قوته ، لأن قوى الشر والطغيان والإغواء أكبر منه ؛ وقد يغالبها مرة ومرة ومرة ؛ ولكن لحظة ضعف تنتابه فيتخاذل ويتهاوى ، ويخسر ماضيه وحاضره ومستقبله ؛ فأما وهو يركن إلى قوة الأزل والأبد فهو قوي قوي ، أقوى من كل قوي . قوي على شهوته وضعفه . قوي على ضروراته واضطراراته . قوي على ذوي القوة الذين يواجهونه )) .
وذكر صاحب الحلية عن مالك بن دينار قوله : (( الصدق والكذب يعتركان ، حتى يخرج أحدهما صاحبه ، وإن الصدق يبدو في القلب ضعيفا كما يبدو نبات النخلة ، يبدو غصنا واحدا ، فإذا شقها الصبي ذهب أصلها ، وإن أكلتها عنز ذهب أصلها فتسقى فتنتشر ، وتسقى فتنتشر حتى يكون لها أصل أصيل يوطأ ، وظل يستظل به ، وثمرة يؤكل منها . كذلك الصدق يبدو
في القلب ضعيفا ، فيتفقده صاحبه ويزيده الله تعالى ، ويتفقده صاحبه ، فيزيده الله ، حتى يجعله الله بركة على نفسه ، ويكون كلامه دواء للخاطئين .
ثم قال مالك : أما رأيتموهم ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : بلى والله لقد رأيناهم : الحسن البصري ، وسعيد بن جبير وأشباهم ، الرجل منهم يحيي الله بكلامه الفئام - الجماعات - من الناس )) .
وذكر الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة محمد بن واسع رحمه الله تعالى فقال : (( روي أن قاصا كان بقرب محمد بن واسع فقال : مالي أرى القلوب لا تخشع ، والعيون لا تدمع ، والجلود لا تقشعر ؟ فقال محمد : يا فلان ما أرى القوم أتوا إلا من قبلك ، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب )) .
5 – الألفة والمحبة بين الناس :
لقد يبق في مبحث ( علامات الصدق ) الحديث عن سلامة القلب وحب الخير للناس ونقاء القلب من الحسد والبغضاء لهم ، وإن من علامات الصدق ، بالتالي فإن مثل هذه الصفات إذا وجدت بين الناس فلا شك أن الألفة والمحبة ستسود بينهم ، بالتالي ينشأ المجتمع متآلفا متكافلا تنتشر بين أفراده المحبة والإخاء والتعاون ، فلا يخشى بعضهم من بعض أن يخونه أو يغشه أو يكيد له أو يمكر به ؛ لأن كل هذه الخلال الذميمة ينفيها الصدق كما ينفي الكير خبث الحديد .
فإذا وجد مثل هذا في المجتمع المتواد المتراحم المتلاحم فهو حري بالخير العميم والوقوف أمام كيد الأعداء ومخططاتهم ؛ لأن الله سبحانه يقول : (( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) [آل عمران: 120 ] .
ثم إن الصدق مع الله سبحانه في النصح للمسلمين يقتضي ترك الظنون والإشفاق عليهم والحرص على جماعتهم ، وهو بدوره يثمر المحبة والإخاء بين الناس . وعكس ذلك مشاهد ؛ فالمجتمعات التي ينتشر فيها الكذب والظنون والغش والخداع مجتمعات متفككة متدابرة متناحرة ، وقد ذهبت ريحها وعرضت نفسها لكيد الأعداء واستباحة الديار ، قال تعالى : (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ .... )) [ الأنفال: 46]
نعم ، إن الفشل هو ثمرة التنازع والتدابر والتباغض الناشئ عن ضعف الصدق مع الله سبحانه في عباده المؤمنين ، كما أن التآلف واجتماع الكلمة ثمرة من ثمار الصدق والإخلاص ، فلا تكاد تجد صادقا مع الله سبحانه ومع عباده المؤمنين ، إلا ويحرص ويسعى إلى كل ما من شأنه التآلف والاجتماع ويكره وينبذ كل ما يؤدي إلى الفرقة والاختلاف ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاث خصال لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم الجماعة ؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم )) .
6 – الخير والنماء والبركة : إن الصدق خير كله ليس في الآخرة فحسب وإنما في الدنيا قبل الآخرة فبالصدق يأتي الخير والنجاح وتحل البركة في الأموال والأولاد وكل المعاملات والتصرفات ، والعكس يكون في الكذب حيث يمحق الله بركة الشيء الناتج عن الكذب والخداع والمكر ، وهذا مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما )) .
فهذا الحديث وإن كان في البيع والشراء فإنه يفيد أيضا بركة الصدق في كل الأمور . ولو ظهر أن في الصدق خسارة أو هلاك الأموال فالعاقبة حميدة .
وقد يتوهم بعض الناس أن ستر الحقائق ودفن الأخطاء والعيوب في التعاملات يدر عليهم ربحا ويدفع عنهم شرا ، وهذا وهم وسراب فلا شيء أفضل وأحسن بركة من الصدق ولو كان قليلا ، فقليل يبارك الله فيه خير من كثير يمحق الله بركته .(/104)
فإن التاجر قد يكذب في بيعه أو شرائه ويظن أن هذا فطنة وذكاء في كسب المال ، وما علم المسكين أن ماله الذي اكتسبه من ذلك هو محق وخسارة وضياع .
وهذا أمر مشاهد وملاحظ حيث نسمع كثيرا من التجار وأصحاب الأموال الطائلة الذين لم يتحروا في مكاسبهم الصدق والحلال ؛ نسمعهم يقولون : إننا لا ندري أين أموالنا ولا نحس ببركتها ونمائها ، وغيرهم من الذين حاسبوا أنفسهم في كسب الحلال والصدق في المعاملات ؛ نجدهم مطمئنين لما رزقهم الله عز وجل ويشعرون بالبركة فيه ولو كان قليلا .
7 – تفريج الشدائد وكشف الكربات والنصر على الأعداء : لقد سبق وأن مر بنا في فضل الصدق حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة فسدت عليهم باب الغار ، وكيف أن الله عز وجل أنجاهم من هذه الشدة والضائقة بفضل صدقهم مع الله عز وجل في أعمالهم التي توسلوا بها إلى الله سبحانه .
وكذلك مر بنا قصة الثلاثة ? كيف أن الله سبحانه تاب عليهم ونجاهم من الكرب الذي أصابهم بسبب صدقهم في عذرهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقهم في توبتهم ، وقد جاء بعد توبتهم قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )) [ التوبة:119] .
وقد أدرك كعب بن مالك ? – وهو أحد الثلاثة – فضل الصدق وكيف أن الله سبحانه قد نجاه بالصدق فقال : (( وقلت : يا رسول الله ،إنما نجاني الله بالصدق ، ومن توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت )) . ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية : (( أي اصدقوا والزموا الصدق ، تكونوا مع أهله وتنجوا من المهالك ، ويجعل لكم فرجا من أموركم ومخرجا )) .
ويقول الله تعالى : (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً )) [ الطلاق: من الآية2 ] ،
ويقول سبحانه : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )) [ الأنفال:29] . والآيات في هذا المعنى كثيرة .
أما أثر الصدق في تحقيق النصر والتمكين في الأرض فيشهد لهذا أدلة الكتاب والسنة والحس والتجارب ، ولا يتحقق الصدق في طلب النصر حتى يقوم العبد بالحق على نفسه وعلى غيره ، ويكون قيامه بالحق لله عز وجل ويستعين في إقامة هذا الحق بالله سبحانه ؛ فهذه ثلاث دعائم لتحقيق الصدق في طلب النصر والفرج من الله سبحانه .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى (( ... فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولا ، وكان قيامه بالله ولله لم يقم شيء ، ولو كادته السموات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها ، وجعل له فرجا ومخرجا ، وإنما يؤتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة ، أو في اثنين منها ، أو في واحد ، فمن كان قيامه في باطل لم ينصر ، وإن نُصِر نصرا عارضا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول ، وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولا والقيام في الحق وسيلة إليه فهذا لم تضمن له النصرة ، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله ، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه ، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين ، وإن نصر فبحسب ما معه من الحق فإن الله لا ينصر إلا الحق ، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر ، والصبر منصور أبدا ، فإن كان صاحبه محقا كان منصورا له العاقبة ، وإن كان مبطلا لم يكن له عاقبة ، وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعينا به متوكلا عليه مفوضا إليه بريا من الحول والقوة إلا به فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك ، ونكتة المسألة أن تجريد التوحيد في أمر الله لا يقوم له شيء البتة ، وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زمر الأعداء )) .
8 – غفران الذنوب وتكفير السيئات : مر بنا في الفقرة السابقة قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم ، وأن صدقهم كان سببا في توبة الله عز وجل عليهم ، فالصدق في التوبة من الذنب سبب في المغفرة وتكفير السيئات ، قال تعالى : (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً )) [الطلاق: 5 ]
وأن التوبة النصوح التي أمر الله سبحانه عباده بها هي التوبة التي صدرت من قلب صادق ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )) [ التحريم: 8 ]
ولا توصف التوبة بأنها صادقة إلا بالشروط التي ذكرها العلماء لقبول التوبة وغفران الذنوب ، وألا وهي الندم والإقلاع والعهد بعدم العودة إليه مع الإخلاص في ذلك لله عز وجل .(/105)