و إنه لتنزيل رب العالمين د. الحبر يوسف نور الدائم*
القرآن موصوف بأنه نور , وإنه لنور مبين يبدد الظلام, ويهدي الأنام, وينير السبيل قال تعالى :
( زعم الذين كفروا ألن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير . فآمنوا بالله ورسوله و النور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير. يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ).
وإنه والله لفوز عظيم أن نؤمن بهذا النور الالهي الكريم....إنه لفوز عظيم أن نؤمن به , ونعمل بمقتضاه. فوز عظيم في الدنيا وفوز عظيم في الآخرة. ولقد كان لهذا النور أثره الظاهر فيمن كان قبلنا وإنه لحري أن يؤثر فينا كما أثر فيهم إن نحن أقبلنا عليه إقبال من يبتغي الهداية و الرشد , ويعلم علم اليقين ألا هداية ثم ولا رشد هناك إلا فيه... تنزل هذا النور أول ما تنزل في بطحاء مكة فأثر تأثيراً متفاوتاً في طوائف من الناس متعددة... منهم من أدبر وصد عنه وكفر به, وأبى أن ينقاد إليه وقال في تبجح فاضح, وعناد واضح, واستنكاف عنيد (في آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) والوقر بالفتح الثقل و بالكسر الحمل تقول ( ولمن جاء به حمل بعير) ولمن جاء به وقر بعير , فأولئك قوم مستكبرون عن الحق, مستنكفون عن الإذعان له آذانهم صم, وأعينهم عمي وقلوبهم غلف.
ولكن هذا كله لم يمنع القرآن أن يقتحم عليهم ما أوصدوه من أبواب, وما أغلقوه من نوافذ سمعوه رغم أن بعضهم قد حشا في اذنيه كرسفاً فرقا من أن يسمع...سمعوه رغم أنهم تواصوا فيما بينهم, وعقدوا العزم متناصرين متظاهرين( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) ... سمعوه رغم الإدعاءات الفارغة, و المزاعم الجوفاء ( لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين) وفي أخرى ( بل قالوا أضغاث أحلام بل إفتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) ... سمعوه فلم يملكوا أنفسهم أن قالوا "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة, وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمورق, وإن فرعه لجناة وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإن له لسطوة ليست بسطوة مبطل" .
سمعت هذه الطائفة المحرومة القرآن فحركها و أزعجها, وأقض مضجعها, وزعزع كيانها فكانت الخلخلة, وكان الإضطراب, وكان القلق. كانوا يسمعون إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن وهو لا يعلم مكانهم فإذا جمعهم الطريق أقبل بعضهم على بعض يتلاومون ويقسمون بالله جهد أيمانهم ألا يعودوا لمثلها أبدا ثم لا يملكون إلا أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فإذا بأقدامهم تسوقهم إلى محراب رسول الله سوقاً . ولقد صور القرآن الكريم تلك الحال تصويرا حياً موحياً وذلك حيث يقول سبحانه ( فما للذين كفروا قبلك مهطعين . عن اليمين وعن الشمال عزين) ومهطع مصدر من الفعل أهطع يهطع إهطاعاً فهو مهطع تقول أهطع البعير إذا مدّ عنقه وسار سيراً حثيثاً , ولقد وردت هذه اللفظة في مواضع ثلاثة من القرآن الكريم ففي سورة إبراهيم نقرأ قوله تعالى ( ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون . إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم و أفئدتهم هواء . وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) وفي سورة القمر نقرأ قوله سبحانه ( فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر . خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر . مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر) فهاتان مع تلك آيات ثلاث ورد فيها لفظ الإهطاع الذي يدل على السرعة و الجد من جهة, و الإذعان و الخضوع من جهة اخرى برغم ما يكتنف القوم من كبر و مكابرة و عناد. وقوله (عزين) يعني أنهم كانوا يتحلقون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفون به حلقاً متفرقة, وجماعات أبابيل , وهذا وحده يدلك على ما أحدثه القرآن فيهم من آثار نفسية ضخام , كانوا لا يملكون له رداً, ولا يستطيعون له دفعاً, ولو استطاعوا لفعلوا وهم يجمحون وهم كما نعلم قوم ذو أنف شديد لا يصبرون على تحدٍ أبدا فهم كما عبر أبو الطيب المتنبي :
وإني لمن قوم كأن نفوسهم بها أنف أن تسكن اللحم و العظما(/1)
لقد جاءهم القرآن بما لا قبل لهم به ... قد يحاولون ستر ما يصيبهم به من أثر ولكنهم في قرارة أنفسهم يعترفون له, ويقرون به وإلا فلماذا كانوا ينظرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك النظر الحديد الذي يكاد يزيله من مكانه ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون)... ولو كان هذا القول الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من كلام البشر كما زعم الوليد بن مغيرة المخزومي فيم كان تفكره وتدبره, وفيم كان عبوسه وبسوره ( إنه فكر وقدر . فقتل كيف قدر . ثم قتل كيف قدر . ثم نظر . ثم عبس وبسر . فقال إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر . سأصليه سقر) إنها المغالطة الجامحة و المعاندة السافرة التي ليس لها من جزاء إلا أن يلج صاحبها نارا تلظى.... لقد كان الوليد بن المغيرة راوية لكلام الناس كان عارفا بالكلام منظومه ومنثوره, هزجه ورجزه, مقبوضه ومبسوطه, مرسله ومقيده, ولقد أنكر أن يكون في القرآن من كلام الناس مشابه ولكن أبا جهل عمل كل حيلة لاستفزازه, و إخراجه عن طوره, وإبعاده عن الإنصاف وذلك إذ قال له إن قومك يتحدثون أنك إنما تأتي محمداً وصاحبه لتصيب من طعامهما وإنهم جامعون لك ما يكفيك عن التكفف, ويغنيك عن السؤال فثارت حمية الرجل, وفار غضبه وأرغى وأزبد وسأل في دهشة أو لست بسيد الوادي؟ أو لست بأكثركم مالاً؟ قال أبو جهل هو ذاك إلا أن تقول فيه قولاً يكرهه ...فطلب الوليد مهلة فيها يفكر ويعيد النظر ويقلبه فاهتدى إلى هذا القول السخيف المتهافت ( إن هذا إلا قول البشر) وإن الوليد ليعلم وإن العرب ليعلمون أن بينه وبين قول البشر بوناً لا يدرك ومندوحة لا تقطع ولكنها المغالطة و الكبرياء و الجحود ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) .(/2)
و اجتمع نوران !! د. الحبر يوسف نور الدائم*
كنا قد تكلمنا في السابق عن الأثر الضخم الذي أحدثه القرآن الكريم في نفوس المشركين حيث أخذ منهم كل مأخذ ونال منهم كل منال , وإن لم يؤمن له بعضهم لما استولى على قلوبهم من غفلة و انغلاق, ولما استحوذ عليهم من كبر وشقاق.
ونود أن نتحدث هنا عن الأثر البعيد الذي أحدثه القرآن فيمن آمن به, واتبع هداه, واستنار بنوره.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول المتأثرين بهذا النور الذي أنزل إليه , تلقى الآيات الأولى في دهش فزع من رؤية الملك, وملىء منه رعباً , ولا غرو فقد كانت تجربة روحية فذة فريدة لم ير لها مثيلاً من قبل...رجل أمي نشأ في أمة أمية ما يدري ما الكتاب ولا الإيمان ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون . بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) رجل أمي في أمة أمية يأتيه الملك في صورته ليقول له إقرأ فكان الرد الطبيعي ما أنا بقارىء , فكان الغط وكان الإرسال ليهيىء تلك التهيئة الربانية لتلقي ذلك الكلام الرباني الكريم : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . إقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم) , ألا ما أكرمه من كلام, وما أصدقه من قيل, وما أعظمها من نعمة, وما أجله من تكريم .
لقد قذف في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم النور, وانقدحت في فؤاده الهداية بملامسته لذلك الكلام القدسي المنير الذي جاء به ترجف بوادره يقول زملوني , زملوني , دثروني , دثروني, وصبّوا عليّ ماءاً بارداً . أما إنها لتجربة وأي تجربة , تجربة خاضها من صنعته يد العناية و الرعاية و التعهد ( والله أعلم حيث يجعل رسالته) تجربة ينخلع لها الفؤاد, وترتجف منها البوادر, وترتعد منها الفرائص. ولولا أن ثمرة هذا اللقاء الروحي المرعب ثمرة من الطيب و الكرم يقصر عنها الوصف, وتضل فيه الأفهام و الأوهام لما تاق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تكرارها ثانية وإعادتها أخرى , ونحن نعلم كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضاقت عليه الارض بما رحبت, وضاقت عليه نفسه حين انقطع عنه الوحي فترة فما انزاح عنه ما يجد, وما زال عنه ما ألم حتى تنزلت عليه آيات ربه تبشره وتطمئنه, وتسرّي عنه وتعزيه, وتعده الوعد الحسن المحقق (والضحى . والليل إذا سجى . ما ودّعك ربك وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى . ولسوف يعطيك ربك فترضى ) .
ألا ما أحيلى ذلك الكلام وما أعظم ذلكم القسم, وأكرم به من وعد جزيل لا يتخلف (ولسوف يعطيك ربك فترضى ) وانظر إلى قوله سبحانه (ما ودعك ربك وما قلى) لم يقل سبحانه وما قلاك ليس مراعاة للفاصلة التي هي على الألف اللينة فحسب ولكن ليشعرك أن القلى من رب العزة لرسول الإنسانية أمر غير وارد ولا متوقع , فالصلة بين الرب ورسوله صلة ود لا ينقطع وحب لا يزول ...وقلى فعل ماض بمعني كره وأبغض قال تعالى (إني لعملكم من القالين) أي الكارهين. تقول قليت فلانا إذا كرهته ومنه قول الشنفرى الأزدي في صدر قصيدته اللامية التي تعرف بلامية العرب:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ** وفيها لمن خاف القلى متعزل(/1)
كان صلوات الله وسلامه عليه في شوق لافح, ولهفة مشوق للقاء الروح الأمين (نزل به الروح الأمين . على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربي مبين ) ينتظره ليزيل غمته, ويفرج كربته ... ليحل المعضل, وينير السبيل يسابقه ويبادره, ويحرك شفتيه متعجلا مخافة أن يفوته شيء من القرآن وإنه عليه لحريص, وبه مشغوف, وله وامق . فإذا بالقرآن يتنزل عليه ناهياً واعداً ( لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرآناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه ) وفي سورة طه نقرأ قوله المبارك ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه وقل رب زدني علما ) كل هذا يدلك على مكانة القرآن عند من تنزل عليه القرآن , إنه قرة عينه, وثمرة فؤاده ... آمن به, ودعا اليه.... عاش به وجاهد في سبيله ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) فالرسول صلى الله عليه وسلم موصوف بأنه يؤمن بالله , ويؤمن مع إيمانه بالله بكلمات الله , ولقد حمله ذلك الإيمان الذي لا يتزعزع بكلمات الله إلى قراءتها وتلاوتها آناء الليل وأطراف النهار ولا سيما وهو المأمور بذلك أمراً من ربه , ومعلوم أن أمر ربه ممتثل, وقوله نافذ (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ً. ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محموداً ) لقد كان صلوات الله وسلامه عليه قواما بآيات ربه , قيل له ( يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلاً . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً ) فقام صلوات الله وسلامه عليه ...قام مشمرا جاهداً مجتهداً ... قام حتى انتفخت قدماه تورّماً ...فقيل له , فقال (أفلا أكون عبداً شكوراً).
لقد علم أن ذلك القول الثقيل لا ينفع معه إلا الجد و التشمير و الجهاد:
كميش الإزار خارج نصف ساقه ** صبور على الضراء طلاع أنجد
علم أن ذلك القول الثقيل لا يجدي معه استرخاء وتكسل وتبطل , فقال قولته التي طارت في الآفاق وسارت بها الركبان( لقد مضى زمن النوم يا خديجة ) ... نعم مضى زمن النوم ... مضى زمن النوم ليحل محله يقظة واعية, ووعي حذر ... وشتان بين زمن وزمن, وعهد وعهد, وحياة وحياة.
ويا بعد ما بين قبل نزول القرآن, وبعد نزول القرآن إنه بعد لا يقاس, ومسافة لا تنقطع. كان صلوات الله وسلامه عليه يتحين الفرص, ويتعرض للنفحات (فإذا دخل العشر الأواخر من رمضان شدّ المئزر, وأيقظ أهله وأحيا ليله ) وشدّ الإزار لا يفعله إلا الرجال قال حسان:
إذا لم يسد قبل شد الإزار ** فذاك الذي عندنا لا هو
وهو بعد كناية عن الجد و الاجتهاد و المضاء , إذ أن سبل الإزار و إرخاؤه دليل على الدعة و الراحة والاسترخاء , ولا دعة و لا راحة ولا استرخاء ولا سكون مع دعوة يقودها القرآن ويحدوها الفرقان.
ولقد كانت تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن, وتأثره بتلاوته مدعاة للفخر و الإعتزاز واسمع أبا هريرة رضى الله تعالى عنه يقول في الحديث الصحيح : (إن أخاً لكم لا يقول الرفث- و الرفث الفاحش من القول – إن أخاً لكم لا يقول الرفث ) يعني عبد الله بن رواحة الأنصاري مادح رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهيد مؤتة قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق مكنون من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ** به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
نعم , إنها الصفة التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لممدوح : ( كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه) , جاءه نابغة بن جعدة ينشد قصيدة رائية:
بلغنا السماء مجدنا وسناءنا ** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
فيقول له الرسول الكريم في لطف ولين : ( إلى اين يا أبا ليلى ؟) فيقول أبو ليلى في حصافة و لباقة : ( إلى الجنة بك يا رسول الله ) فيدعو له الرسول الكريم قائلا ( لا يفضض الله فاك) ويشير من كلمته تلك إلى الصفة آنفة الذكر فيقول: (ويتلو كتاباً كالمجرة نيرا)
نعم , إنه النور الذي يتلو النور ( فآمنوا بالله ورسوله و النور الذي أنزلنا و الله بما تعملون خبير).(/2)
و ذكرهم بأيام الله
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون . يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما . أما بعد ،،، فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار . معاشر المسلمين : يقول الحق تبارك وتعالى في سورة إبراهيم عليه السلام : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ، وذكرهم بأيام الله ، إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور . قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : أي ادعهم إلى الخير ؛ ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال إلى نور الهدى وبصيرة ألإيمان . وذكرهم بأيام الله ، أي : بأياديه ، ونعمه عليهم ، في إخراجه إياهم من أسر فرعون ، وقهره وظلمه وغشمه ، وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه لهم البحر ، وتظليله إياهم بالغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى ، إلى غير ذلك من النعم ، قال ذلك مجاهد ، وقتادة ، وغير واحد . وأورد ابن جرير رحمه الله تعالى حديثا موقوفا في قوله تعالى : وذكرهم بأيام الله . قال : بنعم الله تبارك وتعالى . قال : وقوله : إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور . أي : فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون ، وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين ، لعبرة لكل صبار ، أي : في الضراء ، شكور ، أي : في السراء ، كما قال قتادة : نعم العبد ، عبد إذا ابتلي صبر ، وإذا أعطي شكر . أيها المسلمون : من هذا الباب ، وتأسيا بموسى أذكر نفسي وأذكركم بأيام الله تعالى ، أذكركم بأياديه ونعمه ، كما ورد الأمر من الله تعالى بذلك في غير ما آية من كتابه الكريم ، كما قال جل وعلا : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا . وقال تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به . ألا وإن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا أن هدانا للإسلام ، وأنزل علينا القرآن ، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان . وحقا وصدقا : والله لولا الله ما اهتدينا ، ولا تصدقنا ولا صلينا . فما كانت هدايتنا للدين القيم ، بذكاء منا ولا رجاحة عقل ، فهذا الحكم بن هشام ، سيد قومه ، وأرجحهم عقلا ، لم يعد يعرفه الناس إلا بأبي جهل ، وانظروا حال عتبة بن ربيعة ، والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، وأبو لهب ، فإنهم قد جاءهم أعظم نبي ، وأفضل الرسل ، وخير الدعاة ، صلى الله عليه وسلم ، وأوتوا فصاحة وبلاغة ، وعزا ونسبا ، وجاها ومالا ، فلم يفدهم ذلك شيئا إذ لم يوفقوا للهداية . ولم نقلب صفحات الزمن الغابر ، وأمام أعيننا آلافا من العقلاء ، والبلغاء ، والأدباء ، والفصحاء ، والوجهاء ، وأكابر أهل الدنيا من العلماء ، أضلهم الله فلم يهتدوا سبيلا ، فترى عالم ذرة ، أو حاذقا في طب أو كيمياء ، أو مرجعا في علوم الفضاء ، تبينت له آيات الله في نفسه ، وفي الكون حوله ، ولكنهم كانوا قوما بورا ، وما زادتهم آيات الله إلا نفورا . ومن يضلل الله فما له من هاد . وإلا فالعجب كل العجب من عاقل يسطر البحوث ، وينشر العلم الدنيوي ، ومن ثم يعبد بقرة ، أو صنما ، أو بشرا أو ملكا ، لا يملك لهم رزقا من السموات شيئا ولا يستطيعون . فالحمد لله ، ثم الحمد لله ، ثم الحمد لله ، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما ، وملء ما شاء ربي بعد ، على نعمة الإسلام . أيها المسلمون : بهذه النعمة العظيمة نقلنا الله تعالى من ظلام الكفر الدامس إلى نور الهدى الساطع ، ونقلنا بها من عمى الجهل الفاضح ، إلى بصيرة العلم النافع . بها تبدل تفرقنا والاختلاف إلى اجتماع وتآخ وائتلاف . فأصبحنا بفضل الله وبرحمته أمة متآلفة قلوبها ، متحدة أهدافها ، مجتمعة كلمتها ، منتظمة صفوفها ، ربط بين أواصرها دين متين ، وصراط مستقيم ، فسارت على هديه ، وسلكت سبيله ، فسادت ، وعلت رايتها ، وارتفعت هامتها ، فلم تحن رأسا لغير الله ، ولم تخش أحدا إلا الله ، ففتحت الأمصار ، ونشرت العدل والحق في جميع الأقطار . وثبت قوله عليه الصلاة والسلام : إن الله زوى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها . رواه مسلم . ومصداق ذلك قوله تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون .(/1)
ومعنى ليظهره : أي ليجعله فوقه ، مستعليا عليه . وهو استعلاء بالعلم والحجة ، وبالسيادة والغلبة ، واستعلاء بالشرف والمنزلة . وعلى هذا وبناء عليه قال ابن القيم رحمه الله تعالى مبينا معنى ظن السوء في قوله تعالى : يظنون بالله ظن السوء ظن الجاهلية . وفي قوله تعالى : وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا . قال : فمن ظن أنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل الشرك على التوحيد ، والباطل على الحق إدالة مستقرة ، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا ، فقد ظن بالله ظن السوء . معاشر المسلمين : مرت بنعمة الله هذه ، أعني الإسلام أيام ، تداول فيها مع أعدائه النصر والهزيمة ، ولكنه أبدا لم يخب منه نور ولم يطفأ له سراج . مذ نزلت اقرأ ، والجهاد في التبليغ قائم ، وفي الناس مصل وصائم ، وغارق في لجج الظلام وعائم . وتوالت القرون بين كيد الكائدين ، وعوائق المعاندين ، وتشويه المفسدين ، وإعراض المعرضين ، فما زاد الله تعالى نوره إلا سطوعا ، والله متم نوره ولو كره الكافرون . ألا إن نعمة يتولى الله تعالى نشرها ، وحفظها ، ولإبقاء جذوتها في القلوب ، ينصر من نصرها ، ويوفق من دعا إليها ، ويثيب من مات عليها جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ، حري بهذه النعمة أن تصان ، وأن يعض عليها بالنواجذ ، وأن يسأل العبد مولاه جل وعلا أن يهديه إليها ، وأن يثبته عليها ، ليكون من الفائزين ، وينقذ نفسه فلا تهلك مع الهالكين . وليتأمل : اهدنا الصراط المستقيم . وليجعلها أمام ناظريه ، ونصب عينيه ، فيعرف قيمتها ، ويقدر أهميتها ، فيدرج مع السالكين ، بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين . يقول ابن القيم في منازلها : فأول منازل العبودية – اليقظة – وهي انزعاج القلب لروعة الانتباه من رقدة الغافلين ، ولله ، ما أنفع هذه الروعة ! وما أعظم قدرها وخطرها ! وما أشد إعانتها على السلوك ! فمن أحس بها فقد أحس والله بالفلاح ، وإلا فهو في سكرات الغفلة ، فإذا انتبه شمر لله بهمته إلى السفر إلى منازله الأولى ، وأوطانه التي سبي منها : فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم فأخذ في أهبة السفر ، فانتقل إلى منزلة العزم ، وهو العقد الجازم على المسير ومفارقة كل قاطع ومعوق ، ومرافقة كل معين وموصل ، وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه ، وبحسب عزمه يكون استعداده . إخوة الدين والعقيدة : ليعلم كل معاند لهذا الدين ، كاره لتعاليمه ، رافض هذه النعمة أن الذي نصر المؤمنين ببدر وهم أذلة ، ونصرهم في غزوة الخندق ، ويوم حنين ، وفي القادسية ، واليرموك ، وغيرها ، أنه ناصر دينه ، وأتباع دينه ، ومعل كلمته ، ومذل كل من خالف أمره ، فليبذلوا ما شاءوا لحربه ، والصد عنه ، ولينفقوا أموالهم في ذلك عسكريا ، وثقافيا ، واغتيالا ، وقتالا ، ليصدوا عن سبيل الله ، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون . وسيظل ديننا قائما ، حكما عدلا ، سيبقى شامخا له دولته ، وأتباعه ، وحفظته ، ودعاته ، فأولى لهم ، ثم أولى لهم ، أولى لهم أن يصالحوه ، وينفضوا رداء الغفلة عن قلوبهم ويتبعوه ، ويستيقظوا من غمرتهم فيعتنقوه . أو ليفسحوا الطريق لمن أراد أن يسلك الطريق ، ليت الذي لم يكن بالحق مقتنعا يخلي الطريق ولا يؤذي من اقتنعا فاتقوا الله عباد الله ، واذكروا نعمة الله عليكم بأن شرح صدوركم للإسلام ، فأنتم على نور من ربكم ، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين . ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ، ومن يضلل الله فما له من هاد ، ومن يهد الله فما له من مضل ، أليس الله بعزيز ذي انتقام ؟ فالحمد لله الذي جعل الإسلام لنا دينا ، وجعلنا في بلد مسلم ، تقام فيه شعائر دينه ، صلاة وزكاة ، وصياما وحجا ، وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ، وتقام فيه حدود الله ، وتصان فيه شريعة الله ، فلا عجب ، أن تذهب جهود الكارهين له سدى ، وأن تكون عاقبة كلماتهم ، ورواياتهم ، وصدهم هباء منثورا ، فيثبت الواقع ، أن مصير هذه الأمة ، وهو اختيارها الذي تلاشت معه روابط الأسرة والقبيلة والمال والاقتصاد ، وبقيت رابطة العمل لله ، وفي الله ، واقعا ملموسا ، أذهلت نتيجته عقول المستغربين ، وأغاظت واقعيته قلوب المنافقين ، فقل لهم يا عبد الله بكل قوة ، ويقين وصدق ، هنا بلاد ألإسلام ، هنا مهبط الإسلام ، وهنا مأرزه ، منها بدأ ، وإليها يعود ، أهل هذه البلاد هم من هاجر فيه وناصروه ، وهم حملته والداعون إليه ، فلن تصبح هذه البلاد بلاد كفر أبدا ، ولن تعلى فيه راية غير رايته التي ترونها أمامكم أبدا ، أفلا تعقلون ؟ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز . فأولى لكم أن تعودوا إلى الحق ، وتذعنوا له ، وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون . فاستيقظوا من(/2)
غفلتكم ، واعقدوا العزم على سلوك سبيل المؤمنين ، واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ، ويؤت كل ذي فضل فضله ، وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ، إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير . نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ، وسنة رسوله . أقول قولي هذا ... الخطبة الثانية : الحمد لله حمدا كثيرا طيبا كما أمر ، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرضاء له وإرغاما لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، الشافع المشفع يوم المحشر ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر وسلم تسليما . ،،،، أما بعد ‘ فاتقوا الله عباد الله ،،، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة ، ومن شذ شذ في النار ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم ، وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم . أيها الأحبة : قال حبيبنا صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم عرفة (وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إن اعتصمتم به ، كتاب الله) وفي موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى : قال صلى الله عليه وسلم (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما ، كتاب الله ، وسنة نبيه) هذان الأمران عباد الله هما العصمة من الفتن ، والمأمن من العذاب ، والمشعل الهادي في غيابات الظلام ، والمرشد إلى الصراط المستقيم ، المعين على النجاة من الضلال ، فتمسكوا بهما ، وادعوا إليهما ، وجاهدوا فيهما ، وذبوا عنهما ، حتى يأتيكم اليقين . وتزودوا أحبتي ، بالتقوى ، وبصالح الأعمال ، وإن من صالح الأعمال صيام يوم عاشوراء ، وهو اليوم العاشر من محرم ،،، لما أخرج البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم ، فصامه موسى ، قال : فأنا أحق بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه . وفي رواية مسلم : فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون ، فنحن نصومه تعظيما له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : نحن أولى بموسى منكم ، فأمر بصومه . وفي رواية أخرى : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن أحق وأولى بموسى منكم . وأمر بصيامه ، وسئل عن صيامه فقال : أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ،،، فصيام يوم عاشوراء مكفر للسنة الماضية ، فبادروا بصيامه ، احتسابا ، ومن صام يوما في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفا ، ومن صامه فليصم يوما قبله أو يوما بعده ، مخالفة لليهود ،،، وفقني الله وإياكم لمرضاته ، وجمعنا ووالدينا والمسلمين في الدرجات العلى من جناته ،،، ، وصلوا على النبي الكريم(/3)
وأعدوا لهم
من خطبة جمعة في 15 من ذي الحجة 1424هـ - 06/02/2004
أيها المسلمون: أخرج الإمام أحمد بسنده عن ابن شماسة، أن معاوية بن خديج مر على أبي ذر، وهو قائم عند فرس له، فسأله: ما تعاني من فرسك هذا؟ فقال: إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته. قال: وما دعاء بهيمة من البهائم؟ قال: والذي نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو كل سَحَرٍ فيقول: اللهم أنت خولتني عبداً من عبادك، وجعلت رزقي بيده، فاجعلني أحبّ إليه من أهله وماله وولده. وعنه أيضاً t قال: قال رسول الله r: «إنه ليس من فرسٍ عربيٍ إلا يُؤْذَن له مع كل فجر يدعو بدعوتين، يقول: اللهم إنك خوّلتني من خوّلتني من بني آدم، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه، أو أحبَّ أهله وماله إليه» رواه النسائي. وفي صحيح البخاري عن عروة بن أبي الجعد البارقيّ أن رسول الله r قال: «الخيل معقود في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة، الأجرُ والمغنم».
أيها المسلمون: كانت الخيول هي الركوبة القتالية الفعالة ردحاً طويلاً من الزمن، واستخدمها العرب والعجم في حروبهم وتنقلاتهم السريعة قروناً عدة وأزمنة مديدة، ولذلك نجد الحديث عن الخيول في القرآن الكريم والشعر العربي وتراث الأمم كثيراً، يطول شرحه، ويصعب حصره. فالله سبحانه وتعالى يقول: ]وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ[ (الأنفال) و (في سبيل الله) هنا تعني الجهاد. ويقول جل شأنه: ]وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [ (النحل 8). وأما قوله تعالى ]ويخلق ما لا تعلمون[ (النحل) ففيه إشارة إلى إمكانية تغير هذه الوسيلة القتالية إلى وسائل أخرى، تبعاً لتطورات التصنيع العسكري، تحقق إرهاب العدو. وبالفعل فإن الانقلاب الصناعي الذي حصل في أوروبا، منذ ثلاثة قرون تقريباً، قد أحدث انقلاباً في وسائل القتال أيضاً. فاختُرِعت العربات العسكرية المجنزرة ونصف المجنزرة لنقل الجنود، وكذلك اختُرعت الحافلات والقطارات والبوارج الحربية والغواصات لنقل الأفراد والأسلحة والأمتعة، ما أوجد طفرةً في مجالات النقل والحضور السريع إلى مواقع الصراع مهما كانت بعيدة. فكان من الطبيعي أن تحل السيارة والحافلة والقطار وغيرها مكان الفرس لتحقيق الغرض العسكري والمدني المنشود، وكان من الطبيعي أيضاً، نظراً لسعة الفقه، أن يتوقف المسلمون عن التمسك بالخيل كوسيلة مواصلاتٍ تنقلهم إلى مواقع المعارك وساحات الوغى، وأن يبذلوا وسعهم في تطوير قدُراتهم القتالية تبعاً للمستجدات الصناعية والمتغيرات التقنية. بل إن الحكم الشرعي في مثل هذا العمل هو الوجوب، كونه مرتبطاً بالجهاد الواجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ناهيكم عن قضاء الحاجات والمصالح والمآرب الأخرى.
أيها المسلمون: ويسري على الرميِ ما يسري على رباط الخيل، فقوله تعالى ]من قوة[ يعني الرمي، لقوله r: «ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي»، وقوله r: «ارموا واركبوا، وأن ترموا خيرٌ من أن تركبوا». وقد تطور الرمي من الحجارة والسهام والرماح والنبال إلى المنجنيق ثم إلى أسلحة الرماية النارية، ثم إن الرمي اليوم كما تعلمون، مدافع ودبابات، وراجمات صواريخ وطائرات قاذفة، ومن الصواريخ ما يحمل رؤوساً نووية وكيماوية وجرثومية، وبالرمي حُسِمت المعارك، وكسبت الدول الكبرى حروبها، وبالرمي أهلكت أميركا أنظمة ميلوزوفتش وطالبان وصدام، وبالرمي قصفت الخرطوم وطرابلس، وبالرمي خضعت رقاب الأوروبيين لأميركا أيام نشر الصواريخ النووية في الأوروبيتين وتفكيكها. وقائمة فعاليات الرمي طويلة.(/1)
أيها المسلمون: نحن أولى من أميركا بامتلاك وسائل الرماية، ونحن الذين يلزمنا الرمي لنشر الإسلام، وإزالة أنظمة الطاغوت والجاهلية من الأرض، ونحن فرسان المعارك، وصُنّاع الحروب، ونحن أصحاب النصر والفتح المبين في بدر والحديبية واليرموك والقادسية وحطين وعين جالوت، ونحن القوم الذين قاتلت معهم ملائكة السماء الثالثةِ، ونحن الذين فتحنا اسطنبول، ونحن الذين سنفتح روميةَ (روما) قريباً بإذن الله، ونحن أصحاب البقرة وآل عمران، ونحن الذين انتصرنا للصائحة العمّورية، ونحن الذين أنقذنا ملك فرنسا من الأسر، ونحن الموعودون بالاستخلاف والتمكين والأمن، ونحن أصحاب الوعد القاطع بالنصر، قال تعالى: ]وكان حقا علينا نصر المؤمنين[ (الروم)، وإني لأعجب كيف لا يشتاق الجندي المسلم إلى دبابته ليخوض بها غمرات الجهاد في سبيل الله، وأعجب من الطيار المسلم الذي لا يشتاق لأن يدكّ بقذائف طائرته وصواريخها معاقل الكفر والشرك، أعجب منهم وقد ملّكهم الله أمرَ هذه الجمادات تدعو لهم لو أخذوها بحقها، لا جرم أنها تدعو عليهم أن عطّلوها. فواجبنا أن نواكب هذه الصناعات، بل أن نتفوّق فيها على غيرنا، ولن نكتفي وقتها بالتهديد والرّدع، ولكننا سنضرب الكفار المعاندين المستكبرين ضرباتٍ تنسيهم وساوس الشيطان، وتخضعهم وأمثالهم لإرادة الحق والإيمان.
أيها المسلمون: أين نحن اليوم من هذا الخطاب الجهادي والنصرويّ؟ وأين هي طاقات الأمة الإسلامية التي يقع عليها عبء الإعداد، وفق أقصى درجات الاستطاعة، لإرهاب العدو ومن يقف خلفه، ممن علمنا وممن لا نعلم؟ قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: (ما استطعتم، أي مهما أمكنكم)، وفيه إشارة على استغلال كافة موارد الأمة، صغيرها وكبيرها، لتحقيق غرض الإعداد المُرهِب. أنظروا – رحمكم الله- إلى مستوى الإعداد عند الأمة الإسلامية اليوم، فماذا عساكم تجدون؟ إنه وضع محزن حقاً، دويلات ضرارٍ عميلة لأسيادها الكفار، تتخذ جيوشاً للمراسيم والبطش بالشعوب، وأسلحتها التقليدية مكدّسة في المخازن، ولا تظهر إلا في الاستعراضات، ويتباهون بعدم امتلاكهم لأسلحة غير تقليدية وما عُرف بأسلحة الدمار الشامل، ويتبرأون من (أخطاء!) علمائهم إن طوّروها، ونقلوا بعض أسرارها لإخوانهم، بل ويقيلونهم من مناصبهم ويقدمونهم إلى المحاكمة، ولولا الخوف من غضب الشارع الإسلامي لأعدموهم إرضاء لأسيادهم، ولكنهم عَفَوْا عنهم في اللحظة الأخيرة، وسارعوا إلى وقف أو تعليق برامجهم لإنتاج ذلك النوع من الأسلحة المرهِبة، وفتحوا الأبواب على مصراعيها لفرق التفتيش الدولية المعادية للإسلام والمسلمين. هذا إضافة إلى وقف برامج التجنيد الإلزاميّ للشباب، بحجة عدم القدرة على الاستيعاب، ويجندون بدلاً منهم النساء في أوضاعٍ مشينة شرعاً وعُرفاً، وأوكلوا مهمة الجهاد إلى مقاولين من الباطن. وثالثة الأثافي أنهم يوظفون الجيوش من أبناء الأمة الإسلامية في خدمة مصالح الكفار، ويتخذون منهم كلاب حراسة للأنظمة الطاغوتية. أجل أيها المسلمون، هذه هي الصورة بكل وضوح وجلاء، وبكل أسف من غير عزاء، هذه قوتنا وإعداداتنا في زمن الرويبضات السفهاء. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فيا فوز المستغفرين!
أيها المسلمون، في خضم تخلي حكامنا عن امتلاك أي سلاح مؤثر في المعارك يحقق إرهاب العدو ومن يقف خلفه، فإن فرنسا قد أكدت أن الردع النووي ما زال قائماً، ولا يمكن التخلي عنه في عالم محفوف بالمخاطر، وإن القوى العظمى التي تملكه لا تفكر أبداً في التخلي عنه. وكان الرئيس الفرنسي قد حدد العقيدة الاستراتيجية لفرنسا، في القرن الحادي والعشرين، التي تتضمن الردع النووي، وذلك قبل عامين ونصف تقريباً وقال: «إن الردع النووي أساس ضروري لأمننا وسيبقى». هذه فرنسا، فما قولكم في أميركا التي تمتلك أكبر ترسانة منه، وتتخذ من وجود برامج لإنتاجه ذريعة لاحتلال دول بأكملها، وفرض هيمنتها عليها، فمن يقدر أن يطلب منها إخضاع برامجها للتفتيش.(/2)
أيها المسلمون: إن الأمة الإسلامية تتوق إلى العزة والكرامة والسؤدد وامتلاك القوة، وتفرح فرحاً شديداً بأي تقدم في مجال الأسلحة غير التقليدية، رغم أنها محرومة من استخدام السلاح التقليدي! والأمة تتوق إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، والأمة تحب أن ترفع رايات النصر خفاقة فوق ربوعها، ولكن الحكام يأبون ذلك كل الإباء، ويرفضون بشدة متناهية وبقسوة كبيرة، إرضاءً لأسيادهم الكفار، أعداءِ الله ورسوله وجماعة المسلمين، وحفاظاً على بقائهم في الحكم أطول وقت ممكن. إنهم يريدون إعدام قوة الأمة وليس إعدادها، ولذلك نراهم يهدرون الأموال في غير مصالح المسلمين، ويخفضون ميزانيات التسلح إلى حدها الأدنى، وينفقون أموال الأمة في ترهات وسخافات. فقد أعلن متحف فيكتوريا وألبرت البريطاني قبل أيام قليلة أنه تلقى 5.4 مليون جنيه إسترليني (9.84 مليون دولار) من أسرة سعودية تعد من أغنى أسر العالم لإقامة صالة عرض للكنوز الإسلامية بالمتحف، وصرح المتحف بأن الهبة المقدمة من الأسرة السعودية، التي تمتلك إمبراطورية للاتجار في السيارات والعقارات والإلكترونيات، هي أكبر منحة من نوعها منذ تأسيسه قبل 152 عاماً!!
أيها المسلمون: إذا استقامت السياسة استقام الإنفاق والاقتصاد، وإذا استقامت السياسة استقام التصنيع العسكري، وإذا استقامت السياسة أمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وإذا استقامت السياسة عند المسلمين استقام العالم أجمع في وقت قياسي. وإن استقامة السياسة معناها مبايعة إمام، على السمع والطاعة، للحكم بكتاب الله وسنة نبيه محمد r، ومعناها تطبيق الإسلام في الداخل، وحمله إلى الناس كافة رسالة هدى ونور، وقد بشرنا بذلك رسول الله r عندما قال: «... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، تعمل في الناس بسنة النبي، ويلقي الإسلام جرانه في الأرض، يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً، ولا تدع الأرض من نباتها ولا بركاتها شيئاً إلا أخرجته» ذكره حذيفة مرفوعاً، ورواه الحافظ العراقي من طريق أحمد وقال: هذا حسن صحيح. فاللهم اجعل ذلك اليوم قريباً، واجعلنا من جنود الخلافة وشهودها(/3)
وأنكحوا الأيامى منكم
المحتويات
وقفة حول العنوان
من منافع الزواج
السلف والزواج
الفقهاء والزواج
غيرنا والزواج
ماذا نجني من الزواج المبكر ؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره وتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،أما بعد: فحديثنا الليلة بعنوان (وأنكحوا الأيامى منكم) وهو صدر آية كريمة في سورة النور.
وقفة حول العنوان
أول مايستوقفنا في هذا العنوان هو معنى كلمة الأيامى:
الأيامى في اللغة الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء . قال ابن سيدة:"الأيم من النساء التي لازوج لها بكراً كانت أو ثيباً، ومن الرجال الذي لا امرأة له" . والأيم على الصحيح يطلق على الذكر والأنثى كما قيل :
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي *** يد الدهر مالم تنكحي أتأيم
ومن قول ابن القيم :
وكن أيما مما سواها فإنها *** لمثلك في جنات عدن تأيم
والأغلب إطلاقه على الأنثى، وهي في الآية الكريمة تشمل الذكر والأنثى .
من منافع الزواج
للزواج منافع وآثار دينية ودنيوية عدة، منها:
1 - أن الله قد امتن بالزواج على عباده فقال :[ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم ومودة ورحمة]: وكما جعل الزوجة سكناً فقد جعلها لباساً، قال تعالى: [هن لباس لكم وأنتم لباس لهن]، وجعلها حرثاً فقال :[نساؤكم حرث لكم].
2 - أن الزواج من سنن المرسلين فقد ذكر الله تبارك وتعالى ذلك عنهم فقال : [ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم وجعلنا لهم أزواجاً وذرية] .
وذكر الله تبارك وتعالى عن نبيه موسى أنه بقي سنين يرعى الغنم مهراً للزواج.
وذكر صلى الله عليه وسلم عن سليمان عليه السلام أنه كان له نساء عدة؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: -أي الملك- إن شاء الله، فلم يقل، ولم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقيه" فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو قالها لجاهدوا في سبيل الله" متفق عليه.
وحين جاء طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسألوا عن عبادته، فاعتقدوا أن لهم شأنا ليس كشأنهم، فمنهم من اعتزل الناس، أخبر صلى الله عليه وسلم أن الزواج من سنته وهديه، ففي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه -أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال:"ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
فإذا كان المرسلون قد جعل الله تعالى لهم أزواجاً، وكان الزواج من سنتهم، وهم أعبد الناس وأعلم الناس، وأكثر الناس شغلاً، فلا مناص ولا مجال لأحد بعد ذلك أن يعتذر عن الزواج إلا أن يكون قد خالف سنة المرسلين، أو يكون فيه ما يمنعه من النكاح.
3 - أن الله قد أمر الأولياء -وهو أمر للمجتمع – بتزويج الأيامى، وهم من لاأزواج لهم من الرجال والنساء –ما سبق بيانه-[وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم].
4 - لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمراً عامًّا لأمته يخاطب فيه كل شاب على مدى عمر هذه الأمة الزمني " يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " والخطاب الذي للرجال تدخل فيه النساء.
5 - الزواج فيه تحصيل لخير متاع الدنيا؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " . رواه مسلم . وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة، قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة لاتبغيه حوباً في نفسها وماله " .
6 - الزواج فيه إكمال لشطر الدين؛ فقد روى الحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي " وفي رواية للبيهقي " إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي " .
وإنما كان الزواج نصف الدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الآخر:"من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة" رواه البخاري من حديث سهل بن سعد، فإذا تزوج أعف مابين رجليه.(/1)
7 - وكما أنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بالزواج وحث عليه، فقد نهى عن التبتل والانقطاع فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مضعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا .
8- نهى صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في التعبد على حساب حق الأهل والزوجة، فقال لعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما – "يا عبد الله، ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقلت –عبدالله بن عمرو- بلى يا رسول الله، قال:"فلا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم؛ فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا…." فدل ذلك على أن الزواج أفضل من التفرغ للعبادة، فكيف بغيرها.
9 - أن النكاح سبب لعون الله وتوفيقه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاثة حق على الله عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله " رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
10 - أن ذلك سبب لزيادة عدد الأمم، ومكاثرة النبي صلى الله عليه وسلم . فقد قال صلى الله عليه وسلم : " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم " رواه أبو داود والنسائي.
11 – الزواج له أثر صحي فقد أجرى عالمان نفسيان في جامعة شيكاغو إحصاءات دقيقة عن حالات من الجنون التي قاما بفحصها بين من يعالجونهم فوجدا أن بين كل مئة مجنون ومجنونة 83 مريضاً من العزاب و17 من المتزوجين والمتزوجات . كما أن معدل الإجرام أكثر عند العزاب منه عند المتزوجين . حيث بلغ في إحدى الإحصائيات 38 مجرماً أعزب مقابل 17 متزوجاً .
12- ومن أهم مقاصد النكاح وفوائده تحصين النفس، وحمايتها من الوقوع في الفاحشة، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج .. " وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ماتركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " . ويتأكد ذلك في العصر الحاضر الذي انتشرت فيه فتنة النساء وعمت بلاد المسلمين.
13 - الزواج يتيسر فيه للرجل والمرأة أنواع من العبادة والقرب لاتتيسر في غيره من حسن العشرة، والصحبة بالمعروف، وقضاء حق العيال والرحمة بهم، والانشغال بمصالحهم كل ذلك قربة إلى الله عز وجل . بل إن اللقاء بينهما وتحصيل الشهوة أمر يثابان عليه، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " وفي بضع أحدكم صدقة " ،قالوا : يارسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " .
السلف والزواج
ولإدراك السلف رضوان الله عليهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم واعتنائهم بها، فكان مما أثر عنهم الاعتناء بالزواج والحث عليه، وهذه طائفة من أقوالهم وأخبارهم تدل على ذلك:
روى البخاري عن سعيد بن جبير قال : قال لي ابن عباس : هل تزوجت ؟ قلت لا . قال: فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً . وفي رواية لأحمد بن منيع وذلك قبل أن يخرج وجهي - أي يلتحي .
روى ابن أبي شيبة عن شداد بن أوس رضي الله عنه - وكان قد ذهب بصره – قال: زوجوني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا ألقى الله عزباً .
وروى عن معاذ أنه قال في مرضه الذي مات فيه: زوجوني إني أكره أن ألقى الله عزباً .
وروى عن ميسرة أنه قال : قال لي طاوس : لتنكحن أو لأقولن لك ماقال عمر لأبي الزوائر : مايمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور .
وروى عن طاووس أنه قال: لايتم نسك الشاب حتى يتزوج.
وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :لو لم أعش أو لم أكن في الدنيا إلا عشراً لأحببت أن يكون عندي فيهن امرأة .
وقال المروزي قال الإمام أبو عبدالله - يعني أحمد بن حنبل -: ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أربع عشرة، ومات عن تسع، ولو تزوج بشر ابن حارث لتم أمره، ولو ترك الناس النكاح لم يكن غزو، ولا حج ولا كذا، ولاكذا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصبح وما عنده شيء ومات عن تسع، وكان يختار النكاح ويحث عليه، ونهى عن التبتل، فمن رغب عن سنة النبي صلى الله عليه فهو على غير الحق، ويعقوب في حزنه قد تزوج وولد له، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : " حبب إلي النساء " قلت له - المروزي - فإن إبراهيم بن أدهم يحكى عنه أنه قال : " لروعة صاحب العيال .." فما قدرت أن أتم الحديث حتى صاح بي وقال : وقعت في بنيات الطريق : انظر ماكان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قال : بكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه الخبز أفضل من كذا وكذا، أين يلحق المتعبد العزب؟
ونقل ابن قدامة عن الإمام أحمد أيضا أنه قال :" من دعاك إلى غير التزويج فقد دعاك إلى غير الإسلام " .
وتزوج الإمام أحمد في اليوم الثاني لوفاة أم ولده عبدالله .(/2)
وكان يعقوب يدخل على المهدي ليلا ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور، وتقوية الغزاة، وتزويج العزاب .
وقال عبدالمؤمن المغربي : " ورجل بلا بعل كرِجْل بلا نعل ، والعزوبة مفتاح الزنى والنكاح ملواح الغنى، ومن نكح فقد صفد بعض شياطينه، ومن تزوج فقد حصن نصف دينه، ألا فاتقوا الله في النصف الثاني، فإن خراب الدين بشهوتين : شهوة البطن وهي الصغرى، وشهوة الفرج وهي الكبرى، فاعمر الركعتين وأحكم الحصنين .
الفقهاء والزواج
يتحدث الفقهاء في مبدأ كتاب النكاح عن حكم الزواج وأهميته فلنورد مايسمح به المقام من أقوالهم في ذلك :-
وقد أعقب الأحناف باب العبادات بالنكاح . وعلل ذلك الكمال ابن الهمام في شرح فتح القدير فقال : " وهو أقرب إلى العبادات حتى أن الاشتغال به أفضل من التخلي لمحض العبادة على مانبين إن شاء الله تعالى فلذا أولاه العبادات ... ثم ذكر حكمه واختلافهم فيه، ورجح تفضيله على التخلي للعبادة وقال :" وبالجملة فالأفضلية في الاتباع لافيما يخيل للنفس أنه أفضل نظراً إلى ظاهر عبادة وتوجه، ولم يكن الله عز وجل يرضى لأشرف أنبيائه إلا بأشرف الأحوال، وكان حاله إلى الوفاة النكاح، فيستحيل أن يقرره على ترك الأفضل مدة حياته "... ومن تأمل مايشتمل عليه النكاح من تهذيب الأخلاق، وتوسعة الباطن بالتحمل في معاشرة أبناء النوع، وتربية الولد، والقيام بمصالح المسلم العاجز عن القيام بها، والنفقة على الأقارب والمستضعفين، وإعفاف الحرم ونفسه، ودفع الفتنة عنه وعنهن ودفع التقتير عنهن ... لم يكد يقف عن الجزم بأنه أفضل من التخلي " .
وقال ابن رشد :- فأما النكاح فإنه في الجملة مرغب فيه ومندوب إليه . .. وأما من احتاج إلى النكاح ولم يقدر على الصبر دون النساء، ولاكان عنده مايتسرى به وخشي على نفسه العنت إن لم يتزوج، فالنكاح عليه واجب .
وقال الكاساني : لاخلاف أن النكاح فرض في حالة التوقان، حتى أن من تاقت نفسه إلى النساء بحيث لايمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوج يأثم .
قال ابن قدامة الحنبلي في المغني :" والناس في النكاح على ثلاثة أضرب ؛ منهم من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامة الفقهاء، لأنه يلزمه إعفاف نفسه، وصونها عن الحرام، وطريقه النكاح . الثاني من يستحب له، وهو من له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور فهذا الاشتغال له به أولى من التخلي لنوافل العبادة . وهو قول أصحاب الرأي . وهو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم، وفعلهم … وساق بعض الآثار التي أوردنا طرفاً منها ".
قال القرطبي :" المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة لايختلف في وجوب التزويج عليه " .
وقال شيخ الإسلام : " وإن احتاج الإنسان إلى النكاح وخشي العنت بتركه قدمه على الحج الواجب وإن لم يخف قدم الحج، ونص عليه الإمام أحمد في رواية صالح وغيره، واختاره أبو بكر " .
غيرنا والزواج
الزواج أمر فطر الله تبارك وتعالى عليه خلقه، ولذا فقد كان غيرنا من الأمم الكافرة لهم عناية بموضوع الزواج واهتمام به؛ لما رأوا من مصالحه، أو لما بقي لدى بعضهم من الديانة المحرفة.
وقد كانت العناية به لدى الأمم القديمة ، فقد كانت العزوبة عندهم عيباً، بل في كثير من معتقداتهم أنه من مات ولم يتزوج فإنه قد خرج من رحمة الله، وكانوا يصفونه بصفات يستحى منها بل لا يحب أن يقابل الناس.
وفي عام 1661 م أصدر لويس الرابع عشر مرسوماً يقضي بإعفاء الذين تزوجوا وكان سنهم أقل من عشرين سنة حتى الخامسة والعشرين . وفي عام 1798م سن قانون لقيمة الإيجارات وفرض الجباية فضاعف الضرائب على العزاب الذين سنهم عشرون عاماً فما فوق .
وهاهم عقلاء الغرب -إن كان فيهم من يعقل - هاهم ومع هذه الإباحية السافرة، والفجور تتنادى أصواتهم في المطالبة بالزواج المبكر يقول ول ديورانت: " ولسنا نرى مقدار الشر الاجتماعي الذي يمكن أن نجعل تأخير الزواج مسؤولاً عنه، ولاريب أن بعض هذا الشر يرجع إلى ما فينا من رغبة في التعدد لم تهذب .. ولكن معظم هذا الشر يرجع في أكبر الظن في عصرنا الحاضر إلى التأجيل غير الطبيعي للحياة الزوجية، وما يحدث من إباحة بعد الزواج فهو في الغالب ثمرة التعود قبله، وقد نحاول فهم العلل الحيوية والاجتماعية في هذه الصناعة المزدهرة، وقد نتجاوز عنها باعتبار أنها أمر لامفر منه في عالم خلقه الإنسان، وهذا هو الرأي لمعظم المفكرين في الوقت الحاضر غير أنه من المخجل أن نرضى في سرور عن صورة نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن أنفسهن ضحايا على مذبح الإباحية، ولايقل الجانب الآخر من الصورة كآبة لأن كل رجل حين يؤجل الزواج يصاحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن في ابتذال ظاهر " .(/3)
ويقول : " كان البشر في الماضي يتزوجون باكراً، وكان ذلك حلاًّ صحيحاً للمشكلة الجنسية ، أما اليوم فقد أخذ سن الزواج يتأخر، كما أن هناك أشخاصاً لايتوانون عن تبديل خواتم الخطبة مراراً عديدة، فالحكومات التي ستنجح في نص القوانين التي تسهل الزواج الباكر ستكون جديرة بالتقدير لأنها تكشف بذلك أعظم حل لمشكلة الجنس في عصرنا هذا " .
فلئن كان أولئك الذين عاشوا في مجتمعات الانحلال والإباحية، والذين لايرون بأساً بالمعاشرة المحرمة ينادون بأهمية الزواج، فغيرهم ممن حماه الله من الرذيلة وأدرك شؤمها أولى من هؤلاء.
ماذا نجني من الزواج المبكر ؟
حين يبادر الشاب والفتاة بالزواج المبكر فإنهم يجنون ثمرات عدة، منها:
1 – تحصيل منافع الزواج وفضائله التي سبق الحديث عنها.
2 – أن الشباب والفتيات اليوم يعانون من المغريات والمثيرات التي تبدو أمامهم في كل موطن، فهو حين يتأخر في الزواج بين أمرين لا ثالث لهما، إما أن يقع في الحرام فيشعر بالألم والندم –وهذا المؤمل فيه- ،وإما أن يحميه الله عز وجل؛ فينتصر على شهوته ونفسه الأمارة بالسوء، فيعيش في حيرة وخوف على نفسه ومعاناة.
3 - الاستقرار النفسي والراحة؛ فالزواج سكن كما أخبر تبارك وتعالى :[ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة] .
وقد دلت الدراسات المعاصرة اليوم على أثر الزواج على الاستقرار النفسي والاجتماعي على صاحبه، يقول أحد الغربيين:"إن العزوبة الدائمة تعرض صاحبها إلى اضطراب نفسي مختلف الأنواع والصفات، فيفسد النفس، ويجعلها مجبولة تتحلى بعدم الرحمة والقسوة والخفة والطيش، وعدم الاتزان " . ويقول جورج انكتيل :" منذ مطلع القرن العشرين والعزوبة تمثل على مسرح هذه الحياة شقاء ينتهي غالباً بالانتحار والجنون " .
وحين يتأخر الشاب والفتاة في الزواج فإنهما يفوتان على أنفسهما فرصة تحصيل الاستقرار في هذه المرحلة المهمة من مراحل العمر.
4 - الشعور بالمسؤولية: فالتعليم والتربية في هذا العصر صاغ حياة الشاب والفتاة بصورة تجعل الفرد يعتمد على غيره، ولا يتحمل المسؤولية، فهو يسير في الدراسة ستة عشر عاماً أو أكثر، وخلال فترة الدراسة ليس له دخل ثابت؛ فهو يعتمد على أهله في الأغلب، والحاجة للمسؤولية حاجة مهمة للشاب، ومن ثم فالتبكير في الزواج ينمي هذه الحاجة لديه.
5 - التربية السليمة للأبناء والبنات، فهو حين يتزوج في وقت مبكر ستكون الفجوة بينه وبين أولاده –وبالأخص الكبار منهم- غير واسعة، فسوف يبلغ ولده الأكبر سن التكليف والأب دون الأربعين، وهذا له أثره في سهولة تعامله معه، واستيعابه لمشكلاته، وقدرته على تربيته.
6 - وجود من يقوم بأعباء المنزل للوالدين، فحين يتزوج الشاب والفتاة في سن مبكرة فما أن يبلغا الأربعين إلا وقد وجد من يقوم بأعباء المنزل من البنين والبنات، وهذا له أثره في تحقيق قدر من الفراغ يمكن أن يثمر فيه الأب وينتج نتاجاً يتناسب مع فترة الرشد والنضج التي يعيشها.
7 – الزواج المبكر مدعاة لحصول الأبوين على الولد الصالح، فهو أدعى لحسن تربيته كما سبق، وهو أدعى لكثرة الولد، والولد الصالح امتداد للمرء بعد موته، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم :"إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
8 - نجابة الولد : الزواج المبكر سبب في الأغلب للإنجاب المبكر، وهذا له أثره على نجابة الولد، قال الماوردي : " إن أنجب الأولاد خلقاً وخلقاً من كان سن أمه بين العشرين والثلاثين " .
وتوصلت بعض الدراسات الحديثة إلى أن الأمهات دون العشرين وفوق الخامسة والثلاثين يزيد احتمال إنجابهن للأطفال المتأخرين عن الأمهات اللاتي تقع أعمارهن فيما بين العشرين والخامسة والثلاثين .
وتوصلت بعض الدراسات الحديثة إلى أن نسبة الأطفال المشوهين والمعتوهين تزداد تبعاً لعمر الأب، وخاصة بعد الخامسة والأربعين.(/4)
وأين التبرج للزوج؟!
مفكرة الإسلام: عزيزي القارئ.. إن مسئولية نجاح الحياة الزوجية لا تقع على عاتق أحد الزوجين فقط, وإنما المسئولية تقع عليهما معًا؛ فلكلٍ دوره في الحياة الزوجية. ولكنا نخص هنا الجانب الذي يخص الزوجة..
الوقفة الثانية: وما زلنا نقف معًا عند الآية الكريمة: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}:
يُقال تبرجت المرأة: إذا أبرزت محاسنها للرجال. وفي الحديث: كان يكره عشر خلال منها: التبرج بالزينة لغير محلها.
والتبرج: إظهار الزينة للرجال الأجانب وهو المذموم. أما للزوج فلا.
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60]: أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة ليُنظر إليهن. فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعدها عن الحق. وأصل التبرج التكشف والظهور للعيون.
ونحن هنا ندعو الزوجات إلى 'التبرج الزوجي', وهو يختلف عن تبرج الجاهلية الأولى والذي حذرنا الله منه، ولكن نريد أن تتبرج الزوجة لزوجها وتستخدم كافة قدراتها الأنثوية من أجل الاستمتاع في الحياة الزوجية, حتى يُشبع كل واحد منهما الآخر, وتتحقق حكمة الله تعالى من الزواج. [كالإحصان والعفاف والسكن والمودة والحب والاستمتاع بما أحله الله].
والعجيب أن بعض الزوجات يطلب منها زوجها أن تلبس له ملابس معينة فترفض، وإذا خرج من منزله وقعت عيناه على الغريب والعجيب من المناظر والملابس, حتى في واجهات المحلات, ثم نشتكي بعد ذلك من الخيانة الزوجية, وأيضًا بالنسبة للزوج هناك اعتقاد خاطئ بعدم تزين الرجل لزوجته والتجمل لها وإشباع رغبتها؛ بحجة أن هذا يقلل من هيبته ورجولته.
وهناك من الرجال عندما تتقرب إليه زوجته وتبدع في ذلك بلباسها وزينتها فإنه يسألها من أين تعلمتِ هذه التصرفات؟! ويفتح لها ملف تحقيق، ونسي هذا الزوج أن النبي صلى الله عليه وسلم رغّب فيمن تمتلك صفة 'تداعبك' و'تلاعبك'، ومن تستحي من ذلك فإن هذا حياء مزيف في غير موضعه، في عدم تبرجها لزوجها والتفنن في إشباع حواسه، بينما نجد بعضهن يتبرجن في الخارج من غير حياء، فأي تناقض هذا الذي تعيشه بيوتنا وغرف نومنا؟!
الوقفة الثالثة: مع قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}:
جاء في تفسير ابن كثير: كانت المرأة في الجاهلية إذا مشت في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يُعلم صوته ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجال طنينه, فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذا إذا كان شيء من زينتها مستورًا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ}، ومن ذلك أنها تُنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها فيشم الرجال طيبها، فعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا' يعني زانية.
إذن ضرْب المرأة برجلها وصوت حذائها ورائحة عطرها كل ذلك من تمام الأنوثة التي يجب عليها التحلي بها في بيتها، والنهي هنا خاص بخارج المنزل وأمام الرجال.
ونفهم هذا المعنى من تفسير 'في ظلال القرآن' لسيد قطب حيث قال:
'وإنها لمعرفة عميقة بتركيب النفس البشرية وانفعالاتها واستجاباتها؛ فإن الخيال ليكون أحيانًا أقوى في إثارة الشهوات من العيان. وكثيرون تثير شهواتهم رؤية حذاء المرأة أو ثوبها أو حليها أكثر مما تثيره رؤية جسد المرأة ذاته أو سماع وسوسة الحلي أو شمام شذا العطر من بعيد، قد يثير حواس رجال كثيرين ويهيج أعصابهم، ويفتنهم فتنة جارفة لا يملكون لها ردًا، والقرآن يأخذ الطريق على هذا كله؛ لأن مُنزّله هو الذي خلق، وهو الذي يعلم من خلق, وهو اللطيف الخبير'.
إذن وضع الله تعالى وسائل الوقاية والتدابير التي توصد باب الشر على الرجل والمرأة, وعكس ذلك مطلوب من المرأة فعله في منزلها ولزوجها.
الوقفة الرابعة: مع قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}:
جاء في تفسير ابن كثير: 'قال السدي وغيره: يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال، ولهذا قال تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي دغل {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً}. قال ابن زيد: قولاً حسنًا جميلاً معروفًا في الخير. ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم, أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها'.
ويقول سيد قطب في كتابه 'في ظلال القرآن':
'ينهاهن - أي نساء النبي - حين يخاطبن الأغراب من الرجال أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال ويحرك غرائزهم ويطمّع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم'.
ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير؟!
إنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين اللواتي لا يطمع فيهن طامع.(/1)
وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟! في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ عهد الصفوة المختارة من البشرية, ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول وتترقق في اللفظ ما يثير الطمع في القلوب ويهيج الفتنة, فكيف بنا في هذا المجتمع، في هذا العصر، في هذا الجو؟! ونساء يتأنثن في نبراتهن ويتميعن في أصواتهن، ويجمعن كل فتنة الأنثى, وكل هتاف الجنس, وكل سعار الشهوة, ثم يطلقنه في نبرات ونغمات.
فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء ولا هذر ولا هزل ولا دعابة ولا مزاح؛ كي لا يكون مدخلاً إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد'.
ويُفهم من هذا أن الله تعالى يريد من المرأة أن تكون في كامل أنوثتها في بيتها ومع زوجها... ومن العجيب أن هناك بعض الزوجات يُسمع صوتهن في بيوتهن صراخًا وعصبية, ومنهن من يطلب منها الزوج التحدث إليه بكلام غزلي فيرفضن. وفي خارج البيت يجد الزوج الدلع والدلال والخضوع بالقول، فماذا يفعل الزوج حينئذ؟!
إن للصوت أثرًا كبيرًا على النفس، ولو لم يكن كذلك ما ذكره الله تعالى في كتابه الكريم, ولا شك أن الهمس والحركة والنغمة مدلولات مؤثرة وإيحاءات مثيرة، والحديث إلى الزوج فن, على كل زوجة أن تسعى لتعلمه؛ لنحيي ثقافة 'تلاعبها وتلاعبك' التي يريدها الرسول صلي الله عليه وسلم في حياة الزوجين، و'تضاحكها وتضاحكك'.
عزيزي القارئ.. هكذا المرأة الحقيقية التي يريدها الله تعالى في كامل أنوثتها وجمالها وبهائها أين؟! ولمن؟! في بيتها ولزوجها.
سُئل أحد الأزواج: كيف تكون الزوجة في نظرك متألقة؟!
فأجاب أن أراها دائمًا كالزهرة حتى ولو تقدم بها العمر، وأنا أسقي جذور هذه الزهرة بتدفق كبير من الحب والتقدير والاحترام(/2)
وإن جندنا لهم الغالبون ...
الحمدلله القدوس السلام ، ذي العزة والجبروت الذي لا يضام ، الحي القيوم الذي لاينام ، لايعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء الملك العلام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له شهادةً يقبل بها الإسلام ، وتنال بها العزة والرفعة على كل الأنام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى الجهاد وإحياء ذروة سنام الإسلام ، وعلى آله وأصحابه الأبطال أولي النهى والأحلام ، ومن تبعهم بإحسان وجهاد وإقدام ،إلى يوم يحكم الله فيه بين الأنام أما بعد :
أيها المسلمون : الوجوه شاحبة والعيون شاخصة ،والقسمات والملامح مجهدة ، تسمع صراخ النساء وبكاء الأطفال ، وأزيز الطائرات وأصوات القنابل والانفجارات ، الكل يهرع ، الكل يجري ، وكأنك في مشهد من مشاهد يوم القيامة ، في الشوارع ترى الدماء تسيل ، والأشلاء ممزقة ، ورغم كل هذا تسمع صرخات التكبير مدوية ،وسط كل هذه المناظر المؤلمة نرى ضوء الفجر قد بزغ وإذا بالتاريخ يسجل والقنوات تصور وتعرض أعظم البطولات ، وأسمى معاني الفداء والتضحيات، ورغم كل هذا نسمع صوت الأذان مرتفعا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ،وصدق الله إذ يقول :{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } التوبة[32]، { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} الصف[8]،لا إله الله وحده، نصر عبده و صدق وعده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده . سبحانك لا رب غيرك ولا إله سواك ، حكمك نافذ، وأمرك مطاع ولا راد لقضائك، لك الحمد والنعمة والفضل ، أيها المسلمون: رغم ألم المشاهد، وصعوبة المرحلة التي نعيشها ، ولكن والله إن البشائر قد طغت على الخسائر ، والتفاؤل هزم التشاؤم ، وصدق الله إذ يقول ولا أصدق ولا أجل ولا أحكم منه سبحانه :{ وإن جندنا لهم الغالبون } اسمعها يامؤمن ياعبدالله وتأملها وخذها بشارة من ربك، بشارة من الذي يدبر الكون ،ويصرف الأمور من الذي إذا قال للشيء كن فيكون { وإن جندنا لهم الغالبون } ولنا مع الأحداث وقفات وعبر ودروس وبشائر ، ولنقف نحن وإياكم ولنتنعم بهذه الهبات والعطايا الربانية، ونستبشر وإياكم بهذه البشائر الإلهية، فإياك إياك أن يتسلل اليأس إلى نفسك ،أو يتملك الحزن والقنوط قلبك ،وثق بربك وأحسن الظن به فهو عند حسن ظن عبده به ونحن يارب لا نظن فيك إلا خيراً، إسمع إلى ما يبشرك به ربك ومولاك نعم أنت أريد يامن هويتك الإسلام وشعارك القرآن وقدوتك محمد خير الأنام :
البشارة الأولى : الحقيقة التي لا تتبدل، والحق الذي لا يتغير والبشارة التي لاتزول ما أخبر الله به في كتابه في غير موضع حيث : يقول ربنا جل وعلا : ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ) غافر [51]، ويقول سبحانه : (إن ينصركم الله فلا غالب لكم ، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده ) آل عمران[160، ويقول المولى جل شأنه:( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ) الحج [40]، ويقول سبحانه : (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ) ، ويقول جل وعلا: (وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب ) الصف[13]،وقال سبحانه لنبيه الكريم : (وينصرك الله نصراً عزيزاً) الفتح [3]، ويقول سبحانه مسلياً أنبياءه وأولياءه : (فصبروا على ماكذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ) الأنعام [34]، وقال سبحانه عن الحال التي قد تصل بالأنبياء من الشدة والبلاء : ( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ) يوسف [110]،ويقول سبحانه : (والله يؤيد بنصره من يشاء ) آل عمران[13]،ويقول سبحانه عن الحقيقة التي لا يجوز أن تغيب عن أذهاننا : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون،وإن جندنا لهم الغالبون ) الصافات[171-173]
أبعد هذا يمكن أن يداخلك شك، فاستعد فإن النصر قد قرب والفجر قد بزغ { إن رحمت الله قريب من المحسنين }(/1)
البشارة الثانية : ما شاهدناه وشاهده كل العالم من بطولات أحفاد سعد والمثنى الذين أعادوا لنا ربى حطين والقادسية واليرموك ، لكم الله يا أبطال الفلوجة ياغرة الزمان وياشامة الإسلام ، يامن رفعتم جبين الأمة ، إننا نكاد أن نذوب خجلا وحياء من هذه البطولات التي فاقت كل التصورات وكل تحليلات المحللين وتوقعات المنظرين والمخططين ، هذه البطولات التي أخرست الألسنة اليائسة والنفوسَ المريضة ، والقلوب الضعيفة ، كم هي فرحتنا وأنتم تنتقمون لنا ممن ظلمنا ،ممن هتك الأعراض وخرب الديار وسرق الخيرات وجعل الأرض كلها بوار ، لقد ثأرتم لكل أب مظلوم لكل حر أبي مكلوم، ثأرتم ورب الكعبة فأطفئتم الحسرة والحرقة في الفتاة التي هتك عرضها ونيل من كرامتها ،لقد مرغتم كرامة أمريكا وأذهبتم هيبة أمريكا، وكسرتم حاجز الخوف من حامية الصليب، أنكم أعطيتم الدرس واضحا للجيوش النظامية التي لم تحرك ساكنا ولم تحم وطنا ولم ترع ذمما ، بكم ياغرة الزمان تصنع الأمجاد وعلى أيديكم تتعلم الشعوب معنى العزة والكرامة، لقد أعطيتمونا الدرس العظيم الذي لن ننساه بأن حياة العز والشرف خير من حياة الذل مع الترف ، يا أبطال الفلوجة إن بطولاتكم فضحت وعرت الممارسات الرخيصة والقذرة في إعلامنا العربي عذرا أيها الأبطال أنتم تصنعون التاريخ ونحن نقدم البرامج التي تجعلنا في زبالة التاريخ ، عذراً أيها الأبطال كاد اليأس والإحباط أن يذهب بحشاشات القلوب ونحن نشاهد العبث الذي أجمعت عليه القنوات الفضائية في زمن قل فيه الإجماع فإذا بكم تبعثون الأمل وترسلون الرسالة بالأفعال لا بالأقوال ،إن في الأمة رجال، إن في الأمة أبطال يدافعون عن الدين والعرض والأرض والمقدسات ،.
يا أبطال الفلوجة ياأبطال العراق الأباة لقد أعطيتمونا درساً في معنى الإيمان الصحيح الإيمان الحق :{ والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذي آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً }
يا أبطال العراق : لئن فاتكم شيء من الدنيا ولم تتمعتوا بها، لئن لم تحوزوا على أوسمة الخيانة والذل التي أعطاها المحتل للخونة من بني جلدتكم فلن يفوتكم الوسام الذي أعطاكموه ربكم إذ يقول مبينا منزلتكم ودرجتكم :{ لايستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً }
البشارة الثالثة : كم من نعمة يسديها العدو لكم وهو لا يشعر ، لو قيل لأمريكا نريدكم أن تدربوا أبناء العراق على الجهاد والقتال والصبر وتحمل الأعباء لمدة طويلة حتى يستطيعوا أن يقاوموا المحتل ، هل تتصورون أن يتجاوبوا معكم ، إن المتأمل في واقع خطط الأعداء في القديم والحديث هو إغراق الشعوب في الملذات والملهيات والشهوات حتى تغدوا كالقطعان السائمة التي لا تعرف معروفا ولاتنكر منكرا ، تغدوا شعوبا لا هم لها إلا الترفيه والتسلية كم تنفق أمريكا وربيبتها دولة يهود على إضلال الشعوب فهذا سلاحهم وطبعهم منذ القديم ، فنحن إلى الآن مازلنا نتابع البرامج التي تعرض الرذيلة في أقبح صورها وتهدم الفضيلة بأحط الأساليب وأرذلها ، وصدق الله إذ يقول :{ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيم} النساء[27]، فيا أبطال العراق لقد أعطاكم عدوكم دورة تدريبية مكثفة على شظف العيش فخرجتم أبطال الميادين ، وصناع النصر، لقد حاصركم العدو ومنع منكم الغذاء والدواء فتربيتم على عين الله فخرجتم أقسى ما تكونون على عدوكم ، وأصبر ما يتصوره منكم عباد الصليب وأحفاد القردة والخنازير ، لقد حاصركم فأصبح الموت أسمى أمانيكم ، والجنة أغلى مطالبكم، فلله كما هي تلك الأحداث في ظاهرها نقم ومحن، وفي حقيقتها نعم لا تقدر بثمن { ويمكرون ويمكر الله وهو خير الماكرين }.(/2)
البشارة الرابعة : لقد عجزت وسائلنا الإعلامية بل تعاجزت عن فضح أمريكا وإبداء وجهها الكالح ، عجزنا عن تعريتهم وبيان حقيقة حضارتهم التي يزعمون ،وأنهم في حقيقة الأمر برابرة همج لا يراعون طفلا صغيرا ،ولا شيخا كبيرا ،ولا امرأة ضعيفة، لقد نُزعت الرحمة من قلوبهم، فالمساكن تدك على رؤوس العزل من أصحابها ،والمساجد تهدم على الآمنين المطمئنين في جوار ربهم ، أي حضارة التي تبشر بها أمريكا ؟وهي تستخدم الأسلحة والقنابل المحرمة دولياً ، أي نظام تحترم ؟وأي شعوب تقدر؟ وأي عدالة تدعوا لها؟ وأي حقوق تريد؟ ، يا أبطال العراق : لقد غيرتم وسائل الإعلام رغماً عنها فجعلتموها تفضح الحضارة الأمريكية وتعريها للعالم عبر عدسات المصورين وهم يشاهدون همج المبشرين بالدين المحرف المكذوب على المسيح عليه السلام ، فإذا بالعالم يزداد قناعة بفشل المشروع الأمريكي التي تبشر به حامية الصليب وعباد الشهوات، ليس بمستغرب من عدونا أن يفعل هذا فهذا هو الأصل فيهم كما أخبرنا جل وعلا بقوله :{ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } ، إن عجبنا لا ينقضي من المنافقين المندسين بين صفوفنا الذين يتكلمون بألستنا ويحملون أسماء المسلمين ، ويعيشون بيننا فهذا أحدهم يقول إنه : (يستبشر بقدوم أمريكا للمنطقة لانها سوف تحرك عجلة التغيير والتقدم في المنطقة ) فنقول له أبشر ما يحدث في العراق هو التقدم والتغيير الذي تريدون؟ تباً لهذه العقول وتباً لهذه الوقاحة وتباً لهذه الزندقة والنفاق وصدق الله إذ يقول { ولتعرفنهم في لحن القول } وصدق الله إذ يقول :{ قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر }.
البشارة الخامسة : لقد أفشلتم مخططات عدونا في المنطقة وأخرتم مشاريعها التغريبية والتوسعية ، إنه يعيش تخبطاً وارتباكاً لم تعشها أمريكا ولا حتى في حربها مع فيتنام التي هزمت فيها فالهزيمة التي تعيشها الآن لها نكهة أخرى يتلذذ بها الأحرار المؤمنون ولا يشعر بها إلا من كان قلبه معظما لربه ومولاه محبا للمؤمنين مبغضا لأعداء الملة والدين ، يا أبطال العراق : إن النصر الحقيقي هو في ثباتكم على مبادئكم وليس في نصر يكون بالتنازل عن الدين والمبادئ،إن حقيقة النصر أن لا يستطيع العدو أن يحقق أهدافه ويرجع خائباً خاسراً على عقبيه ، فهاهو لم يستطع أن يتنعم النفظ الذي كان يحلم به ، ولا بالاستثمارات التي كان يتمناها ، ولا بالتوسع الذي كان ينشده ، يا أبطال العراق تذكروا قول ربكم فهو تسلية لكم وتطييباً لنفوسكم { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } ، وتذكروا قول ربكم ومولاكم { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمه وأولئك هم المهتدون } أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
د. ناصر بن يحيى الحنيني(/3)
وإنك لعلى خلق عظيم
المحتويات
مقدمة
أولاً: اختيار الله تبارك وتعالى له
ثانياً: ثناء الله تبارك وتعالى عليه
ثالثاً: شهادة أصحابه له بحسن الخلق
رابعاً: إخباره بأنه بعث ليتم مكارم الأخلاق
خامساً: دعوته إلى مكارم الأخلاق في مبدأ دعوته
من مزايا خلقه صلى الله عليه وسلم
أولا: التكامل
ثانياً: جمع المتقابلين
ثالثاً: عدم الضعف
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده رسوله وخيرته من خلقه، اصطفاه تبارك وتعالى من بين الناس لحمل الرسالة وتبليغ الدين، فمن لم يجبه وقد سمع به من هذه الأمة فلن يدخل الجنة، فصل اللهم عليه وعلى آله إلى يوم الدين، واحشرنا في زمرته وأوردنا حوضه إنك سميع مجيب.
يشعر المتحدث حين يريد الحديث عن سيرة هذا النبي وخلقه وشمائله صلى الله عليه وسلم بالمهابة والإجلال، وأنه مهما تحدث فلن يوفيه حقه، وما عسى أن يفعل بشر مقصر مفرط في الحديث عن النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه عز وجل لرسالته وتبليغ دينه.
وماذا نقول عمن أثنى عليه تبارك وتعالى وشهد له أنه على خلق عظيم، وعمن كان خلقه القرآن صلى الله عليه وسلم ، لكننا وإن كنا لن نوفي الحديث عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم حقها وإن اجتهدنا إلا أننا نشعر أن الأمة وأن العالم اليوم بحاجة إلى أن يبرز أمامه هذا النموذج، وأن تفتح له هذه الصفحات من سيرة النبي القدوة صلى الله عليه وسلم ، فنحن نعيش في عالم تسيطر عليه الأنانية والأهواء على الناس.
إن ما نراه من نماذج خلقية سيئة في المجتمع يدفعنا إلى الحديث عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله، وكثيراً ما أردت الحديث عن هذا الموضوع لكني أشعر أنني كمن يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، لأني حين أتحدث عن أي جانب في خلق النبي صلى الله عليه وسلم فكأني أنادي على نفسي بفقدان هذا الخلق، فالناس يرون منا خلقنا وسلوكنا، وحين نحدثهم عن هذه الأخلاق يرون صورة أخرى غير تلك التي نمارسها، لهذا كنت أرى أن حديثي عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو شهادة إدانة لي فكنت أحجم عن هذا الموضوع على أهميته، ثم رأيت أن أجتهد في الحديث عن ذلك، ولسان حالي يقول: اسمع كلامي ودعك من حالي.
إنك حين تقرأ كتاباً من كتب السنة أو كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أو كتب الشمائل تجدها تكتظ بالشواهد على خلق النبي صلى الله عليه وسلم ، بل إنك لن تحتاج أن تتصفح كتب الأدب والشمائل ، أو أبواب السلوك والأدب، فحين تقرأ في أبواب الأحكام أو في العبادات أو في أي باب من الأبواب فإنك سترى هذه المرويات كلها تنطق بخلقه صلى الله عليه وسلم ، وتشهد لهذا المعنى العظيم الذي وصفه به تبارك وتعالى بقوله [وإنك لعلى خلق عظيم] وما وصفته به عائشة رضي الله عنها بقولها "كان خلقه القرآن".
وحين نتحدث عن هذا الموضوع فلن نستطيع أن نوفيه، إنك لو تناولت خلقاً واحداً من الأخلاق كالرحمة أو التواضع أو الكرم أو الجود أو الصبر لما وفيته حقه ولو اجتهدت في ذلك، ولوجدت أن المقام يضيق عن الوفاء به، فكيف حين تريد الحديث عن عموم خلقه صلى الله عليه وسلم.
لذا سنوجز هاهنا بعض الشواهد على كمال خلقه صلى الله عليه وسلم ، ومنها:
أولاً: اختيار الله تبارك وتعالى له
إن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار ، فاختاره عز وجل -وهو أعلم بخلقه- ليحمل الرسالة وليكون أسوة حسنة للناس، وهذا الاختيار يقتضي أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم في القمة في كل الصفات البشرية، إنه بشر مثلهم ينسى كما ينسون، ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يعلم الغيب ولا ما في الغد، شأنه شأن سائر الناس، لكنه في القمة في كل صفة كمال يمكن أن تكون في بشر كيف لا وقد اختاره ربه تبارك وتعالى، وها هو عبد الله بن مسعود صاحبه رضوان الله عليه يشهد على ذلك ويقول : " إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه؛ فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ".
ثانياً: ثناء الله تبارك وتعالى عليه
لقد أثنى الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم ووصفه بكمال الخلق، ومن أحسن من الله حديثاً قال عز وجل [ وإنك لعلى خلق عظيم ] إنها شادة لنبيه صلى الله عليه وسلم ممن خلقه وخلق الناس تبارك وتعالى وممن يعلم ما تكتمه الصدور والضمائر.(/1)
ويخبر تبارك وتعالى أنه امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بالرفق واللين فقال عز وجل [فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك] ، ويمن سبحانه على المؤمنين بأن بعث لهم هذا النبي الذي يتصف بهذه الصفات العظيمة [ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم] .
ثالثاً: شهادة أصحابه له بحسن الخلق
وها هم أصحابه -رضي الله عنهم- الذي صحبوه في السراء والضراء، والظعن والإقامة، وعاشروه في كل أحواله، هاهم يشهدون له بأنه أحسن الخَلْق خلقاً، فيقول البراء رضي الله عنه:كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن البشر وجهاً، وأحسنهم خلقاً، ويصفه أنس بن مالك -رضي الله عنه- بقوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس ثم ينضح، ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه فيصلي بنا، وكان بساطهم من جريد النخل. متفق عليه. وسئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:ألست تقرأ القرآن؟ كان خلقه القرآن
رابعاً: إخباره بأنه بعث ليتم مكارم الأخلاق
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت لأتمم صالح الأخلاق" وهذا يعني أن الخلق له منزلة عظيمة في دين الله.
إن الخلق والسلوك عند بعض المسلمين بل عند بعض طلبة العلم يأتي في مرتبة متأخرة وللأسف، ويشعر هؤلاء أن مجرد حفظ المسائل العلمية وإتقانها هو وحده ما يحتاجه طالب العلم، وحين الحديث عن الخلق وعن الهدي والسمت والسلوك يشعر هؤلاء أن هذا حديث الوعاظ، وأنه حديث ينبغي أن يوجه إلى عامة الناس وليس طلبة العلم ، فطلبة العلم إنما يُحدَّثون بقال فلان وفلان، وفي المسألة حديثان أو ثلاثة أقوال، وهو مجال لا ينبغي أن يقلل أحد من شأنه، لكن أن نتصور أن أبواب الخلق والآداب ليست من شأننا أو أنها قضية ثانوية فهذا أمر لا يليق.
لقد كان سلف الأمة يعنون بهذا الجانب، وكان أحدهم يرحل في الأدب الواحد السنة والسنتين، وكانوا يتعلمون الأدب كما يتعلمون الحديث، ويقول أحدهم كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه وسمته ودله، ويقول ابن وهب ما تعلمت من أدب مالك أكثر مما تعلمت من علمه، وكانوا يوصون طالب العلم بوصية بقولهم:
أيها طالباً علماً ائت حماد بن زيد
فاكستب علماً وحلماً ثم قيده بقيد
ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد
بل في تصانيفهم المتقدمة ما يدل على علو شأن الأدب والسلوك، أليسوا صنفوا في أدب العالم والمتعلم وآداب طالب العلم وما ينبغي أن يتصف به، صنفوا في ذلك كتباً مستقلة وما كان أولئك يعانون من فراغ أوقات لا يدرون بم يصرفونها, فعنايتهم بذلك دليل على أهمية ذلك الأمر وعلو شأنه في دين الله عز وجل كيف لا وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بعث ليتمم مكارم الأخلاق ، فما دام رسول الله قد بعث لذلك فلا بد أن تكون سيرته وحياته ناطقة شاهدة بذلك, وها هي أخباره وأحواله تشهد بذلك.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يرزقه حسن الخلق، ويدعوه تبارك وتعالى أن يحسن خلقه، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :"اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي"، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه المشهور في قيام الليل "اللهم أهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها فلا يصرف سيئها إلا أنت" وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يحسن خلقه فنحن أحوج ما نكون إلى ذلك، ونحن صباح مساء نقع في الأخطاء ونرى أن كثيراً من مواقفنا تشهد وتنطق بأننا أحوج ما نكون إلى التحلي بمكارم الأخلاق وأن نتعلم حسن الخلق.
وإذا كان صلى الله عليه وسلم يأمر بمكارم الأخلاق وهو أول من يمتثل ما يأمر به صلى الله عليه وسلم كيف لا وهو قد حذرنا وحذر أمته من أن يقول أحدهم ما لا يفعل، وهو القائل صلى الله عليه وسلم :"يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان، ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه" متفق عليه.
خامساً: دعوته إلى مكارم الأخلاق في مبدأ دعوته
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر فقال له رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر…." متفق عليه.(/2)
فلأهمية مكارم الأخلاق ومنزلتها في دعوته صلى الله عليه وسلم جعلها أخو أبي ذر - رضي الله عنهما – عنوان دعوته، وهذا يعني أنها معلم بارز يدركه كل من عاشر النبي صلى الله عليه وسلم ورآه، وقد كانت تلك الرحلة والنبي صلى الله عليه وسلم لا يزال في أول رسالته وأول دعوته.
وعن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا".
من مزايا خلقه صلى الله عليه وسلم
قد تجد من البشر من يعجبك خلقه ولا تمل عن الحديث عن حسن خلقه وأدبه، وتتمنى أن يرزقك الله شيئاً مما رزقه الله من خلق، ولا شك أن الله تبارك وتعالى قد خص طائفة من الناس بشيء من ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس: "إن فيك خلتين يحبهما الله الحلم والأناة"، قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال:" بل الله جبلك عليهما"، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله. رواه أبو داود وأحمد وأصله في مسلم.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان في القمة في كل مجال وميدان من ميادين الخلق إلا أن له من المزايا والخصائص ما لا تراه لسائر البشر، إنه إن ذكر أهل الحلم فهو أحلم الناس، وإن ذكر أهل الغيرة فهو أغير الناس، وإن ذكر أهل الشجاعة فهو أشجع الناس، وإن ذكر أهل الجود فهو أجود الناس ، فهو صلى الله عليه وسلم في كل باب من أبواب الخلق الحسن قد بلغ أحسن غاية يمكن أن يبلغها أحد من الناس لكنه مع ذلك قد اجتمع له من المزايا ما ليس لغيره، ومنها:
أولا: التكامل
إن البشر الذين يضرب بهم المثل في حسن الخلق قد اشتهروا في باب أو ميدان واحد من الميادين، فلا يكاد يعرف عنهم غيره، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جمع الله تبارك وتعالى فيه كمال الخلق في كل مجال وفي كل باب، تحدث عما شئت، وائت بالشواهد من هنا وهناك فلن ترى أصدق شاهداً مما روي عن هذا الرجل العظيم، تحدث عن الجود والكرم، وتحدث عن الحلم والرحمة والصبر عن أي خلق حسن، فسترى النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الغاية فيه.
وصدق من قال في وصفه:
فإذا سخوت بلغت بالجود المدى *** وفعلت ما لا تفعل الكرماء
وإذا عفوت فقادراً ومقدراً *** لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب *** هذان في الدنيا هما الرحماء
وإذا غضبت فإنما هي غضب *** للحق لا ضغن ولا بغضاء
وإذا رضيت فذاك في مرضاته *** ورضي الكثير تحلم ورياء
وإذا خطبت فللمنابر هزة *** ترعو النديَّ وللقلوب بكاء
ثانياً: جمع المتقابلين
كثيرٌ من البشر حين يرزق خلقاً قد يطغى عليه في مواقف كثيرة ويخرجه عن الحق، فمن رزق الرحمة وصار صاحب قلب رحيم يتحدث الناس عن رحمته قد يأتي موطن يتطلب منه سوى ذلك فتغلبه الشفقة، وقل مثل ذلك في من رزق السخاء والجود؛ فقد يتحول ذلك إلى سرف وتبديد للمال، والذي رزق الشجاعة قد تتحول إلى باب من أبواب التهور أو قد تخرجه من الحق في موقف من المواقف وفي موطن من المواطن.
أما النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يرد سائلاً ولا شافعاً، يقبل شفاعة الأمة والعبد والكبير والصغير، فها هو في موقف يشفع لديه حبه وابن حبه فيغضب ويتمعر صلى الله عليه وسلم ، عن عائشة - رضي الله عنها - أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أتشفع في حد من حدود الله؟" ثم قام فاختطب ثم قال:"إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
ثالثاً: عدم الضعف
بعض الناس حين يرزق خلقاً حسناً يتحول إلى رجل ضعيف فيسيطر عليه هذا الخلق، ولا يستطيع أن يقف مواقف صارمة وجادة فتقعد به طبائعه وسجاياه، أما النبي فيجمع الله تبارك وتعالى بين تمام الخلق وبين القوة والجرأة في الحق فهو صلى الله عليه وسلم صاحب الرحمة ومع ذلك يقول عن نفسه بعثت بالسيف بين يدي الساعة وجعل رزقي تحت ظل رمحي.
وبعد ذلك ننتقل في ما تبقى من الوقت إلى جولة سريعة مع بعض الجوانب من خلقه صلى الله عليه وسلم وهي لمجرد التمثيل لا الحصر، فهي إشارات عاجلة إلى بعض الجوانب مما تميز به صلى الله عليه وسلم من محاسن الأخلاق.(/3)
* فمن خلقه صلى الله عليه وسلم التواضع: حين يكون لبعض منزلة عند الناس فهو عرضة لأن يدخل في قلبه شيء من الكبر ، وقد يرى أن هذا من تمام المحافظة على هذه المنزلة التي اكتسبها عند الناس ألا يتواضع لهم، وأي رجل أحق بالتقدير والتوقير والاحترام منه صلى الله عليه وسلم ومع ذلك كيف كان شأنه وتواضعه صلى الله عليه وسلم ؟
كان كما حكى عنه عبد الله بن أوفى رضي الله عنه فيما رواه النسائي والدارمي يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ولا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما حاجتهما.
* ومن خلقه صلى الله عليه وسلم الرحمة: بل إن الله تعالى إنما أرسله رحمة للعالمين عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله ادع على المشركين قال:"إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة".
ورحمته التي لا تقف عند حد البشر بل تجاوز ذلك إلى البهائم؛ فعن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفا أو حائش نخل، قال فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت فقال:"من رب هذا الجمل؟" لمن هذا الجمل فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال:" أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه" فها هو صاحب القلب المليء بهموم الناس وهموم الأمة أجمع يجد مكاناً لأن يعتني بشأن دابة من الدواب وبهيمة من البهائم، وكأن هذا الجمل قد أدرك حين رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لن يعدم مكاناً في قلب هذا الرجل العظيم.
وحين رأى أصحابه حمرة فأخذوا فراخها فجاءت الحمرة فجعلت تفْرِش فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها".
إن النبي الذي يرحم هذه البهائم والدواب كيف ستكون رحمته لسائر الناس، وكيف ستكون رحمته للمؤمنين؟ لهذا وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، وفي هذا أسوة لكل من ولاه الله أمانة ومسؤولية على المسلمين صغرت أم كبرت أياً كان أباً أو معلماً أو موجهاً أو أميراً، أن يحمل في قلبه الرحمة لمن وُليَّ عليهم، لهذا أخبر النبي أن أولئك الذين لا يرحمون الناس لا يرحمهم الله تعالى، استنكف رجل أن يرى النبي يقبل صبياً من الصبيان فقال: تقبلون صبيانكم؟ فقال له صاحب القلب الرحيم: "أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة" وفي موقف آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من لا يرحم لا يرحم" ومن رحمته بأمته دعا فقال:"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه".
* ومن صلى الله عليه وسلم من خلقه الحياء: ويكفي في ذلك شهادة الله بقوله عز وجل [إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحي من الحق] .ويقول أبو سعيد الخدري رضي الله فيما رواه الشيخان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه.
* ومن خلقه صلى الله عليه وسلم العفو والتنازل عن حقه: عن عائشة - رضي الله عنها – قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل.
* ومن خلقه أيضاً حسن منطقه: عن عائشة - رضي الله عنها -أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: "بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة"، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة متى عهدتني فحاشا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره" رواه البخاري.
*من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم أن كان لا يرد سائلاً : عن جابر رضي الله عنه يقول ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا.
عن ابن عباس-رضي الله عنه- قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم :يا نبي الله، ثلاث أعطنيهن، قال: نعم، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها، قال: نعم، قال ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك، قال: نعم، قال: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم، قال أبو زميل ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك؛ لأنه لم يكن يسأل شيئا إلا قال نعم.(/4)
* ومن خلقه مراعاته لمشاعر الناس: وهو جانب دقيق وعجيب في سيرته وشواهده كثيرة، منها ما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلا في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال:"لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه".
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل صيداً وهو محرم فرده صلى الله عليه وسلمفلما رأى ما في وجهه قال:"إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم".
وحين جاء مالك بن الحويرث - رضي الله عنه - وأصحابه إلى النبي فبقوا عنده أياماً، قال مالك: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا فسألنا عمن تركناه من أهلنا فأخبرناه فقال:"ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا عندهم وعلموهم ومروهم، إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم".
وحين تقرأ في سيرته صلى الله عليه وسلم ترى أنه كان يدرك هذه المشاعر وكان يراعيها، بل كان يرعى ذلك وهو في عبادته وصلاته، فيخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم أنه يدخل الصلاة وهو يريد أن يطيلها فيخفف خشية أن تفتن أمته، مع أنه دعا إلى أن تصلي المرأة في بيتها، فكيف بأولئك الذين أوجب الله عليهم صلاة الجماعة.
* ومن خلقه صلى الله عليه وسلم اهتمامه بالناس: وهو خلق عجيب، وقد دونت بعضاً مما رأيته في سننه فرأيت أن الأمر يطول، ومن ذلك مثلاً ما يرويه عثمان رضي الله عنه :"إنا والله صحبنا الرسول في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير وإن أناسا يعلموني به ، عسى أن لايكون أحدُهم رآه قط. رواه أحمد.
وها هو صلى الله عليه وسلم حين ماتت امرأة كانت تقم المسجد فحقَّر الناس شأنها وصلوا عليها ودفنوها بليل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"هلا آذنتموني؟" فيذهب إلى قبرها ويصلي عليها.
وحين مرض شاب غلام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتاه يعوده ، وهو زيد بن أرقم الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم راوياً له ما قاله ابن أبي فقال النبي:" قد وفت أذنك يا غلام، إنه لا يستنكف ولا يتكبر أن يعود هذا الغلام، فهو يهتم بشأن خاصة أصحابه، ويهتم بشأن الأعراب والصبيان والقريب والبعيد، بل يبلغ هذا الأمر عنده شأناً عجيباً، كان النبي جالساً فدخل أبو بكر فلم يعدل جلسته فلما دخل عمر كان كذلك، فلما دخل عثمان تهيأ النبي صلى الله عليه وسلم وعدل جلسته فيقال له في ذلك فقال: "إن عثمان رجل حيي فإني يخشى أن يراني هكذا فأخشى ألا يبلغ حاجته" انظروا إلى هذا القدر من رعايته واهتمامه بشأن الناس.
تأتي امرأة في عقلها شيئاً فتنطلق بالرسول وتحدثه بحاجتها، تأتي إليه بريرة وهي أمة حين عتقت فيشفع لديها صلى الله عليه وسلم أن تعود إلى زوجها.
يهتم النبي صلى الله عليه وسلم بشأن هؤلاء وهو الذي يقود الأمة ويواجه اليهود وغطفان وقريش والمنافقين والأعراب من هنا وهناك، وهو الذي يتحمل القضاء للناس والفتاوى وحل شؤونهم وتعليمهم.
إنك لو أردت أن تستكثر من هذه الشواهد لشعرت أن المقام يضيق بك، فما أحوج طلبة العلم وما أحوج الذين يتصدون لدعوة الناس إلى الله وتعليمهم وتربيتهم أن يعتنوا بشأن الناس، ولو بكلمة طيبة أو اعتذار لطيف أو حسن استقبال، فذلك قد يكفي ويخلق من المحبة لدى قلوب الناس الكثير، بل المرء يفعل ذلك تديناً وحسن خلق قبل أن يكون لأجل أن يكسب الناس ومودتهم .
أسأل الله أن يرزقنا التأسي بنبيه صلى الله عليه وسلم وأن يحسن خُلقنا إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه،،،(/5)
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ...} ...
موقع صيد الفوائد
قال تعالى: ? وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذيِنَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ? [الأعراف/175-176-177].
قال ابن القيم رحمه الله: فشبَّه سبحانه مَن آتاه كتابه وعلَّمه العلمَ الذي منعه غيرَه فترك العمل به واتَّبع هواه وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو مِن أخبث الحيوانات وأوضعها قدراً، وأخسِّها نفساً، وهمَّته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً، ومِن حرصه أنَّه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمَّم ويستروح حرصاً وشرهاً. ولا يزال يَشُمُّ دبره دون سائر أجزائه، وإذا رميتَ إليه بحجرٍ رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو مِن أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا. والجيفُ القذرة المروحة أحبُّ إليه مِن اللحم الطري. والعذرة أحبُّ إليه مِن الحلوى وإذا ظفر بميتةٍ تكفي مائةَ كلبٍ لم يَدَع كلباً واحداً يتناول منها شيئاً إلاّ هرَّ عليه وقهره لحرصه وبخله وشَرَهِه.
ومِن عجيبِ أمره وحرصه أنَّه إذا رأى ذا هيئةٍ رثةٍ وثيابٍ دنيَّةٍ وحالٍ زرِيَّةٍ نبحه وحمل عليه، كأنَّه يتصور مشاركتَه له ومنازعتَه في قُوتِه. وإذا رأى ذا هيئةٍ حسنةٍ وثيابٍ جميلةٍ ورياسةٍ وضع له خطمه بالأرض، وخضع له ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه مَن آثر الدنيا وعاجلها على اللهِ والدارِ الآخرةِ مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سِرٌّ بديعٌ، وهو أنَّ هذا الذي حاله ما ذكره الله مِن انسلاخه مِن آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلبُ منقطعُ الفؤاد، لا فؤاد له، إنْ تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهُدى، لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطعٌ.
قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنَّه ليس له فؤادٌ يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا مِن قلة صبره عنها،وهذا يلهث مِن قلة صبره عن الماء، فالكلب مِن أقل الحيوانات صبراً عن الماء، وإذ عطش أكل الثرى من العطش، وإنْ كان فيه صبرٌ على الجوع.
وعلى كلِّ حالٍ فهو مِن أشدِّ الحيوانات لهثاً، يلهث قائماً وقاعداً وماشياً وواقفاً، وذلك لشدَّة حرصه، فحرارةُ الحرصِ في كبده توجبُ له دوام اللهث.
فهكذا مشبَّهه شدةُ الحرص وحرارةُ الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث، فإنْ حملتَ عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركتَه ولم تعظْه فهو يلهث.
قال مجاهد: ذلك مثَل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به. وقال ابن عباس: إنْ تحمل عليه الحكمة لم يحملْها، وإن تتركْه لم يهتدِ إلى خيرٍ، كالكلب إنْ كان رابضاً لهث، وإنْ طرد لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحقِّ، دُعي أو لم يُدْع، وُعظ أو لم يُوعظ، كالكلب يلهث طرداً وتركاً.
وقال عطاء: ينبح إنْ حملتَ عليه أو لم تحمل عليه.
وقال أبو محمد بن قتيبة: كلُّ شيءٍ يلهثُ فإنما يلهثُ مِن إعياءٍ أو عطشٍ إلا الكلب، فإنَّه يلهث في حالِ الكلال وحالِ الراحة وحالِ الصحة وحالِ المرض والعطش فضربه الله مثلاً لمن كذَّب بآياته، وقال: إنْ وعَظْتَه فهو ضالٌّ، وإن ترَكْتَه فهو ضالٌّ، كالكلب إنْ طردتَّهُ لهث وإنْ تركْتَه على حاله لهث ونظيره قوله سبحانه: ? وَإِنْ تَدْعُوهُم إِلى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُم سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُم أَمْ أَنْتُم صَامِتُونَ ? [الأعراف/193].
وتأمَّلْ ما في هذا المثل مِن الحِكم والمعاني:
- فمنها: قوله: ? آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا ? فأخبر سبحانه أنَّه هو الذي آتاه آياته، فإنَّها نعمةٌ، والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه، ثم قال: ? فَانْسَلَخَ مِنْهَا ? أي: خرج منها كما تنسلخ الحيَّةُ مِن جلدها، وفارقها فراق الجلد يُسلخ عن اللحم. ولم يقل (فسلخناه منها) لأنَّه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه.(/1)
- ومنها: قوله سبحانه: ? فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَان ? أي: لحقه وأدركه، كما قال في قوم فرعون: ? فَأَتْبَعُوهُم مُشْرِقِينَ ? [الشعراء/60] وكان محفوظاً محروساً بآيات الله محميَّ الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئاً إلا على غِرَّةٍ وخطفة. فلمَّا انسلخ مِن آيات الله ظفِر به الشيطانُ ظفَر الأسد بفريسته ? فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ ? العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء.
- ومنها: أنَّه سبحانه قال: ? وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ? فأخبر سبحانه أنَّ الرفعة عنده ليست بمجرد العلم - فإنَّ هذا كان مِن العلماء- وإنَّما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله، فإنَّ هذا كان مِن أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به، نعوذ بالله مِن علمٍ لا ينفع.
وأخبر سبحانه أنَّه هو الذي يرفع عبدَه إذا شاء بما آتاه من العلم، وإنْ لم يرفعه الله فهو موضوعٌ، لا يرفعُ أحدٌ به رأساً، فإنَّ الربَّ الخافضَ الرافعَ سبحانه خفضه ولم يرفعه. والمعنى: لو شئنا فضَّلناه وشرَّفْناه ورفعنا قدرَه ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
قال ابن عباس: لو شئنا لرفعناه بعلمه.
وقالت طائفة: الضمير في قوله: ? لَرَفَعْنَاهُ ? : عائدٌ على الكفر والمعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه.
وهذا المعنى حقٌّ ، والأول هو مراد الآية، وهذا مِن لوازم المراد ، وقد تقدم أنَّ السلف كثيراً ما ينبهون على لازمِ معنى الآية، فيظنُّ الظانُّ أنَّ ذلك هو المراد منها.
وقوله: ? وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ ?. قال سعيد بن جبير: ركن إلى الأرض، وقال مجاهد: سكن. وقال مقاتل: رضي بالدنيا. وقال أبو عبيدة: لزمها وأبطأ.
والمُخلِدُ من الرجال: هو الذي يبطىء في مِشْيته، ومِن الدواب: التي تبقى ثناياه إلى أنْ تخرج رَباعيَّتُه. وقال الزجاج: خلد وأخلد، وأصله من الخلود، وهو الدوام والبقاء. يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به.
قال مالك بن نويرة:
بأبناء حيٍّ مِن قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا قلت: ومنه قوله تعالى: ? يَطُوفُ عَلَيْهِم وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ? [الواقعة/17] أي: قد خُلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سنٍّ واحدٍ أبداً.
وقيل: هم المقرَّطون في آذانهم، والمسوَّرون في أيديهم. وأصحاب هذا القول فسَّروا اللفظة ببعض لوازمها، وذلك أمارة التخليد على ذلك السنِّ فلا تنافي بين القولين.
وقوله: ? فَاتَّبَعَ هَوَاهُ ?، قال الكلبي: اتَّبع مسافل الأمور وترك معاليها. وقال أبو رَوْق: اختار الدنيا على الآخرة. وقال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه. وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم، يعني الذين حاربوا موسى وقومه. وقال ابن يمان: اتَّبع امرأته لأنهَّا هي التي حملته على ما فعل.
فإنْ قيل: الاستدراك بـ (لكن) يقتضي أنْ يثبت بعدها ما نفى قبله، أو ينفي ما أثبت كما تقول: (لو شئتُ لأعطيتُه، لكني لم أعطِه) و (لو شئتُ لما فعلتُ كذا لكني فعلتُه).
والاستدراك يقتضي: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنَّا لم نشأ، أو لم نرفعه)، فكيف استدرك بقوله: ? وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ ? بعد قوله : ? لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ?؟
قيل: هذا مِن الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أنَّ مضمون قوله: ? وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ? أنَّه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات: مِن إيثار الله ومرضاته على هواه، ولكنَّه آثر الدنيا وأخلدَ إلى الأرض واتَّبع هواه.
وقال الزمخشري: المعنى: ولو لزم آياتنا لرفعناه بها، فذكر المشيئة، والمراد: ما هي تابعةٌ له ومسببةٌ عنه، كأنَّه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها. قال: ألا ترى إلى قوله: ? وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ ? فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أنْ يكون ? وَلَوْ شِئْنَا ? في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره: لوجب أنْ يقال: ولو شئنا لرفعناه، ولكنَّا لم نشأ. ا.هـ.
فهذا من الزمخشري شنشنةٌ نعرفها مِن قدريٍّ نافٍ للمشيئة العامة، مبعد للنُّجعة في جعْلِ كلام الله معتزليّاً قدريّاً. فأين قوله: ? وَلَوْ شِئْنَا ? مِن قوله: ولو لزمها؟. ثم إذا كان اللزوم لها موقوفاً على مشيئة الله -وهو الحق- بَطَل أصله.
وقوله: (إنَّ مشيئة الله تابعةٌ للزوم الآيات) مِن أفسدِ الكلام وأبطلِه، بل لزومه لآياته تابعٌ لمشيئة الله، فمشيئةُ الله سبحانه متبوعةٌ لا تابعةٌ، وسببٌ لا مسبَّب، وموجب مقتضٍ لا مقتضى، فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده) ا.هـ .
انظر : " أعلام الموقعين " [1/165-169]. وانظر: " الفوائد " [ص150].
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:(/2)
ضرب اللهُ المثلَ لهذا الخسيس الذي آتاه آياته فانسلخ منها: بالكلب، ولم تكن حقارةُ الكلبِ مانعةً مِن ضربه تعالى المثلَ به. وكذلك ضربُ المثلِ بالذباب في قوله: ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ? [الحج/73] ، وكذلك ضربُ المثلِ ببيتِ العنكبوت في قوله: ? مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ? [العنكبوت/41]. وكذلك ضربُ الله المثلَ بالحمارِ في قوله: ? مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةِ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ ? [الجمعة/5] وهذه الآيات تدل على أنَّه تعالى لا يستحيي مِن بيانِ العلوم النفيسة عن طريق ضرب الأمثال بالأشياء الحقيرة. وقد صرَّح بهذا المدلول في قوله: ? إنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحِيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ? [البقرة/26]. ا.هـ (أضواء البيان [2/303]).(/3)
واجب الدعاة في فهم دينهم
معالجة الإسلام للقضايا العامة
الحلقة (24)- الجمعة 28 جمادى الثانية 1396هـ - 25 حزيران 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
فإنه ليسعدني أن أعود لألتقي بكم مرة أخرى وأرجو هذه المرة أن يطول اللقاء بعض الشيء أرجو أن يعين الله تعالى على الفراغ من دراسة بواكير الدعوة وأن يعين على دفع هذه الدراسة مراحل أخرى إلى الأمام، ولقد كان لازماً أن نصل ما انقطع وأن نأخذ بالحديث من حيث انتهينا، ولكني أحببت اليوم أن أركز على بعض الأفكار وأن أعيد النظر ببعض جوانب المنهج الذي اعتمدناه في هذه الدراسة، ولي من ذلك غرض.
منذ زمن كنت أتحدث إلى بعض الإخوة عن أماني كنت أقول إذا تيسر لي بمعونة الله أن أكتب عن القرآن دراسة ميدانية تثير مسائله كلها وتعرض قضاياه وإذا تيسر لي أن أكتب يوماً ما في السيرة النبوية دراسة حركية وإذا تيسر لي بعد ذلك أن أحدد بالضبط مناهج الحركة الإسلامية فسوف أموت حين أموت وأنا قرير العين رضيُّ النفس.
ولقد يبدو أنه لن يتيسر لنا من ذلك شيء فنحن لا نملك أنفسنا، وقد ينبغي أن نقول إننا لا نملك أوقاتنا وإن هذه الحياة التي نحياها بما فيها من عواصف ورعود وبروق تحطم الأعصاب وتسحق الإنسان سحقاً، وإن العمل الذي في الذهن ليس عمل أفراد وإنما هو عمل جماعات؛ وما زلنا كما قلت في يوم غير هذا في الشرق عموماً لا نعرف للعمل الجماعي قيمته الحقة، وهذه بلاد الدنيا المتقدمة الراقية التي تقدر العمل الجماعي وتقدر قيمة عمل الفريق بدأت منذ زمن تبني للعلماء مدناً خاصة بهم تجمعهم على صعيد واحد؛ وتكل إليهم إنجاز الدراسات المهمة، ونحن ما زلنا حتى الآن في هذا الشرق المسكين نعتمد على الدوافع الفردية بما فيها من نقص وقصور، وبما يدخلها من ملل وانقطاع فمن أجل ذلك تجيء أعمالنا كلها ودائماً بتراء ناقصة؛ وإزاء هذا الأمر فنحن لا نملك حق التخلي عن المهمات فلنعمل ضمن الميسور والميسور، اليوم أن يقول القائل ما يراه الحق والصواب، وأن يضرب صفحاً عن المشروعات الطموحة والخطط العريضة، وبحسبي في هذا المجال أنني أقول كلاماً يحتوي أفكاراً مؤسسة على قواعد في البحث والدرس أظنها علمية؛ ومن بعد فأنا أجيز للناس عموماً أن ينتفعوا بهذه الأفكار شريطة أن لا يشوهوها ولا أدري فقد يتفضل الله علينا ذات يوم فيبعث فينا القدرة على أن نصب هذا الذي نقول ونعتقد، على الورق كلاماً ينتفع به الناس إلى أزمان طويلة لهذا فأنا حريص على أن أتحدث بين الآن والآن عن حدود المنهج، وجوانب المنهج وأن أمثل لهذه الحدود ولهذه الجوانب كي يتعرف الإخوة على الخطوات التي تتبع في الدراسة وعلى العمليات التي تمارس من أجل استخلاص الفكر؛ لكن لماذا بعد هذا العمر الطويل؟ هنا لا بد أن نقدم فنقول:
لعل بعضكم يذكر في عام 1967 وفي هذا المكان وبعد أن خرجنا من الهزيمة المرة على أثر ضجيج شمل العالم العربي خمس عشرة سنة يشنشن بالقوة التي لا تقهر، وبالسلاح الذي لا يفل، وبالتنظيمات الثورية وبالأحزاب العقائدية التي تُرْخِصُ كل شيء من أجل القضية؛ وكانت جولة عمرها في الزمان ساعتان انجلى الغثاء، وتكشف الزبد؛ عن كذب عريض وعن تدليس مفضوح، وعن مؤامرة رهيبة شارك في صنعها كل الذين لعبوا على المسرح قبل سنة 67 - وفي هذا الصدد وفي تلك الأيام كنت أقف هنا في هذا المكان، وأقول للإخوة: إن النكبة التي حلت بالأمة قضاء من قضاء الله لا يغالب، وإن وراءها حكمة باتت الآن مكشوفة، وإن جميع الأنظمة وجميع المناهج من جميع الأصعدة وعلى مختلف المستويات؛ أثبت الواقع المر؛ عجزها وفشلها وإفلاسها، وإنه بات حتماً لازماً على الفاقهين من أبناء الأمة وعلى الذين يحسون بأحاسيسها ويتذوقون آلامها ويريدون لها مستقبلاً كريماً؛ أن يعيدوا مراجعة كل الذي كان يجب أن يجري حساب دقيق وحساب قاس للفرد من حيث هو فرد، وللمنظمة من حيث هي منظمة، ولنظام الحكم من حيث هو نظام حكم، وللمؤسسات العسكرية التي أعدت لندرأ بها في نحر العدو.(/1)
ومضت الأيام بيننا وبين ذلك اليوم ما يقارب العشر سنين؛ هل تغير في الجو شيء؛ لا ما زال الفاسدون سادرين في غيهم، وما زال الأفاقون يقطعون على الأمة طريق مستقبلها، وما زالت الألاعيب تمارس على نفس المنهج الكاذب المفضوح والأمة تنحني تحت وطأة هذا الحمل المبهظ، وتنظر إلى المستقبل بعين يملؤها الرعب من المصير الأسود الذي يتربص بهذه الأمة ذلك كلام قلناه وتلك ملاحظة نقولها الآن وما نحن بصددها، ولكني أريد أن أقول إنني أنا بالذات منذ ذلك التاريخ غيرت نهجي كنا قبل هذا التاريخ، وطبعاً مع اختلاف في المستوى، نسير على منهج يتسم بالتكرار، بنثر الكلام اللامسؤول، قد ننمق الكلام قد نعتني بالفكرة؛ ولكني أعترف أننا لم نكن ملتصقين حقاً بقضية الأمة؛ كان بيننا وبين الأمة فراغ رهيب وكنا نعيش أوهاماً تصور لنا أننا بخير بل بألف خير، وكنا نتصور أننا لو قلنا لجبل زُلْ من مكانك لزال، حتى كان ما كان؛ فوجدنا أن الواجب يتقاضانا أن نطبق ما نصحنا به الناس على أنفسنا أولاً، وأن نخضع أنفسنا للمراجعة الجادة والقاسية، واكتشفنا مع الأسف لماذا لا يتحرك المسلمون لماذا لا تترقى حال المسلمين، لماذا وهم الكثرة الكاثرة في البلاد لماذا وهم قرابة الألف مليون، ولماذا وهم يسمعون التوجيه في كل بلد وفي كل قرية في عدد من المساجد في كل أسبوع؛ لماذا لأن الذين ندبوا أنفسهم للتخاطب مع الجمهور بينهم وبين الجمهور فراغ رهيب، أو لأنهم ندبوا أنفسهم لعمل لا يحسنونه ولعمل ليسوا مؤهلين له؛ لا فكراً ولا سلوكاً. وأية قيمة لصلاة جمعة يقف فيها الخطيب يقلب صفحات كتاب مضى على طبعه مئات السنين، وأية قيمة لصلاة جمعة يقف فيها إنسان مفوه يحسن صياغة الكلام ورصفه فيقول للناس كلاماً يروع وياسر، ولكنه لا محصل من ورائه إذاً فالأمة معذورة حين لا تفيد شيئاً من هذا الكلام، والأمة معذورة حين يهون عليها العلماء، والأمة معذورة حين تنعدم الفائدة التي يجب أن تُؤسس على التجاوب الحي بين الموجه وبين الناس الذين يستمعون إليه؛ منذ ذلك التاريخ تغيَّر المنهجُ والتفتنا إلى كتاب الله، ومن هذا المنبر استعرضنا بفضل الله تعالى سورة البقرة بتمامها، وفي هذا المسجد وفي غيره استعرضنا الجانب الأعظم من سورة آل عمران وإلى الوقت الذي أتحدث عنه إليكم؛ فللأمانة أقول لم أكن راضياً عن كل هذا الذي أقول الرضى الذي يشعرني بالاطمئنان وبالثقة إلى سلامة النتائج التي أتوخاها، لا يبلغ بي الغرور قطعاً المرحلة التي أمنح معها آرائي صفة البت والقَطْعيِّة، هذا شيء لا يخطر ببالي، لكن غيرت المنهج أيضاً في العام الماضي مثل هذه الأيام أو قبلها بقليل؛ كنت أقول لكم إننا في هذا الشرق نجهل قيمة العمل الجماعي وقد آن لنا أن نكتشف أن أي عمل فكرياً كان أو عملياً لن يكون له مردود ما لم يكن مؤسساً على الصعيد الجماعي المشترك؛ فالقضية قضية الأمة ككل وينبغي أو المفروض أن يكون اهتمام الناس المسلمين بها متساوياً أو على الأقل أن يكون اهتمامهم بها متقارباً؛ فمن أجل ذلك فالحاجة ماسة إلى حركة إسلامية جامعة تضبط هذا العمل وتنظم له مجاريه، هنا نصل إلى المعضلة التي وقفنا عندها كل السنة الماضية والتي دندنا حولها في الكلام أثناء خطبنا الماضية العشرين أو أكثر أو أقل لا أدري.
لكن قبل أن نسترسل أحب أن أقول لكم شيئاً أو أذكر لكم واقعة إن المأساة التي نتحدث عنها والتي نحاول أن نشخص بعض جوانبها ليست لعنة من السماء تنزل بها ملك من الملائكة فألصقها بجسم الأمة لا. المأساة حصيلة أجيال حصيلة مئات السنين تعاون على إخراجها أمران عجز في الأمة ومؤامرات من الخارج من الأعداء وعجز الأمة شيء مفهوم وسبيل تلافيه أيضاً سبيل معلوم لكن الشيء الذي يجهله معظم الناس هو ما حيك لهذه الأمة في الخارج ومن المؤسف أن أقرر أن أبناء هذا الجيل بالذات هم أشد الناس جهلاً بجذور المشكلة التي تعانيها الأمة، حينما بدأنا نراجع الخطوات ونراجع الأفكار تبين لنا أن أية خطوة تهدف إلى صالح الأمة، لا بد لها من أن تأخذ في حسابها ضرورة الدراسة النزيهة والأمينة لتاريخ المسلمين خلال المئة والخمسين سنة الماضية.
ما هي التطورات التي حصلت في بلاد المسلمين؟
ما هي الأخطار التي تعرض لها المسلمون؟
ما هي القوى التي ناصبت المسلمين العداء؟
ما إذا كانت تريد وما تبغي.
ما هي الوسائل التي سلكتها لكي تنفذ وتحقق هذا الهدف الذي تسعى إليه؟(/2)
أما الهدف فقد تحقق؛ ولا أحد الآن يجهل أن حصيلة المؤامرة العالمية اليهودية الصليبية الرهيبة تَكَشَّفتْ عن احتلال كامل لكل ديار المسلمين، كما تكشفت عن تجزئة مخيفة لبلاد المسلمين. هذا شيء لا يجهله أحد؛لكن الشيء الذي يجهله أبناء الجيل أن كثيراً من المفاهيم وكثيراً من الأفكار والمعتقدات التي يرونها الآن حقائق مسلمة؛ هي صناعة أجنبية موجهة لكي تكون لغماً يفجر جسم هذه الأمة، ولعل شبابنا المثقف والمثقف جداً يستغرب هذا الكلام لكن سأضرب مثلاً نافعاً يساعدنا على فهم أبعاد المؤامرة كما يعيننا على أن نضع أقدامنا بسلام على أول الطريق؛ لا تكاد اليوم تجد بين الشباب المثقف التقدمي من هو مستعد للمناقشة في قضية علمانية الدولة وفي فصل الدين عن الدولة هذا كلام يعتبره التقدميون ألف باء العمل السياسي والعمل الاجتماعي شيء لا يناقش، لكنا نريد أن نتساءل هل كلف هؤلاء الإخوة المثقفون جداً أنفسهم مؤونة السؤال أين نشأ هذا الكلام وماذا يراد من هذا الكلام وهل كلفوا أنفسهم مؤونة البحث عن نتائج تطبيق هذا الكلام في بلاد المسلمين؟
هذا هو السؤال أما نشأة هذا الكلام فليس عندنا بل في ديار الغرب، وفي ظل حكم كنسي متآمر، ضالع مع الطبقات المستغلة على حساب الفقراء والمعدمين، وكذلك حكم اتسم برجعية عاتية شديدة تعادي العلم والعلماء، وتحرقهم وهم أحياء؛ ولكن لنتساءل هل الكنيسة حينما كانت تحكم باسم المسيح عليه السلام كانت تَصْدُرُ في نظمها وفي منهاجها عن قواعد يرجع إليها في صلب الإنجيل نقول لا، لأن الإنجيل لا يعدو أن يكون مجموعة من الوصايا والحكم والمواعظ ولا يحتوي شيئاً من التشريعات والنظم، ومنذ نشأة المسيحية؛ والمسيحيون يحكمون بقوانين الرومان أو بقوانين المسلمين أو بقوانين أية دولة يخضعون لها؛ فالمسيحية حينما تجرد عن ممارسة شؤون الحكم وتوجيه الحياة الاجتماعية تُجَردُ من شيء ليس لها فيه حق وتعاد إلى مكانها الطبيعي، وأما الإسلام فرسالة ذات نظام حينما يطلب منها أن تفعل هذا الشيء فإنما يطلب منها أن تمزق أوصالها، وأن تقطع هذه الرسالة تقطيعاً مع ذلك إلى هنا نريد أن نسلم مع إخوتنا بأن الكلام صحيح وبأن الذي ينبغي أن يكون هو هذا لنتساءل عن النتائج وأحب أن تظل هذه الواقعة ماثلة في الأذهان وأن يفكر فيها بأمانة بدقة من قبل الخصوم ومن قبل الأصدقاء على السواء، أنا لا أخشى على الإسلام لو أن أهل الأرض جميعاً أطبقوا على إماتة الإسلام فلن يحصلوا على شيء؛ كل عملهم باطل الأباطيل وقبض الريح، ولكن لكي تتجنب الأمة آلاماً ومتاعب لا مبرر لها، ولكي توفر على نفسها دماء لو بذلت في غير هذا المكان لكان خيراً وأجدى من أجل مصلحة الخصوم بالذات.
أقول هذا الكلام عليهم أن يفكروا؛ حينما أعيدت المسيحية إلى حظيرة العلمانية حافظت الكنيسة على استقلالها، وفي الواقع فإن الكنيسة في كل بلد في الدنيا لها استقلال مقرر ومعترف به، وكدليل مادي أقول لكم إنكم في كل بلاد الإسلام تسمعون أن المدرسين الدينيين وخطباء المساجد يتعرضون للجرجرة والاستجوابات، ولكن القسس والرهبان لا يتعرضون لشيء من هذا؛ وفي كل بلاد الدنيا يجول المخبرون في المساجد؛ ولكنهم لا يدخلون الكنائس لماذا؟ لأنّ الكنيسة لها استقلال مقرر ومعترف به كذلك الكنيسة لها دولة هذه الدولة لها سفراؤها ولها تمثيلها السياسي في دول الأرض جميعاً فهي تدافع عن حقوق الكنيسة في كل مكان لايغضبن أحد، هذه حقائق لا مجال لنكرانها، كذلك فالكنيسة لها مدارسها ولها صحفها ولها كتبها ولها منشوراتها، تنشر وتوزع وتدرس بلا حرج؛ لأنها تعمل في الميدان المتفق عليه وأما في الإسلام، فتعالوا وانظروا ماذا ينتج عن التطبيق؟ الذي نتج عن التطبيق بالضبط هو أننا أنكرنا على الإسلام حق العيش، أنكرنا على الإسلام حق الدعوة إليه، أنكرنا على الإسلام حق الكتابة وترويج الأفكار، أنكرنا على الإسلام حق إنشاء المدارس لتعليم الأبناء حقائق الدين إلا في الحدود التي ترضي الأنظمة الحاكمة لا أكثر أبداً، وهذا شيء مهين بل هو شيء خطير؛ إذا كانت الكنيسة بعلمانيتها حفظت كرامتها وخصصت لنفسها مجالها الذي هو لها وحفظت كرامة رجالها؛ فنتائج التطبيق عندنا أعطت نتائج رهيبة بل نتائج مخزية أصبح على الخطيب وهو يخطب على المنبر أن يحسب ألف حساب؛ حقائق التنزيل لا قيمة لها كلام الله شيء يجب أن لا ينظر إليه سنن النبي صلى الله عليه وسلم شيء لا معنى له الشيء الذي يجب أن ينظر إليه الخطيب؛ أن يرضي الجهات الحاكمة والشيء الذي يجب أن يحسبه الخطيب أن يحمي ظهره من بضع جلدات إذا هو خرج وتعرض لسياسة العصا الغليظة هذا العمل الذي مورس في ديار المسلمين وروج له في بلاد المسلمين كان عملاً موجهاً ضد الإسلام بالذات ضد رسالة الإسلام بالذات، فترون أن الآثار التي نتجت عن تطبيق هذا النهج في بلاد المسيحية غير الآثار التي نتجت عنه في بلاد الإسلام هنا في بلاد الإسلام.(/3)
العلمانية تعني أن الإنسان المسلم أجير عند السلطة الحاكمة ينطق بلسانها ويدافع عن مواقفها ولا عليه بعد ذلك خالف الله أو خالف رسول الله، كل شيء يهون ولكن الشيء الذي لا تجوز المساومة فيه هو أن السلطة الحاكمة يجب أن ترضى؛ أرأيتم إذاً فنحن نتلقف كلاماً روج له في بلادنا بطريق عناصر لا نقول مشبوهة بل مكشوفة لأنها صليبية ويهودية والأسماء معلومة وأنتم يا شباب هذا الجيل لا تعرفون الأسماء ولكن لو كلفتم أنفسكم مراجعة التاريخ الذي يمتد إلى مئة وخمسين سنة قبل الآن، ومراجعة الأفكار والمدارس الفكرية والسياسية التي نشأت في بلاد المسلمين شرقاً وغرباً للمستم بأيديكم أن الذين صنعوا كل هذا أناس ليسوا من أبناء جلدتنا، ولا من أبناء فكرتنا وديننا، وليسوا أبداً مبرئين من الغرض وآية ذلك أن أفكارهم انتشرت في ظل حرابهم وبنادقهم ومدافعهم، وفي ظل الذل الذي شمل بلاد الإسلام جميعاً بعد التمزيق والاحتلال الذي تعرض له هذا العالم الإسلامي من هنا كانت المراجعة بعد هذا الكشف والبيان عملاً شاقاً صعباً شديد المشقة بالغ الصعوبة.
من هنا كان واجباً على الإنسان المسلم أن ينظر بحرية وأن ينظر بصراحة مرتبطاً بشيء واحد بحقائق الكتاب المنزل، وبسنن النبي عليه الصلاة والسلام فماذا يجد، يجد ما وضعناه أمام أعيننا لكي ننجز عملاً يجد أن الواجب يستدعينا نحن كمسلمين أن نتساءل، إن الحركة الإسلامية المعاصرة عمرها لا يقل عن نصف قرن لم نقل إن عمرها يمتد إلى قرن؛ ومع ذلك فهي تسجل تراجعات لماذا هل الإسلام عاجز، نقول لا لماذا نقول لا؟ غروراً؟ أبداً وإنما هي الحقيقة العلمية المحضة في الدراسات الحضارية نعرف أن الحضارة الناجحة هي الحضارة القادرة على أن تحل بنجاح المشكلات الناجمة عن تطبيقها؛ فالحضارة المعاصرة أوجدت مشكلات، مشكلات السلطة وتشعباتها، مشكلات علاقة الفرد بالمجموع وعلاقة المجموع بالفرد، مشكلات العدل الاجتماعي، مشكلات العلاقات الدولية المشكلات التقنية المطروحة الآن على بساط البحث، انسحاق الإنسان أمام منجزات العلم كل هذه مشكلات حضارية راهنة يعاني منها الناس، هل نجحت الحضارة المعاصرة في حل أية مشكلة من هذه المشكلات؟ نقول لا بشهادة الواقع الذي لا تمكن المماراة فيه بل الذي هو أدى إلى القبول.. أن نقول:
إن الحضارة المعاصرة تفاقم هذه المشكلات، وتصعد من أزمتها ولا تحلها بأي حال من الأحوال، هل الحضارة الإسلامية حين وضعت موضع التطبيق عجزت عن حل المشكلات الناجمة عن تطبيقها؛ اسألوا التاريخ، حتى خصوم الإسلام أشدهم شراسة في الخصومة ولدداً في العداء لا يملك إلا أن يعترف بأن الإسلام حل بأقصى درجة من النجاح كل مشكلة نجمت عن وضعه موضع التنفيذ؛ فالإسلام إذاً لا يسأل عن هذا التخلف الذي تعانيه الأمة من الذي يسأل؟ يسأل الناس الذين تصدوا للعمل؛ يسأل الناس الذين لم يكونوا أبداً على سوية المهمة التاريخية المطروحة أمام المسلمين، وإذاً فميدان المراجعة يجب أن يتركز أين؟ في خطوات العمل نحن في مجال الثقافة والعقائد لا خلافات عندنا لكنا متفقون على أن الله واحد أحد فرد صمد ومتفقون على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي مرسل من قبل الله كسائر إخوانه الأنبياء من قبله، ومتفقون على أن هذا الإسلام بعقائده ونظمه وشرائعه وأخلاقه وآدابه رسالة عامة شاملة كاملة؛ ولكن المشكلة ليست هنا المشكلة في العمل ومن أسف أننا استيقظنا على هذه الحقيقة متأخرين، متأخرين جداً في ميدان العمل؛ كل الذين تصدوا للعمل الإسلامي أفراداً أو جماعات كانوا يعانون من انحسار النظرة في العمل الإسلامي العام ولكي يصحح هذا فلا بد لنا من أن نعود إلى مقياس ثابت.(/4)
كنا نتحدث مع أنفسنا ومع إخواننا ومع الناس الآخرين باجتهادات وبآراء نقولها هي انطباعات، طبعاً هي انطباعات لما نعرف من حقائق الإسلام ولكن بعد المراجعة الدقيقة تبين أنه لمجرد أن يُبدأَ عَملٌ ما له طابع العملية تبدأ وجهات النظر تتباين؛ أنا ليس عندي إلا انطباع وحدس أنت كذلك ليس عندك إلا انطباع وحدس، ومن المؤسف أنه من خلال الممارسة في هذا الميدان تبين أن الحل قريب منا جداً ولكنا نتجاهله نتجاهله تحت ذرائع شتى وللأمانة يجب أن أقول إن أهم ذريعة جعلتنا نتجاهل تناول الدواء من أقرب مكان، هو الرعب الذي يسكن القلوب فلا شك أن طرائق العمل ونظرية العمل الإسلامي ذات تكاليف وذات أخطار وتتطلب مجهودات لا يقوم لها إلا أولو العزم من الرجال ونحن نعيش في بلادنا وفي بيوتنا وبين زوجاتنا وأبنائنا ونتداول ثرواتنا وافرين آمنين مرفهين؛ فلماذا نتعرض للبلاء؟ ولماذا نواجه المحن؟ ولماذا نزج أنفسنا في مآزق؟ كأنما نسينا بالمرة أن محمداً صلى الله عليه وسلم طورد وأوذي وجرح وأن أصحابه قتلوا وصلبوا وشردوا، وأنهم جاعوا وأنهم عروا وأنهم عطشوا وأانهم تعرضوا للبأساء وتعرضوا للضراء وبأن هذا الإسلام الذي نعيش له ونعيش عليه هو مجبول بدماء الآلاف وعشرات الألوف ومئات الألوف من المسلمين، كأنما نجهل هذا الشيء تماماً فنحن نريد أن نظل رافهين، نريد أن نظل موفورين، نريد أن لا ندفع شيئاً من التكاليف ونظن أن الإسلام يقوم بناؤه الشامخ وهو العملية التاريخية الفريدة؛ بالأماني وبالكلام وبالتحايل على الواقع وبالالتفاف من حول الوقائع؛ لا هذا خطأ وطالما نحن بهذا الشكل فلا بد أن نرجع إلى مقياس ثابت، كان المقياس الثابت الذي ارتضيناه -ولا أعتقد أن أحداً من المسلمين يختلف من حوله- التجربة الأولى للإسلام فترة النبوة، السيرة النبوية تتبع المراحل التي سلكها وقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو، وإلى هنا والأمر قد يحتمل الأخذ والرد من حيث اعتماد الأساس الثابت فالسيرة كما نقرؤها روايات وإن كنا قد اعتمدنا طبعاً أوثق نص بين أيدينا في السيرة ولكنك لا تعدم من يماري في الرواية.
نحن قرأنا السيرة وكثير من الناس قرأها، ومن خلال السيرة أو من خلال الروايات الواردة لا تستطيع أن تصنع شيئاً إلا أن تضع إطاراً عاماً تركز داخله حوادث ذات أهمية أما ملء الفراغات، ووضع الملاط اللازم فشيء تسكت عنه الروايات في الغالب من أجل ذلك رأينا إكمالاً لوضع الأساس الذي لا يختلف عليه أن نعتمد القرآن وأن ندرس السيرة النبوية في ضوء القرآن أي أن تكون حقائق الكتاب المنزل حاكمة وموجهة لروايات السيرة بالذات هنا وضعنا الأساس الذي لا يختلف عليه اثنان من بين المسلمين لن يجادلك أحد في هذا إلا أن يكفر بالله وبرسله وبملائكته وبلقائه وهؤلاء لا شأن لنا معهم الآن ولما كان الأمر كذلك فقد بدأنا ندرس أوليات الوحي. ودرسناها أو بالأحرى شرعنا في دراستها من خلال استعراض للسور الأربعة التي نزلت أولاً: سورة العلق سورة القلم سورة المزمل سورة المدثر وكانت الدراسة دراسة تحليلية وعرفنا قضايا مرت معنا أثناء الكلام وأثير من حولها كلام وما أبهنا لما أثير فنحن مع الحقيقة ولن نقف إن شاء الله تعالى ذات يوم ضد الحقيقة على الإطلاق نحن مع الحقيقة حتى وإن خالفت ما نعتقد من قبل؛ ولن يأخذنا الغرور إلى الوجه الذي نرد فيه قناعاتنا ولن يبلغ بنا الهوان على أنفسنا الحد الذي نستشعر معه العزة بالإثم إن شاء الله تعالى.(/5)
ولكن هذه الدراسة التحليلية على ما أعطت من فوائد وعلى ما رأى لها كثير من الإخوة من ميزات؛ في نظري ناقصة والذين يهتمون للمنهج يجب أن يعيشوا معي دقائق قليلة؛ هذا القرآن كتاب ولا كالكتب وكلام ولا كالكلام كتاب الله وكلام الله الذي يعلم الخبء في السموات والأرض؛ كيف ترى هندسة الكون؟ كيف ترى هذا التناسق البديع؟ كيف ترى أن هذا الكون لا يوجد فيه شيء ألغيت فائدته بحال، كذلك هذا الكتاب له طابع الهندسة الكونية بالذات كل كلمة فيه بمعنى كل حرف فيه لغرض، ولكنه كله يتعاون كتعاون أعضاء البدن الحي لأداء الوظيفة الحيوية التي يهدف إليها هذا الدين، وحين نقرأ في القرآن الكريم وفي المرحلة التي حددناها والتي تمتد سنتين ونصفاً أو ثلاث سنوات من عمر الدعوة نجد القضايا تتكرر في السورة الواحدة عدة مرات، الأمر بالصبر مثلاً يتكرر في السورة عدة مرات تارة بالأمر الصريح وتارة بضرب المثل وتارة بسياقة قصة؛ ويتكرر كذلك في السور المتعددة لماذا..؟ كذلك هنالك مواطن ذات طبيعة محددة تستطيع أن تستنتجها وأنت تدرسها؛ موقف أبي جهل من الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الدعوة حين اكتشفه وهو يصلي فنهاه، ومواقف أخرى تتكرر لكنها أوسع نطاقاً وأشمل رقعة؛ هل نستطيع أن نأخذ نصاً من أية سورة كيفما اتفق ونخرج بنتيجة وحكم صائب، لا. هذه خيانة علمية لا أكثر ولا أقل. تحصل بين أيدينا شيء من الأفكار وكانت هذه الأفكار مخالفة لما ألف الناس في العمل الإسلامي حتى تاريخه أدناه ومعذور كل إنسان حينما يدافع عما ألف لكنه ليس معذوراً أبداً في أن يصم أذنيه عن نداء الحقيقة أبداً إذا كان يريد أن يدافع فمع الدفاع يجب أن يكون هنالك توطين للنفس على البحث والتحري والتقصي وبعد وجود القناعة على الإنسان أن يتخلى عما كان عليه وإن عدمت القناعة فله ملء الحق في أن يظل مدافعاً عما هو قانع به.
أريد أن أقول لكل الإخوة إننا على أبواب اكتشافات خطيرة في مجال العمل الإسلامي إننا على أبواب اكتشاف نظرية كاملة ومتكاملة للعمل الإسلامي ولقد سبق في المرحلة الماضية من أحاديثنا أن تعرضنا لقاعدة من قواعد العمل الإسلامي وهي قاعدة رفض العنف في مجال الدعوة وأثار هذا الكلام وأثارت هذه الفكرة ردود فعل شملت القطر كله بين مؤيد وبين راد وما أبهت لمن أيد ولا انزعجت لمن رد ولكني أطمئن الإخوة جميعاً إلى أن عليهم أن ينتظروا ما هو أكثر؛ نحن نعيش مرحلة من أخطر المراحل بل نعيش مرحلة تحدد مستقبل الأمة إلى مئات السنين.
وأية خيانة في الفكر، وأية خيانة في العمل سوف تنعكس آثارها على أجيال لا يحصيها إلا الله؛ إننا سوف نواجه ليس قضية رفض العنف فقط، سوف نواجه أيضاً رفض مبدأ السرية في العمل فهذا الإسلام علانية كذلك سوف نواجه ما هو أشد أنه لا تعاون فالمسلم الذي يريد أن يرسخ دعائم الإسلام لا ينبغي له أن يتعاون مع المجتمع الجاهلي بحال. هنالك أمور كثيرة قد تقنعون بها عقلاً ولكنكم ترفضونها عملاً لما لها من تكاليف إلا أن العمل الإسلامي يجب أن يأخذ هذا الطريق بلا مجاملة وبلا مداورة وبلا تهرب هذه لا نقولها تشهياً ولكننا نقولها قناعة عبر عمليات طويلة من البحث والدرس والتقصي وسوف نواجه أن الإسلام ليس خمولاً ولا قعوداً وليس دوراناً حول الذات، وإنما هو حركة دائبة وعمل يتعاون فيه المجموع وأن المسؤولية تنصب على الناس جميعاً، وأن الأطر الحزبية في العمل لن تجدي شيئا، وأن للأمة أن تراجع هذا الطريق وأنه عليها أن تأخذ نفسها بأن يقنع بعضها بعضاً؛ لأن المصير المشترك للمسلمين جميعاً في كل بقاع الأرض يحتم عليهم عملاً مشتركاً يشترك فيه المسلمون في كل بقاع الأرض أن يريدوا ذلك لمصلحة حزبية لا أن يريدوا ذلك لمصلحة شخصية؛ لا وإنما فقط لكي نضع الحقائق أمام الأعين توفيراً لآلام لا مبرر لها، توفيراً لمتاعب لا ضرورة لها، توفيراً لدماء يجب أن توفر لكي تكسب في الميدان الصحيح، هذا الإسلام كما قلت لكم لو تعاون الناس جميعاً على قتله وعلى إماتته لن يبلغوا منه شيئاً فالإسلام بفضل الله، خانه ناس كثيرون خانه علماء، وخانه حكماء، وخانه حكام وخانه وخانه... وذهب كل أولئك متبوعين بلعنة الله والناس والملائكة أجمعين وبقيت حقيقة الإسلام ناصعة نقية لم تعلق بها ريبة ولم تلحقها شائبة.(/6)
لا خوف عندنا أبداً على الإسلام وإنما لكي نوفر على أمتنا آلاماً لا ضرورة لها أبداً، هذا الإسلام إذا تخلينا عنه نحن الآن فهل معنى ذلك أنه سيموت أبداً إن الله تعالى تكفل هذا الإسلام بالبقاء، وأن أي إنسان يخيس بعهده مع الله فلن يضر إلا نفسه وأن أية أمة تنكث بمواثيقها مع الله فلن تلحق الضرر إلا بنفسها؛ وإن الله جلت حكمته يقيض لهذا الدين أناساً صالحين يعطونه من ذات أنفسهم ما يستحقه من عناية واهتمام ومن تضحية وبذل وعطاء فنحن إذاً بعد اليوم سنواجه الدراسة التركيبية لحقائق السور الأربع وسنعامل حقائق السيرة في هذه المرحلة بالذات على ضوء نتائج هذه الدراسة التركيبية، وسوف نستعين الله تعالى بعد ذلك لا شيء بأيدينا فالقوة من الله وقلب الإنسان بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه...
فبعد أن نقدم نتائج دراستنا ونقدم العزم على الالتزام بنتائج هذه الدراسة وخدمة الإسلام في ضوء حقائق الإسلام الأولى التي لا ارتياب بها سنتوجه إلى الله تعالى جميعاً أن يمنحنا العون والتأييد وأن يكتب لهذه الأمة حياة هانئة رضية مطمئنة وأن يهيئ السبل لكي تقوم هذه الأمة بأداء دورها وحمل أمانة الله تبارك وتعالى على الوجه الذي يرضى عنه ربنا جل وعلا وصلى الله تعالى على سيدنا محمد.
والحمد لله رب العالمين.(/7)
واجب المسلمين لإنقاذ الأسرى و فكاك المعتقلين
من سجون الصليبيين
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلا وَ أَنْتُمْ مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيْداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [ الأحزاب : 70 – 71 ] .
أما بعد ...
فمع توالي الأحداث و تكالب الأمم على أهل الإسلام ، تعرّضت الأمّة الإسلامية لأكثَر من نكبة ، و ألمَّت بها مصائب جسام ؛ من أفظعِها وقوع المئات من المسلمين في الأسر ، و الزج بهم خلف قضبان الحديد في معتقلات لا ترعى حقوقاً و لا تُراعي حُرَماً .
و لا شك في أن معاناة المسلمين اليوم أمر جلل لم يسبق له مثيل عبر تاريخهم الطويل ، حيث تداعت عليهم الأمم متكالبة ، و نابذتهم العداء متحالفة ، و تجمهَر في الحملة الهوجاء عليهم أهلُ الأرض قاطبةً من يهود و صليبيين و وثنيين و ملاحدة ، فضلاً عمن والاهم أو وافقهم ؛ باستعلاء أو على استحياء ؛ من حكام العَرَب و المسلمين .
و من أشنع ما أسفَرت عنه الحرب الضروس المعاصرة ضد الإسلام و أهله تمكين الأعداء الحاقدين من رقاب الأولياء الصالحين ، حتى باتوا يعملون فيهم القتل و التنكيل ، و الأسرَ و التكبيل ، و ينقلون المئات منهم من ديار المسلمين إلى المعتقلات و الزنازين ، على مرأى و مسمَع الحكام و الزعماء ، فضلاً عن السوقة و المستضعفين ، دون أن يُحرك ذلك ساكناً ، أو يَرفَعَ همةً لفكاك الأسرى المستضعفين ، أو استنقاذ المعتقلين المضطهدين .
مع أن القيام بذلك واجب متعين – على الكفاية في أقل الأحوال - على من جعلهم الله { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } كل بحَسب طاقته و قُدرَته ، حسب ما دلت عليه عمومات النصوص الشرعية المؤكدة على حق المسلم على المسلم ، و منها وجوب نصرته ، و تحريم خذلانه و إسلامه لعدوه ، أو التخلي عنه ، كقوله تعالى : { وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } [ الأنفال : 72 ] ، و ما ثبت في صحيح مسلم و عند أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخْذُلُه و لا يحقره ) .
و قال الإمام النووي [ في شرح صحيح مسلم : 16 / 120 ] : قال العلماء : الخذل ترك الإعانة و النصر ، و معناه : إذا استعان به في دفع ظالم و نحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ، و لم يكن له عذر شرعي ، و ( لا يحقره ) أي : لا يحتقره ؛ فلا يُنكِر عليه ، و لا يستصغره و يستقله .اهـ .
و قد فهم الأئمة النقاد من هذا الخبر الصحيح الثابت أن على المسلم وجوباً أن يهبَّ لنصرة أخيه المسلم ، و لو تجوَّز في سبيل ذلك بارتكاب مالا يحل إلا للضرورة .
قال الإمام البخاري في صحيحه [ 6 / 2594 ] : ( باب يمين الرجل لصاحبه إنه يتحقق إذا خاف عليه القتل أو نحوه ، و كذلك كل مكره يخاف ؛ فإنه يَذُبُّ عنه الظالم ، و يقاتل دونه و لا يخذله ، فإن قاتل دون المظلوم فلا قِوَدَ عليه و لا قصاص .
و إن قيل له : لتشربنَّ الخمر ، أو لتأكلنَّ الميتة ، أو لتبيعنَّ عبدك ، أو تقرُّ بدَين ، أو تهب هبة ، أو تحلُّ عقدة ، أو لنقتلنَّ أباك أو أخاك في الإسلام ، و ما أشبه ذلك ؛ وسعه ذلك ، لقول النبي : ( المسلم أخو المسلم ) .اهـ .
و قال شارح الصحيح الحافظ ابن حجر [ في فتح الباري 12 / 324 ] بعد أن ذكر طائفة من أقوال العلماء و خلافهم في مسألة الإكراه بتهديد الغير : ( و المتجه قول بن بطال أن القادر على تخليص المظلوم توجه عليه دفع الظلم بكل ما يمكنه فإذا دافع عنه لا يقصد قتل الظالم و إنما يقصد دفعه فلو أتى الدفع على الظالم كان دمه هدراً و حينئذ لا فرق بين دفعه عن نفسه أو عن غيره ) .
و روى أبو داود من حديث جابر و أبي طلحة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من امرئ مسلم يخذل امرَءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته ، و ينتقص فيه من عرضه ؛ إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته ، و ما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه ، و تنتهك فيه حرمته ؛ إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته ) .(/1)
و أخرج الإمام أحمد و السيوطي ( في المعجم الصغير ) بإسنادٍ حسّنه عن سهل بن حُنَيف عن أبيه عن النبي قال : ( من أُذل عنده مؤمن فلم ينصره ، و هو يقدر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة ) .
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث [ في فيض القدير : 6/ 46 ، 47 ] : ( من أُذِلَّ ) بالبناء للمجهول ( عنده ) أي بحضرته أو بعلمه ( مؤمن فلم ينصره ) على من ظلمه ( هو ) أي و الحال أنه ( يقدر على أن ينصره أذله اللّه على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ) فخذلان المؤمن حرام شديد التحريم دنيوياً كان - مثل أن يقدر على دفع عدوّ يريد أن يبطش به فلا يدفعه - أو دينياً .اهـ .
قلتُ : فلو وضع المسلم الذي يعيش العيش الرغيد نفسه في موضع أخيه المتقلب في الآصار و الأغلال ، و استشعر الأخوة الإيمانية التي تجمعهما ، لبذل الغالي و النفيس في تنفيس كربة أخيه ، و جاد في سبيل تحريره بكل ما تملكه يمينه ، و لا أظننا في زمان يخذل فيه المسلم أخاه ، بالكلية و إن كثر المخذلون ، ففي الأمة طلائع طائفة منصورة ، لن يزال أبناؤها على الحق ظاهرين .
و لو لم يرد في الشريعة المطهرة إلا ما تقدم من النصوص العامة في الدلالة على وجوب نصرة المسلم و الذب عن عرضه ، و الدفاع عنه ، لكفى بها دليلاً على وجوب استنقاذ الأسرى و فكاك المعتقلين ، و حافزاً على بذل الوُسع في رفع المظلمة و دفع الضيم عنهم .
فكيف و قد وردت نصوص ظاهرة الدلالة على وجوب هذا العمل بعينه ، كما في قوله تعالى : { وَ مَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } [ النساء : 75 ] .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : ( و تخليص الأسارى واجب على جميع المسلمين إما بالقتال و إما بالأموال ، و ذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها ، قال مالك : واجب على الناس أن يُفْدوا الأسارى بجميع أموالهم ، و هذا لا خلاف فيه ... و كذلك قالوا: عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة ) [ تفسير القرطبي : 5 / 257 ] .
و قد أمر بذلك نبي الرحمة صراحة ً كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال : ( فكوا العاني ـ يعني الأسير ـ و أطعموا الجائع و عودوا المريض ) .
قال الحافظ ابن حَجَر [ في الفتح : 6 / 167 ] : ( قال سفيان : العاني : الأسير ، قال ابن بطال : فكاك الأسير و اجب على الكفاية ، و به قال الجمهور ، و قال إسحاق بن راهويه : من بيت المال ، و روي عن مالك أيضاً ) .
و قال الإمام المناوي شارحاً هذا الحديث في فيض القدير : ( فكوا ) خلِّصوا ، و الفكاك بفتح الفاء و تكسر التخليص ، ( العاني ) بمُهملة و نون أي أعتقوا الأسير من أيدي العدو بمال أو غيره كالرقيق قال ابن الأثير : العاني الأسير و كل من ذّل و استكان و خضع فقد عنا قال ابن بطال : فكاك الأسير فرض كفاية و به قال الجمهور و قال ابن راهويه : من بيت المال ، و رُوي عن مالك و قال أحمد : يفادي بالرؤوس أو بالمال أو بالمبادلة .اهـ .
و في الصحيح و سنن الترمذي عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي رضي الله عنه : ( يا أمير المؤمنين، هل عندكم من الوحي شيء ؟ ) قال: ( لا و الذي فلق الحبة و برأ النسمة ، إلا فهماً يعطيه الله عز و جل رجلاً و ما في هذه الصحيفة ) ، قلت : ( و ما في هذه الصحيفة ؟ ) قال : ( العقل ، و فكاك الأسير ، و لا يقتل مسلم بكافر ) .
و الوسائل المعينة على فكاك الأسرى كثيرة ، يجب منها ما لا يتم الواجب إلا به ، و من ذلك على وجه التمثيل لا الحَصر :
أولاً : الإكثار من الدعاء لأسرى المسلمين في الخلوات و الجماعات ، و في القنوت و على المنابر و في الصلَوات ، و سائر مظانِّ الإجابة من الأمكنة و الأزمنة .
فقد كان عليه الصلاة والسلام يخص الأسرى بالدعاء ، و يسمي بعضَهم بأسمائهم ، و يدعوا بالهلاك على أعدائهم ، كما في الصحيح عن أبي هريرة و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنّه كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول : ( اللهم نجِّ عياش بن أبي ربيعة ، اللهم نج سلمة بن هشام ، اللهم نج الوليد بن الوليد ، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف ) .
ثانياً : استنقاذ أسرى المسلمين من المشركين بدفع الفدية لإطلاقهم ، و ذلك من فك الرقاب الذي أمر الله تعالى به ، كما في قوله : { فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ - وَ مَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ - فَكُّ رَقَبَةٍ } [ البلد : 11-13 ] .(/2)
قال القرطبي [ في تفسير سورة البلد : 20 / 68 ] : ( قوله تعالى { فَكُّ رَقَبَةٍ } فكُّها : خلاصها من الأسر. و قيل : من الرق ... و الفك : هو حل القيد ؛ و الرق قيد ، و سمي المرقوق رقبة ؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته . وسمي عنقها فكا كفك الأسير من الأسر .
قال حسان :
كم من أسير فككناه بلا *** ثمن وجز ناصية كنا مواليها )
و يُنفَق من بيت مال المسلمين إن كان موجوداً على فكاك الأسرى ، ففي مصنف ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ( لأن أستنقذ رجلاً من المسلمين من أيدي الكفار أحب إلي من جزيرة العرب ) ، و في المصنف أيضاً عنه رضي الله عنه أنه قال : ( كل أسير من المسلمين كان في أيدي المشركين ففكاكه من بيت مال المسلمين ) .
و في إسناد هذين الأثرين ضعفٌ ، و لكن عليهما العَمَل عند أهل العلم كما تقدّم و ما سيأتي بيانه عند ذكر أقوالهم رحمهم الله .
و قد حكى ابن حزم الإجماع عليه فقال [ كما في مراتب الإجماع ، ص : 122 ] : ( و اتفقوا أنه إن لم يُقْدَر على فك المسلم إلا بمال يعطاه أهل الحرب ، أن إعطاءهم ذلك المال حتى يفك ذلك الأسير واجب ) .
و في المبسوط للسرخسي الحنفي [ 30 / 271 ] : ( من وقع أسيراً في يد أهل الحرب من المؤمنين و قصدوا قتله يفترض على كل مسلم يعلم بحاله أن يفديه بماله إن قدر على ذلك ، و إلا أخبر به غيره ممن يقدر عليه و إذا قام به البعض سقط عن الباقين بحصول المقصود ) .
و قال الإمام النووي الشافعي رحمه الله [ كما في الروضة : 10/216 ] : بعد أن ذكر وجوب الجهاد لتحرير الأسرى : ( و الفداء بالمال واجب إن استطعنا تخليص الأسرى به ) .
و قال ابن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله : ( و يجب فداء أسرى المسلمين إذا أمكن ، و بهذا قال عمر بن عبد العزيز ، و مالك ، و إسحاق ، و يروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن علي : على من فكاك الأسير ؟ قال على الأرض التي يقاتل عليها ) [ المغني : 9 / 228 ] .
و يدخل فكاك الأسرى في مصارف الزكاة ، فيصرف له من سهم اعتاق الرقاب ، كما يُشرَع الإنفاق عليه من الكفارات الواجبة ، على ما هو مفصل في مظانه من كتب الفقه .
قال الإمام القرطبي في تفسير آية الصدقة من سورة التوبة : ( و اختلفوا في فك الأسارى منها – أي من أموال الزكاة - فقال أصبغ : لا يجوز . و هو قول ابن قاسم . و قال ابن حبيب : يجوز ، لأنها رقبة مُلكت بملك الرق فهي تخرج من رق إلى عتق ، و كان ذلك أحق و أولى من فكاك الرقاب الذي بأيدينا ، لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة و جائزاً من الصدقة ، فأحرى و أولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر و ذله ) [ تفسير القرطبي : 8 / 183 ] .
و يُندب إلى وقف الأوقاف و حبس أصول الأموال على ما من شأنه فكاك الأسرى ، حتى ينفق من خراج الوقف على كل أسير يقع في أيدي الأعداء إلى يوم يقوم الأشهاد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فكاك الأسارى من أعظم الواجبات ، و بذل المال الموقوف و غيره في ذلك من أعظم القربات ) [ الفتاوى : 28/635 ] .
و سُئل رحمه الله عن مال موقوف على فكاك الأسرى ، و إذا استُدين بمال في ذمم الأسرى بخلاصهم لا يجدون وفاءه : هل يجوز صرفه من الوقف ؟ و كذلك لو استدانه ولي فكاكهم بأمر ناظر الوقف أو غيره ؟
فأجاب :
نعم يجوز ذلك ، بل هو الطريق في خلاص الأسرى ، أجود من إعطاء المال ابتداء لمن يفتكهم بعينهم ، فإن ذلك يخاف عليه ، و قد يصرف في غير الفكاك ، و أما هذا فهو مصروف في الفكاك قطعاً . و لا فرق بين أن يصرف عين المال في جهة الاستحقاق ، أو يصرف ما استدين ، كما كان النبي تارة يصرف مال الزكاة إلى أهل السهمان ، و تارة يستدين لأهل السهمان ثم يصرف الزكاة إلى أهل الدَّين ، فعُلم أن الصرف و فاء كالصرف أداء ، و اللّه أعلم .اهـ . [ مجموع الفتاوى : 31 / ] .
ثالثاً : مفاداة أسرى المسلمين بأسرى الكافرين ، و لتحقيق ذلك يُندَب المسلمون إلى الإثخان في العدو و أسر من يمكن أسره من رجالهم لمفاداة المؤمنين بهم ، فإذا وقع في أيدي المسلمين أسير من أهل الحرب و أمكن أن يفادى به أسير مسلم أو أكثر تعين العمل على ذلك ، و لا مندوحة عنه .
قال الحافظ ابن حَجَر [ في الفتح : 6 / 167 ] : ( و لو كان عند المسلمين أسارى و عند المشركين أسارى و اتفقوا على المفاداة تعينت ) .
و قد أُثر عن النبي حرصه على فكاك الأسارى بالفداء ، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم فدى رجلاً برجلين .(/3)
قال الموفق ابن قدامة المقدسي رحمه الله في المغني [ 9 / 228 ] : ( روى سعيد بإسناده عن حبان بن حبلة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن على المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسيرهم و يؤدوا عن غارمهم ، و روي عن النبي أنه كتب كتاباً بين المهاجرين و الأنصار ، أن يعقلوا معاقلهم و أن يفكوا عانيهم بالمعروف ، و فادى النبي رجلين من المسلمين بالرجل الذي أخذه من بني عقيل ، و فادى بالمرأة التي استوهبها من سلمة بن الأكوع رجلين ) .
و أُثر مثل ذلك عن السلف أيضاً ، فقد روى سعيد بن منصور في سننه [ 2822 ] بإسناد فيه ضعف عن عبد الرحمن بن أبى عمرة في قصة بعث عمر بن عبد العزيز رحمه الله له بفداء أسارى المسلمين من القسطنطينية ، قال : قلت له : ( أرأيت يا أمير المؤمنين إن أبوا أن يفادوا الرجل بالرجل كيف أصنع ؟ ) قال عمر : ( زدهم ) قلت : ( إن أبوا أن يعطوا الرجل بالاثنين ؟ ) قال : ( فأعطهم ثلاثاً ) ، قلت : ( فإن أبوا إلا أربعاً ؟ ) قال : ( فأعطهم لكل مسلم ما سألوك فوالله لرجل من المسلمين أحب إلي من كل مشرك عندي ! إنك ما فديت به المسلم فقد ظفرت ، إنك إنما تشترى الإسلام ) قال عبد الرحمن بن أبى عمرة رحمه الله : ( فصالحت عظيم الروم على كل رجل من المسلمين رجلين من الروم ) .
رابعاً : النفير لفكاك الأسرى و استخلاص المعتقلين بالشوكة و إعداد القوة لذلك ، باعتباره من أفضَل الجهاد في سبيل الله تعالى .
قال ابن العربي المالكي رحمه الله في معرض حديثه عن الأسرى المستضعفين من المسلمين : ( إنّ الولاية معهم قائمة ، و النصرة لهم واجبة بالبدن بألاّ يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم ؛ إن كان عددناًَ يحتمل ذلك ، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم ، حتى لا يبقى لأحد درهم ، كذلك قال مالك و جميع العلماء ، فإنا لله و إنا إليه راجعون على ما حلَّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أمر العدو ، و بأيديهم خزائن الأموال ، و فضول الأحوال ، و العدة و العدد ، و القوة و الجلد ) [ أحكام القرآن : 440/2 ] .
و قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى { وَ مَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } [ النساء : 75 ] : حض على الجهاد ، و هو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب و يفتنونهم عن الدين ، فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته ، و إظهار دينه و استنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده و إن كان في ذلك تلف النفوس ) [ تفسير القرطبي : 5 / 279 ] .
وقال ابن حجر الهيتمي : ( ولو أسروا مسلما فالأصح وجوب النهوض إليهم فوراً على كل قادر ) [ تحفة المحتاج : 9/237 ] .
قلت : و مما ينبغي التنبيه إليه في هذا السياق أنه لا عهد يصح و لا هدنة تُشرع مع المحاربين ما دام في معتقلاتهم أسير مسلم واحد ، بل إن مهادنتهم على فرض صحة انعقادها ابتداءً منقوضة بإصرارهم على أسر بعض المسلمين ، و عدم إطلاقهم مهما كانت ذرائعهم أو ذرائع من يبررون فعلتهم و يتلمسون لهم الأعذار و المبررات من بني جلدتنا و غيرهم .
قال الخطيب الشربيني الشافعي [ في مغني المحتاج : 4 / 261 ] معدداً الشروط التي ينبغي أن يخلو عنها عقد الهدنة بين المسلمين و الكافرين : ( و كذا شرط فاسد ) أي يشترط خلو عقد الهدنة من كل شرط فاسد ( على الصحيح ) المنصوص ( بأن شرط منع فك أسرانا ) منهم ( أو ترك مالنا ) الذي استولوا عليه ... أو نحو ذلك من الشروط الفاسدة ... و الأصل في منع ما ذُكِر قوله تعالى : { فلا تهنوا و تدعوا إلى السلم و أنتم الأعلون ) ، و في اشتراط ذلك إهانة ينبو الإسلام عنها .اهـ.
خامساً : ذكر محاسنهم و التعريف بقضيتهم و إعلان أمرهم و إشهار مظلمتهم عند من يرجى قيامه بنصرتهم أو العمل على تخليصهم ، و يستفاد لتحقيق ذلك من وسائل الإعلام على تنوعها ، و كل وسيلة يمكن من خلالها إيصال صوت المستضعفين إلى من يعنيه أمرهم ، و يرجى منه نصرهم من الدول و الجماعات و الأفراد ، كما يعرف بمنظمات و هيئات حقوق الإنسان ، و المؤسسات الحقوقية ، و غيرها .
و يدخل في هذا الواجب ما ينبغي من تذكير الحكام ( و إن كانوا عن الحق حائدين ، و لأهله في الغالب خاذلين ) لعل بقية من حمية أو نخوة تحرك ساكناً في نفوسهم ، فيقدر الله على أيديهم بعض ما نصبوا إليه من التفريج عن إخواننا الأسرى و المعتقلين .
و لن يعدم من يحمل هم إخوانه ، و يسعى لفك رقابهم من أيدي أعدائهم ؛ السبيل للمساهمة في تحقيق هذا الهدف ، و إن كان ما في يده محدوداً فإنه سيكون ذا أثر بالغ إذا أضيف إلى جهود غيره من الغيارى لا الحيارى .(/4)
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }
هذا و الله المستعان ، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، و صلى الله و سلّم على نبيه و صفوة خلقه محمد و آله و صحبه أجمعين .
و كتب
د.أحمد بن عبد الكريم نجيب
Dr . AHMED-A-NAJEEB
alhaisam@msn.com
www.saaid.net/Doat/Najeeb/(/5)
واجب المسلمين
لإنقاذ الأسرى و فكاك المعتقلين
من سجون الصليبيين
إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلا وَ أَنْتُمْ مسلمون } [ آل عمران : 102 ] .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } [ النساء : 1 ] .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيْداً - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [ الأحزاب : 70 – 71 ] .
أما بعد ...
فمع توالي الأحداث و تكالب الأمم على أهل الإسلام ، تعرّضت الأمّة الإسلامية لأكثَر من نكبة ، و ألمَّت بها مصائب جسام ؛ من أفظعِها وقوع المئات من المسلمين في الأسر ، و الزج بهم خلف قضبان الحديد في معتقلات لا ترعى حقوقاً و لا تُراعي حُرَماً .
و لا شك في أن معاناة المسلمين اليوم أمر جلل لم يسبق له مثيل عبر تاريخهم الطويل ، حيث تداعت عليهم الأمم متكالبة ، و نابذتهم العداء متحالفة ، و تجمهَر في الحملة الهوجاء عليهم أهلُ الأرض قاطبةً من يهود و صليبيين و وثنيين و ملاحدة ، فضلاً عمن والاهم أو وافقهم ؛ باستعلاء أو على استحياء ؛ من حكام العَرَب و المسلمين .
و من أشنع ما أسفَرت عنه الحرب الضروس المعاصرة ضد الإسلام و أهله تمكين الأعداء الحاقدين من رقاب الأولياء الصالحين ، حتى باتوا يعملون فيهم القتل و التنكيل ، و الأسرَ و التكبيل ، و ينقلون المئات منهم من ديار المسلمين إلى المعتقلات و الزنازين ، على مرأى و مسمَع الحكام و الزعماء ، فضلاً عن السوقة و المستضعفين ، دون أن يُحرك ذلك ساكناً ، أو يَرفَعَ همةً لفكاك الأسرى المستضعفين ، أو استنقاذ المعتقلين المضطهدين .
مع أن القيام بذلك واجب متعين – على الكفاية في أقل الأحوال - على من جعلهم الله { خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } كل بحَسب طاقته و قُدرَته ، حسب ما دلت عليه عمومات النصوص الشرعية المؤكدة على حق المسلم على المسلم ، و منها وجوب نصرته ، و تحريم خذلانه و إسلامه لعدوه ، أو التخلي عنه ، كقوله تعالى : { وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } [ الأنفال : 72 ] ، و ما ثبت في صحيح مسلم و عند أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال : ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخْذُلُه و لا يحقره ) .
و قال الإمام النووي [ في شرح صحيح مسلم : 16 / 120 ] : قال العلماء : الخذل ترك الإعانة و النصر ، و معناه : إذا استعان به في دفع ظالم و نحوه لزمه إعانته إذا أمكنه ، و لم يكن له عذر شرعي ، و ( لا يحقره ) أي : لا يحتقره ؛ فلا يُنكِر عليه ، و لا يستصغره و يستقله .اهـ .
و قد فهم الأئمة النقاد من هذا الخبر الصحيح الثابت أن على المسلم وجوباً أن يهبَّ لنصرة أخيه المسلم ، و لو تجوَّز في سبيل ذلك بارتكاب مالا يحل إلا للضرورة .
قال الإمام البخاري في صحيحه [ 6 / 2594 ] : ( باب يمين الرجل لصاحبه إنه يتحقق إذا خاف عليه القتل أو نحوه ، و كذلك كل مكره يخاف ؛ فإنه يَذُبُّ عنه الظالم ، و يقاتل دونه و لا يخذله ، فإن قاتل دون المظلوم فلا قِوَدَ عليه و لا قصاص .
و إن قيل له : لتشربنَّ الخمر ، أو لتأكلنَّ الميتة ، أو لتبيعنَّ عبدك ، أو تقرُّ بدَين ، أو تهب هبة ، أو تحلُّ عقدة ، أو لنقتلنَّ أباك أو أخاك في الإسلام ، و ما أشبه ذلك ؛ وسعه ذلك ، لقول النبي : ( المسلم أخو المسلم ) .اهـ .
و قال شارح الصحيح الحافظ ابن حجر [ في فتح الباري 12 / 324 ] بعد أن ذكر طائفة من أقوال العلماء و خلافهم في مسألة الإكراه بتهديد الغير : ( و المتجه قول بن بطال أن القادر على تخليص المظلوم توجه عليه دفع الظلم بكل ما يمكنه فإذا دافع عنه لا يقصد قتل الظالم و إنما يقصد دفعه فلو أتى الدفع على الظالم كان دمه هدراً و حينئذ لا فرق بين دفعه عن نفسه أو عن غيره ) .
و روى أبو داود من حديث جابر و أبي طلحة رضي الله عنهما أن رسول الله قال : ( ما من امرئ مسلم يخذل امرَءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته ، و ينتقص فيه من عرضه ؛ إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته ، و ما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه ، و تنتهك فيه حرمته ؛ إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته ) .(/1)
و أخرج الإمام أحمد و السيوطي ( في المعجم الصغير ) بإسنادٍ حسّنه عن سهل بن حُنَيف عن أبيه عن النبي قال : ( من أُذل عنده مؤمن فلم ينصره ، و هو يقدر على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة ) .
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث [ في فيض القدير : 6/ 46 ، 47 ] : ( من أُذِلَّ ) بالبناء للمجهول ( عنده ) أي بحضرته أو بعلمه ( مؤمن فلم ينصره ) على من ظلمه ( هو ) أي و الحال أنه ( يقدر على أن ينصره أذله اللّه على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ) فخذلان المؤمن حرام شديد التحريم دنيوياً كان - مثل أن يقدر على دفع عدوّ يريد أن يبطش به فلا يدفعه - أو دينياً .اهـ .
قلتُ : فلو وضع المسلم الذي يعيش العيش الرغيد نفسه في موضع أخيه المتقلب في الآصار و الأغلال ، و استشعر الأخوة الإيمانية التي تجمعهما ، لبذل الغالي و النفيس في تنفيس كربة أخيه ، و جاد في سبيل تحريره بكل ما تملكه يمينه ، و لا أظننا في زمان يخذل فيه المسلم أخاه ، بالكلية و إن كثر المخذلون ، ففي الأمة طلائع طائفة منصورة ، لن يزال أبناؤها على الحق ظاهرين .
و لو لم يرد في الشريعة المطهرة إلا ما تقدم من النصوص العامة في الدلالة على وجوب نصرة المسلم و الذب عن عرضه ، و الدفاع عنه ، لكفى بها دليلاً على وجوب استنقاذ الأسرى و فكاك المعتقلين ، و حافزاً على بذل الوُسع في رفع المظلمة و دفع الضيم عنهم .
فكيف و قد وردت نصوص ظاهرة الدلالة على وجوب هذا العمل بعينه ، كما في قوله تعالى : { وَ مَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } [ النساء : 75 ] .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : ( و تخليص الأسارى واجب على جميع المسلمين إما بالقتال و إما بالأموال ، و ذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها ، قال مالك : واجب على الناس أن يُفْدوا الأسارى بجميع أموالهم ، و هذا لا خلاف فيه ... و كذلك قالوا: عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون المفاداة ) [ تفسير القرطبي : 5 / 257 ] .
و قد أمر بذلك نبي الرحمة صراحة ً كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال : ( فكوا العاني ـ يعني الأسير ـ و أطعموا الجائع و عودوا المريض ) .
قال الحافظ ابن حَجَر [ في الفتح : 6 / 167 ] : ( قال سفيان : العاني : الأسير ، قال ابن بطال : فكاك الأسير و اجب على الكفاية ، و به قال الجمهور ، و قال إسحاق بن راهويه : من بيت المال ، و روي عن مالك أيضاً ) .
و قال الإمام المناوي شارحاً هذا الحديث في فيض القدير : ( فكوا ) خلِّصوا ، و الفكاك بفتح الفاء و تكسر التخليص ، ( العاني ) بمُهملة و نون أي أعتقوا الأسير من أيدي العدو بمال أو غيره كالرقيق قال ابن الأثير : العاني الأسير و كل من ذّل و استكان و خضع فقد عنا قال ابن بطال : فكاك الأسير فرض كفاية و به قال الجمهور و قال ابن راهويه : من بيت المال ، و رُوي عن مالك و قال أحمد : يفادي بالرؤوس أو بالمال أو بالمبادلة .اهـ .
و في الصحيح و سنن الترمذي عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي رضي الله عنه : ( يا أمير المؤمنين، هل عندكم من الوحي شيء ؟ ) قال: ( لا و الذي فلق الحبة و برأ النسمة ، إلا فهماً يعطيه الله عز و جل رجلاً و ما في هذه الصحيفة ) ، قلت : ( و ما في هذه الصحيفة ؟ ) قال : ( العقل ، و فكاك الأسير ، و لا يقتل مسلم بكافر ) .
و الوسائل المعينة على فكاك الأسرى كثيرة ، يجب منها ما لا يتم الواجب إلا به ، و من ذلك على وجه التمثيل لا الحَصر :
أولاً : الإكثار من الدعاء لأسرى المسلمين في الخلوات و الجماعات ، و في القنوت و على المنابر و في الصلَوات ، و سائر مظانِّ الإجابة من الأمكنة و الأزمنة .
فقد كان عليه الصلاة والسلام يخص الأسرى بالدعاء ، و يسمي بعضَهم بأسمائهم ، و يدعوا بالهلاك على أعدائهم ، كما في الصحيح عن أبي هريرة و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنّه كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول : ( اللهم نجِّ عياش بن أبي ربيعة ، اللهم نج سلمة بن هشام ، اللهم نج الوليد بن الوليد ، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف ) .
ثانياً : استنقاذ أسرى المسلمين من المشركين بدفع الفدية لإطلاقهم ، و ذلك من فك الرقاب الذي أمر الله تعالى به ، كما في قوله : { فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ - وَ مَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ - فَكُّ رَقَبَةٍ } [ البلد : 11-13 ] .(/2)
قال القرطبي [ في تفسير سورة البلد : 20 / 68 ] : ( قوله تعالى { فَكُّ رَقَبَةٍ } فكُّها : خلاصها من الأسر. و قيل : من الرق ... و الفك : هو حل القيد ؛ و الرق قيد ، و سمي المرقوق رقبة ؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته . وسمي عنقها فكا كفك الأسير من الأسر .
قال حسان :
كم من أسير فككناه بلا ثمن وجز ناصية كنا مواليها )
و يُنفَق من بيت مال المسلمين إن كان موجوداً على فكاك الأسرى ، ففي مصنف ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ( لأن أستنقذ رجلاً من المسلمين من أيدي الكفار أحب إلي من جزيرة العرب ) ، و في المصنف أيضاً عنه رضي الله عنه أنه قال : ( كل أسير من المسلمين كان في أيدي المشركين ففكاكه من بيت مال المسلمين ) .
و في إسناد هذين الأثرين ضعفٌ ، و لكن عليهما العَمَل عند أهل العلم كما تقدّم و ما سيأتي بيانه عند ذكر أقوالهم رحمهم الله .
و قد حكى ابن حزم الإجماع عليه فقال [ كما في مراتب الإجماع ، ص : 122 ] : ( و اتفقوا أنه إن لم يُقْدَر على فك المسلم إلا بمال يعطاه أهل الحرب ، أن إعطاءهم ذلك المال حتى يفك ذلك الأسير واجب ) .
و في المبسوط للسرخسي الحنفي [ 30 / 271 ] : ( من وقع أسيراً في يد أهل الحرب من المؤمنين و قصدوا قتله يفترض على كل مسلم يعلم بحاله أن يفديه بماله إن قدر على ذلك ، و إلا أخبر به غيره ممن يقدر عليه و إذا قام به البعض سقط عن الباقين بحصول المقصود ) .
و قال الإمام النووي الشافعي رحمه الله [ كما في الروضة : 10/216 ] : بعد أن ذكر وجوب الجهاد لتحرير الأسرى : ( و الفداء بالمال واجب إن استطعنا تخليص الأسرى به ) .
و قال ابن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله : ( و يجب فداء أسرى المسلمين إذا أمكن ، و بهذا قال عمر بن عبد العزيز ، و مالك ، و إسحاق ، و يروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن علي : على من فكاك الأسير ؟ قال على الأرض التي يقاتل عليها ) [ المغني : 9 / 228 ] .
و يدخل فكاك الأسرى في مصارف الزكاة ، فيصرف له من سهم اعتاق الرقاب ، كما يُشرَع الإنفاق عليه من الكفارات الواجبة ، على ما هو مفصل في مظانه من كتب الفقه .
قال الإمام القرطبي في تفسير آية الصدقة من سورة التوبة : ( و اختلفوا في فك الأسارى منها – أي من أموال الزكاة - فقال أصبغ : لا يجوز . و هو قول ابن قاسم . و قال ابن حبيب : يجوز ، لأنها رقبة مُلكت بملك الرق فهي تخرج من رق إلى عتق ، و كان ذلك أحق و أولى من فكاك الرقاب الذي بأيدينا ، لأنه إذا كان فك المسلم عن رق المسلم عبادة و جائزاً من الصدقة ، فأحرى و أولى أن يكون ذلك في فك المسلم عن رق الكافر و ذله ) [ تفسير القرطبي : 8 / 183 ] .
و يُندب إلى وقف الأوقاف و حبس أصول الأموال على ما من شأنه فكاك الأسرى ، حتى ينفق من خراج الوقف على كل أسير يقع في أيدي الأعداء إلى يوم يقوم الأشهاد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فكاك الأسارى من أعظم الواجبات ، و بذل المال الموقوف و غيره في ذلك من أعظم القربات ) [ الفتاوى : 28/635 ] .
و سُئل رحمه الله عن مال موقوف على فكاك الأسرى ، و إذا استُدين بمال في ذمم الأسرى بخلاصهم لا يجدون وفاءه : هل يجوز صرفه من الوقف ؟ و كذلك لو استدانه ولي فكاكهم بأمر ناظر الوقف أو غيره ؟
فأجاب :
نعم يجوز ذلك ، بل هو الطريق في خلاص الأسرى ، أجود من إعطاء المال ابتداء لمن يفتكهم بعينهم ، فإن ذلك يخاف عليه ، و قد يصرف في غير الفكاك ، و أما هذا فهو مصروف في الفكاك قطعاً . و لا فرق بين أن يصرف عين المال في جهة الاستحقاق ، أو يصرف ما استدين ، كما كان النبي تارة يصرف مال الزكاة إلى أهل السهمان ، و تارة يستدين لأهل السهمان ثم يصرف الزكاة إلى أهل الدَّين ، فعُلم أن الصرف و فاء كالصرف أداء ، و اللّه أعلم .اهـ . [ مجموع الفتاوى : 31 / ] .
ثالثاً : مفاداة أسرى المسلمين بأسرى الكافرين ، و لتحقيق ذلك يُندَب المسلمون إلى الإثخان في العدو و أسر من يمكن أسره من رجالهم لمفاداة المؤمنين بهم ، فإذا وقع في أيدي المسلمين أسير من أهل الحرب و أمكن أن يفادى به أسير مسلم أو أكثر تعين العمل على ذلك ، و لا مندوحة عنه .
قال الحافظ ابن حَجَر [ في الفتح : 6 / 167 ] : ( و لو كان عند المسلمين أسارى و عند المشركين أسارى و اتفقوا على المفاداة تعينت ) .
و قد أُثر عن النبي حرصه على فكاك الأسارى بالفداء ، فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم فدى رجلاً برجلين .(/3)
قال الموفق ابن قدامة المقدسي رحمه الله في المغني [ 9 / 228 ] : ( روى سعيد بإسناده عن حبان بن حبلة ، أن رسول الله قال : إن على المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسيرهم و يؤدوا عن غارمهم ، و روي عن النبي أنه كتب كتاباً بين المهاجرين و الأنصار ، أن يعقلوا معاقلهم و أن يفكوا عانيهم بالمعروف ، و فادى النبي رجلين من المسلمين بالرجل الذي أخذه من بني عقيل ، و فادى بالمرأة التي استوهبها من سلمة بن الأكوع رجلين ) .
... و أُثر مثل ذلك عن السلف أيضاً ، فقد روى سعيد بن منصور في سننه [ 2822 ] بإسناد فيه ضعف عن عبد الرحمن بن أبى عمرة في قصة بعث عمر بن عبد العزيز رحمه الله له بفداء أسارى المسلمين من القسطنطينية ، قال : قلت له : ( أرأيت يا أمير المؤمنين إن أبوا أن يفادوا الرجل بالرجل كيف أصنع ؟ ) قال عمر : ( زدهم ) قلت : ( إن أبوا أن يعطوا الرجل بالاثنين ؟ ) قال : ( فأعطهم ثلاثاً ) ، قلت : ( فإن أبوا إلا أربعاً ؟ ) قال : ( فأعطهم لكل مسلم ما سألوك فوالله لرجل من المسلمين أحب إلي من كل مشرك عندي ! إنك ما فديت به المسلم فقد ظفرت ، إنك إنما تشترى الإسلام ) قال عبد الرحمن بن أبى عمرة رحمه الله : ( فصالحت عظيم الروم على كل رجل من المسلمين رجلين من الروم ) .
رابعاً : النفير لفكاك الأسرى و استخلاص المعتقلين بالشوكة و إعداد القوة لذلك ، باعتباره من أفضَل الجهاد في سبيل الله تعالى .
قال ابن العربي المالكي رحمه الله في معرض حديثه عن الأسرى المستضعفين من المسلمين : ( إنّ الولاية معهم قائمة ، و النصرة لهم واجبة بالبدن بألاّ يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم ؛ إن كان عددناًَ يحتمل ذلك ، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم ، حتى لا يبقى لأحد درهم ، كذلك قال مالك و جميع العلماء ، فإنا لله و إنا إليه راجعون على ما حلَّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أمر العدو ، و بأيديهم خزائن الأموال ، و فضول الأحوال ، و العدة و العدد ، و القوة و الجلد ) [ أحكام القرآن : 440/2 ] .
و قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى { وَ مَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } [ النساء : 75 ] : حض على الجهاد ، و هو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب و يفتنونهم عن الدين ، فأوجب تعالى الجهاد لإعلاء كلمته ، و إظهار دينه و استنقاذ المؤمنين الضعفاء من عباده و إن كان في ذلك تلف النفوس ) [ تفسير القرطبي : 5 / 279 ] .
وقال ابن حجر الهيتمي : ( ولو أسروا مسلما فالأصح وجوب النهوض إليهم فوراً على كل قادر ) [ تحفة المحتاج : 9/237 ] .
قلت : و مما ينبغي التنبيه إليه في هذا السياق أنه لا عهد يصح و لا هدنة تُشرع مع المحاربين ما دام في معتقلاتهم أسير مسلم واحد ، بل إن مهادنتهم على فرض صحة انعقادها ابتداءً منقوضة بإصرارهم على أسر بعض المسلمين ، و عدم إطلاقهم مهما كانت ذرائعهم أو ذرائع من يبررون فعلتهم و يتلمسون لهم الأعذار و المبررات من بني جلدتنا و غيرهم .
قال الخطيب الشربيني الشافعي [ في مغني المحتاج : 4 / 261 ] معدداً الشروط التي ينبغي أن يخلو عنها عقد الهدنة بين المسلمين و الكافرين : ( و كذا شرط فاسد ) أي يشترط خلو عقد الهدنة من كل شرط فاسد ( على الصحيح ) المنصوص ( بأن شرط منع فك أسرانا ) منهم ( أو ترك مالنا ) الذي استولوا عليه ... أو نحو ذلك من الشروط الفاسدة ... و الأصل في منع ما ذُكِر قوله تعالى : { فلا تهنوا و تدعوا إلى السلم و أنتم الأعلون ) ، و في اشتراط ذلك إهانة ينبو الإسلام عنها .اهـ.
خامساً : ذكر محاسنهم و التعريف بقضيتهم و إعلان أمرهم و إشهار مظلمتهم عند من يرجى قيامه بنصرتهم أو العمل على تخليصهم ، و يستفاد لتحقيق ذلك من وسائل الإعلام على تنوعها ، و كل وسيلة يمكن من خلالها إيصال صوت المستضعفين إلى من يعنيه أمرهم ، و يرجى منه نصرهم من الدول و الجماعات و الأفراد ، كما يعرف بمنظمات و هيئات حقوق الإنسان ، و المؤسسات الحقوقية ، و غيرها .
و يدخل في هذا الواجب ما ينبغي من تذكير الحكام ( و إن كانوا عن الحق حائدين ، و لأهله في الغالب خاذلين ) لعل بقية من حمية أو نخوة تحرك ساكناً في نفوسهم ، فيقدر الله على أيديهم بعض ما نصبوا إليه من التفريج عن إخواننا الأسرى و المعتقلين .
و لن يعدم من يحمل هم إخوانه ، و يسعى لفك رقابهم من أيدي أعدائهم ؛ السبيل للمساهمة في تحقيق هذا الهدف ، و إن كان ما في يده محدوداً فإنه سيكون ذا أثر بالغ إذا أضيف إلى جهود غيره من الغيارى لا الحيارى .(/4)
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }
هذا و الله المستعان ، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، و صلى الله و سلّم على نبيه و صفوة خلقه محمد و آله و صحبه أجمعين .
و كتب
د.أحمد بن عبد الكريم نجيب
Dr . AHMED-A-NAJEEB
Tel : ( + 353 87 2285354 ) 260 S.C.Rd. Dublin 8 ــ IRELAND
alhaisam@msn.com
www.saaid.net/doat/najeeb(/5)
واجبات أهل الذمة
مواقع أخرى*
التزام أحكام القانون الإسلامي
والواجب على أهل الذمة: أن يلتزموا أحكام الإسلام، التي تُطبق على المسلمين لأنهم بمقتضى الذمة أصبحوا يحملون جنسية الدولة الإسلامية، فعليهم أن يتقيدوا بقوانينها التي لا تمس عقائدهم وحريتهم الدينية.
فليس عليهم أي تكليف من التكاليف التعبدية للمسلمين، أو التي لها صبغة تعبدية أو دينية، مثل الزكاة التي هي ضريبة وعبادة في الوقت نفسه، ومثل الجهاد الذي هو خدمة عسكرية وفريضة إسلامية، ومن أجل ذلك فرض الإسلام عليهم الجزية بدلاً من الجهاد والزكاة -كما عرفنا- رعاية لشعورهم الديني أن يفرض عليهم ما هو من عبادات الإسلام.
وليس عليهم في أحوالهم الشخصية والاجتماعية أن يتنازلوا عما أحله لهم دينهم، وإن كان قد حرمة الإسلام، كما في الزواج والطلاق وأكل الخنزير وشرب الخمر . فالإسلام يقرهم على ما يعتقدون حله، ولا يتعرض لهم في ذلك بإبطال ولا عتاب.
فالمجوسي الذي يتزوج إحدى محارمه، واليهودي الذي يتزوج بنت أخيه، والنصراني الذي يأكل الخنزير ويشرب الخمر، لا يتدخل الإسلام في شئونهم هذه ما داموا يعتقدون حلها، فقد أُمر المسلمون أن يتركوهم وما يدينون.
فإذا رضوا بالاحتكام إلى شرع المسلمين في هذه الأمور حكمنا فيهم بحكم الإسلام لقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) (سورة المائدة: 49).
ويرى بعض الفقهاء أننا مخيرون إذا احتكموا إلينا: إما أن نحكم بشرعنا أو نترك فلا نحكم بشيء؛ لقوله تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم، وإن تُعرض عنهم فلن يضروك شيئًا، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط، إن الله يحب المقسطين) (سورة المائدة: 42 . ومن هنا كان لأهل الذمة محاكمهم الخاصة، يحتكمون إليها إن شاءوا، وإلا لجأوا إلى القضاء الإسلامي . يقول المؤرخ الغربي (آدم متز) في كتابه عن "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري": ولما كان الشرع الإسلامي خاصًا بالمسلمين فقد خلت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم . والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقوموا فيها مقام كبار القضاة أيضًا، وقد كتبوا كثيرًا من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به . (وعلى أنه كان يجوز للذمي أن يلجأ إلى المحاكم الإسلامية . ولم تكن الكنائس بطبيعة الحال تنظر إلى ذلك بعين الرضا . ولذلك ألف الجاثليق تيمونيوس حوالي عام 200 ه ـ (800م) كتابًا في الأحكام القضائية المسيحية "لكي يقطع كل عذر يتعلل به النصارى الذين يلجأون إلى المحاكم غير النظرية بدعوى فقدان القوانين المسيحية". إلى أن يقول: (وفي عام 120ه ـ (738م) وَلِىَ قضاء مصر خير بن نعيم، فكان يقضى في المسجد بين المسلمين ثم يجلس على باب المسجد بعد العصر على المعارج فيقضى بين النصارى . ثم خصص القضاة للنصارى يومًا يحضرون فيه إلى منازل القضاء ليحكموا بينهم . حتى جاء القاضي محمد بن مسروق الذي وَلِىَ قضاء مصر عام 177ه ـ فكان أول من أدخل النصارى في المسجد ليحكم بينهم) ثم قال متز: (أما في الأندلس، فعندنا من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجأون للقاضي إلا في مسائل القتل).
وفيما عدا ذلك يلزمهم أن يتقيدوا بأحكام الشريعة الإسلامية في الدماء والأموال والأعراض -أي في النواحي المدنية والجنائية ونحوها- شأنهم في ذلك شأن المسلمين، وفي هذا يقول الفقهاء: لهم ما لنا وعليهم ما علينا -أي في الجملة لا في التفصيلات.
فمن سرق من أهل الذمة أُقيم عليه حد السرقة، كما يُقام على المسلم، ومن قتل نفسًا أو قطع طريقًا، أو تعدى على مال، أو زنى بامرأة، أو رمى محصنة، أو غير ذلك من الجرائم أُخذ بها، وعوقب بما يعاقب به المسلم، لأن هذه الأمور مُحرَّمة في ديننا، وقد التزموا حكم الإسلام في ما لا يخالف دينهم.
ويرى الإمام أبو حنيفة: أن عقوبة الذمي والذمية في جريمة الزنا هي: الجلد أبدًا، لا الرجم، لأنه يُشترط في توافر الإحصان -الموجب التغليظ في العقوبة- الإسلام.
ومثل ذلك المعاملات المالية والمدنية، من البيوع، والإجارات والشركات، والرهن والشفعة، والمزارعة، وإحياء الموات، والحوالة، والكفالة وغيرها من العقود والتصرفات، التي يتبادل الناس بواسطتها الأموال والمنافع، وتنتظم بها شئون المعاش.
فكل ما جاز من بيوع المسلمين وعقودهم، جاز من بيوع أهل الذمة وعقودهم، وما يفسد منها عند المسلمين يفسد عند الذميين، إلا الخمر والخنزير عند النصارى، فقد استثناهما كثير من الفقهاء، لاعتقادهم حلهما في دينهم . على ألا يجاهروا بهما.
أما الربا فهو حرام عليهم فلا يُقرون عليه.
*من كتاب "غير المسلمين في المجتمع الإسلامي للدكتور يوسف القرضاوي "(/1)
واجبات الأمة نحو كاشف الغمة
إبراهيم أمين الزرزموني*
hemaz@hotmail.com
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد 00
فإن للحديث عن رسول الله لحلاوة تتذوقها القلوب المؤمنة، وتهفو إليها الأرواح الطاهرة فهو بستان العارفين يحنون لسيرته وأخلاقه وشمائله ، فيقطفون منها على قدر جهادهم في حب الله ورسوله، وحرصهم على سنته وشريعته، فهنيئا لمن سار على دربه، ونهل من خلقه وهديه 0
وما أحوج الأمة اليوم للحديث عن رسول الله في عصر طغت فيه المادة، وقست القلوب وأصابت الأرواح وحشة واجتمعت الدنيا بأسرها على حرب الإسلام وأهله، وتجرأ الكفار على الإساءة له 0
أقول : ما أحوج الأمة التي تفرقت فطمع فيها القاصي والداني – ما أحوجها أن تعود لرسول الله فتعض على شريعته بالنواجذ، وتتأسى بخلقه، وتستن بسنته، وتملأ القلوب بمحبته وترطب الألسن بذكره والصلاة والسلام عليه0
وإذا كنا في ذكرى ميلاد الرسول فإننا نرى الناس يتبارون في الحديث عنه بعضهم عن أصله الكريم ونسبه الطاهر، وبعضهم يتحدث عن نشأته الزكية وطفولته وصباه، وبعضهم يتحدث عن البشارات على ألسن الأحبار والرهبان، أو عن دلائل نبوته ، ومنهم من يتحدث عن جهاده في الدعوة، وما تحمله من أذى واضطهاد ومنهم من يتحدث عن منهجه في التربية وعن صحابته الأجلاء وأثر تربيته لهم، ومنهم من يتحدث عن تشريعاته ومعاملاته في الحرب والسلم بعد ما يبين جهاده وغزاوته لنشر الدين الحنيف0
وكل هذه الجوانب هامة نحتاج إليها ولا ننكر على أصحابها، لكن هناك جانباً آخر قد يغفل بعضنا عنه، وهو من الأهمية بمكان - ألا وهو – واجبات الأمة نحو رسول الله وما أكثر ما يجب علينا تجاه رسول الله ، ونستعرض في عجالة – بعضاً مما يجب علينا أن نؤديه لرسول الله .
الواجب الأول : الإيمان بنبوته والتصديق برسالته :
لقد دل القرآن الكريم على صدق رسالة سيدنا محمد وعلى صحة نبوته، ولذا وجب على الناس جميعهم أن يؤمنوا به نبياً ورسولاً وأن يصدقوه فيما جاءهم به من أحكام وتشريعات وعبادات فالإيمان به واجب متعين على كل فرد ولا يتم للإنسان إيمان إلا به، ولا يصح له إسلام إلا معه يقول تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) آية 158 الأعراف
فقد أوجب الله تعالى الإيمان به وجعل الهداية لمن اتبعه وسار على نهجه واسمعوا ما جاء في عقاب من خالف رسول الله وأعرض عن دعوته ومنهاجه الشريف، يقول الله تعالى: (ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيراً" 13 الفتح
وقد ذكر الله أن الكفار وهم يعذبون فى النار يتمنون لو أنهم كانوا آمنوا بالله ورسوله وأطاعوه فى الدنيا، قال تعالى:( الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً، ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) الفرقان 26 ، 27
ثم لنسمع لرسول الله وهو يقول فيما أخرجه الإمام مسلم عن أبى هريرة أنه قال: (أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله).
وواجب علينا أن نوضح أن الإيمان الصحيح برسول الله هو الإيمان النابع من القلب مع إتباع الإيمان القلبي بعمل صالح يرضى الله عنه .
الواجب الثانى : طاعة الرسول فيما أمر به واجتناب ما نهى عنه :
إذا آمن المرء بأن محمداً عبد الله ورسوله وصدقه فيما جاء به وجب عليه أن يطيعه فيما أمره به رسول الله وأن يبتعد عما نهى عنه النبي . يقول تعالى:(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون) الأنفال 20
وقد عطف الله طاعة رسوله الكريم على طاعته سبحانه وتعالى إشارة إلى تلازم الطاعتين فلا تصح طاعة إحداهما دون الآخر0 ثم اسمع لقول الحق تبارك وتعالى:(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين " التغابن 12
فهنا كرر المولى عز وجل لفظة "وأطيعوا لأن الرسول له سنة ثبت بها أمور تشريعية لم ينص عليها القرآن الكريم، ولذا أمرنا الله تعالى أن نطيع نبيه الكريم لأنه المعصوم الصادق المصدوق ولا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى0
وطاعة الرسول ليست طاعة اختيار وهوى إن شاء المرء فعلها، وإن شاء تركها، كلا، بل طاعة الرسول طاعة إلزام، وجزء من حقيقة الإيمان ولذا قال الله تعالى:(وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) النساء 64 أي أن طاعة الرسول تكليف رباني وأمر إلهي على تاركها العقاب ولفاعلها الثواب .(/1)
وقد أجمع أهل العلم على أن طاعة النبي تعنى الالتزام بسنته والسير على طريقته والتسليم لما جاء به فينزل المرء على حكمه وينقاد لشرعه فمن لم يفعل فهو كافر واسمع قوله تعالى :(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء 65 ، ثم اسمع جزاء من يطيع ربه ورسوله يقول تعالى :(ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) النساء69
واسمع إلى أحاديثه حيث يقول فيما يرويه البخاري عن أبي هريرة: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني".
وأخرج الشيخان البخاري ومسلم المثل الذي ضربَتْه الملائكة لرسول الله حينما قالوا: "إن مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فالدار الجنة، والداعي محمد فمن أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عصى محمداً فقد عصى الله تعالى .... "0
الواجب الثالث : إحياء سنته الشريفة وإماتة البدعة :
ويتم ذلك بالبحث عن هديه الشريف في كل حركة وسكون وعن أخلاقه وآدابه والتمسك بها والصبر عليها وترك الابتداع في الدين، فنجد في حديث العرباض بن سارية عن رسول الله " 000 فعليكم بسنتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة " لفظ ابن ماجة ورواه أبو داود وغيره.
وإحياء سنة النبي عموماً عنوان محبته، وبخاصة تلك السنن التي هجرها الناس ونسوها إلا من رحم ربى ومنها سنة قيام الليل وأكثر سنن الذكر والدعاء وإعفاء اللحية وصلاة الجماعة وغيرها إلا من رحم ربى عز وجل حيث يقول تعالى :( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) النور 63.
وقد جاء في مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال النبي :"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"0 وعن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي : "من رغب عن سنتي فليس مني" رواه أحمد والبخاري0 وهذا جزاء المبتدع المبتعد عن سنة سيد الخلق وحبيب الحق 0 وأخرج الشيخان عن ابن مسعود قال: قال النبي: " أنا فرطكم على الحوض، وليختلجن رجال دوني، فأقول: يا رب أصحابي، فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" 0
وكان سفيان الثوري يقول: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يُتاب منها والبدعة لا يُتاب منها"0 وكان يقول: "من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة "0 وكان فضيل بن عياض يقول: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه0 والنبى يقول: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل ومن يأبى يا رسول الله ؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" البخارى عن أبى هريرة0
وكان يقول: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" رواه مسلم عن جابر.
الواجب الرابع : محبته والشوق إلى لقائه :
إن محبة رسول الله فرض لازم على كل مسلم مصداقاً لما جاء في القرآن الكريم من قوله عز وجل:(قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين) التوبة 24
والحديث الشريف الذي أخرجه الإمام مسلم عن أنس بن مالك قال : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"0
وليس المراد بالحب –هنا- حب الهوى الذي يتقلب وفقاً للمصالح وشهوات النفس المتقلبة، بل هو الحب الخالص الطاهر لله وللرسول، (والذين آمنوا أشد حبا لله )، وبالتالي لرسول الله ، فالمؤمن يؤمن ويوقن أن رسول الله أشفق الناس عليه، وأحرصهم على أمره وأرفقهم به وهذا يفسر لنا حديث الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال لرسول الله : "لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبيَّ، فقال له النبي : "لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه فقال عمر: والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي فقال له النبي : الآن يا عمر" 0
وحب رسول الله لذة ما بعدها لذة لحديث الصحيحين عن أنس أنه قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار" 0
واسمع إلى عاقبة حب رسول الله فيما أخرجه البخاري عن أنس أن رجلاً جاء إلى النبي وسأله: متى الساعة ؟ فقال: "ما أعددتَ لها ؟" قال الرجل: ما أعددتُ لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال له النبي : "أنت مع من أحببت"0(/2)
وهناك علامات لمن يحب رسول الله منها:
1- الاقتداء بالنبي في الأقوال والأفعال وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والتأدب بأخلاقه الكريمة قال تعالى:( قل إن كنتم تحبون الله ورسوله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) آل عمران 31 ، وقد قال في جزء من حديث رواه الترمذي عن أنس: " 00 ومن أحيا سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة".
2- كثرة ذكر النبي فمن أحب أحداً ذكره وانشغل بذكره فكان الرسول يفعل كذا ويقول كذا عندما يفعل كذا ويلبس كذا 00 فالمسلم ينقب عن هدي النبي وسنته ليتمثل بها، قال أبي بن كعب: أجعل لك صلاتي كلها يا رسول الله ؟ قال: إذن تكفى همك، ويغفر الله ذنبك" الترمذي عن أبي بن كعب وقال حسن صحيح
3- كثرة الشوق للقاء رسول الله ، فيروى عن قوم أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يرتجزن: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه وهم قادمون المدينة ليلعنوا إسلامهم0 ويروى أن بلالاً لما حضرته الوفاة قالت امرأته واحزناه، فقال لها: قولي وافرحتاه غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه0
الواجب الخامس : الصلاة والسلام على رسول الله :
يقول الله عز وجل :(إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) الأحزاب 56
فالله – سبحانه وتعالى – بين لنا في هذه الآية أنه وملائكته يصلون على النبي ، وأنه – عز وجل – ألزم المؤمنين الصلاة والسلام عليه، فواجب على المسلمين أن يكثروا من الصلاة والسلام على رسول الله0
وثواب الصلاة على النبي عظيم حيث أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي :" إذا سمعتم المؤذن، فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليَّ فإنه مَن صلى علي صلاة، صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة، حلت له الشفاعة".
وروى الترمذي وابن حبان عن ابن مسعود قال النبي: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة"0 وروى أبو داؤد والترمذي عن فضالة بن عبيد قال: سمع رسول الله رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله تعالى ولم يصلِّ على النبي فقال النبي "عَجِلَ هذا "، ثم دعاه فقال له أو لغيره: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه سبحانه والثناء عليه، ثم يصلى على النبي ثم يدعو بعد بما شاء ".
وعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال النبي : "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي، قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: "إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء" رواه أبو داود بإسناد صحيح .
وأما المُعرضون عن الصلاة على رسول الله فقد قال فيهم النبي فيما يرويه الترمذي عن أبي هريرة قال النبي : "رغم أنف رجل [ بمعنى أذله الله وحقره ] ذُكرت عنده فلم يصلِّ علي"0 وروى الترمذي عن علي رضى الله عنه قال النبى : "البخيل مَن ذُكرت عنده فلم يصل علي" 0
والسؤال الآن : كيف نصلي على رسول الله ؟ أي ما الصيغة التي نصلي بها على رسول الله ؟
والجواب : أية صيغة شرعية تصلح للصلاة والسلام على رسول الله وأفضلها ما ارتضاه النبي لنفسه، فقد سأله أحد الصحابة كيف نصلي عليك يا رسول الله ، فقال : "قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" متفق عليه عن أبي محمد كعب بن عجرة رضى الله عنه .
وصيغة أخرى قال النبي:" قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد" متفق عليه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، وغيرها من الصيغ الصحيحة .
فصل : صلاة الفاتح : جاء فى كتاب تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع فى الدين أن مؤلفه قال :
جاء فى كتاب " جواهر المعاني للشيخ عبد الحرمن بن يوسف الأفريقى نقلا عن الشيخ أحمد التيجانى مؤسس الطريقة التيجانية ما يلي : إن المرة الواحدة من صلاة الفاتح تعد كل تسبيح وقع فى الكون وكل ذكر وكل دعاء كبيرا أو صغيرا ، وتعدل تلاوة القرآن ستة آلاف مرة " ص 96 الطبعة الأولى مطبعة التقدم العلمية : قال الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامى البنلعي صاحب تحذير المسلمين تعليقا على ما سبق : وهذا كفر وردة ، وخروج عن الملة الإسلامية وهل يبقى فى الدنيا أحد لا يكفر قائل هذا الكلام ، بل من لم ينكر عليه ورضى به فهم كافر فى نفسه يستتاب فإن تاب وإلا قتل .
وجاء فى ص 80 من جواهر المعاني : من لم يعتقد أن صلاة الفاتح ليست من القرآن لم يصب الثواب فيها "0 ونحن نقول : من اعتقد أنها من القرآن فقد كفر كفرا ظاهرا . ص 131 ، 132 من التحذير ، فيجب علينا أن نكثر الصلاة والسلام على رسول الله بعيدا عن البدع وملتزمين بشرع الله .(/3)
الواجب السادس : معرفة سيرته العطرة :
فواجب على كل مسلم يحب رسول الله ويرغب فى الاقتداء به أن يعرف سيرته العطرة من مصادرها الموثوقة فيعرف أنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان وعدنان من ولد الذبيح إسماعيل بن الخليل إبراهيم عليهم جميعا الصلاة والسلام من الله .
ويجب على المسلم أن يعرف ميلاد رسول الله وأنه كان صبيحة الاثنين تاسع ربيع أول الموافق عشرين من أبريل عام 571م وكانت ولادته في دار أبى طالب وكانت قابلته الشفاء أم عبد الرحمن بن عوف ، وكانت مرضعته السيدة حليمة السعدية وزوجها أو كبشة ، مات أبوه وهو جنين وماتت أمه ولم يكمل السابعة من عمره الشريف وكفله جده عبد المطلب ثم مات وعمر النبي ثماي سنوات ، ثم كفله عمه أبو طالب ثم نزلت عليه الرسالة بغار حراء وعمره أربعون سنة ثم أقام بمكة ثلاث عشرة سنة ثم هاجر للمدينة وأقام بها عشر سنوات ومات يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول – على اختلاف – ومات بعد أن خيره الله بين البقاء في الدنيا ولقاء ربه فاختار لقاء ربه عز وجل .
وحج رسول الله بعد هجرته حجة واحدة ، واعتمر عمرتين مفردتين عام سبعة وعام ثمانية من الهجرة واعتمر عمرة ثالثة قرنها بالحجة المذكورة
وغزواته خمس وعشرون غزوة أولها غزوة ودان وآخرها تبوك وأشهرها بدر الكبرى وأحد والخندق وفتح مكة وغيرها0
وقاربت بعوثه الخمسين وأشهرها بعثَ خالدا إلى اليمن وعمرو بن العاص إلى ذات السلاسل وأبا عبيدة إلى سيف البحر وعبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل ، وعبد الله بن رواحة إلى خيبر وغيرها وكان من أمرائه أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وأبو سفيان وعمرو بن العاص وعلي وعمر وأبو بكر وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً0
وكان ليس بالطويل البائن ولا بالقصير ، ولا بالأبيض ولا الآدم ( الأسمر ) زهر اللون مشرباً بحمرة في بياض ساطع كأنه البدر ليلة التمام ، ضخم المفاصل طويل أهداب العين واسع الفم حسن الثغر ضخم اليدين لينهما كث اللحية واسعها أسود الشعر يتركه لشحمة أذنيه كثير النظر إلى الأرض إذا التفت التفت بجميعه .
ومن أسمائه محمد وأحمد والماحي يمحو الله به الكفر ، والحاشر : يحشر الناس على عقبيه ، والعاقب : ليس بعده نبي ، والمقفى ، ونبي التوبة ، نبي الملحمة وسماه الله تعالى رؤوفا رحيما ، وكان على نفض – عظم – كتفه الأيسر خاتم النبوة كأنه بيضة حمام ومن فوقه شعرات ونساؤه خديجة بنت خويلد ولم يتزوج غيرها حتى ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين ، ثم سودة بنت زمعة ثم عائشة لم يتزوج بكرا غيرها ثم تزوج حفصة بنت عمر ، ثم زينب بنت خزيمة وتزوج أم سلمة ، وتزوج زينب بنت جحش وجويرية بنت الحارث وتزوج أم حبيبة وتزوج صفية بنت حيى بن أخطب ، ثم ميمونة بنت الحارث وهى آخر من تزوج في عمرة القضاء وماتت أيام معاوية ولم يطلق النبي إحدى نسائه قط إلا حفصة بنت عمر ثم راجعها .
وكل أولاده من خديجة بنت خويلد حاشا إبراهيم من مارية القبطية وأولاده القاسم وبه يكنى عاش أياما يسيرة ولد قبل النبوة وولدان آخران اسمهما من بين الأسماء الثلاثة عبد الله – الطيب – الطاهر وذلك لاختلاف في اسميهما.
زينب كبرى بناته وماتت سنة ثمان من الهجرة ، رقية وماتت بعد بدر بثلاثة أيام وفاطمة وماتت بعد وفاه أبيها بستة أشهر وأم كلثوم أصغر بناته وماتت سنة تسع من الهجرة وأما إبراهيم فولد بالمدينة وعاش عامين إلا شهرين ومات قبل وفاة أبيه بثلاثة أشهر0
ومن أخلاقه أنه كان أحلم الناس وأشجعهم وأعدلهم وأعفهم كان يأكل من أيسر ما يجد من الشعير والتمر وكان يرقع الثوب ويخصف النعل ويساعد أهله في أعمالهن وكان أشد الناس حياء يجيب دعوة العبد والحر ويقبل الهدية ويكافئ عليها ، لا يغضب لنفسه بل يغضب لربه ، يعود المرضى ويشهد الجنائز ، يمشى وحده بلا حارس ، أشد الناس تواضعا ، وأبلغهم وأحسنهم بشرا يحب الطيب والنساء يجالس الفقراء ويواكل المساكين ، يصل ذوى رحمه ويقبل معذرة المعتذر يمزح ولا يقول إلا حقا ، كان رحيما أُطِعَم السم وسُحَرِ فلم ينتقم ممن سَمّه أو سحره، أُمي لا يقرأ ولا يكتب نشأ في صحراء الجهل والقفر رعى الغنم وعلم العالم فصار سيد الأمم رباه الله يتيماً بلا أب ولا أم وكانت أخلاقه كلها حسنة وصدق الله العظيم إذ يقول : " وإنك لعلى خلق عظيم " القلم
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
أهم المراجع
1- واجبات الأمة نحو كاشف الغمة ، د/ حلمي عبد المنعم صابر ، هدية مجلة الأزهر ، صفر 1412هـ
2- تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع فى الدين ، أحمد بن حجر آل بوطامى البنلعي ، ط3 ، دار القدس بالمنصورة ، 1988 م .
3- جوامع السيرة النبوية ، ابن حزم الأندلسي ، هدية مجلة الأزهر 1413هـ .(/4)
4- نور اليقين فى سيرة سيد المرسلين ، محمد الخضري بك ، هدية مجلة الأزهر 1412هـ
5- رياض الصالحين ، النووي ، مطبعة أسامه الإسلامية
6- تلبيس إبليس ، لابن الجوزي ، تحقيق السيد العربي ، مكتبة الإيمان بالمنصورة
*إبراهيم أمين الزرزموني
العنوان: جمهورية مصر العربية – محافظة الشرقية – بلبيس – العدلية
العمل الحالي: مدرس اللغة العربية بمدرسة بلبيس الثانوية العامة (بنات)
الجنسية: مصري ** الديانة: مسلم
تاريخ الميلاد: 12/1/1969م0 ** الحالة الاجتماعية: متزوج
المؤهلات العلمية:
1/ ليسانس آداب وتربية "لغة عربية" كلية التربية – جامعة الزقازيق 1990م0
2/ ليسانس الآداب "لغة عربية" كلية الآداب – جامعة الزقازيق 2005م0
3/ دبلومة عليا في الدراسات الإسلامية – المعهد العالي للدراسات الإسلامية – 1992م0
4/ دبلومة عليا في الأدب العربي - المعهد العالي للدراسات الإسلامية 1993م0
5/ دبلومة عليا "مهنية" في تخطيط وتطوير مناهج وطرق تدريس اللغة العربية – كلية التربية – جامعة الزقازيق 1993م
6/ دبلومة عليا "خاصة" في تخطيط وتطوير مناهج وطرق تدريس اللغة العربية – كلية التربية – جامعة الزقازيق 1994
7/ ماجستير في الأدب والبلاغة والنقد – المعهد العالي للدراسات الإسلامية – 1997م0
8/ باحث دكتوراة في الأدب والنقد0
المؤلفات:
1/ بنات الرسول ( ص ) "للأطفال"0عن دار قباء للطباعة والنشر 2000م0
2/ الصورة الفنية في شعر علي الجارم0 عن دار قباء للطباعة والنشر 2000م0
الخبرات في مجال التدريس:
< إجمالي سنوات الخبرة: تزيد على خمس عشرة سنة0
أولاً: داخل جمهورية مصر العربية:
1/ من عام 1990م / وحتى عام 1995م
2/ من 1999م / وحتى عام الآن0
ثانياً: خارج جمهورية مصر العربية:
عملت مدرساً للغة العربية بدولة الإمارات العربية المتحدة، في منطقة أبو ظبي التعليمية لمدة أربع سنوات، من عام 1995م / وحتى عام 1999م0(/5)
واجعلنا للمتقين إماما
تناول الدرس الإجابة على هذا السؤال:ماذا يعني تكليف الأمة شرعاً بإيجاد طائفة منصورة, مجاهدة, آمرة بالمعروف, ناهية عن المنكر ؟ ثم استنفر القادرين على البذل والعطاء في شتى النواحي وناشدهم أن يتقدموا ولا يتركوا أماكنهم للأدعياء أو من ليس بأهل له، ونبه على خطأ في مفهوم الورع عند البعض.
ماذا يعني تكليف الأمة شرعاً بإيجاد طائفة منصورة, مجاهدة, آمرة بالمعروف, ناهية عن المنكر ؟؟
يعني: مطالبة القادرين, والأكفاء أن يقوموا بواجبهم: فالشاب الذي يأنس من نفسه قدرة على الحفظ, أو التفقه, أو الدعوة, أو الإصلاح من خلال: منبر, أو موقع, أو مسئولية؛ لا يتخلى إيثاراً للسلامة, أو طلباً للعاجل, أو انكفاء على نفسه، بل ينزل للميدان الكبير الذي لازال ينتظر فرسانه ، ويتطلع إليهم بفارغ الصبر .
إن كل نعمة منحها الله لعبده هي: ابتلاء يسأل عنه يوم القيامة، ولكن المشكلة أن الناس يدركون ذلك في عالم الماديات, ولا يكادون يدركونه في عالم المواهب والمنن النفسية ... فالغني مثلاً: يعلم أنه مطالب بالإنفاق في سبل الخير بما لا يطالب به الفقير ، والقوي قد يدري أن في قوة جسمه حقا للضعيف والكل، وكذلك البصير مع الأعمى، والصحيح مع المريض ... ولكن: كم من الناس يشعرون بالمواهب الربانية في عقولهم التي منحوها, فيستخدمونها لنصرة الحق والدفاع عنه ؟ وكم من الناس من يوجه نعمة الفصاحة والبيان التي أوتيها للدعوة إلى الإسلام ، وفضح أعدائه ؟ وكم ... وكم ... أيظن أحد أن حساب الغني يوم القيامة كحساب الفقير ؟ أو أن حساب الذكي كحساب الغبي والبليد ؟ أو حساب الفصيح كحساب العيي ؟ أو حساب الشجاع كحساب الجبان؟إذاً فليقرأ قوله تعالى: } وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [165] { سورة الأنعام. وفي الآية تسلسل عجيب: فالحقيقة الأولى: } جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ {فالبشر: خلفاء استخلفهم الله في الأرض؛ لينظر كيف يعملون، وأصل وجودهم فيها هو لهذا، وهو قدر يشترك فيه جميع المكلفين . والحقيقة الثانية : } وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ { هكذا: درجات؛ لتشمل جميع أنواع التمايز, والاختلاف, والتفاوت بين الناس: في أموالهم, أو أجسامهم, أو عقولهم, أو ملكاتهم, أو مواقعهم ومسئولياتهم .. وهذه سنة إلهية محكمة: }نحن قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [32]{ سورة الزخرف .
والحقيقة الثالثة : } لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ { فهذه الدرجات هي: } لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ { فكل ما رزقكم الله من المنن الظاهرة, أو الخفية, فإنما ليبلوكم به: هل تنجحون في تسخير مواهبكم للإسلام ؟ أم تضيعونها هدراً ؟ أم تجعلونها حراباً في صدور المؤمنين ؟(/1)
والحقيقة الرابعة : }إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ { فإذا استثمر العبد ما منحه الله في معصيته وتكذيب رسله؛ أسرعت إليه العقوبات في الدنيا والآخرة، وإذا بذل ما يملكه في سبيل الله تجاوز الله عما يحدث منه من سهوٍ أو تقصير؛ لأنه غفور رحيم ... فيا بؤساً لأولئك الذين ضيعوا عقولهم الكبيرة هدراً في دراسات عقيمة لا تنفع في دين, ولادنيا, وما أكثرهم ... ويا خسارة أولئك الذين طاوعهم البيان, فصاغوه قصائد غزل سخيف, غير عفيف ... يا حسرةً على العباد ! و كم يحز في النفس, ويملأ القلب أسى وكمداً: أن كثيراً من ذوي الكفاءات, والمواهب البارزة من الصالحين قد عبث بهم الشيطان، وزين لهم القعود عما أوجب الله عليهم: تارة باسم الزهد في المنصب والجاه، وتارة باسم إيثار الخمول والبعد عن الشهرة، وتارة باسم الخوف من الرياء، وتارة بحجة عدم الكفاءة وأنه يوجد من هو أفضل مني وأجدر ... ولو أتيت هذا القاعد المتثاقل, وتسللت إليه بالحديث رويداً رويداً لحدثك عن: فساد الأحوال وقلة الرجال ، وكثرة الأدعياء ، وخلو الساحة ، وتفاقم الخطب! فسبحان الله ! لمن تركت الساحة إذاً يا عبد الله ؟ ألا ترى أنه صار فرض عين عليك وأنت تأنس في نفسك قدوة في مجال ما أن تبدأ الطريق ، وتدع عنك التعليلات الواهية ؟! أو لست تقرأ في صلاتك وتقول في دعواتك : } رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[74]{ سورة الفرقان فهل يجدر أن يدعو المرء بهذه الدعوة, ثم يعمل على خلافها ؟ لقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نبذل الأسباب التي نستطيعها في تحصيل ما نريد, ثم ندعو الله تعالى؛ ولذلك لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة وضع العساكر, والحرس على أنقاب المدينة لئلا يتسرب الخبر إلى مكة, وبذل جميع الأسباب المادية الممكنة, ثم توجه إلى الله بالدعاء أن يعمي الأخبار عن قريش .
ومما يذكر عن عمر رضي الله عنه أنه رأى إبلاً جرباء, فسألهم : ماذا تصنعون لعلاج هذه الإبل؟ قالوا: عندنا عجوز صالحة نذهب إليها, فتدعو لها ! فقال رضي الله عنه: اجعلوا مع دعاء العجوز شيئاً من القطران ... إن ساحة العلم الشرعي والدعوة تشهد نقصاً شديداً ينذر بالخطر، ولا غرابة حينئذ في تصدر الأدعياء والمشبوهين, أو على الأقل : تصدر غير المؤهلين ممن طبعوا على حب الظهور ... وإنه لورع عجيب, غريب .. أفليس من الورع أن يفعل الإنسان ما يشتبه بالواجب ؟ أو ما يشتبه بالمستحب؟ فيقوم بالتعليم والدعوة والخطابة خشية أن يكون شيء من ذلك واجباً متعيناً عليه؟ أم أننا صرنا في عصر القعود ، وأصبحنا نفسر الورع: بالترك .. ترك ما يشتبه بالحرام أو يشتبه بالمكروه ؟! من محاضرة: واجعلنا للمتقين إماما للشيخ/ سلمان العودة(/2)
واجعلنا للمتقين إماما ...
...
18-05-2004
كل نعمة منحها الله للعباد فهي منحة وابتلاء في الوقت ذاته ،والمشكلة أن الناس يدركون ذلك جيداً في عالم الماديات ولكنهم لا يكادون يحسونه في عالم المواهب والمنن النفسية .
الأمة ـ بمجموع أفرادها ـ مطالبة شرعاً بتحقيق ذاتها وتحمل مسؤولياتها والقيام بواجبها , ولم يكلفها الله بهذه المهمات الجسمية إلا لعلمه سبحانه بأن في أفرادها ومجموعاتها وشعوبها ودولها من الإمكانيات والقدرات ما هو كفيل بتحقيق ذلك إذا أحسن توظيفه .
وقد ابتليت الأمة بداء التواكل والتلاوم , واتقن بعض رجالها فن إلقاء التبعة على الأخرين والتخلي عن المسؤولية على قاعدة أن المشكلات من صنع الجيل السابق, وسيقوم بحلها الجيل اللاحق !
والأمر يبدأ من ثقة الفرد بنفسه , واستكشاف مواهبة , والبحث عن ميدانها , وتخطي العقبات مهما كانت فالحياة هكذا ..
وكل امرئ مسؤول أمام الله تعالى بحسب ما آتاه الله من قدرة مادية أو معنوية .
فالغني مثلاً يعلم أنه مطالب بالإنفاق في سبل الخير بما لا يطالب به الفقير ، والقوي قد يدري أن قوة جسمه حقٌ للضعيف والكل ، وقل مثل ذلك البصير مع الأعمى، والصحيح مع المريض، ولكن .. كم من الناس يشعرون بالمواهب الربانية في عقولهم التي منحوها فيستخدمونها لنصرة الحق والدفاع عنه ؟ .
وكم من الناس من يوجه نعمة الفصاحة والبيان التي أوتيها للدعوة إلى الإسلام ، وفضح أعدائه ؟ وكم .. وكم .. أو يظن أحدٌ أن حساب الغني يوم القيامة كحساب الفقير ؟ أو أن حساب الذكي كحساب الغبي والبليد ؟ أو حساب الفصيح كحساب العيي ؟ أو حساب الحافظ كحساب النّسّاء [كثير النسيان] ؟ أو حساب الشجاع كحساب الجبان؟ أو حساب المسئول كحساب الفرد العادي؟
إذاً فليقرأ قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
وفي الآية تسلسل عجيب :
فالحقيقة الأولى : جعلكم خلائف الأرض، فالبشر خلفاء استخلفهم الله في الأرض لينظر كيف يعملون، وأصل وجودهم فيها هو لهذا، وهو قدر يشترك فيه جميع المكلفين .
والحقيقة الثانية : ورفع بعضكم فوق بعض درجات، هكذا: درجات، لتشمل جميع أنواع التمايز والاختلاف والتفاوت بين الناس ، في أموالهم أو أجسامهم أو عقولهم أو ملكاتهم أو مواقعهم ومسؤولياتهم .. وهذه سنة إلهية محكمة }نحن قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
والحقيقة الثالثة : ليبلوكم فيما آتاكم ، فهذه (( الدرجات )) هي (( ليبلوكم فيما آتاكم ))، فكل ما رزقكم الله من المنن الظاهرة أو الخفية فإنما ليبلوكم به، هل تنجحون في تسخير مواهبكم للإسلام ؟ أم تضيعونها هدراً ؟ أم تجعلونها حراباً في صدور المؤمنين ؟
والحقيقة الرابعة : إن ربك لسريع العقاب، وإنه لغفور رحيم . فإذا استثمر العبد ما منحه الله في معصيته وتكذيب رسله أسرعت إليه العقوبات في الدنيا والآخرة، وإذا بذل ما يملكه في سبيل الله تجاوز الله ما يحدث منه من سهوٍ أو تقصير، لأنه غفور رحيم .
فيا بؤساً لأولئك الذين ضيعوا عقولهم الكبيرة هدراً في دراسات عقيمة … لا تنفع في دين ولا في دنيا .. وما أكثرهم .
ويا خسارة أولئك الذين طاوعهم البيان فصاغوه قصائد غزل سخيف غير عفيف .
دون أن يوظفوا شيئاً منه لقضايا أمتهم وشعوبهم .
وكم يحز في النفس ويملأ القلب أساً وكمداً أن كثيراً من ذوي الكفاءات والمواهب البارزة من الصالحين قد عبث بهم الشيطان، وزين لهم القعود عما أوجب الله عليهم، تارة باسم الزهد في الدنيا، وتارة باسم إيثار الخمول والبعد عن الشهرة، وتارة باسم الخوف من الرياء، وتارة بحجة عدم الكفاءة وأنه يوجد من هو أفضل مني وأجدر .. ولو أتيت هذا القاعد المتثاقل وتسللت إليه بالحديث رويداً رويداً لحدثك عن فساد الأحوال وقلة الرجال ، وكثرة الأدعياء ، وخلو الساحة ، وتفاقم الخطب !
فيا سبحان الله ! لمن تركت الساحة إذاً يا عبد الله ؟ ألا ترى أنه صار فرض عين عليك وأنت تأنس في نفسك قدوة في مجال (( ما )) أن تبدأ الطريق ، وتدع عنك التعليلات الواهية ؟! أو لست تقرأ في صلاتك وتقول في دعواتك : {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً } ؟
فهل يجدر أن يدعو المرء بهذه الدعوة ثم يعمل على خلافها ؟(/1)
لقد علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نبذل الأسباب التي نستطيعها في تحصيل ما نريد ثم ندعو الله تعالى ولذلك لما أراد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتح مكة وضع العساكر والحرس على أنقاب المدينة لئلا يتسرب الخبر إلى مكة وبذل جميع الأسباب المادية الممكنة ثم توجه إلى الله بالدعاء أن يعمي الأخبار عن قريش .
ومما يذكر عن عمر رضي الله عنه أنه رأى إبلاً جرباء فسألهم : ماذا تصنعون لعلاج هذه الإبل؟ قالوا: عندنا عجوز صالحة نذهب إليها فتدعو لها ! فقال رضي الله عنه: اجعلوا مع دعاء العجوز شيئاً من القطران !!
إن ساحة العلم الشرعي والدعوة تشهد نقصاً شديداً ينذر بالخطر، ولا غرابة حينئذ في تصدر غير المؤهلين ممن لايعنيهم كثيراً توفر الشروط!
وإنه لورع عجيب غريب .. أفليس من الورع أن يفعل الإنسان ما يشتبه بالواجب ؟ أو ما يشتبه بالمستحب؟ فيقوم بالتعليم والدعوة والخطابة خشية أن يكون شيء من ذلك واجباً متعيناً عليه؟ أم أننا صرنا في عصر القعود ، وأصبحنا نفسر( الورع) بالترك .. ترك ما يشتبه بالحرام أو يشتبه بالمكروه ؟؟
الشيخ سلمان بن فهد العودة(/2)
واجعلنا للمتقين إماماً
يروي الإمام مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول: " أ لم تراعوا..لم تراعوا".
لقد سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى مكان الصوت ثم عاد ليطمئنهم ويهدىء من روعهم ويقول لهم: " لم ترعوا ..لم تراعوا". وهكذا يكون القدوات.
إن أزمة الأمة في هذه الأيام هي أزمة قدوات.. لقد ابتليت أمة الإسلام بأسماء لا مسميات لها، وبألقاب تفتقر إلى مضمون. لذا كثر المتكلمون وقل المؤثرون، ونُمقت العبارات وشُوهت الحقائق.
وما أجمل ما نقله الماوردي عن علي بن أبي طالب حيث قال: " إنما زهد الناس في طلب العلم لما يرون من قلة انتفاع من علم بما علم، وكان يقال: خير من القول فاعله، وخير من الصواب قائله، وخير من العلم حامله ".
ثم تبعه مالك بن دينار فأطلق صيحته المدوية قائلاً: " إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا ".
إن الحقيقة التي ينبغي أن يدركها الدعاة وأفراد الدعوة الإسلامية هي أنهم بمجرد التزامهم بالإسلام ومطالبتهم بتحكيمه واعتباره منهج حياة، أقول: بمجرد هذا الالتزام فإن الناس ينظرون إليهم نظرة دقيقة ويضعونهم تحت رقابة مجهرية. فرب عمل يقوم به المسلم الملتزم لا يلقي له بالاً هو في حساب عامة الناس من الكبائر لأنهم يعدونه قدوة لهم.
ومن ثم فإن حياة الداعية وسلوكه وطبيعة تصرفاته واهتماماته ليست مالكاً له وحده، فهو ليس حراً يفعل ما يشاء، ويدع ما يشاء، بل ينبغي أن يزن كل حركة وكل سكنة وأن يدرك تأثيرها على الناس.
لذا قال أحد السلف: " كنا نخوض ونلعب فلما وجدنا أنه يُقتدى بنا أمسكنا ".
ودخل المروزي على الإمام أحمد بن حنبل فقال له: " يا أستاذ، قال الله تعالى: " ولا تقتلوا أنفسكم " فقال الإمام أحمد: يا مروزي أخرج، انظر أي شيء ترى، قال المروزي: فخرجت إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقاً من الناس لا يحصي عددهم إلا الله، والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعتهم.
فقال لهم المروزي: أي شيء تعملون؟ قالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، قال المروزي: مكانكم، فدخل إلى أحمد بن حنبل فقال له: رأيت قوماً بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرن ما تقول فيكتبونه.. فقال أحمد: يا مروزي أضل هؤلاء كلهم؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء".
إننا بحاحة أن ننتبه إلى القدوات، وأن نعتني بهم عناية خاصة، بل أن يكون من بين كل مجموعة من الدعاة فئة أو ثلة من القدوات كي يقوموا بدور المرشد والموجه والمشجع لإخوانهم الدعاة، فتكون للدعوة الإسلامية قدوات تربوية، وأخرى دعوية، وثالثة إيمانية، ورابعة اجتماعية..الخ.
بقي أن نقول: إن مسئولية إيجاد هؤلاء القدوات هي مسئولية مشتركة بين الدعوة والفرد.. فالدعوة الإسلامية ينبغي أن تقوم بانتقاء القدوات وتطويرهم وتوجيههم وتحفيزهم والاهتمام بهم وتوفير ما يحتاجه القدوة من علم ومعرفة، هذا بالإضافة إلى توفير الأدوات والوسائل التي تعين القدوة كي يحافظ على ورعه وتقواه واتصاله بالله تعالى.
وفي الجانب الآخر فإن الفرد يتحمل جزءً كبيراً من المسئولية، فمن غير المقبول للقدوة أن يبقى عاجزاً لا هم له إلا فتح فمه ليُلقَّمْ مستلزمات القدوة تلقيماً، فإن ذلك من الصعوبة بمكان على الدعوة الإسلامية. ومن هنا لا بد للقدوة ( أو من يراد له أن يكون قدوة ) أن يبادر بنفسه فيطور قدراته وينمي معارفه ويعتني بإيمانه وقلبه.
إن أصحاب الهمم العالية تأبى نفوسهم أن يكونوا هملاً لا تأثير لهم، ولذا كان من دعاء المؤمنين: " واجعلنا للمتقين إماماً " (الفرقان: الآية 74). يقول قتادة معلقاً على هذه الآية: " أي قادة في الخير ودعاة هدى يؤتم بنا في الخير ".
إنه مضمار سباق فرحم الله عبداً شمر فسابق فسبق، وجزى الله خيراً من قاد نفسه فألزمها سبيل الجد والاجتهاد، إذ لا مكان اليوم للضعفاء.
وتذكر قول الشاعر إذ يقول:
فالسابقون مضوا وما خدعوا الوَرَى بالتُّرَّهاتِ لأنهم أمناءُ
واللاحقون مضوا على أهوائهم أرأيتَ ما فعلتْ بنا الأهواء
بدع بها جمعوا من الأموال ما جمعوا ومجموعُ الهباءِ هباءُ
في ذمة العُلماءِ هذا كله إن كان فيما بيننا علماءُ
كاتب المقال: د. علي الحمادي
المصدر: موقع تربوي(/1)
واحة التوحيد
من نور كتاب الله:
أهل الكفر يحسدون أهل الأيمان:
قال تعالى: ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير ) {البقرة 109، 110}
من هدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
كيف تربح ألفين و خمسمائة حسنة في اليوم!
عن ابن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: خصلتان لا يحافظ عليهما عبد مسلم إلا دخل الجنة، ألا وهما يسير، ومن يعمل بهما قليل، يسبح الله في دبر كل صلاة عشرا، ويحمده عشرا، ويكبره عشر، فذلك خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، ويكبر أربعا وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمده ثلاثا وثلاثين، ويسبح ثلاثا وثلاثين، فتلك مائة باللسان وألف في الميزان، فأيكم يعمل في اليوم والليلة ألفين وخمسمائة سيئة. {مسند أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 3230}.
من دلائل النبوة:
إسلام حبر اليهود عبد الله بن سلام على يديه - صلى الله عليه وسلم -
عن أنس بن مالك: أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، فأتاه يسأله عن أشياء، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ما أول أشراط الساعة، وما أول طعام يأكله أهل الجنة، وما بال الولد ينزع إلى أبيه وإلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفاً. قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة. قال: أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد. قال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت. {صحيح البخاري}.
من فضائل الصحابة:
الاقتداء بهم وقبول أخبارهم:
عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر، اهتدوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه. {صحيح الجامع}.
من درر التفاسير:
لذة القلوب في معرفة ربها المعبود!
قال العلامة السعدي في قوله تعالي: ألا بذكر الله تطمئن القلوب أي: حقيق بها، وحري ألا تطمئن لشيء سوى ذكره فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أحلى من محبة خالقها والأنس به ومعرفته. وعلي قدر معرفتها بالله ومحبته له، يكون ذكرها له. {(تفسير السعدي) بتصرف}.
من جوامع الدعاء:
في الوقاية من الجن والسحر والمرض والهوام:
عن عبد الرحمن بن خنبش عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال. أتاني جبريل فقال: يا محمد! قل، قلت: وما أقول؟ قال: قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وبرأ ومن شر ما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق يطرق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن. {مسند أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع}.
من أقوال السلف:
قال بعض السلف: "يأتي علي الناس زمان يكون أعز الأشياء ثلاثة: أخ يستأنس إليه،
أو درهم من حلال، أو سنة يعمل بها".
عن يحي بن يحي قال " الذب عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله. قال محمد: قلت ليحي: الرجل ينفق ماله، ويتعب نفسه، ويجاهد، فهذا أفضل منه؟ قال: بكثير ".
وقال بعضهم: " علامة طاعة الله تسليم أمره لطاعته، وعلامة حب رسول الله - صلى اله عليه وسلم - تسليم أثاره والعمل علي سنته ولا يلتفت إلي غيره ". {ذم الكلام للهروي}.
لا يثبت شئ في فضل صيام رجب ولا قيامه:
عن المؤتمن بن أحمد الساجي الحافظ قال: كان الإمام عبد الله الأنصاري، شيخ خرسان، لا يصوم رجباً، وينهى عنه، ويقول: ما صح في فضل رجب ولا صيامه شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وقد روي كراهية صومه عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو بكر وعمر - رضي الله عنه - وكان عمر - رضي الله عنه - يضرب بالدرة صوامه فإن قيل: هو استعمال خير. قيل له: استعمال الخير، ينبغي أن يكون مشروعاً من الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا علمنا أن كذب على رسول الله - صلى الله علية وسلم - خرج عن المشروعية، وإنما كانت تعظمه مُضر (قبيلة من قبائل العرب) في الجاهلية. {الأمر بالاتباع للسيوطي}.
حكم ومواعظ:
قال الدقاق: من أكثر من ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء: تعجيل التوبة وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة. {التذكرة}.
عن ذي النون قال: ثلاثة من أعلام الخير في التاجر، ترك الذم إذا اشترى، والمدح إذا باع، خوفاً من الكذب، وبذل النصيحة للمسلمين، حذراً من الخيانة، والوفاء في الوزن إشفاقاً من التطفيف. {العفة}.(/1)
وعن حبيب بن بشر قال: سمعت الأصمعي يقول: كان يقال: الناس غانم وسالم وشاجب فالغانم من قال خيراً فغنم، والسالم من سكت سلم، والشاجب من قال شراً فشجب، أي أهلك نفسه. {شعب الإيمان}.
من نصائح السلف:
من أسباب سعادة المرء الرضا بقضاء الله!
عن ابن عون، أنه قال: ارض بقضاء الله على ما كان من عسر ويسر، فإن ذلك أقل لغمك، وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك، واعلم، أن العبد لن يصيب حقيقة الرضا، حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء، كرضاه عند الغنى والرخاء. {تسلية المصاب}.
من حسن الخاتمة.. !
عن إسماعيل بن عمرو، قال: دخلنا على ورقاء بن عمر وهو في الموت، فجعل يهلل ويكبر ويذكر الله عز وجل، وجعل الناس يدخلون عليه ويسلمون عليه، فيرد عليهم السلام، فلما كثروا عليه، أقبل على ابنه فقال: يا بني، اكفني رد السلام على هؤلاء، حتى لا يشغلوني عن ذكر ربي عز وجل.{تسلية المصاب}.
http://www.altawhed.com المصدر:(/2)
واحد من كل أربعين [2] سلسلة هل أنا موسوس؟
الوسواس القهري:
هو اضطراب مرضي، قسمه العلماء والأطباء إلى قسمين هما:
1ـ إلحاح فكرة سيئة بغيضة على تفكير الإنسان بشكل متكرر:
وهو لا يحبها ولا يرضى عنها بل يرفضها ويحاول منعها ويقاومها، ويعرف أنها غير حقيقية، ولكنه مجبر على التفكير فيها،وهي تقتحم على الإنسان حياته فتفسدها وينشغل بها وبلوازمها، ولا يستريح إلا بعد أن يقوم بفعل معين لازم، أو يستسلم للوازمها.
ومها بذل الشخص من الجهد في الاستعاذة أو محاولة صرف الذهن عن التفكير في هذه الأفكار الملحة فهو يفقد القدرة على المقاومة، ويستسلم.
من أمثلتها تلك الأفكار التي فيها انتقاص من الذات الإلهية، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم والشك في الجنة والنار والقيامة والبعث، وأن هذا لن يكون.
وكذا فهم الآيات والأحاديث بصورة فيها انتقاص وتشكيك، فلا ثوابت تبقى ليؤمن بها الشخص.
2ـ أفعال قهرية والاندفاع في أمور الدين والدنيا:
مثل تكرار نطق الحرف للتأكد من خروجه سليمًا، وتكرار غسيل اليد للظن أنها متسخة، وتكرار الصلاة بحجة فقد التركيز فيها، وجمع الأوراق من الطريق للتأكد أنه ليس فيها اسم الله تعالى وعدد الأشياء وتكرار العدد وغيرها كثير.
وإذا حاول الشخص إيقاف هذه السلوكيات التي يعلم يقينًا بطلانها ستسبب إيقافه لها في قلق شديد وشك مريب، فلا مفر له من تكرارها والوقوع تحت أسرها للنجاة من هذا الضغط النفسي، وليس أدل على أن الوسواس القهري ما هو إلا مرض من الأمراض من أن الأطفال عرضة للإصابة بهذا المرض بنوعيه الفكرة الوسواسية والفعل القهري الوسواسي.
وللعلم فنسبة الشفاء لديهم مرتفعة طالما تم العلاج الطبي المباشر السريع.
وهنا لا بد من التنبيه في هذا المقام إلى أن الإصابة بالوسواس القهري ليست ناشئة عن قلة التدين، أو انخفاض المستوى الإيماني، أو غياب الإرادة، أو التقصير في الأذكار وما شابه.
وكذا لاحظ الأطباء أن الوسواس القهري عادة ما يبدأ في الظهور عقب التعرض لضغوط شديدة في العمل، أو الامتحانات، أو الخلل والمشاكل في العلاقات الزوجية، أو وفاة شخص عزيز قريب.
وهذا لا بد من بيانه كي لا يسيء الشخص الظن بنفسه، فيرى نفسه في حرص على العبادات والطاعات ثم هو يجد هذا الدافع الذي يلح على فكره بسب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فيشك في دينه وإيمانه وليس الأمر كذلك.
إذن لا بد لنا هنا من وقفة تحدد طبيعة تعاملنا مع كل من الوسواس القهري والوسواس الشيطاني.
فالأخير علاجه معروف ومقاومته واضحة المعالم في أصول الشريعة من الكتاب والسنة.
وبه يفتي علماء الشريعة وطلبة العلم السالكين طريق الله تعالى في كيفية مقاومة الشيطان والتغلب على وسوسته بـ:
ـ الاستعاذة.
ـ والأذكار.
ـ والقرآن وغيرها من العبادات.
ـ وكذا الصحبة الصالحة.
ـ والعلم الشرعي النافع الذي يدفع هذه الوسوسة.
أما النوع الأول: فلا بد من اللجوء فيه إلى أهل الاختصاص والذكر، وهم الأطباء النفسيون ليوضحوا لنا كيفية العلاج.
وهذا يقودنا إلى الحقيقة الرئيسية في موضوعنا هنا ألا وهي:
أن الوسواس القهري مرض نفسي لا دخل للمريض في الإصابة به، ولكنه ابتلاء مثل غيره من الابتلاءات التي تصيب العباد، تختلف أشكالها وتتعدد أنواعها، وألوانها، ولكن تتحد كلها في مشقتها ومعاناتها ولزوم الصبر عليها، والأخذ بالأسباب لدفعها والتخلص منها، وتحصيل الشفاء المأمور به شرعًا.
وقد أفاد الأطباء المتخصصون أن نسبة الشفاء من هذا المرض في ازدياد متصاعد مع استمرار التقدم العلمي الطبي في هذا المجال، بشرط الصبر والمتابعة والإشراف الطبي. وتصل حاليًا إلى الشفاء التام لنسبة لا تقل عن 60% ونسبة تتحسن بدرجة كبيرة لا تقل عن 80%.
إن مرضى الوسواس القهري ممتحنون في صبرهم وإيمانهم بالله تعالى وثقتهم فيه سبحانه، ويا له من امتحان شاق ينال الصابر عليه والفائز فيه بإذن الله تعالى عظيم الأجر والثواب، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ' إن من العباد عبادًا أعد الله لهم المنزلة في الجنة لا يبلغونها بعملهم، فلا يزال الله تعالى يبتليهم حتى يبلغونها بصبرهم ' فهنيئًا لمن صبر وثبت وأخذ بالأسباب، فحرص على علاج نفسه فهذا الصابر حقًا الصبر الجميل.
الجزء الأول
يا الله 'واحد من كل أربعين' الحمد لله!!! [1]
جعلنا الله تعالى وإياكم من أهل الصبر والثبات اللهم آمين.
وإلى لقاء قريب في سلسة نحن والوسواس معا حتى نقضي عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/1)
وادع إلى ربك
تحدثت في مقال سابق عن المقصود بالدعوة مذكِّراً بأن دعوة النفس أوْلى بالبدء ، ثم الأقرب فالأقرب .
وهنا مسألة مهمة تتعلق بالإخلاص في الدعوة إلى الله عز وجل عامة وهي مسألة قلما نتنبه إليها أو ننبه عليها .
وجُلُّ ما نفهمه من معنى الدعوة إلى الله عز وجل هو أن الداعية إنما يدعو إلى ربه وإلى سبيله وتوحيده وطاعته ، وإلى إقامة دينه .
ولا شك أن هذه معانٍ صحيحة وأهداف سامية للدعوة إلى الله سبحانه لكنَّ هناك معنيً لطيفاً ومسألة عظيمة يتضمنها مفهوم الدعوة إلى الله تعالى يتعلق بإخلاص الدعوة له سبحانه وهو ما أشار إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في (مسائل باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله) وهو من أبواب كتاب التوحيد ؛ حيث يقول : ( المسألة الثانية : التنبيه على الإخلاص ؛ لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه) .
يا لها من مسألة عظيمة يغفل عنها الكثير منّا ، وإنها لمن الدقة واللطف بحيث توجد عند البعض منا دون أن يشعر بوجودها، وإن لم يفتش الداعية عنها في نفسه ويبادر إلى التخلص منها فإنها قد تكون سبباً في حبوط العمل وضياع الجهد عياذاً بالله تعالى وهناك علامات ومظاهر يدل وجودها على تلوث القلب بهذه الآفة الخطيرة منها :
1- الحزبيّة المقيتة التي تدفع بصاحبها إلى عقد المحبة والعداوة على الأسماء والأشخاص والطوائف .
2- حب الشهرة والصدارة والتفاف الناس ، وكراهية الدعاة الآخرين والانقباض والضيق من تجمع الناس حولهم ؛ لا لشيء إلا لأن في ذلك منافسة وحسداً في القلب .
3- التزهيد في أعمال بعض الدعاة وتحقيرها وتشويهها حتى ولو كان هذا العمل قد ظهر خيره وصلاحه ، فلا ترى صاحب القلب المريض الذي يدعو إلى نفسه - وليس إلى الله تعالى إلا مستاءاً من ذلك ، ولو كان الأمر إليه لأوقف كل عملٍ خيِّرٍ يقوم به غيره . وهذا من علامات الخذلان عياذاً بالله تعالى لأن العبد المخلص في دعوته إلى الله تعالى يحب كل داعية إلى الخير - ولو لم يعرفه أو يره - ويدعو له بظهر الغيب ، ويفرح بأي باب من الخير يفتحه الله تعالى على يد من كان من عباده ، ويفرح بأي باب من الشر يُغلق على يد من كان ؛ لأن في ذلك صلاحاً للعباد وإسهاماً في هدايتهم وتعبيدهم لرب العالمين ، وكفى بذلك هدفاً وثمرة تثلج صدر الداعية المخلص سواء تحقق ذلك على يديه أو على يد غيره من الداعين إلى الله تعالى .
4- الوقوع في غيبة الدعاة أو السعي بالنميمة والوشاية لإلحاق الأذى بهم أو إشاعة ما هم منه برآء في الناس حتى ينفضُّوا من حولهم ويلتفوا حوله .
والأمثلة كثيرة ، وكل إنسان أدرى بنفسه ، وهو على نفسه بصيرة ، والمقصود التنبيه على هذه الآفة الخطيرة التي تمحق بركة الأعمال في الدنيا ، وتذهب بأجرها في الآخرة(/1)
واسجد واقترب
الحمد لله ، أكرم جباهنا بالسجود لعظمته ، ونور قلوبنا بالإيمان به وبمعرفته ، وأرغم أنوفنا بالرضا بقدره والتسليم لحكمته .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، المتفرد في أسمائه وصفاته ، وإلهيته وربوبيته ، شهادة أرجو بها نيل مرضاته ، والنظر إلى وجهه ، والفوز بالدرجات العلى من جنته .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، شهادة مصدق به ، متبع لسنته ، راجيا شربة هنية من حوضه ، ودخولا في شفاعته ، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحابته ، ومن سلك سبيلهم ، واتبع نهجهم ، والصالحين من أمته ، وسلم تسليما .
أما بعد ، فتقوى الله عباد الله ، ملاك كل خير ، وهي الزاد لمن جد به إلى الآخرة السير ، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، ولباس التقوى ذلك خير .
أيها المسلمون : تتجلى عظمة ربنا جل جلاله يوم القيامة أيما تجلي ، فكل أتوه داخرين ، وثلاشت قوة كل قوي من العظماء والملوك والسلاطين ، واجتمع الخلق كلهم في صعيد واحد ، لا تخفى منهم خافية ، وكلُ أمة جاثية ، تقطعت بهم الأسباب ، فلا خلة بينهم ولا أنساب ، فخشعت أصواتهم ، وخضعت أعناقهم ، وتقطع بينُهم ، وتعاظم كربهم ، وعظمت مصيبتهم ، وطال انتظارهم للحكم فيهم ، وتقرير مصيرهم . فهرعوا يستشفعون ، وعند أبيهم للخلاص يطلبون ، فاعتذر الأب بأنه هو الذي أخرجهم ، وهو سبب ما حل بهم ، وأشار عليهم بابنه نوح ، فاعتذر ، وأشار عليهم بالخليل ، فاعتذر ، وأشار عليهم بالكليم ، فاعتذر ، وأشار عليهم بالروح فاعتذر ، وكان أولئك الرهط من الأصفياء الأتقياء يقولون مقولة واحدة : : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، ثم إن عيسى عليه السلام أشار على أهل الموقف بسيد الأنبياء ، وقدوة الأتقياء ، وتاج الأخلاء ، محمد صلى الله عليه وسلم ، فانبرى للشفاعة ، بثقة المحب ، وطمع المحبوب ، لا يغيب عن ذهنه غضب الرحمن ، الذي أخاف من شدته من سجدت له الملائكة تكريما ، وأحجم الموصوف بأنه كان عبدا شكورا ، وتخلى الأواه المنيب ، واتخذه الله خليلا ، وعجز عنها من سأل الرؤية ، وكلمه الله تكليما ، ولم يستطعها روح الله وكلمته ، ومعجزته وآيته . فلقد كان الموقف شديدا عظيما .
نعم كان في ذهن الحبيب تخلي الصفوة من الخليقة عن الشفاعة ، وكان في ذهنه سبب ذلك التخلي ، وهو شدة غضب الرحمن ، فإذا غضب الرحمن فأين تذهبون ؟ وإذا غضب الرحمن ، فبمن تلوذون ؟ فكان من المحتم أن يطفىء غضب الرحمن ، فكيف يطفئه ؟ ولقد علم صلى الله عليه وسلم أن الرحمن جبار ، متكبر ، عزيز فألهمه الله إلى ما يطفىء غضب من هذه صفاته ، تقدست صفاته ، وهو كمال الذل والخضوع ، فخر لله ساجدا ، يسبح بحمده ويثني عليه ، ويمجده ، ويسأله ويطلبه ، وهو الذي أنزل إليه في كتابه الذي بلغه : واسجد واقترب ، فاقترب من ربه متمثلا ما أخبر به هو عن ربه بقوله : أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد
فلما مرغ أنفه بذلة السجود للمتكبر ، وذلة الخضوع للعزيز ، قيل له : ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، وسل تعط ، واشفع تشفع .
أيها المسلمون : بسجدة واحدة ومحامد وثناء انتهت تلك الأعوام الطويلة من الانتظار ، وحكم بين العباد ، وسيق أهل الجنة للجنة ، وأهل النار إلى النار . وهذا في آخر المطاف ، بعد أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين .
ولا عجب ممن كان السجود ديدنَه ، وجعلت قرة عينه في الصلاة ، وهي الصلة بين العبد وربه ، ويقرب العبد من ربه أقرب ما يكون إذا سجد له ، يسأل العبد ربه بعد أن أدناه منه ، فيستجيب الرب لدعاء العبد ويعطيه ما يتمناه . أفلا نستجلب رحمة ربنا بالسجود ؟ أفلا نستمطر عفوه بالسجود ؟ أفلا ندفع بلاء أمتنا ، وننهي مصائبها بالسجود له تعظيما وتكبيرا ؟
أيها المسلمون : للسجود شأن عظيم ، يعرفه من تلذذ به ، وملكت ذلته شغاف قلبه ، وذاق طعم الخضوع به للرحمن ، تعبدا وإجلالا ، فالتحق بالركب من أولي العلم الممدوحين في كتاب الله تعالى بقوله : إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا .
ومتأسيا بركب عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ، ويبيتون لربهم سجدا وقياما . فيسألونه صرف عذاب جهنم عنهم بالسجود والقرآن ، لما عرفوا قيمته ، وأدركوا أهميته وذاقوا حلاوته ، تمثل فيهم قول مولاهم : أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه . وهذه الآية من العجائب ، فقد عبر بالقنوت إشارة إلى الإخلاص والتجرد ، وذكر وقته ، وهو الليل دليلا على أفضليته ، ودليلا على إخلاصه ، والقنوت يشمل القيام والدعاء والإطالة فيهما، ثم قدم السجود على القيام ، مع أن السجود لا يكون إلا بعد قيام ؛ لأنه غايته ، ولبيان شدة القرب من مولاه لما تجرد له وأخلص ، فكأنه دنا واقترب ، فعرفه فقام بما تقتضيه العبادة من خوف ورجاء .(/1)
وهو في سجوده يعلم يقينا أنه يزداد بهذا السجود عزا ، وينال به الحصانة من الشياطين التي تؤز الكافرين أزا .
وهو في سجوده يتذكر قول إبليس لعنه الله ، وأعاذنا وذريتنا منه : أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت ، فلي النار . أخرجه مسلم .
أيها الساجدون : كيف يأبى السجود من علم فضله وثوابه ، ومنزلته عند ربه ، فعن معدان بن أبي طلحة قال : لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله علي وسلم فقلت : أخبرني بعمل يدخلني به الله الجنة ، أو قال : قلت : بأحب الأعمال إلى الله تعالى ، فسكت ، ثم سألته فسكت ، ثم سألته الثالثة ، فقال : سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : عليك بكثرة السجود ؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة ، وحط عنك بها خطيئة . رواه مسلم .
وعن ربيعة بن كعب رضي الله عنه قال : كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيته بوَضوئه وحاجته ، فقال لي : سلني . فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة . قال : أوَ غير ذلك ؟ قلت : هو ذاك . قال : فأعني على نفسك بكثرة السجود . رواه مسلم .
وعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من حالة يكون العبد عليها أحب إلى الله من أن يراه ساجدا يعفر وجهه في التراب . رواه الطبراني . وإسناده حسن .
فأين من أراد الرفعة ، وطلب المحبة ، يعفر وجهه في التراب إرضاء لربه ، وطاعة لمولاه وتذللا بين يديه ، ورغبة فيما عنده ، وطمعا في جنته ومرضاته .
أيها الساجدون : السجود أصله التطامن والتذلل ، وهو عام في جميع المخلوقات حيوانها وجمادها ، لكن ما عدا الثقلين لا يسجد باختياره ، بل يسجد لله كرها . ويسجد بعض الناس لله طوعا . كما أخبر سبحانه عن ذلك فقال : ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال . فالسجود سمة من سمات الخلق جبلوا عليه ، ذلة وصغارا للواحد القهار ، ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وكثير من الناس ، وكثير حق عليه العذاب .
ولا يغب عن ذهنك أخي الحبيب ختام هذه الآية : ومن يهن الله فما له من مكرم . فالهوان كل الهوان في ترك السجود ، والعز كل العز في السجود ، فتأمل حالة الأمة وذلتها بناء على هذه الآية يستبن لك السبب جليا ومبينا .
واربط ذلك مع من ذكرهم الله تعالى في سورة مريم ، مثنيا ومادحا ، لنتأسى بهم ، ونقتبس من نورهم فقال في ختام ذكرهم : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا ( أعد : وممن هدينا واجتبينا ) إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا . وانظر إلى خلفهم وتأمل ما أضاعوه ، وما اتبعوه ، وما هي نتيجة ذلك ، فسوف يلقون غيا . فلا والله لا تهتدي الأمة إلا بما اهتدت به الرسل ، وبما فعلته من السجود والبكي .
معاشر الساجدين : إذا ضاقت صدوركم ، وكثرت همومكم ، وتكالبت عليكم أعداؤكم ، فدونكم العلاج فتناولوه ، وبين يديكم الدواء فاستعملوه : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين . ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
وخذ بالسجود أيها الكريم لتتقوى به على مكر الأعادي وبطش الحاقدين ، وتواجه به قوة الجبابرة ، فهذا هو سلاح السحرة حين تبين لهم الحق ، فالقي السحرة سجدا ، قالوا آمنا برب هارون موسى . فتوعدهم اللعين بالقتل والصلب والعذاب الشديد ، ولكن الإيمان قد رسخ في القلوب ، ومن ذلت جبهته لرب العالمين أكرمه الله برفعة هامته ، وتثبيته على الحق ، ونيل كرامته . فقالوا له بكل رسوخ ووضوح : اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا .
فيا فوز المعفرين جباههم سجدا لله وهم داخرون ، يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون ، يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون . فكان متمثلا بالملائكة المقربين ، والأنبياء والمرسلين ، لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون . فما طأطأ جبينه أبدا إلا للواحد الأحد ، فلا والله لا يدخل قلبه خوف ممن سواه ، أو رجاء فيما سواه ، وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا .(/2)
أيها المسلمون : بأثر السجود مدح الله صحابة نبيه ومصطفاه ، صلى الله عليه وسلم ، ورضي عنهم وأرضاهم أجمعين ، محمد رسول الله ، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود . وإنما طهر البيت الحرام للطائفين والعاكفين والركع السجود . الذين لا يستكبرون ، ولعظمته يخضعون ، وبآياته يؤمنون ، وبه لا يشركون ، إنما يؤمن بآياتنا الذين إذ ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون . فحق لهم أن ينتظموا في سلك البائعين نفوسهم وأموالهم لله ، إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة . والمؤمنون في هذه الآية ، الذين هم أهل البيعة ، هم الموصوفون في الآية التي بعدها : التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله ، وبشر المؤمنين .
فيا أيها المسلم ، كن في سلك الساجدين ، وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين . واحذر طريق الهالكين ، الكافرين المعاندين الذين إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ؟ أنسجد لما تأمرنا ، وزادهم نفورا . فهم لا يؤمنون ، وإذا قريء عليهم القرآن لا يسجدون .
ولكن الزم غرز الفائزين المستجيبن لأمر ربهم الخاضعين لهيبته ، الطائعين لأمره حين أمرهم فقال : يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون . وقال : فاسجدوا لله واعبدوا . واعلموا أنكم في ركب النجاة سائرون ، ومن ربكم جل جلاله مقربون ، وبالعز والسؤدد مرفوعون ، واقتد بالملائكة امتثلت أمر ربها بالسجود لآدم فسجدوا ، وأبى إبليس أن يكون مع الساجدين فقال له : اخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين . فكان إبليس للمتكبرين عن السجود إماما ، ويوم القيامة في النار لهم قرينا .
وتعجب من طائر لا يعقل مثل ما يعقل المعرضون ، يأتي سليمان فيقول له : أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين ، إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ، ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون .
وكرر سؤال الهدد وتعجبه على نفسك مرارا ، وأعده ليلا ونهارا ، ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما يخفون وما يعلنون . الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...
الخطبة الثانية :
الحمد لله ، رفع بالسجود له هاماتنا ، وأعلى بالخضوع له قاماتنا .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يعز من أطاعه ، ويذل من عصاه ، فنسأله أن يجعل طاعته لنا سجية ، وذكرَه من طبعنا وعاداتنا .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، بلغنا الرسالة ، وأدى إلينا الأمانة ، فحق علينا أن يكون لنا منهجا عاما في جميع أمور حياتنا . صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
أما بعد ، فاتقوا الله عباد الله ، وتمسكوا بحبله المتين ، وتقربوا إليه بالسجود له تنالون حظا وافرا من خيري الدنيا والآخرة. فقد أخرج الإمام أحمد من حديث عبدالله بن بسر المازني ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ما من أمتي إلا أنا أعرفه يوم القيامة. قالوا : وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق ؟ قال : أرأيت لو دخلت صُبرة فيها خيل دهم بُهم ، وفيها فرس أغر محجل ، أما كنت تعرفه منها ؟ قال : بلى . قال : فإن أمتي يومئذ غر من السجود ، محجلون من الوضوء .(/3)
فكن يا عبدالله من هؤلاء تفلح ، ولا تكن من الخاسرين الذي كانوا يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ، فإنه في يوم القيامة ينادي مناد : ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم ، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم ، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم ، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر ، وغُبرات من أهل الكتاب ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب ، فيقال لليهود : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد عزيرا ابنَ الله ، فيقال : كذبتم ، لم يكن لله صاحبة ولا ولد . فما تريدون ؟ قالوا : نريد أن تسقينا ، فيقال : اشربوا ، فيتساقطون في جهنم . ثم يقال للنصارى : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد المسيح ابن الله . فيقال : كذبتم ، لم يكن لله صاحبة ولا ولد . فما تريدون ؟ قالوا : نريد أن تسقينا . فقال : اشربوا ، فيتساقطون ، حتى يبقى من كان يعبد الله ، من بر أو فاجر ، فيقال لهم ما يحبسكم وقد ذهب الناس ؟ فيقولون : فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم ، وإنا سمعنا مناديا ينادي : ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون ، وإنما ننتظر ربنا ، قال : فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا ، فلا يكلمه إلا الأنبياء ، فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونه ، فيقولون : الساق ، فيكشف عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ، ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة ، فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا . أخرجه البخاري .
عبدالله : أنت اليوم مدعو للسجود وهو أمر ممكن ، فعليك به قبل أن تدعى إليه فلا يمكنك : يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقه ذلة ، وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون .
ومن لم يستطع سجودا في الدنيا خلده الله في نار جهنم والعياذ بالله ، ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد ، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار ، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك باه شيئا ، ممن أراد الله أن يرحمه ، ممن يشهد أن لا إله إلا الله ، فيعرفونهم في النار بأثر السجود ، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود ، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود . الحديث .
فيا عبد الرحمن كن من الساجدين للرحمن ، فلله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون ، والنجم والشجر يسجدان ، واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا .
وصلوا على المختار نبيا ورسولا ، وصفيا وخليلا ، إن الله وملائكته ....
قاله / فضيلة الشيخ / عادل بن سالم الكلباني الجمعة 5 ذي القعدة 1425(/4)
واصلوا جهادكم يا مسلمي الصومال!
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
نعم واصلوا جهادكم، ولا تفتروا وموتوا في سبيل الله ولا تستسلموا، وكونوا أذكى من مارد العصر وطاغوته، لا يخدعنكم المعتدي الصليبي الذي أشعل الأرض كلها فتنة على المسلمين، لا يخلو بلد من بلدانهم من عدوانه إما بالسلاح مباشرة، كما هو الحال في العراق وأفغانستان، وإما بالوكالة كما هو الحال في الأرض المباركة فلسطين، وفي أرضكم التي خطط لغرس عملائه فيها ليجتثوا شجرة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم منها.
أرسل جيوشه العدوانية وأسلحته المدمرة، وسلط عملاءه الذين رباهم في بلاده وحملهم على دباباته وطائراته، ومكنهم من اعتلاء كراسي الحكم في بلادهم ليقتل بهم أبناء وطنهم ويشردهم ويقضي على الأخضر واليابس فيها باسمهم، وحاول أن يخدع من لا ألباب لهم بإجراء انتخابات تمثيلية في العراق وأفغانستان كاذبة، تحت أزيز الطائرات المقاتلة وإطلاق الصواريخ التي دمرت المحافظات والمدن والقرى العامرة.
وقد انفق – ولا يزال ينفق مليارات الدولارات – في كل أنحاء الأرض ليحسن وجهه القبيح عن طريق عملائه الصغار والكبار، وعن طريق وسائل الإعلام التي يوجهها عبيده المنافقون
وإننا لنرجو من الله تعالى أن يوفق رجال الإسلام في كل بلدان المسلمين، أن يعدوا أنفسهم للدفاع عن أوطانهم ودينهم وأمتهم، ويتوكلوا على ربهم ضد هذا الطاغوت المتجبر في الأرض الذي استعمل نعم الله التي ابتلاه بها في معاصيه وفي الاعتداء على خلقه، ليفشلوا عدوانه ويقضوا على مآربه فيخسر أمواله ويهزم الله جيوشه وبقتلهم شر قتلة ويخرجهم من ديار المسلمين ذليلين حقيرين لا يلوون على شيء، وما ذلك على الله بعزيز:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال (36)]
واليوم وقد رأى المعتدي هزيمة عملائه وانتصاركم في الصومال، بدأ يغازلكم ليخدعكم، ظنا منه أنكم من رجال الدراويش الذين التفت حولكم جماهير الشعب التي ذاقت الأمرين من الحروب الطاحنة في بلادكم.
إنهم سيخدعونكم بالتعامل معكم طامعين في إجراء تمثيلية جديدة من الانتخابات التي أجروها في العراق وأفغانستان، إنهم سيجيشون عملاءهم في الداخل والخارج ويغدقون عليهم الأموال ليوزعوها على من يظنون أنهم سيثقلون كفتهم في الانتخابات الديمقراطية الأمريكية! وينصبوا على حكم البلاد عملاء قد أعدوهم مثل ما أعدوا عملاءهم في العراق وأفغانستان، فاحذروا لعبتهم القذرة ولا تصدقوهم، فالشك في صدق الكاذب مرة واحدة هو الأصل، فكيف بمن لو وزن كذبه لأثقلت كفته كفة الجبال! فواصلوا جهادكم وموتوا شهداء دفاعا عن وطنكم ودينكم وأمتكم، واحسموا أمركم مع عملاء المعتدين، فإما أن يعودوا إلى رشدهم و يلقوا سلاح الصليبيين ويضعوا أيديهم في أيديكم وأيدي شعبهم فتكونوا معهم كما قال الله تعالى:
{لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة (8)]
وإما أن يلجوا في طغيانهم و ينفذوا أوامر أسيادهم، فبينكم وبينهم قول الباري جل وعلا: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة (9)]
وقوله تعالى: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة (194)}
فكل من اعتدى عليكم أو أعان على العدوان عليكم وظاهر عدوكم عليكم في بلادكم فهو معتد كافئوه بمثل عدوانه.
{وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (142) [آل عمران](/1)
واقع العالم الإسلامي عقبات وحلول 2
(2/2)
الاعتماد على الذات :
إن الاعتماد على الذات يأتي بعد التوكل على الله سبحانه ثم الأخذ بالأسباب وهو المنطلق الوحيد لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والخلاص من التبعية المذلة وإثبات للوجود بما تتوصل إليه الدول الإسلامية في تعاونها المخلص من تحقيق التفوق في مختلف مجالات الحياة.
ولايعنى هذا القول أن الدول الإسلامية أوغيرها من الدول وتستطيع الاستغناء عن غيرها استغناء كليًا وإنما يعنى أن لاتكون دولاً استهلاكية لإنتاج غيرها وتقتصر هي على مايدخل عليها من قيمة الموارد التي تستخرجها من أراضيها بجهود غيرها .
والعالم الإسلامي على سعة رقعته وتنوع مواردها وتعداد مواطنيه ، وعلى موقعه الجغرافي، لديه من الإمكانات ومن المواد الطبيعية ما إن أحسن استخراجها واستثمارها، لكان في المستوى الذي يرتجيه ويحلم في تحقيقه.
فهو غني في موارده الطبيعية، والمنتجات الزراعية والحيوانية ومصادر الطاقة والمعادن الصلبة والسائلة والأورانيوم.. لدرجة يستطيع معها تحقيق التكامل الاقتصادي والاكتفاء الذاتي في كثير من هذه الموارد التي يجب أن ينصرف إلى استخراجها واستثمارها بأفراده – ما أمكنه ذلك – وأن لايعهد بها إلى من يشتريها بأبخس الأثمان ، ثم يستغلها ويصنعها ويبيعها لنا بأغلاها.
كما أن العنصر البشري في البلاد الإسلامية غير قليل ، وهم المادة الخام الحقيقية التي يجب أن تنصرف إليها العناية والاهتمام، وإذا ما اعتنى بتأهيل وتدريب الفرد المسلم،مع ما يتحلى به من أخلاق حميدة، ارتفع مستواه الحضاري، لأنه العنصر الفعال في استثمار موارده الطبيعية وفي توفير الثروة المادية التي يستطيع بها أن يتزود بالعلوم النافعة وأن يسابق غيره في حلبة الصراع العالمي ويثبت وجوده وجدارته.
ويمكن الأخذ بمبادئ الإحصاء والتخطيط ودعم التعليم بمختلف مراحله وأقسامه، والتوسع في الاستثمار وتكوين الإطارات الفنية وتأهيل اليد العاملة ضمن خطوط تنموية مرحلية محددة.
ولابد من ملاحظة أن رقعة العالم الإسلامي – على سعتها – يتصل بعضها ببعض ، وتمتد من كلا الاتجاهين (شرق وغرب) بشكل أكبر مما تمتد به من الشمال إلى الجنوب، وتحتل بشكل خاص المناطق المعتدلة والاستوائية، وقليلاً من المناطق الشمالية الباردة.
كما أنه لابد من ملاحظة الأسباب المؤكدة لفشل التجارب الوحدوية العربية، وهو اهتمامها بالمؤسسات السياسية الفوقية دون اعتبار للتنسيق الاقتصادي والاجتماعي والثقافي كدعامة لها.
وإنه يجب علينا أن نلاحظ ونتأكد من أننا في واقع لايشرفنا من حيث كوننا مسلمين، مادمنا في حاجة مستمرة لالتماس معظم حاجياتنا الحيوية من دول ليس بيننا وبينها أية صلة عقائدية أو تاريخية، وأن المحتاج يقف ممن هو في حاجة إليه موقف الأدنى، إن لم يكن موقف الأذل، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
وهناك نقاط ذات علاقة بالموضوع لابد من التذكير بها وهي:
عصر التسابق العلمي :
إنّ عصرنا الحاضر هو عصر التسابق العلمي على أوسع مدى، وهذا التسابق لايعطي نتائجه إلا لمن ملك أسباب القوة في المال والرجال، واستثمر هذا المال في إعداد الرجال وصقل مواهبهم وإبراز قدراتهم في مختلف المجالات، فهم الثروة الحقيقية التي لاتعادلها ثروة أخرى، ووضع نصب عينيه تحقيق المصلحة العامة التي ترتفع بأفراد الأمة إلى أعلى المستويات، متجاوزًا عن تحقيق الحظوظ الشخصية والمتطلبات الذاتية المفرطة بالأنانية.
وإننا واجدون في التوجيه الإلهي أوامر تفرض علينا جميعًا إعداد القوة دون تخصيص لنوع هذه القوة، لتتمشى مع متطلبات العصر الذي نعيشه.
هذا العصر الذي يتميز عن غيره بأنه عصر التكتلات، كما سبق ذكره، وتجميع القوى وتوحيد الجهود، وأن التعصب الحساس في تكوين هذه التكتلات – بعد إعداد الرجال – هو المال ، وإذا كانت الدول الكبرى الغنية قد احتلت مراكز القوة والسيطرة وفرض النفوذ، فإن مرد ذلك يعود إلى أخذهم بالأسباب دون تواكل أو تسويف، وإنما بذل المال والجهد والدأب في تحقيق ماتصبو إليه هذه الدول، والمحافظة على تفوقها العلمي والتزود منه ما وسعها ذلك.
وإن قيام سوق إسلامية مشتركة سيحقق للدول الأعضاء فيها ما يفقدونه وهم أبعد ما يكونون – في واقعهم – عن مبدأ التعاون المشترك الذي تحرص عليه هذه الدول المتقدمة صناعيًا وماديًا.
ضرورة التغيير للأصلح :
إنا نحن معاشر المسلمين في واقعنا الحاضر نتلمس السبل التي تخفف من تخلفنا أو ترفع من مستوانا، ونتغافل عن السبل التي هي أكثر نفعًا لنا وتحقيقًا لطموحاتنا، وهي التعاون المشترك في مختلف مجالات الحياة، ومن أبرزها وأكثرها فعالية المجال الاقتصادي الذي تدعو إليه منظمة المؤتمر الإسلامي وغيرها من الهيئات العاملة في الحقل الاقتصادي والاجتماعي.(/1)
فما أحرانا، وجميعنا يدرك سوء أوضاع العالم الإسلامي – أن نجعل من تفرقنا وحدة، ومن تشتتنا قوة، ومن تجميع إمكاناتنا الطبيعية والاقتصادية والبشرية منطلقًا لنأخذ مكاننا الذي نستأهله في خضم هذا الصراع العالمي الذي يفتقد أمة الإيمان، هذه الأمة التي أعدها الله سبحانه لتكون خير أمة أخرجت للناس ما تمسكت بأوامره وأخذت بتعاليمه وتوجيهاته.
وأمتنا الإسلامية اليوم تعيش مرحلة هامة من تاريخها المعاصر، فهي ليست في المستوى الذي ترتضيه لنفسها فقد تخلص معظم شعوبها من الاستعمار الأجنبي، ولكنها بغالبيتها رضيت أن تكون مع الخوالف، تابعة للمستعمر فكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا إلا من رحم ربك.
ومن هؤلاء الذين لم تتغشاهم هذه الهيمنة الفكرية والتبعية الاقتصادية والانبهار الحضاري المادي، صدرت صيحات التحذير بضرورة التنبه إلى مآل هذا الانحدار المخيف، وأن خير طريق للنجاة من هذا المنحدر الخطر، هو سلوك الصراط المستقيم الذي هدانا الله إليه بقوله:
?وَأَنَّ هاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيْمًا فَاتَّبِعُوْه وَلاَ تَتَّبِعُوْا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيْلِه ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ? سورة الانعام الآية 153.
الحكمة ضالة المؤمن :
ليس هناك مايمنع الدول الإسلامية من أن تنتفع بتجارب الآخرين، الذين وجدوا المصلحة في تجميع قواهم وتوحيد جهودهم – على اختلاف عقائدهم وأعراقهم – ورفع الحواجز والقيود عن مواطنيهم، وأموال مواطنيهم في أن تستثمر وكأنها في دولة واحدة.
وأن يتحقق في تجمعهم مبدأ التخصص النوعي والمكاني، والحرص على توفير الأمن الغذائي وأن يتمكنوا من هذا المنطلق من فرض وجودهم على أكبر تكتل آخر سبقهم بالوجود، وأن ينافسوه في تخصصه أو في إمكاناته، وأن لايكونوا تبعًا أو فريسة سهلة بسبب تفرقهم لمن هو أقوى منهم، وأن تكون خبراتهم وخيرات بلادهم مرصودة لصالح شعوبهم المشتركة.
بعض عوامل القوة :
إننا إذا نظرنا إلى أبرز عوامل القوة والتفوق في ميادين الحياة، وجدناها لاتخرج عن التعاون الصادق، والتناصح المخلص، والتآزر المجدي . وهذه جميعها عوامل يتداخل بعضها ببعض، وتستتبع عوامل أخرى لاتقل عنها أثرًا في تمتين أواصر المحبة والألفة في سبيل مستقبل أفضل يلفهم جميعًا بظلاله الوارفة ورعايته الشاملة.
وينتفع بآثار هذه العوامل – إذا ما تحققت – أفراد كل دولة من الدول ما أخلص ولاة أمورهم في حسن قيادة الركب إلى الصراط السوي، وكذلك الدول التي ترتبط برباط العقيدة والمصير.
وذلك بضم قوة إلى قوة ، فتتشكل من مجموعتهم قوة هائلة وتكتل ضخم، له من تماسكه ما يستطيع أن يقف أمام تجمعات الدول الأخرى والأحلاف التي تربط فيما بينها موقف الند للند، للمحافظة على مصالح الشعوب الإسلامية ونصرة من يتعرض منهم لهجوم من أعدائهم، وتوفير الرخاء والهناءة والكرامة لأفرادهم، والمسارعة في مديد العون لباقى الشعوب الإنسانية المستضعفة أو المنكوبة.
السوق الإسلامية ضرورة حتمية :
إن الدعوة إلى قيام سوق إسلامية مشتركة لم تعد مجرد فكرة عابرة، وإنما هي رغبة ملحة أخذت تتفاعل في نفوس أولي الأمر، من يوم أن نادى بها خادم الحرمين الشريفين قبل أربعة عشر عامًا عندما كان ولياً للعهد بقوله في 7 صفر من عام 1396هـ:
(إن الأمة العربية ستخوض أي حرب قادمة وستنتصر فيها بإذن الله، وإن الوسائل السليمة لم تعد هي الطريق لاسترداد الحقوق، وإننا يمكن في المستقبل أن نشكل جميعًا وحدة طبيعية لسوق إسلامية مشتركة أعم وأشمل، وإذا تحققت فكرة السوق الإسلامية يمكن أن يتحقق لكل الأشقاء الخير الكثير في الحقل الاقتصادي).
هذه هي النظرة الشمولية لآثار السوق فيما إذا قامت على ساقها وآتت أكلها بإذن ربها.
وقد تبني هذه الدعوة وزادها أيضاحًا من الناحية الموضوعية المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي الذي انعقد في مكة المكرمة فيما بين 21-26صفر 1396هـ .
وإن الجهة المختصة والقادرة على المبادرة في تحقيق قيام سوق إسلامية مشتركة هي منظمة المؤتمر الإسلامي، الذي انبثق عنها (البنك الإسلامي للتنمية)، كما انبثقت عنها الاتفاقية العامة للتعاون الاقتصادي والفني بين الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، وإن العمل على تنفيذ بنود هذه الاتفاقية سيؤدي بالنتيجة إلى قيام هذه السوق تلقائيًا .
كما أن قادة دول العالم الإسلامي الذين تجمعهم هذه المنظمة، وهم أعضاء في البنك الإسلامي للتنمية، هم أصحاب الكلمة الفصل في اتخاذ الخطوة الإيجابية لتحقيق هذه الرغبة، أو هذه المصلحة المشتركة ذات النفع المحقق للجميع كما قال خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – .
(وإذا تحققت فكرة السوق الإسلامية يمكن أن يتحقق لكل الأشقاء الخير الكثير في الحقل الاقتصادي).
استعراض عوامل الوحدة الإسلامية :
وأخيرًا فإنه لابد من استعراض عوامل الوحدة الإسلامية ومؤيدات قيامها بإيجاز، وهي:(/2)
أولاً : أبرز عوامل الوحدة الإسلامية :
1- وحدة العقيدة (الإيمان بما جاء من عند الله).
2- التكوين الذهني والسلوك والقيم المستمدة من مبادئ الإسلام.
3- التاريخ المشترك لدول العالم الإسلامي.
4- اتصال أراضي البلاد الإسلامية بعضها ببعض ووفرة خيراتها وعدد سكانها.
ثانيًا: مؤيدات قيام الوحدة :
1- توليد القناعة لدى شعوب العالم الإسلامي وقادته بضرورة قيام الوحدة، عن طريق المؤسسات العلمية وخطباء الجمعة ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية.
2- تقليص النفوذ الأجنبي من مختلف المجالات واستبداله بتعاون مخلص بين دول العالم الإسلامي.
3- تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي فعليًا في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها.
4- توحيد الأنظمة بشكل عام، وبخاصة في الأمور الاقتصادية والمالية والتعليمية والإعلام.
5- مبادرة المخلصين من قادة الأمة الإسلامية إلى العمل المشترك والتعاون الصادق بما تسمح به ظروف كل منهم في مختلف المجالات الحيوية لشعوبهم، لأن التعاون بين دولتين أو أكثر يتطلب حدًا أدنى من التجانس والتعاطف بين السكان والتقارب في تكوينهم الذهني وسلوكهم الاجتماعي.
6- المسارعة من المخلصين من قادة الأمة الإسلامية في نجدة من يصاب من دول العالم الإسلامي بكارثة أو اعتداء.
7- تبادل الزيارات من رجالات العلم والاقتصاد والطلاب، والإكثار من إقامة ندوات علمية ومعارض سنوية ودائمة ومهرجانات رياضية وكشفية.
8- إيجاد مجلس اقتصادي أعلى من منظمة المؤتمر الإسلامي يتولى أمور الاقتصاد وما يتصل بها في دول العالم الإسلامي وتكون له السلطات العليا في هذا الخصوص والكلمة النافذة.
9- السعي إلى تطبيق بنود الاتفاقية الاقتصادية ووضعها موضع التطبيق الشامل ولو كانت ظروف بعض الدول تحول دون ذلك، فيُصَارُ إلى تنفيذ هذه البنود مع الدول الأخرى حتى يُتَاحُ لباقي الدول المشاركة الفعالة .
10- إقامة السوق الإسلامية المشتركة، لتلمس الشعوب الإسلامية آثار التكتل والتعاون في هذا المجال كما تلمسته دول منظمة المؤتمر الإسلامي الأعضاء في (البنك الإسلامي للتنمية).
(الطريق إلى الوحدة الإسلامية)(/3)
واقع المستغربين : أجساد مغلفة بالوطنية وقلوب تنضح بالقيم الغربية
إبراهيم الحارثي
</TD
لا يسعني في هذا المقام إلا الدعاء للمفكر الكبير المسلم المعتز بدينه والشامخ بايمانه (( سيد قطب )) رحمه الله .
قبل البدء أرى لزاما علي أن أنبه إلى أمرٍ عظيمٍ- بالنسبة لكل من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا - ألا وهو عقيدة الولآء والبراء إذ بها تتمايز الصفوف وينكشف ما في القلوب من دخن ويظهر الذين في قلوبهم مرض ، وهذه العقيدة سنة فارقة بين من يحب الله ورسوله وعباده المؤمنين وبين المرجفين الذين يتربصون بالذين آمنوا الدوائر عليهم دائرة السؤ ، ولكي نتبين ما نحن بصدده آثرت التقديم بهذه العقيدة لأهميتها وملازمتها لإيمان العبد وصدق توجهه نحو ربه تعالى .
الغرب الآن يمر بمرحلة خطيرة وبمنعطف صعب المخاض ، فآثار سقوطه بادية لعقلآءه قبل أعدائه ، وعوامل الانهيار تجلت في أكثر من صورة وبوضوح أكبر لكل ذي عينين ، ولعلّ أكثرها تميزا ذلك الظلم السافر الذي حذر منه القرآن الكريم ونفاه عن نفسه العظيمة رب العالمين ، وما مارسته أمة من الأمم إلا كانت نتائجه عليها وخيمة وعواقبه من ثم جسيمة . إضافة إلى عوامل كثيرة يصعب علينا في هذا المقام حصرها منها على سبيل المثال لا الحصر التفلت الأخلاقي والتفكك الاجتماعي والمخدرات التي تنهش في أبنائه وشبابه والإجهاض بين الفتيات الذي بلغ مبلغا عظيما ينذر بكارثة بشرية في تلك المجتمعات .
ورغم ما ذكرنا آنفاً من ضياع هذه المجتمعات وسقوطها دينياً وأخلاقيا وتفككها اجتماعيا إلا أنه يوجد من أبناء جلدتنا- وللأسف - وممن يتزيا بزينا الوطني ومن قلوبهم تتجه باتجاه الغرب من لا هم له إلا الرضاع من لبان ذلك الغرب والنهل من موارده الصدئة النتنة ، برغم علمهم أن الغرب قد أفلس قيمياً وحضارياً ولم يعد يتميز به إلا تصدير التقنية والآلة الحديثة وهذه الأخيرة نافسته فيها بعض البلدان الآسيوية كاليابان والصين وكوريا ، وأما تشدقه أي الغرب - بالديموقراطية فقد فضحهم الله على رؤوس الأشهاد حينما قال فرعونهم من ليس معنا فهو ضدنا ، فأين مبدأ الديموقراطية من معتقل جوانتناموا ومن سجن بوكا وسجن أبي غريب الذي جرّ على ديموقراطيتهم الخزي والعار والشنار .
لا أدري حقيقة هل (( فخخت )) رؤوس أذيال الغرب وأتباعه بحيث تجد أنهم بدأوا يتنادون بإصلاحات الغرب المزعومة والمكذوبة وهم إنما يريدون بذلك نسخ القيم الغربية بما تحمله من ضياع وتشتت وهدمٍ للقيم الإسلامية ومحاربة للشعائر الدينية ، ومن ثم إلصاقها في واقعنا الإسلامي وإحلالها محل قيمنا وثوابتنا ، والهجمات الأخيرة والشرسة تبين مدى ولآء هؤولآء القوم للغرب ومدى تبعيتهم له وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حينما بين (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه ..... الحديث )).
فطابور الغر ب يريدون منا التخلي عن قيمنا وثوابتنا زاعمين أن ذلك هو مبعث الحضارة والتقدم ، وتناسى هؤولآء القوم أن في الغرب ومن بداخله من ينادي بعكس قيمه ويصيح في قومه محذرا ومنذرا ، ومن هؤولآء تيار المحافظين الذين ينادون باحترام الشعائر الدينية التي تخصهم بالطبع وإلا فهم مجتمعون على حرب الاسلام ، وينادون بالقيم الأسرية واحترام النواحي الاجتماعية ومحاربة التفسخ والهجوم على مدن الخلاعة كنوادي العراة وسينما هوليوود ، هؤولآء منهم وفيهم ويفندون كذب وزعم النظم الغربية ويريدون تغييرها بما يخفف من عملية السقوط والانهيار .
وقد يتسائل متسائل ما المخرج من هذه الفتن المدلهمة وكيف التعامل مع هؤولآء المستغربين والإجابة تحتاج إلى بيان وتبيين ولكن الكفاية هي في تمسكنا بثوابتنا وعضنا على ديننا وإعلان شعائرنا أمام الناس أجمعين والدعوة إلى الله تعالى بكل ما أوتينا من مال ووقتٍ وجهد لأن هذا الدين وإيصاله إلى الآخرين أمانة في أعناقنا كل على قدر إيمانه وطاقته .
ولا بد أن نثق أنه مهما طال الطريق واشتدت ظلمة الليل فلا بدّ من انبلاج للفجر ولو بعد حين .
فان مع العسر يسرا
ومع الصبر الفرج
وسيكون أمثال هؤولآء المستغربين عبرة في التاريخ كما كان المنافقين من أمثال أبي سلول عليه لعائن رب العالمين .
فالصبر الصبر والاحتساب الاحتساب والله ولي التوفيق(/1)
واقع هذه الأمة المرير
يتناول الدرس واقع المسلمين الذي أصبح الشغل الشاغل لكل غيور على دينه، فذكر أن الأمة لديها كل مقومات النجاح إلا أنها في مرحلة الغثائية التي تجعل تأثيرها ووجودها ضعيف، وجعلت المسلم لا يشعر بقيمته ولا بإسلامه، ثم استنفر القادرين للقيام بدورهم كخطوة أساسية على طريق الإصلاح .
إن الحمد لله؛ نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله؛ فلامضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلى وسلم على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:
أحبتي لعل الموضوع الذي يدور في أذهان الجميع، هو واقع هذه الأمة المرير، الذي أصبح الشغل الشاغل لكل غيور على دينه، إنها أمة:
أما عددها: فكما قيل: عدد الرمل والحصى والتراب .
وأما إمكانياتها: فحدث عن البحر ولا حرج، فإن الله وضع يدها على مفاتيح خزائن الأرض .
وأما تاريخها: فالقرون الطويلة في الجهاد والعلم والعمل .
وأما موقعها: فملكت أفضل البقاع ديناً، ودنيا، بل حتى في سمائها وجوها من الميزات ما ليس في بلاد الدنيا .
وأما عيبها: فهو الذي تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال صلى الله عليه وسلم: [بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ] رواه أبوداود وأحمد. وما هو غثاء السيل؟ إنه فقاقيع من الهواء، وزبد طائش تجري به السيول، وليس له من ثمر، بمجرد ما تشرق عليه الشمس يتبخر، ولو أخذت منه شيئاً بيدك لطار.
مرحلة الغثائية في هذه الأيام، منطقهم: ليس لنا عن الأمر شيء، ونحن أصفار على الشمال، ونحن لا نقدم ولا نؤخر، ونحن لا دخل لنا ... ونحن، ونحن ... حتى حفظوا كل هذه العبارات التي تنم عن الانسلاخ من الواقع، والبعد عن التأثير ، ورضوا بالذل، وأحسنهم هو الذي يعيش على الأماني:
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الجد دعوى فما ابتلوا
الأماني العريضة، والكلام الفارغ لكن حتى هؤلاء قليل، فأكثر هذه الأمة، حتى الأماني: أصبحت مقصورة على أشخاصهم، يتمنى الواحد منهم أن يكون ذا منصب كبير، أو يكون ذا راتب ضخم، أو يكون ذا بيت واسع، أو يكون ذا زوجة حسناء ...المشكلة :
ليست مشكلة العدد، فالعدد حدِّث ولا حرج، وعندنا والحمد الله ما ليس عند كل أمم الدنيا .
وليست مشكلة الثروة، فبلاد الإسلام تحتوى على أعظم الثروات .
وليست مشكلة الموقع، فموقع المسلمين هو أعظم المواقع في الأرض، بل يوجد في أجوائه فرص وإمكانيات لا توجد في أي أجواء العالم.
المشكلة هي فقد الإنسان...
عدم شعور المسلم في الوقت الحاضر بإنسانيته ولا بإسلامه
أولاً : عدم الشعور بالإنسانية : أما أنه لا يشعر بإنسانيته فلأنه اعتاد على الذل والهوان، وتجرع هذه الأشياء حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياته، حتى أنه لو أعطى شيئاً من العز، لتحير ماذا يصنع فيه. مثل ما يحكي عن بعض العبيد الأرقاء أنهم لما حررهم أسيادهم، ذهبوا لأنهم ما تعودوا على عمل ولا على اتخاذ قرار، فرجعوا إلى أسيادهم وقالوا : جزاكم الله خيراً أرجعونا عبيداً عندكم، لا نريد الحرية، لماذا؟ لأنهم ما تعودوا إلا على الذل، فالمسلم في كثير من بلاد العالم لا يشعر بإنسانيته هذه واحدة .(/1)
ثانياً : عدم الشعور بالإسلام : ثم لا يشعر بإسلامه الذي ميزه الله تبارك وتعالى به، لا يوجد في الدنيا كلها أمة لها قرآن غير هذه الأمة، فيه قوله تعالى: }وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ[139] { سورة آل عمران . ولا يوجد أمة في الدنيا غير هذه الأمة لها قرآن فيه قوله تعالى: }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [8] { سورة المنافقون . ولا يوجد أمة في قرآنها: }وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [65] {سورة يونس . إلا هذه الأمة، ورغم هذا كله فإن الأمة لا تكاد تسمع إلا من يحاول أن يجعلها تستمري الذل، ويصبح الذل جزءاً من حياتها ، بل أحياناً يصبح في دينها، وعقيدتها في نظر بعض الذين يُضَلِّلون ، ويقلبون الحقائق ، مع أن الإسلام دين العزة والكرامة ، وقد جاء الإسلام إلى أمة عربية تأبى الضيم في الجاهلية قبل أن تستنير بنور الإسلام ، كان العربي الجاهلي - الذي يسجد للصنم والوثن - يشمخ بأنفه عالياً، ولا يرضى بالمهانة بأي حال من الأحوال ، وكان يبذل نفسه ودمه وماله دون مكانته وكرامته، فلما جاء الإسلام زاد هذا الشموخ شموخاً ؛ بل إن أعداء الإسلام من الكفرة تعلموا العز من المسلمين ، فالأقباط في مصر كانوا يسامون العذاب، وكانت عليهم من المهانة والإذلال والضرائب والإتاوات وغيرها الشيء الكثير من بني جلدتهم، فلما فتحت مصر على أيدي المسلمين تربي القبطي على طعم العزة والكرامة، فأصبح وهو لم يسلم لا يستطيع أن يتحمل مقدار ظفر من الإذلال، ففي قصة المسابقة بين القبطي وبين ابن عمرو بن العاص لما سبق القبطي، فضربه ابن عمرو بن العاص، وقال له: خذها وأنا ابن الأكرمين، فأخبر القبطي والده، فرضي هذا الوالد أن يسافر من مصر إلى المدينة؛ ليشكو عند عمر رضي الله عنه ما لقي ولده من ابن الأكرمين بن عمرو بن العاص، مع أن الأمر لم يكن كبيراً بل ضربة عصى، كان يمكن أن يقول: الأمر هين، والمسألة ليست فيها مشكلة كبيرة ويتحملها، لكن تعلموا العزة - وهذه من بركات الإسلام، فيستدعي عمر رضي الله عنه عمرو بن العاص وولده، ويقول لعمرو: متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟ هذا مع كافر نصراني، فما بالك بالمسلم؟
فالمأساة التي يعيشها المسلم في كل مكان: أنه فقد الشعور بالعزة، وفقد الشعور بالكرامة بل أقول: في كثير من الأحيان فقد الشعور بالإنسانية وهذه كارثة في الواقع لا تقابلها - والله الذي لا إله غيره - أي كارثة ، ما قيمة الأمة إذا كانت بدون إنسان؟ وليس الإنسان جسداً فقط، أو شكلاً فقط: لا، الإنسان: معنى وقلب وعقل وروح قبل أن يكون جسداً . ما كرم الإنسان لأنه جسد، فيوجد من الحيوانات من هو أضخم منه… ولا لقوته الجسدية، فهناك من هو أقوى منه… ولا لجماله، فهناك من الطيور من هو أجمل منه. إنما كرم الإنسان بهذه الإنسانية؛ أن الله تعالى نفخ فيه من روحه، نفخ في آدم من روحه، وكلفه، وجعل التكليف عليه وأمره ونهاه، ووعده بالجنة إن أطاع، وبالنار إن عصى، هذا سر كرامة الإنسان… فمتى يشعر المسلمون بالعزة؟ ومتى يشعر المسلم بأن له دورا يجب أن يؤديه مهما كان الأمر ؟ المشكلة الأساسية: أن المسلمين أصبحوا الآن يتأقلمون، ويعتادون على أنهم أصفار على الشمال، وعلى أن هناك من يقوم بالمهمة لهم أو نيابة عنهم، على كافة المستويات: أما على الجوانب السياسية، فحدث ولا حرج، وهذا أمر معروف لا يحتاج إلى بيان، أصبح كثير من المسلمين يعتبرون البحث في هذه القضايا أصلاً من الفضول، وتدخل الإنسان فيما لايعنيه، وهذا على كافة المستويات، وخذ أيضاً على سبيل المثال في الناحية العلمية … في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر … في قضية الدعوة إلى الله عز وجل، تأتي إلى أكثر المسلمين، بل طلبة العلم، بل المشايخ والدعاة أحياناً ، تجد الكثير منهم لا ينشط للدعوة إلى الله، ولا ينشط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتحمس لماذا؟ لأنه يرى أنه قد كُفِي بغيره وكفي المئونة، وأن هناك من قام بالدور … سبحان الله: هل فعلاً الأمة يكفيها، ويعذرها عند الله عز وجل أن يوجد فيها عالم واحد إذا اجتهد وأخطأ تخطئ الأمة كلها تبعاً له؟ أبداً، ما عهد هذا في عصور التاريخ كلها ، بل كانت الأمة تملك مئات الألوف من العلماء الجهابذة الكبار، فإذا زل عالم باجتهاد؛ صحح له تسعمائة وتسعة وتسعون عالما، أما اليوم فقد انتهت النوبة، وأصبح العلماء يعدون على الأصابع، ولا يبلغون أحياناً في البلد الواحد ؛ فإذا اجتهد عالم فزلَّ في مسألة زلت الأمة وراءه كلها أو كادوا، لأنه لا يوجد من يصحح، وهذا ليس خطأ العالم بل خطأ الأمة.(/2)
زرنا دولاً عظيمة، بلاد إندونيسيا فيها حوالي مائتين مليون مسلم، تسأل أين العلماء، فلا تجد إلا أفراداً معدودين، والله إن العيون لتبكي، وإن القلوب لتحزن، وإن النفوس لتتقطع أسى أن لا تجد في هذا البلد الطويل العريض، إلا عالماً واحداً جيء به على كرسي، لأنه رجل مسن وقد فقد كثيراً من قواه، وأمثاله أندر من الكبريت الأحمر في العالم، من لهذه الأمة؟ هل فعلاً سنظل ندور هكذا في حلقة مفرغة، ننتظر فلاناً و فلاناً، فإذا مات فلان نجلس نتفرج على بعض، إن الله تعالى لم يتعبدنا بانتظار شيء ينزل من السماء أو يخرج من الأرض فيما يتعلق بتكاليف البشرية، إنما تعبدنا الله تعالى بأن يقوم كل واحد منا بالواجب ، فالإسلام ليس مرتبطاً بأشخاص، فالأشخاص يذهبون ويجيئون، والإسلام دين الله عز وجل الذي تكفل بحفظه: }إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[9] { سورة الحجر . } فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ [89]{ سورة الأنعام . }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [54] { سورة المائدة . } هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [38] { سورة الحديد . تحطمت على صخرة الإسلام تيارات، وأمم وجحَافل مُدجَّجة جرَّارة هادرة طمرت في التاريخ وبقى الإسلام شامخاً مرتفعاً، ولا يزال هكذا حتى يرث الله الأرض ومن عليها... لا يزال الله يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته، ولا يترك الله عز وجل بيت مضر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الإسلام: بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر، ومسكين ذلك الذي يقف في وجه الإسلام، الإسلام حركة الأمة ... حركة المجتمع ليس مقصوراً في زاوية أو في مسجد، ولا في فئة من الناس، الإسلام روح هذه الأمة، يكفيك في عظمة هذا الإسلام، وقوة تأثيره، وعمق رسوخه في الأمة: أنه حتى أعداء الإسلام أصبحوا يتمسحون به الآن، ويرفعون شعاره، ويدعون أنهم من أنصاره و أوليائه، وأنهم من أجله يسالمون، ومن أجله يقاتلون، كل ذلك يريدون من الأمة أن تمنحهم شهادة حسن سير وسلوك، هل نريد أكثر عزاً للإسلام من هذا ؟ هذه آية عظيمة على عز هذا الدين، وأنه روح هذه الأمة، وأن هذه الأمة باقية، وروحها باقية: روحها هذا الإسلام، ويجب أن يكون كل فرد منا ... كل فرد من المسلمين الأصل على ثغرة من ثغور الإسلام يحامي أن يؤتى الإسلام من قبله في ميدانه. الطالب في فصله ... والعالم في مختبرة ... والطبيب في عيادته ... والمعلم في مدرسته ... والداعية والإمام والكبير والصغير، يجب أن نجند أنفسنا جميعاً لخدمة هذا الدين، و لو تصورنا أن يستجاب لهذا الكلام وهذا الفهم مليون فقط، والله تتغير أوضاع الأمة بين يوم وليلة، لو شعروا بمسئوليتهم، فلا تنتظر أحداً يقوم بالمهمة عنك.... أحداً يؤدي الواجب عنك.... لا، أنت قم بما تستطيع، أقل ما تستطيع أن تقوم به هو أن تعد نفسك لتكون مؤثراً في المستقبل: بعلم شرعي صحيح، بدعوة صادقة، بحسن أسلوب، بصلة الناس، بعمل، بوظيفة، بأي أسلوب تستطيع أن تقدم خدمة لنفسك، لدينك من خلاله.
وهذا من أهم الوسائل التي تزيد من رسوخ هذا الدين في المجتمع، وعمقه ومتانته، وتجعل أي إنسان يحسب له ألف حساب قبل أن يوجه للإسلام وأهل الإسلام أي إهانة، لأنه يعرف هذه الأمة وغِيرة هذه الأمة، وشدة حرص هذه الأمة على دينها، وغضبها لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، أما أن نكون أصفاراً على اليسار، وأرقاماً بدون رصيد، وأمماً هائلة من حيث العدد لكن التأثير كما قيل:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود(/3)
فهذا ما لايكون... نحن لا نطالبك أن تؤثر في مجريات الأحداث الدولية إذا حصلت قضية كبرى، فتقول ما هو دوري، حدثنا ما هو دورك في أصغر قضية تتعلق بك الآن، يسأل أحدهم ما هو دوره في خصومة بين أمريكا وروسيا مثلاً ، وينسى أن يسأل عن دوره في منزله، أو في المسجد، أو في البلد الذي هو فيه، أو في المنطقة التي يعيش فيها... مشكلة أن تكون كما قيل عن أهل العراق: يقتلون الحسين ويسألون عن دم البعوضة ... حدثنا يا حبيب بارك الله فيك عن دورك في مجالك الذي تعيش فيه ... حدثنا عن دورك في بناء ذاتك ... بناء شخصيتك ... حدثنا عن دورك في المسجد ، في المنزل، في الفصل الذي تدرس فيه أو تُدرس ... حدثنا عن دورك مع زملائك، ثم بعد ذلك تسأل عن دورك فيما هو أكبر من هذا ... يجب أن يشعر الفرد منا بإنسانيته، وتكريم الله عز وجل له. وثانياً حقيقة هذا الدين الذي ينتمي إليه، وثالثاً يحدد ما هو الدور الذي سيقدمه لدينه.
أسأل الله تعالى أن يجمعنا في دار كرامته في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من محاضرة : واقع هذه الأمة المرير للشيخ / سلمان العود(/4)
واقعية الحياة
أ. إسماعيل رفندي
لا شك أن المرء يؤثر ويتأثر في بيئته ومحيطه حسب آليات ودوافع التفاعل بينهما، ومن ثم يظهر الأثر وتأتي النتيجة,إما بالرفض والانزعاج والتدهور أو بالقبول والانسجام والتطور.
هكذا الحياة في مساراتها الأساسية نابع من منابعها الواقعية الفاطرة من لدن فاطر البشرية، ومنظم جميع سنن الحياة ، منذ أن خلق الخليقة ,وجاء بجميع الاطراف الرئيسية في المعادلة الكونية , من الجمادات المسخرة والمخلوقات العاقلة وعالم ميتا فيزيقيا، وألغاز الحياة الراقية في أطر الباراسايكولوجيا ( أي كل ما يقع في حدود عالم الغيب وبكافة مراحلها وأنواعها ) ومع كافة المؤثرات المرئية والمسموعة .
لذا لا بد من الفهم الحقيقي للحياة ومن ثم القدرة على التوجه نحو التفاعل بالواقعية مع الحياة ، والقدرة على تحليل سنن الحياة بكافة تطوراتها وتحولاتها ومضامينها .
ومن هنا يتحدد للمرء رؤاه وطبيعته وتصوراته ، ولا شك يأتي بعد ذلك مدى تعامله الإيجابي والسلبي مع من حوله و مع ذاته وفاطره .
ومن هذا المنطلق نستطيع القول بأن كافة مجالات الحياة تعتبر الأطر العامة للواقعية من حيث البديهيات المعقولة على مستوى الإنسانية , فالحياة الاجتماعية تتأثر بأعرافها،
والحياة السياسية تتغير بممكناتها .
فالدوافع النفسية تتقدم و تتأخر بأسبابها ، والمشاريع الاقتصادية تثمر حسب خططها وتوازنها .
إذاً فإن مضمون الحياة واضح وفق هذه الواقعية, سواء كان بمحاولات الارتقاء نحو الأفضل أو بالتخطيط الواعي والإبداع، أو بالمراوحة العقيمة والركود الناتج من ضعف الواقعية .
كل ذلك تعتبر الصورة الحقيقية للحياة ، وأيضاً هو التعريف الحقيقي للإنسان .
لذا يجب أن نتعامل مع هذه الحقيقة بالواقعية، ولابد من إتباع فقه شفاف شامل حسب الخطوات التالية:-
1- دراسة الإنسان من كافة نواحيه النفسية والروحية والبيولوجية والعصبية.
2- البحث الدقيق والواعي في كتب فقه الواقع.
3- دراسة مجالات الحياة وفق قوالب العلمية والتخصص.
4- دراسة طرق وأساليب فنون التعامل مع الذات ومع الآخرين ومع المحيط.
5- وأيضاً لزيادة المعرفة بواقعية الحياة يجب الدراسة بعمق في العلوم التالية:-
ا- علوم السايكولوجيا.
ب- علم النفس الاجتماعي.
ج- الكتب السلوكية والأخلاقية.
د- كتب معرفة الغيب والباراسايكولوجيا.
هـ ـ معرفة سنن الكون والحياة.
و- كتب التحليل السياسي.
ى- قراءة التجارب من التراث الإنساني حسب الميول الذاتية والحاجة الواقعية.(/1)
واقع المسلمين
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
كم كان أهلكِ يا ديارُ بغفوةٍ ... ... فَتَحوا الطَريق لمجرمٍ مُتَطَوِّلِ
قَطِعوا حِبالَ أُخوَّةِ الإيمانِ ثُـ ... ... ـمَّ مَضَوا ليُعْلُوا رايَةَ المتَنَقّل
غَنَّوْا شِعاراتِ الضَّلال وَصَفَّقوا ... ... لِعَدُوّهمْ وَمُنافقٍ و مُضلِّلِ
فتحوا الدروبَ لكلِّ غازٍ مجْرمٍ ... ... فتحوا القلوبَ لكلِّ عِلْجٍ مُقْبِلِ
فتمزّقوا إرباً على عَصَبِيَّةٍ ... ... جَهْلاءَ ترمِيهِمْ بِأرْضٍ مجْهَل ( 1)
تاهوا ولفّهم الظَّلامُ و غُيِّبوا ... ... بَيْنَ المسارِبِ في الظلام الأَلْيَلِ
* ... * ... *
كم مَالَؤُوا ذاكَ العَدُوَّ وَكمْ تُرَى ... ... رَكنوا لطاغٍ فوْقَهُمْ مُسْتَجْهِلِ
حتى غَدوْا بْينَ الَّشعوب كأنّهم ... ... ذرُّ الرّمادِ بساحةٍ أو مَحْفلِ
أو فضْلُ ثَوبٍ قد أَضرَّ به البِلى ... ... يُلْقَى بقارعَةِ الطّريق مُهلْهَلِ
أَضْحَتْ شُعوبُ المُسْلمين غنائِماً ... ... ما بَيْنَ مَسْحوقٍ و بَيْنَ مُكبَّلِ
تركُوا سَبيلَ اللهِ واتخذوا الهوى ... ... شَرْعاً فَقُطِّعَ كلُّ حَبْلٍ مُوصِلِ
فإذا بنا عُصَبٌ مُشَتَّتَةُ الهوى ... ... أبداً وعاصِفةُ ارتجالٍ أعزَلِ
* ... * ... *
فِتَنٌ تأجّجُ في الصُّدُورِ وفي الربى ... ... لَهَباً ! وكلٌّ في لظاها يَصْطلي
دَوّتْ شِعاراتٌ مُزَخرَفَة الهوى ... ... سقطتْ و تاهت في طريق مُوْحِلِ
كلٌّ يقولُ أنا الذي ينجي الدِّيا ... ... رَ بوَهمِهِ وَشِعاره المتَعَجِّلِ
كُلٌّ يقولُ أنا " الذي "فإذا " الذي " ... ... ليسَ " الذي " يا ويحَ من لم يَفْعَلِ
أيْنَ المناهِجُ ؟! لا تَرى أحداً يُسَا ... ... ئِلُ عَنْ سَبيلٍ للنجَّاةِ مُفَصَّلِ
أو أَينَ أهْدافٌ وأيْنَ مَعَالمٌ ... ... تُجْلى عَلى دَرْبٍ إِليها مُوصِلِ
الدّرْبُ في شَرْقٍ يَتِيهُ ، وجَوْهَرُ الـ ... ... أهَدافِ في غَرْبٍ يضِلُّ و شمأَلِ
خَدرٌ يَسيلُ معَ الدِّماءِ و يغْتَلي ... ... بِيْن العُروقِ و في الفُؤادِ وَمفْصَلِ
ويُصفِّق الغافونَ في أَحْلامهمْ ... ... بَيْنَ الملايينِ التي لَمْ تَحْفلِ
* ... * ... *
ضَجَّتْ حَنَاجِرُهُمْ ! وأُلْهِبَتِ الأكـ ... ... فُّ لكُلِّ مُصْطِنع بَدَا و ممَثِّلَ
عَمّ الضجيج ! مظاهراتٌ هَاهُنا ... ... وهُنا على لَهَبٍ لَديْهَا مُشْعَلِ
ضَجُّوا ! وبعد هنيهَةٍ غابَ الضَّجـ ... ... ـيجُ وغابَ كُلُّ مصفِّقٍ و مُهَرْوِلِ
وتفرَّقَتْ تلك الحنَاجرُ والأكُـ ... ... ـفُّ وسَادَ صَمْتُ العاجز المتَنَصِّلِ
تمضي السِّنونَ ! تمرُّ تَسْأَلُ أَين مَنْ ... ... ضجُّوا و أَين حَصادُ جُهْدٍ مُمْحِلِ
* ... * ... *
يا أمَّتي ! كم مِنْ دِماءٍ قَدْ صَبَبْـ ... ... ـتِ وَمِنْ صريعٍ في الدَّيارِ مُجدَّل
كمْ جُدْتِ بالكفّ السخيّ على ميا ... ... دين النِّزالِ و جمْعِها ؟! لَمْ تَبْخَلي
قد جُدتِ بالمالِ الوفيرِ وَ بالدّما ... ... ءِ بكلِّ غُصْنٍ مِنْ شبابِكِ مخْضَلِ
كمْ منْ نسائِك قَد خَلَعْنَ قلائداً ... ... زانَتْ وَجُدْنَ بكلّ غالٍ مِنْ حِليَ
وطفولة هَبَّتْ تَواثَبُ في الحمى ... ... وَثْباً إلى الميْدانِ لمْ تَتَمَهَّلِ
جَعَلوا مِنَ الحجَرِ الأَصمِّ مَلاحِماً ... ... دَوَّتْ ! وَمِنْ عَزْمٍ هُدى المتأمِّلِ
فكأَنَّه العْملاقُ هَبَّ و دُونَه الـ ... ... أَقزامُ في هَلَعٍ و طول تَمَلْمُلِ
يا أُمّتي ! مَهْلاً ! بَذَلْتِ مَعَ السِّنيـ ... ... ـنَ تطولُ ! أيْنَ جَنى العطاءِ المجْزِلِ
* ... * ... *
يا أُمَّتي ! لِمَ ، بَعْد بَذْلِكِ ، لم نَجدْ ... ... إلا الهَزائِمَ ؟! هَلْ وقفْتِ لتسألي ؟!
يا أُمّتي طالَ المدى ! عظَمُ البَلا ... ... وَعَلا نَشيُدُ القاعِد المتقوّلِ
كمْ مَهْرجَانٍ صاخِبٍ متموِّج ؟! ... ... كمْ نَدْوة ؟! كم مُلتَقىً ؟! كم محْفِل ؟!
هلا وقَفْتِ لتسْألي سَبَبَ الهزا ... ... ئم والقوارِع ؟! فانْظُري و تَأمَّلي !
كم حَوّلوا بِالوَهْم كُلَّ هَزِيمَةٍ ... ... نَصْراً وَزانوا مِنْ ربىً أو منزِلِ
أخْفَوْا أَسالِيب الجَريمَةِ ! ويحَهمْ ... ... مَهْما يَطُلْ مَكرٌ لهمْ لا يَنْطلِ
واللهُ يَشْهدُ وهوَ خَيرٌ شاهداً ... ... مَكْرَ الشَّقيِّ وَفتْنَةَ المتحيّلِ
نُزِعَتْ مهابَتُنا وفُلَّ سِلاحُنا ... ... وَهَوتْ صُروحُ المجْدِ حُطَّتْ مِن عَلِ
وتَفَّرقَتْ تلكَ القُلوبُ ومُزِّقَتْ ... ... تِلْكَ الصُّفوفُ و تاه كلُّ مؤَمِّلِ
لا يُرْتجى نَصْرٌ وأمرُ المسْلميـ ... ... نَ مُشتّتٌ في غفوةٍ و تَعَلُّلِ
* ... * ... *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأرض المجهل : التي لا يُهْتدى فيها .(/1)
والاة الأعداء مذلة في الدنيا وعذاب في الآخرة
أحمد الخطيب
ahmadkhatiby@yahoo.com
لم تحظ مسألة في الفقه الإسلامي من الاهتمام والوضوح بمثل ما حظيت به مسألة موالاة الأعداء والتحالف معهم. فهي مسألة أخذت مساحة كبيرة من أبواب الفقه السياسي، ونالت قسطاً واسعاً من التوافق في المذاهب الإسلامية المختلفة.
ولعل السبب في ذلك يعود إلى كثرة النصوص الشرعية التي تناولتها بشكل مباشر، بحيث لم يعد هناك كبير مجال للاختلاف حولها، فصارت حرمة موالاة الأعداء مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
ولكن، ومع هذا كله فإننا ما زلنا نجد في هذا العصر من يُؤوِّل في هذه المسالة، أو يتأوَّل في معنى الموالاة أو في مناط حكمها.
فنجد منهم مثلاً من أخذ جزءاً من معاني الموالاة وطبَّق عليها الحكم في حين ألغى تطبيقه في الجزء الآخر من المعاني التي لا تتفق مع هواه.
ونجد منهم أيضاً من تلاعب في وصف واقع العدو، فأخرج الضوابط الشرعية عن هذا الواقع، وأصبح في نظره واقعاً متغيراً متبدلاً بحسب رؤية هؤلاء أم أولئك، واختلط بذلك أمر العدو على الناس بحيث أصبح العدو صديقاً في حالات وعدواً في حالات أخرى.
ونحا آخرون منحاً آخر فلم يجعلوا النصوص الشرعية في مسألة الموالاة هي الأساس، واستبدلوا بها المصالح كما قدَّرتها عقولهم القاصرة، وتبنوا ما شرَّعه تشرشل رئيس الوزراء البريطاني المشهور بقوله: "لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون ولكن توجد مصالح دائمة".
والبحث الحق في هذه المسألة يدفعنا ابتداءً لمعرفة من هو العدو، بمعنى أن نحدد واقع عدو المسلمين تحديداً شرعياً منضبطاً. لأن تحديد مفهوم العدو أولاً هو الذي ينقلنا إلى معرفة حكم موالاته بصورة واضحة قاطعة.
لا شك بأن العدو في الإسلام هو الكفر، والأعداء هم الكفار، فالكفر هو الأمارة الدالة على وجود الأعداء، أي هو السبب الشرعي الذي يدل على وجود العدو قال تعالى:
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ{ فقد حدَّدت هذه الآية أعداء الله وأعداء الأمة بأنهم الذين كفروا بالإسلام، ومن هنا كان الكفر سبب في العداء، فنحن نعادي الناس بسبب كفرهم، والأصل في المعاداة بيننا وبين كل البشر هو وجود الكفر، فإذا وجد الكفر وجد العداء، وإذا عدم الكفر عدم العداء. وحتى معاداة بعض المسلمين فأسبابها إما موالاتهم للكفار، وإما تطبيقهم لأحكام الكفر أو عدم تطبيقهم لأحكام الإسلام. لذلك كان الأصل في المعاداة هو وجود الكفر حقيقة وكان الكفر سبب في العداء.
أما بالنسبة للكافر المعاهد أو الذمي والكافر الذي بيننا وبينه اتفاقيات فقد اعتبرت المعاهدات والعهود والاتفاقيات الموقعة بيننا وبينهم بمثابة موانع منعت سبب الحكم، أي منعت حكم المعاداة، فإذا ما زالت الموانع عاد حكم المعاداة إلى أصله بيننا وبينهم.
هذا بالنسبة لحكم الأعداء الكفار، وأما بالنسبة لموالاتهم فالنصوص تحرم على المسلمين موالاتهم حرمة قطعية، بجميع معاني الموالاة التي دلت عليها اللغة العربية والتي من أهم معانيها: النصرة والمعاونة والمشاورة والمحبة والنصيحة والمصادقة والركون والخضوع والاستسلام وما شاكلها أوماثلها من معان.
فحكم جميع هذه المعاني للموالاة محرم حرمة قطعية، إذ لا يجوز لمسلم أن ينصر الكافر أو يعاونه أو يشاوره أو يحبه أو ينصحه أو يصادقه أو يركن إليه أو يخضع له أو يستسلم لسلطانه برضاه، فإن فعل ذلك كان موالياً له وينطبق عليه حكم الموالاة إلا في حالة التقية لقوله تعالى: }إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً{ وهي حالة الاستضعاف المتعلقة بالفرد المسلم أو الأفراد المسلمين الذين يخضعون لحكم الكافر، ويتعرضون لنوع من أنواع الأذى الحقيقي على النفس أو المال أو العرض. وأما ما سوى هذه الحالة فلا يجوز إطلاقاً أن يوالي المسلم الكافر ولا بصورة من الصور.
وقد دحض الله سبحانه دوافع المسلم ضعيف الإيمان الذي يوالي الكفار بدافع التقوي به، أو استمداد العزة منه فقال تعالى: }بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً{138} الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً{. ففي هذه الآيات وصف الله سبحانه المسلم الذي يوالي الكافر بالمنافق وبشره بعذاب أليم بسبب موالاته للكفار، وبيَّن أن العزة والنصرة الحقيقية لا تستمد من الكفار مطلقاً، واستنكر على المسلم فعل ذلك.(/1)
وبعد هذا البيان الشافي عن استحالة تحصيل العزة من الكفار أكدَّ سبحانه أن المسلمين الذين يوالونهم إنما يجعلون لله عليهم سلطاناً مبيناً، كما لو أنهم يحجزون بطاقة دخول مؤكدة لجهنم وذلك استناداً إلى قوله سبحانه: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً{.
ثم بعد أن وصفهم الله سبحانه بالمنافقين أضاف وصفاً آخر لهم وهو أنهم ليسوا منا ولا منهم أي أن هؤلاء الموالين للكفار من المسلمين لا هم محسوبون على المسلمين لأنهم والوا الكفار، ولا هم محسوبون على الكفار لأن الكفار يحتقرونهم ويزدرونهم. فهم مذبذبون بين الطرفين، وهذا نوع من التوبيخ والتبكيت فيه الشيء الكثير. قال تعالى:
}أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ{.
ثم في آية أخرى يقرر الله عز وجل أنهم بصنيعهم هذا لم يعودوا من المسلمين كليةً، بمعنى أن أفعالهم التي والوا فيها الكفار قد أدخلتهم في جملة الكفار وفي عدادهم من ناحية مجازية. يقول تعالى:
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ{.
فهذه الآيات الكريمة حدَّدت بوضوح حكم الموالاة، وعنَّفت ووبَّخت الموالين للكفار ونعتتهم بأقبح النعوت، بحيث لم يبق لهم أية حجة أو ذريعة للاستمرار في موالاتهم للكفار بعد هذا البيان القرآني الواضح والصريح.
إن كل هذا التقريع والتعنيف والتبكيت بحق هؤلاء الموالين للكفار يؤكد أن عملهم هذا جد خطير على الأمة، فهو سبب كل بلاء، ومصدر كل شر، وأصل كل داء. لذلك لم يكن غريباً أن الأمة اليوم قد أصابها ما أصابها من ويلات ولأواء، ونكبات وكوارث، وضعف واضمحلال، وهوان وضياع. والسبب الوحيد لكل هذه الشرور والبلايا هو موالاة حكامها للكفار ليس إلا، ومعلوم أنه إذا زال السبب زال المسبَّب، وإذا وجد السبب وجد المسبَّب.
وعليه فالعلاج الشافي لمشاكل الأمة ومصائبها هو سهل وبسيط، ويتمثل في منع موالاة الحكام للكفار. ومنع هذه المولاة لا يتحقق فعلياً إلا بإبعاد هؤلاء الحكام عن السلطة، والإطاحة بهم، وتنصيب خليفة واحد للمسلمين مكانهم يوالي الله ورسوله وجماعة المسلمين.(/2)
والجبال أوتاداً
مقدمة :
خلق الله تعالى الجبال وجعلها آية من آياته الدالة على عظيم قدرته وبديع صنعه , وأشار سبحانه وتعالى إلى هذه الجبال في كتابه العظيم, ووصف شكلها الظاهر والباطن مشبهاً لها بالأوتاد,قال تعالى :) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( [ النبأ : 7] , ولم يكن العقل البشري يتصور أن هذه الجبال بشكلها الظاهر والعظيم لا تمثل إلا نسبة بسيطة من حجم الجبل الحقيقي , ولم يقف القرآن الكريم عند هذا الحد من وصف الشكل , فقد جاء السياق القرآني مبيناً لوظيفة الجبال بأبسط عبارة , قال تعالى : ) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( [لقمان : 10 ], فأشارت إلى أن وظيفة الجبال هي تثبيت قشرة الأرض ومنعها من الاضطراب , وكل هذه الأمور كانت غائبة عن العين والتصور البشري إلى القرنين الماضيين .
أقوال المفسرين لهذه الآيات :
على الرغم من أن هذه المعلومات كانت غائبة عن أنظار الناس في تلك الفترة الماضية إلا أننا نجد أن الأئمة المفسرين قد أشاروا إلى هذه المعلومات , معتمدين في ذلك على التفسير اللغوي لا على معلومات عصرهم , فأوردوا هذا في تفاسيرهم لقوله تعالى :) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( [ النبأ : 7] , ومنها على سبيل المثال :
1- قال ابن الجوزي : ) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( للأرض لئلا تميد .(1)
2- وقال الزمخشري :) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( : أي أرسيناها بالجبال كما يرس البيت بالأوتاد.(2)
3- وقال القرطبي :) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( أي لتسكن ولا تتكفأ بأهلها . (3)
4- وقال أبو حيان:) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( أي ثبتنا الأرض بالجبال كما يثبت البيت بالأوتاد .(4)
5- وقال الشوكاني :) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( الأوتاد جمع وتد أي جعلنا الجبال أوتاداً للأرض لتسكن ولا تتحرك كما يرسى الخيام بالأوتاد .(5)
6- ذكر ابن كثير ( يرحمه الله ) في تفسير قول الحق تبارك وتعالي : ) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ( :
أي جعل لها أوتادا ًً, أرساها بها , وثبتها , وقررها حتى سكنت , ولم تضطرب بمن عليها .(6).
7- وقال سيد قطب في الظلال : وجعل الجبال أوتادا ًً.. يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد , فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها . أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن , وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها ..
وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال .. وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية , وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية .. وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد .. وكم من قوانين وحقائق مجهولة أشار إليها القرآن الكريم ثم عرف البشر طرفاً منها بعد مئات السنين .(7)
الجبال [نظرة تاريخية وعلمية] :
كانت معرفة الناس بالجبال معرفة تأملية قائمة على الوصف النظري والمشاهد ؛ لذلك جاءت كل التعاريف للجبال مقتصرة على الشكل الخارجي , ولذلك يعرف علماء الجيولوجيا الجبل بأنه : كتلة من الأرض تبرز فوق ما يحيط بها، وهو أعلى من التل .(8) وهذا هو تعريف الموسوعة البريطانية للجبل , ويقول د. زغلول النجار: إن جميع التعريفات الحالية للجبال تنحصر في الشكل الخارجي لهذه التضاريس، دون أدنى إشارة لامتداداتها تحت السطح، والتي ثبت أخيراً أنها تزيد على الارتفاع الظاهر بعدة مرات , ثم يقول: ولم تكتشف هذه الحقيقة إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر عندما تقدم السيرجورج ايري بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزءاً طافياً على بحر من الصخور الكثيفة المرنة ، وبالتالي فلا بد أن يكون للجبال جذور ممتدة داخل تلك المنطقة العالية الكثافة لضمان ثباتها واستقرارها .(9)
ويعرف الدكتور زغلول الجبال في ضوء المعلومات الحديثة فيقول: إن الجبال ما هي إلا قمم لكتل عظيمة من الصخور تطفو في طبقة أكثر كثافة .(10)(/1)
يقول الدكتور حسن باحفظ الله : لقد فتن الإنسان بالجبال شكلاً وجذب إليها لما فيها من منافع واكتفى بمعرفتها ظاهرياً إلي بداية القرن الثامن عشر عندما تنبه بير بوجر Griviational Attraction والذي كان يرأس بعثة إلي جبال (الأنديز) إلي أن قوة الجذب المقاسة في هذه المنطقة لا يتناسب مع كتلة هذه الجبال الهائلة وإنما هي أقل بكثير مما هو متوقع، معتمداً على الانحراف في اتجاه القمم البركانية في تلك المنطقة، والملاحظ على قياس الجذب التقليدي الذي كان متوفراً لديه والمسمى: بميزان البناء Plumb Bab ونتيجة لهذه الملاحظة الأولية افترض بوجر ضرورة وجود كتلة صخرية هائلة غير مرئية ليس لها مكان إلا أسفل تلك الجبال البارزة، ولقد حفلت بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بالكثير من أعمال المسح الجيولوجي التي قامت بها بعثات جيولوجية بريطانية في شبه الجزيرة الهندية وفسرت من خلالها الكثير من الظواهر. غير أن ظاهرة الشذوذ في قراءات الجاذبية قريباً من جبال الهيمالايا والتي اشتهرت باسم لغز الهند لم تفسر تفسيراً منطقياً إلا في منتصف ذلك القرن من خلال أعمال المسح التي كان يتولى الإشراف عليها سير جورج أفرست والتي كانت تشير بوضوح إلى أنه لا يمكن تفسير هذا الشذوذ إلا بافتراض وجود امتدادات لهذه الجبال الهائلة منغرسة في جوف القشرة الأرضية إلى مسافات عميقة، وأن هذه الامتدادات إما أن تكون من نفس مادة الجبال البارزة أو أكثر كثافة منها.
بهذه الفرضية أمكن حل مشكلة الفارق
الملاحظ في قياس المسافة بين محطة كاليانا الواقعة في أحضان جبال الهيمالايا وكاليان بور البعيدة نسبياً عن جبال الهيمالايا والواقعةفي
المنطقة المنبسطة ( شكل 1) والذي قدر بحوالي 153 متراً، هذا الفرق كان قد لوحظ عندما قيست المسافة بطريقتي قياس مختلفتين:
الأولي تعتمد علي حساب المثلثات وتسمى بطريقة المسح الثلثي Triangulation Technique
الثانية تعتمد على موقع النجم القطبي وتسمى بطريقة المسح الفلكي Astronoical Technique وقد عزى الشماس
جون هاري برات Archdeacan John Henry Pratt هذا الفارق إلي تأثر الطريقة الثانية المستخدمة في القياس
بقوة جذب كتلة غير منظورة لم يتم إدخالها في المعادلات المستخدمة لإنجاز الحسابات النهائية للقياسات. وبعبارة أخري كان يشير إلي
وجود جذور Roots لجبال الهيمالايا ممتدة أسفل منها وهي التي أثرت علي القياسات وأظهرت الفارق سالف الذكر.
في عام 1865 م تقدم سير جورج أيري بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً للجبال التي تعلوها وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزراً طافية علي بحر من صخور أعلى كثافة. وعليه فلا بد للجبال لضمان ثباتها واستقرارها على هذه المادة الأكثر كثافة أن تكون لها جذور ممتدة من داخل تلك المنطقة العالية الكثافة .(11)
إن التفسير العلمي لنظرية جورج أيري أتى من خلال النموذج الذي قدمه الجيولوجي الأمريكي دتون في عام 1989 م Theory of Isostasy شارحاً به نظريته المسماة بنظرية الاتزان والمتمثل في مجموعة من حوض مملوء بالماء شكل المجسمات الخشبية المختلفة الارتفاعات طافية فيه تبين من هذا النموذج أن الجزء المغمور في الماء(شكل: 3) من المجسمات الخشبية يتناسب طرداً مع ارتفاعه ذاكراً أنها في حالة أسماها بحالة الاتزان الهيدروستاني State of Hydrostatic Balance أما التمثيل الطبيعي والتقليدي لهذه الحالة فهي في الواقع حالة جبال الجليد العائمة Iceebergs .(12)
أوجه الإعجاز :
إن من ينظر إلى الجبال على سطح الأرض لا يرى لها شكلاً يشبه الوتد أو المرساة، وإنما يراها كتلاً بارزة ترتفع فوق سطح الأرض، كما عرفها الجغرافيون والجيولوجيون. ولا يمكن لأحدٍ أن يعرف شكلها الوتدي ، أو الذي يشبه المرساة إلا إذا عرف جزءها الغائر في الصهير البركاني في منطقة الوشاح، وكان من المستحيل لأحدٍ من البشر أن يتصور شيئاً من ذلك حتى ظهرت نظرية سيرجورج ايري عام 1865م , وقد وصف القرآن الشكل الكامل للجبل بأبسط عبارة , فشبهه بالوتد ,
والكل يعرف أن الوتد يكون معظمه تحت الأرض , بينما لا يظهر على السطح إلا الشيئ اليسير
من الوتد .
ولم يتوصل العلم إلى معرفة وظيفة الجبال ـ وهي تثبيت القشرة الأرضيةـ إلا في عام 1989م,
في حين جاء القرآن بها قبل ألف وأربعمائة عام ,فقال تعالى : ) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ( [لقمان : 10 ] , فجعل الجبال كالمرساة بالنسبة للسفينة , وفي هذا بيان بليغ لحقيقة الجبال
ووظيفتها , فالسفينة حتى تستقر ولا تميد على سطح الماء فإنها تحتاج إلى مرساة تغوص إلى الأسفل
تحت سطح الماء , وهذا يصف حالة القشرة الأرضية(الوشاح) فهي تسبح فوق مادة الصهير الصخري
ـ وهي طبقة سائلة ـ فأشبهت السفينة , وحتى لا تميد هذه القشرة فإن الله ثبتها بالجبال التي تغوص(/2)
جذورها في طبقة الصهير البركاني , فتصير كالمرساة بالنسبة للسفينة .
فمن أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة الغائبة في باطن الأرض والتي يستحيل على أي
إنسان معرفتها إلا بواسطة الأجهزة الحديثة؟
إن هذا دليل واضح على أن هذا العلم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو من عند الله تعالى خالق هذه الجبال والعلم بأسرارها سبحانه وتعالى,
قال تعالى : ? قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( (الفرقان:6 ) . (13)
إعداد/ عادل الصعدي
مراجعة/ عبد الحميد أحمد مرشد
(1) - زاد المسير لابن الجوزي ( 9/ 5 )
(2) - الكشاف للزمخشري ( 1/ 1332 )
(3) - الجامع لأحكام القران للقرطبي ( 19/ 151 )
(4) - البحر المحيط لأبي حيان ( 10/ 384 )
(5) - فتح القدير للشوكاني (5/ 512 )
(6) - تفسير ابن كثير ( 4/594 )
(7) - تفسير الظلال لسيد قطب (6/ 3804 )
Websters Seventh New Collegiate Dictionary-(8)
(9) - الفكرة الجيولوجية عن الجبال في القرآن / الدكتور زغلول النجار ص3 بالإنجليزية ، 1992 إصدارات هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة/ رابطة العالم الإسلامي/ مكة .
(10) - نفس المرجع السابق .
(11) - والجبال أوتاداً ,للدكتور حسن باحفظ الله .
(12) - المرجع السابق .
(13) - بتصرف, من كتاب بينات الرسول ومعجزاته للشيخ الزنداني ص 95 .(/3)
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ... ... ...
أخبر سبحانه في هذه الآية، وفي غيرها من الآيات، عن سُنَّة أقام الله عليها الحياة، وفطرةٍ فطر الناس عليها؛ سُنَّة ماضية بمضاء الحياة، لا تتبدل ولا تتغير؛ إنها سُنَّة التفاضل والتفاوت في الرزق، وأسباب الحياة الأخرى المادية والمعنوية .
وإذا كانت آيات أُخر قد أخبرت وأثبتت أن الرزق بيد الله سبحانه ومن الله، فإن هذه الآية قد جاءت لتقرر أمرًا آخر، إنه أمر التفاوت والتفاضل بين العباد، لأمر يريده الله، قد يكون ابتلاء واختبارًا، وقد يكون غير ذلك؛ فقد تجد أعقل الناس وأجودهم رأيًا وحكمة مقتَّرًا عليه في الرزق، وبالمقابل تجد أجهل الناس وأقلهم تدبيرًا موسعًا عليه في الرزق؛ وكلا الرجلين قد حصل له ما حصل قهرًا عليه، فالمقتَّر عليه لا يدري أسباب التقتير في رزقه، والموسَّع عليه لا يدري أسباب التيسير، ذلك لأن الأسباب كثيرة ومترابطة ومتوغِّلة في الخفاء، حتى يُظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي كذلك، ولكنها غير محاط بها .
كتب عمر رضي الله عنه رسالة إلى أبي موسى الأشعري ، يقول له فيها: واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلاً، فيبتلي من بسط له، كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله، رواه ابن أبي حاتم .
قال الشوكاني عند تفسير هذه الآية: " فجعلكم متفاوتين فيه - أي الرزق - فوسَّع على بعض عباده، حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفًا مؤلَّفة من بني آدم، وضيَّقه على بعض عباده، حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها؛ وكما جعل التفاوت بين عباده في المال، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم، وقوة البدن وضعفه، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وغير ذلك من الأحوال" .
وعلى هذا فمعنى الآية: أن الله سبحانه - لا غيره - بيده رزق عباده، وإليه يرجع الأمر في تفضيل بعض العباد على بعض، ولا يسع العبد إلا الإقرار بذلك، والتسليم لما قدره الله لعباده، من غير أن يعني ذلك عدم السعي وطلب الرزق والأخذ بالأسباب، فهذا غير مراد من الآية ولا يُفهم منها، ناهيك عن أن هذا الفهم يصادم نصوصًا أُخر تدعوا العباد إلى طلب أسباب الرزق، وتحثهم على السعي في تحصيله، قال تعالى: { فإذا قُضيتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } (الجمعة:10) وفي الحديث: ( اعملوا فكل ميسر لما خُلق له ) متفق عليه، والنصوص في هذا المعنى كثيرة .
على أنه من المفيد هنا التنبيه إلى أن التفاضل الذي أقامه سبحانه بين عباده ليس محصورًا ولا مقصورًا على التفاضل المادي، من مال ومنافع فحسب، بل هو أشمل من ذلك وأعم، إذ يدخل فيه التفاضل في العلم والعقل، والقوة والضعف، وغير ذلك مما هو مشاهد في حياة الناس؛ وإذا كان الأمر كذلك، فإن الموقف الرشيد والسديد من هذه السُّنَّة الكونية القناعة بما قسم الله ورزق، مع الأخذ بالأسباب لتحصيل كل ما هو مطلوب ومباح شرعًا، فالأمر منظور إليه من طرفين، طرف الرضى والقبول والاستسلام لأمر الله وقضائه، وطرف العمل والسعي المطلوب شرعًا؛ أما الاستسلام السلبي الذي يشل حركة الإنسان، ويدفع به إلى القعود والتراكن والخنوع، فليس هو الموقف الصحيح والرشيد، بل هو موقف قاصر وناظر إلى طرف واحد من أطراف المعادلة، غافل عن نظر آخر لا بد من اعتباره والسعي على وَفْقِه، فشتان بين الموقفين .
ثم إن هذه الآية على صلة وارتباط بآية أخرى في سورة النساء، وهي قوله تعالى: { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } (النساء:32) وسبب نزول هذه الآية - فيما رويَ - أن أمَّ سلمة رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت: { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } رواه الترمذي .
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: نهى الله سبحانه أن يتمنى الرجل مال فلان وأهله، وأَمَر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله .
وقال الطبري في معنى الآية: ولا تتمنوا - أيها الرجال والنساء - الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ودرجات الخير، وليرضَ أحدكم بما قسم الله له من نصيب، ولكن سلوا الله من فضله .
واعلم - أيها القارئ الكريم - أنه بسبب جهل بعض الناس بهذه السُّنَّة الكونية، دخل عليهم من الحسد والبلاء ما لا يحيط به قول ولا وصف، ولو قَنَع الناس بهذه السُّنَّة واستحضروها في تعاملهم ومعاملاتهم لكان أمر الحياة أمرًا آخر؛ أمَا وقد أعرض البعض عن فطرة خالقهم، ولم يسلموا ويستسلموا لِمَا أقامهم عليه، فقد عاشوا معيشة ضنكًا، وخسروا الدنيا قبل الآخرة. نسأل الله الكريم أن يرزقنا القناعة والرشاد والسداد في الأمر كله، والحمد لله رب العالمين .
الشبكة الاسلامية ... ...(/1)
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق ... ... ...
أخبر سبحانه في هذه الآية، وفي غيرها من الآيات، عن سُنَّة أقام الله عليها الحياة، وفطرةٍ فطر الناس عليها؛ سُنَّة ماضية بمضاء الحياة، لا تتبدل ولا تتغير؛ إنها سُنَّة التفاضل والتفاوت في الرزق، وأسباب الحياة الأخرى المادية والمعنوية .
وإذا كانت آيات أُخر قد أخبرت وأثبتت أن الرزق بيد الله سبحانه ومن الله، فإن هذه الآية قد جاءت لتقرر أمرًا آخر، إنه أمر التفاوت والتفاضل بين العباد، لأمر يريده الله، قد يكون ابتلاء واختبارًا، وقد يكون غير ذلك؛ فقد تجد أعقل الناس وأجودهم رأيًا وحكمة مقتَّرًا عليه في الرزق، وبالمقابل تجد أجهل الناس وأقلهم تدبيرًا موسعًا عليه في الرزق؛ وكلا الرجلين قد حصل له ما حصل قهرًا عليه، فالمقتَّر عليه لا يدري أسباب التقتير في رزقه، والموسَّع عليه لا يدري أسباب التيسير، ذلك لأن الأسباب كثيرة ومترابطة ومتوغِّلة في الخفاء، حتى يُظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي كذلك، ولكنها غير محاط بها .
كتب عمر رضي الله عنه رسالة إلى أبي موسى الأشعري ، يقول له فيها: واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلاً، فيبتلي من بسط له، كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله، رواه ابن أبي حاتم .
قال الشوكاني عند تفسير هذه الآية: " فجعلكم متفاوتين فيه - أي الرزق - فوسَّع على بعض عباده، حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفًا مؤلَّفة من بني آدم، وضيَّقه على بعض عباده، حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها؛ وكما جعل التفاوت بين عباده في المال، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم، وقوة البدن وضعفه، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وغير ذلك من الأحوال" .
وعلى هذا فمعنى الآية: أن الله سبحانه - لا غيره - بيده رزق عباده، وإليه يرجع الأمر في تفضيل بعض العباد على بعض، ولا يسع العبد إلا الإقرار بذلك، والتسليم لما قدره الله لعباده، من غير أن يعني ذلك عدم السعي وطلب الرزق والأخذ بالأسباب، فهذا غير مراد من الآية ولا يُفهم منها، ناهيك عن أن هذا الفهم يصادم نصوصًا أُخر تدعوا العباد إلى طلب أسباب الرزق، وتحثهم على السعي في تحصيله، قال تعالى: { فإذا قُضيتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } (الجمعة:10) وفي الحديث: ( اعملوا فكل ميسر لما خُلق له ) متفق عليه، والنصوص في هذا المعنى كثيرة .
على أنه من المفيد هنا التنبيه إلى أن التفاضل الذي أقامه سبحانه بين عباده ليس محصورًا ولا مقصورًا على التفاضل المادي، من مال ومنافع فحسب، بل هو أشمل من ذلك وأعم، إذ يدخل فيه التفاضل في العلم والعقل، والقوة والضعف، وغير ذلك مما هو مشاهد في حياة الناس؛ وإذا كان الأمر كذلك، فإن الموقف الرشيد والسديد من هذه السُّنَّة الكونية القناعة بما قسم الله ورزق، مع الأخذ بالأسباب لتحصيل كل ما هو مطلوب ومباح شرعًا، فالأمر منظور إليه من طرفين، طرف الرضى والقبول والاستسلام لأمر الله وقضائه، وطرف العمل والسعي المطلوب شرعًا؛ أما الاستسلام السلبي الذي يشل حركة الإنسان، ويدفع به إلى القعود والتراكن والخنوع، فليس هو الموقف الصحيح والرشيد، بل هو موقف قاصر وناظر إلى طرف واحد من أطراف المعادلة، غافل عن نظر آخر لا بد من اعتباره والسعي على وَفْقِه، فشتان بين الموقفين .
ثم إن هذه الآية على صلة وارتباط بآية أخرى في سورة النساء، وهي قوله تعالى: { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } (النساء:32) وسبب نزول هذه الآية - فيما رويَ - أن أمَّ سلمة رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت: { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } رواه الترمذي .
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: نهى الله سبحانه أن يتمنى الرجل مال فلان وأهله، وأَمَر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله .
وقال الطبري في معنى الآية: ولا تتمنوا - أيها الرجال والنساء - الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ودرجات الخير، وليرضَ أحدكم بما قسم الله له من نصيب، ولكن سلوا الله من فضله .
واعلم - أيها القارئ الكريم - أنه بسبب جهل بعض الناس بهذه السُّنَّة الكونية، دخل عليهم من الحسد والبلاء ما لا يحيط به قول ولا وصف، ولو قَنَع الناس بهذه السُّنَّة واستحضروها في تعاملهم ومعاملاتهم لكان أمر الحياة أمرًا آخر؛ أمَا وقد أعرض البعض عن فطرة خالقهم، ولم يسلموا ويستسلموا لِمَا أقامهم عليه، فقد عاشوا معيشة ضنكًا، وخسروا الدنيا قبل الآخرة. نسأل الله الكريم أن يرزقنا القناعة والرشاد والسداد في الأمر كله، والحمد لله رب العالمين .
الشبكة الاسلامية ... ...(/1)
والنشاط السياسي!
د. عدنان علي رضا النحوي 24/4/1426
01/06/2005
للمرأة قضايا تثار في كلِّ مجتمع مضطرب الموازين منحرف القيم أو جاهليٍّ أو ملحدٍ ، كان للمرأة قضيّة في العصر الجاهليّ في الجزيرة العربيَّة، وفي اليونان، وفي روما في عصور الانحلال والتفلّت. ولها قضيّة كُبْرى في الحضارة الغربيّة التي سحقت المرأة وسرقت شرفها، وحطّمت كرامتها ورمتها في فتنة الدنيا ووحول فسادها، مخدّرة لا تُحسُّ بحقيقة شقائها، خدّرتها الشهوة المتفلَّتة، أو الجري اللاهث وراء لقمة العيش، أو زهوة المراكز والمناصب والمسؤوليات.
ولكن لم يكن للمرأة مشكلة في عصر النبوة الخاتمة، ولا في عصر الخلفاء الراشدين، ولا في أيّ عصر ساد فيه حكم الكتاب والسنَّة وكانت كلمة الله فيه هي العليا.
ولكننا اليوم نعاني من هذه القضيَّة، قضيّة المرأة بعامة ومشاركتها في العمل السياسي بخاصة في الآونة الأخيرة، ونرى البعض يطلق مثل هذا الحكم:
" الإسلام لم يُفَرِّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية فهما على قدم سواء".
حكم عام يُطلق يكاد يوحي بأنه مستقى من نصّ من الكتاب والسنة، أو أنه يمثل ممارسة واضحة في التاريخ الإسلامي منذ عهد النبوّة.
إِنّ هذا النصّ العام المطلق على هذه الصورة الجازمة والتي يطلقها بعض العلماء المعاصرين دون أي قيود، لا تصحّ إلا بتوافر نصّ ثابت من الكتاب والسنة، أو بتوافر ممارسة واقعية ممتدّة في المجتمع الإسلامي الملتزم بالكتاب والسنة، والذي تكون فيه كلمة الله هي العليا. ولكننا لا نجد في الكتاب والسنّة أيّ نصّ يجيز هذا الحكم العام المطلق الخالي من أي قيود، ولا نجد كذلك أيّ ممارسة عمليّة ممتدّة له في حياة المسلمين والمجتمع الإسلامي الملتزم منذ عهد النبوة الخاتمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحياة الخلفاء الراشدين، وسائر فترات التاريخ التي التزم فيها المجتمعُ الإسلامَ. نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يمارسن النشاط السياسيّ مساويات للرجال على قدم سواء، ولا نساء الخلفاء الراشدين، ولا نساء العصور التي تلت، ولا نجد هذه الدعوة التي يطلقها بعض العلماء إلا في العصور الحديثة المتأخرة التي انحسر فيها تطبيق الإسلام ، وغزا الفكر الغربي ديار المسلمين.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا إلى زوجه أم سلمة ما حدث من أصحابه في الحديبية، فأشارت عليه برأيٍ استحسنه وأخذ به، فهذه حالة طبيعية في جوّ الأسرة المسلمة أن يُفرغ الرجل إلى زوجته بعض همومه، وأن يستشيرها في ذلك، وأن يستمع إلى رأيها، فإن وجد فيه خيراً أخذ به، وإن لم يجدْ تركه. هذه حادثة نتعلم منها أدب الحياة الزوجيّة في الإسلام، ونتأسَّى برسول الله صلى الله عليه وسلم ونسائه في ذلك، دون أن نعتبر ذلك نشاطاً سياسياً لنخرج منها بحكم عام مطلق ينطبق على جميع النساء في جميع العصور والأماكن في النشاط السياسي.
وأم سلمة بعد ذلك لم يُعرَف عنها أنها شاركت في النشاط السياسيّ مساوية للرجال على قدم سواء، وكذلك سائر النساء لم يُعرف عنهن هذه المشاركة المساوية للرجال في المجتمع المسلم. فهذه حادثة تكاد تكون فريدة لا تصلح لإطلاق حكم عام.
وحين أنزل الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم قوله:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب: 28- 29 ].
لم يكن الأمر أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم يتطلّعن إلى الزينة والحليّ والمتع الدنيوية، كما هو حال نساء الملوك والرؤساء حسب ما ذكر بعضهم. لقد كنّ يدركن وهن في مدرسة النبوة أن الإسلام نهج آخر، ولكن حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم كان فيها شدة وتقشف وزهد لم يكن في سائر بيوت المؤمنين، فأردن المساواة مع مستوى غيرهنّ من المؤمنات، لا مستوى الملوك والرؤساء.
وعندما ندرس هذه الآيات وما يتعلّق بنساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإنما ندرسه ليس من منطلق الرغبات الدنيوية الظاهرة في حياة الملوك، وإنما ندرسه منطلقين من القاعدة الرئيسة التي نصّ عليها القرآن الكريم من أنهنّ أُمهات المؤمنين، لهن هذه الحرمة والمنزلة العظيمة. فجاءت هذه الآيات الكريمة لتذكّر المسلمين ونساء النبيّ صلى الله عليه وسلم والنساء المؤمنات بعامة أن هناك نهجين مختلفين للحياة في ميزان الإسلام: نهج الدار الآخرة وما يشمله من قواعد وأسس ونظام ، ونهج الدنيا وما يموج فيه من أهواء وشهوات. نهجان مختلفان:
نهجان قد ميّز الرحمن بينهما ... ...
نهج الضلال ونهج الحقّ والرشَدِ
لا يجمع الله نهج المؤمنين على ... ...
نهج الفساد ولا حقّاً على فَنَدِ(/1)
ولقد وَعَت أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن- هذا التذكير، فاخترْن الله ورسوله والدار الآخرة، ليكُنّ بذلك القدوة للنساء المؤمنات أبد الدهر. ولا يتعارض هذا مع بقاء الطباع الخاصّة بالنساء، الطباع التي فُطرن عليها يهذّبها الإسلام ويصونها من الانحراف.
ولقد خلق الله المرأة لتكون امرأةً، وخلق الرجل ليكون رجلاً، وجعل سبحانه وتعالى بحكمته تكويناً للمرأة في جسمها ونفسيّتها، وجعل للرجل تكويناً متميزاً في جسمه ونفسيّته، ومازال العلم يكتشف الفوارق التي تظهر بين الرجال والنساء. وعلى ضوء ذلك، جعل الله للرجل مسؤوليات وواجباتٍ وحقوقاً، وللمرأة مسؤوليات وواجبات وحقوقاً، لتكون المرأة شريكة للرجل لا مساويةً له، حتى يتكامل العمل في المجتمع الإسلامي، حين يوفي كلٌّ منهما بمسؤولياته، وقد عرف كلٌّ منهما حدوده كما بيّنها الله لهم جميعاً.
وهناك حقوق مشتركة بين الرجل والمرأة. فالبيت المسلم هو ميدان التعاون في ظلال المودّة والسكن والرحمة، دون أن يتحوّل الرجل إِلى امرأة أو المرأة إلى رجل. ومن حق المرأة أن تتعلم لأنَّ طلب العلم فريضة على كل مسلم، رجلاً كان أو امرأة ، " طلب العلم فريضة على كل مسلم"، (1) ومن حقّها وواجبها أن تكون مدرِّسة للنساء، وطبيبة للنساء، وفي كل نشاط مارسته النساء المؤمنات في مجتمعات يحكمها منهاج الله وكلمة الله فيها هي العليا، دون أن يتشبّهْن بالرجال:
فعن ابن عباس -رضي عنه- عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لعنَ الله المتشبّهات من النساء بالرجال، والمتشبّهين من الرجال بالنساء. "(2)
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " لعنَ الله الرَّجُلةَ من النساء " (3) .
وأمثلة كثيرة لا مجال لحصرها هنا تبيّن أن للإسلام نهجاً مختلفاً عن نهج الاشتراكية والعلمانية والديمقراطية، وتبيّن بالنصوص والتطبيق كما أسلفنا أن المرأة ليست مساوية للرجل في النشاط السياسي في الإسلام، إلا إذا نزعنا إلى نهج آخر أخذت تدوّي به الدنيا، وأخذنا نبحث عن مسوّغات له في دين الله .
ومن أهم ما أمر به الإسلامُ المرأة متميّزاً بذلك من غيره طاعتها لزوجها، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
) لو كنتُ آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولا تؤدّي المرأة حقَّ الله -عزّ وجلَّ- عليها كلَّه حتى تؤدّي حقَّ زوجها عليها كله ، ...) (4)إلى آخر الحديث.
فعندما ندرس المرأة وحقوقها ومسؤولياتها في الإسلام فيجب أن ننطلق من حماية الأسرة ورعاية الأطفال وتربيتهم، فالأسرة والبيت المسلم هو ركن المجتمع الإسلامي وأساسه، وهو المدرسة الأولى التي تبني للأمة أجيالها، لا تتركهم للخادمات وغيرهن.
في الإسلام لابد من عرض التصوّر الكامل المترابط لنشاط المرأة، دون أن نأخذ جُزْءاً وندع أجزاءً، ونركّز على أمر لم يركّز عليه الإسلام، ولم يبرزه لا في نصوصه ولا في ميدان الممارسة. فالحياة الإسلامية متكاملة مترابطة في نهج الإسلام، لا تتناثر قطعاً معزولة بعضها عن بعض.
ولا يمنع شيء أن يخرج من بين النساء المؤمنات عالمات مبدعات شاعرات، مفتيات موهوبات. ولكن هذا كله ليس هو الذي يحدّد دور المرأة في الإسلام، فالذي يحدّده شرع الله بنصوصه الواضحة دون تأويل وبالممارسة الممتدّة الواضحة. والمرأة حين تكون عالمة أو فقيهة أو أديبة، فهي أحرى أن تصبح أكثر تمسّكاً بقوله سبحانه وتعالى:
(.... فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله...) [النساء: 34]
ومما يثير العجب حقّاً أن الرجل الشيوعي جوربا تشوف، أدرك خطورة غياب المرأة عن بيتها وواجباتها فيه، واجباتها التي ليس لها بديل. فلنستمع إلى ما يقوله:
" ... ولكن في غمرة مشكلاتنا اليوميّة الصعبة كدنا ننسى حقوق المرأة ومتطلباتها المتميّزة المختلفة بدورها أماً وربّة أسرة، كما كدنا ننسى وظيفتها التي لا بديل عنها مربّية للأطفال" .
ويتابع فيقول: " ... فلم يعد لدى المرأة العاملة في البناء والإنتاج وقطاع الخدمات، وحقل العلم والإبداع، ما يكفي من الوقت للاهتمام بشؤون الحياة اليومية، كإدارة المنزل وتربية الأطفال، وحتى مجرّد الراحة المنزليّة. وقد تبيّن أن الكثير من المشكلات في سلوكية الفتيان والشباب، وفي قضايا خلقية واجتماعية وتربويّة وحتى إنتاجية، إنما يتعلّق بضعف الروابط الأسرية والتهاون بالواجبات العائلية... "(5)(/2)
في دراستهم للمجتمع وللصناعة والإنتاج، انطلقوا كما نرى، ولو متأخرين، من البيت، من الأسرة، من دور المرأة في البيت، الدور الذي لا بديل له. ونحن المسلمين، وقد فصّل لنا الإسلام نظام حياتنا منطلقاً من تحديد مسؤوليات الفرد، الرجل والمرأة، ثم البيت والأسرة- تركنا ذلك وقفزنا لنبحث في حق المرأة أن تكون وزيرة أو عضواً في البرلمان أو رئيسة دولة، أو رئيسة شركة، ونضع من أَجل ذلك قانوناً عاماً مطلقاً دون قيود " :الإسلام لم يفرّق بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية!" وحسبُنا تطبيق الصحابة والخلفاء الراشدين، فهل كانت المرأة مساوية للرجل في الحقوق السياسية؟! أم أن الصحابة والخلفاء الراشدين أخطؤوا ولم يدركوا هذه الحقوق فظلموا المرأة وحرموها من حقوقها؟!
لا نقول: إِنّ المرأة عامة، أو أن النساء كلهن لا يصلحن للمهمات الكبيرة بحكم كونهنّ نساء. لا نقول هذا. ولكن نقول: إن الله الذي خلق الرجل والمرأة حدّد مسؤوليات الرجل والمرأة، ومارس المسلمون ذلك في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وفي عصور كثيرة أخرى.
وقد يكون بعض النساء أكبر موهبة أو طاقة من بعض الرجال، فهل هذا يعني أن تنزل المرأة معتركاً مختلفاً فيه أجواء كثيرة، وتترك قواعد الإسلام تأسّياً بنساء غير مؤمنات، أو مجتمعات غير ملتزمة بالإسلام.
وغفر الله لمن قال، كما نشرته إحدى الصحف: " إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان يعلم أنه سيظهر بين النساء أمثال جولدا مائير، أنديرا غاندي، تاتشر، ما قال حديثه الشريف: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) . فالمؤسف أنَّ من الناس من يعتبر أنَّ هؤلاء النساء أفلح بهنّ قومهن. عجباً كل العجب! هل أصبح الكفر وزينة الدنيا ومتاعها هو ميزان الفلاح! وأين قوله سبحانه وتعالى:
(وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [ الزخرف : 33-35] نِعْمَ البيت الواسع والسرر المريحة للرجل الصالح. ونعمت القوّة والسلاح والصناعة للمؤمنين.
إننا نعتقد أنه لا يصح أن نستشهد بمجتمعات غير ملتزمة بالإسلام لنخرج بقواعد شرعية في الإسلام.
أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) ، فالحديث يرويه أحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجه والترمذي. ويأتي الحديث بألفاظ مختلفة ولكنها تجمع على المعنى والنص. وإنّ مناسبة الحديث ونصّ الحديث باللغة العربيّة يفيد العموم ولا يفيد الخصوص. ولا يعجز الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخصّ ذلك بأهل فارس لو أراد التخصيص. ولكن كلمة قوم نكرة تفيد العموم، وامرأة نكرة تفيد العموم، فلا حاجة لنا إلى تأويل الحديث بما لا تحتمل اللغة، وربما لا مصلحة لنا في هذا التأويل.
وبما أنَّ المرأة مطالبة بعبادة الله وإقامة دينه، فإنها كذلك مكلفة مثلها مثل الرجل بتقويم المجتمع وإصلاحه! ولكنّ الله سبحانه وتعالى جعل للرجل تكاليف في ذلك ليست للمرأة، وجعل للمرأة تكاليف ليست للرجل. وذلك حتى في أركان العبادة ـ في الشعائر ـ فصلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها في المسجد، وصلاة الرجل في المسجد خير من صلاته في البيت. والجهاد فرض على الرجال في ميدان القتال، وليس فرضاً على المرأة، وجهاد المرأة هو في بيتها ورعايته ورعاية زوجها:
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنَّ امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ! أنا وافدة النساء إليك! هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أُجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون. ونحن النساء نقوم عليهم فما لنا من ذلك؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أبلغي من لقيتِ من النساء أنَّ طاعة الزوج واعترافاً بحقه يعدل ذلك، وقليل منكنّ يفعله) .
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار ليسقين الماء ويداوين الجرحى " (6).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته "وفيه :" ... والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم ) . (7)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله، أعلى النساء جهاد؟! قال: ( نعم ! عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة).(8)
وبصورة عامة فإن الإسلام جعل الميدان الأول للمرأة البيت بنص الآيات والأحاديث والممارسة والتطبيق، وجعل ميدان الرجل الأول خارج البيت، ويبقى للمرأة دور خارج البيت غير مساوٍ للرجل، وللرجل دور في البيت غير مساوٍ لدور المرأة.(/3)
ولا بد أن نؤكد أن للإسلام نهجاً متميّزاً غير نهج العلمانية والديمقراطية ومناهج الغرب في عمل المرأة والرجل. نهجان -كما ذكرنا- مختلفان.
نحن نمرّ بمرحلة فيها عواصف غربية وأمواج تكاد تكتسح. ما بالنا نريد أن نخرج المرأة المسلمة من مكانها الكريم الذي وضعها الإسلام فيه، لنجاري الغرب في ديمقراطيته وعلمانيته.؟! ونكاد نخجل من اتهام العلمانية لنا وادعائها بأن الإسلام حجر على المرأة. إن أفضل ردّ عليهم لا يكون بأن ندفع المرأة المسلمة إلى بعض مظاهر الغرب لندفع عن أنفسنا ادّعاءَهم . إن أفضل ردّ أن نقول لهم إن الإسلام أكرم المرأة وأعزها وحفظ لها شرفها وطهرها، وأنتم أضعتم المرأة وأضعتم كرامتها، ثمَّ نعرض الإسلامَ كما هو، وكما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما مارسه المسلمون في عهد النبوة والخلفاء الراشدين.
المرأة المسلمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في أجواء النساء، حيث لا يستطع الرجل أن ينشط هناك إلا في أجواء الاختلاط التي لم يعرفها الإسلام لا في نصوصه ولا في ممارساته. وللمرأة المسلمة أنشطة كثيرة تقوم بها دون أن تلج في أجواء لم يصنعها الإسلام. المنافقات يقمن بإفساد المجتمع مع المنافقين جنباً إلى جنب سواء بسواء كما نرى في واقع البشرية اليوم. أما المؤمنات فيصلحن في المجتمع بالدور الذي بيّنه الله لهنّ، غير مساويات للرجال ولا ملاصقات لهن. دور بيّنه الله للنساء وللرجال، لا نجده في الديمقراطية، ولا في العلمانية، ولا في تاريخ الغرب كله.
نعم! إن أول من صدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت زوجه خديجة رضي الله عنها. ولكنها بتصديقها لرسول الله صلى الله عليه وسلم التزمت حدودها في رسالته، فلم تنطلق خديجة -رضي الله عنها- في أجواء النشاط السياسي أو ميادين القتال أو مجالس الرجال. وكذلك كانت سميّة أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها، وكانت قبل استشهادها ملتزمة حدود الإسلام. والنساء اللواتي قاتلن في أُحد أو حنين، كان ذلك في لحظات طارئة عصيبة لا تمثل القاعدة الدائمة الرئيسة للمرأة في الإسلام، كما بيناها قبل قليل، فلم نَرَهنّ بعد ذلك في مجالس الرجال أو ميادين السياسة سواء بسواء كالرجال، وإنما كنّ أول من التزمن حدودهن التي بينها لهنّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
المرأة التي قامت تردّ على عمر -رضي الله عنه- في المسجد، كانت في مكان تعبد الله فيه وتتعلم. وهو جو يختلف عن المجالس النيابية اليوم، وكانت في مجتمع يختلف عن مجتمعاتنا اليوم. وهذه المرأة نفسها لو عُرِض عليها الأجواء المعاصرة لأبت المشاركة فيها، وكثير من المسلمات اليوم يأبين المشاركة في الأجواء الحديثة.
وأتساءل عن السبب الذي يدعو بعضهم إلى الحرص على إدخال المرأة المجالس النيابية العصرية! لقد أصبح لدينا تجربة غنيّة في المجالس النيابية تزيد عن القرن، فلننظر ماذا قدّمت للأمة المسلمة، هل ساعدت على جمعها أم على تمزيقها؟ وهل ساهمت في نصر أم ساهمت في هزائم؟ وهل هذه المجالس التي نريد أن نقحم المرأة المسلمة فيها هي صناعة الإسلام وبناؤه ، أم أنها مثل أمور أخرى غيرها استوردناها من الغرب مع الحداثة والشعر المتفلّت المنثور وغيره من بضاعة الديمقراطية والعلمانية؟!
وبصورة عامة، فإنّ هذا الموضوع: مساواة المرأة بالرجل كما يقول بعضهم: " لقد قرّر الإسلام مساواة المرأة بالرجل"! هكذا في تعميم شامل، شاع هذا الشعار في العالم الإسلامي، وأصبح له جنود ودعاة ودول تدعو إِليه. وكذلك: "مساواة المرأة بالرجل في ممارسة الحقوق السياسية"، هذا كله موضوع طُرق حديثاً مع تسلل الأفكار الغربية إلى المجتمعات الإسلامية، مع تسلل الديمقراطية والعلمانية، كما تسلّلت قبل ذلك الاشتراكية.
هنالك عوامل كثيرة يجب أن تُدرس وتُراعى عند دراسة نزول المرأة إلى ميدان العمل السياسي الذي يفرض الاختلاط في أجواء قد لا يحكمها الإسلام من ناحية، ولا تحكمها طبيعة العمل نفسه. والاختلاط مهما وضعنا له من ضوابط، فقد أثبتت التجربة الطويلة في الغرب وفي الشرق إِلى انفلات الأمور، وإلى التورط في علاقات غير كريمة.
وكذلك فنحن لسنا بحاجة لنزول المرأة إلى الميادين، ففي الرجال عندنا فائض، والرجال بحاجة إلى أن تُدرس حقوقهم السياسية التي منحهم إياها الإسلام.
إن نزول المرأة إلى الميدان السياسي ذو مزالق خطيرة، فعندما يُطلق هذا ويُباح، فهل معظم النساء اللواتي سيمارسن هذا العمل نساء ملتزمات بقواعد الإِسلام كلّه، و بالحجاب واللباس عامة؟
إنَّ إطلاق هذا الأمر ونحن لم نَبْنِ الرجل ولا المرأة، والتفلّت في مجتمعاتنا واضح جليّ ومتزايد في الرجال والنساء، دون أن ينفي هذا وجود بعض النساء الملتزمات والرجال الملتزمين، إنَّ إطلاق هذا الأمر قد يقود إلى فتنة يصعب السيطرة عليها.(/4)
وإني لأتساءل: لأيّ مجتمع تصدر مثل هذه الآراء؟! لأيّ رجل وأي امرأة؟ هل المجالس النيابية الحاليّة تصلح ميداناً للمرأة المسلمة لتمارس النشاط السياسي؟ أين هو المجتمع الذي يطبّق شرع الله كاملاً، لتُطلق فيه مثل هذه الأمور؟ وهل هذه المجالس مجالس يسودها شرع الله؟!
وميادين العمل المباح للنساء واسعة جداً وكافية لهن، وكلها منضبطة بقواعد الإسلام مثل المدرسات والطبيبات، وكل عمل ليس فيه باب من أبواب الفتنة أو الاختلاط، مع توافر جميع الشروط الشرعية الأخرى عند مزاولة هذه الأنشطة.
لا بدّ من الاستفادة مما حلَّ بأقوام آخرين حين انطلقت المرأة في المجتمع في هذا الميدان أو ذاك. وإذا نزلت ميدان السياسة فما الذي يمنعها أن تنزل إلى المصانع وسائر الميادين الأخرى، كما نراها في العالم الغربي؟!
وكذلك أتساءل: لماذا هذه الضجّة الكبيرة عن المرأة وحقوقها؟ ألا تنظرون إلى الرجل وحقوقه؟ في عالمنا اليوم فَقَدَ كثير من الرجال حقوقهم، فلماذا تكون الضجّة على حقوق المرأة وحدها، ففي ذلك ظلم للمرأة وللرجل.
والإسلام في نهجه جعل الحقوق والواجبات متوازنة في الحياة كلها من خلال منهاج رباني أصدق من سائر المناهج وأوفى وأعدل.
وأخيراً أقول: قبل أن نطلق مثل هذه الآراء اليوم، فلنبن الرجل ولنبن المرأة ولنبن المجتمع المسلم.
فلنبنِ الأمة، فلنبنِ الرجل والمرأة، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم الملتزم، ولنبنِ الأمة المسلمة الواحدة الملتزمة بالكتاب والسنة. حيث تكون كلمة الله هي العليا، فيكون هذا المجتمع أقدر على تحديد دور الرجل والمرأة.
إلى ذلك يجب أن تتجه الجهود متكاتفة بدلاً من أن تتمزَّق في قضايا جزئية لا تساعد إلا على تمزيق الأمة: أيها العلماء والفقهاء والدعاة والمسلمون، أقيموا الإسلام حقّ الإقامة أولاً في نفوسكم رجالاً ونساءً، وأقيموه في الأرض، كما يأمركم الله سبحانه وتعالى، وبلّغوه الناس وتعهّدوهم عليه، ثمَّ انظروا في حقوق المرأة والرجل تجدوها بيّنة جليّة لا تحتاج إلى فتوى، كما وجدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون المتقون في العصور كلِّها!
(1)عن أنس وغيره من الصحابة . صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم: 3913 أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه، صحيح الجامع الصغير وزيادته 5100 .
(2)صحيح الجامع الصغير وزيادته رقم 5096 ، المشكاة : رقم : 4470 .
(3)عن عائشة رضي الله عنها، وعن عبد الله بن أوفى، ومعاذ بن جبل، وأنس بن مالك، رضي الله عنهم، في روايات متعددة كلها تتفق مع النصّ المذكور. أخرجه الإمام أحمد: الفتح الرباني : 16/227 وأخرجه ابن ماجه وابن حبان. وفي صحيح الجامع الصغير وزيادته : رقم : 5295 .
(4)جورباتشوف: البيروسترويكا والتفكير الجديد لبلادنا والعالم أجمع ، ص : 166 ترجمة أحمد شومان .
(5)مسلم : 32/47/1800 ، وأبوداود : 9/34/2531 .
(6)البخاري : 11/11/893 مسلم : 33/5/1829 ، الترمذي : 24/27/1705 .
(7)أحمد وابن ماجة.
(8)أبوداود : 34/6/4607 ، الترمذي 42/16/2676 ، ابن ماجة : المقدمة 35 .(/5)
وباء المرآة
إبراهيم غرايبة 11/4/1424
11/06/2003
يعود وصف النرجسية إلى أسطورة قديمة تقول:"كان نرسيس فتى جميلا يمضي معظم وقته يتأمل جمال وجهه على صفحة الماء في إحدى البحيرات، وكان مفتونا بصورته منشغلا في تأمل ذاته حتى أنه سقط وهو مستغرق في النظر في البحيرة وغرق، وفي المكان الذي سقط فيه نبتت زهرة سميت نرسيس "نرجس" وجاءت الورود ربات الغابة إلى ضفة البحيرة العذبة ووجدتها قد تحولت إلى جرن دموع، فسألت الورود الغابة لم تبكين؟ قالت: أبكي من أجل نرسيس، فقالت الورود: لا بد أن وفاته تحزنك فهو فتى جميل وكنا نلاحقه في الغابة، ولكنك الوحيدة التي كانت تستطيع مشاهدة جماله عن كثب.
سألت البحيرة الورود : وهل كان نرسيس جميلاً؟
قالت الورود: وهل يعرف أحد جماله أكثر منك، ألم يكن ينحني على ضفافك كل يوم ساعات طويلة؟
قالت البحيرة: لم ألاحظ أن نرسيس كان جميلا، ولكني أبكي لأني كنت في كل مرة ينحني فيها ويتأمل في الماء أرى صورتي في عينيه، ولم أعد قادرة بعد اليوم على رؤية نفسي "
والنرجسية هي في تسميتها العلمية "الانشغال بالذات" أو (autism) ويعد هذا في علم النفس من اضطرابات النمو، ويشغل المرشدون النفسيون والاجتماعيون بعلاج الأطفال منه، ويصيب عادة الأطفال ولكن قد يستمر المرض مع البعض حتى يكبروا، ومن أعراض هذا المرض كما وردت في قاموس الخدمة الاجتماعية: عدم أو قلة الاهتمام بالعالم الخارجي، وعدم القدرة على التعامل مع الأشياء والناس، ويكرس المصاب بهذا المرض كل اهتمامه برغباته ومشاعره الشخصية الداخلية، وعجز المهارات الاجتماعية ومهارات الاتصال، وأسلوب غير سوي في إقامة علاقات مع الآخرين، واستجابات غير طبيعية أو غير مألوفة للمشاعر والأحاسيس.
والنرجسية مرض يؤدي إلى كراهية الناس للمريض ونفورهم منه، وقد يكون المريض خطرا على نفسه، ويوقع نفسه في الموت والأذى والعزلة والاكتئاب والهوس، فكثير من حوادث المرور الخطرة والقاتلة ترد إلى انشغال السائق بنفسه فقط، وعدم ملاحظته للآخرين، واعتقاده اللاشعوري أن الطريق له وحده ولا يشاركه فيها أحد.
ويبدو أن النرجسية أو الانشغال بالذات تفسر الكثير من المشاهد والمواقف التي نلاحظها بالجملة في حياتنا اليومية، في الشارع وطريقة قيادة السيارات والتصرفات المرافقة للقيادة، والكتابة الصحفية والعمل الإعلامي بعامة، والخطب والتصريحات والسلوك اليومي في المكاتب والإدارات والمحادثات العفوية والمجالس، وأسلوب الإدارة والعمل والعلاقات مع الآخرين والبيئة المحيطة، وفي الحوار والتعلم والتعليم والاتصال، والفيديو كليب، وهكذا فإن هذا المرض أو هذه الظاهرة تمتد إلى معظم شؤون الحياة العامة والخاصة، وليست مجرد نقص اجتماعي أو حالة تستدعي الإرشاد والتدخل.
فهي في الحياة الاجتماعية تفسر عدم قدرة الناس على الحوار والاستماع الفيزيائي بالأذن فضلا عن الإصغاء والتفكير فيما يقوله ويكتبه الآخر، ومن ثم عدم القدرة على التواصل مع الآخرين والتعلم منهم وإفادتهم وتعليمهم وتبادل المعارف والتجارب.
وفي العمل السياسي تفسر ضعف المشاركة والتفاعل مع البرامج والمواقف حتى الصائبة منها، فلا يكفي للبرامج والمشروعات أن تكون صائبة إذا لم تجد القبول والمشاركة، وما ينقص البرامج والأفكار التي تقوم عليها المؤسسات الرسمية والأهلية لا يكون دائما الصواب وسلامة التفكير والتنظير والتخطيط، ولكن قناعة الناس بها وإقبالهم عليها، والناس حين يتخذون مواقف خاطئة لا يقدمون على ذلك دائما لجهلهم بالصواب ولكنهم يمارسون احتجاجا سلبيا، وربما يكون أفضل تفسير للسلبية وضعف المشاركة والإقبال هو الاحتجاج، والمقاومة بالحيلة، ومعاقبة من يعتقد الناس أنهم يفكرون ويعملون بفوقية وأنانية حتى في عطائهم وبذلهم، فالناس ترفض العمل العام المعزول عن رأي الناس ومشاركتهم.
وهو أمر يمكن ملاحظته في الفرق بين مؤسسات ومرافق أقيمت بمبادرات ومشاركة وبين أخرى قدمت للناس جاهزة بذل فيها مال كثير وجهد وتخطيط، ولكنها مصحوبة بالوصاية على الناس وتجاهلهم.
حتى في العلاج والمستشفيات فإن تجاهل المريض ومظنة الطبيب مهما كانت خبرته وعبقريته أن المريض "شيء ما" لا حق له في الاختيار والمشاركة في العلاج يحبط المريض ويقلل استجابته للدواء والعلاج، وقد ينجح الأطباء في التشخيص وفهم المرض لكنهم يفشلون في المحصلة النهائية عندما يتجاهلون المريض تماما ولا يشعرون بوجوده، ويبالغون أحيانا بالرطن والاستعراض مع المساعدين والمتدربين المحيطين بالمريض المسكين.
وسأنقل هنا وصفا حرفيا لأحد المرضى الذين تلقوا علاجا في أحد المستشفيات الكبرى، يقول وهو رجل كبير السن أكسبته الحياة والفطرة كثيرا من الحكمة والبصيرة: "التف حولي الأطباء وهجموا علي كما الضباع التي تلتهم الفريسة" لقد شفي الرجل ونجحت العملية ولكنه بقي يشعر بالاستياء ومذلة التجاهل.(/1)
وعاد الرجل إياه بعد سنوات إلى المستشفى نفسه، وأشرف على علاجه طبيب آخر لا بأس هنا من ذكر اسمه وهو الدكتور "مجلي محيلان" وظل الرجل بعد ذلك يذكر الطبيب بالخير ويشعر نحوه بامتنان عميق، لأنه برأيه إنسان قبل أن يكون طبيبا، كان يطلعه على حالته ويشرح له ويمزح معه ويتعامل معه بصداقة واحترام، هذا برغم أن العملية أجريت له مرتين، فلم تنجح المرة الأولى بالتنظير واحتاج الأمر إلى الجراحة، وتأخر المريض في المستشفى وشعر بآلام وإحباط.
وربما تكون المأساة الأكبر حين تتحول المرآة إلى إدمان لا يمكن التخلص منه، فيستغرق فيها بعض الناس ليس جهلا وعدم معرفة بالصواب، ولكن استمتاعا بلذة الوهم، أو تتحول غيبوبة النرجسية إلى مصالح وكيانات، والحقيقة إلى عدو تجب محاربته، وقد يلتبس الأمر على المشتغلين بالإصلاح في هذه الحالة، فيغفلون عن فهم العمل العبقري الموجه لمنع الصحو واليقظة.
حوادث المرور، والغثاء في الإعلام والغناء والفن والأحزاب والبرامج العامة والثقافية، وضعف التعليم وتراجع الفكر والنشر والقراءة، والجريمة والمخدرات والانحراف، والعزوف عن المشاركة والعمل العام والتطوعي، وغير ذلك كثير يجمع بينها شيء واحد، وتحتاج في مواجهتها إلى علاج نفسي واجتماعي وتأهيل يأخذ بالحسبان حالة النرجسية، والانشغال بالذات المفشية إلى درجة الوباء(/2)
وبالوالدين إحسانا
البر بالوالدين معناه طاعتهما وإظهار الحب والاحترام لهما ، ومساعدتها بكل وسيلة ممكنة بالجهد والمال ، والحديث معهما بكل أدب وتقدير ، والإنصات إليهما عندما يتحدثان ، وعدم التضجر وإظهار الضيق منهما .
وقد دعا الإسلام إلى البر بالوالدين والإحسان إليهما ، فقال تعالى :
" وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23)وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) " (الإسراء 23 ، 24)
ويعتبر الإسلام البر بالآباء من أفضل أنواع الطاعات التي يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى ، لأن الوالدين هما سبب وجود الأبناء في الحياة وهما سبب سعادتهم ، فقد سهرت الأم في تربية أبنائها ورعايتهم ، وكم قضت ليالي طويلة تقوم على رعاية طفلها الصغير الذي لا يملك من أمره شيئًا ، وقد شقي الأب في الحياة لكسب الرزق وجمع المال من أجل إطعام الأبناء وكسوتهم وتعليمهم ومساعدتهم على تحقيق أحلامهم ، لذا نلاحظ أن الله تعالى جعل طاعة الوالدين بعد الإيمان به فقال :
" وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23)" (الإسراء :23)
وبلغت وصية الله سبحانه وتعالى بالوالدين أنه أمر الأبناء بالتعامل معهما بالإحسان والمعروف حتى ولو كانا مشركين ،
فقال تعالى :
" وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15)" (لقمان : 15)
• حقوق الوالدين :
إذا كان من الطبيعي أن يشكر الإنسان من يساعده ويقدم له يد المساعدة ، فإن الوالدين هما أحق الناس بالشكر والتقدير ، لكثرة ما قدما من عطاء وتفانى وحب لأولادهما دون إنتظار مقابل ، وأعظم سعادتهما أن يشاهدا أبناءهما في أحسن حال وأعظم مكانة ..
وهذه التضحيات العظيمة التي يقدمها الآباء لابد أن يقابلها حقوق من الأبناء ومن هذه الحقوق التي وردت في القرآن الكريم :
1- الطاعة لهما و تلبية أوامرهما .
2- التواضع لهما ومعاملتهما برفق ولين .
3- خفض الصوت عند الحديث معهما .
4- استعمال أعذب الكلمات وأجملها عند الحديث معهما .
5- إحسان التعامل معهما وهما في مرحلة الشيخوخة وعدم إظهار الضيق من طلباتهما ولو كانت كثيرة ومتكررة .
6- الدعاء لهما بالرحمة والغفران .
• أحق الناس بحسن الصحبة :
أن أعظم صحبة للإنسان هي صحبة الوالدين ، وهى صحبة يرضى بها الإنسان ربه ويرجو بها حسن الثواب في الآخرة ، ومعنى الصحبة ، هو أن يحاول الإنسان أن يرد الجميل لوالديه ، ويعمل على رعايتهما ، وبخاصة إذا كبرا في السن واحتاجا إلى العون والرعاية .
وجاء في الحديث أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك . قال : ثم من ؟ قال : أمك .
قال : ثم من ؟ قال : أبوك . (رواه البخارى ومسلم)
وقال صلى الله عليه وسلم : "إن الله يوصيكم بأمهاتكم (ثلاثا) إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب " (سنن ابن ماجة – كتاب الأدب – باب بر الوالدين) .
• بر الوالدين قبل الجهاد :
حرص الإسلام على إكرام الوالدين ورعايتهما ، وجعل ذلك جهادًا يعادل الجهاد في سبيل الله ، فلا يخرج أحد إلى القتال وأبواه أو أحدهما يحتاج إلى عونه .
- أتى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعه على الجهاد والقتال ، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم هل من والديك أحد ؟ قال الرجل : كلاهما حي يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وسلم : ارجع إلى والديك وأحسن صحبتهما . (البخارى 3004 ، ومسلم 2549)
- وفى رواية ثانية أن رجلاً من اليمن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد ، فقال صلى الله عليه وسلم : هل لك أحد باليمن ؟ قال : أبواي ، قال : أذنا لك ؟ قال : لا .
قال : فارجع إليهما ، فاستأذنهما ، فإن أذنا لك فجاهد والإ فبرهما (رواه أبو داود 2530)
• بر الوالدين بعد وفاتهما :
لا ينتهي البر بالوالدين بموتهما أو بموت أحدهما ، بل يستمر إلى ما بعد الموت ، فقد روى إن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :(/1)
يا رسول الله هل بقى من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟ قال : نعم الصلاة عليهما ، والإستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما (مسند أحمد 3/497)
وفى الحديث حث على بر الوالدين في حياتهما وما بعدها ، ويكون ذلك بالاستغفار لهما ، والوفاء بالعهود والمواثيق التي عقداها في حياتهما وإكرام أصدقائهما وصلة أرحامهما .
• بر الوالدين ولو كانا غير مسلمين :
الأباء هم الأباء مهما اختلفت ديانتهم عن دين أبنائهم يشعرون بالحب والمودة تجاة أبنائهم ، وتربطهم بهم علاقة الدم التي لا يمكن أن تضيع ، وفى الوقت الذي حرص فيه على الإلتزام بالدين الحق دعا إلى بر الوالدين غير المسلمين وعدم عقوقهما ما داما لم يطلبا من أبنائهم ترك الإسلام أو معصية الله تعالى كما جاء في الآية الكريمة :
وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
(لقمان : 15 )
وقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم، من أصحابه البر بآبائهم غير المسلمين :
تقول أسماء بنت أبى بكر الصديق رضى الله عنه : قدمت على أمي وهى مشركة في عهد رسول صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول اللهصلى الله عليه وسلم قلت : قدمت على أمي وهى مشركة ، أفأصلها ؟ قال : نعم : صِلى أمك . البخارى 5979 ، مسلم 1003)
• أحاديث في الترغيب في بر الوالدين والترهيب من عقوقهما :
- قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : "رضا الله في رضا الوالد وسخط الله في سخط الوالد "
(الترمذى :1899)
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر" ، قلنا : "بلى يا رسول الله "، قال رسول الله :" إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات "(البخارى:3677)
• صور من البر :
ضرب لنا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح أروع الأمثلة في البر بالوالدين والإحسان إليهما ، ومن ذلك ما يروى من أن "أسامة بن زيد" كان له نخل بالمدينة ، وكانت النخلة تبلغ نحو ألف دينار ، وفى أحد الأيام اشتهت أمه الجمار ، وهو الجزء الرطب في قلب النخلة ، فقطع نخلة مثمرة ليطعمها جمارها ، فلما سئل في ذلك قال : ليس شيء من الدنيا تطلبه أمي أقدر عليه إلا فعلته .
وكان "على بن الحسين" كثير البر بأمه ، ومع ذلك لم يكن يأكل معهما في إناء واحد،
فسئل : إنك من أبر الناس بأمك ، ولا نراك تأكل معها ؟!
فقال : أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها ، فأكون قد عققتها .
ويحكى أن إحدى الأمهات طلبت من ابنها في إحدى الليالي أن يسقيها ، فقام ليحضر الماء ، وعندما عاد وجدها قد نامت ، فخشى أن يذهب فتستيقظ ولا تجده ، وكره أن يوقظها من نومها ، فظل قائمًا يحمل الماء حتى الصباح .(/2)
وتحققت المعجزة !
نور محمد مؤيد الجندلي
</TD
وتراقصت رياحين من الجنة أمام عينيه ، فحملت له معها أعطر النسائم وأشذاها ..
ورأى شعاع الشمس الذهبي ينعكس بلطف على أنهار العسل والخمر واللبن ، فتضفي ألواناً حالمة تنعكس على وجهه فتزيده بهاء ..
ورأى أمامه الحور العين ينادينه من قصر عظيم ، فيخفق قلبه فرحاً ..
ويفتر ثغره عن ابتسامة مشرقة ، زينها الأمل ، ورصّعها الإيمان
فينادي والدنيا برحابتها لا تتسع لأحلامه ( الآن قد وجبت لنا الجنة ) !
هتف به والقلب يملؤه اليقين ، والعين تنظر إلى الأفق البعيد ..
تعبر أمواج البحر الهادئ ، وتلقي بنفسها على ساحل ضيق ، ثم تنظر إلى الأعلى .. حيث القلعة العنيدة ، حيث الحلم المأمول ..
- هذا المضيق الذي يحجزني عن الجنة ، وتلك القلعة المحصنة التي أعجزت من كانوا قبلي
كيف أنكس كبريائها المزيف ؟
كيف أجعلها تنصاع لأمر الله ؟
وتناوشته سيوف اليأس فأخذت تقطع عليه سرب أفكاره ، وأخذ ينافح عنها باستبسال ..
يمرّ بخاطره وجه معلمه الحبيب ، وتبرق في روحه كلمات هي كالنجوم
كلمات انتشلته من حياة مترفة عابثة ن وجعلت منه قائداً فاتحاً عبقرياً
وكيف لا تفعل الكلمات فعلها في قلب تشرب الإيمان من معين القرآن فحفظه ، وتفقه في أمور السنة فوعيها ، وأبحر في شتى العلوم حتى أثبت نبوغه وعبقريته ..
ولا زالت تلك الكلمات تؤرقه
تقض عليه مضجعه ، وتوقظه من هدأة نوم في فراش وثير ، ليمتطي ظهر جواده ، ويسابق الشمس قبل موعد شروقها ، يقف أمام صخرة كبيرة ، يتأمل تلك القلعة البعيدة ، وتعصف روحه بكلمات قالها شيخه واضعاً كل الثقة في هذا الفارس المغوار
كلمات قالها نبيّ الأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، حملت بشرى للأمة فاستبشرت
وحمّلته عبئاً ثقيلاً ، وهما أخروياً طويلاً ، مالبث أن بدده بسعي وطول تفكير واستعانة بالله
كلمات نقلتها الصحابية الجليلة أم حرام ، حيث تقول : عن عبادة بن الصامت أنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم ! )
وهاهي مدينة قيصر - القسطنطينية - تناديه من بعيد
تعال يا محمد بجيشك ، أنا لك إن أخلصت العمل ، أنا لك إن صممت على الوصول
وتجيش مشاعره ، وتهبّ نسمات قوية تحمل له خطّة عبقريّة ..
وينادي على فرسانه وقادة جيشه ، ويبدأ التنفيذ في صمت ..
والقلوب تخفق أملاً
- أنكون ممن وجبت لهم الجنة ، أنكون ممن غفر الله لهم !
وفي ساعة الصفر ، يبدأ التنفيذ بدقة عالية ..
وتستلم تلك المحصنة القوية طائعة ، وترفع رايات النصر الإسلامية شامخة في كل مكان
ويصدح صوت التكبير ، وتخفق القلوب بالفرح ، وتدمع كل العيون وهي تتبادل تهاني النجاح والوصول إلى الغاية الأسمى ، غفران الله تعالى
ويسير محمد الفاتح شامخاًُ بين الصفوف ، ولسانه يلهج بالحمد والشكر لرب ألهمه الخطة ، وقد خيل إليه للحظة أنها معجزة ..
ويقف على أسوار القسطنطينية وشموخ يملأ وجدانه ..
يقول كلمات خلدها الزمان ، كلمات فيها مفتاح المعجزة يهديه لكل من يرغب أن يحقق أمنيات عظاماً :
( إن لي قلباً كالصخر لا يهدأ حتى أحقق ما أريد ، ولي عين دامعة من خشية الله ، فكيف لا أحقق ما أريد ) !
ويكفكف دمعاً أبى إلا أن يفرض نفسه في لحظة تجلى فيها الإيمان عميقاً ..
وتحفر في قلب الزمان حكاية خالدة ..
ويتردد في الآفاق صوت كلله الفرح بأكاليل النصر ..(/1)
وثيقة حقوق المرأة المسلمة وواجباتها
01-6-2005
"...هناك مبادئ ومنطلقات شرعية وواقعية توجه صياغة أي أصول شرعية حول قضية المرأة وحقوقها، وتحدد دواعيها, ومسلماتها, وطريقة معالجة موضوعها..."
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد:
فقد اُعدت هذه الوثيقة بياناً للموقف الشرعي تجاه قضية من قضايا العصر، ألا وهي قضية المرأة وحقوقها في المجتمع المسلم لا سيما في زمن هذه الجولة التغريبية المعاصرة، ونصحاً للأمة من أن تفتن في دينها، وبياناً لرحمة الله بالناس أجمعين، حيث شرع لهم هذه الشريعة الكاملة الصالحة لكل زمان ومكان.
وقد فرض توقيتها الاستهداف العدواني الصريح والمتسارع لقيم هذه الأمة, من قبل منظومة عالمية تقودها وتحركها المنظومة الغربية، من خلال رؤيتها العلمانية، المادية، الشهوانية.
إذا أمكن تفسير وفهم أسباب عجز الساسة عن مقاومة العدوان العسكري والسياسي، فلا يسوغ قبول قعود وعجز العلماء ومفكري الأمة عن رد العدوان الثقافي والفكري، خاصة وأن العدوان في معظم صوره الحالية والقادمة يستهدف تلك الجبهة التي يرابطون عليها.
ربما ينجح العدوان في مرحلة ما، على بلد ما، في إسقاط سلطته السياسية ويهزم قوته العسكرية، ولكنه لا يمكن أن ينجح في السيطرة على الشعوب المسلمة إلا إذا أفقدها ثقتها بدينها، قال تعالى: )وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ( آل عمران (69)، وقال تعالى: (وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء) آل عمران (89).
هذه الحقيقة تدفع إلى التأكيد على مجموعة أصول ورؤى حول أحد الميادين التي تجري فيها محاولات تغريبية محمومة، ألا وهو الميدان الاجتماعي، خاصة ما يتصل بالمرأة.
إن الاجتماع على مثل هذه الأصول، هو ثمرة من ثمرات وعي الأمة، ومظهر من مظاهر التداعي الإيجابي المتنامي لأهل الإصلاح فيها، وتجمعهم على الخير، نصرة للحق، ورداًً للظلم وإشاعة للفضيلة.
ولقد حرصت الوثيقة على الاختصار, بالاقتصار على الحد الأدنى من التعليل والتدليل.
ضمن المحاور التالية:
منطلقات أساسية
أصول شرعية في حقوق المرأة وواجباتها
رؤى تفسيرية وتعليلية لبعض هذه الأصول
توصيات ومطالب
منطلقات أساسية
هناك مبادئ ومنطلقات شرعية وواقعية توجه صياغة أي أصول شرعية حول قضية المرأة وحقوقها، وتحدد دواعيها, ومسلماتها, وطريقة معالجة موضوعها، وأهمها ما يلي:
1 . الاعتقاد الجازم بأن مصدر الخير والحق - فيما يتعلق بأمر الدنيا والآخرة - هو الوحي الإلهي بمصدريه الكتاب والسنة المطهرين، ومن ذلك الإجماع الثابت المعتبر، واعتبار الرجوع إليها وعدم مخالفتها، من أصل الإيمان وشرطه، قال عز وجل: )فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) "النساء:65"، ومن المعلوم بالضرورة أن من توحيد الله في ربوبيته الإيمان بأن الحكم والتشريع حق لله , في شؤون المجتمع, وشؤون أفراده، وفي الحياة كلها، ومن توحيده في ألوهيته الإيمان بوجوب التحاكم إليه في كل شيء.
2 . اليقين بصلاحية هذه الشريعة للتطبيق في كل زمان ومكان، وبشمولها لكل مناحي الحياة، والثقة التامة بهذا الدين, وأحكامه الكلية والجزئية، والإيمان بأنه هو الخير كله، والعدل كله، والرحمة كلها، قال تعالى: ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) الإسراء (9)، وسبب هذه الثقة صدور هذه الأحكام عن الله العزيز الحكيم، اللطيف الخبير، الموصوف بالعلم الشامل والحكمة التامة، قال عز وجل: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) "المائدة:5".
لذا فإن التصحيح والإصلاح لأي خلل في أي وضع أو ممارسة, يجب أن يكون وفق معيار الشريعة في الصواب والخطأ، والحق والضلال، وليس وفق موازين الآخرين من غير المسلمين أومن تأثر بهم من أبناء المسلمين، قال تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) المائدة (49)(/1)
3. الوعي بقصور المناهج الوضعية البشرية -المخالفة لنصوص الوحي الإلهي- في التصورات, والقيم, والموازين, والأحكام، مهما بدت مزينة وبراقة، قال تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ) النساء(82). مع الاعتراف بأنها قد تصيب الحق أو بعض جوانبه أحياناً, نتيجة لبقايا فطرة سليمة، أو عقل ونظر متجرد، كذلك الوعي بأن مصدر الشرور التي تعاني منها البشرية, مسلمها وكافرها, هو ابتعاد هذه المناهج عن مرجعية الإسلام الحق، قال تعالى: )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) "الروم:21"، وقال: )لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) "الأنبياء:22"،
4. الإيمان بأن دين الإسلام هو دين العدل ، ومقتضى العدل التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين و يخطىء على الإسلام من يطلق أنه دين المساواة دون قيد؛ لأن المساواة المطلقة تقتضي أحياناً التسوية بين المختلفين، وهذه حقيقة الظلم، ومن أراد بالمساواة العدل فقد أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ، ولم يأت حرف واحد في القرآن يأمر بالمساواة بإطلاق، إنما جاء الأمر بالعدل، قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)النحل (9)، فأحكام الشريعة قائمة على أساس العدل، فتسوي حين تكون المساواة هي العدل، وتفرق حين يكون التفريق هو العدل، قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) الأنعام (115)، أي صدقاً في الإخبار، وعدلاً في الأحكام.
لذا فإن الإسلام يقيم الحياة البشرية والعلائق الإنسانية على العدل كحد أدنى، فالعدل مطلوب من كل أحد، مع كل أحد، في كل حال، قال تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) المائدة (8). 5. في مجال العلائق بين البشر، تعتمد الجاهليةُ الغربية المعاصرةُ "الفرديةَ" قيمة أساسية، والنتيجة الطبيعية والمنطقية لذلك هو التسليم بأن الأصل في العلاقات بين البشر، تقوم على الصراع والتغالب، لا على التعاون والتعاضد، وعلى الأنانية والأثرة، لا على البذل والإيثار، وهذه ثمرة الانحراف عن منهج الله، فصراع الحقوق السائد عالمياً بين الرجل والمرأة هو نتاج طبيعي للموروث التاريخي والثقافي الغربي، بجذوره الميثولوجية (الدينية )، الذي تقبّل فكرة أن العداوة بين الجنسين أزلية، وأن المرأة هي سبب الخطيئة الأولى، وهذا الموروث ربما التقى مع بعض الثقافات الأخرى، ولكنه بالتأكيد لا ينتمي إلى شريعة الإسلام، ولا إلى ثقافة المسلمين.
فالحقوق عند المسلمين لم يقررها الرجل ولا المرأة إنما قررها الله اللطيف الخبير، الذي قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) الأعراف(189)، فإن وجد في واقع المسلمين حيف في الحقوق من طرف تجاه آخر؛ فهو نتيجة لانحراف المسلمين عن دينهم، وجهلهم بأحكامه وضعف إيمانهم بربهم؛ أو بسبب تحكيم القوانين الوضعية فيهم، أو بسبب تحكم الأعراف والتقاليد المخالفة للشرع في أحوالهم.
6. إن معركة الكفار ضد المسلمين مستمرة منذ قيام هذا الدين قال تعالى: ( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ) البقرة (217)، وفي الفترات التي يتسلط فيها الكفار على المسلمين يظهر النفاق في أوساط المسلمين ويجاهر من في قلبه مرض بمواقفه، ويكثر السمّاعون لهم، ولذا وجب مجاهدة المنافقين والاحتساب عليهم بقوة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير ) التوبة(73)، وقال عز وجل: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)المنافقون (4)، مع التنبه إلى الأسلوب الخادع الذي ينهجه كثير منهم، وهو التعامل مع النصوص الشرعية بمنهج التحريف والتأويل لمعانيها وألفاظها ومقاصدها بالشبهات الواهية.
كما يجب مناصحة السمّاعين لهم، ممن تأثر بواقع الهزيمة المادية والمعنوية للمسلمين، فضعف اعتزازهم بهذا الدين وأحكامه وشرائعه، وتأثر بشبهاتهم وضلالاتهم.
أصول شرعية في حقوق المرأة وواجباتها
لم يُعرف في تأريخ المسلمين، على مدى عمر أمة الإسلام، مشكلة اسمها " قضية المرأة"، سواء أكان ذلك في أوج عزتهم وتمكنهم، أو في أزمنة ضعفهم وهزيمتهم. وعندما نقل الغرب وأدعياؤه المستغربون أمراضهم ومعاناتهم على البشر جميعاً -بمن فيهم المسلمين-، ظهر ما يسمى بـ " قضية المرأة"، حيث لا قضية، ونودي بتحريرها في معظم مجتمعات المسلمين بالمفهوم العلماني الغربي للتحرير.(/2)
ولذا نبين هنا بعض الأصول الشرعية الحاكمة في هذا السياق: 1. المرأة أحد شطري النوع الإنساني، قال تعالى: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى)النجم(45)، وهي أحد شقي النفس الواحدة، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)النساء (1)، فهي شقيقة الرجل من حيث الأصل، والمنشأ، والمصير، تشترك معه في عمارة الكون - كل فيما يخصه - بلا فرق بينهما في عموم الدين، في التوحيد والاعتقاد، والثواب والعقاب، وفي عموم التشريع في الحقوق والواجبات، قال عز وجل: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)النحل(97)، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال" أخرجه أبو داود والترمذي, ومن هنا كان ميزان التكريم عند الله التقوى قال تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)الحجرات(13)، ولا يوجد تعبير عن هذا المعنى أدق ولا أبلغ من لفظ: (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ)، في قوله سبحانه وتعالى: ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ )آل عمران(5)، فهما سواء في معنى الإنسانية، وفي عموم الدين والتشريع، وفي الميزان عند الله.
وقد اقتضت حكمة الخالق أن الذكر ليس كالأنثى في صفة الخلقة، والهيئة، والتكوين، وكان من آثار هذا الاختلاف في الخلقة: الاختلاف بينهما في القوى والقدرات الجسدية، والعاطفية، والإرادية. قال سبحانه وتعالى عن الذكر: (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى)آل عمران (36)، وقال عن الأنثى: (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ)الزخرف (18).
وقد أنيط بهذا الاختلاف في الخلق بين الجنسين جملة من الحكم والأحكام، وأوجب هذا الاختلاف ببالغ حكمة الله العليم الخبير، التفاوت بينهما في بعض أحكام التشريع، وفي المهام والوظائف التي تلائم تكوين كل منهما وخصائصه، قال الله تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)الأعراف(54)، فتلك إرادة الله الكونية القدرية في الخلق والتكوين، وهذه إرادته الدينية الشرعية، في الأمر والحكم والتشريع، فالتقت الإرادتان في شأن الرجل والمرأة على مصالح الخلق، وعمارة الكون، وانتظام حياة الفرد والمجتمع.
2. ويترتب على هذه الحقيقة الثابتة أحكام شرعية كلية، ثابتة ثبات هذه الحقيقة، منها: أحكام الأسرة، فالأسرة في الإسلام هي وحدة بناء المجتمع، يترتب على قوتها وتماسكها سلامة المجتمع وصلاحه، والأسرة في الإسلام تهدف إلى تحقيق غاياتها بتبادل السكن، والرحمة، والمودة بين أفرادها، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)الروم (21).وللمرأة دور أساس في قوة الأسرة وتماسكها، وأي اختلال في أداء المرأة لمسؤوليتها في الأسرة، ينعكس أثره على أفرادها، فالمجتمع الصالح يقف بحزم في مواجهة سفاهات الجاهلية المعاصرة، التي تهون من دور المرأة في الأسرة، أو من أهمية قيامها بمسؤولياتها تجاهها، وهو أهم عمل تقوم به المرأة المسلمة لمصلحة الأسرة والمجتمع. وفي المقابل فعلى الرجل تحمل أعباء القِوامة التي هي تكليف فرضته عليه الشريعة الغراء، قال عز من قائل: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)النساء(34)، وقال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)البقرة (228). والقوامة هي القيادة أي قيادة المجتمع الصغير ( الأسرة ) التي يتشرف بها الرجل دون تسلط أو تعسف، وهي كذلك تكليف لصالح المرأة والبيت والأسرة، حيث تكون مسؤولية النفقة فيها وطلب الرزق والحماية والرعاية واجبة على الرجل، وله بذلك حق الطاعة المطلوبة للقائد، وهي الطاعة بالمعروف، وليست الطاعة المطلقة كما قال صلى الله عليه وسلم :" إنما الطاعة في المعروف" رواه البخاري ومسلم.(/3)
3. الرجل مكلف بالنفقة على المرأة، وهذه النفقة حق للمرأة ونصيب مفروض في ماله، لا يسعه تركها مع القدرة، قال تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً)الطلاق (7)، وهذا الحق لها لا علاقة له بحقها في امتلاك المال والتصرف به، من خلال إرادتها وذمتها المالية المستقلة كالرجل -على حد سواء-. وهذا حق ثابت في الشرع المطهر، وإذا كانت الجاهلية المعاصرة تعتبر المرأة ناقصة الأهلية في اكتساب المال وصرفه حتى النصف الثاني من القرن العشرين، كما هو في القوانين اللاتينية، فإن المرأة في الإسلام تعتبر شخصاً كامل الأهلية في هذا المجال، لا فرق في ذلك بينها وبين الرجل.
4. العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع الإسلامي وداخل الأسرة تقوم على أساس التكامل بين أدوارهما - وهو ما يسمى بالتكامل الوظيفي-، ومن مقاصد هذا التكامل: حصول السكن للرجل والمودة والرحمة بينهما، قال سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً)الروم (21)، ولفظ السكن لا يوجد أبلغ منه في اللغة العربية، وربما لا يوجد - كذلك - في لغات أخرى، فهو يعني جملة من المعاني منها : الأمن، والراحة، والطمأنينة، والأنس، وهو ما ينعكس إيجاباً عليهما وعلى أولادهما، ومن ثم على المجتمع كافة.
فإذا كان الجنسان يتمايزان في الصفات العضوية والحيوية والنفسية ، فإن من الطبعي أن يتمايزا في الوظائف الاجتماعية، والتكامل بين الجنسين في المسئوليات والحقوق، هو ثمرة العدل الذي قامت عليه العلائق في الإسلام. وبناءً على ذلك فلقد حدد الشرع مجالَ عمل الرجل في هذه الحياة ونوعيته، كما حدد مجالَ عمل المرأة الأساس ونوعيته، وقد جاء ملائما لما تقتضيه العقول السليمة والفطر المستقيمة, وبما يحدث التكامل والاتزان والأمن الاجتماعي، دون أن يتحمل أحدهما أكبر من حمله، الذي يحتمله طبعاً وعرفاً.
ولذا كان من الظلم والجور تحميل المرأة أعباء الرجل، دون حاجة شخصية أو اجتماعية، حيث يمثل ذلك اعتداءً على حق العدل في الحقوق والواجبات، كما يمثل اعتداءً على كرامة المرأة وأنوثتها.
5. إن الوضوح في تحديد وظيفة المرأة في الحياة، يوجه حتما تعليمها؛ لذا نؤكد هنا أن التعليم واجب شرعي فيما لا يتم تعبد الإنسان لربه إلا به، كمعرفة فروض الإيمان، وفروض العبادات ونحوها، وهذا يشترك فيه الذكر والأنثى، قال صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" رواه ابن ماجه. ثم تصبح فرضية بقية المعارف والعلوم عليهما بحسب وظيفة كل منهما ومسئوليته، وما زاد عن ذلك من العلوم يكون من النوافل، التي يجب أن لا يزاحم بها فرائض الأعمال الدنيوية أو الأخروية.
6. حفظت الشريعة الإسلامية المراعية للفطرة والقائمة على العدل للمرأة حقوقاً على المجتمع، تفوق في الأهمية كثيراً من الحقوق التي تضمنتها وثيقة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة، القائمة على أساس المساواة التماثلية، وتغفل الجاهلية المعاصرة هذه الحقوق، ولا تبالي بانتهاكها، ومن ذلك: حق المرأة في الزواج حسب الشريعة الإسلامية، وحقها في الأمومة، وحقها في أن يكون لها بيت تكون ربته، ويعتبر مملكتها الصغيرة، حيث يتيح لها الفرص الكاملة في ممارسة وظائفها الطبيعية الملائمة لفطرتها؛ ولذا فإن أي قانون أو مجتمع يحد من فرص المرأة في الزواج، يعتبر منتهكاً لحقوقها، ظالماً لها.
وللمرأة - في الشريعة الإسلامية - الحق في اختيار زوجها في حدود قوله عليه الصلاة والسلام :" إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه.." رواه ابن ماجه، وفي عدم اختيار البقاء معه — إذا لم تستقم الحياة الزوجية -، والنصوص الصحيحة الواردة في تقرير هذا الأمر كثيرة، وواضحة الدلالة، ويجب أن يرد إليها كل اختلاف واجتهاد في الأحكام.(/4)
7. العفة وحفظ العرض، أصل شرعي كلي جاء ضمن المقاصد الشرعية في حفظ ورعاية الضرورات الخمس المجمع على اعتبارها, التي ترجع إليها جميع الأحكام الشرعية، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال. وأي انتقاص لمبدأ العفة هو عدوان على الشريعة ومقاصدها، وانتهاك لحقوق المرأة والرجل والأسرة والمجتمع، وإشاعة للفاحشة بين المؤمنين، قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النور:"، ولذا شرع الحكيم الخبير أحكاماً؛ لرعاية هذا المبدأ، فشرع الزواج وعظم شأنه، وسمى عقده ميثاقاً غليظاً، وذلك في قوله تعالى: (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً)النساء(21)؛ ولوقاية هذا المبدأ من أن ينتهك، حرم الزنى على الجنسين -على حد سواء-، واعتبره من الفواحش (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً)الإسراء(32)، كما سد ذرائعه وما يقرب إليه، كالخلوة بالأجنبية، والاختلاط ، والخضوع بالقول، وشدد في تحريم الرغبة في إشاعة الفاحشة في مجتمع المؤمنين، كذلك شرع أحكام الحجاب وغض البصر؛ لذات المقصد وعاقب المعتدين على هذا المبدأ، فشرع حد الزنى، وحد القذف، وعقوبة التعزير. كل ذلك حفاظاً على الأعراض ومراعاة للعفة.
8. يعتبر الحجاب حصنا أساسياَ من الحصون التي تحافظ على العفة والستر والاحتشام, و يمنع إشاعة الفاحشة، كما انه مظهر من مظاهر الاعتزاز بالشعائر الشرعية، المحققة لعفاف الرجل والمرأة والمجتمع. وحجاب المرأة ليس نافلة، فضلاً عن أن يكون مجرد رمز يسع المسلمة التحلي به أو تركه، بل هو فريضة من الله على النساء؛ صوناً لهن؛ وإعلاناً لعفافهن، كقدواتهن من أمهات المؤمنين، فلا يطمع فيهن أهل الأهواء والشهوات، كما قال الحق سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)الأحزاب (59)، لقد دارت رحى الحرب على الحجاب مكشوفة صريحة, من قبل أعداء هذا الدين، ومن قبل متبعي الشهوات من المسلمين والمتاجرين بها، وربما استترت أحياناً, فأعلنت قبول الحجاب ولكن مع مسخ حقيقته، وتحويله إلى مجرد تقليد، وتراث يمكن أن يدخله التطوير والاختزال، بما يلغى مقصده وغايته.
إننا عندما ندرك أهمية الحجاب والقيمة المرتبطة به، يزول عجبنا من شراسة الحرب ضده, فالغرب -مثلاً- أصبح يضيق بالحجاب ذرعاً, كما لم يضق بأي لباس آخر لأي طائفة دينية, أو نحلة بشرية، والشواهد على مضايقة المحجبات قانونياً وعملياً واضحة لكل متابع، سواء أكان ذلك في العالم الغربي -الذي يزعم أن من أسسه حماية الحقوق الشخصية-، أو في بعض دول العالم الإسلامي والعربي المتبني للعلمانية.
9. وإذا كان الحجاب شريعة محكمة وفريضة ثابتة؛ لصيانة كرامة المرأة والمجتمع عامة؛ ولتدعيم مبدأ العفة، فإن تشريعاً آخر يرتبط بهذه الغاية ويقويها، وهو إباحة تعدد الزوجات، الذي تم تشويه حقيقته من خلال الطرح الإعلامي المشوه، ومن خلال الممارسة الخاطئة له، رغم أن الواقع التطبيقي لهذا التشريع حتى في المجتمعات غير الإسلامية يؤدي إلى دعم مكانة المرأة وقيمتها في المجتمع، ولتوضيح ذلك قارن بين المجتمعات التي يسود فيها تشريع التعدد كيف تكون فيها المرأة ذات قيمة كبيرة، في مقابل المجتمعات التي تحرّم وتجرّم هذا التشريع تكون فيها المرأة ذات قيمة أقل.
فالتعدد تشريع ثابت محكم، مشروط بالعدل، محقق لكرامة المرأة وميسر لها الزواج بكرامة وعفة، بغض النظر عن حالها من ترمل أو طلاق أو كبر، وفي المقابل فإن حالات اجتماعية كثيرة لا يكون حلها إلا بالتعدد مثل عقم الزوجة، أو مرضها، أو طبيعة مهنتها، أو وضعها القانوني كالجنسية، وحالات أخرى، وكلها لا بديل فيها عن التعدد إلا الطلاق، وهو أكره ما يمكن أن يحدث بين زوجين يكن كل منهما المودة والرحمة للآخر، كما أن التعدد في كثير من الأحيان سبب لحفظ كرامة الأطفال، وذلك بإيجاد الأب البديل للطفل اليتيم أو الفاقد للأب، عوضاً عن التشرد أو دور الأيتام، قال عز وجل: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ)النساء(3)، فالإسلام راعى مصلحة المجتمع من الرجال والنساء بشكل عام، بما يحقق مقاصد الزواج للطرفين، وبما يشبع حاجاتهم النفسية والاجتماعية، من العفة، والسكن، والذرية، حتى لو تعارض -أحياناً- مع الرغبة الآنية، والمصلحة الضيقة الخاصة بالمرأة المتزوجة.
رؤى الوثيقة(/5)
1. إن الإسلام بعد تقرير المساواة بين الرجل والمرأة في معنى الإنسانية، والكرامة البشرية والحقوق التي تتصل مباشرة بالكيان البشري المشترك والمساواة في عموم الدين والتشريع، يفرق بين الرجل والمرأة في بعض الحقوق وبعض الواجبات، تبعاً للاختلاف الطبيعي الحاسم بينهما في المهام والأهداف، والاختلاف في الطبائع التي جبل عليها كل منهما؛ ليؤدي بها وظيفته الأساسية. وهنا تحدث الضجة الكبرى التي تثيرها المؤتمرات الخاصة بالمرأة وروادها، ويثيرها المنتسبون للحركة النسوية العالمية ومقلدوها في العالم الإسلامي المروجُون لفكرة المساواة التماثلية بين الجنسين.
إن المساواة في معنى الإنسانية ومقتضياتها أمر طبعي، ومطلب عادل ، فالمرأة والرجل هما شقا الإنسانية، والإسلام قرر ذلك بصورة قطعية لا لبس فيها، أما المساواة في وظائف الحياة وطرائقها فكيف يمكن تنفيذها؟ هل في وسع هذه المؤتمرات والحركات النسوية ومنتسبيها من الرجال والنساء، بقراراتهم واجتماعاتهم أن تبدل طبائع الأشياء ؟ وأن تغير طبيعة الفطرة البشرية ؟. إن مزية الإسلام الكبرى أنه دين ونظام واقعي، يحكم في مسألة الرجل والمرأة على طريقته الواقعية، المدركة لفطرة البشر، فيسوي بينهما حين تكون التسوية هي منطق الفطرة الصحيح، ويفرق بينهما حين تكون التفرقة هي منطق الفطرة الصحيح قال تعالى: ( أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك (14)
إن أي فكرة أو حركة تقوم على مصادمة السنن الاجتماعية والفطر البشرية، مصيرها الفشل الذريع، والخسران المبين، وهذا سبب فشل حركات تحرير المرأة - حتى في العالم الغربي - في تحقيق ما تصبو إليه، بالرغم من مرور أكثر من قرن ونصف على انطلاق هذه الحركة، وهذا يفسر وجود الحركات المناهضة في المجتمعات الغربية، التي تزداد مع الوقت، كلما ظهرت الآثار السلبية القاتلة للحركات النسوية؛ ولذا يكون من العقل والحكمة أن تعتبر المجتمعات الإسلامية بمآلات تلك المجتمعات ، وأن تبدأ من حيث انتهت، لا من حيث بدأت وأن تتخذ من ذلك شهادة على حكمة ما جاء به الإسلام في شان المرأة.
2. تحرم الشريعة الإسلامية التمييز الظالم ضد المرأة، الذي يخل بحقوقها, أو يخدش كرامتها. ولا يوجد تمييز مجاف للعدل ومحابٍ للرجل في منهج الإسلام أو أحكامه ضد المرأة, إلا ما كان في أذهان المرضى بالهزيمة النفسية، أو عند الجاهلين بالشرع المطهر، الذين لم يدركوا الحِكَم من وجود بعض لفروق الخَلقية والجبلية ، وما لزم على ذلك من وجود بعض الاختلاف في الأحكام الشرعية والوظائف والحقوق الحياتية، وكل دعوى تنافي ذلك - سواء صدرت عن عدو مغرض أو عن صديق جاهل - فهي مبنية على وهم وغفلة ، أو حجة داحضة.
لقد قيل - مثلاً - إن إعطاء الأنثى نصف نصيب الرجل في الميراث في أغلب الحالات -عندما يجتمعان في مستوى واحد من القرابة للمورث - مظهر للتمييز ضد المرأة، وهذا انسياق وراء مفهوم المساواة التماثلية، وإعراض عن مفهوم العدل الذي قامت على أساسه العلاقات في الإسلام، والذي يقتضي أن تكون الحقوق حسب الوظائف والمسؤوليات، فإذا كان الرجل ملزماً في الإسلام بالإنفاق على المرأة ودفع المهر لها والعقل في الديات ونحوها ، فمن العدل أن تراعي الشريعة ذلك في الميراث، وعدم النظرة الشمولية لأحكام الشريعة يوقع في هذه المغالطة.
وقيل - مثلاً - إن اعتبار شهادة امرأتين بشهادة رجل، مظهر للتمييز ضد المرأة، وهذا غفلة عن طبيعة المرأة التي خلقها الله عليها- لحكمة بالغة- فهذه الطبيعة التي قد تضلها عن الحقيقة، تقتضي وجود امرأة أخرى معها في الشهادة، حفظاً للحقوق قال تعالى :( أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ) البقرة (282)، هذا مع العلم أنه تقبل شهادة امرأة واحدة فيما هو من اختصاصها كالرضاعة وثبوت البكارة والعيوب الداخلية للمرأة ونحوها.
ومثال آخر لما يتوهم أنه مظهر للتمييز ضد المرأة، وهو اعتبار دية المرأة نصف دية الرجل، ويندفع هذا التوهم بعد معرفة أن المنتفع بالدية ليس الميت رجلاً أو امرأة، وإنما الوارث، وفي كل النظم يكون تعويض المضرور متناسباً مع الضرر، والضرر المادي الذي يلحق بالورثة بموت عائلهم والمسؤول عن النفقة عليهم وهو الرجل في الغالب، ليس مثل الضرر الذي يصيب الورثة بموت شخص لا يعولهم، ولا يسأل عن نفقتهم .
يؤكد هذا أنه عندما يكون المستحق للتعويض هو المصاب نفسه رجلاً أو امرأة في حالة الدية الجزئية، أي في حالة الدية عن الأعضاء مع بقاء المصاب حياً، فإن الحكم يكون بالتسوية في الدية بين الرجل والمرأة إلى حدود يختلف اجتهاد الفقهاء في تعيينها.(/6)
إن هذا الاجتهاد في بيان جوانب من الحكمة في التفريق بين الرجل والمرأة في هذه الأمثلة -وهي أبرز الأمثلة لما يُدعى أنه مظهر للتمييز الظالم ضد المرأة- تظهر أن التفريق في بعض الأحكام بينهما محقق للعدل المطلق، ومناسبٌ للخلق المحكم، ومطرد مع قاعدة الشريعةً.
3. إن المرأة بتكوينها الجسدي والفكري والوجداني، مهيأة لوظيفة أساسية معينة، هي الأمومة ولوازمها، فإذا لم تقم بها فذلك إهدار لطاقة حيوية مرصودة لغرض معين، وتحويل لها عن سبيلها الأصيل، وحينما تكون هناك ضرورة أو حاجة شخصية أو اجتماعية للعمل فلا اعتراض، أما اللجوء إليه بغير حاجة، ولمجرد استجابة لنزوة حمقاء، أصيب بها جيل من البشرية؛ بسبب ظروفه التاريخية والثقافية، أو أنه يريد أن يستمتع بغير حد، وليأت بعده الطوفان، فأمر لا ينتظر من الإسلام قبوله، ولو استجاب له لتخلى عن مزيته العظيمة، وهي النظر إلى جنسي الإنسانية على أنهما متكاملان، وأن البشرية عبارة عن كيان متصل الأجيال.
إن المرأة لا يمكن أن تكون في الغالب أماً وأجيرة للغير في نفس الوقت، أي تقوم بالوظيفتين مع لوازمهما قياماً كاملاً، ودعوى أن المحاضن أو المربيات تقوم بحل مشكلة الأطفال، كلام لا يثبت عند التحقيق والتمحيص ، كما أن هذه الحال تحد من تحقيق معنى قوله تعالى: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، والذي هو من أعظم مقاصد النكاح وتكوين الأسرة، فأي جدوى للبشرية من زيادة إنتاجها المادي - إن ثبت ذلك -، وهي تعرض الإنتاج البشري للتلف والبوار.
لقد كان الإسلام يلحظ الفطرة البشرية وحاجات المجتمع معاً حين دعى المرأة للقيام على وظيفتها الأولى باعتبارها من العبادةالتي خلقت من أجلها، ووهبت العبقرية فيها، وجعل كفالتها واجباً على الرجل، لا يملك النكول عنه؛ ليفرغ بالها من القلق على العيش، وتتجه بكل جهدها وطاقتها؛ لرعاية الإنتاج البشري الثمين؛ ولتحقيق السكن المطلوب لرعاية الأسرة زوجاً وأولاداً، ثم أحاطها بكامل الرعاية والاحترام، حين حض الزوج عليها فقال تعالى : (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)النساء() ، وقال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله) رواه الترمذي، وقال: (استوصوا بالنساء خيراً) رواه مسلم، وكذلك عندما حض الأولاد عليها، فقال لما سأله رجل من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك) رواه مسلم.
4. إن الإسلام يحث المسلم، ذكراً كان أو أنثى، على العمل، بالمفهوم الشرعي للعمل لا بالمفهوم المغلوط أو المستورد فالرجل عامل في طلب الرزق وبناء المجتمع، كما أن المرأة عاملة في بيتها وفي بناء أس المجتمع وهو الأسرة. ولأهمية الأمر، نشير هنا إلى مغالطة شائعة في مفهوم العمل، عند الحديث أو المطالبة بعمل المرأة، حيث يخصص في عمل من سمي في اصطلاح الفقهاء " بالأجير الخاص"، وهو: " العمل مدفوع الأجر"، أو: "تلك الأعمال التي تمارسها المرأة حال كونها أجيرة تحت قوامة شخص لا تربطها به إلا الروابط المادية"". فلا يحتسب من العمل -مثلاً- تلك الأعمال التي تمارسها المرأة في بيتها، من تربية للأبناء، أو حسن تبعل للزوج، أو رعاية لوالدين ونحو ذلك. وغالبا ما توصم المرأة غير الأجيرة بأنها عاطلة، وبأن عدم دخول المرأة "سوق العمل" أجيرة يعتبر تعطيلاً لنصف المجتمع. وهذه مغالطة، انطلت على كثير من الناس مثقفهم وعاميهم إلا من رحم الله. حتى أصبح الخيار, في حس المرأة, هو أن تكون "عاملة" خارج بيتها أو تكون "عاطلة" في بيتها، والصحيح أن الخيار هو إما أن تكون عاملة أجيرة للغير أو تكون عاملة حرة في وظيفتها الأساسية.
إن الخلل في هذا المفهوم يدفع المرأة لتضغط على نفسها، وعلى أسرتها، وعلى مجتمعها؛ لتتحول من كونها عاملة حرة في بيتها، لتكون أجيرة خارج بيتها، مما يؤدي إلى ظلمها، وإلى تقصيرها في حق زوجها وأبنائها وإلى تضييق فرص العمل أمام الرجل، فتزداد البطالة وتتفاقم نتائجها السلبية الأمنية منها ، والاقتصادية، والأخلاقية، وتقل فرص الزواج، وتزداد العنوسة. ولا يحقق هذا التحول إلا هدفاً خادعاً، وحالاً بئيساً. ولقد أثبتت الأرقام الاقتصادية التفصيلية في أحد تقارير الأمم المتحدة في أوائل الثمانينيات الميلادية — والتي لم تفند حتى الآن- {أن خروج المرأة للعمل أجيرة يكلف مجتمعها 4% من الدخل القومي}. وذلك خلافا لما يُروج له من أن خروجها للعمل أجيرة يدعم الاقتصاد و الناتج المحلي، كما أن التقرير ذاته يقول في فقرة أخرى : { لو أن نساء العالم تلقين أجوراً نظير القيام بالأعمال المنزلية لبلغ ذلك نصف الدخل القومي لكل بلد}.(/7)
إن احتساب المرأة عملها أجيرة، في الأعمال الملائمة لها -مما تدعو إليه الحاجة الاجتماعية الحقيقية لا الموهومة، أو تدفع إليه الحاجة الشخصية يعتبر حالة جائزة شرعاً، ما دامت منضبطة بضوابط الشرع، دون التوسع فيها، فوجود الحاجة الاجتماعية أو الشخصية لعمل بعض النساء لا يبرر المطالبة بمزاحمتها للرجل في مجال عمله، أو بإهمالها مجال عملها الأساس.
وفي هذا المقام، نذكر بمسؤولية المجتمع ومؤسسات الدولة في السعي الجاد لإزالة هذه الحاجة، أو تقليلها، أو تخفيف آثارها. فإن من الظلم البين أن تعامل المرأة وظيفيا كالرجل تماماً، في ساعات العمل، أو مناطقه، أو فتراته، أو نوعيته، أو سنوات التقاعد .. ونحو ذلك، دون تقدير لوظيفتها الأساسية في بناء الأسرة السليمة، ولطبيعتها البشرية، كما نؤكد على مسئولية المجتمع والدولة في علاج مشكلة الفقر والذي هو سبب رئيس في معاناة العديد من النساء داخل المجتمع، ودفعهن للعمل غير الملائم لطبيعتهن.
5. إن استراتيجيات التعليم, ومناهجه في مجتمعات المسلمين, بحاجة إلى إعادة نظر, لتعيد إلى المرأة كرامتها الشرعية, ولتؤهلها للعمل الطبيعي الملائم لها, الذي لا يمكن لأحد أن يحل محلها فيه , وان يعاد بناء استراتيجية تعليم المرأة في بلاد المسلمين على تحقيق الأهداف الأساسية التالية:
أ - تخريج امرأة حسنة التعبد لربها
ب - تخريج امرأة حسنة التبعل لزوجها
ج - تخريج امرأة حسنة التربية لأبنائها
د - تخريج امرأة حسنة الادارة لبيتها
هـ - تخريج امرأة حسنة الإعمار لمجتمعها — فيما يخصها
إن الخلل في تعليم المرأة المتمثل في تماثل منهجها التعليمي مع الرجل، بحيث يؤهلها للوظائف التي يؤهل لها الرجل؛ لأنهما أعدا بطريقة واحدة، ونالا دراسة واحدة، هو اعتداء على حقها، وانتقاص لكرامتها. فلقد أثبتت الوقائع المعاصرة, علاقة هذا الخلل بالعنوسة، والطلاق، والإحباطات النفسية، والمشكلات الأسرية.
ولذا فعلى المجتمع, وقادة الرأي فيه بشكل خاص, أن يقفوا أمام أي محاولات، أو قرارات، أو دعاوى، لدمج تعليم الذكور مع الإناث, في الأهداف, أو المناهج, أو المقررات ؛ وذلك حفاظاً لمقاصد التشريع, الداعية لتحقيق المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها, وجلباً لاستقامة الحياة, وحماية لكرامة الأفراد وتحقيقا لما أثبتته التجارب والوقائع من إيجابيات فصل تعليم الجنسين ومفاسد دمجهما .
6 . إن المجتمع المسلم مسئول عن رفع الظلم عن جميع أفراده عملاً بتحريم الله للظلم بين العباد كما قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه : ( يا عبادي إن حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) رواه مسلم ، ومن أقبح الظلم بين العباد ظلم المراة كما قال عليه الصلاة والسلام : (اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة) رواه النسائي، وقد تنوع الظلم الواقع على المرأة من حرمانها لحقوقها وإهانة كرامتها وإساة عشرتها واستغلال ضعفها وأنوثتها، سواء أكانت أماً أو زوجةً أو بنتاً؛ نتيجة لضعف الوازع الديني والخلقي، وثمرة للبعد عن منهج الله، وسيطرة بعض الأعراف والتقاليد المخالفة للشريعة، ونتيجة طبعية لتبني قيم وأنماط الحياة الغربية، حيث بدأت تفرز هنا ما أفرزته هناك من مظاهر للعنف الأسرى، وللتحرش الجنسي، أو الخيانة الزوجية، بالإضافة إلى الظلم المتمثل في عدم العدل بين الزوجات، أو في عضل النساء، أو أكل أموالهن بالباطل، أو التقتير في النفقة عليهن، أو إهدار كرامتهن وحقوقهن عند الطلاق، يضاف إلى ذلك الظلم الواقع من بعض الآباء على البنات، في عدم إحسان تربيتهن وتعليمهن، أو التمييز ضدهن في المعاملة أو النفقة مقارنة بالأبناء، وسوء اختيار الأزواج لهن أو تأخير زواجهن، وغير ذلك من صور الظلم التي تأباها الشريعة الغراء.
إن رفع هذا الظلم أو تخفيفه قدر الإمكان، مسؤولية شرعية توجب العمل الجاد لتصحيح هذا الوضع، وتسهيل الإجراءات الإدارية والقضائية لمنعه قبل وقوعه، أو رفعه بعد وقوعه، وتكثيف البرامج الشرعية التوعوية والتثقيفية؛ لتصحيح التدين للأفراد والمجتمع؛ والتعريف بالحقوق الشرعية ووسائل اكتسابها المشروعة، بمعزل عن التأثر بالأعراف والتقاليد المخالفة للشرع، أو بالشعارات والوسائل الحقوقية الوافدة من الشرق أو الغرب.(/8)
7. إن عولمة المنظور الليبرالي الغربي للحياة الاجتماعية وللمرأة يمثل تعديا سافراً عليها في أي مكان، وخاصة في بلاد المسلمين. هذه الحقيقة مؤسسة على أمور ثلاثة : يتعلق الأول بالجانب التشريعي القانوني الذي يراد عولمته حيث إنه أسس على موروث ثقافي متحيز وصراع حقوقي تاريخي مرتبط ببقعة محدودة من الأرض لا تتماثل ثقافيا ولا تشريعيا مع أغلب بقاع العالم. والثاني أنه أسس على توجه مادي رأسمالي نفعي تقدم فيه المنافع المادية على غيرها من الأخلاق والقيم المقيدة أو الضابطة لهذه المنافع. ويتعلق الثالث بالواقع المعاش من قبل المرأة في الغرب، الذي تكشفه المعايشة القريبة أو الاطلاع على الإحصاءات، والدراسات، والتقارير الجادة. هذا الواقع الاجتماعي البئيس يمثل الوجه الحقيقي لما يراد عولمته رغم تغطيته بطبقة خادعة من الهالة الإعلامية والبريق الحقوقي الزائف، حيث تزداد هناك حالات العنف الأسري، والاغتصاب أوالتحرش الجنسي، حتى عند الرموز السياسية والدينية. كما يزداد العنت على المرأة لكسب لقمة العيش، ويزداد نمو ظاهرة الأطفال ذوي العائل الواحد أو بدون عائل كما تزداد معدلات تحطم الأسرة، وحتى لا تندثر "الأسرة"، ومن ثم يقعوا في إشكالية فقدانها، لجأوا إلى إعادة صياغة اجتماعية وقانونية لمفهوم الأسرة ليتضمن أي شريكين يقبلان العيش مع بعضهما البعض على صفة الدوام ولو كانا بدون عقد زواج أو كانا من نفس الجنس. وشاع مفهوم الجندر ( النوع الاجتماعي )، وكشاهد على ذلك، فقد ورد في التقرير السنوي للمعهد الوطني للدراسات الديموغرافية ( السكانية ) المقدم للبرلمان الفرنسي ما نصه : "أن فرنسا تأتي مباشرة بعد فنلندا والنرويج والسويد، وهي دول أصبح عقد الزواج يقل فيها ويتضاءل مفسحا المجال للعلاقات الحرة بدون زواج، حيث يرتبط سنويا 45, زوج بهذا الشكل من الرباط الحر. كما تتم المعاشرة المستديمة بدون عقد زواج من الجنس الواحد، رجال مع رجال، ونساء مع نساء، ليصل سنويا إلى 3, حالة".
8. إن ازدواجية التشريع، وازدواجية مصادر التوجيه الاجتماعي والأخلاقي في مجتمعات المسلمين مما يصد عن سبيل الله، ويفتن المسلمين عن دينهم، ويحيل الهوية الاجتماعية والثقافية إلى حالة تلبيس معتمة، تحرم الناس الضياء والنور، فيضلون السبيل.
كما أن المجتمع عبارة عن حلقات مترابطة من البنى الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية ، والأخلاقية، وأي إخلال بأي منها يؤثر حتماً في الحلقات والبنى الأخرى. وهذا يوجب النظرة الشمولية في الإصلاح وتوحيد المرجعية التشريعية لكل هذه البنى. وتأسيسها على التنزيل الإلهي الذي( لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)فصلت (42) وإقصاء القوانين والتشريعات العلمانية عن مجتمعات المسلمين، وإعطاء البشرية الأنموذج التطبيقي الصادق للحقوق والكرامة الإنسانية، وإتاحة الحرية للمرأة للتمتع بعدل الشريعة، وتكريمها لها، وإزالة كل تجن على المرأة الملتزمة بدينها وقيمها، سواء في مقاعد الدراسة، أو عند الرغبة في تكوين أسرة عفيفة، أو عند اكتساب الرزق إذا احتاجت إلى ذلك.
توصيات ومطالب
1. الأمة والمجتمعات الإسلامية :-
أ — الحذر من التحلل الكلي أو الجزئي من شرع الله، والعبث بأخلاق المجتمع المسلم، فهذا فضلاً عن أنه هزيمة ثقافية ومعنوية، مؤداه الخضوع لأعدائنا وتقوية لسلطانهم علينا، فإنه مؤذن بعقوبات من الله في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور(63)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله)رواه البخاري.
ب — حفظ الأخلاق والعفاف، هو ما يجب أن يحكم توجه التعليم والعمل في مجتمعات المسلمين، كما يجب أن يحكم توجه الإعلام, والثقافة, والترفيه ونحوها، فمنع الاختلاط في التعليم وكذلك في العمل من أهم الوسائل للمحافظة على عفة المجتمع وأخلاقه؛ وهذا يفسر إصرار المحاربين للعفة في " اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة " الصادرة عن الأمم المتحدة ، والمصاغة برؤية غربية، على محاربة هذا المبدأ بدعوتهم إلى الاختلاط في كل الميادين.
وينبغي أن يدرك المجتمع أن إقرار المؤسسات والمنابر الإعلامية, أو المشاريع السياحية والتجارية ونحوها, في انطلاقها من الدافع الاقتصادي أو الترويحي فحسب, دون اعتبار لمقاصد التشريع وأحكامه, ومنها ما يتعلق بالأخلاق والعفاف , هو خلل خطير يحتاج إلى وقوف جميع المخلصين, من علماء, ومفكرين, ومختصين، ووجهاء, وتجار, وعامة؛ لدفعه؛ ولردّ أصحابه إلى الحق، الذي تسلم به المرأة , والرجل, والمجتمع.(/9)
جـ - يجب على ولاة الأمور الأخذ على أيدي السفهاء وأهل الأهواء ومتبعي الشهوات ممن هم في مجالات التعليم والثقافة والإعلام وغيرها، وعدم تمكينهم من انتهاك الحقوق الشرعية للنساء المؤمنات، أو تبني المناهج والبرامج التي تقود إلى إنتهاك عفتهن، أو إشاعة الفاحشة بين المؤمنين؛ إرضاء للعدو، وترويجاً لمبادئه الأرضية، أو انخداعاً بزيفه، وجهلاً بمعيار التقدم والحضارة الحقيقية، قال عليه الصلاة والسلام: ( ..ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً..الحديث)رواه أبو داود .
د - يجب على أهل العلم عدم التخلي عن مسئوليتهم الشرعية, في حماية المجتمع من تبعات القرارات المتعلقة بالقيم الاجتماعية- كتلك المتعلقة بأدوار كل من الرجل والمرأة في الحياة، أو المتعلقة بالأسرة، أو العفة ونحوها، وذلك بالاحتساب عليها مهما صغرت, وعلى أي مستوى أُصدرت؛ حماية للدين وشعائره من أن يعبث بها عابث ، فالضروريات الشرعية مقدمة على الأعراف السياسية والدبلوماسية، قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)آل عمران (14).
هـ - التأكيد على خطورة كتمان العلم وتأخير بيانه عن وقت الحاجة قال تعالى: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)آل عمران (187)، خاصة عندما تمس المبادئ والأخلاق والحقوق، وأشد من ذلك خطراً ، تبرير قرارات وتوجهات تغيير القيم الاجتماعية الشرعية، رغبة، أو رهبة، أو بمصلحة موهومة، مخالفة للنصوص والقواعد الشرعية .
و — الوعي بأن القيم الثقافية، والاجتماعية، والأخلاقية، والحقوقية الغربية السائدة، مهيمنة عالمياً، بفعل قوة دولها، لا بملاءمتها للفطر السليمة والشرائع الصحيحة، ومؤسسة على معايير التراث الثقافي المنتج لها ومتحيزة لثقافة منتجيها، ومصادمة للفطرة السليمة — في كثير من الأحيان ، مما يوجب إعادة النظر في أهلية تبنيها كمبادىء حقوقية عالمية، وفي صحة تأسيس الحقوق عليها، ونؤكد أهمية مراجعة الحقوق الإنسانية على ضوء الفطر السليمة والعقول الصحيحة، والمحكمات التي اتفقت عليها الشرائع، ولا تنطبق هذه الأوصاف إلا على مبادىء الحقوق في الإسلام، التي تشكل البديل الأمثل لتكون قيماً عالمية ومعيارا لتقرير الحقوق الإنسانية.
2 - المرأة المسلمة:
أ — يجب على المرأة المسلمة عدم التفريط في الالتزام بتعاليم الشرع المطهر وأحكامه تحت ضغوط الواقع. ومن أظهر ما يخصها في ذلك: الالتزام بالحجاب الشرعي، فعليها تلقي هذه الفريضة بالقبول, والاعتزاز بها, والاحتساب في ذلك. و إدراك أن مقصد تحجب المرأة المؤمنة هو إرضاء ربها، الرحيم بها، ثم حفظ كرامتها، وعدم امتهانها. إن التزام المؤمنات العفيفات بالحجاب, وفق الأحكام الشرعية, والتواصي به من أهم الوسائل لحفظ المجتمع, و مقاومة العدو الغازي - المعتدي على مصالحنا الدنيوية والأخروية-. ونحسب أن التمسك به من الجهاد, الذي هو في وسع المرأة المسلمة , في ظل الحرب المسعورة على هذه الشعيرة.
ب — ضرورة إسهام المرأة المسلمة بشكل فاعل في تحمل مسئوليتها الاجتماعية، وفي ممارسة دورها الحقيقي، من خلال التعبد الحق لله. ومن مظاهر هذا التعبد -اجتماعياً- حسن تربيتها لأولادها، وحسن رعايتها لأسرتها، وقرارها في بيتها إلا لحاجة وإشاعتها العفة في المجتمع بحفاظها على حشمتها وعرضها، ودعوة بنات جنسها للخير، وتحذيرهن من الشر. ومعرفة حق الله في ما كسبت من مال —في حالة أنها كفيت النفقة- وذلك بحفظه عن أن ينفق في باطل، أو في التوافه من الأمور، أو في الإسراف الاستهلاكي مجاراة للمظاهر الجوفاء وتوجيه هذا المال إلى ما يحب الله من أعمال البر والإحسان.
وختاماً فإن أهم ما يجب أن يذكر هنا, هو الاهتمام بالناحية العملية - بعد التقرير العلمي -التي تطلق بإذن الله النهوض الحقيقي بالمرأة في مجتمعاتنا المسلمة وتكفل لها حقوقها التي منحها إياها ربها العليم الخبير والعزيز الحكيم ، ويتم لها المشاركة الإيجابية في التنمية الحقيقية لا المزعومة دون أن تمر بمأساة المرأة الغربية، أو يؤول المجتمع إلى المصير الوخيم لأولئك القوم، وبالتالي تكون المسلمة أنموذجاً عدلاً لمن أراد الخير من نساء العالمين.(/10)
إن هذه القضية تحتاج لخطط مرحلية متتابعة، ومؤسسات وبرامج ومشاريع متعددة لصياغة أي مشروع تجاه المرأة وتنفيذه، الذي يمكن أن تؤسس هذه الوثيقة لأحد أركانه؛ ولذا يجب على أهل العلم الشرعي بالتضامن مع أهل الاختصاص الاجتماعي والاقتصادي والتربوي ونحوهم، التداعي لصياغة التوجه الأسلم في قضايا المرأة كالتعليم والعمل والترفيه وغيرها، ولتحديد البرامج العملية لتحقيق هذه التوجهات المهتدية بأحكام الشريعة، ولرسم الآليات الواقعية لتنفيذها. على أن تكون هذه التوجهات والبرامج قائمة على أساسيين:
الأول: الثوابت الشرعية، من عقائد وأحكام ومقاصد.
الثاني: الملاءمة الواقعية لمستجدات الحياة.
وذلك لتحقيق الحماية السليمة للمجتمع؛ ولفتح النوافذ الصحية ليعيش الناس حياة طيبة بواقعية، وأن لا يترك أهل العلم والاختصاص هذه الأمور الخطيرة بيد من لا يفقه دين الله ومقاصد شرعه وأحكامه, أو للمنهزمين ثقافياً ومعنوياً من أبناء المسلمين أو يسلموها للواقع ليفرض حلوله, التي قد لا تكون وفق المصلحة الشرعية التي تكفل الخير للناس.
إن هذه التوجهات والبرامج يجب أن تنتج عن علم صحيح بالشرع و إدراك غير موهوم لواقع المتغيرات الحياتية، فرصا وتحديات. فلا تشطح بمثاليات يشق على الناس إقامتها في واقعهم، ولا تخضع لواقع فتسايره على حساب مقاصد الدين وأحكامه الشرعية .
إن المسارعة في تدارك الأمر باللقاء بين علماء الشريعة وبين المخلصين من المختصين في التغيير الاجتماعي، والأنظمة، والاقتصاد، والتربية، أمر في غاية الأهمية، للوصول إلى هذا الواجب الشرعي الذي لا يسع تأخيره أو تأجيل البدء فيه.
إن من المهم إدراك أن أحوال الناس السلوكية والمعيشية - بغض النظر عن خيرها وشرها أو مصادماتها مع ما يدين الناس به- يمكن أن تتحول مع الزمن إلى "قيم" ومتطلبات أساسية، تطلب لذاتها بغض النظر عما تحققه، وحينئذ يصعب الترشيد فضلا عن المواجهة والتغيير.
ولعل من البشائر, والحوافز لبذل الجهد, أن نذكر بأن الإسلام هو أسرع الأديان انتشاراً في العالم، ولله الحمد والمنة. وأن أكثر من يسلم في العالم، والغربي منه خاصة، هم من النساء، رغم الحملات الدؤوبة لتشويه الإسلام، وتشويه وضع المرأة فيه. وما ذلك إلا لشدة ما تعانيه المرأة الغربية، في واقع أمرها، من جور وعنت الحياة وفق المبادئ والأنظمة البشرية غير المهتدية بالهدي الرباني، ولظمئها إلى الحرية والكرامة الحقيقية في ظل شريعة رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/11)
وقع على هذا البيان كل من :- 1. الشيخ العلامة/ عبدالرحمن بن ناصر البراك - جامعة الإمام سابقاً 2. الشيخ العلامة/ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين- عضو الإفتاء سابقاً 3. الشيخ العلامة/عبدالله بن محمد الغنيمان - رئيس الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية سابقاً 4. الشيخ/ محمد بن فهد الرشودي - إمام جامع الفاخرية بالقصيم 5. د/ عبدالله بن عبدالله الزايد - رئيس الجامعة الإسلامية سابقاً 6. أ.د/ سعود بن عبدالله الفنيسان - عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام سابقاً 7. أ.د / ناصر بن سليمان العمر - المشرف العام على موقع المسلم 8. د/ سفر بن عبدالرحمن الحوالي - رئيس قسم العقيدة بجامعة أم القرى سابقاً 9. د/ إبراهيم بن ناصر الناصر - باحث في الشؤون الإسلامية 1. د/ عبدالرحمن الصالح المحمود - جامعة الإمام بالرياض 11. الشيخ/ محمد بن ناصر السحيباني - الجامعة الإسلامية سابقاً ومدرس بالمسجد النبوي 12. د/ بشر بن فهد البشر - جامعة الإمام بالرياض 13. الشيخ/ علي بن إبراهيم المحيش - رئيس كتابة العدل الأولى بالأحساء 14. أ.د/ سليمان بن حمد العودة - جامعة الإمام فرع القصيم 15. الشيخ/ عبدالله بن عبدالرحمن العثيم - رئيس المحكمة الجزئية بجدة 16. د/ عبدالله بن حمود التويجري - رئيس قسم السنة بجامعة الإمام سابقاً 17. الشيخ/ محمد بن مرزوق المعيتق - رئيس محكمة الزلفي سابقاً 18. د/خالد بن علي المشيقح - جامعة القصيم . د/ إبراهيم بن صالح الخضيري - قاضي بالمحكمة العامة بالرياض 2. الشيخ/ عبدالله بن عبدالرحمن المحيسن - رئيس المحكمة الكبرى بالأحساء 21. أ.د/ حسن الزهراني - جامعة الملك عبدالعزيز بجدة 22. أ.د/ سليمان بن صالح القرعاوي - جامعة الملك فيصل بالأحساء 23. الشيخ/ عبدالمحسن بن عبدالله الزامل - الشؤون الدينية بالأمن العام 24. الشيخ/ سليمان بن عبدالله الماجد - قاضي بالمحكمة العامة بالرياض 25. د/ سعيد بن ناصر الغامدي - جامعة الملك خالد بأبها 26. الشيخ/ محمد بن أحمد الفراج - محامي ومحاضر في جامعة الإمام سابقاً 27. د/ عبدالرحمن بن عايد العايد - كلية الشريعة جامعة الإمام بالرياض 28. د/ خالد بن عبدالرحمن العجيمي - عميد شؤون الطلاب بجامعة الإمام سابقاً 29. د/ سعد بن عبدالله الحميد - جامعة الملك سعود 3. د/ علي بن سعيد الغامدي - جامعة الإمام سابقاً 31. د/ عبدالله بن وكيل الشيخ - جامعة الإمام بالرياض 32. د/ عبدالعزيز بن محمد العبداللطيف - جامعة الإمام بالرياض 33. الشيخ/ محمد بن عبدالله الدويش - جامعة الإمام بالرياض 34. الشيخ/ عبدالعزيز بن ناصر الجليل - باحث شرعي 35. د/ رقية بنت عبدالله المحارب - المشرفة على موقع لها أون لاين 36. الشيخ/ عصام بن إبراهيم الحازمي - جامعة الإمام بالمدينة 37. الشيخ / سليمان بن إبراهيم الرشودي - محامي 38. د/ وليد بن عثمان الرشودي - رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية المعلمين بالرياض 39. الشيخ/ عبدالله بن ناصر السليمان - القاضي بالمحكمة العامة بالرياض 4. د/ يوسف بن عبدالله الأحمد - جامعة الإمام بالرياض 41. الشيخ/ محمد بن إبراهيم الحمد - جامعة القصيم 42. الشيخ/ أحمد بن عبدالرحمن الصويان - رئيس تحرير مجلة البيان 43. د/ حمود بن غزاي الحربي - جامعة القصيم 44. د/ محمد بن صالح العلي - جامعة الإمام فرع الأحساء 45. الشيخ/ فهد بن سليمان القاضي - داعية وباحث شرعي 46. الشيخ/ حمود بن صالح النجيدي - رئيس قسم التوعية في تعليم الرياض 47. د/ إبراهيم بن حماد الريس - جامعة الملك سعود 48. د/ إبراهيم بن عثمان الفارس - جامعة الملك سعود 49. الشيخ/ ناصر بن عبدالله الجربوع - قاضي بالمحكمة العامة بالرياض 5. د/ محمد بن عبدالله الوهيبي - رئيس قسم الثقافة الإسلامية جامعة الملك سعود 51. د/ محمد بن سعيد القحطاني - محامي وأستاذ العقيدة في جامعة أم القرى سابقاً 52. د/ وفاء بنت إبراهيم العساف - قسم القرآن وعلومه في جامعة الإمام بالرياض 53. د/ وفاء بنت محمد الجارالله - قسم الشريعة في جامعة الإمام بالرياض 54. أ/شريفة بنت مصلح السنيدي - قسم العقيدة في جامعة الإمام بالرياض 55. د/ خالد بن إبراهيم الدويش - كلية الهندسة بجامعة الملك سعود 56. د/ عبدالله بن محمد الماجد - جامعة الملك سعود 57. د/ ضيف الله محمد الضعيان - جامعة الملك سعود 58. الشيخ/ خليفة بن بطاح الخزي - باحث شرعي 59. الشيخ/ أحمد بن حسن آل عبدالله - رئيس التوعية الإسلامية بتعليم عسير سابقاً 6. الشيخ/ أحمد بن عبدالله آل شيبان - داعية 61. الشيخ/ سعد بن سعيد الحجري - المعهد العلمي أبها 62. د/ عبداللطيف بن عبدالله الوابل - كلية الاقتصاد بجامعة الملك خالد بأبها 63. الشيخ/ سليمان بن عبدالله الوابل - الشؤون الصحية بأبها 64. د/ ظافربن سعيد الشهري - كلية المعلمين بأبها 65. الشيخ/ سليمان بن محمد بن أحمد آل يافع - داعية معروف بأبها 66. د/ أحمد بن(/12)
عبدالله الزهراني - عميد كلية القرآن بالجامعة الإسلامية سابقاً 67. د/ أحمد بن سعد بن غرم الغامدي - رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية إعداد المعلمين بالباحة 68. د/ إبراهيم محمد عباس - طبيب في مستشفى الملك فهد بجيزان 69. د/ أسماء بنت عبدالعزيز الحسين - كلية التربية في وزارة التربية والتعليم 7. د/ خالد بن عثمان السبت - كلية المعلمين بالدمام 71. الشيخ/ سلطان بن حمد العويد - إمام وخطيب جامع فيصل بن تركي الدمام 72. د/ صلاح بن عبداللطيف العيسى - خطيب جامع زين العابدين بالخبر 73. الشيخ/ عيسى بن درزي المبلع - وزارة التربية والتعليم سابقاً 74. الشيخ/ سعد بن ناصر الغنام - وزارة التربية والتعليم 75. الشيخ/ عبدالله بن سليمان المخلف - القاضي بالمحكمة العامة بالمدينة 76. الشيخ/ راشد بن محمد الرشود - القاضي بالمحكمة العامة بالمدينة 77. الشيخ/ إبراهيم بن ناصر السحيباني - القاضي بالمحكمة العامة بالمدينة 78. الشيخ/ محمد بن عبدالله الهبدان - إمام جامع العز بن عبدالسلام 79. الشيخ/ سعد بن مطر العتيبي - جامعة الإمام بالرياض 8. د/ ناصر بن يحي الحنيني - جامعة الإمام بالرياض 81. د/ وليد بن محمد الشباني - جامعة الملك سعود 82. الشيخ/ عقيل بن سالم الشمري - مكتب الدعوة بحفر الباطن 83. الشيخ/ محمد بن اسماعيل الحازمي - مدير مؤسسة الحرمين بجيزان 84. د/ محمد بن عبدالله الخضيري - جامعة القصيم 85. د/ محسن بن عبدالرحمن المحسن - جامعة القصيم 86. د/ حسن بن صالح الحميد - جامعة القصيم 87. الشيخ/ أبو زيد بن محمد بن محمد مكي القبي- جامعة أم القرى 88. الشيخ/ عبدالله بن عبدالرحمن الوطبان - وزارة التربية والتعليم 89. الشيخ/عبدالرحيم بن صمايل السلمي - مركز الدعوة والإرشاد بجدة 9. د/ عبدالعزيز بن عبدالله المبدل - الكلية التقنية 91. د/ سعد بن فلاح العريفي - وزارة التربية والتعليم 92. الشيخ/ عبدالرحمن بن محمد السويلم - جامعة الإمام بالرياض 93. الشيخ/ بندر بن عبدالله العريفي - جامعة الإمام بالرياض 94. الشيخ/ نامي بن عبدالرحمن النامي - وزارة التربية والتعليم 95. الشيخ/ محمد بن أحمد الشهيل - الحرس الوطني 96. الشيخ/ سعد بن إبراهيم القاسم - عضو هيئة التحقيق والادعاء العام 97. الشيخ/ غنام بن عبدالله الغنام - عضو هيئة التحقيق والادعاء العام 98. الشيخ/ سعود بن علي اليوبي - قاضي بالمحكمة الجزئية بجدة 99. الشيخ/ إبراهيم بن عبدالله الجربوع - قاضي بالمحكمة الجزئية بجدة 1. الشيخ/ محمد حسين الموجان - قاضي بالمحكمة الجزئية بجدة 11. الشيخ/ علي بن عبدالرحمن الزهراني - قاضي بالمحكمة الجزئية بجدة 12. الشيخ/ فاتح علي القاضي - قاضي بالمحكمة الجزئية بجدة 13. الشيخ/ محمد بن عبدالعزيز أبانمي - عضو هيئة التحقيق والادعاء العام 14. د/سليمان بن إبراهيم الميمان - مدينة الملك عبدالعزيز للتقنية 15. الشيخ/ وليد بن عبدالله المديفر - وزارة التربية والتعليم 16. د/ عبدالله الصالح المشيقح - جامعة القصيم 17. الشيخ/ عبدالله بن صالح القرعاوي - مدير مكتب الدعوة بالقصيم سابقاً 18. د/ صالح بن عبدالعزيز التويجري - جامعة القصيم 19. د/ صالح بن ناصر الناصر - جامعة الملك سعود بالرياض 11. الشيخ/ جمال إبراهيم الناجم - المعهد العلمي بالأحساء 111. د/ فؤاد العبد الكريم - أستاذ الدراسات الإسلامية كلية الملك فيصل الجوية 112. د/ عبدالعزيز بن محمد الوهيبي - محامي 113. أمل بنت عبدالله البراهيم - داعية 114. الشيخ/ حجاب بن أحمد الحازمي - مدير عام المشاريع بالمؤسسة العامة للتعليم الفني 115. الشيخ/محمد بن سليمان المسعود - قاضي بالمحكمة العامة بجدة 116. الشيخ/ صالح بن محمد الزهراني - وزارة التربية والتعليم 117. الشيخ/ محمد بن أحمد الزهراني - وزراة التربية والتعليم 118. د/ إبراهيم بن محمد الفايز - جامعة الإمام بالرياض 1. د/ خالد بن محمد الماجد - جامعة الإمام بالرياض 12. د/ محمد بن عبدالله العتيق - طبيب استشاري بمستشفى الحرس بالرياض 121. د/ محمد بن عبدالله الخضيري - جامعة الإمام بالرياض 122. د/ عبدالله بن محمد العمرو - جامعة الإمام بالرياض 123. د/ عبدالله السيف - جامعة الإمام بالرياض 124. الشيخ/ عبدالله بن عبدالعزيز الغفيلي - جامعة الإمام بالرياض 125. د/ عبدالله بن عبدالعزيز العريني - مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية 126. الشيخ/ ماجد بن عبدالرحمن آل فريان - جامعة الإمام بالرياض 127. الشيخ/ عبدالمحسن بن عثمان بن باز - جامعة الإمام بالرياض 128. الشيخ/ يوسف بن محمد المهوس - عضو هيئة التحقيق والادعاء العام 129. الشيخ/ عبدالله بن سليمان المهنا - إمام جامع عبدالله بن سعود 13 الشيخ/ عبدالرحمن بن عبدالعزيز أبانمي - وزارة التربية والتعليم 131. د/ محمد بن سالم الصيخان - جامعة الملك فيصل بالأحساء 132. الشيخ/ راجح بن عبدالعزيز الراجح - كلية(/13)
الشريعة بالأحساء 133. الشيخ/ نائل بن عبدالله النايل - كتابة عدل الأولى بالأحساء 134. الشيخ/ أحمد بن محمد السحيباني - هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 135. د/ محمد بن تركي التركي - جامعة الملك سعود 136. د/ سليمان بن قاسم العيد - جامعة الملك سعود 137. د/ أحمد بن عثمان المزيد - جامعة الملك سعود 138. د/ خالد بن عبدالله القاسم - جامعة الملك سعود 139. د/ عبدالله بن إبراهيم الناصر - جامعة الملك سعود 14. د/ عبدالله بن محمد السعيدي - جامعة الملك سعود 141. د/ علي بن عبدالله الصيَّاح - جامعة الملك سعود 142. د/ أحمد بن عمير العمير - طبيب استشاري بمستشفى الحرس بالرياض 143. الشيخ/ عبدالعزيز بن سالم العمر - إمام جامع الحبيشي 144. الشيخ/ فهد بن عبدالعزيز السنيدي - تخصص في الشؤون الإعلامية جامعة الملك سعود 145. د/ سليمان بن وائل التويجري - عميد كلية الشريعة بجامعة أم القرى سابقاً 146. د/ خالد بن عبدالله الشمراني - جامعة أم القرى 147. د/ عبدالله بن عبدالكريم الحنايا - جامعة أم القرى 148. د/ عبدالله بن إبراهيم الزهراني - جامعة أم القرى 149. الشيخ/ إبراهيم بن خضران الزهراني - كتابة عدل مكة 15. الشيخ/ تركي بن سعيد الزهراني - هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة 151. الشيخ/ فريح بن علي العقلا - محامي بجدة 152. الشيخ/ أنس بن عبدالوهاب زرعة - الأمين العام لجمعية المودة الخيرية بجدة 153. الشيخ/ محمد بن سعيد بافيل - كلية المعلمين بجدة 154. د/ حسين البار - جامعة الملك عبدالعزيز بجدة 155. د/ محمد بن عبدالله الشباني - محاسب قانوني 156. الشيخ/ عبدالرحمن بن ناصر الأحيدب - عضو هيئة التحقيق والادعاء العام 157. د/ محمد بن سليمان الفوزان - أستاذ الحديث المساعد في جامعة القصيم 158. د/ أحمد بن محمد العبيد - أستاذ الحديث المساعد في جامعة القصيم 159. د/ محمد بن عبدالله المحيميد - أستاذ الفقه المشارك في جامعة القصيم 16. د/ أحمد بن محمد الشبعان - أستاذ الجغرافيا المساعد في جامعة القصيم 161. م/ إبراهيم بن عبدالعزيز اليحي - محاضر في كلية التقنية بالقصيم 162. م/ عبدالعزيز بن فهد السلوم - بلدية بريدة 163. الشيخ / سليمان بن عبدالعزيز المطرودي - مدرس في المعهد العلمي 164. الشيخ/ إبراهيم بن عبدالعزيز الرميحي - مدرس في المعهد العلمي 165. الشيخ / محمد بن عبدالرحمن القفاري - مدرس في الثانوية التجارية 166. الشيخ/ عبدالعزيز بن صالح العقل - عضو الدعوة والإرشاد ببريدة سابقاً 167. الشيخ/ حمود بن عبدالعزيز الصائغ - إمام وخطيب جامع الشرفية بعنيزة 168. د/ محمد بن حمد المحيميد - أستاذ التفسير المساعد في جامعة القصيم 169. الشيخ / سليمان بن عبدالله الراجحي 17. د/ سليمان بن صالح الرشودي - رجل أعمال 171. الشيخ/ عبدالله بن سليمان العميريني - إمام وخطيب جامع النصيان 172. الشيخ/ عصام بن عبدالله الشايع - إمام وخطيب جامع أم إبراهيم الذياب 173. د/ عبدالعزيز بن فوزان الفوزان - جامعة الإمام بالرياض 174. د/عبدالله بن صالح البراك - جامعة الملك سعود 175. د/ صالح بن ناصر العندس - الكلية التقنية بالرياض 176. الشيخ/ صالح بن عبدالله الفاضل - باحث إسلامي 177. الشيخ/ عبدالرحمن بن عبدالله المطلق - رجل أعمال 178. الشيخ / سعود بن عبدالله الشبانات - رجل أعمال 179. الشيخ/ سعيد بن سعد الزهراني - إمام وخطيب جامع موسى بن نصير 18. الشيخ /محمد بن عبدالعزيز الماجد - الرئاسة العامة للهيئات 181. الشيخ/ عبدالرحمن بن موسى الموسى - رجل أعمال 182. الشيخ/ عبدالعزيز بن جاسر الجاسر - وزارة التربية والتعليم 183. الشيخ/ خالد بن علي الوزان - أستاذ مشارك جامعة الملك سعود 184. الشيخ/ عبدالله بن عبدالرحمن الشريف - جامعة الإمام بالرياض 185. د/ ستر بن ثواب الجعيد - جامعة أم القرى 186. د/ إبراهيم بن علي العريني - أستاذ مشارك بكلية الطب جامعة الملك سعود 187. د/ عبيد بن عبدالعزيز العبيد - الجامعة الإسلامية بالمدينة 188. الشيخ / عبدالله بن حمود الطريقي - المحكمة الجزئية بالمدينة 189. الشيخ / عبدالله المحيميد - المحكمة الجزئية بالمدينة د/ عمر بن سعيد العمودي - جامعة الملك عبدالعزيز بجدة 1. د/ محمد بن أحمد الحربي - جامعة الملك عبدالعزيز بجدة 2. د/ سعد بن صالح الشهيب - جامعة الملك عبدالعزيز بجدة 3. أ.د/ طارق بن صالح جمال - جامعة الملك عبدالعزيز بجدة 4. الشيخ/ فائز بن صالح جمال - رجل أعمال 5. اللواء/ علي زين العابدي - لواء متقاعد 6. لولوة بنت عبدالله السجا - داعية 7. لولوة بنت عبدالله السلطان - كلية البنات 8. نايلة السلفي - داعية 9. صفية الغامدي - داعية 2. فاطمة الخليفة - داعية 21. فاطمة الغفيلي - داعية 22. د/ غربية بنت عبدالله الغزي - كلية الآداب بالرياض 23. د/ ليلى بنت عبدالرحمن الجريبة - كلية الآداب بالرياض 24. د/ هيا بنت(/14)
عبدالرحمن الجريبة - كلية الآداب بالرياض 25. د/ أمل بنت فهد الشلهوب - كلية الآداب بالرياض 26. د/ فريدة بنت سعدون آل عبدالمنعم - كلية الآداب بالرياض 27. د/ نورة بنت عبدالله الشهري - كلية الآداب بالرياض 28. أ/ هيلة بنت ضيف الله اليوسف - كلية الآداب بالرياض 29. أ/ ابتسام بنت فهد السعدون - كلية الآداب بالرياض 21. أ/ دلال بنت سليمان المسلم - كلية الآداب بالرياض 211. د/ ليلي السابر - جامعة الإمام بالرياض 212. د/ وفاء السويلم - أستاذ مساعد في قسم الفقه 213. د/ فاطمة الجارالله - أستاذ مساعد في كلية الشريعة 214. أ/ أمل الذييب - مديرة تحرير مجلة أسرتنا 215. أ/ عفاف بنت صالح جمال - عضوة هيئة الإغاثة وجمعية أم القرى 216. د/ رباب بنت صالح جمال - جامعة الملك عبدالعزيز بجدة(/15)
وجد كنزاً في أرضه
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/اللقطة و اللقيط
التاريخ ... 18/4/1423
السؤال
ما حكم من يجد كنزاً أثرياً في أرضه؟ مع العلم أنه إذا أبلغ الحكومة سوف تقوم بأخذ الأرض منه مع التعويض بمبلغ لا يساوي ثمن الأرض، وإذا باع هذا الكنز سوف يصبح من الأثرياء.
الجواب
ينظر أولاً في الأرض هل هي مملوكة للسائل أو غيره؟ فإن كانت مملوكة له ملكاً شرعياً نظر في هذا الذي وجد فيها وسمي (كنزاً)، هل هو محرم أو مباح؟ فإن كان محرماً كالتماثيل والصور المجسمة للإنسان أو الحيوان فهي حرام لا تملك ولا يصح قبول التعويض عنها إلا إذا كانت من ذهب أو فضة، فأجاز بعض الفقهاء الانتفاع بها ببيع أو هبة ونحوه على ألاّ تستخدم بهيئتها (صورة مجسمة)، وإن كان هذا الكنز من سائر المباحات كمناجم المعادن كمنجم الملح والذهب والفضة والبترول مما تتوقف عليه مصلحة الأمة في الغالب فلا يجوز لصاحب الدار تملكه؛ لأن ملكيته عامة فيجب على ولي الأمر تعويض صاحب الأرض عن كنزه بما يساوي قيمته الحالية ولا ينقص من ذلك شيئاً اللهم إلا إذا كان نظام الدولة لا يمانع في التملك الشخصي لمثل هذا، فلا حرج على صاحب الدار أن يبيعها على من يدفع له مبلغاً أكبر، ثم إن هذا الكنز الذي يجوز بيعه وشراؤه –إن وجد عليه ما يدل على أنه قبل الإسلام فهو ركاز- وهو ما وجد مدفوناً من زمن الجاهلية يجب إخراج خمس قيمته كزكاة؛ لحديث أبي هريرة في الصحيحين البخاري (1499) ومسلم (1710) "...وفي الركاز الخمس"، أما إذا وجد عليه أو على بعضه دون بعض علامة من علامات المسلمين كتاريخ أو نحوه فليس بركاز، ويزكى كزكاة المال (النقدين)، والله أعلم.(/1)
وجعلنا من الماء كل شيء حي
ومن أعظم آياته هذا الماء الرقراق، والسلسبيل المتدفق، الذي به قوام الحياة، وأساس البقاء: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ... [الأنبياء:30]، والماء بناؤه غريب وخبره عجيب، فإذا تدفق الماء، وأقبلت أمواجه، أقبل معه البشر والعطاء والنماء والرغد والهناء، بالماء تقوم الحقول، وتتكاثر الحبوب، وتميس الحدائق، وتهمهم الجداول، وتتراقص الخمائل، وتشدو البلابل، وتتمايل السنابل.
يأتي إلى أحبابه فيميس بين الزهور، ويتجول في الحدائق، كَيَدِ الطبيب على جفن المريض، ويقبل إلى أعدائه فيزبد ويرعد، ولا تمنعه السدود، ولا ترده الحدود، فيكسر الجسور، ويقتلع الصخور، ويدمر البيوت، ويجعل عاليها سافلها حتى يأذن الله بسكونه، ويأمر بهدوئه، قال تعالى: { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي } ... [هود: 44]،فهو جندي من جنود الخالق.
من سيول يمجها الواديان وثلوج يذيبها العصران
ذو استواءٍ إذا جرى والتواءٍ هل تأملت مزحف الأفعوان
فهو حيث استدار وقفُ لجينٍ وهو حيث استطار سيفُ يمان
إن مسته رحمة الله كان لطفاً وهناءً وبركة، وإن مسه غضب الله كان دماراً وهلاكاً وسخطاً ونكداً، قال تعالى: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } ... [الأعراف:84].
وقال تعالى: { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُوراً } ... [الفرقان: 40].
إن الله تعالى يسلط حرارة الشمس على المحيطات والبحار فتتبخر فيصعد إلى السماء ماءً عذباً لا ملوحة فيه، فسبحان الله العظيم، يرفع ماء البحر بخاراً ولا يرفع معه الملح الممتزج به! { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ { 68} أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ { 69} لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ } ... [الواقعة: 68 - 70] ـ أجاجاً يعني: مالحاً لا يطاق ولا يشرب ـ ومن حكمة الله أن هذا البخار المتصاعد في السماء لا يستمر في صعوده إلى القمر أو المريخ فيصب هناك وتحرم منه الأرض، بل يتكثف في طبقات الجو العالية، حيث درجة الحرارة منخفضة، ويرفع في السماء لكي يبتعد عن مستوى الجبال لئلا تعوق انتقاله من بلد إلى بلد، فبعد أن يتكون السحاب الركامي، ويتكثف ويتجمع ويصدر أمر الله إليه، يهبط حيث يريد مولاه، ويأمره خالقه { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ { 48} وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } ... [الروم: 48 ، 49].
ومن لطف الله تعالى بعباده أن ينزل عليهم هذا الغيث بقدر، فلو سقطت جبال السحاب الكثيفة الهائلة كما هي لهلك الناس.
هذا الذي أنزل سيلاً في البلد فكيف لو صَبَّ جبالاً من بردْ
أنزله رفقاً بنا مدْرارا وبعضَه سخره أنهاراً
ومن لطفه تعالى أنه إذا أنزل الماء لم يبقه متجمعاً فوق الأرض فتصبح الأرض غير صالحة للسير عليها، بل سلكه ينابيعٍ في الأرض وحفظه في الآبار والعيون { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ } ... [الزمر: 21].
فهو تعالى يحفظ هذا الماء في صحون من الصخور الجوفية من غير أن يغور ويعمق في الأرض { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ } ... [الملك:30].(/1)
وجدتها !!!
نيوتن تقع على رأسه التفاحة فيستنبط قانون الجاذبية الأرضية
أرشميدس في حوض الاستحمام يلفت انتباهه طفو قطعة الخشب وغرق المسمار فيستنبط قانون الطفو.
ولكل من قانون الجاذبية الأرضية وقانون الطفو أثر واضح في تطور العلوم البشرية والوسائل الحياتية.
ولكن ........
هل كان الأمر حقًا بهذه البساطة؟
إن التفاح كثيرًا ما يقع فوق رءوس الجالسين تحت شجره في موسم نضجه والخشب يطفو على الماء بينما يغرق الحديد أمام أعين كل الناظرين، فلماذا رأى كل من نيوتن وأرشميدس في هذا الحدث شيئًا فريدًا يمكن استنباط القوانين منه ؟
'وجدتها' في هذه الكلمة تكمن الإجابة عن هذا السؤال، لقد وجد شيئًا إذن، فقد كان يبحث عنه، لقد وجد ما كان يبحث عنه عفوا عزيزي القارئ اصطحب هذه الفكرة وأنت تغوص معنا في هذا المقال.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الفوائد وهو يعلق على قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}. [العنكبوت/69] قال رحمه الله: ' علق سبحانه الهداية بالجهاد فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا ' ولقد تكفل الله تعالى لعباده المؤمنين ألا يضيع جهدهم وعملهم: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض}.
فبقدر ما تبذل من جهد حقيقي بقدر ما تحصل على النتيجة في جميع مجالات الحياة فإنا لا نضيع أجر من أحسن عملا وأعظم مجالات الحياة الارتقاء بالنفس والعناية بها وصيانتها عما ينقص من قدرها.
إذن يبقى بذل الجهد للبحث عن وسائل الارتقاء والحلول للتحديات التي تواجهك والتي يسميها الآخرون مشاكل بينما هي في عرفك واعتبارك تحديات تستنفر قواك وسنسمعك عما قريب إن شاء الله تعالى تصرخ في الطرقات كلها
' وجدتها...وجدتها...وجدتها '.
معالم في البحث عن الحلول:
[1] أين أنت من جهد النحلة ؟
النحلة تمتص مليونًا من الزهور حتى تنتج 100جم من العسل، فلا تضن ببذل الجهد في البحث والاستشارات والتعلم, فصلاح النفوس غاية عظيمة يهون في سبيل تحصيلها كل جهد وانشغال.
[2] الإخلاص في طلب الحق شرط أساسي لتحصيله:
إن هذا الحرص الذي يملأ قلب الشاب على الوصول إلى حل لمشاكله من أي نوع كانت لهو علامة على توفيق الله تعالى إياه للوصول إلى الاستشارة المناسبة أو التوجيه الصحيح، ومثال ذلك التأمل في كيفية إخراج الله عز وجل للصحابي الجليل سلمان الفارسي من قلب الكفر، وهو صاحب المال الوفير والحياة الهانئة، والمنصب الاجتماعي الرفيع، وأبوه من كبار قادة ديانة الكفر والضلال، ينقذه الله من كل ذلك وينقله في مرحلة تلو أخرى، ومن مكان إلى آخر حتى يصل إلى الحق المبين ويسلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بل وينال شرفًا قلما ناله أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ' سلمان منا آل البيت ' ونال قلب ' الباحث عن الحقيقة '، وكان من دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم ' اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه '.
فالإخلاص أن تبحث عن الحق والصواب، لا عما يوافق هوى النفس وهو شرط شرطه الله تعالى لتحصيل هذا الحق والوصول إليه والثبات عليه بعد ذلك.
[3] أين أنت من حسن ظن يعقوب عليه السلام في الله تعالى؟
ما بين {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} و {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وبين {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}.
إنه يعلم من الله ما لا تعلمون، يعلم عدل الله ورحمته وفضل الله وكرمه، يعلم علم اليقين، ويثق به، يعلم تحقق رؤيا ولده ويثق بربه، وإن تبين وظهر للعين خلاف ذلك بمقاييس البشر، إنه يعلم من الله ذلك وأكثر.
فأين أنت عزيزي الشاب من حسن ظنك بالله تعالى ورحمته وفضله وكرمه على عباده الصالحين وقد قال تعالى في الحديث القدسي: 'أنا عند حسن ظن عبدي بي......'.
[4] رعي الغنم أفضل من رعي الخنازير:
ما علاقة الغنم والخنازير بحلول المشاكل ؟
هذه الكلمة قالها أحد الأمراء في الدويلات الأندلسية قبل سقوطها والصليبيون يعرضون عليه زعامة الملك والمال مقابل خيانة أهل الإسلام والإيمان.
فيتفكر قليلاً ثم يحسم أمره فيقذف بالكلمات في وجوههم، ' رعي الغنم ' أي تحت مظلة الإسلام خير وأشرف من أن أكون سيدًا للخنازير وهي في النهاية رعاية لهم.(/1)
لا ترض بغير الإسلام والشرع مظلة تظل بيتك وحياتك، وإنا وإن كنا على ثقة أنك ما قرأت هذا المقال إلا وأنت مقر بهذا الأصل، إلا أن التأكيد عليه ضروري للمشقة التي قد تحيط ببعض الحلول مما يقتضي مواجهة ' واعتراضًا ' على كثير من العادات والتقاليد التي سادت مجتمعاتنا المعاصرة مع موجات التغريب المتتالية، فهو الرضا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ونبيًا.
[5] الرجوع إلى الحق فضيلة:
إن إخلاصك في طلب الحل يدفعك بالتأكيد إلى الإقرار والاعتراف ببعض مسئوليتك عن هذه المشكلة أو الخطأ إذا ثبت ذلك، ومحاولة الإصلاح والإسراع بالعلاج، وفي خطاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري وهو يوجهه إلى الكوفة قاضيًا لأهلها ' لا يمنعك قضاء وقضية بالأمس فراجعت فيه عقلك وهديت فيه رشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل...'.
[6] لا تأخذ بالشبهات:
إن الله تعالى حفظ لعباده جميعًا حقوقهم وألزمهم باحترام بعضهم فيما بينهم وقد درأ الله تعالى الحدود عن المسلمين بالشبهات، فكيف بك وأنت تقذف الاتهامات بغير بينة ولا دليل، بل تتصيد الأخطاء والمخالفات، وإنما تكفل الله تعالى بالتوفيق والرعاية والعناية والهداية لمن راعى شرعه وحفظ حدوده.
[7] الأسرة قبل الابن:
إن البيئة المضطربة لا تنتج إلا سلوكيات شائهة غير سوية لدى الأبناء وكثيرًا ما تفاجأ أن إعادة البيئة المحيطة بالابن إلى سياج الشريعة الرباني والتوافق البشري بين طرفي الأسرة الرئيسية نفاجأ عندها بزوال شبه تام لكثير من صور العناد والرفض والانحراف المختلفة.
عزيزي الشاب هذه ملامح سريعة تعينك على تلمس الحلول والخطوات وفقك الله تعالى لما يحب ويرضى وإلى لقاء قريب بإذن الله تعالى لك منا التحية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/2)
وجهين ولسانين من نار والعياذ بالله
كلما أطال الله تعالى فى أعمارنا , كلما أزدادت
تجاربنا فى الحياة وكلما رأينا وتعلمنا و أزددنا خبرة وحنكه.
كثرهم الأ شخاص التى ترمى بهم الأ قدار فى يقنا فمنهم من نختار ومنهم من لا يكون لنا فيه أدنى اختيار
فمسيرة الحياة أوجدتهم وقذفت بهم فى أزقة و دهاليز و محطات رحلة لا يعلم منتهاها إلا وحده الواحد القهار.
ماسة وجوهرة هى تلك النفس البشرية , لذلك فهى مطمع ومطلب للأ يدى الغادرة والوجوه البارده المزيفه التى تعبث
وتستبسل وتحارب بكل ما أوتيت من قوة وعزم لتكسر تلك الجوهرة بل و تطحنها وتجعل منها رمادا تنثره فى يوم عاصف فتذهب به أدراج الرياح.
ما يفعل بك هذا وما يكيد لك إلا منافق مخادع كاذب ذى وجهين
شره مستطير ومكره تزول منه الجبال وقلبه مريض لا يشفى أبدا
قال تعالى :
( يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9)فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ َزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ(10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) البقرة
وقال نبينا صلى الله عليه وعلى أله وسلم
( تجد من شر الناس يوم القيامه عند الله ذا الوجهين الذى يأتى هؤلا ء بوجه وهؤلا ء بوجه ) ( البخارى6043 )
وجهه الأول
ناعم الملمس كوجه طفل برىء , يرسم على وجهه إبتسامة ملئها الحب والحنان يمد إليك يدا دافئة يطوقك بها ويحميك ويلقى بك على صدره
فيغمرك حبا وعطفا ورحمة لا يوازيها حبا وشغفا , إلا رحمة أمك يوم أن أحتضنتك وأنت مازلت فى المهد وليد.
يحزن ويتألم ويبكى من أجلك , تجده أمامك وقت أن تحتاجه فلا بعد ولا مسافات تثنيه.
أما وجهه الثانى فأجارك الله منه
هو ذلك الوجه الحقيقى وجه لشيطان تلبس صورة إنسان لا يعلم به إلا الله الواحد الديان
وجه مقزز لا تقوى النظر إليه , مظلم معتم لا ترى فيه إلا الظلمات والعياذ بالله
خبت بل وأنطفأ فيه نور الإ يمان , ضاع منه خوفه وحيائه و نسى أنه تعالى منتقم رقيب.
هو منافق كاذب لا أمانة له وإن صام وصلى وقال إنى مسلم
قال الرسول صلى الله عليه وعلى أله وسلم:
(ثلا ث من كن فيه فهو منافق , ومن فيه خصلة منها ففيه خصلة من النفاق:إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف , وإذا ائتمن خان )
إسناده صحيح أخرجه النسائى ( 8/117 )
فى الإ يمان
( لا ينبغى لذى الوجهين أن يكون أمينا )
إسناده صحيح رواه الإ مام أحمد فى المسند( 2/289 و356)
(ثلا ث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وقال إنى مسلم:
الذى إذا ائتمن خان , وإذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف ) رواه مسلم ( 59 ) فى الإ يمان
هذا هو ذا الوجهين الذى نسى بأنه جل وعلا يأبى إلا أن يحق الحق ويزهق الباطل , فهو العدل الذى لا يقبل الضيم والظلم على عباده هو وحده
سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأ عين وما تخفى الصدور.
يقول جل من قال كن فيكون
فتنقشع السحب وتذوب المساحيق ويسقط ذلك القناع الغادر ويظهر الوجه الحقيقى عندها فقط
تدرك بأنك كنت تلقى بنفسك فى التهلكة من حيث لا تعلم
تستيقظ من حلم المؤمن التقى والخل الوفى فتراه ما هو إلا كابوسا جثم على صدرك
أتاك بكلا م وقال عنك كلا م , كله لم يأتى منك أوحتى من غيرك
بل أتى من كيده ومكره ونفسه المريضه , أتى من تلك الحلول والنصائح التى كان يقدمها لك بيد , وباليد الأ خرى دبر ودمر وصفق والله من ورائه محيط
نسى أن الدنيا كلها لا تزِنُ عند الله تعالى جناح بعوضة , فكيف به هو ذلك ظالم نفسه الشقى المسكين.
قال تعالى
( إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) يونس
لم يتقى دعوة مظلوم ولم يخف على ذريته وأهله وأحبابه من أن يرد الله تعالى إليه مافعل بالغير فيهم فكما تدين تدان
قال تعالى:
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ) النساء
هذا حاله فى الدنيا ألتى أحبها فغوته وأمن لها خدعته.
أما حاله فى الأ خره فهو من شر الناس وهو ذلك الذى يأتى بلسانين من نار والعياذ بالله
نعم هذا الجزاء الذى ينتظره و فكما كان له وجهين فى الدنيا سيجزيه الله تعالى لسانين من نار والعياذ بالله , فاالجزاء من جنس العمل
قال الرسول صلى الله عليه وسلم :
(من كان ذو وجهين فى الدنيا , كان له لسانان من نار يوم القيامه )
صحيح البخارى فى الأ دب المفرد ( 635)
فسبحانك يا من تعلم السر وأخفى , سبحانك يا من لا تغيب عنك غائبة فى السموات ولا فى الأ رض سبحانك يا من تعلم خائنة الأ عين وما تخفى الصدور.(/1)
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ)
بقلم أختكم
إيمان غازى فتيحى(/2)
وجوب أداء الصلاة في الجماعة
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
مكتب الدعوة و الإرشاد بسلطانة
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز، إلى من يراه من المسلمين، وفقهم الله لما فيه رضاه، ونظمني وإياهم في سلك من خافه واتقاه، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد بلغني أن كثيرا من الناس قد يتهاونون بأداء الصلاة في الجماعة ويحتجون بتسهيل بعض العلماء في ذلك، فوجب علي أن أبين عظم هذا الأمر وخطورته، ولا شك أن ذلك منكر عظيم وخطره جسيم، فالواجب على أهل العلم التنبيه على ذلك والتحذير منه؛ لكونه منكرا ظاهرا لا يجوز السكوت عليه.
ومن المعلوم أنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بأمر عظَّم الله شأنه في كتابه العظيم، وعظَّم شأنه رسوله الكريم، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم. ولقد أكثر الله سبحانه من ذكر الصلاة في كتابه الكريم، وعظم شأنها، وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة، وأخبر أن التهاون بها والتكاسل عنها من صفات المنافقين، فقال تعالى في كتابه المبين: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:128].
وكيف يعرف الناس محافظة العبد عليها، وتعظيمه لها، وقد تخلف عن أدائها مع إخوانه وتهاون بشأنها؟!، وقال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وهذه الآية الكريمة نص في وجوب الصلاة في الجماعة، والمشاركة للمصلين في صلاتهم، ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبة واضحة في ختم الآية بقوله سبحانه: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ لكونه قد أمر بإقامتها أول الآية، وقال تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ الآية [النساء:102].
فأوجب سبحانه أداء الصلاة في الجماعة في حال الحرب، وشدة الخوف فكيف بحال السلم؟! ولو كان أحد يسامح في ترك الصلاة في جماعة، لكان المصافون للعدو، المهددون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك، علم أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، وأنه لا يجوز لأحد التخلف عن ذلك. وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي أنه قال: { لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار } الحديث، وفي مسند الإمام أحمد عنه أنه قال: { لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقتها عليهم }.
وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: { لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة } وقال: { إن رسول الله علمنا سنن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه }.
وفيه أيضا عنه قال: { من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف }.
وفي صحيح مسلم أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه، { أن رجلا أعمى قال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال نعم قال فأجب }.
والأحاديث الدالة على وجوب الصلاة في الجماعة، وعلى وجوب إقامتها في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه - كثيرة جدا، فالواجب على كل مسلم العناية بهذا الأمر، والمبادرة إليه، والتواصي به مع أبنائه وأهل بيته وجيرانه وسائر إخوانه المسلمين؛ امتثالا لأمر الله ورسوله، وحذرا مما نهى الله عنه ورسوله، وابتعادا عن مشابهة أهل النفاق الذين وصفهم الله بصفات ذميمة، من أخبثها تكاسلهم عن الصلاة، فقال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:142-143].(/1)
ولأن التخلف عن أدائها في الجماعة من أعظم أسباب تركها بالكلية. ومعلوم أن ترك الصلاة كفر وضلال وخروج عن دائرة الإسلام؛ لقول النبي : بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة خرجه مسلم في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، وقال : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر رواه الإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربع بإسناد صحيح. والآيات والأحاديث في تعظيم شأن الصلاة، ووجوب المحافظة عليها وإقامتها كثيرة جداً.
ومتى ظهر الحق واتضحت أدلته، لم يجز لأحد أن يحيد عنه لقول فلان أو فلان؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59]، ويقول سبحانه: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
ولا يخفى ما في الصلاة في الجماعة من الفوائد الكثيرة، والمصالح الجمة، ومن أوضح ذلك التعارف، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، وتشجيع المتخلف، وتعليم الجاهل، وإغاظة أهل النفاق، والبعد عن سبيلهم، وإظهار شعائر الله بين عباده، والدعوة إليه سبحانه بالقول والعمل، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة.
وفقني الله وإياكم لما فيه رضاه وصلاح أمر الدنيا والآخرة، وأعاذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن مشابهة الكفار والمنافقين، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
فائدة:
ذكر أحاديث في فصل ذكر الله عز وجل
1- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: { من قال: "لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه } [متفق عليه].
2- وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: { من قال: "سبحان الله وبحمده" في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر } [متفق عليه].
3- وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي قال: { كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" } [متفق عليه].
4- وعند مسلم من حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: { أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لايضرك بأيهن بدأت } [رواه مسلم].
5- وعند مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: { لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس } [رواه مسلم].
6- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي : { مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت } [متفق عليه، واللفظ للبخاري].
7- وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال: { سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات } [رواه مسلم].(/2)
وجوب الإعتصام بكتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وصفوته من خلقه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد ابن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، كما قال سبحانه في سورتي التوبة والصف: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ وقال في سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا قال علماء التفسير رحمهم الله: الهدى: هو ما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من العلوم النافعة، والأخبار الصادقة، ودين الحق هو ما بعثه الله به من الأعمال الصالحة، والأحكام العادلة،
وقد بين الله سبحانه أن الإيمان بما بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والعمل بذلك، هو الصراط المستقيم الذي من سار عليه، واستقام عليه، وصل إلى شاطئ السلامة، وفاز بالجنة والكرامة، ومن حاد عنه واتبع هواه، باء بالصفقة الخاسرة، وسوء المصير، وقد أمر الله عز وجل جميع العباد باتباع الصراط المستقيم، ونهاهم عن اتباع السبل التي تفضي بهم إلى صراط الجحيم، فقال عز وجل في سورة الأنعام: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وأشار بقوله وأن هذا، إلى ما سبق أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على الناس، ويبينه لهم، ليعقلوا ويتذكروا، وذلك في قوله سبحانه:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
ثم قال سبحانه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ الآية. فبين عز وجل بهذا: أن امتثال هذه الأوامر والنواهي، هو الصراط المستقيم الذي أمر باتباعه، وبدأها سبحانه بالتحذير من الشرك وبيان تحريمه على الأمة، وذلك لأنه أعظم الذنوب وأشهر الجرائم، ولأن ضده وهو التوحيد هو أعظم الفرائض وأهم الواجبات، وذلك هو أساس الملة. وقاعدة الصراط المستقيم، وهو الذي بعث الله به جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب، وخلق من أجله الثقلين، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ
وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقد أمر الله عباده بذلك في مواضع كثيرة من كتابه، وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وقال عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وأرشد عباده في سورة الفاتحة، أن يقروا بذلك لله سبحانه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(/1)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال معاذ قلت الله ورسوله أعلم فقال صلى الله عليه وسلم حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا الحديث وقال صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار خرجه البخاري في صحيحه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله، وتثبتها بحق لله وحده، كما قال الله سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ
ثم ذكر سبحانه حق الوالدين، وهو الإحسان إليهما وعدم عقوقهما، ثم نهى عن قتل الأولاد من أجل الإملاق، وهو الفقر وأخبر أنه سبحانه هو الذي يرزق الوالدين والأولاد.
وكان من عادة بعض أهل الجاهلية قتل أولادهم خشية الفقر، فنهى عباده عن فعل ذلك، لما فيه من الظلم والعدوان وسوء الظن بالله عز وجل، ثم نهى عن قربان الفواحش ظاهرها وباطنها، وهي المعاصي كلها، ثم خص من ذلك قتل النفس بغير حق لعظم هذه الجريمة، وسوء عاقبتها أكثر من غيرها من المعاصي التي دون الشرك، ثم نهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، حتى يبلغ أشده، وذلك حين يبلغ ويرشد، ثم أمر بالوفاء بالكيل والميزان بالقسط وهو العدل، لما في بخس المكيال والميزان من الظلم والعدوان، وأكل المال بالباطل، ثم أمر بالعدل في القول بعد ما أمر بالعدل في الفعل، فقال سبحانه: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى والمعنى:
أن العدل في جميع الأقوال والأفعال مع القريب والبعيد، والحبيب والبغيض، طاعة لله سبحانه، وتنفيذ لحكمه، وضده: هو الظلم في القول والعمل، ثم أمر عباده سبحانه بالوفاء بعهده الذي عهد إليهم في كتابه المبين، وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وذلك يشمل جميع ما شرعه لعباده من الفرائض، والأحكام والأقوال والأعمال، وما نهاهم عنه سبحانه، كما نص على ذلك أئمة التفسير، ثم قال عز وجل بعد ذلك: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فعلم بهذا: أن صراطه سبحانه هو العمل بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والإيمان بكل ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من العلوم النافعة، والأخبار الصادقة، والشرائع والأحكام، ظاهرا وباطنا، خلافا لأهل النفاق،
وقد أرشد سبحانه عباده في سورة الفاتحة، إلى أن يسألوه الهداية إلى هذا الصراط لشدة ضرورتهم إلى ذلك، وبين سبحانه أنه هو طريق المنعم عليهم، المذكورين في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا
وقد دلت الأحاديث المرفوعة، والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، على أن السبل التي نهى الله عن اتباعها، هي البدع والشبهات والشهوات المحرمة، والمذاهب والنحل المنحرفة عن الحق، وسائر الأديان الباطلة، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي بإسناد صحيح، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيما وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ(/2)
ومما يحسن التنبيه عليه: أنه عز وجل ذكر في ختام الآية الأولى من الآيات الثلاث المذكورة آنفا: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وفي ختام الآية الثانية: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . وفي ختام الآية الثالثة: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قال بعض علماء التفسير، الحكمة في ذلك والله أعلم، أن من تدبر كتاب الله عز وجل، وأكثر من تلاوته، حصل له التعقل للأوامر والنواهي، والتذكر لما تشتمل عليه من المصالح العظيمة، والعواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، وبذلك ينتقل إلى التقوى: وهي فعل الأوامر وترك النواهي، اتقاء لغضب الله وعقابه، ورغبة في مغفرته ورحمته والفوز بكرامته، وهذا معنى عظيم، وذلك من أسرار كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لكونه تنزيلا من حكيم حميد، لا تخفى عليه خافية، ولا يعجزه شيء، وهو العالم بأحوال عباده ومصالحهم، لا إله غيره ولا رب سواه، وقد أخبر سبحانه أنما أوحى الله به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، هو روح تحصل به الحياة الطيبة، ونور تحصل به البصيرة والهداية، كما أخبر أن رسوله الكريم يهدي إلى صراطه المستقيم، الذي أوضحه في الآيات الثلاث التي ذكرنا آنفا، وذلك في قوله عز وجل في سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ
فأوضح سبحانه أن الوحي الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، روح تحصل به الحياة الطيبة، السعيدة الحميدة، ونور تحصل به الهداية والبصيرة، كما قال عز وجل في سورة الأنعام: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا الآية.
فأخبر سبحانه أن الكافر ميت منغمس في الظلمات، لا خروج له منها إلا إذا أحياه الله بالإسلام والعلم النافع، وقال عز وجل في سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ الآية فأخبر سبحانه أن الاستجابة لله وللرسول هي الحياة، وأن من لم يستجب لله وللرسول فهو ميت مع الأموات، وقال عز وجل في سورة النحل: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة أن من عمل صالحا من الذكور والإناث، وهو مؤمن بالله ورسوله، أحياه الله حياة طيبة، وهي الحياة التي فيها راحة القلب، والضمير، مع السعادة العاجلة والآجلة، لاستقامة صاحبها على شرع مولاه سبحانه، وسيره على ذلك إلى أن يلقاه عز وجل، ثم أخبر سبحانه أنه يجزيهم في الآخرة أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون،
فجمع لهم سبحانه بين الحياة الطيبة في الدنيا، والسعادة الكاملة في الآخرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ومعلوم أنه لا يحصل هذا الخير العظيم، إلا لمن اعتصم بكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا وعقيدة، واستمر على ذلك حتى يلقى ربه عز وجل، كما قال سبحانه في سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا أمر الله سبحانه في هاتين الآيتين أهل الإيمان: بأن يتقوا الله في جميع حياتهم، حتى يموتوا على ذلك، وأمرهم: بالاعتصام بحبله، وهو دينه الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الإسلام وهو التمسك بالقرآن والسنة، ونهى عن التفرق في ذلك لما يفضي إليه التفرق من ضياع الحق، وسوء العاقبة، واختلاف القلوب،
وقال سبحانه في سورة الحجر يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إلى أن قال سبحانه: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ فأمره سبحانه أن يبلغ رسالاته، ويصدع بذلك، ويعرض عمن خالفه، ثم أمره أن يسبح بحمده، وأن يكون من الساجدين له عز وجل، وأن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين، وهو الموت، فعلم بذلك أن الواجب على جميع العباد، أن يستقيموا على شرع الله، وأن يعتصموا بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يستمروا في ذلك، ويلزموه ولا يبالوا بمن خالفه، حتى تنزل بهم آجالهم،(/3)
وقد أمر الله سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، وفي أحاديث كثيرة مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باتباع كتابه الكريم، والاعتصام به واتباع السنة وتعظيمها، والحذر مما خالفهما، فمن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ وقال سبحانه في سورة الأنعام: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وقال في سورة الإسراء: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وقال في سورة ص: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ .
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال سبحانه في سورة النساء لما ذكر تفصيل الميراث: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ وقال فيها أيضا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
فأمر سبحانه في هذه الآية العظيمة بطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر، وأمر عند التنازع بالرد إليه سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بين أهل العلم أن الرد إليه سبحانه هو الرد إلى كتابه الكريم، وأن الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. وأخبر عز وجل أن هذا الرد خير للعباد في دنياهم وأخراهم، وأحسن تأويلا أي عاقبة، وبهذا يعلم أن الواجب على جميع أهل الإسلام: أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمورهم، وأن يردوا ما تنازعوا فيه إليهما، وأن ذلك خير لهم وأحسن عاقبة في العاجل والآجل، أما طاعة أولي الأمر فهي واجبة في المعروف، كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الموضع من المواضع التي قيد فيها مطلق الكتاب بما يصح في السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المبلغ عنه، والدال على شريعته بأمره سبحانه، كما قال عز وجل في سورة النحل: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وقال فيها سبحانه: وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
وقال سبحانه في سورة النساء أيضا: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا
وبين سبحانه في سورة الأعراف أن أنصاره وأتباعه هم المفلحون، وبين عز وجل أن الهداية معلقة باتباعه صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
وقال في سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ إلى أن قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ الآية وسبق أن هذه الآية العظيمة تدل على أن الحياة بالاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من لم يستجب لله ورسوله فهو من الأموات، وإن كان حيا بين الناس، حياة البهائم، وقال عز وجل في سورة النور: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(/4)
فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الهداية في طاعته، واتباع ما جاء به، ولاشك أن طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله عز وجل، واتباع لكتابه العظيم، كما قال سبحانه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ الآية. وقال في آخر سورة النور: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وهذا وعيد شديد لمن حاد عن أمره صلى الله عليه وسلم واتبع هواه،
وقال في سورة الفتح: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا
وقال في سورة الحشر: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ والآيات في الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع كتاب الله عز وجل والاهتداء به كثيرة جدا وقد ذكرنا منها بحمد الله ما فيه الكفاية والمقنع لمن وفق لقبول الحق،
وأما الأحاديث في ذلك فهي كثيرة أيضا، فنذكر منها ما تيسر، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني والمراد بطاعة الأمير طاعته في المعروف، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن السنة يقيد مطلقها بمقيدها، كما أن الكتاب العزيز يفسر المطلق فيه بالمقيد، ويفسر مطلقه أيضا بمقيد السنة، كما سبق التنبيه على ذلك عند ذكر قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ الآية، وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم بإسناد صحيح، عن المقدام بن معدي كرب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه
وخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح، عن ابن أبي رافع ، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وعن الحسن بن جابر قال: سمعت المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه يقول: حرم رسول صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أشياء ثم قال يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله أخرجه الحاكم والترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح،
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان يوصي أصحابه في خطبته أن يبلغ شاهدهم غائبهم ويقول لهم: رب مبلغ أوعى من سامع ومن ذلك ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس في حجة الوداع في يوم عرفة، وفي يوم النحر قال لهم: فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى له ممن سمعه فلولا أن سنته حجة على من سمعها وعلى من بلغته، ولولا أنها باقية إلى يوم القيامة، لم يأمرهم بتبليغها، فعلم بذلك أن الحجة بالسنة قائمة على من سمعها من فيه عليه الصلاة والسلام، وعلى من نقلت إليه بالأسانيد الصحيحة.
واسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وسائر المسلمين للتمسك بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعمل بهما، والتحاكم إليهما، ورد ما تنازع فيه المسلمون إليهما، وأن يوفق حكام المسلمين وقادتهم لاتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والحكم بهما في جميع الشئون، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق، وينصرهم على أعدائهم، كما اسأله سبحانه أن ينصر دينه، ويعلى كلمته ويخذل أعداءه ويوفق المجاهدين في سبيله لما فيه رضاه، ويجمع كلمتهم على الحق، ويؤلف بين قلوبهم، وينصرهم على أعدائهم أعداء الإسلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(/5)
وجوب الاعتصام بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتحذير مما يخالفهما
القسم : إملاءات > رسائل
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وصفوته من خلقه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد ابن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، كما قال سبحانه في سورتي التوبة والصف: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[1] وقال في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}[2] قال علماء التفسير رحمهم الله: الهدى: هو ما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من العلوم النافعة، والأخبار الصادقة، ودين الحق هو ما بعثه الله به من الأعمال الصالحة، والأحكام العادلة،
وقد بين الله سبحانه أن الإيمان بما بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والعمل بذلك، هو الصراط المستقيم الذي من سار عليه، واستقام عليه، وصل إلى شاطئ السلامة، وفاز بالجنة والكرامة، ومن حاد عنه واتبع هواه، باء بالصفقة الخاسرة، وسوء المصير، وقد أمر الله عز وجل جميع العباد باتباع الصراط المستقيم، ونهاهم عن اتباع السبل التي تفضي بهم إلى صراط الجحيم، فقال عز وجل في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[3] وأشار بقوله وأن هذا، إلى ما سبق أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على الناس، ويبينه لهم، ليعقلوا ويتذكروا، وذلك في قوله سبحانه:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[4]
ثم قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}[5] الآية. فبين عز وجل بهذا: أن امتثال هذه الأوامر والنواهي، هو الصراط المستقيم الذي أمر باتباعه، وبدأها سبحانه بالتحذير من الشرك وبيان تحريمه على الأمة، وذلك لأنه أعظم الذنوب وأشهر الجرائم، ولأن ضده وهو التوحيد هو أعظم الفرائض وأهم الواجبات، وذلك هو أساس الملة. وقاعدة الصراط المستقيم، وهو الذي بعث الله به جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب، وخلق من أجله الثقلين، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}[6]
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[7] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[8] وقد أمر الله عباده بذلك في مواضع كثيرة من كتابه، وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[9]
وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}[10] وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}[11] وأرشد عباده في سورة الفاتحة، أن يقروا بذلك لله سبحانه فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[12](/1)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : ((أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟)) قال معاذ قلت الله ورسوله أعلم فقال صلى الله عليه وسلم ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)) الحديث وقال صلى الله عليه وسلم: ((من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار)) خرجه البخاري في صحيحه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله، وتثبتها بحق لله وحده، كما قال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}[13]
ثم ذكر سبحانه حق الوالدين، وهو الإحسان إليهما وعدم عقوقهما، ثم نهى عن قتل الأولاد من أجل الإملاق، وهو الفقر وأخبر أنه سبحانه هو الذي يرزق الوالدين والأولاد.
وكان من عادة بعض أهل الجاهلية قتل أولادهم خشية الفقر، فنهى عباده عن فعل ذلك، لما فيه من الظلم والعدوان وسوء الظن بالله عز وجل، ثم نهى عن قربان الفواحش ظاهرها وباطنها، وهي المعاصي كلها، ثم خص من ذلك قتل النفس بغير حق لعظم هذه الجريمة، وسوء عاقبتها أكثر من غيرها من المعاصي التي دون الشرك، ثم نهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، حتى يبلغ أشده، وذلك حين يبلغ ويرشد، ثم أمر بالوفاء بالكيل والميزان بالقسط وهو العدل، لما في بخس المكيال والميزان من الظلم والعدوان، وأكل المال بالباطل، ثم أمر بالعدل في القول بعد ما أمر بالعدل في الفعل، فقال سبحانه: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[14] والمعنى: أن العدل في جميع الأقوال والأفعال مع القريب والبعيد، والحبيب والبغيض، طاعة لله سبحانه، وتنفيذ لحكمه، وضده: هو الظلم في القول والعمل، ثم أمر عباده سبحانه بالوفاء بعهده الذي عهد إليهم في كتابه المبين، وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وذلك يشمل جميع ما شرعه لعباده من الفرائض، والأحكام والأقوال والأعمال، وما نهاهم عنه سبحانه، كما نص على ذلك أئمة التفسير، ثم قال عز وجل بعد ذلك: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[15] فعلم بهذا: أن صراطه سبحانه هو العمل بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والإيمان بكل ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من العلوم النافعة، والأخبار الصادقة، والشرائع والأحكام، ظاهراً وباطناً، خلافاً لأهل النفاق، وقد أرشد سبحانه عباده في سورة الفاتحة، إلى أن يسألوه الهداية إلى هذا الصراط لشدة ضرورتهم إلى ذلك، وبين سبحانه أنه هو طريق المنعم عليهم، المذكورين في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[16]
وقد دلت الأحاديث المرفوعة، والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، على أن السبل التي نهى الله عن اتباعها، هي البدع والشبهات والشهوات المحرمة، والمذاهب والنحل المنحرفة عن الحق، وسائر الأديان الباطلة، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي بإسناد صحيح، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال ((هذا سبيل الله مستقيماً)) وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال ((هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه)) ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[17](/2)
ومما يحسن التنبيه عليه: أنه عز وجل ذكر في ختام الآية الأولى من الآيات الثلاث المذكورة آنفا: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[18] وفي ختام الآية الثانية: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[19]. وفي ختام الآية الثالثة: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[20] قال بعض علماء التفسير، الحكمة في ذلك والله أعلم، أن من تدبر كتاب الله عز وجل، وأكثر من تلاوته، حصل له التعقل للأوامر والنواهي، والتذكر لما تشتمل عليه من المصالح العظيمة، والعواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، وبذلك ينتقل إلى التقوى: وهي فعل الأوامر وترك النواهي، اتقاء لغضب الله وعقابه، ورغبة في مغفرته ورحمته والفوز بكرامته، وهذا معنى عظيم، وذلك من أسرار كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لكونه تنزيلاً من حكيم حميد، لا تخفى عليه خافية، ولا يعجزه شيء، وهو العالم بأحوال عباده ومصالحهم، لا إله غيره ولا رب سواه، وقد أخبر سبحانه أن ما أوحى الله به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، هو روح تحصل به الحياة الطيبة، ونور تحصل به البصيرة والهداية، كما أخبر أن رسوله الكريم يهدي إلى صراطه المستقيم، الذي أوضحه في الآيات الثلاث التي ذكرنا آنفا، وذلك في قوله عز وجل في سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}[21]
فأوضح سبحانه أن الوحي الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، روح تحصل به الحياة الطيبة، السعيدة الحميدة، ونور تحصل به الهداية والبصيرة، كما قال عز وجل في سورة الأنعام: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}[22] الآية.
فأخبر سبحانه أن الكافر ميت منغمس في الظلمات، لا خروج له منها إلا إذا أحياه الله بالإسلام والعلم النافع، وقال عز وجل في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[23] الآية فأخبر سبحانه أن الاستجابة لله وللرسول هي الحياة، وأن من لم يستجب لله وللرسول فهو ميت مع الأموات،
وقال عز وجل في سورة النحل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[24] فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة أن من عمل صالحاً من الذكور والإناث، وهو مؤمن بالله ورسوله، أحياه الله حياة طيبة، وهي الحياة التي فيها راحة القلب، والضمير، مع السعادة العاجلة والآجلة، لاستقامة صاحبها على شرع مولاه سبحانه، وسيره على ذلك إلى أن يلقاه عز وجل، ثم أخبر سبحانه أنه يجزيهم في الآخرة أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون،
فجمع لهم سبحانه بين الحياة الطيبة في الدنيا، والسعادة الكاملة في الآخرة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ومعلوم أنه لا يحصل هذا الخير العظيم، إلا لمن اعتصم بكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وعقيدةً، واستمر على ذلك حتى يلقى ربه عز وجل، كما قال سبحانه في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}[25] أمر الله سبحانه في هاتين الآيتين أهل الإيمان: بأن يتقوا الله في جميع حياتهم، حتى يموتوا على ذلك، وأمرهم: بالاعتصام بحبله، وهو دينه الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو الإسلام وهو التمسك بالقرآن والسنة، ونهى عن التفرق في ذلك لما يفضي إليه التفرق من ضياع الحق، وسوء العاقبة، واختلاف القلوب،(/3)
وقال سبحانه في سورة الحجر يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[26] إلى أن قال سبحانه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[27] فأمره سبحانه أن يبلغ رسالاته، ويصدع بذلك، ويعرض عمن خالفه، ثم أمره أن يسبح بحمده، وأن يكون من الساجدين له عز وجل، وأن يعبد ربه حتى يأتيه اليقين، وهو الموت، فعلم بذلك أن الواجب على جميع العباد، أن يستقيموا على شرع الله، وأن يعتصموا بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يستمروا في ذلك، ويلزموه ولا يبالوا بمن خالفه، حتى تنزل بهم آجالهم،
وقد أمر الله سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، وفي أحاديث كثيرة مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باتباع كتابه الكريم، والاعتصام به واتباع السنة وتعظيمها، والحذر مما خالفهما، فمن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[28] وقال سبحانه في سورة الأنعام: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[29] وقال في سورة الإسراء: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[30] وقال في سورة ص: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[31].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقال سبحانه في سورة النساء لما ذكر تفصيل الميراث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}[32] وقال فيها أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[33]
فأمر سبحانه في هذه الآية العظيمة بطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر، وأمر عند التنازع بالرد إليه سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد بين أهل العلم أن الرد إليه سبحانه هو الرد إلى كتابه الكريم، وأن الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. وأخبر عز وجل أن هذا الرد خير للعباد في دنياهم وأخراهم، وأحسن تأويلا أي عاقبة، وبهذا يعلم أن الواجب على جميع أهل الإسلام: أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمورهم، وأن يردوا ما تنازعوا فيه إليهما، وأن ذلك خير لهم وأحسن عاقبة في العاجل والآجل، أما طاعة أولي الأمر فهي واجبة في المعروف، كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الموضع من المواضع التي قيد فيها مطلق الكتاب بما يصح في السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المبلغ عنه، والدال على شريعته بأمره سبحانه، كما قال عز وجل في سورة النحل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[34] وقال فيها سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُالَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[35]
وقال سبحانه في سورة النساء أيضا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}[36]
وبين سبحانه في سورة الأعراف أن أنصاره وأتباعه هم المفلحون، وبين عز وجل أن الهداية معلقة باتباعه صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[37](/4)
وقال في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}[38] إلى أن قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[39] الآية وسبق أن هذه الآية العظيمة تدل على أن الحياة بالاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من لم يستجب لله ورسوله فهو من الأموات، وإن كان حياً بين الناس، حياة البهائم، وقال عز وجل في سورة النور: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[40]
فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الهداية في طاعته، واتباع ما جاء به، ولاشك أن طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة لله عز وجل، واتباع لكتابه العظيم، كما قال سبحانه: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[41] الآية. وقال في آخر سورة النور: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[42] وهذا وعيد شديد لمن حاد عن أمره صلى الله عليه وسلم واتبع هواه،
وقال في سورة الفتح: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا}[43]
وقال في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[44] والآيات في الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع كتاب الله عز وجل والاهتداء به كثيرة جدا وقد ذكرنا منها بحمد الله ما فيه الكفاية والمقنع لمن وفق لقبول الحق،
وأما الأحاديث في ذلك فهي كثيرة أيضاً، فنذكر منها ما تيسر، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني)) والمراد بطاعة الأمير طاعته في المعروف، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن السنة يقيد مطلقها بمقيدها، كما أن الكتاب العزيز يفسر المطلق فيه بالمقيد، ويفسر مطلقه أيضاً بمقيد السنة، كما سبق التنبيه على ذلك عند ذكر قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ}[45] مِنْكُمْ الآية، وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى))
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم بإسناد صحيح، عن المقدام بن معدي كرب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه))
وخرج أبو داود وابن ماجة بسند صحيح، عن ابن أبي رافع ، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه)) وعن الحسن بن جابر قال: سمعت المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه يقول: حرم رسول صلى الله عليه وسلم يوم خيبر أشياء ثم قال ((يوشك أحدكم أن يكذبني وهو متكئ يحدث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا إن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)) أخرجه الحاكم والترمذي وابن ماجة بإسناد صحيح،
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان يوصي أصحابه في خطبته أن يبلغ شاهدهم غائبهم ويقول لهم: ((رب مبلغ أوعى من سامع)) ومن ذلك ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس في حجة الوداع في يوم عرفة، وفي يوم النحر قال لهم: ((فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى له ممن سمعه)) فلولا أن سنته حجة على من سمعها وعلى من بلغته، ولولا أنها باقية إلى يوم القيامة، لم يأمرهم بتبليغها، فعلم بذلك أن الحجة بالسنة قائمة على من سمعها من فيه عليه الصلاة والسلام، وعلى من نقلت إليه بالأسانيد الصحيحة.(/5)
واسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وسائر المسلمين للتمسك بكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعمل بهما، والتحاكم إليهما، ورد ما تنازع فيه المسلمون إليهما، وأن يوفق حكام المسلمين وقادتهم لاتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والحكم بهما في جميع الشئون، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق، وينصرهم على أعدائهم، كما اسأله سبحانه أن ينصر دينه، ويعلى كلمته ويخذل أعداءه ويوفق المجاهدين في سبيله لما فيه رضاه، ويجمع كلمتهم على الحق، ويؤلف بين قلوبهم، وينصرهم على أعدائهم أعداء الإسلام، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
________________________________________
[1]- الصف الآية 9.
[2]- الفتح الآية 28.
[3]- الأنعام 153.
[4]- الأنعام الآيتان 151-152.
[5]- الأنعام الآية 153.
[6]- الذاريات الآية 56.
[7]- النحل الآية 36.
[8]- الأنبياء الآية 25.
[9]- البقرة الآية 21.
[10]- الإسراء الآية 23.
[11]- البينة الآية 5.
[12]- الفاتحة الآيات 2-5.
[13]- لقمان الآية 30.
[14]- الأنعام الآية 152.
[15]- الأنعام الآية 153.
[16]- النساء الآية 69.
[17]- الأنعام الآية 152.
[18]- الأنعام الآية 151.
[19]- الأنعام الآية 152.
[20]- الأنعام الآية 153.
[21]- الشورى الآيتان 52-53.
[22]- الأنعام الآية 122.
[23]- الأنفال الآية 24.
[24]- النحل الآية 97.
[25]- آل عمران الآيتان 102-103.
[26]- الحجر الآية 94.
[27]- الحجر الآية 99.
[28]- الأعراف الآية 30.
[29]- الأنعام الآية 155.
[30]- الإسراء الآية 9.
[31]- ص الآية 29.
[32]- النساء الآيتان 13-14.
[33]- النساء الآية 59.
[34]- النحل الآية 44.
[35]- النحل الآية 64.
[36]- النساء الآية 80.
[37]- الأعراف الآيتان 157-158.
[38]- الأنفال الآية 20.
[39]- الأنفال الآية 24.
[40]- النور الآية 54.
[41]- النساء الآية 80.
[42]- النور الآية 63.
[43]- الفتح الآية 17.
[44]- الحشر الآية 7.
[45]- النساء الآية 59.(/6)
وجوب الاعتصام بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
والتحذير مما يخالفهما
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وصفوته من خلقه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد ابن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، كما قال سبحانه في سورتي التوبة والصف: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ وقال في سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا قال علماء التفسير رحمهم الله: الهدى: هو ما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم من العلوم النافعة، والأخبار الصادقة، ودين الحق هو ما بعثه الله به من الأعمال الصالحة، والأحكام العادلة،
وقد بين الله سبحانه أن الإيمان بما بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق، والعمل بذلك، هو الصراط المستقيم الذي من سار عليه، واستقام عليه، وصل إلى شاطئ السلامة، وفاز بالجنة والكرامة، ومن حاد عنه واتبع هواه، باء بالصفقة الخاسرة، وسوء المصير، وقد أمر الله عز وجل جميع العباد باتباع الصراط المستقيم، ونهاهم عن اتباع السبل التي تفضي بهم إلى صراط الجحيم، فقال عز وجل في سورة الأنعام: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وأشار بقوله وأن هذا، إلى ما سبق أن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على الناس، ويبينه لهم، ليعقلوا ويتذكروا، وذلك في قوله سبحانه:
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
ثم قال سبحانه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ الآية. فبين عز وجل بهذا: أن امتثال هذه الأوامر والنواهي، هو الصراط المستقيم الذي أمر باتباعه، وبدأها سبحانه بالتحذير من الشرك وبيان تحريمه على الأمة، وذلك لأنه أعظم الذنوب وأشهر الجرائم، ولأن ضده وهو التوحيد هو أعظم الفرائض وأهم الواجبات، وذلك هو أساس الملة. وقاعدة الصراط المستقيم، وهو الذي بعث الله به جميع الرسل، وأنزل به جميع الكتب، وخلق من أجله الثقلين، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ
وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقد أمر الله عباده بذلك في مواضع كثيرة من كتابه، وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وقال عز وجل: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وأرشد عباده في سورة الفاتحة، أن يقروا بذلك لله سبحانه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(/1)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ : أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال معاذ قلت الله ورسوله أعلم فقال صلى الله عليه وسلم حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا الحديث وقال صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار خرجه البخاري في صحيحه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله، وتثبتها بحق لله وحده، كما قال الله سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ
ثم ذكر سبحانه حق الوالدين، وهو الإحسان إليهما وعدم عقوقهما، ثم نهى عن قتل الأولاد من أجل الإملاق، وهو الفقر وأخبر أنه سبحانه هو الذي يرزق الوالدين والأولاد.
وكان من عادة بعض أهل الجاهلية قتل أولادهم خشية الفقر، فنهى عباده عن فعل ذلك، لما فيه من الظلم والعدوان وسوء الظن بالله عز وجل، ثم نهى عن قربان الفواحش ظاهرها وباطنها، وهي المعاصي كلها، ثم خص من ذلك قتل النفس بغير حق لعظم هذه الجريمة، وسوء عاقبتها أكثر من غيرها من المعاصي التي دون الشرك، ثم نهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، حتى يبلغ أشده، وذلك حين يبلغ ويرشد، ثم أمر بالوفاء بالكيل والميزان بالقسط وهو العدل، لما في بخس المكيال والميزان من الظلم والعدوان، وأكل المال بالباطل، ثم أمر بالعدل في القول بعد ما أمر بالعدل في الفعل، فقال سبحانه: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى والمعنى:
أن العدل في جميع الأقوال والأفعال مع القريب والبعيد، والحبيب والبغيض، طاعة لله سبحانه، وتنفيذ لحكمه، وضده: هو الظلم في القول والعمل، ثم أمر عباده سبحانه بالوفاء بعهده الذي عهد إليهم في كتابه المبين، وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وذلك يشمل جميع ما شرعه لعباده من الفرائض، والأحكام والأقوال والأعمال، وما نهاهم عنه سبحانه، كما نص على ذلك أئمة التفسير، ثم قال عز وجل بعد ذلك: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فعلم بهذا: أن صراطه سبحانه هو العمل بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والإيمان بكل ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من العلوم النافعة، والأخبار الصادقة، والشرائع والأحكام، ظاهرا وباطنا، خلافا لأهل النفاق،
وقد أرشد سبحانه عباده في سورة الفاتحة، إلى أن يسألوه الهداية إلى هذا الصراط لشدة ضرورتهم إلى ذلك، وبين سبحانه أنه هو طريق المنعم عليهم، المذكورين في قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا
وقد دلت الأحاديث المرفوعة، والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان، على أن السبل التي نهى الله عن اتباعها، هي البدع والشبهات والشهوات المحرمة، والمذاهب والنحل المنحرفة عن الحق، وسائر الأديان الباطلة، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد والنسائي بإسناد صحيح، عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيما وخط خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ(/2)
ومما يحسن التنبيه عليه: أنه عز وجل ذكر في ختام الآية الأولى من الآيات الثلاث المذكورة آنفا: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وفي ختام الآية الثانية: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . وفي ختام الآية الثالثة: ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قال بعض علماء التفسير، الحكمة في ذلك والله أعلم، أن من تدبر كتاب الله عز وجل، وأكثر من تلاوته، حصل له التعقل للأوامر والنواهي، والتذكر لما تشتمل عليه من المصالح العظيمة، والعواقب الحميدة في الدنيا والآخرة، وبذلك ينتقل إلى التقوى: وهي فعل الأوامر وترك النواهي، اتقاء لغضب الله وعقابه، ورغبة في مغفرته ورحمته والفوز بكرامته، وهذا معنى عظيم، وذلك من أسرار كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لكونه تنزيلا من حكيم حميد، لا تخفى عليه خافية، ولا يعجزه شيء، وهو العالم بأحوال عباده ومصالحهم، لا إله غيره ولا رب سواه، وقد أخبر سبحانه أنما أوحى الله به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، هو روح تحصل به الحياة الطيبة، ونور تحصل به البصيرة والهداية، كما أخبر أن رسوله الكريم يهدي إلى صراطه المستقيم، الذي أوضحه في الآيات الثلاث التي ذكرنا آنفا، وذلك في قوله عز وجل في سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ
فأوضح سبحانه أن الوحي الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، روح تحصل به الحياة الطيبة، السعيدة الحميدة، ونور تحصل به الهداية والبصيرة، كما قال عز وجل في سورة الأنعام: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا الآية.
فأخبر سبحانه أن الكافر ميت منغمس في الظلمات، لا خروج له منها إلا إذا أحياه الله بالإسلام والعلم النافع، وقال عز وجل في سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ الآية فأخبر سبحانه أن الاستجابة لله وللرسول هي الحياة، وأن من لم يستجب لله وللرسول فهو ميت مع الأموات .
موقع الشيخ ابن باز
http://www.binbaz.org.sa/display.asp?f=bz00114(/3)
وجوب المقاطعة واستمرارها
سماحة الشيخ عبدالله ابن جبرين
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمَّد وعلى آله وصحبه، أما بعد.
فقد اشتهر عند الإخوان وعند غيرهم أمر دولة الدنمارك؛ وهي دولة صغيرة، دولة حقيرة، ولكن حملتها الغطرسة والكبر والحقد على الإسلام والمسلمين على هذه الأعمال السيئة، التي أعلنتها؛ ومنها: السخرية والاستهزاء بالنبي الكريم، أشرف الخلق محمَّد صلى الله عليه وسلم، وتماديهم في هذا الأمر الذي هو هذه السخرية.ولا شك أنَّ هذا يثير حفائظ المؤمنين، أهل الخير... أهل الإيمان، الذين يحبّون النَّبي صلى الله عليه وسلم. ويجب أن نكون كذلك، أن نكون، جميعاً، نحبُّ نبينا صلى الله عليه وسلم كما أمرنا بذلك وفرضه علينا: (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والنَّاس أجمعين )). هذا كلامه صلى الله عليه وسلم. ولمَّا قال له عمر رضي الله عنه: والله، يا رسول الله، إنك أحبّ إلي من كلِّ شيءٍ إلا من نفسي، فقال: (( لا يا عمر، حتى أكون أحبّ إليك من نفسك )) فقال في الحال: والله إنك أحبّ الي من كلِّ شيء حتى من نفسي! فقال: (( الآن يا عمر )).
وقد صدقت محبّة الصحابة رضي الله عنهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم. وإذا كان كذلك، فإنّهم يحبون من أحبّه، كل المؤمنين يجب أن يحبّوا أحباب النبي صلى الله عليه وسلم وأن يبغضوا من أبغضه.
ومن آثار البغض:
أن يقاطعوا أولئك الدول الذين سخروا من سنته، واستهزؤوا بسيرته، وتنقصوه. كان الواجب، من آثار هذه الغيرة، وهذه الحماسة: أن يقاتلوا !!! أن نقاتلهم، وذلك لأنهم أصبحوا محاربين، فليس لهم ذمَّة، وليس لهم عهد، وليس لهم أمان.
فيجب أن يقاتلهم المسلمون، ولكن قد لا يُستطاع ... مع نظام الدول... واعتراف الدول الكبرى والصغرى ببعض... أدى ذلك إلى أنهم لا يستطيعون القتال في هذه الأحوال، وإذا كان كذلك، فإنّ الله تعالى قد حرَّم موالاة الكفّار؛ ومن موالاتهم: مصادقتهم، أو مؤاخاتهم، أو إعزازهم، أو الرفع من شأنهم، أو نحو ذلك.
وقد اهتم بهذه المقاطعة أئمة الدعوة، رحمهم الله، بالبعد عن توليهم، فألف الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمَّد بن عبدالوهّاب، رحمه الله، رسالة كبيرة، سمَّاها: (( أوثق عرى الإيمان )). كذلك ألف كتاباً آخر، فيه واحد وعشرون دليلاً من أدلة القرآن والسنة على تحريم موالاة الكفّار، ابتدأ الأدلة بقوله تعالى (( ولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حتى تتبع ملتهم )). وذكر من الأدلة قوله تعالى (( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين )). وقول الله تعالى (( لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يؤلونكم خبالاً )). وقوله (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً )).
وقوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنَّصار أولياء بعضهم أولياء بعض )). وقوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفَّار أولياء واتقوا الله )).
وقوله ((ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنَّبي وما أُنزل إليه ما اتخذوهم أولياء )). فهكذا يكون المؤمنون حريصين على أن لا يتولوا جميع الكفّار.
وألف في ذلك الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله، رسالة بعنوان: (( بيان النّجاة والفكاك من موالاة أهل الإشراك )).
ومما نقله عن بعض العلماء، بعض السلف: أنهم قالوا: من برا لهم قلماً، أو لات لهم دواة، أو ناولهم قرطاساً فقد دخل في هذه الموالاة.
وتكلم على ذلك، أيضاً، ابن القيّم، رحمه الله، في كتابه الذي سمَّاه: (( أحكام أهل الذمَّة ))، تكلم على اسخدام الكفَّار، وكذلك توليتهم شيئاً من الولايات التي لها أهمّيّة.
وتكلم على ذلك، أيضاً، محمَّد بن مفلح، رحمه الله، في كتابه الكبير: (( الآداب الكبرى )) و(( الآداب الشرعيَّة ))، وذكر ما رُوي عن بعض الصحابة؛ ومنهم: عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، لمَّا كتب له أحد عمَّاله: إن عندنا كاتباً لا نستطيع الاستغناء عنه، فقال: لا ترفعوهم بعد أن وضعهم الله، لا تعزوهم بعد أن أذلهم الله، لا تكرموهم بعد أن أهانهم الله، لا تقربوهم بعد أن أبعدهم الله.
ولما كتب له آخر: إننا لا نستغني عن هذا الكاتب، كتب إليه سطراً واحداً، أو أقل: مات النَّصراني، والسلام.
أي قدِّر أنَّه مات، فهل يتعطّل المكتب؟
والكلام على هذا مشهور، وكثير في كلام العلماء وبالأخص: أئمة الدعوة، رحمهم الله. ولكن، نحن فيما يتعلق بهذه الدولة، وكذلك الدول التي تحامت معها، والتي نصرتها، أو أيدتها، أو نحو ذلك، فنقول:(/1)
إنَّ الواجب: إبعاد كلِّ دولة، أو الابتعاد عن كلِّ دولة يكون لها سبب في تحقير الإسلام والمسلمين، وفي إهانة الإسلام والمسلمين، وفي الاستهزاء بالنَّبي الكريم، ونحو ذلك بقدر المستطاع.
وحيث إنَّ مقاطعة منتجاتهم مما يسبب ضعف اقتصادهم، ومما يسبب إنكسارهم، وتأثرهم بذلك فإن هذا هو المستطاع.
وليس المسلمون بحاجة إلى منتجاتهم، ومنتجاتهم ليست من الضروريّات، الأجبان والألبان وما أشبهها موجودة والحمد لله، وأيضاً، لا يتوقف الغذاء عليها، الأكثرون عاشوا وهم لا يعرفون الأجبان، الجبن هذا، نحن عشنا في القرى عشرين وثلاثين سنة، وعاش آباؤنا، ولم نعرف ما يُسمّى ب (( الجبن ))، هناك اللبن الذي يحلبونه من الأبقار والأغنام والإبل ونحوها، ولا يزال، ولله الحمد، موجود... موجودة في الممكة هذه الألبان الكثيرة، فتغني عن استقدام شيء من هذه الدولة الكافرة الفاجرة.
وإذا قال بعضهم: إننا نضرّ بتجار مملكتنا، الذين لهم مصلحة كبيرة من هذا الاستيراد، ومن هذا الإنتاج حيث إنهم يربحون أرباحاً طائلة بإيراد هذه المنتجات.
فنقول:
أولاً: إنهم يستطيعون أن يصرفوا رؤوس أموالهم في سلع أخرى غير هذه المنتجات.
وثانياً: إنهم أغنياء، بحمد الله، ولن يسبب إنكسارهم، ولا فشلهم، ولا هبوط رؤوس أموالهم، فعندهم ثروات كبيرة، لا يؤثر فيها إذا قطعوا الاستيراد من هذه الدولة، لا يؤثر في اقتصادهم، ولا في تجاراتهم.
نقول:
إنَّ المسلمين متى ما تعاونوا في جميع الدول الإسلاميّة؛ العربيَّة وغير العربيَّة، وقالوا: هذه دولة كافرة تستهزىء بنبي الإسلام، ونحن جميعاً نحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونستاء ونغضب ممن يغضبه، أو من يحقره، أو من يستهزىء به، وإذا كان كذلك، فلابدّ أننا نجتمع على مقاطعتها إن لم نقدر على قتالها حيث انتقض العهد الذي بيننا وبينها، فلا أقلَّ من أن نوصل إليها شيئاً من الضرر الذي بإمكاننا واستطاعتنا، إذا تواصت الدول الإسلاميَّة كلُّها، بعيدة أو قريبة، على هذه المقاطعة، فإن هذه الدولة ستخسر كثيراً، وإذا لم تخسر الدولة نفسها خسرت الشركات التي لها إنتاج ولها إيراد وتصدير، سواء هذه الشركة التي استثنيت، أو غيرها.
هذه الشركة شركة من أكبر الشركات في تلك الدولة، ويسمونها (( آرلا )) هذه الشركة، لا شك أنها عندما رأت هذه المقاطعة، خافت أن تكسد وأن تخسر وأن تتأثر تأثراً بليغاً، فأظهرت هذا النَّدم، وأظهرت هذا التَّأسف، وتفاعلت مع الدول الإسلاميَّة، وأوهمت أنها لم ترض بذلك.
فنقول:
لما كانت شركة دنماركيَّة، ولما كان يغلب على الظن أن ما فعلته، أو ما أعلنته، أنَّه دعاية، أو حيلة لاستقطاب أموال المسلمين، ولاسترجاع معاملتهم لها، فإننا لا نقبل اعتذارها.
إذا كانت صادقة فلتفرض على الدولة كلها، وعلى الشركات كلّها أن يتبرؤوا مما عملوا، وأن يتراجعوا، وأن يظهروا النَّدم على ما فعلوه، وأن يعتذروا، فإذا لم تفرض ذلك، ولم تعمله فإنها ليست صادقة.
فالواجب على جميع الدول الإسلاميَّة أن يقاطعوا جميع المنتجات وجميع الشركات التي تنتمي إلى هذه الدولة الكافرة.
لعلهم أن يضعف اقتصادهم.
ولا يُقبل منهم اعتذار إلا إذا أعلنت الدولة كلُّها ذلك. أما شركة واحدة من عدد شركات فلا نقبل منهم.
الواجب أن ننصح التّجار الذين كأنهم تراجعوا، وأن نبيّن لهم أنَّ هذا ليس بصحيح عن اعتذار هذه الشركة... أن ننصحهم حتى يُعلنوا أنهم على المقاطعة مستمرين. هذا الذي نراه.
عُقد مؤتمر، قبل أيّام، في البحرين، وكان من جملة من حضر بعض المشايخ من المملكة ومن غيرها، وكأنهم انخدعوا بما قالته هذه الشركة، فتجاوبوا معها، وقالوا: نشير باستثنائها.
وجاءنا بعض من حضروا، وحاولوا أن نقتنع باستثنائها، وأن نستثنيها ولكن ما ظهر لنا مبرر. فالواجب أن ننصح الجميع قريباً أو بعيداً بأن يستمروا بما هم عليه حتى يكونوا بذلك: مبغضين للكفَّار، معادين لأعداء الدين(/2)
وجوب بر الوالدين والتحذير من عقوقهما
خالد بن عبد الرحمن الشايع
دار الوطن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وبعد:
قال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً (23) واخفض لهما جناح الذّلّ من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا [الإسراء:23-24].
الوالدان، وما أدراك ما الوالدان..
الوالدان، اللذان هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان.. الوالد بالإنفاق.. والوالدة بالولادة والإشفاق..
فللّه سبحانه نعمة الخلق والإيجاد، ومن بعد ذلك للوالدين نعمة التربية والإيلاد.
يقول حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ثلاث آيات مقرونات بثلاث، ولا تقبل واحدة بغير قرينتها..
1- وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول [التغابن:12]، فمن أطاع الله ولم يطع الرسول لم يقبل منه.
2- وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [البقرة:43]، فمن صلى ولم يزكِّ لم يقبل منه.
3- أن اشكر لي ولوالديك [لقمان:14]، فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لم يقبل منه.
ولأجل ذلك تكررت الوصايا في كتاب الله تعالى والإلزام ببرهما والإحسان إليهما، والتحذير من عقوقهما أو الإساءة إليهما، بأي أسلوب كان، قال الله تعالى: واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً [النساء:36]، وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حسناً [العنكبوت:8]. وقال تعالى: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أُمُّهُ وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير [لقمان:14].
فوضحت هذه الآيات ما للوالدين من جميل عظيم، وفضل كبير على أولادهما، خاصة الأم، التي قاست الصعاب والمكاره بسبب المشقة والتعب، من وحامٍ وغثيان وثقل وكرب، إلى غير ذلك مما ينال الحوامل من التعب والمشقة، وأما الوضع: فذلك إشراف على الموت، لا يعلم شدته إلا من قاساه من الأمهات.
وفي سنة رسول الله جاء التأكيد على وجوب بِرّ الوالدين والترغيب فيه، والترهيب من عقوقهما.
ومن ذلك: ما صح عن رسول الله أنه قال: { رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما } [رواه الطبراني في الكبير، وصححه العلامة الألباني].
وروى أهل السنن إلا الترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: { جاء رجل إلى رسول الله فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبويّ يبكيان، فقال رسول الله : "ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما" }.
وروى الإمام أحمد في المسند وابن ماجة - واللفظ له - عن معاوية بن جاهمة السلمي: { أنه استأذن الرسول في الجهاد معه، فأمره أن يرجع ويَبرَ أُمَّه، ولما كرر عليه، قال : "ويحك.. الزم رجلها... فثمّ الجنة" }.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: { جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ! من أحقُّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمّك"، قال: ثم من؟ قال: "أمّك"، قال: ثم من؟ قال "أمّك"، قال ثم من؟ قال: "أبوك" }. وهذا الحديث مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، وذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وجاءت الإشارة إلى هذا في قوله تعالى: ووصيّنا الإنسان بوالديه حملته أمّه وهناً على وهنٍ وفصاله في عامين [لقمان:14].
وصح عن رسول الله أنه قال: { ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنّان بما أعطى } [رواه النسائي وأحمد والحاكم].
وروى الإمام أحمد بسند حسن عن معاذ بن جبل قال: { أوصاني رسول الله بعشر كلمات قال: "لا تشرك بالله شيئاً، وإن قتلت وحرّقت، ولا تعقّنَّ والديك، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك.." } إلى آخر الحديث.
وكما أن بر الوالدين هو هديُ نبينا محمد فهو كذلك هدي الأنبياء قبله قولاً وفعلاً، وقد سبق بيان هدي نبينا محمد في ذلك من قوله. أما من فعله فإنه لما مرّ على قبر والدته آمنة بنت وهب بالأبواء حيث دفنت - وهو مكان بين مكة والمدينة - ومعه أصحابه وجيشه وعددهم ألف فارس، وذلك عام الحديبية، فتوقف وذهب يزور قبر أمه، فبكى رسول الله - بأبي هو وأمي - وأبكى من حوله، وقال: { استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة } [رواه البغوي في شرح السنة، واصله في صحيح مسلم].
وهذا إبراهيم خليل الرحمن أبو الأنبياء وإمام الحنفاء عليه السلام يخاطب أباه بالرفق واللطف واللين - مع أنه كان كافراً - إذ قال: (يا أبت) وهو يدعوه لعبادة الله وحده، وترك الشرك، ولما أعرض أبوه وهدده بالضرب والطرد، لم يزد على قوله: سلامٌ عليك سأستغفر لك ربي... [مريم:47].(/1)
وأثنى الله على يحيى بن زكريا عليهما السلام فقال تعالى: وبَرّاً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً [مريم:14].
إلى غير ذلك من أقوال النبيين عليهم السلام التي سجلها كتاب الله تعالى.
وهكذا كان السلف الصالح من هذه الأمة أحرص الناس على البر بوالديهم.
ومن ذلك أن أبا هريرة كان إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه فقال: السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله وبركاته، فيقول: رحمك الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: رحمك الله كما بررتني كبيراً.
أما عبد الله بن مسعود فقد طلبت والدته في إحدى الليالي ماء، فذهب ليجيء بالماء، فلما جاء وجدها نائمة، فوقف بالماء عند رأسها حتى الصباح، فلم يوقظها خشية إزعاجها، ولم يذهب خشية أن تستيقظ فتطلب الماء فلا تجده.
وها هو ابن الحسن التميمي رحمه الله يهمُّ بقتل عقرب، فلم يدركها حتى دخلت في جحر في المنزل، فأدخل يده خلفها وسد الجحر بأصابعه، فلدغته، فقيل له: لم فعلت ذلك؟ قال: خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي فتلدغها.
أما ابن عون المزني فقد نادته أمه يوماً فأجابها وقد علا صوته صوتها ليسمعها، فندم على ذلك وأعتق رقبتين.
ولبر السلف صور عديدة، ومواقف كثيرة يطول ذكرها، والمقصود الإشارة إلى نماذج من برهم.
ولو نظرنا في أحوالنا لوجدنا التقصير الشديد في بر آبائنا وأمهاتنا، ولربما وقع من البعض العقوق، نسأل الله العفو والسلامة.
وعقوق الوالدين له صور عديدة ومظاهر كثيرة قد تخفى على بعض الناس، ومن ذلك: أن يترفع الابن عن والديه ويتكبر عليهما لسبب من الأسباب، كأن يكثر ماله، أو يرتفع مستواه التعليمي أو الاجتماعي ونحو ذلك.
ومن العقوق أن يدعهما من غير معيلٍ لهما، فيدعهما يتكففان الناس ويسألانهم.
ومن العقوق أن يقدم غيرهما عليهما، كأن يقدم صديقه أو زوجته أو حتى نفسه.
ومن العقوق أن يناديهما باسمهما مجرداً إذا أشعر ذلك بالتنقص لهما وعدم احترامهما وتوقيرهما. وغير ذلك.
قد يتجاهل بعض الناس فضل والديه عليه، ويتشاغل عما يجب عليه نحوهما، ألا يعلم ذلك العاق أو تلك العاقة أن إحسان الوالدين عظيم وفضلهما سابق، ولا يتنكر له إلا جحود ظلوم غاشم، قد غُلقت في وجهه أبواب التوفيق، ولو حاز الدنيا بحذافيرها؟!..
فالأم التي حملت وليدها في أحشائها تسعة أشهر، مشقة من بعد مشقة 00 لا يزيدها نموه إلا ثقلاً وضعفاً، ووضعته كرهاً وقد أشرفت على الموت، فإذا بها تعلّق آمالها على هذا الطفل الوليد، رأت فيه بهجة الحياة وزينتها، وزادها بالدنيا حرصاً وتعلقاً، ثم شغلت بخدمته ليلها ونهارها، تغذيه بصحتها، وتريحه بتعبها، طعامه درّها، وبيته حجرها، ومركبه يداها وصدرها، تحوطه وترعاه، تجوع ليشبع، وتسهر لينام، فهي به رحيمة، وعليه شفيقة، إذا غابت دعاها، وإذا أعرضت عنه ناجاها، وإن أصابه مكروه استغاث بها، يحسب أن كل الخير عندها، وأن الشر لا يصل إليه إذا ضمّته إلى صدرها أو لحظَتْه بعينها.
أفبعد هذا يكون جزاؤها العقوق والإعراض؟!
اللهم عفواً ورُحما.
أما الأب... فالابن له مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَة.. يَكَدُّ ويسعى، ويدفع صنوف الأذى بحثاً عن لقمة العيش لينفق عليه ويربيه، إذا دخل عليه هش، وإذا اقبل إليه بش، وإذا حضر تعلق به، وإذا أقبل عليه احتضن حجره وصدره، يخوف كل الناس بأبيه، ويعدهم بفعل أبيه، أفبعد هذا يكون جزاء الأب التنكر والصدود؟ نعوذ بالله من الخذلان.
إن الإحباط كل الإحباط أن يُفاجأ الوالدان بالتنكر للجميل، وقد كانا يتطلعان للإحسان، ويؤملان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا الولد - ذكراً أو أنثى - يتخاذل ويتناسى ضعفه وطفولته، ويعجب بشأنه وفتوته، ويغره تعليمه وثقافته، ويترفع بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفف والتبرم، ويجاهرهما بالسوء وفحش القول، يقهرهما وينهرهما، يريدان حياته ويريد موتهما، كأني بهما وقد تمنيا أن لو كانا عقيمين، تئن لحالهما الفضيلة، وتبكي من أجلهما المروءة.
فليحذر كل عاقل من التقصير في حق والديه، فإن عاقبة ذلك وخيمة، ولينشط في برهما فإنهما عن قريب راحلين وحينئذ يعض أصابع الندم، ولات ساعة مندم. أجل، إن بر الوالدين من شيم النفوس الكريمة والخلال الجميلة، ولو لم تأمر به الشريعة لكان مدحة بين الناس لجليل قدره، كيف وهو علاوة على ذلك تُكفَّر به السيئات، وتجاب الدعوات عند رب البريات، وبه تنشرح الصدور وتطيب الحياة ويبقى الذكر الحسن بعد الممات.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، واجزهم عنا خير ما جزيت به عبادك الصالحين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/2)
وجوب تحكيم الشريعة ونبذ ما عداها
د. عبد الله الزبير عبد الرحمن*
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وبك خاصمنا، وإليك حاكمنا، فاغفر لنا ما قدّمنا وما أخّرنا، وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منّا. اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم أعنّا ولا تعن علينا، اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، اللهم امكر لنا ولا تمكر علينا، اللهمّ انصرنا على من بغى علينا.
أما بعد..
[1] لا إيمان بلا إذعان للشرع:
لا بدّ أن يُبَيّن للمسلمين على عمومهم، والحكّام منّا على خصوصهم، أنّ أمر الشريعة وتحكيمها أمر دين لا يتحقق الإيمان إلاّ بالإذعان لها والاحتكام إليها، وأنّ موقف المسلم منها حدود وفواصل، إما إيمان وجهاد، وإما كفر وارتداد.
فمما يجب تبيينه: أن الإيمان لا يتحقق أبداً إلاّ بالإذعان لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم مع التصديق، فلو انفرد التصديق لم يتحقق الإيمان، ولو انفرد الإذعان والعمل لم يتحقق الإيمان، فلا بدّ في تحقق الإيمان اجتماع التصديق والإذعان، والقول والعمل، قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً) [سورة النساء: 65].
وهذا من الدين كالمعلوم ضرورة، وأسوق إليك أقوال علماء الأمة ممن سبقونا بالعلم والإيمان رحمهم الله تعالى:
(1) قال البخاري رحمه الله تعالى: "لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أن أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل.."([1]).
(2) وروى الربيع عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال: "الإيمان قول وعمل"([2]).
(3) وحكى ذلك الفضيل بن عياض عن وكيع عن أهل السنة والجماعة([3]).
(4) وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عدي بن عدي: "إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان"([4]).
(5) ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الكفر عدم الإيمان، سواء كان معه تكذيب أو استكبار أو إباء أو إعراض، فمن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهم كافر"([5]).
ويقول في موضع آخر: "لا فرق بين من يعتقد أن الله ربه وأن الله أمره بهذا الأمر، ثم يقول إنه لا يطيعه لأن أمره ليس بصواب ولا سداد، وبين من يعتقد أن محمداً رسول الله وأنه صادق واجب الاتباع في خبره وعمله، ثم يسبه أو يعيب أمراً أو شيئاً من أحواله، أو ينتقصه انتقاصاً لا يجوز أن يستحقه رسول، وذلك أن الإيمان قول وعمل"([6]).
(6) ويقول ابن القيم رحمه الله: "الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صِدْق المخبِر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيماناً؛ لكان إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح، واليهود الذين عرفوا محمداً رسول الله كما يعرفون أبناءهم؛ مؤمنين مصدقين، فالتصديق إنما يتم بأمرين، أحدهما: اعتقاد الصدق، والثاني: محبة القلب وانقياده"([7]).
(7) وقال القسطلاني رحمه الله في شرح حديث الإيمان في صحيح البخاري: "هو لغة التصديق، وهو كما قال التفتازاني: إذعان لحكم المخبِر وقبوله. فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان وقبول بل هو إذعان وقبول"([8]).
(8) ويعرّف الكمال بن الهمام رحمه الله الإيمان بأنه: "الاستسلام الباطن والانقياد لقبول الأوامر والنواهي"([9]).
(9) ويقول ابن أبي العز في شرح الطحاوية: "الكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق، ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك لكان كفراً أعظم، فعلم أن الإيمان ليس التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب، فكذلك الإيمان يكون تصديقاً وموافقة وموالاة وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق" أهـ([10]).
وهكذا يتأكد أن الإيمان لا يتحقق أبداً إلاّ بتحكيم شرع الله والاحتكام إليه بتصديق وإذعان، ولذلك "فالتولي عن الحكم بالشريعة كالتكذيب بها سواء كلاهما كفر أكبر"([11]).
[2] إلغاء أحكام الشريعة أعظم جرماً من عدم تحكيمها ابتداءً:(/1)
ومما يجب التنبيه إليه ضرورة العلم بأن عدم تحكيم الشريعة في حياة الناس جريمة دينية واجتماعية وسياسية، ولكن إلغاء ما استقر من أحكام الشريعة أعظم جرماً وأكثر ذنباً وإثماً، وقد يكون فيه الارتداد أظهر؛ لأن في الابتداء يمكن الاعتذار بالشُّبه، ولكن في الإمضاء تقل وتنعدم؛ إذ لا خيار للأمة بعد رفع حكم الشرع بعد مضيه، وإلغائه بعد وجوده، وردّه بعد ثبوته: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً) [سورة الأحزاب: 36].
[3] لا انفصام بين العقيدة والشريعة:
وإن كانت العقيدة تمثل جانب التصديق والإيمان، والشريعة تمثل جانب التطبيق والإذعان فلا انفصام بين عقيدة المسلمين وشريعتهم، بين الاعتقاد وبين الاحتكام، وهذا واضح بيّن لا يحتاج إلى كثير استدلال، وقد جمع القرآن بينهما فقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك). ولذلك فالدعوة إلى الفصل بين عقيدة الأمة وشريعتها كالفصل بين الروح والجسد: إماتة للعقيدة ونقض للإيمان، وردة في الدين.
وعلى ضوء هذه الأمور الثلاثة يُستدل لوجوب تحكيم الشريعة الإسلامية في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية جميعاً من الكتاب والسنة والإجماع والقياس والعقل والمصلحة والتاريخ بما يقطع بلزوم الشريعة أهلها ووجوب تحكيمها في حياتهم ونبذ ما عداها.
أولاً: القرآن يلزم المسلمين بتحكيم الشريعة في أمورهم جميعاً:
فالقرآن الكريم يوجّه الأوامر والمواعظ والأخبار للمسلمين، يوجب عليهم الاحتكام إلى شرع الله، والاهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أمورهم وسائر جوانب حياتهم. ولو تقصّينا آيات القرآن الدالة على وجوب تحكيم الشريعة لضاق المجال، ولكن أسوق منها جملة كبيرة، منها:
(1) قوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم) وهو دليل صريح أن كل حاكم مسلم لا يجوز له أن يحكم بغير الشرع، وأنه لا بديل لشرع الله، وأنّ أي نوع احتكام مهما يُرَى حقارته وقلّته يجب أن يصدر عن شرع الله، وإلاّ فهو اتباع للهوى المضل وذلك هو الضلال المبين.
(2) وقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون).
(3) وقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون).
(4) وقوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وهذه الآيات الثلاث جمعت بين أحوال تاركي الاحتكام لشرع الله، ورافضي تطبيقه، والداعين إلى نبذه وإلغائه، فكل تارك لشرع الله لا يخلو حاله من هذه الأمور الثلاثة:
أ ـ إما الكفر البواح بتكذيبه واعتقاد بطلانه.
ب ـ وإما الظلم لنفسه ولأمته وقومه بعدم الاحتكام إلى الشرع وإن اعتقد صلاحه ووجوبه، مع قدرته على الالتزام به.
ج ـ وإما الفسق الدال على تقديم الشر على الخير والقشر على اللب، ورضا الخلق على رضا الرب، بالتساهل في ترك الاحتكام إلى الشرع.
وفي كل الأحوال الثلاثة فليس بخارج عن أحوال الكفر، أكبر كان أو أصغر، كما يدل على الجهالة المفرطة باستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وهو دال على استجلاب الذلّة والهوان باسترضاء الكافر على حساب معتقده ودينه، وعلى حساب ملّته وأمّته.
(5) وقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [سورة النساء: 65].
يقول الجصاص الرازي في تفسير هذه الآية: "في هذه الآية دلالة على أن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم؛ وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة، وقتلهم وسبي ذراريهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان"([12]).
(6) وقوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) [سورة الجاثية: 18]. وهو جمع بين لزوم اتباع الشيء وترك شيء بصريح العبارة، لزوم اتباع الشريعة ونبذ ما عداها؛ لأن ما عدا الشرع هو الهوى المتبع، والهوى جهل وضلال وكما قال تعالى: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله).
(7) وقوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) [سورة الأحزاب: 36]. وفيه نفي الاختيار الدالُّ على الإلزام والحتم بالاحتكام إلى قضاء الله ورسوله، وقضاؤهما الشريعة السمحة.
(8) وقوله تعالى: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) [سورة الأعراف: 3]. جمع بين الأمر والنهي للتأكيد والقطع بأن الالتزام بالشرع مطلوب واجب، ولا يكون ذلك إلا باتباع الشرع ونبذ ما عداه.(/2)
(9) وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان) [سورة البقرة: 208]. ولا يتحقق الدخول في الإسلام كافة مع ترك شيءٍ مما أوجبه الشرع وقضى به، فذلك هو اتباع خطوات الشيطان وموالاته وحزبه.
(10) وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) [سورة الأنفال: 24]. وهذا أمر يقتضي الإيجاب للاستجابة لأوامر الله ورسوله وإقامة الحياة على الالتزام بها، وهي شريعة الإسلام السمحة.
(11) وقوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين) [سورة الأنعام: 162ـ163]. فلم يخرج شيء مما يكون تصرفاً بشرياً، أو موقفاً سلطانياً، أو عبادة دينية، أو معاملة بين الناس في سائر المجتمعات إلا وهو مأمور به، وبه أمر كل مسلم.
(12) وقوله تعالى: (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم. وإنه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تُسألون) [سورة الزخرف: 43ـ44]. وما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القرآن وما فيه من أوامرٍ ونواهٍ، ومن أحكام وحدود، وهي أحكام وحدود شريعته، فهو صلى الله عليه وسلم مسؤول عنها وعن تطبيقها وتحكيمها في حياة أصحابه، والأمة من بعده مسؤولة عن تحكيمها في حياتهم، وقد قال أهل التفسير: "تسألون أنت ومن معك على ما أتاك... تسألون عمّا عملتم فيه"([13]). فالمسؤولية العامة والخاصة للأفراد المسلمين، والجماعات الإسلامية، والدولة الإسلامية قائمة بتطبيق الشريعة الإسلامية وتحكيمها في الحياة؛ مما يستوجب السؤال عن مدى التزامهم بالشرع وتطبيقهم لأحكامه، وإذا كان الخطاب يوجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بأمته؟ وكوننا مسؤولين دليل وجوب ذلك ولزومه.
(13) قوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) [سورة النساء: 105]. فالغاية العليا من إنزال القرآن، والمقصد الأسمى من إنزال الكتاب العزيز هو تحكيمه في حياة الناس، وفضّ نزاعاتهم به، وإقامة العدل بينهم بأوامره ونواهيه، وردّ الحقوق بالتزامه، والاهتداء في الحياة كلها بالاستقامة على أحكامه. وبمعنى أجمل: تحكيم شرع الله في حياة الناس.
ثانياً: وجوب نبذ ما سوى الشريعة:
(14) قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون...). وهذه الآية بيِّنة على أن حكم غير الشرع جاهلية، ويستنكر رب العزة ابتغاء الحُكّام حُكْماً غير الشرع، ويؤكد أن ذلك جاهلية جهلاء.
(15) وقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيراً. إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [سورة النساء: 115ـ116]. وسبيل المؤمنين هو الاحتكام إلى الشريعة في جميع أمورهم، مما يدل على نبذ سوى هذه الشريعة وعظم جرم من يحتكم إلى غيرها، وأن جزاء من يفعل ذلك منا الوقوع في الضلال البعيد، بعد ما حكم عليه رب العزة بأنه مشاقق للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
(16) قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [سورة الأنعام: 153]. فشرع الله هو سبيله، وهو صراطه المستقيم، ولا يجوز ترك الصراط المستقيم إلى ما سواه مما يُضلّ ويفرق عن سواء السبيل، ولما كان كل سبيل غير سبيل الله معوجّاً فلا يجوز للمسلم اتباعه، والنهي في الآية صريح مقتضٍ للمنع والتحريم.
(17) قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) [سورة البقرة: 120]. وفي الآية تحذير من المولى عزّ وجلّ ووعيد وتهديد يفضي إلى فقدان ولاية الله ونصرته، ولا خير فيما يفضي إلى هذا الشر المستطير والخسران المبين، وحقه بلا خلاف نبذه وحظره والامتناع عنه، وهو ما دون شرع الله من أهواء البشر وقضائهم وقوانينهم المبنية على الأهواء؛ لأنّ مقصد الشرع الأسمى هو إخراج العبد عن هواه ليكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد لله اضطراراً.
(18) قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين) [سورة البقرة: 145]. وفيها ذمّ شديد لمن ترك الشرع واتخذ غير شريعة الله حكماً، فحكم عليه رب العزّة أنه من الظالمين، وصدق الله.
(19) قوله تعالى: (ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق) [سورة المائدة: 48]. والهوى الذي نهينا عن اتباعه وتفضيله وتقديمه على شريعة الإسلام هو هوى العصاة للرسول صلى الله عليه وسلم والكفار بالرسول صلى الله عليه وسلم وأعداء الإسلام، ودليل ذلك قوله تعالى: (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [سورة القصص: 50].
ثالثاً: الإجماع يقطع بوجوب تحكيم الشريعة:(/3)
لا يختلف مسلمان على وجوب تحكيم شريعة الإسلام في حياتهم، وإلاّ فمن خالف في ذلك؛ كان مطعوناً في دينه، منقوصاً في عقيدته، بل إنّ من ردّ شيئاً من شرع الله شكاً في صلاحه، أو اعتقاداً في صلاح غيره، وفضّله عليه فهو مرتد خارج عن الملّة بلا خلاف.
يقول الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله: "من المتفق عليه أن من ردّ شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم خارج عن الإسلام سواء ردّه من جهة الشكّ أو من جهة القبول أو الامتناع عن التسليم"([14]).
ويقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله: "وهذا الحكم لا خلاف فيه بتاتاً، أعني كفر من ردّ حكماً من أحكام الله الثابتة في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا كان هذا الرد معللاً بأن هذا التشريع لا يناسب الناس، أو لا يوافق العصر، أو أنه وحشية، أو غير ذلك، لأن حقيقة عيب التشريع هي عيب المشرع، والذي شرع هذا وحكم به هو الله سبحانه وتعالى، ولا يشك مسلم في أن عيب الله أو نسبة النقص أو الجهل له كفر به وخروج عن ملّة الإسلام، ولذلك فالأمر الأول الذي ينبغي أن يتعلمه الذين يردّون هذا الحكم أنهم ليسوا من جماعة المسلمين، ولا ينتمون إلى هذه الأمة أصلاً، إلاّ أن يعلنوا توبتهم ورجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى"([15]) ا.هـ.
ومما يترتب على ذلك:
أنّ كل تشريع مخالف للشريعة الإسلامية باطل لا تجب طاعته ولا طاعة من شرعه ووضعه، ولو وضعه حاكم مسلم، أو دعا إليه سيّد غاشّ لقومه وأتباعه، أو زعيم مزعوم الإمامة في عشيرته.
وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء.
قال عودة رحمه الله: "ولا خلاف بين الفقهاء والعلماء في أن كل تشريع مخالف للشريعة الإسلامية باطل لا تجب له الطاعة، وأنّ كل ما يخالف الشريعة محرم على المسلمين ولو أمرت به أو أباحته السلطة الحاكمة أياّ كانت، ومن المتفق عليه أن من استحدث من المسلمين أحكاماً غير ما أنزل الله ويترك بالحكم بها كل أو بعض ما أنزل الله من غير تأويل يعتقد صحته، فإنه يصدق عليه ما وصفهم به الله تعالى من الكفر والظلم والفسق كل بحسب حاله، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا لأنه يفضل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعاً.."([16]).
ثالثاً: القياس والعقل يوجبان تحكيم الشريعة:
والقياس يقطع بوجوب ولزوم الاحتكام لشرع الله ظاهراً وباطناً؛ وذلك أنّ كلّ تشريع إنما يُقبل ويُلزم به ويحرص الناس عليه إذا كان صادراً من عالم خبير من البشر بالقانون وأوضاع الناس ومجتمعاتهم، فكيف بالله يُترك شرع من فطر السموات والأرض ويعلم ما فبها من شيء، خلق الإنسان، ويعلم ما توسوس به نفسه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وهو اللطيف الخبير بحالهم ونفوسهم وأفكارهم واتجاهاتهم، وهو عالم الغيب والشهادة، يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون، فكيف يجوز عقلاً ترك شرع وقانون وقضاء اللطيف الخبير واهب العلم للعلماء، وخالق الخبراء، ومدبر الأمر للمجتمعات، ومالك الملك، يهب الملك لمن يشاء وينزعه عمن يشاء؟ هذا ورب العقلاء أجهل الجهالة وأبعد الضلالة، فكيف نلتزم شرع مخلوق ونعرض عن شرع الخالق تبارك وتعالى؟
فإن كان أعداؤنا يدعون إلى نبذ شريعتنا وراء ظهورنا والاحتكام إلى شرائعهم الباطلة، إن كانوا يدعوننا أن نلتزم الوضعية ونلغي الشريعة فهذا لعمري في القياس بديع، فإن كانت الدول والأنظمة تنتدب الخبراء والعلماء لتشريع النظم والقوانين للناس، ثم تلزم رعاياها بها، فشرع الخالق العليم الخبير اللطيف أولى بالاتباع وأوجب بالالتزام. وكفانا قول الله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [سورة الملك: 14].
رابعاً: المصلحة تقتضي بوجوب تحكيم الشريعة:
ماذا يريد دعاة إلغاء الشريعة بدعوتهم؟ هل يرجون مصلحة تتحقق في غير الشريعة أفضل وأنفع من تطبيق الشريعة؟ أم يريدون درء ضرر ودفع شر قد يقع على الناس بسبب تطبيق الشريعة؟
بل في تطبيق الشريعة الإسلامية في حياة الناس الخير كلّه، والنفع كلّه، والمصلحة كلّها، والسعادة كلّها؛ لأن مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ـ كما يقول العلامة ابن القيم رحمه الله:(/4)
"الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة كلّها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدّها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل فهي قرة للعيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء و النور الشفاء والعصمة، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله سبحانه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم، رفع إليه ما بقي من رسومها، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي عمود العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة" أ.هـ. كلام ابن القيم([17]).
تحقيق السلام في اتباع الشريعة:
ومن مصلحة تطبيق الشريعة حتى على ما يراد بسببه إلغاؤها (أي من أجل السلام) فإن السلام يتحقق بالعدل والخير بالتزام الشريعة، عندئذ يُهدى حكامنا إلى سبل السلام الموفق الباسط للخير والمثبت لقواعد الحكم على رضوان الله تعالى، ولقد قال تعالى: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) [سورة المائدة: 16].
وقال تعالى: (والسلام على من اتبع الهدى) [سورة طه: 47]. وخير الهدى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
والتزام الشريعة هو الضمانة الوحيدة في الإيفاء بالوعود واتفاقيات السلام من قبل المسلمين، وكلما كان الالتزام بالشريعة أوفى كان الإيفاء ببنود السلام أضمن، ولا يظنن ظان أن الضمانة الأقوى هي رضى أمريكا، أو أن الضمان الأكبر في رضا قرنق و موافقيه من بني جلدتنا وسادة بعضنا، وإنما الضمان كل الضمان منا التزامنا بالشريعة تصديقاً وتطبيقاً، فليسع حتى غير المسلمين للدعوة إلى تطبيق الشريعة وتحكيمها في حياة الأمة ليجدوا من المسلمين الوفاء الأكمل والالتزام الأتم بكل اتفاقية معهم.
والعقلاء من غير المسلمين في بلادنا وكثير من قادتهم عرف ذلك فسارعوا إلى إنكار الدعوة إلى العلمانية في بلادنا، يطالبون تحكيم الشريعة الإسلامية لما وجدوا من خير لهم في تحكيمها، الخير الذي انقشع غيمه وظلاله عمن نبذوا شريعتهم وراء ظهورهم.
خامساً: التاريخ يشهد بوجوب تحكيم الشريعة:
وليس من أدل على وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية في حياة الناس كلهم، بله المسلمين؛ شهادة التاريخ على أن خيرهم ونفعهم وصلاحهم بجميع طوائفهم وسائر مللهم و نحلهم، وكافة طرائقهم، وكل الشعوب والقبائل، شهادة التاريخ أن أوفى الشرائع، وأرأف الشرائع، وأقدر الشرائع ـ السماوية والأرضية أ على تحقيق العدل والخير للناس والمساواة بينهم بإنصاف وتجرد هي شريعة المسلمين.
ويكفي شهادة فخر للمسلمين أن نقرأ رسالة مسيحيي الشام إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، في زمان عزة المسلمين وقوة دولتهم وتمكنهم في الأرض يمشون عليها هوناً إلى أهداف سامية ووجهةٍ راشدة ـ يستنجد فيها مسيحيو الشام بالمسلمين يقولون لأبي عبيدة في رسالتهم: "معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، فأنتم أوفى لنا، وأرأف بنا، وأكف عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا".
فأية شهادة أصدق من هذه الرسالة في صلاح الشريعة الإسلامية لسائر الأمم والشعوب مسلمة وغير مسلمة وفي خيرها ورحمتها ورأفتها الدالة بيقين على وجوب تحكيمها عليهم جميعاً؟
وبعد رسالة مسيحيي الشام للمسلمين يطلبون شريعتهم ويستنجدون بهم لرحمتهم بهم أكثر من أهل دينهم، نستمع إلى شهادات علماء غير المسلمين ليكون التأريخ دليلاً قوياً وشاهداً زكياً على وجوب تحكيم الشريعة الإسلامية في العالمين.
يقول ميشو في تأريخ الحروب الصليبية: "لما استولى عمر على مدينة أورشليم، لم يفعل بالمسيحيين ضرراً مطلقاً، ولكن لما استولى عليها المسيحيون، قتلوا المسلمين، ولم يشفقوا, وأحرقوا اليهود إحراقاً"([18]).
ويشهد البطريق (عيشو يابه) الذي تولى منصبه سنة 647ـ657هـ بأن: "العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون, إنهم ليسوا أعداءً للنصرانية.. ويوقرون قديسنا وقسيسنا, ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وديننا"([19]).(/5)
ويقول الحبر ميشون يشهد للمسلمين ويقرر عظمتهم لعظمة لدينهم في معاملتهم لغيرهم: "مما يؤسف له أنّ المسلمين هم الذين كانوا يبدؤون المسيحيين بالمسالمة وحسن المعاملة, مع أنّ المسالمة هي منبع الخير بين الأمم بعضها وبعض ... ولقد أيقنت من تبتعي للتاريخ أنّ معاملة المسلمين للمسيحيين تدّل على ترفع في المعاشرة عن الغلظة, وتدل على حسن مسايرة ولطف ومجاملة وهو إحساس لم يشاهد في غير المسلمين إذ ذاك خصوصاً أنّ الشفقة والرحمة والحنان كانت أمارات ضعف الأوروبيين, وهده حقيقة لا أرى وجهاً للطعن فيها..." أ.هـ([20]).
ليوقن العقل الراجح في أنه لاخير للبشرية إلا في مجتمع الإسلام وشريعة الإسلام وحياة القرآن ليصم المرجفون في المدائن المرتزقة العاملون لحساب أعداء الإسلام من بني جلدتنا, الذين يعصون الرسول ويسترضون من لم يزده ماله وولده إلا خساراً, الماشون في الناس يقولون: إنّ تطبيق الشريعة الإسلامية عقبة في طريق السلام ..كذبوا وبهتوا وأساءوا, أخزاهم الله أنى يؤفكون.
الخلاصة الجامعة:
[1] الحرب في سبيل الشريعة الإسلامية "تحصيلاً وإبقاءً وتحكمياً ومحافظة عليها"؛ جهاد في سبيل الله, وإعلاءٌ لكلمة الله.
[2] تحكيم الشريعة الإسلامية هي السبيل الأضمن لتحقيق السلام, وأي خيار بين السلام وبين الشريعة لا يجوز قبوله, وإلا فالشريعة أوجب خيار وألزم خيار ولا خيار سواها, وكل سلام يفضي إلى نبذ الشريعة وإلغائها الحرب خيرٌ منه, لأننا إنما نقاتل في سبيل الله من أجل إقامة الدين وتبيق الشرع, والله يقول (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) [سورة البقرة: 193]. والمعنى: فإن لم ينتهوا وسعوا إلى الانتقاص من الدين فهم ظالمون, والعدوان والحرب على الظالمين.
ونلاحظ المقابلة بين الدين والفتنة, بنفي الفتنة (حتى لا تكون فتنة) وإثبات الدين (ويكون الدين لله) أنّ الفتنة ما يُنقِص الدين وينقض عراه حكماً حكماً.
وفتنة إبعاد الشريعة أشدّ خطراً على الأمة, وأكثر شراً, وأبعد ضرراً عليها, قال تعالى: (والفتنة أشدّ من القتل).
ولذلك؛ فخيار: الحرب عندنا مقدم على إلغاء الشريعة وإبعادها من حياتنا, لأنّ ذلك أشدّ فتنة لنا من الحرب.
[3] كل مسلم يرى وجوب العلمانية أو أنها أو سواها من سائر الأنظمة الأرضية المخالفة لمنصوص الشرع أو روحه أنها أفضل من الشريعة, فهو مرتد بلا خلاف بين العلماء.
[4] كل مسلم يرى أنّ تطبيق الشريعة الإسلامية لا يصلح في هذا الزمان أو ذاك المكان فهو ظالم لدينه كافر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
[5] كل مسلم يسعى إلى إلغاء الشريعة الحاكمة أو شيء من أحكامها بأي مسعىً في اتفاق مع فئة أو انهزام لفئة أو دولة أو استجابة لقوى, أو يعين على تحقيق ذلك بنوع إعانة بمقال أو خطاب, أو أي رأي, أو استشارة,أو نحوه ظاناً أنّ الخير في ذلك للوطن أوللناس, فهو متعدٍ على شريعة الله, منتقصٌ من قدرها, متهِمٌ لِمُنْزِلِها جلّ وعلا, فلا يستحق الانتماء إليها ولا إلى أهلها, والمسلمون منه برءاء والقرآن قرر فيه قراره البيّن: (إنّ الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم) [سورة محمد: 25ـ26].
[6] كل حاكم أو مسؤول مسلم لا يحتكم إلى شرع الله في سائر تصرفاته ومواقفه فهو خائن للأمة مسيءٌ إلى وكالته عنها, واستحق الخلع مع الذمّ, وإن كان ذلك اعتقاداً بأفضلية غير الشريعة عن الشريعة أو عدم صلاحها في أيام حكمه؛ فهو كافر بلا خلاف بين الأمّة.
[7] المواثيق عندنا مغلّظة, والعهود واجبة الإيفاء, ولكن! لا يجوز للحاكم المسلم أن يوقّع اتفاقاً أو يعطي عهداً يتضمن شرطاً يؤدي إلى ترك واجب أو ارتكاب محرم, ناهيك أن يكون فيه ردة أو انتكاسة عن تطبيق الشريعة, وقد بيّن نبي الخير ورسول الحق ذلك بياناً شافياً فقال صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً))([21]).
[8] إلغاء أحكام الشريعة بعد تحكيمها في حياة الناس أعظم جرماً وأشدّ إثماً وأظهر ردة من عدم تحكيمها ابتداءً, وكلاهما جريمة في الملّة وخيانة للأمة.
اللهم ارنا الحق حقاُ وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
والحمد لله رب العالمين
----------
([1]) فتح الباري، شرح صحيح البخاري، ج1 ص61، دار الربيان، القاهرة، طبعة 1407هـ.
([2]) فتح الباري نفسه، ص62.
([3]) نفسه.
([4]) البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بني الإسلام على خمس))، ج1 ص60 بالفتح.
([5]) مجموع الفتاوى لابن تيمية، ج7 ص639.
([6]) الصارم المسلول على شاتم الرسول لابن تيمية، ص369-370.
([7]) الصلاة لابن القيم، نقله في الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي، د. صلاح الصاوي، ص94.(/6)
([8]) إرشاد الساري بشرح صحيح البخاري، ج1 ص82.
([9]) المسايرة للكمال، ص308، نقله في الثوابت والمتغيرات، ص94.
([10]) شرح العقيدة الطحاوية، ص321.
([11]) الثوابت والمتغيرات، د. الصاوي، ص92.
([12]) أحكام القرآن للجصاص الرازي، ج3 ص181.
([13]) راجع تفسير القرطبي، م8 ج16 ص 85ـ87. دار الفكر، طبعة 1415هـ. وتفسير ابن كثير ج4 ص 131، دار الأندلس، طبعة 1413هـ.
([14]) التشريع الجنائي الإسلامي، ج2 ص709-710، دار الكتاب العربي، بيروت بدون.
([15]) الحدود الشرعية، عبد الرحمن عبد الخالق، نقله الصاوي في الثوابت والمتغيرات ص92.
([16]) التشريع الجنائي نفسه، ج2 ص709.
([17]) أعلام الموقعين عن رب العالمين؛ لابن قيم الجوزية، ج 3، ص3، دار الجيل.
([18]) انظر: سماحة الإسلام, د. أحمد محمد الحوفي:ص 115, نقلاً عن الإسلام للكونت هنري كاستري.
([19]) المراجع السابقة.
([20]) سماحة الإسلام نفسه: ص 115–116. نقلاً عن الإسلام للكونت هنري كاستري ص 44,48.
([21]) البخاري صدره في كتاب الإجارة باب أجرة السمسرة (ج4 ص 527 بالفتح), وأحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة, والزيادة في مسند إسحق من حديث عمر بن عوف المزني, وفي مصنف ابن أبي شيبة: ((المؤمنون عند شروطهم)) وزاد الحاكم: ((المؤمنون عند شروطهم ما وافق الحق)). راجع فتح الباري ج4 ص 528 دار الريان للتراث القاهرة طبعة 1407م.(/7)
وجوب شكر النعم والحذر من صرفها في غير مصارفها
القسم : إملاءات > مقالات
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، أما بعد :
فقد يبتلي الله ، عباده بالفقر والحاجة كما حصل لأهل هذه البلاد في أول القرن الرابع عشر قال تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[1]
كما يبتليهم بالنعم وسعة الرزق كما هو واقعنا اليوم ليختبر إيمانهم وشكرهم قال تعالى : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[2] والعاقبة الحميدة في كل ذلك للمتقين الذين تكون أعمالهم وفق ما شرع الله كالصبر والاحتساب في حال الفقر وشكر الله على النعم وصرف المال في مصارفه في حال الغنى . ومن الاقتصاد صرف المال في مصارفه في المأكل والمشرب من غير تقتير على النفس والأهل ، ولا إسراف في تضييع المال من غير حاجة وقد نهى الله عن ذلك كله قال تعالى : {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُوراً}[3] وقال تعالى في النهي عن إضاعة المال : {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً}[4] الآية .
نهى الله جل وعلا في هذه الآية عن إعطاء الأموال للسفهاء لأنهم يصرفونها في غير مصارفها فدل ذلك على أن صرفها في غير مصارفها أمر منهي عنه ، وقال تعالى : {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[5] وقال بحانه : {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}[6] الآية .
والإسراف هو : الزيادة في صرف الأموال على مقدار الحاجة ، والتبذير : صرفها في غير وجهها ، وقد ابتلي الناس اليوم بالمباهاة في المآكل والمشارب خاصة في الولائم وحفلات الأعراس فلا يكتفون بقدر الحاجة وكثير منهم إذا انتهى الناس من الأكل ألقوا باقي الطعام في الزبالة والطرق الممتهنة . وهذا من كفر النعمة وسبب في تحولها وزوالها ، فالعاقل من يزن الأمور بميزان الحاجة وإذا فضل شيء عن الحاجة بحث عمن هو في حاجته وإذا تعذر ذلك وضعه في مكان بعيد عن الامتهان لتأكله الدواب ومن شاء الله ويسلم من الامتهان ، والواجب على كل مسلم أن يحرص على تجنب ما نهى الله عنه وأن يكون حكيما في تصرفاته مبتغيا في ذلك وجه الله شاكرا لنعمه ، حذرا من التهاون بها وصرفها في غير مصارفها قال تعالى : {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[7] وقال عز وجل : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}[8] وأخبر سبحانه أن الشكر يكون بالعمل لا بمجرد القول فقال سبحانه : {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[9] فالشكر لله سبحانه يكون بالقلب واللسان والعمل ، فمن شكر الله قولا وعملا زاده من فضله وأحسن له العاقبة ومن كفر بنعم الله ولم يصرفها في مصارفها فهو على خطر عظيم وقد توعده الله بالعذاب الشديد ، ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في دينه وأن يوفقنا وإياهم لشكر نعمه والاستعانة بها على طاعته ونفع عباده إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
________________________________________
[1] - سورة البقرة الآيتان 155-156.
[2] - سورة التغابن الآية 15.
[3] - سورة الإسراء الآية 29.
[4] - سورة النساء الآية 5.
[5] - سورة الأعراف الآية 31.
[6] - سورة إبراهيم الآية 7.
[7] سورة سبأ الآية 13
[8] - سورة الإسراء الآيتان 26-27.
[9] - سورة البقرة الآية 152.(/1)
وجوب عداوة اليهود والمشركين.....الإمام ابن باز ...
...
28-02-2004
وجوب عداوة اليهود والمشركين وغيرهم من الكفار
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .
أما بعد فقد نشرت بعض الصحف المحلية تصريحا لبعض الناس قال فيه ما نصه : ( إننا لا نكن العداء لليهود واليهودية وإننا نحترم جميع الأديان السماوية ) ، وذلك في معرض حديثه عن الوضع في الشرق الأوسط بعد العدوان اليهودي على العرب .
ولما كان هذا الكلام في شأن اليهود واليهودية يخالف صريح الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، ويخالف العقيدة الإسلامية وهو تصريح يخشى أن يغتر به بعض الناس ، رأيت التنبيه على ما جاء فيه من الخطأ نصحا لله ولعباده . . فأقول:
قد دل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على أنه يجب على المسلمين أن يعادوا الكافرين من اليهود والنصارى وسائر المشركين ، وأن يحذروا مودتهم واتخاذهم أولياء ، كما أخبر الله سبحانه في كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، أن اليهود والمشركين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين .
قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ إلى قوله سبحانه : قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وقال عز وجل في شأن اليهود : تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا الآية . وقال تعالى : لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ الآية .(/1)
والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وهي تدل دلالة صريحة على وجوب بغض الكفار من اليهود والنصارى وسائر المشركين وعلى وجوب معاداتهم حتى يؤمنوا بالله وحده ، وتدل أيضا على تحريم مودتهم وموالاتهم وذلك يعني بغضهم والحذر من مكائدهم وما ذاك إلا لكفرهم بالله وعدائهم لدينه ومعاداتهم لأوليائه وكيدهم للإسلام وأهله ، كما قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ ففي هذه الآيات الكريمات حث المؤمنين على بغض الكافرين ، ومعاداتهم في الله سبحانه من وجوه كثيرة ، والتحذير من اتخاذهم بطانة ، والتصريح بأنهم لا يقصرون في إيصال الشر إلينا ، وهذا هو معنى قوله تعالى :لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا والخبال هو : الفساد والتخريب . وصرح سبحانه أنهم يودون عنتنا ، والعنت : المشقة ، وأوضح سبحانه أن البغضاء قد بدت من أفواههم وذلك فيما ينطقون به من الكلام لمن تأمله وتعقله وما تخفي صدورهم أكبر من الحقد والبغضاء ونية السوء لنا أكبر مما يظهرونه ، ثم ذكر سبحانه وتعالى أن هؤلاء الكفار قد يتظاهرون بالإسلام نفاقا ليدركوا مقاصدهم الخبيثة وإذا خلوا إلى شياطينهم عضوا على المسلمين الأنامل من الغيظ ، ثم ذكر عز وجل أن الحسنات التي تحصل لنا من العز والتمكين والنصر على الأعداء ونحو ذلك تسوءهم وأن ما يحصل لنا من السوء كالهزيمة والأمراض ونحو ذلك يسرهم وما ذلك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لنا ولديننا .
ومواقف اليهود من الإسلام ورسول الإسلام وأهل الإسلام كلها تشهد لما دلت عليه الآيات الكريمات من شدة عداوتهم للمسلمين ، والواقع من اليهود في عصرنا هذا وفي عصر النبوة وفيما بينهما من أكبر الشواهد على ذلك ، وهكذا ما وقع من النصارى وغيرهم من سائر الكفرة من الكيد للإسلام ومحاربة أهله ، وبذل الجهود المتواصلة في التشكيك فيه والتنفير منه والتلبيس على متبعيه وإنفاق الأموال الضخمة على المبشرين بالنصرانية والدعاة إليها ، كل ذلك يدل على ما دلت عليه الآيات الكريمات من وجوب بغض الكفار جميعا والحذر منهم ومن مكائدهم ومن اتخاذهم بطانة .
فالواجب على أهل الإسلام أن ينتبهوا لهذه الأمور العظيمة وأن يعادوا ويبغضوا من أمرهم الله بمعاداته وبغضه من اليهود والنصارى وسائر المشركين حتى يؤمنوا بالله وحده ، ويلتزموا بدينه الذي بعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم . وبذلك يحققون اتباعهم ملة أبيهم إبراهيم ودين نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي أوضحه الله في الآية السابقة ، وهي قوله عز وجل :قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقوله تعالى : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ وقوله عز وجل : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وفي قوله تعالى : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا دلالة ظاهرة على أن جميع الكفار كلهم أعداء للمؤمنين بالله سبحانه وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، ولكن اليهود والمشركين عباد الأوثان أشدهم عداوة للمؤمنين ، وفي ذلك إغراء من الله سبحانه للمؤمنين على معاداة الكفار والمشركين عموما وعلى تخصيص اليهود والمشركين بمزيد من العداوة في مقابل شدة عداوتهم لنا ، وذلك يوجب مزيد الحذر من كيدهم وعداوتهم .(/2)
ثم إن الله سبحانه مع أمره للمؤمنين بمعاداة الكافرين أوجب على المسلمين العدل في أعدائهم فقال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فأمر سبحانه المؤمنين أن يقوموا بالعدل مع جميع خصومهم ، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم على ترك العدل فيهم وأخبر عز وجل أن العدل مع العدو والصديق هو أقرب للتقوى . والمعنى : أن العدل في جميع الناس من الأولياء والأعداء هو أقرب إلى اتقاء غضب الله وعذابه .
وقال عز وجل : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وهذه الآية الكريمة من أجمع الآيات في الأمر بكل خير والنهي عن كل شر ، ولهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث عبد الله بن رواحة الأنصاري إلى خيبر ليخرص على اليهود ثمرة النخل ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاملهم على نخيلها وأرضها بنصف ثمرة النخل والزرع ، فخرص عليهم عبد الله ثمرة النخل ، فقالوا له إن هذا الخرص فيه ظلم ، فقال لهم عبد الله رضي الله عنه : ( والذي نفسي بيده إنكم لأبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير ، وإنه لن يحملني بغضي لكم وحبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أظلمكم ) فقال اليهود : بهذا قامت السموات والأرض . فالعدل واجب في حق القريب والبعيد والصديق والبغيض ، ولكن ذلك لا يمنع من بغض أعداء الله ومعاداتهم ومحبة أولياء الله المؤمنين وموالاتهم ، عملا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ، والله المستعان . أما قول الكاتب : ( وإننا نحترم جميع الأديان السماوية ) فهذا حق ولكن ينبغي أن يعلم القارئ أن الأديان السماوية قد دخلها من التحريف والتغيير ما لا يحصيه إلا الله سبحانه ما عدا دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه وخليله وخيرته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فقد حمله الله وحفظه من التغيير والتبديل ، وذلك بحفظه لكتابه العزيز وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم ، حيث قال الله عز وجل : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ فقد حفظ الله الدين وصانه من مكايد الأعداء بجهابذة نقاد أمناء ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وكذب المفترين وتأويل الجاهلين ، فلا يقدم أحد على تغيير أو تبديل إلا فضحه الله وأبطل كيده . أما الأديان الأخرى فلم يضمن حفظها سبحانه ، بل استحفظ عليها بعض عباده فلم يستطيعوا حفظها ، فدخلها من التغيير والتحريف ما الله به عليم كما قال عز وجل : إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ وقال عز وجل : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ الآية .
وقال عز وجل : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ وقال تعالى : وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ .الآيات في هذا المعنى كثيرة .
أما ما كان من الأديان السماوية السابقة سليم من التغيير والتبديل فقد نسخه الله ببعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزاله القرآن الكريم ، فإن الله سبحانه أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ونسخ بشريعته سائر الشرائع ، وجعل كتابه الكريم مهيمنا على سائر الكتب السماوية .(/3)
فالواجب على جميع أهل الأرض من الجن والإنس سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم من سائر أجناس بني آدم ، ومن سائر أجناس الجن أن يدخلوا في دين الله الذي بعث به خاتم الرسل إلى الناس عامة وأن يلتزموا به ويستقيموا عليه ، لأنه هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا سواه ، كما قال سبحانه وتعالى : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ وقال عز وجل : قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وقال تعالى : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ وقال تعالى في سورة المائدة بعد ما ذكر التوراة والإنجيل يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ففي هذه الآيات الكريمات الدلالة الظاهرة والبرهان القاطع على وجوب الحكم بين اليهود والنصارى وسائر الناس بما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنه لا إسلام لأحد ولا هداية إلا باتباع ما جاء به ، وأن ما يخالف ذلك فهو في حكم الجاهلية وأنه لا حكم أحسن من حكم الله ، وقال تعالى في سورة الأعراف : وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
ففي هذه الآية الكريمة الدليل القاطع والحجة الدامغة على عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى وأنه بعث بالتخفيف عنهم ، وأنه لا يحصل الفلاح لكل من كان في زمانه من الأمم وهكذا ما بعد ذلك إلى قيام الساعة إلا بالإيمان به ونصره وتعزيره واتباع النور الذي أنزل معه . ثم قال سبحانه بعد ذلك تأكيدا للمقام وبيانا لعموم الرسالة : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(/4)
ومن هذه الآية ومما قبلها من الآيات يتضح لكل عاقل أن الهداية والنجاة والسعادة إنما تحصل لمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبع ما جاء به من الهدى ، ومن حاد عن ذلك فهو في شقاق وضلال وبعد عن الهدى ، بل هو الكافر حقا وله النار يوم القيامة ، كما قال سبحانه : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ وقال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وقال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وقال تعالى : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا
وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار " .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه دلالة ومقنع للقارئ على وجوب معاداة الكفرة من اليهود وغيرهم وبغضهم في الله وتحريم مودتهم واتخاذهم أولياء ، وعلى نسخ جميع الشرائع السماوية ما عدا شريعة الإسلام التي بعث الله بها خاتم النبيين وسيد المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى سائر النبيين والمرسلين ، وجعلنا من اتباعهم بإحسان إلى يوم الدين إنه على كل شيء قدير ، وليس معنى نسخ الشرائع السابقة أنها لا تحترم ، أو أنه يجوز التنقص منها ، ليس هذا المعنى هو المراد ، وإنما المراد رفع ما قد يتوهمه بعض الناس أنه يسوغ اتباع شيء منها ، أو أن من انتسب إليها من اليهود أو غيرهم يكون على هدى ، بل هي شرائع منسوخة لا يجوز اتباع شيء منها لو علمت على التحقيق وسلمت من التغيير والتبديل ، فكيف وقد جهل الكثير منها ، لما أدخل فيها من تحريف أعداء الله الذين يكتمون الحق وهم يعلمون . ويكذبون على الله وعلى دينه ما تقتضيه أهواؤهم ويكتبون الكتب من عندهم وبأيديهم ويقولون : إنها من عند الله ، وبذلك يعلم كل من له أدنى علم وبصيرة أن الواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يدخلوا في دين الله الذي هو الإسلام وأن يلتزموه ، وأنه لا يسوغ لأحد الخروج عن ذلك لا إلى يهودية ولا إلى نصرانية ولا إلى غيرهما ، بل المفروض على جميع المكلفين من حين بعث الله نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة هو الدخول في الإسلام والتمسك به ، ومن اعتقد أنه يسوغ له الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى كليم الرحمن عليه الصلاة والسلام فهو كافر بإجماع أهل العلم ، يستتاب وتبين له الأدلة فإن تاب وإلا قتل ، عملا بما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل ، ونسأله عز وجل أن يثبتنا على دينه وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا ، وأن يمن على عباده بالدخول في دينه ، والكفر بما خالفه ، إنه على كل شيء قدير ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى سائر النبيين والمرسلين وسائر الصالحين ، والحمد لله رب العالمين .(/5)
وجوب وقاية النفس والأهل من النار
القسم : إملاءات > مقالات
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله جل وعلا في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[1]، يأمر الله سبحانه عباده المؤمنين بأن يقوا أنفسهم وأهليهم عذاب الله وذلك بتقوى الله وإلزام الأهل بها؛ فالوقاية من النار تكون بتقوى الله، والاستقامة على دينه، وهكذا مع أهلك توصيهم بتقوى الله والاستقامة على دينه من والدين وأولاد وإخوة وسائر الأقارب، وذلك بالتواصي بالحق، والتعاون على البر والتقوى، وبالتناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - هكذا المؤمن مع أهله ومع إخوانه المؤمنين ومع غيرهم - بالدعوة إلى الله عز وجل، يسعى في وقاية نفسه، وفي وقاية غيره من عذاب الله، وهذا الأمر يحتاج إلى صبر، وإخلاص لله وصدق، ومداومة، فأحق الناس ببرك وإحسانك أهلك وقراباتك؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته))[2]، وأعظم الرعاية العناية بما يتعلق بنجاتهم من عذاب الله، بأن توصيهم بتقوى الله وأن تلزمهم بأمر الله وأن تحذرهم من محارم الله، وأن تستمر في هذا الخير العظيم حتى تلقى ربك كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}[3]، ثم قال سبحانه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}[4]، فأمر سبحانه بعد حقه وهو توحيده والإخلاص له وترك الإشراك به، أمر بعد ذلك بالإحسان إلى الوالدين والأقارب وهم أهل بيتك، فالواجب على كل مسلم أن يهتم بهذا الموضوع، وأن يحرص أن يكون سببا لنجاتهم يوم القيامة بسبب نصيحته لهم وقيامه عليهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهكذا يجب على المسلم أن يكون كذلك مع إخوانه المسلمين، وأن يكون ناصحاً مبصراً موجهاً إلى الخير يرجو ثواب الله ويخشى عقابه؛ كما قال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}[5].
هكذا المؤمنون فيما بينهم ومع أهليهم، يقومون بالواجب مع أهليهم ويقومون بالواجب مع إخوانهم المسلمين يرجون ثواب الله ويخشون عقاب الله، وقد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}[6]، وذكر سبحانه عن نبيه ورسوله إسماعيل عليه الصلاة والسلام أنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا، وذلك في قوله تعالى في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}[7]؛ فأهلك وأولادك وقراباتك أحق الناس ببرك وإحسانك، وبالسعي لخلاصهم من النار، فهذا من أعظم الإحسان إليهم عملا بالآية السابقة وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا}[8]، فهذا الأمر العظيم أهم من أن تعطيهم الدراهم والدنانير وما يحتاجون إليه في الدنيا، فالسعي في خلاصهم من عذاب الله ونجاتهم من غضب الله يوم القيامة أمر مهم وعظيم، والإحسان إليهم بالصدقات وبالنفقة من جملة الخير الذي أنت مأمور به، ولكن الأهم من ذلك أن توصيهم بطاعة الله، وأن تلزمهم بما أوجب الله عليهم حسب طاقتك، وأن تمنعهم مما حرم الله عليهم، وأن تستقيم في ذلك، وأن تكون أسوة حسنة، وقدوة طيبة في كل خير، فتبدأ بنفسك، حتى يتأسوا بك في كل خير، ومن ذلك المسارعة إلى الصلاة والمحافظة عليها في الجماعة، وفي حفظ لسانك عما لا ينبغي، وفي إكرام الأقارب والجيران، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الدعوة إلى الله، وفي غير ذلك من وجوه الخير. تكون قدوة حسنة لأهل بيتك ولجلسائك ولزملائك وجيرانك، وهذا المقام يحتاج إلى صبر وإلى إخلاص لله وصدق فهو مقام عظيم: مقام دعوة، لرشاد ونصح، مقام سعي في خلاصك وأهلك من النار عملا بقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[9] الآية، ناداهم الله سبحانه بوصف الإيمان لأن الإيمان يأمرهم بهذا الأمر ويدعوهم إليه وإن كان الأمر واجبا على الجميع.(/1)
فكل المكلفين واجب عليهم أن يتقوا الله وأن يجتهدوا في خلاصهم وخلاص أهليهم وكل الناس من عذاب الله، فكل مكلف مأمور بذلك، لكن أهل الإيمان أخص بهذا الأمر، والواجب عليهم أعظم؛ لأنهم آمنوا بالله وعرفوا ما يجب عليهم، فالواجب عليهم أعظم، ولهذا خاطبهم سبحانه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[10] فاحذروا أن تكونوا من وقودها، ثم قال سبحانه: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[11] المعنى أنهم ينفذون ما أمروا به ليسوا مثل أهل الدنيا قد يخونون وقد تنفع فيهم الرشوة، أما هؤلاء الملائكة فلا يمكن أن يتركوا ما أمروا به بل ينفذون ما أمروا به من إدخالك النار أنت وغيرك، فاحذر أن تلقى ربك وأنت على حال تغضب الله سبحانه عليك وتوجب دخولك النار، ولا بد من عناية مستمرة بهذا الأمر، وصدق وإخلاص، وسؤال لله جل وعلا بأن يعينك، وأن يمنحك التوفيق، ويجب أن تكون قدوة صالحة لأهلك، ليروا منك المسارعة والمسابقة إلى الخيرات حتى يتأسوا بك في الخير، ولا بد أن يروا منك أيضاً الحذر من السيئات والبعد عنها حتى يتأسوا بك في ترك الشر، وهذه الدار دار مجاهدة، ودار صبر وتعاون على البر والتقوى وتواص بالحق والصبر عليه، أما الدار الأخرى فهي دار الجزاء عما عملت من خير أو شر، وهذه الدار أعني دار الدنيا هي دار العمل، ودار الإعداد، ولهذا يقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[12]، ويقول سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[13]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)) قيل لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))[14].
فلا بد من التواصي بالحق، والتناصح والصدق، والصبر حتى تلقى ربك وأنت صابر محتسب مجاهد، ولهذا يقول جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[15]؛ فالمجاهد في الله الصادق يهديه الله ويعينه ويسدده، فقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} يعني جاهدوا أنفسهم، وجاهدوا أعداء الله، وجاهدوا الشيطان، وجاهدوا الشهوات ولهذا أطلق سبحانه الجهاد في الآية المذكورة ليعم أنواع الجهاد، فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} أي في الله {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
فاجتهد في طاعة ربك وجاهد نفسك حتى تستقيم، وجاهد من تحت يدك حتى يستقيم والله معك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}..
نسأل الله أن يجعلنا وجميع المسلمين من المجاهدين في سبيله، ونسأل الله أن يجعلنا جميعاً من دعاة الهدى وأنصار الحق، وأن يمنحنا التوفيق والمسارعة إلى كل خير، والحذر من كل شر، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
________________________________________
[1] سورة التحريم الآية 6.
[2] رواه البخاري في باب الجمعة برقم 844، ومسلم في باب الإمارة برقم 3408.
[3] سورة النساء من الآية 36.
[4] سورة النساء من الآية 36.
[5] سورة التوبة الآية 71.
[6] سورة طه من الآية 132.
[7] سورة مريم الآيتان 54 – 55.
[8] سورة التحريم من الآية 6.
[9] سورة التحريم الآية 6.
[10] سورة التحريم الآية 6.
[11] سورة التحريم الآية 6.
[12] سورة العصر كاملة.
[13] سورة المائدة من الآية 2.
[14] رواه الترمذي في البر والصلة برقم 1849، والنسائي في البيعة برقم 4128.
[15] سورة العنكبوت الآية 69.(/2)
وجود الله ...
...
06-03-2004
إن من أعظم الحقائق وأجلاها في الفطر والعقول حقيقة وجود الله سبحانه وتعالى ، هذه الحقيقة التي اتفقت العقول على الاعتراف بها - وإن أنكرتها بعض الألسن ظلما وعلوا - ، فهي من الوضوح بمكان لا تنال منه الشبهات ، وبمنزلة لا يرتقي إليها الشك ،
ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد .
وقد تنوعت دلائل وجود الله سبحانه ابتداء من ضمير الإنسان وفطرته ، إلى كل ذرة من ذرات الكون ، فالكل شاهد ومقر بأن لهذا الكون ربا ومدبرا وإلها وخالقا .
وأولى هذه الدلائل دليل الفطرة ، ونعني به ما فطر الله عليه النفس البشرية من الإيمان به سبحانه ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدليل فقال : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (الروم:30) ،
وهذا الدليل باق في النفس الإنسانية بقاء الإنسان نفسه في هذا الكون ، وإن غطته الشبهات ،ونالت منه الشهوات ، إلا أنه سرعان ما يظهر في حالات الصفاء وانكشاف الأقنعة .
وفي الواقع أمثلة كثيرة تدلنا على ظهور الفطرة كعامل مؤثر في تغيير حياة الإنسان من الإلحاد إلى الإيمان ، ومن الضلال إلى الهدى ، فذاك ملحد عاين الموت تحت أمواج البحر ، فبرزت حقيقة الإيمان لتنطق على لسانه أن لا إله إلا الله ، فلما نجاه الله أسلم وحسن إسلامه .
وحادثة أخرى تتحدث عن طائرة تتهاوى بركابها ، فتتعالى أصوات الإيمان منهم وقد كانوا من قبل أهل إلحاد وكفر ، وقد سجل الله هذه الظاهرة في كتابه الكريم في أكثر من آية،منها قوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسانُ كَفُوراً } (الاسراء:67) .
فهذا هو دليل الفطرة وهو من القوة والمكانة بحيث لا يستطيع أن يدفعه دافع أو ينازع فيه من منازع .
وثمة دليل آخر لا يقل قوة وأهمية عن دليل الفطرة وهو ما أسماه أهل العلم بدليل الحدوث ، ومفاد هذا الدليل أنه لابد لكل مخلوق من خالق ، وهذه حقيقة يسلم بها كل ذي عقل سليم ، فهذا الأعرابي عندما سئل عن وجود الله قال بفطرته السليمة : البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، ألا تدل على العزيز الخبير . فلله ما أحسنه من استدلال وما أعجبه من منطق وبيان .
ومن الأمثلة الأخرى التي تدل على هذه الحقيقة ما روي من أن أحد العلماء طلب منه بعض الملاحدة أن يناظره في وجود الله سبحانه ، وحددوا لذلك موعدا ، فتأخر العالم عنهم وكان تأخره عن قصد ، فلما جاءهم وسألوه عن سبب تأخره قال : لقد حال بيني وبين مجيء إليكم نهر ، ولم أجد ما ينقلني إليكم ، غير أن الأمر لم يطل حتى أتت سفينة ، وهي تمشي من غير أن يقودها قائد ، أو يتحكم فيها متحكم ، فصاح به الملاحدة ماذا تقول يا رجل ؟!! فقال لهم : أنتم أنكرتم أن يكون لهذا الكون خالقا ، ولم تصدقوا أن تكون سفينة من غير قائد ، فاعترفوا وأقروا .
وقد نبه القرآن إلى هذا الدليل في مواضع كثيرة ، قال تعالى : { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ () أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ والأرض بَلْ لا يُوقِنُونَ } (الطور:35-36) هما احتمالان لا ثالث لهما إلا الاعتراف بوجوده سبحانه والإيمان به .
الاحتمال الأول : أن يكون هذا الخلق من غير خالق ، وهذا مستحيل تنكره العقول إذ لا بد للمخلوق من خالق وللمصنوع من صانع ، فالعدم لا يخلق .
والاحتمال الثاني : أن يكونوا هم الذين خلقوا أنفسهم وخلقوا السماوات والأرض ، وهذا مستحيل أيضا إذ لم يدَّع أحد أنه خلق نفسه فضلا عن السماوات والأرض ، ولو ادعى مدع ذلك لاتهم بالجنون والهذيان ، إذ إن فاقد الشيء لا يعطيه ، فلم يبق إلا أن يكون لهذا الكون خالقاً وموجدا ، وهذا دليل غاية في القوة والبيان لذلك عندما سمعه جبير بن مطعم قال : " كاد قلبي أن يطير " كما ثبت ذلك عند البخاري .
فهذه بعض الأدلة على وجوده سبحانه ، وهي أدلة من تأملها وأمعن النظر فيها لم يكن في وسعه إلا التسليم لها ، نسأل الله سبحانه أن يزيدنا علما وإيمانا ، والله الموفق .(/1)
وحدة الأديان
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ،
أما بعد :
فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء استعرضت ما وورد إليها من تساؤلات وما ينشر في وسائل الإعلام من آراء ومقالات بشأن الدعوة إلى ( وحدة الأديان ): دين الإسلام ، ودين اليهود ، ودين النصارى ، وما تفرع عن ذلك من دعوة إلى بناء مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد ، في رحاب الجامعات والمطارات والساحات العامة ، ودعوة إلى طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد إلى غير ذلك من آثار هذه الدعوة ، وما يعقد لها من مؤتمرات وندوات وجمعيات في الشرق والغرب ، وبعد التأمل والدراسة فإن اللجنة تقرر ما يلي :
أولاً :أن من أصول الاعتقاد في الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة ، والتي أجمع عليها المسلمون ، أنه لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين الإسلام ، وأنه خاتمة الأديان ، وناسخ لجميع ما قبله من الأديان والملل والشرائع ، فلم يبق على وجه الأرض دين يتعبد به سوى الإسلام ، قال الله تعالى : ((ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) [ آل عمران : 85 ] والإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هو ما جاء به دون مما سواه من الأديان 0
ثانياً : ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن كتاب الله تعالى " القرآن الكريم " هو آخر كتب الله نزولاً وعهداً برب العالمين ، وأنه ناسخ لكل كتاب أنزل من قبل من التوراة والإنجيل وغيرها ، ومهيمن عليها ، فلم يبق كتاب منزل يتعبد الله به سوى "القرآن الكريم " قال الله تعالى : ((وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق )) [ المائدة : 48 ] 0
ثالثاً : يجب الإيمان بأن ( التوراة والإنجيل ) قد نسخا بالقرآن الكريم ، وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان كما جاء بيان ذلك في آيات من كتاب الله الكريم ، منها قول الله تعالى : (( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ))[ المائدة : 13 ] ، وقوله جل وعلا : ((فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ))[ البقرة : 79 ] ، وقوله سبحانه : (( وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون )) [ آل عمران: 78 ] 0
ولهذا فما كان منها صحيحاً فهو منسوخ بالإسلام ، وما سوى ذلك فهو محرف أو مبدل ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غضب حين رأى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيفة فيها شيء من التوراة ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟! ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي )) [ رواه أحمد والدارمي وغيرهما ]0
رابعاً : ومن أصول الاعتقاد في الإسلام أن نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والمرسلين كما قال الله تعالى : ((ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين )) [ الأحزاب : 40] ، فلم يبق رسول يجب اتباعه سوى محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو كان أحد من أنبياء الله ورسله حياً لما وسعه إلا اتباعه صلى الله عليه وسلم ـ وأنه لا يسع أتباعهم إلا ذلك ـ كما قال الله تعالى : ((وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين )) [ آل عمران : 81] ، ونبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام إذا نزل في آخر الزمان يكون تابعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم وحاكماً بشريعته ، وقال الله تعالى ((الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل )) [ الأعراف : 157] 0
كما أن من أصول الاعتقاد في الإسلام أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم عامة للناس أجمعين قال الله تعالى : ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) [ سبأ : 28 ] ، وقال سبحانه : ((قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا )) [ الأعراف : 158] وغيرها من الآيات 0(/1)
خامساً : ومن أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كفر من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم وتسميته كافراً ، وانه عدو لله ورسوله والمؤمنين ، وأنه من أهل النار كما قال تعالى : (( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة )) [ البينة : 1 ] ، وقال جل وعلا : ((إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية )) [ البينة : 6 ] ، وغيرها من الآيات ، وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار )) 0
ولهذا : فمن لم يكفر اليهود والنصارى فهو كافر ، طرداً لقاعدة الشريعة : (( من لم يكفر الكافر فهو كافر )) 0
سادساً : وأمام هذه الأصول الاعتقادية والحقائق الشرعية فإن الدعوة إلى (( وحدة الأديان)) والتقارب بينها وصهرها في قالب واحد دعوة خبيثة ماكرة ، والغرض منها خلط الحق بالباطل ، وهدم الإسلام وتقويض دعائمه ، وجر أهله إلى ردة شاملة ، ومصداق ذلك في قول الله سبحانه : ((ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا )) [ البقرة : 217] ، وقوله جل وعلا : ((ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء )) [ النساء : 89 ] 0
سابعاً : وإن من آثار هذه الدعوة الآثمة إلغاء الفوارق بين الإسلام والكفر ، والحق والباطل ، والمعروف والمنكر ، وكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين ، فلا ولاء ولا براء ، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله ، والله جل وتقدس يقول : ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون )) [ التوبة : 29 ] ، ويقول جل وعلا : ((وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين )) [ التوبة : 36 ] 0
ثامناً : أن الدعوة إلى (( وحدة الأديان )) إن صدرت من مسلم فهي تعتبر ردة صريحة عن دين الإسلام ؛ لأنها تصطدم مع أصول الاعتقاد ، فترضى بالكفر بالله عز وجل ، وتبطل صدق القرآن ونسخه لجميع ما قبله من الكتب ، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع والأديان ، وبناء على ذلك فهي فكرة مرفوضة شرعاً ، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع 0
تاسعاً وتأسيساً على ما تقدم :
1ـ فإنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، الدعوة إلى هذه الفكرة الآثمة ، والتشجيع عليها ، وتسليكها بين المسلمين ، فضلاً عن الاستجابة لها ، والدخول في مؤتمراتها وندواتها والانتماء إلى محافلها 0
2ـ لايجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل منفردين ، فكيف مع القرآن الكريم في غلاف واحد !! فمن فعله أو دعا إليه فهو في ضلال بعيد ، لما في ذلك من الجمع بين الحق "القرآن الكريم " والمحرف أو الحق المنسوخ " التوراة والإنجيل " 0
3ـ كما لايجوز لمسلم الاستجابة لدعوة بناء مسجد وكنيسة ومعبد في مجمع واحد ، لما في ذلك من الاعتراف بدين يعبد الله به غير دين الإسلام ، وإنكار ظهوره على الدين كله ، ودعوة مادية إلى أن الأديان ثلاث ، لأهل الأرض التدين بأي منها ، وأنها على قدم التساوي ، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان ، ولا شك أن إقرار ذلك أو اعتقاده أو الرضا به كفر وضلال ؛ لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين ، واعتراف بأن تحريفات اليهود والنصارى من عند الله ، تعالى الله عن ذلك ، كما أنه لا يجوز تسمية الكنائس " بيوت الله " وأن أهلها يعبدون الله فيها عبادة صحيحة مقبولة عند الله ؛ لأنها عبادة غير دين الإسلام ، والله تعالى يقول : ((ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) [ آل عمران: 85] بل هي بيوت يكفر فيها بالله ، نعوذ بالله من الكفر وأهله ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (22/161) : ( ليست ـ أي : البيع والكنائس ـ بيوت الله وإنما بيوت الله المساجد ، بل هي بيوت يكفر فيها بالله ، وإن كان قد يذكر فيها ، فالبيوت بمنزلة أهلها ، وأهلها كفار ، فهي بيوت عبادة الكفار)0(/2)
عاشراً : ومما يجب أن يعلم أن دعوة الكفار بعامة وأهل الكتاب بخاصة إلى الإسلام واجبة على المسلمين بالنصوص الصريحة من الكتاب والسنة ، ولكن ذلك لا يكون إلا بطريق البيان والمجادلة بالتي هي أحسن ، وعدم التنازل عن شيء من شرائع الإسلام ، وذلك للوصول إلى قناعته بالإسلام ودخولهم فيه ، أو إقامة الحجة عليهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ، قال الله تعالى : ((قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون )) [ آل عمران : 64 ] أما مجادلتهم واللقاء معهم ومحاورتهم لأجل النزول عند رغباتهم ، وتحقيق أهدافهم ، ونقض عرى الإسلام ومعاقد الإيمان فهذا باطل يأباه الله ورسوله والمؤمنون ، والله المستعان على ما يصفون ، قال تعالى : ((واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )) [المائدة:49] 0
* وإن اللجنة إذ تقرر ذلك وتبينه للناس فإنها توصي المسلمين بعامة وأهل العلم بخاصة بتقوى الله تعالى ومراقبته ، وحماية الإسلام ، وصيانة عقيدة المسلمين من الضلال ودعاته ، والكفر وأهله ، وتحذرهم من هذه الدعوة الكفرية الضالة (( وحدة الأديان)) ومن الوقوع في حبائلها ، ونعيذ بالله كل مسلم أن يكون سبباً في جلب هذه الضلالة إلى بلاد المسلمين وترويجها بينهم ، نسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا جميعاً من مضلات الفتن ، وأن يجعلنا هداة مهتدين ، حماة للإسلام على هدى ونور من ربنا حتى نلقاه وهو راضٍ عنا 0
وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين 00(/3)
وحدة الأمة الإسلامية في القرآن والسنة(*)
بقلم : (فضيلة الشيخ) مرغوب الرحمن
رئيس الجامعة الإسلامية : دارالعلوم / ديوبند
ديوبند ، يوبي ، الهند
الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاةُ والسلامُ على نبينا سيدِ المرسلين ، المبعوثِ خاتَمًا للأنبياء ورحمةً للعالمين ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . وبعد :
فيسرّني جدًّا وأنا أشارك في هذا الملتقى المُشَرِّف الكريم ، الذي يجمع خيرةَ علماءِ ومُفَكِّري ومُثَقَّفي ودعاةِ الأمة من أقطار العالم في رحابِ البيت العتيق ومهدِ الإسلام ومهبطِ الوحي والبلد الذي كان فيه آخر اتّصال للأرض بالسّماء .
أن أشكر شكرًا جزيلاً لرابطة العالم الإسلاميّ مُتَمَثِّلَةً في أمينها العامّ العالم الداعية المفكر والمؤلّف الإسلامي أخينا المفضال معالي الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي الموقر / حفظه الله ورعاه مع مزيد من التوفيق لمزيد من خدمة الإسلام والمسلمين؛ حيث أَتَاحَتْ لي هذه الفرصةَ المباركةَ ؛ لكي أشارك في هذا الملتقى الذي ينعقد حول هذا الموضوع الذي يهمّ الأُمَّة وظلّ يهمّها وسيظلّ يهمّها دائمًا : موضوع "وحدة الأمة الإسلامية" فأُمَثِّلَ أعرَقَ وأكبرَ جامعةٍ إسلاميةٍ أهليةٍ في شبه القارة الهنديّة تُشَكِّلُ بحقّ "الجامعةَ الإسلاميةَ الأهليةَ الأمَّ" التي منها تَفَرَّعَتْ مُعْظَمُ المدارسِ والجامعاتِ الإسلاميةِ في هذه الديار وهي الجامعة الإسلامية : دارالعلوم / ديوبند بالهند .
وأَنْتَهِزُ المُنَاسَبَةَ لأُبْدِي غايةَ إِعجابي وتقديري للقيادة الرشيدة في هذه المملكة الخيّرة التي خدمت وتخدم الحرمين الشريفين وضيوفَ الرحمن من الحجيج والمعتمرين، والركع السجود، بشكل منقطع النظير، وتشمل بخيراتها وبركاتها المسلمين في أرجاء المعمورة. وعلى رأسها خادمُ الحرمين الشريفين الملكُ عبد الله بنُ عبدِ العزيز – حفظه الله مع الصحة والعافية والتوفيق الدائم لكل خير – و وليُّ عهده الأمينُ صَاحِبُ السُّمُوِّ الْمَلِكِيِّ الأميرُ سلطانُ بنُ عبدِ العزيز نائب رئيس مجلس الوزراء و وزيرُ الدفاع والطيران والمفتشُ العامّ – حظفه الله ورعاه – جزاهما الله خيرًا على كل ما يسديانه من خير مرئيّ وغير مرئيّ إلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وصانهما من مكائد الأعداء و من شرّ كل حاسد إذا حسد . والشكرُ موصولٌ لجميع العلماء والمفكرين في المملكة العربية السعودية وخارجها ، الذين يَسْهَرُونَ لمصالح الإسلام والمسلمين ، ويُفَكِّرون ويَعْمَلُونَ باستمرار على النهوض بالأمّة ، وانتشهالها من ورطة مؤامرات الأعداء ، ولُجَّةِ الفُرْقَةِ والشتاتِ إلى شاطىءِ الوحدة والتضامن . شَكَرَ اللهُ سَعْيَهُمْ ، وقَدَّرَ جُهُودَهم ، وثَمَّرَ مَسَاعِيَهُمْ، وَنَفَعَ بها الأُمَّةَ .
ِ
أيّها الإخوة الحضور : العلماءُ والدعاةُ والمفكرون ! إنَّ وحدةَ الأمةِ الإسلاميةِ وتضامُنَها، وتلاحُمَها وتماسُكَها، واجتنابَها جميعَ دواعي الفُرْقَةِ والشتات، والتنازع والاختلافِ، مطلبٌ هامٌّ من المطالب الشرعيّة ، وفريضةٌ من فرائض الإسلام ، و واجب من الواجبات التي كَلَّفَ اللهُ بها عباده المؤمنين ؛ فلا مَحِيْدَ لهم عن الوحدة والأخوّة إذا كانوا مؤمنين، يقول تعالى في كتابه العظيم : "يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِه ولا تَمُوتُنَّ إلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ o وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيْعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا" (آل عمران/102-103). وَامْتَنَّ الله على المؤمنين أنّه بفضله ومنّه وكرمه وقدرته المطلقة أَلَّفَ بين قلوبهم ، وجَمَعَ بين مشاعرهم وأحاسيسهم ، وجَعَلَهم قلبًا واحدًا مُتَمَثِّلاً في قَوَالِبَ كثيرة ، وأَمَرَهم باستحضارهم هذه النعمةَ العظيمةَ الجليلة والمنةَ الإلهيةَ الثمينةَ ؛ حتّى يَقْدِرُوهَا حَقَّ قدرها فيُحَافِظُوا عليها ، ويَتَفَادَوْا بها من الضياع ، ويَحْرِصُوا كلَّ الحرص على الاستجابة لمُتَطَلَّبَاتها والعمل بمُقْتَضَيَاتها ، والتحاشي عن كل تصرف يُعَرِّضهم – لاقَدَّرَ اللهُ – لحرمانها ؛ فقال عَزَّ من قائلٍ :
"وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوْبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِه إِخْوَاناً" (آل عمران/103)(/1)
إنّ سياقَ الآية ينطق بشكل واضح بكون نعمة الوحدة والتآلف القلبيّ بين المؤمنين من العظمة بمكان مُحْتَرَمٍ جدًّا لدى رب السماوات والأرض ، ولايسع قلمَ بَشَرٍ أن يُعَبِّرَ عنه بنصاب مطلوب، ولا يمكن لسانَه أن يُفْصِح عنه كما هو حقُّه . ولو لم يكن في القرآن الكريم فيما يتعلق بالتَّأكيد على عظمة نعمة الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية إلاّ هذه الآيةُ، لكفى المؤمنين المستجيبين لأوامر الله، عملاً بها، وحرصًا عليها، وتسارعًا إليها، ورغبةً قويةً في العضّ عليها على عِلاّتِهم؛ ولكنه هناك آياتٌ كثيرةٌ في كتاب الله عزّ وجلّ تُؤَكَّد الوحدةَ الإسلاميةَ وتُذَكِّر المؤمنين بفضلها الكبير، وقيمتها الخاصّة لدى الله ؛ لأنّها لاتتحقق إلاّ إذا شاءها هو؛ فلا تتأتّى – إذا لم يَشَأِ الله – ولو أُنْفِقَ ما في الأرض جميعًا . يقول تعالى :
"لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جميعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولاكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ" (الأنفال/63) .
إي واللهِ، ما أَعْظَمَ الألفةَ الإيمانيّة والمودّةَ الإسلامية وما أقواها بين جميع الأواصر والروابط؛ فعن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنّه قال : قَرَابَةُ الرحم تُقْطَعُ، ومِنَّةُ النِّعْمَةِ تُكْفَرُ، ولم يُرَ مثلُ تَقَارُبِ القُلُوبِ ؛ يقول الله تعالى: "لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بين قلوبِهم". وفي رواية أخرى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : إنَّ الرَّحِمَ لَتُقْطَعُ ، وإنّ النِّعْمَةَ لَتُكْفَرَ ، وإنّ الله إذا قَارَبَ بين القلوب لم يُزَحْزِحْهَا شَيْءٌ ثم قَرَأَ هذه الآيةَ.
ولكون الألفة الإيمانية والوحدة الإسلامية ذاتَ هذه الأهميةِ دعا كتابُ الله تعالى إلى تفادي جميع الأسبابِ المُضِرَّةِ بهذه الوحدةِ والأخوةِ ، فَمنَعَ عن التنازع المُؤَدِّي حتمًا إلى الفشل وذهاب الريح ؛ فقال تعالى :
"وَلاَ تَنَازَعُوْا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ" (الأنفال/46) . فإن تنازعوا وخضعوا للاختلاف والشتات ، فَسَيَتَخَاذَلُونَ ويَنْهَزِمُونَ ويَغْلِبُهُمُ الْعَدُوُّ ، وتذهبُ رِيْحُهُمْ ، أي قوتهُم وحِدَّتُهم وما كانوا فيه من الإقبالِ .
ولذلك نهى الله تعالى نهيًا مُؤَكَّدًا عن الإذعان للتفرّق والتنازع والاختلاف الذي يعتمد على الهوى والنفسانية والأنانيّة ، فقال :
"وَلاَ تَكُوْنُوا كَالَّذِيْنَ تَفَرَّقُوْا وَاخْتَلَفُوْا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عظيمٌ" ( آل عمران/105) .
نهى اللهُ هذه الأمّةَ أن تكون كالأمم الماضية في تَفَرُّقها واختلافها، من بعدما قامت الحجة عليها، فأصبحت مُسْتَحِقَّةً للعذاب الأليم – أعاذنا الله منه جميعًا – فالوحدة الدينية والأخوة الإيمانية مطلبٌ أسمى في الإسلام ، ولذلك دعا إليه دعوة مكثفة مؤكّدة ، ونهى عن كل ما من شأنه أن ينقض عُرْوةَ الوحدة ، ويجعل الأمةَ تتفرق وتتصارع ، فتَفْقِدَ الرعبَ وتُحْرَمَ الهيبةَ، وتُصْبِحَ غُثَاءً كغثاء السيل ، كما هو واقع الأمة اليوم . وتغييرُ هذا الواقع يَتَوَقَّف على عودة الأمة من جديد إلى الاعتصام بحبل الله – مجتمعة متحدة متراصة – أي بالقرآن الكريم أو بعهد الله؛ فإن القرآن – كما رُوِيَ عن عليّ رضي الله عنه مرفوعًا – حبلُ اللهِ المتينُ وصِراطُه المستقيمُ وهو النورُ المبينُ . والأمرُ بالاعتصام بحبل الله جميعًا دعوةٌ للأمة المسلمة دائمةٌ وقائمةٌ مستمرةٌ في كل زمان ومكان ، فما دام في الأرض مسلمون، وجب عليهم الالتفاف حول القرآن قلبًا واحدًا، وإن كانت قوالبهم شتّى . فالقرآن الكريم : تلاوتُه والتأملُ فيه والعملُ به والتمسكُ بما فيه من الأوامر والنواهي ، والوصايا والمواعظ ، والدروس والعِبَر ، وذكر الزواجر والقوارع ، والإنذار والتبشير، وأحوالِ كل من أهل الجنة وأهل النار، وتفاصيل نعيم الجنة وعذاب النار، وما إلى ذلك يُوَحِّد الأمّة ، ويجمع كلمتَها ، ويؤلّف شملَها ، ويوجد لها من القاسم المشترك ما يجعلها متِّحدًا متضامنًا ، متعاونًا متماسكاً، يأخذ بعضُها بحجز بعض رغم الاختلاف في كثير من الأمور الفرعيّة التي ليست من ضروريات الدين أو ثوابته . إن تُلاَةَ القرآن والعاملين به حقًّا لن يختلفوا اختلافًا تَتَفَرَّقُ بهم من أجله السُّبُلُ ؛ ولهذا قال الله عَزَّ وجَلَّ:
"وَأَنَّ هذَا صِراطِيْ مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوه وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه ذالِكُمْ وَصّاكُمْ بِه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام/153) .
قال ابن كثير – رحمه الله – ناقلاً عن ابن عباس – رضي الله عنهما – إن الله أمر المؤمنين في الآيةِ بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة ، وأخبره أنه إنّما هَلَكَ من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله . ونحو هذا قاله مجاهد وغير واحد .(/2)
وهناك آيات أخرى كثيرة تُؤَكِّد هذا المعنى وتضغط على هذه الحقيقة : الوحدةِ والأخوةِ والجماعيةِ والتضامنِ ونبذِ الشقاقِ والخلافِ، والنزاعِ والخصامِ.
ومن ثم نرى الأعداءَ يخافون دائمًا انتشارَ هذا القرآن – حبلِ اللهِ المتينِ الممدودِ من السماء إلى الأرض – بين الأمة المسلمة وإقبالها عليه بالتعليم والتعلم، والقراءة والتلاوة ، والتأمل والإمعان ، والمدارسة و المذاكرة ، ونشره بين الناس ، ودعوتهم إليه . إنهم يرون القرآنَ أكبرَ صخرةٍ أمام مدّ الباطل الذي يدعون إليه ، ويخالونه أكبرَ عقبةٍ تجاهَ هيمنتِهم الاستعماريّةِ على الأمة الإسلامية التي يُلَقِّنُها قرآنُها الإباءَ ويمنحها القوةَ ، ويكسبها الغلبةَ؛ لأنه يجمعها على الألوان والأوطان ، والأجناس والأعراق ، والميول الفرعيّة ، والنزعات الهامشيّة . ومن هنا قال أحدُ سَدَنَةِ الاستعمار الأنجليزي ، وهو "اللورد كرومر" – وهو يُحَذِّر الاستعمارَ السقوطَ المُحَتَّم والانحسار المُؤَكَّد ، وأنّ عهد المسلمين قادمٌ لامحالة –: إنّه يستحيل على الاستعمار أن يَسْتَقِرَّ وَسْطَ أمةٍ يعيش بين ظهرانيها القرآنُ !!.
على أن وحدة الأمة وأخوّتها لم يُرَكِّز عليها كتابُ الله وحدَه ، وإنّما رَكَّزَ عليها رسولُه صلى الله عليه وسلم أيضًا الذي شَرَحَ كتابَ اللهِ بقوله وعمله، وفَسَّره بما أراده الله تعالى وبما أُوحِيَ إليه وأُلقِيَ في روعِه مباشرةً أو عن طريق جبريل عليه السلام .
فعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : خَطَبَنَا عمر بـ"الجابية" فقال : يا أيها الناس ! إنيّ قمتُ فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ، فقال : "...عليكم بالجماعة ، وإيّاكم والفرقةَ؛ فإن الشيطانَ مع الواحد ، وهو مع الاثنين أَبْعَدَ . من أراد بحبوحةَ الجنة فليلزم الجماعةَ" (الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة، ج4/ص465 – 466) . وفي حديث مرسل عن سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "الشيطانُ يَهُمُّ بالواحد والاِثنين . وإذا كانوا ثلاثة لم يهمّ بهم" (الموطأ، كتاب الجامع، باب ماجاء في الوحدة في السفر، رقم الحديث:789).
وعن ابن عبّاس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يد الله على الجماعة" (مسند الشهاب، ج1، ص168) .
وعن النعمان بن بشير عنه صلى الله عليه وسلم قال وهو قائم على المنبر: "الجماعةُ رحمةٌ والفرقةُ عذابٌ" (مسند أحمد،ج4، ص278) .
وَحذَّر صلى الله عليه وسلم الفرقةَ تحذيرًا لاتحذير بعده ؛ حيث عَدَّها مُؤَدِّيًا إلى الكفر، فكأن الفرقة من نحسها ونتائجها الوخيمة أن مُبَاشِرَها يعود كافرًا بالله، بعيدًا عن رحمته، محرومًا حرمانًا أبديًّا مغفرتَه ورضوانَه . وذلك أَسوأُ عقابٍ مُتَصَوَّر لمن يرتكب جريمةَ الفرقةِ والشتاتِ ويخرج عن جماعة المسلمين .
يقول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه أبوذر الغفاريُّ – رضي الله عنه – : "من فَارَقَ الجماعةَ شبرًا، خَلَعَ رَبَقَةَ الإسلام من عنقه" (مسند أحمد، ج5، ص180) .
وفي رواية عن ابن عمر – رضي الله عنها – سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من خرج من الطاعة وفارقَ الجماعةَ فمات، مات ميتةً جاهليّة" (مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه)
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليأمر أمتَه بشيء ذي بال دون أن يُرْسِيَ له دعائمَه بيده: عملِه، وسيرتِه ، وتحركاتِه الميدانية كلِّها ؛ فعندما رَكَّزَ القرآن على اتحاد أمة الإسلام وتضامن المؤمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً بالقول ، آخى صلى الله عليه وسلم بينهم بالمدينة المنورة بالفعل، وجَعَلَ هذه المؤاخاة كأخوّة النسب وقرابة الرحم . وهذه المؤاخاة أزالَتْ كلَّ ما كان بينهم، من نزعة الجاهلية، وأثرة العصبية، وقَرَّرَ صلى الله عليه وسلم القواعدَ التي تجعل المسلمين متآخين متناصرين متراحمين مُؤثِّرِيْن إخوانَهم على أنفسهم، ولوكانت بهم خصاصة؛ فقال :
"المسلم أخوالمسلم لايظلمه ولايخذله ولا يحقره ... بحسب امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم" (مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، كتاب المظالم ، باب لايظلم المسلمُ المسلمَ ولايُسْلِمه، ج5/ص97) . وعنه – رضي الله عنه – يرفعه في رواية الترمذيّ : "المسلمُ أخوالمسلم، لايخونه، ولايكذبه، ولايخذله" (الترمذي كتاب الحدود، باب ما جاء في الستر على المسلم، ج4، ص34 – 35). وجاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخوالمسلم لايظلمه ولايُسْلِمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فَرَّجَ عن مسلم كربةً فَرَّجَ اللهُ عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن سَتَرَ مسلمًا ستره الله يومَ القيامة" (مسند الشهاب، ج1/ص244) .(/3)
حقًّا إن المسلم الصادق، الذي تَمَكَّنَ منه إيمانُه، لن يظلمَ أخاه المسلمَ ، ولن يَرْغب بنفسه عن نصرته والوقوف بجانبه، ولن يُسْلِمه لأعداءِ اللهِ ورسولِه، ولن يحقره مُعْجَبًا بنفسه . وإذا كان المسلمون تُوثِّق بينهم هذه الروابطُ الوديّةُ وهذه الصلات القلبية، فإنّ وحدتَهم وأخوّتَهم لن يخترقها شيطانٌ ولن يُفَكِّكَ عراها إنسانٌ من تلاميذ الشيطان.
وعندما يبلغ المسلمون هذا المستوى من التوادد والتراحم والتناصر، يصبحون كتلةً من الروح الواحدة ، فلا يحبّ منها فردٌ لأخيه إلاّ ما يحبّه لنفسه، فيعودون وحدةً متماسكةً متلاحمةً ، لاروحًا فحسب، ولكن جسمًا وقالبًا كذلك . وذلك ما أكّده صلى الله عليه وسلم بأقواله الكثيرة. منها قوله صلى الله عليه وسلم – الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما – : "لايؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه" (مسند الشهاب، ج1،ص133) . وقوله صلى الله عليه وسلم : "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحهم وتعاطفهم مثلُ الجسدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحمى" (فتح الباري 1/85) .
ونهى عن كل شيء يعترض سبيلَ المحبةِ والصفاءِ والوحدةِ، فنهى المسلم عن ترويع المسلم : "لايحلّ لمسلم أن يُرَوِّعَ مسلمًا" (مسند أحمد 1/362) . ونهى المسلمين أن يتتتبع بعضُهم عوراتِ بعضٍ وأن يغتاب بعضُهم بعضًا : "لاتغتابوا المسلمين ولاتتبعوا عوراتِهم" (مسند الشهاب 2/84) . ونهى أن يجرح بعضُهم مشاعرَ بعضٍ ويثيروا فيما بينهم دواعيَ الحقدِ والضغينةِ : "لايَبِعْ بعضُكم على بعض ، ولايخطب بعضُكم على خطبةِ بعضٍ" (الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن البيع على بيع أخيه، 3/587) . وحَرَّم التقاتلَ بينهم: "إذا تَوَاجَهَ المسلمان بسيفيهما ، فكلاهما من أهل النار . قيل : فهذا القاتل ، فما بال المقتول؟ قال : إنه أراد قتلَ صاحبِه" (البخاري، كتاب الفتن ، باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما) ونهى عن عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء، واعتزازها بالأنساب ؛ فلا فخر بعد الإسلام إلاّ بالتقوى والعمل الصالح :
"إنّ الله قد أَذْهَبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليةِ ، وفخرَها بالآباء . مؤمنٌ تقيٌّ ، وفاجرٌ شقيٌّ، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليَدَعَنَّ رجال فخرَهم بأقوام إنما هم فحمٌ من فحمِ جهنمَ أو ليكونَنَّ أهونَ على الله من الجُعْلاَنِ التي تَدْفَعُ بأنفها النتنَ" (أبوداؤود، باب في التفاخر بالأحساب، 20/57).
ومن حكمة الإسلام أنه جعل المسلمين بجميع ما فيه من الشرائع والأحكام يتحدون ولايتفرقون ، فكأن الإسلامَ بذاته دعوةٌ للاتحاد والوئام، والتضامن والانسجام . فعقيدتُه من الإيمان باللهِ ورسولِه واليومِ الآخرِ والملائكةِ والكتابِ والنبيينَ والجنةِ والنارِ والمقاديرِ وقيامِ الميزانِ والحسابِ والجزاءِ والعقابِ ، تُوَحِّدُ المسلمين على أساس هذه الفكرة المركزية . والعباداتُ الإسلاميةُ من الأركان الأربعة وغيرها والأحكامُ كلُّها تُوَحِّد المسلمين عواطفَ ومشاعرَ ورُؤىً وأفكارًا، وتجمعهم على رصيفِ هدفٍ واحدٍ أسمى، هو هدفُ عبادةِ اللهِ واتباع ما أمَرَ به ونهى عنه . وجميعُ الأوامر والنواهي وأفعالِ الخير التي كَلَّفَ بها الله تعالى المسلمين تُوَحِّدهم قلبًا وتفكيرًا ، وتتجه بهم إلى جهة واحدة هي جهة إطاعةِ اللهِ ورسولِه واجتنابِ عصيانِهما في كل من إطارِ القولِ والفعلِ، والسيرةِ والسلوكِ .
وبعد : فإن الأمة اليوم وقعت فريسةً لدواعي الاختلافِ والشقاقِ ، وتَوَزَّعَتْ بين عصبياتٍ وكُتَلٍ لا تخدم الإسلامَ، وإنما تخدم مصالحَ الأعداءِ . ولذلك تَعَرَّضت كنيتجة حتمية لذلك لأنواع من الذل والفشل ؛ فتمكّن منها الأعداء ، وعاثوا في ديارها فسادًا وتدميرًا، وإبادة وإهلاكاً للحرث والنسل، ومحوًا للثقافة والحضارة والتاريخ . ولايمكن التخلّص من هذا الواقع الأليم إلاّ بالعودة إلى الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية القائمة على القاسم المشترك من الإيمان الصحيح باللهِ ورسوله، والكتابِ الذي نزل عليه، والقبلةِ الواحدةِ التي يتجه إليها المسلمون جميعًا، ومن نبذ الخلافاتِ الفرعيةِ والنزاعاتِ الهامشية التي ستبقى ما بَقِيَتِ العقولُ تُفَكِّر، والقلوبُ تَعِي، والأدمغة تعمل عملَها بنصابٍ مطلوبٍ .
ولابُدَّ أن يَعِيَ المسلمون عاجلاً أن وحدتهم هي التي تَهْزِم الأعداءَ وتُفَرِّقُ جمعَهم وتُشَتِّتُ كلمتَهم ؛ وأَنَّ تَفَرُّقَهُمْ هو الذي يَجْعَلُ الأعداءَ يَنْتَصِرُون عليهم وَيَتَسَلَّطُون على رقابهم ، ويُذِلُّونَهُمْ بنحو تقشعرّ منه الجلود، كما يحدث الآن ، حيث يجوسونَ خلال ديارهم ، ويداهمونهم في عقرِ دارِهم .(/4)
ومن عجيبِ الأمرِ أن الأعداءَ اجتمعوا اليوم – رغم آلاف آلاف الخلافاتِ والصراعاتِ الشديدةِ الكثيرةِ فيما بينهم – على أساس القاسم المشترك ، وهو محاربةُ المسلمين، ومعاداةُ الله ورسوله، ومُحَادَّةُ الكتاب الذي أُنْزِلَ معه ، فَتَدَاعَوْا على المسلمين تَدَاعِيَ الأكَلَةِ إلى قصعتها .
فَلْنَسْتَجِبْ لنداءِ اللهِ ورسولِه لتوحيدِ الصفِّ ، وجمعِ الكلمةِ، والعودةِ إلى بَعْثِ الأخوةِ الإسلاميةِ التي لا آصرة أقوى منها ، ولا رابطةَ أشرفُ منها وأقدس، ولا علاقةَ أمتنُ منها وأدومُ ، وأنفعُ للبشرية منها وأجدى .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
* * *
________________________________________
(*) هذه المقالة ، قدّمها فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن حفظه الله في الملتقى العالمي لعلماء المسلمين بعنوان "وحدة الأمة الإسلامية" الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في الفترة ما بين 3 و 5/ 3/1427هـ الموافق 1-3/4/2006م والذي شارك فيه فضيلته على دعوة كريمة من الرابطة . كما شارك في اجتماع الجمعية العمومية لهيئة التنسيق العليا للمنظمات الإسلامية الذي عُقِدَ بمكة المكرمة يوم 6/3/1427هـ الموافق 4/4/2006م .
و"الداعي" تنشر المقالة على صفحاتها تعميمًا للفائدة وتسجيلاً للمعنى التأريخي لها للأجيال القادمة .(/5)
وحدة الأمة الإسلامية
ما من شك في ان قوة الامة الإسلامية مرهون بمدى اتحادها وتماسكها , و أن اختلاف الأمة وافتراقها سبب مهم من أسباب ضعفها وهوانها. و أن تنازع الأمة وتقاتلها سبب لذهاب مكانتها وضياع حقوقها.
وقد مرت الأمة الإسلامية بفترات من التباعد ساعد عليها ضعف التزامها بدينها وكيد أعدائها مما أوردها المهالك وأنزلها منزلة التخلف والتأخر.
واليوم وقد اشتدت حاجتها إلى الوحدة والاتحاد وأصبح لزاماً عليها أن تستجيب لدعوات المخلصين لتأخذ دورها من جديد وتعيد سابق مجدها.
ولكي تتمكن الأمة الإسلامية من تحقيق الوحدة الكبرى وتصبح أمة واحدة تذوب فيها جميع الأجناس والتجمعات ويكون شعارها قول الله تعالى: " وإنّ هذه أُمتكم أمةً واحدةً ." (المؤمنون: الآية 52). لا بد من الرجوع إلى مصدر قوتها وأساس بنائها. وأهم مصادر قوة الأمة ووحدتها:
1. وحدة الغاية والهدف: وغاية الأمة الإسلامية وهدفها هو طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته حق العبادة استجابة لأمر الله وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون. (الذاريات: الآية 56). فاتخاذ سبيل الله والتمسك بمنهج الإسلام عقيدة وعبادة ونظاماً وترك ما عداه من النظم والمبادىء والغايات هو السبيل إلى وحدة الكلمة واجتماع الشمل.
قال الله تعالى: "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله." (الأنعام: الآية 153).
2. وحدة التشريع والتزام حدود الله وعدم تجاوزها، كما قال الله تعالى: " فلا وربّك لا يُؤمنون حتّى يُحكّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيتَ ويسلّموا تسليماً."
فالعودة إلى شرع الله وتحكيم كتابه كفيل بتوحيد الصفوف واجتماع الكلمة، لأن الله سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان أوجد له التشريع المناسب لطبيعته وأنه لا يمكن لأي تشريع بشري أن يحل محله، وتعدد التشريعات والقوانين في الأمة سبب رئيسي في تمزقها وتشتتها لأنها تكون مجبورة على أحكام لا صلة لها بدينها، بل هي مضادة لدينها ومحاربة لعقيدتها.. وكل محاولة تستهدف تعطيل حكم الله واستبداله بأحكام وضعية ستكون محاولة فاشلة لن يكتب لها النجاح.
3. وحدة القيادة : وهو أساس مهم في التفاف الأمة على قيادة واحدة، وهي قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم والسير على منهاجه وسنته، قال الله تعالى:" ومن يُشاقق الرسول مِنْ بعد ما تبيّن له الهدى ويتبعْ غير سبيل المؤمنين نُولِّه ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيراً." (النساء: الآية 115). فإذا تمسك المسلمون بهذه القيادة نجوا وعصموا أنفسهم من التمزق والاختلاف.
الشيخ حمد حسن رقيط،
قضايا معاصرة في ميزان الإسلام.(/1)
وحدة العمل الإسلامي والمناهج المطروحة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد …
فوحدة العمل الإسلامي موضوع يستحق الكثير من الحديث ولو كان تكراراً ؛ ذلك لأن وحدة العمل الإسلامي مطلب للجميع من داخل الصف الإسلامي ومن خارجه، فقد وصلنا إلى قناعة على مستوى قواعد الصف الإسلامي بأن الواقع المعاصر واقع غير شرعي ويحتاج إلى تغيير، وأنه لا بد من وحدة للعمل الإسلامي . لكن مشروعاً في مثل هذه الضخامة ومثل هذا القدر أحسب أنه لا يكفي أن نختزله فقط في الحديث عن ضرورة الوحدة وأهميتها وذم الفرقة، فهذا أمر يتفق عليه الجميع ويسعون إليه، ولا إخال داعية جاداً مخلصاً يرى أن الفرقة والنزاع والجدل والخصومة واقع شرعي .
إن الكثير يتحدثون عن وحدة العمل الإسلامي ، والكثير يتحدثون عن الفرقة والواقع المرير الذي يعاني منه العمل الإسلامي بسلبياته .. لكن الذين يتحدثون عن برنامج عملي للوحدة قلة قليلة حين نقارنهم بأولئك الذين يدعون دعوة مجملة إلى الوحدة ويذمون الفرقة . والواقع المعاصر واقع لسنا بحاجة إلى الإفاضة في الحديث عنه ، لكني سأثير باختصار شديد لثلاثة محاور ستدور المحاضرة حولها وأول تلك المحاور : الإشارة إلى مشكلات الواقع المعاصر والمرتبطة بقضية التفرق أو قضية افتقاد الوحدة ، وثانيها: أسباب الواقع المعاصر ، وأخيراً : بعض المقترحات للعلاج ولعلّي أركز على الشق الأخير .
أولاً : إن السلبيات الظاهرة هي إفراز لتعدديةٍ غير شرعية للعمل الإسلامي، منها على سبيل المثال :
* التحزب وتحول العصبية إلى أحزاب ، حاملةً المواصفات نفسها التي تحملها تلك الصراعات القبلية أو المذهبية التي كانت ولا تزال الأمة تعاني منها .
* الولاء والبراء على أساس الانتماء الحزبي .
* التهارج والاتهام فنجد القضية تتجاوز حد الصراع اللفظي إلى التأليف والتصنيف في معايب ومساوئ هذه الجماعة ومعايب ومساوئ الأخرى ، وتعلوا فيها لغة السب والشتم والتهارج والصراع أكثر من لغة النقد والتقييم الموضوعي .
* صراع المواقع حيث أن هذه الجماعات تلتقي في قطر واحد أو بلد واحد فتعيش صراعاً حميماً على مواقع النفوذ وكأن القضية قضية صراعٍ مع تيار علماني أو مع تيار مفسد ، فتراهم يرون أن من أهداف وأولويات المرحلة اكتساب المواقع قبل هذا التيار
* اعتقاد سلامة المنهج دون غيره من المناهج فكل منتمٍ إلى جماعة أو طائفة يعتقد أن منهجه هو الحق وأن ما عليه هو الصواب وأنه هو وحده الكفيل بتغيير واقع الأمة ، أما المناهج الأخرى فهي مناهج فاشلة لأنها لا تملك الشمول أو صحة المنهج؛ فهي تحمل من الفشل ما لا يؤهلها للتغيير ، فليس ثمة منهج مؤهل للتغيير إلا المنهج الذي ينتمي إليه .
* عدم الاستفادة من انتقاد الآخرين ، فلا شك أن كل جماعة تطرح انتقاداً سواءً كان مباشراً أو غير مباشر ، موجهاً أو غير موجه لتلك الأخطاء التي تقع فيها الجماعات الأخرى، والواقع أنّا لا نكاد نرى استفادة تذكر من الانتقادات التي يطرحها الآخرون ، والداعية الجاد الناصح يستفيد حتى من أعداءه فضلاً عن إخوانه .
إن الصورة المرضية للتعددية الموجودة في الواقع المعاصر فرضت حجاباً حال دون الاستفادة من انتقاد وتقويم الآخرين ورأيهم، مما أدى إلى افتقار التكامل في العمل الإسلامي.
* اعتبار الانتماء معياراً للجرح والتعديل فيكفي لقبول شخص من الأشخاص أو رفضه أن تعرف أنه ينتمي إلى هذا الاتجاه أو هذا العمل . وتتعجب حينما تجد شخصاً قد يلقى قبولاً عند الناس ، فحين يعرف انتماءه واتجاهه يتغير الموقف عليه ، والعكس صحيح ، فأصبح المعيار في القبول والرفض معرفة الاتجاه والولاء .
* تناقض المواقف فهناك قضايا وأحداث تحتاج إلى أن يوقف منها موقف مشترك بين فصائل العمل الإسلامي، ومصلحته تقتضي وحدة الموقف ومع ذلك نرى صراعاً مريراً حول المواقف دون النتسيق ولعل أبرز الأمثلة على ذلك : أزمة الخليج الثانية التي حولت العمل الإسلامي في كثير من المناطق والبلدان الإسلامية إلى تيارين وشقين متصارعين وكل منهم يقذف صاحبه بافتقار المنهج لأنه وقف هذا الموقف . مع أن هؤلاء لو تناقشوا واجتمعوا لرأوا أن ثمة نقاط يتفقون على قبولها ، وثمة نقاط يتفقون على رفضها فتبقى بعد ذلك دائرة الخلاف ضيقة يمكن تنسيقها كموقف موحد ، ومما يؤسف له في بعض البلاد الإسلامية التي تؤمن بالعمل السياسي والنيابي أنه حين يدخل تيار إسلامي معترك العمل السياسي تجد أن الآخرين ممن لا يرى مشروعية هذا العمل يقفون ضدهم وربما صوتوا ضدهم ودعوا الناس لذلك، فيشعر العلمانيون أن هؤلاء يقدمون لهم خدمة بالمجان !(/1)
معشر الأخوة الكرام .. هذه بعض مشكلات التعددية غير المشروعة في العمل الإسلامي ، ونحن حين نتحدث عنها فإن هذا لا يعني أنها موجودة لدى الجميع، فهناك قدر من الموضوعية والإنصاف يتصف به طائفة من الدعاة إلى الله تعالى ، ولا شك أن هناك طائفة قد قطعوا خطوات في تنسيق المواقف وإزالة هذه الحواجز لكننا نتحدث عن الجانب المريض وحده فنسلط الضوء على المرض وحده ومع ذلك أيضاً لا نعمم النتيجة، ونرى أن كل الدعاة إلى الله وكل العاملين للإسلام مصابون بهذا الوباء .
إنه من المؤسف أن نرى نداء رفض التعددية المقيتة على مستوى القواعد أكثر منه وأنضج على مستوى القيادات ، ولو كانت القضية تحمل القدر من الإصلاح لدى قيادات العمل الإسلامي لكانت الصورة تختلف عن الواقع الذي نعيشه . على كل حال أرجو أن لا يكون هذا العرض لتلك الصور السلبية عرضاً تشاؤمياً فنحن إنما نسلط الضوء على المرض لنتناول سبل علاجه .
ثانياً : لماذا هذا الواقع ؟
إن من أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الواقع ما يلي :
أولاً : ضعف العلم الشرعي :
فالعلم الشرعي هو المعيار الذي يمكن أن نصل من خلاله إلى ما يسوغ الخلاف فيه وما لا يسوغ ، ويمكن أن نوجد من خلاله الحلول للعديد من المواقف التي هي محل جدل وخصومة وتهارج .
إن العمل الإسلامي يعاني بالجملة من ضعف العناية بالعلم الشرعي وعدم إعطائه الوزن الطبيعي الصحيح له .
ثانياً : الهوى والتعصب :
إن من المؤسف أن تجد من يحمل العلم الشرعي يكون سبباً في إثارة الفرقة والخصومة باسم العلم الشرعي و الدعوة إلى الوحدة ، فمع العلم الشرعي لا بد من التجرد عن الهوى والتعصب والجمود أيضاً .
ثالثاً : الخلاف في توصيف الواقع :
إن من أكبر نقاط الخلاف بين فصائل العمل الإسلامي مسألة الحل الإسلامي للواقع المعاصر الذي يعتبر انعكاساً ونتيجةً لتوصيف الواقع ، فمثلاً : من فصائل العمل الإسلامي من يرى أن مشكلة المسلمين هي وقوعهم في المعاصي واتباعهم للشهوات ويرى أن التركيز على الإصلاح الداخلي وتصحيح السلوك عند المسلمين وتخليصهم من شهواتهم يحل المشكلة ، ومنهم مثلاً من يرى أن المشكلة تتمثل بفقد العلم الشرعي ويرى الحل الوحيد للواقع الذي تعاني منه الأمة المسلمة إنما هو في العلم الشرعي ونشره ، ومنهم من يرى أن المشكلة تتمثل بانتشار البدع والخرافات ويرى أن تصحيح التصور والمعتقد هو وحده الكفيل بحل المشكلات ، ومنهم من يرى أن الواقع السياسي هو المشكلة … وهكذا نرى نظرات تختلف في تحديد وتوصيف الواقع الذي تعاني منه الأمة، وبناءاً على توصيف الواقع يقدم برنامج الحل والعلاج .
نحن لا نشك أن الكثير من هؤلاء يتحدثون عن جزء من المرض ، والمشكلة تأتي من قضية تجزئة الواقع ، فكلٌ ينظر إلى زاوية من زوايا الواقع ويحاول أن يعيده إلى عامل أو سبب واحد يرجع إليه . لكن الحقيقة أن واقع الأمة الإسلامية الذي يعاني منه واقع أوسع من هذا بكثير ، وأنه يحمل كل هذه المشكلات ، وهو بحاجة إلى كل هذه الجهود ، وحينما يتصدر فرد أو جماعة لعلاج مشكلة من المشكلات فلا غضاضة في ذلك ، لكن أن ترى أن الحل الوحيد لواقع الأمة يشتمل فيما تقوله فهذه هي المشكلة .
رابعاً : غياب المنهج الشرعي للنقد والحوار :
إن وجود منهج شرعي للنقد والحوار يسهم في إثراء ونضج هذه التعددية، وأن تكتشف كل جماعة ما لديها من أخطاء من خلال ما يطرحه الآخرون ، فيصبح هذا الخلاف مدعاة للنضج والإثراء دون أن يكون مدعاة للصراع والتهارج .
خامساً : الأعداء والمنافقون في داخل الصف الإسلامي :
الذين يسعون إلى إشاعة الفرقة والخلاف والنزاع .
سادساً: ضعف التربية داخل بعض الفصائل :
حيث يكون همها الأول تحقيق الانتماء والولاء الحزبي دون الاعتناء بالتربية على التجرد والإخلاص لله سبحانه وتعالى وأن تكون الدعوة إلى الله هي الهم الأول والأخير، والتي تنتزع الصفات البشرية المرضية التي ورثتها الأمة من التعصب والتقليد والتحزب والهوى … الخ إن مثل هذه الأمور تحتاج إلى جهد تربوي طويل في انتزاعها وأن تقدم الفصائل برنامجاً تربوياً واسعاً لتتخلص من مثل هذه الأمراض وحينئذٍ يكون العمل الإسلامي مؤهلاً بإذن الله لتجاوز هذه المراحل .
ثالثاً : الحلول والعلاج :
وهو المحور الذي أرى أننا بحاجة إلى أن نفيض فيه ، مع اعتبار أننا لسنا وحدنا الذين ندعو إلى وحدة العمل الإسلامي، بل هناك نماذج ومناهج مطروحة لهذا الأمر ولعلّي أن أشير باختصار إلى بعض الرؤى المطروحة حول وحدة العمل الإسلامي ثم أطرح ما أراه وجهة نظر شخصية آمل أن تثرى بالنقاش والتعليق والتسديد حتى نخرج بصورة أكثر نضجاً .(/2)
التصور الأول : إن هناك من يقول أن الواقع الذي نعيشه إنما هو من اختلاف التنوع لا التضاد ، وأن ما يحصل في الساحة الإسلامية إنما هو في الواقع اختلاف في الاجتهادات والأدوار فقط ولا نعتبره اختلاف تضاد . ولا أظن أن هذا يتفق مع الواقع الملموس ، فنحن نجد صراعاً وتهارجاً واختلافاً، وتجد من يعتقد أن التيار الآخر إنما هو عدو للإسلام ويفسد أكثر مما يصلح ولا يمكنه أن يطرح حلاً عملياً لمشاكل الأمة !!
إذن لا أظن أن المتأمل لما يحدث في الساحة من صراع يوافق على أن الواقع الذي نعيشه واقع اختلاف تنوع بل هو اختلاف تضاد وتهارج . كما أن القضية ليست مجرد اختلاف اجتهادات بل يتجاوز الأمر حين نجد أموراً مما لا يسع الخلاف فيها مطروحة أحياناً عند بعض فصائل العمل الإسلامي وهي بحاجة إلى مراجعة ومناقشة ولا يمكن أن نضعها ضمن دائرة ما يسع فيه الاجتهاد .
التصور الثاني : هو من يقول أن هذه الفرق أو الجماعات ينطبق عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة ـ رضي الله عنه ـ : (( دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها … إلى أن قال حذيفة : فما تأمرني ؟ قال اعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك )) ويطبق على هذه الفرق والجماعات قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )) ويرى أن الحل هو اعتزال تلك الفرق والطوائف والعمل لوحده معتزلاً لتلك الفتن .
التصور الثالث : هو من يدعو إلى الوحدة من خلال توجه أو تجمع معين ، وهو طرح واسع في الساحة؛ ذلك أن تأتي جماعة تذم الواقع المعاصر والتعددية المعاصرة ، وترى أنها مرض ينبغي التخلص منه، ولا بد أن يتفق الجميع لكن على ماذا ؟ إننا نرى كماً من الجماعات تدعو إلى الوحدة والاجتماع لكن تحت رأيها وتجمعها وما تراه هي منهجاً، وهذا ليس بالطرح العملي الواقعي ولا يمكن أبداً أن تطالب فصائل من العمل الإسلامي التخلي عن برامجها وأطروحاتها لتستجيب لنداء شخصٍ آخر لا يريد أن يتحول نداؤه إلا محاولة للكسب أكثر من أن يكون طرحاً للوحدة .
تلك هي ثلاث أطروحات تطرح للوحدة وأظنها بحاجة إلى إعادة نظر ، لكن أليس هناك من تفكير آخر واقعي يأخذ في الاعتبار مشكلات الواقع المعاصر من منطلق شرعي مقدماً حلولاً عملية لا مثالية يمكن تحقيقها على أرض الواقع ؟
إن هذا هو ما يجب أن نقوم به ، لذلك أرى أولاً : أن الوحدة التنظيمية الحركية أمر قد يستحيل في المرحلة المعاصرة ، وأن العددية قد تكون مقبولة حين تتجاوز الأمراض والمشكلات التي تعاني منها . إننا في ما سبق من الحديث ننتقد أوضاع التعددية لا باعتبار ذاتها ولكن باعتبار الواقع المعاصر . وحينما نطرح حلاً عملياً واقعياً فإننا ينبغي أولاً : أن لا نطالب الفصائل الإسلامية بالتخلي عن البنية التنظيمية لها ، أو أن نطالب الحركات الإسلامية والفصائل الإسلامية أن تصب في بوتقة حركة واحدة ، فإن هذا ربما أدى إلى بعض السلبيات . ألا يمكن أن تقدم الوحدة من خلال ترشيد التعددية المعاصرة أو على الأقل تقليص مجالات الخلاف ، فإن هذا مطلب أول بحد ذاته .
المطلب الثاني : أن تتحول القضية من اختلاف تضاد إلى اختلاف تنوع وهذا يمكن أن يتم من خلال البرامج الآتية :
أولاً : محاولة الوصول إلى منهج واضح لأهل السنة والجماعة ، يمكن أن يفهمه الجميع بلغة العصر كأن يدور حوار أو أن يطرح برنامج أو توضع ثوابت للعمل الإسلامي يرى منه خلالها أن الحركة الإسلامية تكون حركة مقبولة وداخلة ضمن إطار الطائفة الناجية المنصورة ، فتلتزم بتلك الثوابت ومتى ما خرجت عنها كانت خارجة عن إطار الطائفة الناجية وبالتالي الخروج عن منهج أهل السنة والجماعة ، ونحن نتفق جميعاً أن منهجاً لا يسير وفق منهج أهل السنة والجماعة منهج محكوم عليه بالفشل والبوار ولا يمكن أن يحقق التغيير ؛ فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها .
ثانياً : أن نصل إلى طرح علمي واقعي للثوابت التي لا يسع الخروج عليها والتي حين نجد فصيلاً من فصائل العمل الإسلامي قد خرقها وخالفها فقد خرج عن هذه الدائرة، لكن يجب أن نفرق بين قضيتين بين أصول وثوابت لا يسع الخروج عليها وبين اجتهادات الأمر فيها واسع ، فهناك من يطرح برامج طموحة وعلمية ، لكنه يرى أن الاجتهادات التي توصل إليها ملزمة للآخرين وأنها مواصفات ينبغي أن يتصف بها التيار الإسلامي حتى يكون تياراً مؤهلاً للتغيير .
وحينئذ سنعود إلى المشكلة الأخرى وهي الدعوة إلى الوحدة من خلال تيار وتوجه معين .
ثالثاً : السعي إلى وحدة المواقف قدر الإمكان ، والتنسيق على الأقل من داخل القطر الواحد .(/3)
إنه مما يؤسف أن نقرأ في مجلة علمانية مقابلة لأحد زعماء الفصائل الإسلامية في بلد إسلامي تدخل الجيش فيه ضد فصيل آخر من فصائل العمل الإسلامي فيقول : إن الجيش تدخل لحماية الشرعية ! فأي شرعية يمثلها ذلك النظام العلماني ؟ ولنفترض أن هذا الفصيل قد وقع في خطأ كبير ، فهل هذا مسوغ إلى أن يصل الأمر إلى هذا الحد فيكون هذا التيار عوناً ومعيناً لنظام علماني ضد إخوته ؟ وقل مثل ذلك في مواقف كثيرة يقف بعض الإسلاميين فيها ضد إخوانه في خندق واحد مع الأنظمة والأحزاب العلمانية والسبب لا يزيد على الاختلاف في اجتهاداتهم، وكثيراً ما يخسر المسلمون في نتائج الانتخابات بسبب عدم التنسيق ؛ فهذا الفصيل يرى عدم مشروعية الانتخابات وذاك الآخر يرى مشروعيته ، نعم .. من حقه أن يرى أن الانتخابات ليست مشروعة لكن يجب عليك احترام اجتهاد الآخرين وتدعو الناس للتصويت لهم لا لغيرهم من الأحزاب العلمانية ، وكذلك تجد أحياناً الصراع على المواقع حين يرشح أكثر من حزب إسلامي في حين نجد أن الفصائل العلمانية تنسق وتحدد وتتآمر. إذن ينبغي أن نعلم أن مصلحة المجتمع والأمة ترتكز على التنسيق في الأمور والجهود .
رابعاً : مراجعة المناهج والوسائل ، إن المسلم مطلوب منه أن يحاسب نفسه في سلوكه الشخصي ويراجع نفسه في عباداته وتعامله مع الآخرين ، ويكتشف أخطاءه التي بحاجة إلى تصحيح ، أما حين يكون همنا رسمة فلان أو ألا نخرج ما رسمة الجماعة الفلانية فستبقى الأخطاء في واقعنا ونضيف إليها الأخطاء التي هي نتيجة تقصيرنا أو إهمالنا.
لا بد أن نكون جميعاً على استعداد تام أن نقول إننا أخطأنا في هذا العمل ، وليس من عيبٍ في المسلم حين يقع في الأخطاء عن اجتهاد بل إنه مأجور بإذن الله ، أما حين نسعى إلى تبرير الأخطاء والدفاع عنها فهذا خطأ وواقع مرفوض . كم نرى الآن في الساحة الإسلامية مما يكتب أو ينشر حينَ بَيّنَ فصيلٌ إسلامي بعض أخطاء هذه الجماعة أو تلك أو أخطاء بعض الزعماء الذين مضوا وماتوا، وكأن انتقاد هؤلاء طعن في الدين ، وأن الراد عليهم كالراد على المعصوم . إننا حين نصر على عدم المراجعة ، ونتشبث بواقعنا فلا سبيل للوحدة ولا سبيل للالتقاء .
خامساً : التخصص ، حين نتأمل في الواقع اليوم نرى فئات من الدعاة اكتسبوا قوة التأثير على الفسقة والعصاة ونرى أحدهم يحوّل ـ بتوفيق الله ـ مروّج المخدرات والسكير العربيد إلى رجل مخبت لله تعالى وينجح في هذا العمل أكثر مما ينجح غيره، لكن عنده أخطاء وأمراض في جوانب أخرى. وفي الجانب الآخر نرى سد ثغرة في بيان العقيدة ومحاربة البدع ، وبذل جهداً لا يشق له فيه غبار لكن عنده أمراض وأخطاء في جانب آخر . وهناك من نبغ في الجانب الفكري ومصاولة العلمانية ومواجهتها ولا يشق له غبار في هذا الميدان لكن عنده أخطاء في ميدان آخر . حين نطلب من كل فصيل من هؤلاء أن يجمع الأمور كلها أظن أن هذا مما يصعب و تفنى الأعمار دونه ، لكن حين نتحول إلى قضية التخصص مع التصحيح فنقول لهذا التيار أو لفلان من الناس ما دمت قد نبغت في هذا الميدان فتخصص فيه لكن ضع في اعتبارك الآتي : أولاً : أن لا ترى عملك وحده هو العمل المؤهل للنهوض بالأمة ولا تحتقر جهود الآخرين . ثانياً : ينبغي أن تصحح هذه الأخطاء وتلك إننا لا نكاد نرى مرضاً من أمراض الأمة والمجتمع إلا وفصائلٌ تصدت له، ونرى جهوداً ولله الحمد قد قطعت شوطاً كبيراً في محاولة تصحيح هذا المرض ، لكن نتيجة مشكلة التهارج واعتقاد أن هذا المرض وحده هو مرض الأمة لم نستطيع أن نستثمر هذا النبوغ . فحين نسلك أسلوب التخصص فإننا حينئذ نستطيع أن ننجح بتحويل كثير من خلاف التضاد إلى خلاف التنوع ، وحينئذٍ تتفق الجهود وتسير في منظومة واحدة متقاربة .
قد نجد لا شك نوع من الاختلاف في الآراء ووجهات النظر فهذا لا بد منه وأن نصل إلى رأي واحد فهذا أمر لا يمكن تحقيقه لكن فرق بين هذه الصورة وتلك .(/4)
سادساً : عامل الزمن والمرحلة أمر مهم، إن من مشكلات بعض الحلول المطروحة أنها حلول تريد أن تعالج مرضاً نتيجة عوامل عدة وعامل الزمن كان عاملاً مهماً منها . وحين نريد أن نعالج الأمراض في أوقات محدودة، وأن نجمع الناس كلهم في لحظة واحدة ونقول للناس تخلصوا من التعصب والحزبية وصححوا أخطاءكم واتحدوا فلا بد من أن نعي البعد الزمني المناسب، وأظن أنا لو طرحنا مشاريع للوحدة وفق مراحل معينة تأخذ في الحسبان عامل الزمن و الصعوبات والعقبات ، وبعد كل مرحلة نقف ونراجع ماذا حققنا وماذا أنجزنا فنستطيع بهذا أن نقطع خطوات عملية . أما حين نريد أن يتحقق هذا في لحظات أو سنوات معدودة فإن هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق ولو أخذنا على سبيل المثال هذا المبنى الذي نحن فيه لعلمنا أنه يتم على مراحل ، مرحلة نجمع فيها المال ونشتري الأرض ثم ننتقل بعد ذلك إلى مرحلة أخرى ونخطط المشروع ثم نطرح بدائل لتصور تخطيط البناء والمشروع، ثم نبدأ البناء فنجد بعد ذلك أننا أخذنا وقتاً طويلاً في إعداد مبنى مبسط، فما بالكم بالبناء الإسلامي الذي هو أعظم من هذا كله ؛ لا شك أنه بحاجة إلى مراحل أوسع وحين نأخذ في الاعتبار المرحلية فإننا يمكن أن نصل على الأقل إلى صورة أفضل بكثير من الصورة المعاصرة التي نعاني من أمراضها ومشكلاتها .
تلك بعض الآراء وبعض الحلول المقترحة التي أرى أننا ينبغي أن نأخذ بها في دعوتنا إلى الوحدة وحين ندعو إلى وحدة العمل الإسلامي ينبغي أن نكون واقعيين منطقيين وأن لا نتصور أن فلاناً من الناس يمكن أن تجتمع عليه كل فصائل العمل الإسلامي أو أن يكون وصياً وقيّماً على كل تيارات العمل الإسلامي فهذا لا يمكن أن يتحقق . لكن لا بد من أن نفتح لنا على الأقل بعض الأفكار حول هذا المشروع وطرح هذا الموضوع أكثر .(/5)
وحدة المسلمين السياسية
الحلقة الثالثة
*أحمد الخطيب
ahmadkhatiby@yahoo.com
يتجه العالم اليوم نحو التكتلات والتجمعات بحيث لم تعد الدول الصغيرة والضعيفة بقادرة على العيش من دون الاعتماد على الدول الأخرى، وفي المقابل نجد البلدان الإسلامية تسير نحو المزيد من الضعف والتفكك والتشرذم مع العلم بأن الإسلام يدعو إلى التوحد.
إن وحدة المسلمين السياسية هي نتاج طبيعي لوحدتهم العقائدية، ولقد قرَّرَ الرسول e هذه الوحدة منذ اللحظة الأولى لبناء الدولة الإسلامية فوضع منهاجاً حدَّدَ من خلاله هوية الأمة والدولة، وتوحد المسلمين على أساس الإسلام وقد عبَّرت الصحيفة التي كتبها الرسول e للمسلمين في المدينة عن هذا المعنى فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب محمد النبي بين المؤمنين المسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس". وقال: "وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس". وقال: "وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عزَّ وجل وإلى محمد رسول الله". وقال: "وإن سلم المؤمنين واحدة".
فهذه العبارات التي وردت في الصحيفة تدل بشكل قاطع على الوحدة السياسية للمسلمين بوصفها أمة واحدة من دون الناس، وتبين لهم مرجعيتهم وهي الله عز وجل ومحمد e أي الكتاب والسنة. ويؤكد هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: }وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ{ وجميعاً هنا جاءت حال وليس توكيداً، ولو كانت توكيداً لكانت جميعكم. والمعنى في الآية يرشد إلى معنى الجماعة على إمام، لا على أكثر من إمام لكي لا تتفرقوا.
ثم إن هناك أحاديث تفيد الوحدة السياسية بشكل صريح وهي كثيرة أذكر منها:
• "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما".
• "من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإذا جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر". وفي رواية "فاضربوه بالسيف كائناً من كان".
إن مفهوم الجماعة في المصطلح الشرعي يفيد معنى الوحدة بشكل صارم لأن الجماعة تعني المسلمين الذين بايعوا إمامهم، فالجماعة فيها ثلاثة عناصر هي: أ- المسلمون. ب- الإمام. جـ- البيعة.
ومن الأدلة التي تبين تلك المعاني للجماعة ما جاء في حديث حذيفة الذي رواه مسلم عندما سأل الرسول e عن الشر مخافة أن يدركه أجابه الرسول e بالجواب القاطع وهو: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم". وما رواه النسائي وابن ماجة عن عمر t أن الرسول e قال: "فمن أحب منكم أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة". وما رواه أحمد والترمذي والنسائي عن الحارث الأشعري عن الرسول e قال: "من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلى أن يرجع". وروى الدارمي عن عمر t قوله: "يا معشر العريب الأرض الأرض إنه لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بطاعة". وما رواه الطبري عن سعيد بن زيد t قوله عن الصحابة: "كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة"، فمدلول لفظ الجماعة صريح في إفادته لمعنى وحدة المسلمين حول إمام واحد مبايع.
والدار داران: دار الإسلام وهي الدار التي يطبق فيها نظام الإسلام وأحكامه ولو كان جل أهلها من غير المسلمين. ودار الكفر وهي الدار التي يطبق فيها نظام الكفر وأحكامه ولو كان جل أهلها من المسلمين.
ودار الإسلام داران: دار عدل، وهي الدار التي بويع فيها الخليفة بيعة شرعية صحيحة على كتاب الله وسنة رسوله. ودار البغي، وهي الدار التي بويع فيها خليفة آخر بيعة غير صحيحة على كتاب الله وسنة رسوله.
والعلاقة بين الجماعة والدار أن الجماعة التي هي إمام بايعه المسلمون على الخلافة تكون في دار الإسلام ودار العدل.
وأدلة الدار كثيرة منها ما أورده الماوردي في الأحكام السلطانية وما ورد في الحاوي عن الرسول e أنه قال: "منعت دار الإسلام ما فيها وأباحت دار الشرك ما فيها"، وقوله e في الحديث المشهور: "... ثم ادعهم أن يتحولوا إلى دار المهاجرين" ودار المهاجرين هي دار الإسلام، فمعنى دار العدل ودار الإسلام مقترن بالجماعة ومعنى كليهما مقترن بالوحدة السياسية للمسلمين.
إن القومية ليست أساساً شرعياً يجمع المسلمين، فهو أساس يقوم على النعرات الجاهلية والعصبية، والرسول e يقول: "ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية"، وكذلك الوطنية فهي أساس غير شرعي يجمع المسلمين لأنه يعتمد على التراب كأساس جامع لمن يعيش فوقه، وهذا أساس غير فكري بل هو أساس غريزي لا يستند إلا إلى مظهر الدفاع عن النفس في حالة وجود عدو خارجي فلا يصلح للربط في حالة الاستقرار فضلاً عن كونه يخالف الإسلام بوصفه رابطة بين الناس.(/1)
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الجامعة العربية هي فكرة إنجليزية وليست فكرة عربية وأول من دعا لها هو وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن وهي تدل على استمرار تمزيق البلاد العربية وتكريس تجزئتها لأن قانون الجامعة يمنع إلغاء سيادة أية دولة من الدول الأعضاء فيها وبذلك يمنع عملياً وقوع الوحدة فهي بهذا المعنى مفرقة للعرب وليست موحدة لهم. وكذا منظمة المؤتمر الإسلامي فهي تشترط في عضويتها الحفاظ على سيادة الدول المنضوية فيها.
والتجربة العملية من تلك المنظمتين دلَّت ومنذ عشرات السنين على أن الهدف منهما الحيلولة دون وحدة العرب والمسلمين.
فهذه الدول الكرتونية الهزيلة ما هي إلا ثمرة الاستعمار ومخططاته واتفاقات دوله المستعمرة التي كان أشهرها سايكس بيكو وسان ريمو.
فهذه الدول القائمة في العالم الإسلامي والتي تزيد عن السبع وخمسين دولة هي نتاج طبيعي للأفكار القومية والوطنية وللمنظمات الإقليمية المفرقة للمسلمين والمانعة من وحدتهم.
ومن الأمثلة على ذلك ما تقوم به البلدان الإسلامية ومنها العربية من ترسيم الحدود وآخرها الدعوة إلى ترسيم الحدود بين الأردن وسوريا، ما يعني تثبيت الحدود إلى أبد الآبدين بحسب وجهة نظر الذين يقومون بالترسيم بمعنى أن الوحدة بين هذه الدول تصبح في دائرة المستحيلات.
فالغرب الذي يكرس التقسيم في بلدان المسلمين تتوحد دوله برغم جميع الصعاب كما حصل مع توحيد الألمانيتين بعد سقوط جدار برلين في لحظات، والسير في توحيد أوروبا عبر الاتحاد الأوروبي، بينما في بلاد المسلمين يثيرون مشاكل الحدود وترسيمها وتفريق المسلمين عن بعضهم البعض بشكل دائمي.
والأصل في هموم المسلمين أن تكون واحدة والشرع الإسلامي الحنيف قد وحَّد بالفعل هذه الهموم بينما الاستعمار وأفكاره هو الذي أوجد التعدد في الهموم والتعقيد في الاختلافات بين الأمة الواحدة وحتى الشعب الواحد.
يقول e: "من أصبح وهمه غير الله فليس من الله ومن أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم". وقد علَّمنا e أن النصح لكل مسلم هو شطر الإسلام وذلك للدلالة على وحدة المسلمين ووحدة همومهم. فعن حرير بن عبد الله قال أتيت النبي e فقلت: "أبايعك على الإسلام فشرط عليّ والنصح لكل مسلم". ويقول عليه الصلاة والسلام: "ما من عبد استرعاه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة".
بينما في المقابل نجد أن الأقطار الإسلامية ينأى قادتها العملاء عن الوحدة والتوحد على أساس الإسلام، ويبتعدون عن توحيد الهموم الإسلامية كما وحَّدها الرسول e فنسمع في كل بلد عن هوية وثقافة وتراث ومميزات حضارية تفتعلها الطغمة الحاكمة في تلك البلدان فأصبحوا ينادون بالأردنة واللبننة والمصرنة والجزأرة و...ألخ
إن الإطار السياسي الجامع الموحد للمسلمين هو دولة الخلافة ولا يوجد إطار سياسي غيرها وتعرف الدولة "بأنها رئاسة عامة للمسلمين جميعاً في الدنيا لإقامة أحكام الشرع الإسلامي وحمل الدعوة إلى العالم" وإقامتها فرض عظيم وهو أمر محتم لا تخيير فيه ولا هوادة، والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي يعذب عليه الله سبحانه أشد العذاب.
يقول e: "من خلع يداً من طاعة الله لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"، ويقول: "من خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية"، فهذان الحديثان وكثير غيرهما يدلان بصورة قاطعة على وجوب إيجاد من يبايع وحرمة الخروج على السلطان وهو الحكم الإسلامي المتمثل بدولة الخلافة.
وهذا ما تدل عليه الآيات: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ{ وهذا يعني أنه يجب العمل على إيجاد ولي الأمر لأنه لا طاعة لمن لا وجود له وولي الأمر هو الخليفة وليس الملك أو رئيس الجمهورية، وقوله تعالى: }وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ{ والحكم بما أنزل الله لا يتحقق إلا بالخلافة، والتي هي الإطار السياسي الذي يجمع المسلمين في وحدة سياسية.
وعن أبي هريرة عن الرسول e يقول: "الإمام جُنة يُقاتل من ورائه ويُتقى به" وهذا يدل على وجوب وجود الإمام لكي يوجد الجُنة والوقاية التي يتقي بها المسلمون من غدر الكفار وتآمرهم.
ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم انشغلوا بالبيعة على دفن الرسول e مع أهمية دفن الميت وهو في هذه الحالة ليس أي ميت وإنما هو الرسول e. وفي ذلك أبلغ دليل على إقامة الخليفة بالبيعة واستمرار توحيد المسلمين في إطار الخلافة.(/2)
وأخيراً فإن وجوب توحيد المسلمين بدولة الخلافة أمر واجب وأمر يتعلق بإيجاد واجبات كثيرة تتعلق بالحياة الإسلامية بشكل شامل والقاعدة الشرعية تقول: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". ولذلك أصبح من أوجب الواجبات العمل لإقامة الخلافة بوصفه عملاً يؤدي إلى توحيد المسلمين سياسياً وهو توحيد واجب كما بيَّنت الأدلة وإقامة الخلافة واجبة كذلك.
وأما عن الأقليات وحقوقهم في دولة الإسلام والذي لا يتعارض مع وحدة المسلمين السياسية فالله سبحانه وتعالى يقول: }وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ{ ويقول: }وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ{ ويقول: }وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ{، ويقول الرسول e في الصحيفة: "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة"، ويقول: "من قتل نفساً معاهدة لها ذمة الله ورسوله فقد أخفر ذمة الله ولا يرح رائحة الجنة" وقتل الرسول e مسلماً لأنه قتل يهودياً وقال: "نحن أحق من أوفى بذمته".
وصالح الرسول e أهل نجران وجاء في وثيقة الصلح: "على أن لا تُهدم لهم بيعة ولا يُخرج لهم قس ولا يُفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا ربا"، ومرض غلام يهودي كان يخدم رسول الله e "فأتاه النبي يعوده" وقال علي كرَّم الله وجهه عن أهل الذمة: "إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا"، وأوصى عمر t بأهل الذمة خيراً فقال في وصيته عند موته: "وأوصي الخليفة من بعدي بكذا وكذا وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله e وأن يُقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم".
ونهى الرسول e عن فتنتهم عن دينهم فقال: "من كان على يهوديته ونصرانيته فإنه لا يُفتن عنها" وهذا نظير قوله تعالى: }لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{. وسُئل زياد بن حدير من كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلماً ولا معاهداً. قلت: فمن كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم.
وخلاصة الكلام عن الأقليات أنهم أهل ذمة لنا، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، بمعنى أن لهم ما لنا من الإنصاف وعليهم ما علينا من الانتصاف، ونحن بوصفنا مسلمين في دولة الإسلام نضمن لهم خمسة حقوق رئيسية وهي:
1- حق الرعوية.
2- حق الحماية.
3- حق ضمانة العيش.
4- حق المعاملة بالمثل.
5- حق الرفق واللين.
وبضمان هذه الحقوق وبعدلهم وإنصافهم فلا أظن أهل الذمة يمكن أن يجدوا أريحية في العيش كما يجدوها في ظل دولة الإسلام، ولا تستطيع أية دولة في العالم أن تضمن لهم مثل هذه الحقوق كما تضمنها الدول الإسلامية.
وكل هذه الحقوق التي يتمتع بها الذمي في دار الإسلام لا يقابلها إلا الامتثال لأحكام الشرع الإسلامي ودفع الجزية وهو بعد ذلك مخير أن يقاتل مع المسلمين براتب أو لا يقاتل.
فالذمي يملك التابعية للدولة الإسلامية كما يملكها المسلم فجميع المزايا التي يتمتع بها المسلم بفضل هذه التابعية يتمتع بها الذمي. أما إن أحدث حدثاً أو أكل الربا أو تعامل مع الكفار فلا ذمة لمن فعل ذلك وعليه أن يواجه العقوبات العادلة بحقه.
وخلاصة القول: إن من يتذرع بصعوبة وحدة المسلمين السياسية بسبب وجود الأقليات فذريعته واهية وحجته ساقطة والأقليات عاشت عملياً في كنف الخلافة الإسلامية لمدة زادت عن الألف عام ولم يشكو أحد منهم ولم يتحدث أحد عن الوحدة السياسية للمسلمين بالسلب والجميع شارك المسلمين في تمتين هذه الوحدة.
فعلى أهل الذمة أن يطالبوا بعودة الخلافة كما يطالب بها المسلمون حتى يعود الحق إلى نصابه وينتشر العدل في ربوع البلاد الإسلامية بلا فرق بين مسلم وغير مسلم.
والمطالبة بعودة الخلافة الإسلامية تعني تلقائياً المطالبة بوحدة المسلمين ووحدة أقطارهم في دولة واحدة، فالوحدة السياسية للمسلمين مقترنة بإقامة الدولة الإسلامية وبإقامة الدولة الإسلامية توجد الوحدة السياسية للمسلمين.(/3)
وحدة الهدف ... رؤية مشتركة
مفكرة الإسلام : يشعر الإنسان بالرضا والسعادة الحقيقة حين يرى من هو بجانبه دائمًا يشاركه أهدافه، يشاركه أفراحه وأحزانه، ولا يتخلى عنه، فالحياة الناجحة تقوم على الأخذ والعطاء، وعلى الحب وعلى الاطمئنان إلى أن هناك من يساند الإنسان ولا يمكن أن يتخلى عنه مهما كنت الظروف.
وكما أن الزواج شركة فلابد لهذه الشركة من أهداف مشتركة، والزوجة المؤمنة الصالحة هي التي تشارك زوجها في وضع أهدافه وفي وصوله لهذه الأهداف، وتشارك زوجها في أفكاره ومبادئه، وتحاول أن تكون على مستوى اهتماماته، فما أجمل أن يعيش الزوجان لهدف واحد وأن يتطلعا لآمال مشتركة وأن تحتويهما منظومة فكرية واحدة، كلٌ يخدمها بطريقته.
أما المرأة التي تعيش في وادٍ وزوجها في واد آخر، لا تهتم بتطلعاته وآماله وطموحاته ولا بطريقة تفكيره، ولا تشاركه أفكاره ومبادئه، فأنى لهذه الزوجة أن تعرف معنى السعادة الحقيقية، وأنى لها أن ترى إنجاح زوجها هدفا أو تستشعر معانيه ، وهو إن نجح فنجاحه في مثل هذه الحالة يمثل نجاحًا فرديًا مبتورًا، فالنجاح الحقيقي هو ما يجني المرء من وراءه السعادة في نفسه وبيته ومجتمعه وكذلك في الدنيا والآخرة.
أنواع الأهداف
أيها الزوجان يقسم علماء الإدارة الأهداف إلى نوعين:
1ـ أهداف استراتيجية أو كلية: وهي الأهداف ذات الأجل الطويل والتي تحتاج إلى زمن أطول لتحويلها إلى واقع عملي ملموس في الحياة.
2ـ أهداف تكتيكية أو جزئية أو مرحلية: وهي الأهداف ذات الأجل القصير والتي تحتاج إلى زمن محدود لتنفيذها، وتكون جزءًا من الأهداف الاستراتيجية بحيث تؤدي إليها في النهاية.
ولا شك أن الهدف الاستراتيجي الأكبر لكل مسلم ومسلمة هو الفوز برضوان الله تعالى والجنة، وهذا الهدف الكبير يتحقق ويترجم في كافة مجالات حياة الإنسان وجوانب معيشته بحيث يحقق المسلم فيه قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[1] وبذلك تتحول حياة الإنسان كلها ولحظات عمره إلى سلسلة لا تنتهي من الإنجازات التي تصب في مصب إرضاء الله تعالى.
أعزائي الزوج والزوجة:
إن من علامات الزواج الناجح أن يكون للزوجين أهداف مشتركة يسعيان لتحقيقها، هذه الأهداف قد تكون أهداف دينية أو أهداف علمية:
أهداف دينية: وهي كما ذكرنا إرضاء الله تعالى عن طريق إتباع منهجه وعدم مخالفة أمره وابتغاء الأجر والمثوبة في كل عمل يعمله من أمور الدنيا.
أهداف علمية: كإتمام الدراسة، أو تعلم العلوم الشرعية أو ..، والناس مختلفون فقد يود هذا أن يكون مهندسًا ناجحًا، وذاك يريد أن يصبح رجل أعمال ناجح وآخر يريد أن يكون عالمًا فقيهًا .. وهكذا.
وتحديد الهدف بدقة ووضوح أمر هام بالنسبة لكل إنسان، والذي لا يضع هدفًا أمامه يسعى لتحقيقه فلن يكون ناجحًا متميزًا.
استراتيجية نضح الماء:
هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: 'رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ أهله فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء'[2].
ما أجمل أن تُبنى البيوت على طاعة الله، والتواصي برضاه، وما أروع أن يحث الزوجان بعضهما على فعل القربات والتحلي بكريم الصفات.
فكما تحث الزوجة زوجها على السعي في الدنيا لتحصيل الرزق وزيادة الكسب، فعليها كذلك حثه على الطاعة والخير .. وإني لأسأل الزوجة المسلمة.
هل تحثين زوجك على الصدقات؟
هل تذكرينه بصلة الأرحام؟
هل تدفعينه لبر الوالدين؟
هل تدفعينه للكسب الحلال؟
أين المرأة التي كانت تقول لزوجها عند خروجه من بيته للعمل:
اتق الله فينا ولا تطعمنا حرامًا فإنا نصبر على الجوع في الدنيا ولا نصبر على النار في الآخرة؟
فالزوجان أصحاب الأهداف المشتركة يذكر كل واحد منهما الآخر بطاعة الله، والهدف الكبير في حياتهما، وتكون كل أعمالهما لتحقيق هذا الهدف، ولا يشغلهما المال أو الأولاد عن هدفهما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9].
قمة السعادة:
إن السعادة هي والله في طاعة الله والتقوى والرضا بما قسم الله لنا في هذه الدنيا والاستعداد للآخرة، إن السعادة في مسح دمعة يتيم أو تفريج كربة عن معسر أو مساعدة محتاج. قمة السعادة في من أطاع الله واتقاه إذ ربح الدنيا والآخرة ومن عصى الله وخالف أوامره خسر الدنيا والآخرة قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
ولله در القائل:
ولست أرى السعادة جمع مال
وتقوى الله خير الزاد ذخرًا
... ... ولكن التقي هو السعيد
وعند الله للأتقى مزيد(/1)
ولا يفهم من هذا أن يصلي الإنسان ويكون طيب القلب ويفعل الصالحات ويؤدي العبادات، وفي الوقت نفسه تجده كسولا خاملاً غير جاد في عمله وسعيه وطلب الرزق والحرص علىالمزيد من التقدم العلمي والوظيفي في مجالات حياته المختلفة.
كلا فالمشهد لا يلزم منه تنافى الاثنان ولكن المطلوب الجمع بينهما والتوازن بين العبادة وبين العمل والسعي في الأرض طلبًا للرزق وأيضًا طلبًا للعلم.
والرؤية المشتركة في وحدة الهدف بين الزوجين هي اتفاق الزوجين على المسلك الشرعي في حياتهما وفي علاقتهما، وأيضًا العمل الدعوي، والعمل الخيري، وأيضًا الطموح العلمي وتعلم الجديد وما يناسب العصر في حدود الشرع.
فنجد الزوج يتعلم ويعلم زوجته ويحتسب كل أعماله مع زوجته حتى اللقمة يرفعها إلى فيّ زوجته والزوجة أيضًا تعرف لزوجها قدره الذي عظمه الإسلام، وتقوم بحقوقه من باب أن هذه الحقوق عبادة تتقرب بها إلى الله تعالى لا على أنها حقوق مجردة.
وذلك يكون سببًا من أسباب المودة والسعادة بين الزوجين وإن كان للزوج طموح علمي فعلى الزوجة أن تدفعه للنجاح وللمزيد من التقدم العلمي، وأيضًا نقول للزوج لا تقف حجر عثرة أمام طموح زوجتك العلمي أو الدراسي أو الوظيفي فكم سمعنا وقرأنا عن نماذج رائعة من الأزواج اتفقا قبل الزواج على إكمال الدراسة، وقد تم بالفعل بعد الزواج، وإن مر على هذه الرؤية المشتركة سنوات من عدم التحقيق وهذه الرؤية المشتركة بين الزوجين وهي أهمية أن تكون الزوجة متعلمة ومثقفة؛ لأن ذلك يعود بالنفع على أولادهما وأسرتهما، هذه الرؤية تدخل في الأهداف العلمية للزوجين، وليتأكد الزوجان أن وحدة الأهداف بينهما هي علاقة لنجاح العلاقة الزوجية؛ والتي يقطف ثمارها الجميع الزوج والزوجة والأولاد والعائلة والمجتمع بأسره.
وإلى أسرة تمر عليها السنون وهي في تنامي مستمر للأهداف المشتركة وتفاعل فاعل مع واقعها إلى مثل هذه الأسرة نطمح وبصورتها نتعلق وإليها نسعي فهل من مشمر!! يا من بدأتما الطريق لا تنسيا كلاكما وحدة أهدافكما ومن بارك الله في زواجكم ومد عمره أعيدوا الذكريات وانفضوا الغبار عن الكواهل وجددوا الأهداف وانطلقوا.
وإلى لقاء قريب بإذن الله في حفظ الله ورعايته ونعمته نترككم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
---------------
[1] [الأنعام:162]
[2] [رواه أبو داود](/2)
وخُلِق الإنسانُ ضعيفاً
سامي بن عبد العزيز الماجد 11/8/1426
15/09/2005
من الضعف خُلقنا وإليه نُردّ، ونحن فيما بين ذلك كذلك...صور من الضعف تتقاسمُها الأجسادُ والنفوسُ، فالأجسادُ تعترضُها الأمراض، إن أخطأتها لم يُخطئها ضَعفُ الهَرَم، يردها إلى أرذلِ العمر، والنفوس تعتريها غفلةٌ أو يسمُّها طائف من الشيطان، يدرك الإنسان لحظتها: كيف أنه مُطوَّقٌ بالضعف من كل جانب، ويرى كيف تتجلّى عظمة الخالق وقوتُه أمام عجزِه وضعفه.
ومن الضعف صورةٌ لا يواري الإنسان ولا يداري أن يُظهِرَ فيها ضعفَه وافتقارَه وحاجتَه... إنها حالة المرض، عارضٌ يُنهِك البدنَ ويضعِفُه؛ فتضعفُ معه النفس، ويذهب عنها كبرياؤها، وينطفئ طغيانُها، وتتهاوى أمامه أوتادُ القوة المزعومة، فتعودُ النفسُ سيرتَها الأولى، إلى فطرتها التي تنكّرتْها بكبريائها وطغيانِها، ووارتْها بأوهام القوّة؛ لتدِبَّ فيها أعراضُ الضعف من جديد.
المرض ضعف يُنهِكُ البدن حتى يتركه هزيلاً، ولكنه لبعض القلوب قوةٌ يَصقُلها بالإيمان، ويردُّها إلى الفطرة، ويوقظُها من الغفلة، وينفي عنها خبَثَ الشبهات والشهوات، ويزيل من فوقها رُكامَ التيه والغفلة.
وتسارع النفسُ عند اعتلالها إلى التوبة سراعاً لا يخطئ بابها، ذاك البابُ المفتوحُ الذي ضلت عنه كثيراً في سِنيِّ العافية، فها هي توفض إليه سِراعاً بعد أن كانت تصدف عنه صدوفاً.
ليس عيباً أن يُظهرَ العبدُ ضعفَه عند مرضه...ليس شيء من هذا معيباً؛ فإظهار ذلك انكسار وانطراح بين يدي الله، فتلك حالة يحبها الله من عبده. ولكن أن يدع هذا التضرعَ، ويترفّعَ عن هذه المسكنة، ويتنكر النعمة إذا كشف ربّه عنه ضُرَّه، وسرّي عنه ما كان يجد؛ كأن لم يُصبْه مرضٌ قط، وكأن لم يَدعُ ربَّه ساعة فهذا هو الممقوت (وإذا مس الإنسان الضرُّ دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً، فلما كشفنا عنه ضرَّه مرَّ كأن لم يدعنا إلى ضُرٍّ مسّه، كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون).
قَلَّ من يتذكر في إبان صحته أن ثمةَ ضعفاً، وأن هناك عجزاً، فساعات الرخاء تُنسي، والإحساسُ بالغنى يطغي، ثم يمسه الضر فإذا هو جزوع هلوع، وإذا هو ذو دعاء عريض، ضيق بالشدة مستعجل للرخاء. حتى إذا كشف الله عنه ضُرَّه وأجاب دعوتَه ولى مدبراً، ولم يعقب، وعاد إلى ما كان عليه من قبل من غفلة وإعراض.
يتزعم بعض الناس أفكاراً فاسدة نحسب أنهم فيها على درجة اليقين، ثم تبدي الأيام أن كثيراً مما يتزعمونه لم يكن سوى هوًى مدفوع بشهوةٍ، مخلوط بشبهة، إذ مسَّه مرض مخوف فتهاوى، وترك قلبه صلداً من كل هذا الركام والران، وردّ نفسه إلى فطرتها الأولى... إلى الإيمان بالله، وتصديق رسالاته، وانقشع عنه غمامُ الشُبَهِ، وانزاحت عن عقله فلسفاتٌ ضالّة وآراءٌ فاسدة.
ويحدثنا التاريخ عن شواهد كثيرة في ذلك، لا عن عوام يقلدون ويُخدعون، بل عن مفكرين عظماء، وفلاسفةٍ أذكياء، أرهقهم ذكاؤهم حيرةً وضلالاً، فهداهم إلى الحق مَسٌ من مرضٍ مخوف، أذهب عنهم رجس الشيطان، وربط قلوبهم بالكريم الرحمن، وهداية في ضراء خيرٌ من ضلالةٍ في سراء.
وهذا شاعرٌ من شعراء العصر الحديث، خاض متاهات كثيرة وتقلّب بين أفكار خبيثة، استهوته حياة اللهو والعبث فعاش بعيداً عن هدي الإسلام، فسبقت إليه رحمة الله، فأُصيب بمرض عُضال كان الجسرَ الذي عبر فوقه إلى الهداية. حينما أحس بدبيب المرض في جسمه راح يبث شكواه لربه محسناً به الظن، ذاكراً لأنعُمه التي كانت تترى عليه من قبل وهو في غفلة، وقاوم المرض بنفس يغلبها حسن الظن بالله، والصبر والرضا، وقصد الباب الذي كان يمرّ به، ولا يقف عنده. بابَ الله الذي لا يُغلق لطالب، وجثا على أعتابه يبثّ عنده همومه، ويشكو إليه آلامه المبرّحة، ذاكراً لأنعمه، راجياً، ضارعاً، متسامياً في شكواه، وفي وهْدة المرض بدأت تنزاحُ عنه التصورات المختلطة المضطربة، ويتألق في قصيدةٍ رائعة يصوِّر لنا فيها تصوّراً ناصعاً يكشف كيف تفيض الفطرة السوية في لحظات المحنة.
وفي أعطافها دعوة لكل غاوٍ شرد بعيداً عن دروب الهدى كي يؤوب إليه ربه، متطهراً من التصورات الضالّة، وسيجد الأبواب مفتوحة للتوبة. وقصيدته مناجاة لله سبحانه، يستهلها بالحمد ليكون شافعاً بين يدي الشكوى، ويرسم فيها صورة الألم، ولكن مقروناً بالصبر والتجلد، تفيض بمشاعر إيمانية، يمتزج فيها الصبر بالشكر، يقول الشاعر:
لك الحمدُ مهما استطالَ البلاءُ
ومهما استبدَّ الألم
لك الحمد إن الرزايا عطاء
وإن المصيباتِ بعضُ الكرم
ألم تعِطني أنت هذا الظلام
وأعطيتَني أنت هذا السَّحَر
فهل تشكرُ الأرضُ قَطْرَ المطر
وتغضبُ إنْ لم يجدْها الغمام
**
شهورٌ طِوالٌ وهذي الجراحُ
تُمزِّق جَنْبي مثلَ المُدى
ولا يهدأ الداءُ عندَ الصَّباح
ولا يمسحُ الليلُ أوجاعَه بالرَّدى
ولكنَّ أيّوبَ إنْ صاحَ صاح
لك الحمدُ إن الرزايا نَدى
وإنَّ الجراحَ هدايا الحبيب
أَضمُّ إلى الصدر باقاتها
هداياكَ في خافقي لا تَغيبُ(/1)
هداياك مقبولةٌ هاِتها(/2)
400 – وداع رمضان
22/9/1425هـ
nالحمد لله القائل{}، والصلاة والسلام على رسول الله
nأيها الاخوة: ما أقصر الأيام، وما أسرع مرورها وانقضائها، بالأمس كنا نتحرى للدخول، وبعد أيام نتحرى للخروج، وهكذا سنة الله اقتضت، أن تكون نهاية لكل من له بداية، وصدق الله {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
n أيها الإخوة: هاهو شهرنا الكريم وضيفنا العزيز قد آذن بالرحيل، بعد أيام معدودة سيرحل رمضانُ ويذهب إلى ربه ليكون حجة وشاهداً لبعضنا، وحجة وشاهداً على بعضنا ، نعم حجة وشاهداً لمن صاموا فاحسنوا الصيام، ولمن قاموا فأحسنوا القيام، ولمن بذلوا فأحسنوا العطاء، ولمن عرفوا قدر رمضان فاستغلوا الأوقات، وحجة وشاهداً على أولئك المفرطين، الذين صامت أجسامهم ولم تصم أرواحهم، أولئك الذين لم يكن حظهم من الصيام إلا الجوع والعطش، أولئك الذين زهدوا في الأجر فلم يكترثوا بأبواب الخير المشرعة في رمضان، غلت أيديهم عن الإنفاق فبخلوا، وأغراهم الشيطان – وهو مسلسل- فسهروا على المحرمات، سماعاً ومشاهدة، فاستحقوا دعاء جبريل عليهم بالرغام والإبعاد. (ورغم أنف امرئ أدرك رمضان حتى انسلخ فلن يغفر له.)
n إذاً الناس في رمضان، إما محسنون وإما مفرطون، فياليت شعري من ذا من ذا، من هذا السعيد فنهنيه ومن ذاك الشقي فنعزيه؟؟! أما المحسنون فهم فرحون مستبشرون نسوا ألم الطاعة، نعم نسوا ألمَ الجوعِ والعطش بالنهار، وألمَ الظهرِ وتورمَ الأقدامِ من طولِ القيام بين يدي الرحمن وهم يراوحون بين أقدامهم، نسوا كلَ ذلك، وبقي الأجر لهم مدخوراً، بعكس من عصى، فقد ذهبت لذتها وبقي ألمها يحرق قلبَ صاحبها.
n يا أيها المحسنون: هنيئاً لكم اليوم وهنيئاً لكم غداً، يوم يقال لكم: {كلوا واشربوا بما أسلفتم في الأيام الخالية}، هنيئاً لكم يوم يقال لكم: {إن هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً}، هنيئاً لكم يوم يقال لكم: {وتلك الجنةُ التي أورثتموها بما كنتم تعملون*لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون}، هنيئاً لكم يوم يقال لكم:{ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون}،
n وياغبطتكم يوم تقولون:{الحمد لله الذي صدقنا وعده}، وياغبطتكم يوم تقولون:{الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن..}، وياغبطتكم يوم تقولون:{أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى}، وياغبطتكم يوم تقولون:{إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين}، وياغبطتكم يوم يقول قائلكم:{هاؤم اقرؤوا كتابي*إني طننت}
n يا آيها المحسنون الصادقون لمثل هذا فليعمل العاملون ، يقول علي t : ألا إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فاليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل.
غداً توفى النفوسُ ما عملت***ويحصدُ الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم***وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
أسال الله بكرمه ومَنّه أن يجعلنا من هؤلاء السعداء.
n أيها الإخوة: وآخرون مفرطون، فرطوا في سائر الأيام، ولم يرعوا في رمضان، بل زاد غيهم، وربما انتهكوا محارمه ولياليه الشريفة المباركة، فكان حجةً عليهم، ما زادهم عن الله إلا بعداً، ولكتابه إلا هجراً، استثقلوا القربات وتلذذوا المعاصي، أقسم غيرَ حانث -إن شاء الله- أن من فرط في رمضان فهو في غيره أشد تفريطاً ولابد، أما يخشى هؤلاء المفرطون أن يقال لهم:{أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير}قال ابن عباس: ستون سنة، وقال الحسن: أربعون سنة، وقال قتادة - رحمه الله: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نعيَّرَ بطول العمر، أما يخشى هؤلاء المفرطون أن يقال لهم{ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون}
n ياأيها المفرط أيسرك أن تكون من المعيَّرين بعدم العقل؟ أما قرأت قوله تعالى:{ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين}-وعبادته اتباعه-وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم*ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون }،
n يا حسرةَ المفرطين ويا ندامتهم يوم يقولون{ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمونا}، يا حسرتهم ويا ندامتهم يوم يقول قائلهم:{رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}،
n يا حسرتَهم ويا ندامتهم يوم يقول قائلهم{رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت}يقول قتادة: والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنيةَ هذا المفرط فاعملوا بها.
n يا حسرتَهم ويا ندامتهم يوم يقرون بحماقتهم {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}يقول الله:{فاعترفوا بذنبهم فسحقاً..}(/1)
n يا أيها المفرط في رمضانَ وسائرِ أيامه إن تفريطَك يقودك إلى هذا المصير، قل لي بربك إذا كان هذا الجو الإيماني والشياطين مسلسلة لم يحملك على وصل حبالك بربك ، فمتى سيكون ذلك وما هو الظرفُ المواتي للتوبة النصوح، أم أنك تنتظر ذلك اليوم الذي يحال بينك وبين التوبة، {وحيل بينهم وبين ما يشتهون}، أيسرك أن تكون من القائلين{رب أخرني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين}
يا نفسي كُفِّي عن العصيان واكتسبي**فعلاً جميلاً لعل اللهَ يرحمني
يا نفسُ ويحَك توبي واعملي حسناً **عسى تُجَازَين بعد الموت بالحسن
n أعوذ بالله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}،
n أيها الإخوة الموفقون للطاعة في رمضان : لقد وصف الله أهل الطاعة الصادقين قبلكم بقوله:{والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}، ففي المسند وغيره أن أمة المؤمنين عائشة t سألت رسول الله عن هذه الآية، فقالت يا رسول الله أهم الذين يذنبون وهم مشفقون؟ فقال: ( لا يا بنت الصديق، لا بل هم الذين يصلون وهم مشفقون، ويصومون وهم مشفقون، ويتصدقون وهم مشفقون أن لا يتقبل منهم)والله إنه لأمر عجب، الصادق يعمل العمل الصالح وتجده خائفاً، والمفرط يعمل المعاصي وتجده آمنا، إذا الخوفُ والوجلُ أول علامات الصدق، لا العجب والغرور، فهو أول مبطلات العمل.
n أيها الإخوة: يا من وفقكم الله للاستفادة من رمضان بالاستقامة على أمره ونهيه، إن هذه نعمةٌ عظيمة، والنعم تدوم بالشكر، {لئن شكرتم لأزيدنكم}، والشكر الحقيقي هو الشكر العملي، لقد عرفتم شكر نبينا، لقد كان شكره عجباً، فبعد أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قام حتى تفطرت قدماه ليس في رمضان بل في سائر الأيام، ولما سألته أم المؤمنين عائشة t قال: أفلا أكون عبداً شكوراً. فيا أيها المستقيمون في رمضان أدوا شكر هذه النعمة بعد رمضان، بالمحافظة على استقامتكم، أثبتوا لربكم ثم لأنفسكم أنكم صادقون في هذه الاستقامة ، وأنكم إنما تعبدون الله قناعة لا عادة، وأنكم تعبدن رب رمضان لا رمضان.
n اعلموا أن الذي دعاكم للاستقامة في رمضان هو الذي أمركم بالاستقامة في شوال وفي سائر الشهور والأيام، فقال تعالى:{فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا}، وقال:{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} قال الحسن: لم يجعل الله للعبادة أجلاً دون الموت، لقد تعودنا الصلاة جماعة مع المسلمين في بيوت الله فلماذا ننكص على أعقابنا بعد رمضان فنصيرُ من المتخلفين ، لقد تعودنا الصيام فلما نستثقل صيام التطوعات، وما أكثرها ولو أيام البيض من كل شهر فذلك صيام الدهر، ولقد تعودنا قراءة القرآن بل وختمه مرات فلما نهجره بعد رمضان ؟ هلا جعلنا لأنفسنا ورداً يوميا مهما كان قليلاً، فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلت؛ كلام رسول الله e لقد تعودنا الإنفاق وبذل المعروف فلما نضن بأموالنا عن حاجة إخواننا، مع أن ما ننفقه هو الباقي لنا وما ندخره هو الذاهب، كما قال e ( أيكم مالُ وارثه أحبُ إليه من ماله؟! فإن مالُه ما قدم ومالَ وارثه ما أخر)نسأل الله الثبات ونعوذ بالله من الحور بعد الكور.
n أيها الإخوة: إن هذه الأيام الباقية هي زبدة الشهر وخلاصته، وفيها ليلة القدر خير من ألف شهر، من حرمها هو المحروم حقاً، عن أنس قال دخل رمضان، فقال رسول الله e إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم، (من قام ليلة القدر). وكان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر، فيحي الليل ويعتزل الناس يتحراها ويلتمسها ، وقد حثنا أن نتحراها في الوتر من العشر، وأخفاها الله لنجتهد في تحريها، ومعنى تحريها ليس كما نعمل محاولة معرفة أي ليلة هي فقط، بل تحريها بالعمل الصالح والاجتهاد، لعل الواحد فيها أن يوافقها وهو على عمل صالح، ويستحب أن يكثر من قول: اللهم إنك عفو تحب العفو، لوصية الرسول لعائشة t . ومن السنن المندثرة التي كان رسول الله يلزمها في رمضان سنة الاعتكاف، وهو لزوم المسجد والانقطاع في خلوة مع الله، يقرأ كتابه ويتفكر في مخلوقاته ويتأمل في عظمته، ويلهج لسان بالذكر والتسبيح..لا الكلام والسواليف كما يفعل بعض المعتكفين.
n(/2)
وديعة الله
كان فتى من أبناء التجار، بارع الفتوة واسع الغنى، قد جمعت له اللذائذ، وسيقت إليه المنى، دكانه البحر تنصب فيه جداول الذهب، وداره الجنه تجري من تحتها الأنهار، وفيها الحور العين، خمسون من الجواري الفاتنات اللائي حملن إلى بغداد من أقطار الأرض وحشرن فيها، كما تحمل إلى مخدع العروس كل وردة فاتنة في الروض، وزهرة جميلة في الجبل.
ولكنه لم يشعر بنعيم الحياة، ومعتة العيش، حتى اشترى هذه الجارية بمخمسمئة دينار وكان قد رآها في سوق الرقيق فرأى جمالا أحلا من أحلام الحب، وأجمل من بلوغ الأماني، وأطهر من زنبقة الجبل، فهام بها هياماً، وزاد فيها حتى بلغ هذا الثمن، وانصرف بها إلى داره، وهو يحسب أنه قد حيزت له الدنيا، وأمتع بالخلود، واشتغل بها وانقطع إليها، ولم يعد يخرج إلى الدكان إلا ساعة كل يوم ثم لا يستطيع أن يصبر عنها؛ ويزلزله الشوق إليها، وتدركه هواجس الحب فيغار عليها، لا من الناس فما يصل الناس إليها، بل من الشمس أن تلمحها عين الشمس، ومن النسيم أن تلمسها يد النسيم، ويشعر بهذه الغيرة المحرقة في قلبه، فيهرع إليها ليطفئها بلماها.
لقد صار هذا الحب مصدر لذته، وسر حياته، وما كان يدري من قبله ما اللذة وما الحياة، وما كان يحس أنه يعيش حقاً، وأن له قلباً، وما كان يدرك من قبله بهاء النهار، ولا فتنة الليل، ولا سحر القمر، كان ذلك عنده كالألفاظ بلا معنى، يفهم منه ما يفهمه الأعجمي إذا تلوت عليه غزل العرب؛ فلما عرف الحب أدرك أن وراء هذه الألفاظ معاني تهز الفؤاد، وتستهوي القلب. وكان يمشي في طريق الحياة كما يمشي الرجل في المتحف المظلم، فطلع عليه هذا الحب نوراً مشرقاً أراه هذه التحف الفاتنات وهذه الروائع.
وتتالت الأيام، وزاد إقبالا عليها وزاد إعراضاً عن الدكان. وكان يبصر دنياه تدبر عنه، وتجارته تذوب في ضرم هذا الغرام كما يذوب الثلج، وتتبدد كما يتبدد الندى في وهج الشمس، ولكنه لا يكره هذا الحب ولا ينفر منه، ولا يزداد إلا تعلقاً وتمسكاً بأهدابه... وكان كل ما في الحياة من متع، لا يعدل عنده لحظة واحدة من لحظات الوصال، وذهب الأرض كله لا يساوي هناء من هناءات الحب، فكان يترك البائعين والمشترين، ويسعى إليها ليشتري منها اللذاذات والقبل.
وكانت كلما نصحته وأرادته على العود إلى تجارته، قال لها: مالي وللمال؟ أنت مالي وتجارتي ومكسبي، فلا تستطيع أن تفتح فهمها بجواب لأن شفتيه تقيدان فما فلا ينفتح!
وأصبح الرجل ذات يوم فإذا التجارة قد بارت، وباد المال، وذهب الأثاث، وبيعت الجواري،ولم يبق في يده شيء يباع؛ فأقبل ينقض الدار ويبيع أنقاضها، ولم يأس على ذاهب، ولم يحس بمفقد مفقود، فقد كان يلقى الحبيبة، ويجد في حبها غذاءه إذا جاع، وريّه إذا عطش، ودفئه إذا برد، وفغي وجنتيها ما يغنيه عن الأوراد، وفي ثناياها بديلاً عن اللآلئ، وفي ريقها العسل المصفى، وخمره المعتق، ومن ريحها العطر الفواح، وفي صدرها دنياه، ويرى الدار الخالية معها قصراً عامراً، والصحراء روضة مزهرة، والليل المظلم معها نهاراً مضيئاً...
وأثمر الحبق وجاء الحصاد، ولكنه قد خالف موعده، فلم يجيء في الربيع الطلق، ولا في الصحو الجميل، بل قدم في الشتاء الكالح، والأيام القاتمة الدكناء، أيام الفقر والعوز، وأخذها المخاض فجعلت تتلوى من الألم على أرض الحجرة، وما تحتها إلا حصير تقطعت منه الخيوط، وفراش بلي وجهه، وتناثر قطنه حتى اختلط بالتراب... وطال عليها الوجع وهو واقف أمامها يحس أم ألمها في ضلوعه، وأن كل صرخة منها سكين محمّى يحزّ في قلبه، ولكنه لا يملك لها شيئاً، وقالت له بعد أن عجزت عن الاحتمال: إني أموت... فاذهب فاحتل بئيء تشتري به عسلاً ودقيقاً وشيرجاً (دهن السمسم)، اذهب وعجل، فإنك إذا أبطأت لم تجدني.
* * * * * * * * *
وخرج... وصار كالمجنون، أين يذهب والليل قد مالت نجومه؟ والناس نيام في دورهم، ولا يجد من يلجأ إليه، فقد فصله الحب عن الدنيا وصيّره غريباً فيها، ليست منه ولا هو منها، وكذلك يصنع الحب!
وجعل يهيم على وجهه حتى بلغ الجسر، جسر بغداد، وكان الليل خاشعاً ساكناً، والناس قد أمّوا بيوتهم، وأنسوا بأهليهم، وهو الوحيد الشارد، لا أهل له إلا التي خلفها تعاني سكرات الموت، وعجز عن إسعادها؛ ولا دار له إلا هذه الخرب التي فرّ منها.
لقد كانت هذه المرأة حظه من دنياه، وها هي ذي تموت فلا يبقى له دنياه حظ، وكانت هي نورها فلن يبقى له بعدها من نور.
وتصور الوحشة المخيفة، والوحدة المرعبة، التي سيقدم عليها إن ولت عنه هذه المرأة التي كان يعيش بها ولها، زنظر إلى ماء دجلة يجري أسود ملتفاً ببرد الليل، فأحب أن تواريه أحشاؤه، وتراءى له الموت حلواً فيه متعة اللقاء، وأنسة الاجتماع...(/1)
وعاد فذكر آلام الحبيبة وانتظارها، وعجزه عن معونتها وإسعادها، فتوجه إلى الله ودعاه من قلبه صادقاً مخلصاً وقال: ((يا رب، إني أستودعك هذه المرأة وما في بطنها..))، وهمّ بإلقاء نفسه بالماء، وفكر في الموت فوارت صورته أحلام الحب ورؤاه، ولم يعد يرى إلا هذه الهوة التي سيتردى فيها، وتسلق درابزين الجسر فأدركته حلاوة الروح فراح يتصور برودة الماي، ويفكر في الموت هل يأتيه سهلاً هيناً، أم هو سيذيقه العذاب ألواناً، وحاول أن يتذكر ما سمع عن الغرقى، وهل يختنقون عاجلاً أم يبطئ عليهم الموت، وذكّره هذا العذاب بعذاب الله يوم القيامة، أليس الله قد حرّم الانتحار؟ أليست هذه النفس ملكاً لله وحده أودعها جسده أمانة ليستردها متى شاء، ليست له هو ولا يملكها، وليس هو الذي خلقها وأبدعها، وذكر أنه توجه إلى الله واستودعه حبيبته فكيف يلقى الله آثماً ويسأله عونها وحفظها. وتنبه إيمانه فتردد، ووقف... ثم عاوده التفكير في حياته بعد اليوم، وكيف تكون إن ذهبت منها متعة الحب، فرجع إليه يأسه وقنوطه وعزم عزماً مبرماً على الموت وأغمض عينيه، وخفق قلبه من هول ما يقدم عليه، وكاد يقفز ولكن... ولكن قوة لم يطق لها دفعاً، ولم يملك معها حراكاً أمسكت به... تلك هي الصيحة التي أحس بها من بعيد، ثم رآها امتدت حتى بلغت الأفق الذي أطل منه الفجر، والأفق الذي انغمس فيه الليل، ثم غمرت النهر والشاطئين والمدينة... فأحس بها تشرق على نفسه كهذا الفجر فتبدد ليلها، ذلك هو صوت المؤذن: ينادي في صفاء الليل وإصغاء الدنيا، أجلّ وأجمل فداء اهتز به هذا الفضاء ومشى فيه: ((الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله)).
وسمع: ((حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح)) فرأى فيها مجد الآخرة بالعبادة، ومجد الدنيا بالنجاح، وصبّت القوة والعزم في أعصابه فعدل عن الموت، ورجع إلى الدار فرأى فيها نساء من نساء الجيران سمعن صوتها، فجئن إليها، فسألهن عنها، وكانت مغمى عليها فحسبوها ماتت وأخبروه بموتها فلطم وجهه وشق ثوبه، وانطلق ماشياً على غير هدى تقذفه قرية فتتلقاه قرية، يضيفه الناس، وقد كان في الناس سلائق العرب وآداب الإسلام، يضيفون الغريب لا يسألونه من هو ولا يبتغون منه أجراً ولا شكراً، وجعل يطوي الأرض، والأرض تطوي صحائف عمره، حتى حطت به النوى في خراسان.
ولقي من عرفه فيها ومد إليه يده مسنداً معيناً فعاد إلى تجارته... وجعل يفكر لما استقر به المنزل في داره في بغداد، ويكتب الكتب ويسأل ويستنجد ويلح ويتوسل حتى كتب ستة وستين كتاباً (كذا في الأصل التاريخي)، ولم يرجع إليه جواب.
وأثرى وامتلأت يده بالذهب ولكن قلبه ظل خالياً من الحب. وما كان يوسع فيه الأسى مكاناً لحب جديد، فكان كلما احتواه العشية منزله، وأغلق عليه بابه جفا عالم الناس وراحت روحه تسبح في عالمه هو، عالم ذكرياته وماضيه الذي أحبه وافتقده ولم يجد منه بديلاً، فيشعر بحرارة تلك القبلن ويسمع وسوستها، ويلمس دفء ذلك العناق، ويستروح نسيم تلك الدار التي كانت جنة وارفة الظلال، فيها الروح والريحان وفيها من كل فاجهة زوجان، فصيّرها الحب قاعاً صفصفاً... ولكن تلك الخربة كانت أحب إليه من هذا القصر الذي يعيش فيه اليوم وحيداً لا يؤنسه فيه إلا الذهب.
وتصرمت السنون، وتتابعت خالية فارغة، حتى أقامت بينه وبين ليلة المخاض حاجزاً من الأيام سمكه ثمان وعشرون سنة، وهبّت على عمره رياح الخريف، فذوى غصنه، وكاد يدركه الجفاف، فأفزعه أن يموت بعيداً عن بغداد وعن داره التي ثوت فيها الحبيبة؛ فباع كل ما يملك بعشرين ألف دينار من الذهب، واشترى قماشاً وبضاعة حملها إلى بغداد، وسار في قافلة له ضخمة يؤم أرض الوطن... ولم يكن له من أمل إلا أن يقيم بهذا المال قبراً ضخماً للحبيبة ويجعل له فيه مكاناً، ولكن الدهر لم يبلغه حتى هذا الأمل، فقد خرج على القافلة اللصوص. فنهبوها، وقتلوا من فيها، ولم يتركوا منهم أحداً.
ونهض من بين الموتى، وسار على رجليه وقد تبلد ذهنه من عظم الفاجعة حتى ما يقدر على الحزن، ومشى حتى حاذى النهر، وجعل يمر على مغارس النخيل، ومشارع المياه، ومنابت الورد والفل، وهو سادر ساهم، كأنما يمشي في حلم، قد ماتت في نفسه كل رغبة إلا رغبة الموت... وماذا بقي له في الحياة بعدما فقد الحب، وفقد المال؟ ولكنه لم يشأ أن يموت إلا في داره ولم يرد أن يضم عظامه إلا الثرى الذي ضم أعظم الحبيبة كي يجاورها في الموت كما جاورها في الحياة. وتحامل على نفسه وقام يجر رجليه جراً، وكلما دنا من بغداد وأحس ريحها انتعش واشتد، وعاش بذكريات الحب الذي ذهب ولم يبق إلى عودته سبيل، وآنسه أن يرى مرة ثانية الديار التي شهدت صور هذا الحب، ولكنه أعيا أخيراً وسقط على الشاطئ ولم يعد يستطيع الحراك...(/2)
وجعل يفكر تفكيراً مبهماً ملتاثاً، يقطعه الجوع الذي يفري أمعاءه، والتعب الذي يهد عظامه، فيرى أنه كان في حلم وصحا منه... الدنيا كلها حلم كاذب: الحب، المال، والصحة والسعادة والمجد... لا يخلد شيء من ذلك ولا يبقى. لا يبقى منه إلا ذكرى تبعث ألماً، وتثير حسرة، وتحرق القلب. وتمنى أن لو كان خلق فقيراً منفرداً، ما عرف لذة الألفة، ولا متعة الغنى، وعاودته فكرة الموت التي كانت مرت بذهنه منذ ثمان وعشرين سنة، ولكن دينه منعه أن يختم حياته بهذه الخاتمة البغيضة، وأن يجمع على نفسه شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، وهبت عليه نفحة من نفحات الإيمان فاستراح إليها، وذطر أنه استودع فتاته الله، ولا تضيع عند الله الودائع، وأن وراء هذه الأحداث حكمة بالغة، وقدراً حكيماً. فاطمأن إلى حكمة الله وسلم أمره إليه ووجد بهذا الاطمئنان راحة وشبعاً...
وسمع صوت بوق يرعد على حاشية الأفق فنظر فإذا زلال (كلمة عباسية مولدة، معناها: السفينة الحربية) ضخم قد أقبل عليه، فلما حاذاه أشار ونادى، وسأل صاحبه أن يحمله إلى بغداد، وكان فيه أمير كبير، ولكن (الديموقراطية) كانت شعار العرب، وكانت سليقة فيهم، لا يمنع الأمير مجده أن يقف لفقير سائل ويحمله معه – فأدخله الزلال وأطعمه وخلع عليه ولم يسأله عن خبره لأن النوم قد غلب عليه فهجع كالقتيل قبل أن يسأل وقبل أن يجيب.
ولما أفاق كان المساء قد حل، وكانت بغداد قد بدت، وسربت الزوارق والسفن على سطح دجلة الفاتن تنشد لهواً وتبتغي لذة، وتملأ الضفتين نغماً سائغاً، وحباً ومجداً، وترنحت القصور طرباً، وانتشت الأرض أنساً، وتعانق النخيل وتشاكى الغرام، وتراقصت الأمواه في دجلة وتناجت الحب، وسكرت السفن ووهامت، وسدرت بغداد في نشوة الظفر، وكانت بغداد هي الدينا، وكانت دار الخلافة، وكانت عاصمة الأرض، وكانت منبع العلم والفن، ومثابة الغنى والترف. وكان فيها الصلاح وفيها الفجور، وفيها الخيرات وفيها الشرور، وفيها من كل شيء... وكذلك تكون الدنيا.!
وكان دجلة يسير مزهوأص طرباً. فقد بدأ سيره منذ الأزل، ورأى الحكومات تقوم وتقعد حتى مل قيامها وقعودها، وشهد من بأساء الحياة ونعيمها ما زهده في نعيمها وبؤسها، ورأى الأنام حتى كره مرأى الأنام، ولكنه لم يرَ أياماً أحلى، ولا مجداً أبقى، ولا أنساً أنقى وأتقى، من تلك الأيام وناسها.
وجاز الزلال بتلك السفن والزوارق الحالمة السكرى، كأنه البطل القوي يمر بالحسان في يوم عرس، فاجتمع على الصفحة الحب والحرب، والعز والهوى، هذا يمثله زلال القائد، وتلك تمثلها زوارق العشاق، وكان يمضي إلى غايته مسرعاً كأنه يسابق شعاع الشمس إلى الأفق الزاهي، وكان هو أيضا شعاعة من الشمس التي أضاءت الدنيا في هاتيك الأيام، فأشرقت على القلوب عاطفة وجمالاً، وعلى العقول علماً وكمالاً، وعلى المسلمين عظماً وجلالاً، وعلى الناي كلهم حضارة وتمدناً وسلاماً وأمناً، وضوأت لهم طريق المجهول، وشقت لهم السبيل الموصلة إلى تحقيق المثل العليا في المجتمع البشري، تلك هي شمس بني العباس إذ كان بنو العباس سادة الأرض.
وأنزله الزلال على الجسر، حيث قام تلك الليلة، فأعاده الجسر إلى ماضيه، فأحس بأن هذه السنين كلها لحظة واحدة، وأنها صفحة قد سقطت من سفر حياته، فاتصل ما قبلها بما بعدها. ورأى الناس من حوله، فهمّ بأن يسألهم درهما ً يشتري به عدساً ودقيقاً وشيرجاً لامرأته التي أخذها المخاض، وأسرع يريد أن يدركها قبل أن يشتد بها الألم ثم انتبه فرأى هذا الحجاب الصفيق من الزمان يقوم بينه وبينها، ثمان وعشرون سنة ليست يوماً ولا يومين... دهر طويل ولد فيه ناس ومات ناس، عمر كامل...، وتهافت وخمدت هذه الشرارة من الأمل التي أضاءت في نفسه، وسار محطماً مكدوداً يبصر الوجوه من حوله فيراها غريبة عنه لا يعرفها، ويرى المسالك والدروب فيفتش عن ذكرياته فيها فلا يجدها... حتى بلغ الدار ونظر فإذا الخربة التي خلف فيها الحبيبة قد صارت داراً فخمة على بابها الجند و (الشاكرية) فوفق ينظر إليها من بعيد... هذه داره التي رجع إليها ليتخذ لنفسه من ثراها قبراً ولكنها أنكرته وأعرضت عنه. لقد عاد غريباً في بيته منكراً في بلده. إنه ميت يمشي بين الأحياء. لقد بحث عن أثر واحد من دنياه التي كان يألفها، فإذا كل شئ قد تبدل، فلا الوجوه بالوجوه، ولا الأمكنة هي الأمكنة! فيا ويح الزمان كيف صنع ذلك كله! هذا الجبار المخيف الذي يفعل الأفاعيل، ولا يحس به أحد ولا يبصره ولا يلمسه بيده... ثم استغفر الله أناب إليه، إنه هو الفاعل المدبر، فلا الزمان ولا الأحداث بقادرة على شئ إنه هو وحده الذي يصرف الأكوان.(/3)
وولى ليعود ويضرب في الأرض حتى يموت، فما يبالي الآن أين يدركه الموت بعد أن حرم آخر أمانيه، وهو أن يواريه الثرى الذي وارى جسد الحبيبة، ولم تسل من عينيه دمعة، ولم يتحرك لسانه بكلمة وداع، ولم يفكر في شئ فقد تواردت الآلام على قلبه حتى صار هو كتلة من الألم جامدة تسمى قلباً، وتتابعت عليه المصائب حتى صارت حياته كلها مصيبة... ويئس من السعادة حتى ما عاد يفكر فيها، أو يؤلمه فقدها، وتلفت ليودع المكان الذي اصطفاه من دون الأمكنة، وأودعه أعز شئ عليه: حبيبته وذكرياته، ويشمله بنظرة فإذا هو يرى دكان بقال (كان يعرفه) لا تزال قائمة على العهد بها، كما يقوم الطلل البالي في المدينة العامر، فأسرع إليها.
"وكان فيها شاب حدث علم منه أن أباه البقال مات من عشرين سنة، وأن الدار لابن داية أمير المؤمنين المأمون وصاحب بيت ماله،" وأن لهذا الرجل قصة عجباً، فقد كان أبوه من سراة التجار، فاشترى جارية أولع بها وعكف عليها حتى افتقر، وجاءها المخاض فذهب يطلب لها شيئاً فلم يرجع، وأسعفها البقال أبو القتى، وولد للرشيد مولود فطلبت له المراضع فلم يقبل ثدي واحدة منهن فدل على الجارية فقبل ثديها، وصارت ظئره وكان المولود هو أمير المؤمنين المأمون".
ويسمع الرجل القصة فيحس أن الأرض تدور به، فيمر بآلاف الصور والألوان، والشكوك والأماني، ثم يسأله: وأين أم الولد؟ ويحس أن هذه اللحظة التي أنتظر فيها الجواب، قد طالت حتى غدت دهراً، وأنه كالقائم ليسمع الحكم عليه بالبراءة أو القتل. فيقول الفتى: إنها باقية تغدو إلى دار الخليفة أياماً، وتكون مع ابنها أياماً، ولكنها لا تزال حزينة لم تمسح آلامها الأيام، ولم ترقأ دمعها.
ويدعه الرجل ويركض إلى الدار، يشعر أنه يمشي في الزمان، يعود أدراجه إلى عهوده الماضيات، إللى عهد الحب الضاحك، ولياليه المترعات بالقبل. لقد نسي في هذه الخطوات كل ما لقي من شقاء، وما حمل من ألم، وامتلأ قلبه شكراً لله الذي استودعه حبيبته وما في بطنها فما ضاعت عنده الوديعة، وهذه الحبيبه التي طالما بكاها يحسبها ميتة وجاء ليدفن جسده الواني بجانب رفاتها، قائمة تنتظره، لتمنحه عطرها وسحرها ونحرها، وهذا الجنين الذي خلفه على باب الموت قد غذا شاباً ممتلئاً قوة وأيداً ومالاً ومجداً.
ووصل إلى هذا الشاب، فقال له: ما تبغي؟
فخفق قلبه، وتلاحقت أنفاسه، وهمت مقلتاه، ولم يجد ما يمهد به الحديث، قفال له:
- أنا أبوك!
ونظر الشاب شاكاً، وقال له: اتبعني.
فاتبعه، فاجتاز به صحناً بعد صحن، حتى انتهى ألى مكان الحرم فأقامه أمام ستارة، وذهب ليسأل أمه، ودل الرجل قلبه على أن الحبيبة وراء الستارة فناداها، وإذا الستارة تهتك، والمرأة تثب إلى عنق الرجل، تبكي وتضحك، وتضحك وتبكي، وتقول ما لا تدريه...
ويدير الشاب وجهه فما يحسن به أن ينظر إلى أبوه وهما يجددان عهود الهوى والشباب.(/4)
وربما صحَّت الأجسام بالعلل!
بدر بن ناصر العواد 19/8/1425
03/10/2004
علينا أن نعترف بأننا نمرّ بمرحلة عصيبة أدارت رحاها على المجتمع بأسره, محدثة هزات عنيفة طالت كافة المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية بشكل يتجاوز –أحياناً- القانون الطبيعي للتغير والتغيير؛ فهي أشبه ما تكون ب-"مرحلة مخاض" تؤذن بحدوث تغيرات وتحوّلات كبيرة لا تقف عند مستوى الأفراد؛ بل تتعداهم إلى التشكيلة العامة للمجتمع.
ولئن أشرنا إلى تمدُّدها في أكثر من اتجاه إلا أن الذي يعنينا هنا هو الجانب الفكري فقط لعلاقته الوثيقة بالعاملين في الحقل الإسلامي ولامتداد آثاره على المجتمع بكافة شرائحه.
وإذا كان من البدهي أن لكل ظاهرة أسباباً ومؤثرات -متفاوتة في درجة الوضوح وفي مدى التأثير- تدفع بها للظهور على السطح إلا أننا هنا لن نتطرّق لشيء منها بالرغم من أهميتها؛ بل سنتناول الموضوع من زاوية أخرى وبشكل موجز.
هذه المرحلة بما تشكِّله من أزمة خانقة كشفت لنا بصورة لا تقبل المغالطة أو التجاهل عن غيابٍ فاضحٍ لفقه التعامل مع الأزمات, وافتقادٍ للقدرة على مواجهتها بما يتناسب مع حجمها، ومن ثَمَّ عجز عن إيجاد حلول احتوائية, كما تمخّضت عن ارتباك كبير داخل صفوف الإسلاميين ترك بدوره شروخاً وتشقُّقات تمتدّ إلى عمق التيّار مما يُخشى معه -والحال هذه- أن تصبح بداية الانحسار للمدّ الإسلامي.
(إننا في أزمة) هذا ما نتفق عليه جميعاً, لكن المشكلة الحقيقية تظهر حين يخرج الوضع عن نطاق السيطرة بغياب المرجعية الإجماعية وشيوعِ الضبابية في الطرح وغَلَبَةِ الانفعالية في التناول, لتصبح الغَيرة على الدِّين هي المخوِّل الوحيد للتصدّي لها دون احترام لذوي التخصُّص, ولا رجوعٍ للعقلاء, ولا فهمٍ لمعطيات الواقع وضرورات المرحلة مما يزيد الموقفَ تأزُّماً والمشكلةَ تعقيداً (يخربون بيوتهم بأيديهم).
إن من أخطر الأمور المشاهدة أن يصبح البعض -وإن نَبُلت أهدافهم- هم أصحاب المبادرة وسادة الموقف والمتحكِّمون بدفَّة الأمور دون أن يمتلكوا الأهلية في ذلك مما يدفع بأصحاب الرأي وذوي الكلمة من علماء ومفكرين إلى الانسحاب من المشهد خوفاً على أنفسهم من سهام الظنون الطائشة والشائعات المغرضة مكتفين –حينئذٍ- بأن يصبحوا جمهوراً لا حول له ولا قوة, وهو ما يعد بحق انقلاباً قسرياً للأدوار!
هذا الوضع المُربك وهذه الفوضى الفكرية التي تعصف بالمجتمع من كل اتجاه علامةُ ضعف ودليلُ ذبول -دونما شك- ما لم ينهض أصحاب الرأي إلى محاولة تطويقها أولاً، ثم تطويعها ثانياً؛ لتصبح فرصة حقيقية يمكن أن تزيد الخطاب الإسلامي توهُّجاً وتعزَّز من حضوره.
دعونا نحاول أن نستثمر هذه الأزمة بشكل إيجابي، وأن نكون كمَن يستخرج الأمصال من سموم؛ بأن نحوِّل هذه المحنة إلى منحة, وهذه الأزمة إلى نعمة دون مزايدةٍ على سمو المبادئ, أو احتكارٍ للحقيقة أو طعن في النيات, ولن يكون ذلك إلا حينما نتعامل معها بهدوء لا يفقد معه الإنسان توازنه, وبعقلية تحسن قراءة الواقع واستشراف المستقبل دون تعلّق بمطلق الماضي لأنه ماضٍ, فلا جمود بلا دليل, ولا انطلاق بلا حدود, ولا انفتاح بلا ضوابط.
إن هذا الاضطراب والفتور والانفلات المعياري يمكن أن يفتح أمامنا آفاقاً لم تكن تخطر على بال أكثر الناس تفاؤلاً, ويوجِدُ نافذة يستطيع العالِم الكُفء أن يُمَرِّرَ من خلالها ما شاء الله من رؤى واجتهادات ظلَّت مسجونةً داخل أروقة عقله زمناً طويلاً, بحيث تصبح المستحيلات -فيما مضى- ممكنات, والثوابت -بحسب الواقع- متغيرات!
وبالأمس القريب لم يكن بإمكان مثله تجاوز إشكالين مستغلقين:
أحدهما - وهو متعلق بالنُّخب-: سيطرة الأُحادية الشاملة بشكل مفرط تفقد معه الجماهير قدرتها على التفكير, والمفكِّرون شجاعتَهم على الكلام, والمتكلِّمون رغبتَهم في المواجهة.
الثاني - وهو متعلق بالعامة بالدرجة الأولى-: أثر الاعتياد والألفة في التمسك بالمعهود أياً كان, وتصعيب تقبُّل الآراء والأطروحات الجديدة بعدما ضَرَبت العادة أطنابها في أعماق أنفسهم.
وهذا كله جَعَل الاقتراب من هذه الآفاق أمراً غير ممكن إلا وسط غابات من التُّهم والظنون, بخلاف ما نحن عليه الآن من هلامية وحيرة تَضرِب بجرانها على أفئدةِ وعقول السّواد الأعظم من المنتمين للأوساط العلمية فضلاً عن العامة، ممهدة الطريق بذلك لتقبُّل اختياراتٍ فقهية جديدة وأطروحات تجديدية بعد أن تزحزحت كثير من القناعات بفعل هذا السيل الجارف من الأقاويل والتي أصبحت تحاصر الإنسان أينما ذهب ابتداء بالإعلام وانتهاء بالمجالس الخاصة.
ولئن كان تشخيص الواقع والقدرة على تفكيكه ومعرفة العوامل المؤثرة في تكوينه سلباً أو إيجاباً من الأمور المتفق على أهميتها إلا أن الأهم من ذلك هو القدرة على وضع أجندةٍ عملية قادرة على البقاء والتحدّي مصنوعةٍ من خيوط الممكن تساهم في الخروج بأكبر قدر من المكاسب.(/1)
ومن الضروريّ هنا أن يكون الاجتهاد والتجديد شمولياً بحيث لا يقتصر على جانب دون جانب, وألا يُحْشر - بقصد أو دون قصد - في زاوية ضيقة يصعب الفكاك منها مستقبلاً وإن كانت من صنع أيدينا! وليكن ذلك في منحيين:
1- المنحى العلمي؛ وذلك بفتح باب البحث العلمي الحر ليلجه كلُّ مؤهَّل دون أن يُطعن في دينه أو يلمز في علمه أو يقدح في نزاهة مقصده, وإعادة النظر الاجتهادي المستوفي الشروط في كثير من المسائل التي تم التعامل معها من قبل على أنها من جملة المسلَّمات التي لا يجوز المساس بها أو الخوض في تفاصيلها دون دراسة وافية تحيط بأطرافه وتجمع شتاته.
2- المنحى المنهجي؛ وما من شك بأننا بحاجة حقيقية أن نعيد ترتيب الأوراق القديمة, وأن نمتلك من الشجاعة ما يمكِّننا من إعادة قراءة الخطاب الإسلامي المعاصر بحثاً عن أماكن الخلل أو القصور فيه للتدارك والتقويم بما يعود عليه بالقوة ويبعث فيه الحيوية من جديد.
وإذا كان التجديد في المنهج الحركيِّ وغيره ضرورة لا يمكن تجاهلها بحال فلا بدَّ من تشكيلِه وفق المصلحة المقاصدية والتي لا تنفك عن التأثر بعاملي الزمان والمكان, ورسمِ أطر العمل الإسلامي بما يناسب متطلَّبات المرحلة المقبلة والتي تحمل في طياتها الكثير من التحديات والمفاجآت في آن دون المساس بالثوابت (الحقيقية), وبصورة أكثر مرونة تمكِّن العاملين من التحرُّك بلا عناء.
ومما نحتاج إلى وضعه بعين الاعتبار: تقوية الأدوات المعرفية لعموم التيار الإسلامي (أفراده - أفكاره - خطابه), وتوسيع هوامش التسامح تجاه الاختلاف العلمي, وطبيعة العلاقة بالآخر, وقبول الحوار التنوعي, والانفتاح المنضبط... إلخ.
وأخيراً؛ فإن هذا الطرح وغيره مما نصبو إلى نراه واقعاً ملموساً سيظل مَواتاً لم تُنفخ فيه الروح ما لم تكن نقطة التحوَّل الأولى آتيةً من دائرة الصفوة نفسها, بدءاً بإلجام ( الأنا) المتجاهِلة لـ(الآخر) حيناً والمقزِّمة له حيناً آخر, وردِّ جماحِها عن الاستعجال بالبتِّ في المسائل المستحدثة أو النوازل العامة؛ بل حتى ما خالف السائد دون تروٍّ, وإضفاء هالة من الاحترام لأهل العلم الموافق والمخالف دون ثنائيات التعظيم أو التقزيم ونحوهما من أبجديات الاحتراب الداخلي وصور التشرذم التي لا تقود إلا للفشل (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).(/2)
وردة المدينة المنورة
يا وردة روحي... يا ندى قلبي... يا حبَّة فؤادي
أنا الذاكر العميد... والهائم الشريد...
قلبي مزار طيفك... وروحي ملعب سرابكِ
إنّه ما زال يهدهد شجوني... ويكفكف دموعي
ذكراكِ يمسح من ذاكرتي كُلَّ شيءٍ سواك...
فليغبْ كُلُّ شيءٍ إلاّكِ
أنا مذاب عشق... أتقلب في عشقي...
في قيامي وقعودي... ويقظتي ومنامي...
أنا روح هائم في أفق العلاء أحلق
كيف الوصول إليك وأنتَ فوقَ الفوق
ووراء الوراء...؟
حبذا العشق لو يستطيع
سيدي ومولاي... التفتْ إليّ...
لمحة منك تكفيني... قلبي بلظى الفراق
يتحرق... أنينه ملأ الدنيا... وحنينه
جاوز السبع الطباق... جُدْ عليَّ...
بالوصولِ جُدْ عليَّ... متى يا سيدي...؟
متى...؟
كقلب الطير قلبي... ما أن يَذكر اسمك
حتى يبدأ بالخفقان
فامنن عليّ بريشة من جناحك
لكي أطير إليك... وأحلق وراءك أبد
كقلب الطير قلبي... ما أن يذكر اسمك
حتى يبدأ بالخفقان
يا وردة حوّلت الصحراء القاحلة إلى جنان
أشرقي على قلبي بألوانك الساحرة
آن الأوان، لتكفكفي عيوني الدامعة
يا وردة حولت الصحراء القاحلة إلى جنان
مجنونك أنا، آه، خادمك أن
إن رميتَ بجمرة عشق في قلبي
أججتْ جوانحي وكياني
وأنقذَتْني من هذه الرؤيا السوداء
الفارغة من محياك الوضيء
مجنونك أنا، آه، خادمك أنا
عقلي يذكرني بأيام الفراق
فيسبل على روحي سدف الظلام
سيدي متى تكشف عن وجهك الصبوح؟!
فالشمس تميل إلى الغروب،
عقلي يذكرني بأيام الفراق...
آه في الفصل الأخير من كتاب حياتي
آهٍ لو غدا غروبي شروق
وقلبي مفعماً بأزهى ألوان عالمك المضيء
حيث ترتفع أصوات الدفوف وترانيم الناي
في كل مكان...
آه، لو غدا غروبي شروقا...
--------------------------------------------------------------------------------
1 تستعمل الوردة في الأدب التركي رمزا للرسول صلى الله عليه وسلم.
2 من ديوان (المضرب المكسور) للأستاذ محمد فتح الله كولن. ترجمة: نوزاد صواش، أديب إبراهيم الدباغ.(/1)
وسائل أعداء الدين في حرب المؤمنين
الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].
هناك رغبة عالمية يقودها اليهود والنصارى تهدف إلى القضاء على الإسلام والمسلمين، على ما يبدوا أن توجيهاً صدر من حاخامات اليهود وساستهم ببدء حملة في بلدان المسلمين تنال من الدين وتقضي على الأخلاق حتى يبقى الناس بلا دين ولا أخلاق هذا هدفهم وهذه هي إرادتهم التي يبذلون جهودهم لتحقيقها، ولقد أخبرنا الله عنها في كتابه الكريم حيث قال سبحانه: ? يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ? [الصف:8].
أيها المؤمنون : إنه لا خلاص لنا إلا بالصدق والإخلاص مع الله والتمسك بالدين والعض على عقيدة الإيمان بالنواجذ والرجوع إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لمعرفة الحق من الباطل، والهدى من الضلال، ولنتعرف على طبيعة المعركة وحقيقة الصراع القائم منذ الأزل بين جند الرحمن وجند الشيطان، فإن الكفار اليوم الذين يتطاولون على الله وعلى دينه وشرعه لهم أسلاف فهم خلائف لمن سبقهم وقد أخبرنا الله عن كفرهم وإلحادهم وأزرى بمواقفهم وعقولهم وأنزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم الظالمين، ومن تلك السور والآيات الكريمات سورة الأنعام التي تبين مواقف الكفار ، المشينة، التي تسيء إلى خالقهم وبارئهم ومدبر أمورهم والمحيط بهم وبأعمالهم جل وعلا يقول الله سبحانه وتعالى في مفتتح سورة الأنعام:
? الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ?[الأنعام:1-3]
تأملوا إلى معاني ودلائل هذه الآيات العظيمة، ثلاث آيات، ففي الآية الأولى التي تتضمن الوجود الكوني كله، تبدأ بالحمد لله ثناء عليه جل في علاه وتسبيحاً له وتنزيهاً له، واعترافاً بأحقيته للحمد والثناء، وهذا المعنى متضمن الأمر للعباد بأن يحمدوه ويسبحوه، ويثنوا عليه الخير كله، ثم ذكر تعالى موجبات حمده دون غيره فقال: ? الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ... ? [الأنعام:1].
فالذي أوجد السماوات والأرض وأبدعهما وأوجد ما بينهما من سائر المخلوقات، وجعل الظلمات والنور ، وهما من أقوى عناصر الحياة ، هذا الذي فعل هذا، أوجده ودبره وأحكمه ونظمه ، هو المستحق أن يعبد وحده لا شريك له، هو الذي ينبغي أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر ولا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، ومن الغريب العجيب أن هذا الكون الضخم الهائل الدال على قدرة الله وعظمته يراه الكفار ثم لا يؤمنون بالله العظيم ولا يوحدونه ولا يحمدونه ويمجدونه بل يجعلون لله شركاء يعدلونهم به ويساوونه، ويعبدونهم من دون الله ، أشجاراً وأحجاراً ، وأبقاراً وكواكب، جناًَ وشياطين وبشراً، إنه انحراف وانصراف لا يليق بعاقل ولهذا يقول سبحانه مزرياً بهم.. ?... ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ? [الأنعام:1].
إنها مفارقة عجيبة وهائلة بين الدلائل الناطقة في الكون بأن الله ليس له شريك وآثارها الضائعة في النفس الإنسانية التي لا تؤمن ولا توقن.
وفي الآية الثانية يذكر الله الوجود الإنساني كله مبيناً أصله وخلقته قال تعالى موبخاً الذين يعدلون به غيره ويشركون به سواه : ? هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ?[الأنعام:2].(/1)
خلق آدم من طين ثم تناسل منه البشر ، فأصل خلقتهم إذا من الطين ، ثم هذا الغذاء الذي هو عنصر حياتهم ينبت من الطين، ثم قضى لكل فرد ولكل أمة عمراً محدوداً وأجلاً للحياة كلها تنتهي فيه وكل ذلك مسمى عنده جل وعلا معلوم عنده لا يعرفه غيره ولا يطلع عليه سواه.
ومع كل هذه الآيات والدلائل يأبى أكثر الناس إلا كفوراً، إنهم لجهلهم وظلمة قلوبهم يشكون في قدرة الله على إعادتهم وبعثهم بعد موتهم ?... ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ?[الأنعام:2] تختلفون وتشكون.
وفي الآية الثالثة يذكر جل وعلا أنه المعبود بحق في السماوات والأرض وهو العليم بخلقه مؤمنهم وكافرهم محسنهم ومسيئهم قال تعالى: ? وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ? [الأنعام:3].، إن علمه تعالى محيط شامل لا يخفى على الله شيء، الغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، والقلوب إليه مفضية، يعلم السر وأخفى ، فالسر ما انطوى عليه ضمير العبد وخطر بقلبه.
ولم تتحرك به شفتاه، وأخفى منه : ما لم يخطر بعد، فيعلم تعالى أنه سيخطر بقلبه كذا وكذا في وقت كذا وكذا. له الخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الدنيا والآخرة، وله النعمة والفضل، وله الثناء والحسن، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله.
وأمام هذه القدرة والعظمة والعلم والإحاطة يبدو شرك المشركين وامتراء الممترين، وتكذيب الجاهلين، عجباً منكراً لا مكان له في نظام الكون ولا مكان له في فطرة النفس ولا سند له في القلب والعقل إنه شذوذ وانحراف.
هؤلاء الذين يكفرون ويكذبون ولا ينتفعون بالآيات ولا تؤثر فيهم البراهين والأدلة ، يحذرهم الله تعالى من مغبة كفرهم وسوء صنيعهم ويأخذ بأيديهم ليوقفهم على مصارع أسلافهم الغابرين الذين أخذهم الله وسوف يأخذ المكذبين المعاصرين كما أخذ السابقين ، تأملوا قول الله عز وجل: ? وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ? [الأنعام:4-6].
ما أعظم كلام الله عز وجل وما أصدقه?... وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً ? [النساء:122]،?... وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً ? [النساء:87]، إنه يهدد أعداءه الذين يكذبون بالحق ويصرون على الكفر والباطل ساخرين مستهزئين ? فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ? [الأنعام:5] نعم إنه سيأتيهم العذاب لا محالة، لا يعرفون نوعه ولا موعده، إنه يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون. ومع هذا التهديد للكفار المعاصرين لنزول هذا القرآن ولمن جاء بعدهم من المشركين إلى عصرنا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يلفت القرآن أعناقهم وأنظارهم وقلوبهم وأعصابهم إلى مصارع المكذبين من قبلهم، وكيف فعل الله بهم وقد كانوا يعرفون بعضها في ديار عاد بالأحقاف وديار ثمود بالحجر، وكانت أطلالهم وما زالت مآثرهم باقية يمر عليها العرب في رحلة الشتاء للجنوب وفي رحلة الصيف للشمال، كما كانوا يمرون بقرى لوط المخسوفة ويعرفون ما يتناقله المحيطون بها وما يتحدث به الركبان ? وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ? [الصافات:138-139] وإن في مصارع السابقين عظة وعبرة للاحقين ? أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ? [الأنعام:6].
أنظروا أيها الناس إلى مصارع الأجيال والأمم الغابرة .. كيف فعل الله بهم بعد أن مكن لهم في الأرض وبسط لهم الخيرات وأعطاهم من أسباب القوة والسلطان الشيء العظيم، وأرسل عليهم المطر المدرار متتابعاً ينشئ في حياتهم الخصب والنماء ويفيض عليهم الرزق الوفير.. ثم ماذا؟
ثم عصوا ربهم وكفروا به وألحدوا في أسمائه وصفاته، فأخذهم الله بذنوبهم وأنشأ من بعدهم جيلاً آخر ورث الأرض من بعدهم.(/2)
وخرجوا من هذه الحياة مشيعين بلعنة الله وغضبه وما حفلت بهم الديار وما بكت عليهم السماء ولا الأرض.. فقد أورثها قوم آخرون فما أهون المكذبين على الله وما أحقرهم ، لقد أهلكهم الله وأخذهم فما أحست هذه الأرض بالخلاء والخواء، وإنما عمرها جيل آخر، ومضت الأرض في دورتها كأن لم يكن هناك سكان ولا بشر.
هذه حقيقة من الحقائق التي لا يتطرق إليها الشك وهي سنة لا تتخلف وهي أن الله يهلك الأمم والشعوب بذنوبها وانحرافها وتمردها على الله. ولكن البشر حين يمكن الله لهم في الأرض ويغدق عليهم النعم، ينسون أن الله عز وجل إنما منحهم وأعطاهم ومكن لهم ليبلوهم ويختبرهم، هل يؤمنون ويشكرون ، أم يكفرون ويجحدون؟ إنها حقيقة ينساها البشر إلا من رحم الله ، فيأخذون في الطغيان والانحراف والكفر والإعراض، وقد لا يتبين لهم في أول الطريق عواقب انحرافهم وفسادهم.. إنما يمشون في الفساد رويداً رويداً وينغمسون في الفجور والانحلال وهم لا يشعرون.. حتى يبلغ الكتاب أجله، ويحق عليهم وعد الله.. ثم تختلف أشكال النهاية فمرة يأخذهم الله بعذاب الاستئصال، ومرة يأخذهم بالسنين ونقص الأنفس والثمرات، ومرة يأخذهم بأن يذيق بعضهم بأس بعض، فيعذب بعضهم بعضاً، ويدمر بعضهم بعضاً، يؤذِ بعضهم بعضاً، ولا يعود يأمن بعضهم البعض الآخر فتضعف شوكتهم في النهاية، ويسلط الله عليهم عباداً له طائعين أو عُصاة يكسرون شوكتهم ويقتلعونهم مما كانوا فيه ، ثم يستخلف الله العباد الجدد ليبتليهم وهكذا تمضي سنة الله في هذه الحياة.
وقد يخدع الناس بالمظاهر حين يرون الطغاة والكفرة والفجار ممكناً لهم في الأرض غير مأخوذين من الله، ولكن الناس يستعجلون، إنهم يرون بداية الطريق أو وسطه ولا يرون نهايته. والقرآن الكريم يوجه العقلاء إلى مصارع المكذبين ليتنبه المخدوعون ويأخذوا حذرهم قبل فوات الأوان.
الخطبة الثانية:
اليوم في بلاد الإسلام من ينعق بدعوات مضلة كما تنعق الغربان. هناك توجهات وسياسات عالمية ومحلية تدعوا إلى خنق الإسلام وتجهيل المسلمين بدينهم، وعدم السماح للإسلام الحق الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من الدخول إلى وسائل الإعلام .. فالتلفزيون والإذاعة إنما هي مخصصة للرقص والغناء واللهو والطرب واللعب والعبث والتضليل. أما أن تكون مصدراً للتوجيه والتثقيف والإرشاد وتعليم المسلمين ما ينفعهم في دينهم ودنياهم فلا. فإن ذلك ممنوع ومحظور ولا أدري من منعه؟ وجعله واقعاً في دنيا المسلمين.
إننا نرى من يكتب في الصحف والمجلات الكذب والشر والبهتان والزور ويمارس التضليل والخداع للجماهير، بل ويتطاول على دينها وأخلاقها وقيمها وعلمائها ودعاتها ويطالب بأن يخنق صوت الإسلام، فهناك حملة مكثفة تدعوا إلى تسييس المسجد وجعله منبراً إعلامياً يمجد الظلم ويبرر الباطل أو يسكت عنه ، وينافق ويداهن ولا يسمح بتقديم الإسلام الحق كما أنزله الله في كتابه وبينه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسار عليه المسلمون. إنهم يريدون إسلاماً معيناً يتحدث عن العلماء والخطباء بمواصفات يهودية أمريكية ، إنهم يريدون اختصار الإسلام وحبسه ومحاصرته، قد يسمح له أن يقوم بدور الكنيسة هذا ما يريده الذين ينعقون ويرددون ما لا يعرفون إما جهلاً وإما كيداً.
وإذا منع الدعاة والعلماء من دخول وسائل الإعلام وحيل بينهم وبين الأمة فمن أين يتحدثون وكيف يعلمون الأمة وينصحونها ويأمرونها بالمعروف وينهونها عن المنكر ويبصرونها بواجبها..
إن حجم التضليل الإعلامي الذي يمارس ليل نهار كبير وكبير، وإن انتشار الصحافة غير الملتزمة بمعايير الصدق والحق والخير ـ إلا ماندر منهاـ قد زادت من الكارثة في تتويه الأمة وخداعها وتضليلها .. تناقضات وافتراءات ، وتراشق للاتهامات وتضييع للحقائق، وهكذا تفعل الجرائد والمجلات فعلها في تمزيق الأمة الواحدة حتى أن القارئ العادي غير المحصن بالإسلام والقرآن يصير حاله كما قال القائل:
يمشي فما يدري إلى قعر هوة يروح بها أم للمدى المتباعد
فطالع أراجيف الجرائد إنني أرى الويل كل الويل بين الجرائد
فما بين مكذوب عليه وكاذب وما بين مجحود عليه وجاحد
جدال على مر الجديد بين دائم بتنفيذ رأي أو بتزييف ناقد
أضاعوا علينا الحق فيها تعمداً وعقبى ضياع الحق سود الشدائد
على رسلكم يا قوم كم تسمعوننا مقالة محقود عليه وحاقد
ألا فارحموا بالصفح عن نهج صحفكم فقد أوردتنا اليوم شر الموارد
وما الصحف إلا أن تدور نهجها مع الحق أنى دار بين المعاهد
وأن لا تعاني غير نشر حقائق وتنوير أفكار وإنهاض قاعد(/3)
هذا وضع المسلمين غالباً إلا ماندر. فكيف يريد الناعقون بعد ذلك أن يخنقوا صوت الإسلام حتى في بيوت الله عز وجل التي قال عنها: ? فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ... ? [النور:36-37] ، وقال: ? وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ? [الجن:18].
ولقد حذر الله عز وجل من يسعى في تخريبها وتعطيل رسالتها في إقامة العبادة والتوجيه والأمر بالمعروف، فقال تعالى: ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ? [البقرة:114].
إنني أدعوا الذين يتحدثون عن المساجد وهم لا يعرفونها ولا يدخلونها أدعوهم إلى رحابها والجلوس مع أهلها والمحافظة على إقامة الفرائض بها، فإنهم سيجدون الحقيقة، سيجدون الأنس والطمأنينة والطيبة والتواضع والتآخي في حرم المساجد، وإذا ذاقوا طعم الإيمان والصلاة وحلاوة الجلوس في المساجد فإن المشكلة تكون قد زالت وانتهت، إنها لا تزول إلا بذلك مهما حاولوا الكتابة ودبجوها من خلال أبراجهم العاجية البعيدة عن المسجد وعن جمهوره ورواده. وإن أخشى ما أخشاه أن تكون هذه الرغبة رغبة خنق المساجد آتية من خارج ديار الإسلام .
أيها المسلمون إن المسجد هو واحة أمان واطمئنان ، إنه كهف المؤمنين في كل زمان ومكان يأوون إليه ليحصنوا أنفسهم وعقولهم من الانحرافات والضلالات ، ويطهروا قلوبهم من الشرك والنفاق وسوء الأخلاق ، إن عمار المساجد هم أهل الطهر والفضائل والاستقامة ، هذا المسجد ? ...فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ? [التوبة:108].
قووا صلتكم أيها المؤمنون ببيوت الله، عمروها العمارة الحسية والمعنوية شيدوا بنيانها اسعوا في عمارتها حتى لا يخلوا من المساجد حي، ولا قرية، ثم عمروها بالطاعات والعبادات والذكر وإقامة حلقات العلم وابحثوا لها عن الأئمة الصادقين والخطباء الناصحين والتفوا حولهم وخذوا بتوجيهاتهم ونصائحهم متى ما لمستم فيهم الصدق والإخلاص والالتزام بالحق واحذروا رحمكم الله من تصديق المفترين وشبهات المشككين وضلالات الضالين الذين يسعون جميعاً إلى عزل الأمة عن بيوت الله عز وجل وتشكيكها في علمائها ودعاتها .. واعلموا أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا.
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(/4)
وسائل أهل الحق في السباق إلى العقول
الوسيلة الخامسة. التعليم.
وهذه الوسيلة هي أكثر الوسائل تأثيرا وثباتا ورسوخا في السباق إلى العقول، لأنها تقوم على أسس مدروسة ومناهج هادفة، ومواد مختارة، وكتب معدة، ومعلمين مدربين، ولأن وقت التعليم طويل يبدأ في سن مبكرة ويستمر إلى الممات عند كثير من المتعلمين، والسبق بأي مبدأ إلى عقول الناشئين يملك عقولهم و يأسرها أسرا، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم-كما في حديث أبي هريرة-: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهم عَنْه ((فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)) الآيَةَ.[الحديث في صحيح البخاري برقم: 1270] وذلك إنما يكون بالتعليم الدراسي والأسري. فإذا راعى أهل الحق أسس التعليم وأحكموها، كان التعليم من أنجح وسائل السباق إلى العقول بالحق وتثبيته في تلك العقول: عقول الأفراد والأسر والحكام والمربين في كل الأجيال.
أسس التعليم الناجحة في السباق إلى العقول.
الأساس الأول: وضوح الغايات.
أي غايات أهل الحق في سباقهم إلى العقول، وهي:
1- تبليغ رسالات الله إلى الناس.
2-إقامة الحجة على الخلق.
3-إخراج الناس من الظلمات إلى النور.
4-تحقيق توحيد الله في الأرض.
5-غرس الإيمان بالغيب في النفوس.
6-تحكيم شرع الله في حياة الناس.
7-غرس الأخلاق الفاضلة ومطاردة الأخلاق الفاسدة.
8-إقامة الخلافة في الأرض على أساس هدى الله.
9-الاعتزاز بالله واتخاذ وسائل العزة.
وقد سبق الكلام عنها، وهي-وإن كانت مطلوبة التحقيق من كل الوسائل-تتحقق بوسيلة التعليم وتثبت وترسخ أكثر من غيرها من الوسائل الأخرى.
الأساس الثاني: وضع مناهج للتعليم تتحقق بها تلك الغايات.
بحيث تشمل المناهج كل ما تحتاج إليه الأمة في حياتها، على أساس دينها الذي تضمنه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما يحقق لها السيادة التي ترضي ربها في الأرض.
ما تجب مراعاته في وضع المناهج.
ويجب أن يراعى في وضع المناهج الأمور الآتية:
الأمر الأول: السبر الشامل لكل ما تحتاج إليه الأمة من العلوم.
وهي كل العلوم التي تمكنها من النهوض والتقدم واعتلاء مقعد القيادة الربانية للبشرية، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم بالخليفة: ((إني جاعل في الأرض خليفة)) سواء كانت تلك العلوم من فروض العين، وهي التي تتعلق بجميع المكلفين ولا يكفي أن يقوم بها أحد عن آخر، كأركان الإسلام وأركان الإيمان، أو فروض الكفاية وهي التي تسقط عن بقية الأمة، إذا قامت بها طائفة كافية عددا وسدَّ حاجة، كالعلوم السياسية، والقضائية، والاقتصادية، والهندسية والطبية، والصناعية، والحِرفية، والفلكية، والعسكرية، وغيرها.
ثم يوضع لكل علم منهجه الخاص به من قبل ذوي الكفاءة فيه والاختصاص، ويخصص له من الزمن ما يكفيه.
الأمر الثاني: أن يراعى في وضع المناهج ما يتناسب مع العصر.
ويشمل ذلك جميع المواد والمفردات المطلوب دراستها، بحيث يكون الدارس على وعي وخبرة بما يتعلق بالعلم الذي يدرسه في واقع الحياة، مع المقارنة والموازنة والترجيح بالحجة والبرهان، ولا تكون دراسته دراسة نظرية تلقينية تقليدية جامدة، تجعله إذا خالط الناس واصطدم بما عندهم من أفكار ونظريات ومبادئ، كأنه بدوي دعي لحضور مؤتمر تتصارع فيه نظريات الفلاسفة والسياسيين والاقتصاديين، مع أن بعض تلك النظريات تتعلق بتخصصه.
وسأضرب بعض الأمثلة لتوضيح هذا المعنى:
المثال الأول: وجد في هذا العصر إلحادٌ مادي قوي ينكر وجود الخالق-فضلا عن استحقاقه العبادة واتباع رسله وتحكيم شرعه-قامت على أساس هذا الإلحاد دول ووضعت له فلسفات ومناهج تعليم وإعلام، واتخذت لنشره والدعوة إليه وسائل تبدأ بالإعلام وتنتهي بالسلاح، وخدعت به عقول واستجابت له حكومات.
والجديد في هذا الإلحاد هو انتشاره وقيام دول على أساسه، وقد كان في الأزمان الماضية مغمورا لا يوجد إلا لدى أفراد أو جماعات قليلة، لا وزن لها بين الناس.
وكان إقرار الأمم بالخالق دليلَ الرسل على قومهم المقرين به، بأن الخالق الذي أقرت به تلك الأمم هو وحده الإله المعبود الذي يستحق العبادة.
ولهذا لم تكن الرسل في حاجة إلى أن يَنْصَبُوا في دعوة أممهم إلى الإقرار بوجود خالق لهذا الكون، لأن ذلك من تحصيل حاصل ومن تبديد الجهد في غير مكانه.
كما قال تعالى: ((قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل أفلا تذكرون، قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، سيقولون لله قل أفلا تتقون، قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنى تسحرون)) [المؤمنون: 84-89].(/1)
والله الخالق العليم عالم الغيب والشهادة، قد أودع في كتابه من الحجج والبراهين الدالة على وجوده وأنه رب كل شئ ومالكه، ما لا يدع لمنكره منفذا يفر من براهينه وحججه، سواء قل المنكرون أو كثروا، وحججه وبراهينه منتزعة من آياته الكونية ومخلوقاته، فالكتاب المقروء يَنْصِب للجاحدين الكتابَ المفتوح وهو الكون كله، كما قال تعالى: ((أم خُلقوا من غير شئ أم هم الخالقون، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون))[الطور: 35-36]
وقال تعالى: ((أ مَّن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون، أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون، أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون، أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين))[النمل: 60-64].
ومع هذا كله-أي مع كون وجود الخالق الذي كانت الأمم تعترف به، وكانت الرسل تستدل بهذا الاعتراف على وجوب عبادته وحده وعدم الإشراك به، ومع وجود كثرة الحجج والبراهين في الكتاب المقروء والكتاب المفتوح، على وجوده وأنه خالق هذا الكون، ومع بسط علماء المسلمين في القديم والحديث الكلام عن هذا المعنى، ومع وجود دول إلحادية في هذا العصر قامت على إنكار هذا الأصل الذي كان بالأمس مُقَرًّا به لدى عامة أمم الكفر، وأصبح الآن محل إنكار-مع هذا كله وجد من ينتسب إلى العلم ويزعم أنه لا داعي لإدخال هذا الأصل الذي سماه علماء الإسلام "توحيد الربوبية" في مباحث العقيدة لإبرازه والدعوة إليه، لأنه هو الدليل على توحيد الألوهية فهو بد هي، والرسل لم تكن تدعو أممها إليه!!!
أيعقل هذا الكلام؟! إذا أنكر مراض القلوب وضعاف النفوس ما كان في الأصل دليلا، أفلا ندعوهم إلى الإقرار بهذا الدليل الذي أقرت به الأمم وتظاهرت عليه آيات الكون ومخلوقاته كلها؟! وإذا أصبح الدليل مُنكَرًا ولم نقم الحجج على منكريه ونجعل عقولهم تقربه، فهل هذه مزية لنا؟ وهل نعد متبعين حقا للرسل الذين كانوا يستدلون بهذا الأصل على وحدانية الله وعبادته بلا شريك معه؟!
ألم يكن نبي الله موسى عليه السلام يعلم أن فرعون كان-في الواقع-مستيقنا بأن الله هو خالق السماوات والأرض، وأن الآيات التي جاء بها موسى كانت حقا، وأن إنكاره وجحده ما كان إلا مكابرة منه؟! كما قال تعالى: ((فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين)) [النمل: 13-14].
ومع ذلك فإن موسى عليه السلام أقام الحجة على فرعون عندما ادعى الربوبية وسخر من دعوة موسى إلى الإيمان بربه، فقال كما ذكر الله تعالى عنه: ((قال فرعون وما رب العالمين)) فأجابه موسى بقوله. ((رب السماوات والأرض إن كنتم موقنين))[الشعراء: 23-24].
لقد خلت مناهج بعض المعاهد والجامعات والمدارس الإسلامية، في هذا العصر الذي ظهر فيه هذا الإلحاد، واستفحل وانتشر عن طريق التعليم والإعلام والسياسة والاقتصاد وعلوم النفس وعلوم الاجتماع، وعن طريق الغزو المسلح والإكراه على إنكار وجود الله، خلت تلك المناهج من بحوث يتسلح بها الطلاب ودعاة الإسلام، في إقامة الحجج والبراهين، على تفاهة هذا الإلحاد وإزالة ما علق بعقول عدد كبير من الناس، ومنهم بعض ذرا ري المسلمين، ووقف كثير ممن تخرجوا في تلك المؤسسات الإسلامية عاجزين عن رد شبهات إلحادية كثيرة بثها الملحدون في مناهج التعليم وكتبه في بعض البلدان الإسلامية، إلا من اجتهد من أولئك المتخرجين اجتهادا ذاتيا فدرس بعض المؤلفات وقرأ بعض البحوث التي ألفها بعض الغيورين من دعاة الإسلام، أو لازم بعض هؤلاء الدعاة واستفاد منهم، فإنهم انطلقوا بحجج وبراهين مثل الصواريخ تدمر كل شئ أتت عليه من مبادئ وأفكار وشبهات أولئك الملاحدة.
ومع ذلك فقد اجتهد بعض دعاة الإسلام، فوضعوا في مناهج بعض المدارس بحوثا وكتبا مزودة بأدلة علمية وحجج وبراهين قوية في هذا المعنى، استأصلوا بها شجرة الإلحاد من بلادهم وقد كادت تمد جذورها فيها، وكان ذلك تحصينا لطلابها وسلاحا يهاجمون به أساطين الإلحاد في عقر دارهم [كان ذلك في اليمن، حيث ألف الشيخ عبد المجيد الزنداني كتب التوحيد الستة التي قررت على طلاب المتوسط والثانوي فقضى الله بها على الإلحاد في اليمن وأصبح الطلاب اليمنيون الذين ابتعثوا إلى البلدان الشيوعية يوجهون أسئلة إلى المشرفين عليهم من الملحدين تفحمهم كما ذكر ذلك الزنداني في بعض كتبه.].(/2)
المثال الثاني: أن أعداء الإسلام قد بلغوا شأوا عظيما في هذا العصر من القوة المادية والصناعية، وأصبح عندهم من السلاح ما أخافهم هم أنفسهم من أن يتفجر بينهم في صراعاتهم على زعامة العالم، وما يُطِيش عقولهم في أن يتقاتلوا بذلك السلاح ويدمروا به أنفسهم وبلدانهم وما بنوه من حضارة مادية في مدة طويلة من الزمن.
وهم متفقون جميعا على أن عدوهم الحقيقي هو الإسلام الذي يخشون أن يولد من أبنائه من يُعلِي الله به رايتَه في الأرض، فينطلق الإسلام انطلاقة لا قبل لهم بإعاقته، ولا قدرة لكل السدود التي وضعوها ولا زالوا يضعونها في طريقه، على صده ومنعه عن الانسياب في الأرض، سابقا بعقيدته وأخلاقه ومعاملاته الشاملة، إلى عقول الناس التي لو وصل إليها صحيحا غير مشوه، لأسرعت إلى قبوله ورفضت كل العقائد والمبادئ والأنظمة التي تخالفه والتي شقيت البشرية بها في الأرض، وبخاصة أنه مهيأ ليحل محل تلك المبادئ والأنظمة التي جربت كلها ففشلت، والعالم يترقب ما ينقذه مما حل به من دمار.
وأعداء الإسلام يعلمون أن هذا الدين دين عقيدة صحيحة وأخلاق فاضلة وأنظمة سامية، يدعو إلى العلم الشامل علم الدنيا وعلم الآخرة، وأنه دين المساواة والعدل والحرية والصدق، ويعلمون بأن حضارتهم المادية مبنية على عقائد فاسدة، وتحلل اجتماعي، وأنظمة اقتصادية مدمرة، وأنظمة سياسية لا قدرة لها على الوقوف طويلا أمام سياسة الإسلام، إذا طبقت في الأرض، ديدنهم العدوان على الضعيف وظلمه وهم يزعمون أنهم دعاة سلام وعدل، فإذا طبق الإسلام في الأرض ظهرت عيوب مدنيتهم وانكشف زيف ما يلصقونه بالإسلام من مثالب زورا وبهتانا، ولذلك فهم يخافون من الإسلام خوفا شديدا، ويحيكون للأمة الإسلامية كل المؤامرات، ويعدون العدة لاختلاق الذرائع لشن غاراتهم العسكرية المباشرة على أي دولة إسلامية يخشون من تطبيقها الشريعة الإسلامية تطبيقا صادقا، وليس مجرد دعوى، أو يخشون من امتلاكها قوة عسكرية واقتصادية-وإن كانت علمانية-خشية من أن ترث تلك القوة قيادة مسلمة تعلي بها كلمة الله!.
ولهذا دمر اليهود المفاعل النووي في العراق، وأغْرَتْ الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا نظام البعث العراقي بغزو الكويت، من أجل القضاء على ما يملك من قوة، وقد فعلوا ولا زالوا يفعلون، ويهددون جمهورية باكستان الإسلامية ويحيكون لها المؤامرات لتدمير ما تملك من قوة نووية، ولا يعترضون على قوة الهند الوثنية النووية، ويواصلون دعمهم لليهود ولامتلاكهم مزيدا من القوة النووية، ولا يطيقون أن تملك أي دولة من الدول الإسلامية قوة متميزة ولو كانت غير نووية، كل ذلك من أجل أن يضمنوا تفوقهم العسكري في كل لحظة، على جميع الدول في البلدان الإسلامية، ويريدون لجميع الدول في الشرق الإسلامي أن تكون ضعيفة في سلاحها وجيشها واقتصادها، ما عدا الدولة اليهودية التي احتلت أرض المسلمين في فلسطين، فإنهم يدعمونها بكل وسائل القوة، ليسطروا على بلاد المسلمين واقتصادهم سيطرة كاملة، وليضطروهم إلى عدم التفكير في إقامة دين الله في الأرض بتطبيق شريعته.
ومع وضوح هذا العداء السافر ضد الإسلام والمسلمين، من الدول النصرانية والدولة اليهودية وغيرهم من أعداء الإسلام، فإن مناهج المدارس والمعاهد والجامعات في أغلب البلدان الإسلامية، قد أهملت فقه الجهاد في سبيل الله الذي يوجب على الأمة الإسلامية أن تعد العدة اللازمة لإرهاب أعداء الله، حتى لا يعتدوا على هذه الأمة، وحتى تحطم الأمة الإسلامية كل الطواغيت الذين يصدون الناس عن الدخول في دين الله.
وكذلك أغفلت تلك المناهج في أغلب البلدان الإسلامية قاعدة الولاء والبراء التي أبدى فيها القرآن الكريم وأعاد، موضحا أعداء الأمة الإسلامية من اليهود والنصارى والوثنيين ومكايدهم التي لا يكفون عنها إلى يوم القيامة، بل إن بعض الحكومات في بعض البلدان الإسلامية أمرت بحذف ما كتب من آيات في بعض المقررات الدراسية مما يتعلق باليهود والنصارى حتى لا يتنبه التلاميذ لهذه القاعدة من فهمهم لتلك الآيات، وقد نبه على ذلك بعض كتاب المسلمين في بعض الصحف العلمانية، بعنوان. [فتنة في الأرض وفساد كبير. الأهرام، القاهرية14/10/1413هـ-6/4/1993م ص9، راجع الملف الصحفي الذي تصدره تهامة عدد 362 ص 39 بتاريخ 1/11/1413هـ.]
المثال الثالث. إذا تأمل المتابع لحركة التدبير العالمي وجدها تعتمد على ثلاثة أسس جوهرية، وهي: السياسة والاقتصاد والقوة العسكرية بكل فروعها.(/3)
وقد أنشئت لكل واحد من هذه الأسس معاهد وكليات ومؤسسات ومراكز بحث ومراكز تدريب، وخصصت لها ميزانيات هائلة في بلدان العالم الغربي بالذات، وكذلك في بلدان العالم الثالث-كما يطلق عليه هذه التسمية الغربيون احتقارا له وتثبيطا من التفكير في النهوض-ومنه دول العالم الإسلامي، وكلها تعتمد على المنهج العلماني إلا ما ندر في بعض البلدان الإسلامية، ولهذا سيطرت النظريات السياسية والاقتصادية العلمانية على العالم بدعم من القوة العسكرية، وترى المثقفين ورجال الإدارة والحكم في العالم الإسلامي قد فتنوا بتلك النظريات ورأوا فيها مثالا يحتذى وقدوة تتبع-سواء طبقوا ما فتنوا به أو خالفوه بحسب أهوائهم ومصالحهم، ولم يلتفتوا إلى ما في مصادر دينهم من قواعد السياسة والاقتصاد، بل وقر في أذهانهم أن الدين الإسلامي كغيره من الأديان المحرفة صلة بين العبد وربه، ولا دخل له في حياة البشر الإدارية والسياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، ولم يخرج عن هذه القاعدة التي سار عليها المثقفون من أبناء الأمة الإسلامية إلا من هيأ الله له السبيل، فتربى تربية إسلامية على أيدي علماء الدعوة الإسلامية، ودرس كتبهم ورجع إلى مصادر العلوم الإسلامية فتفقه في دين الله وتيقن أن الإسلام منهج كامل لحياة البشر.
ومع ذلك لا تجد في العالم الإسلامي كله كلية واحدة للاقتصاد الإسلامي، ولا كلية واحدة للسياسة الشرعية، بل لا تجد في كليات الاقتصاد والعلوم السياسية والإدارية، مقارنة جادة بين النظريات الاقتصادية والنظريات السياسية، وبين السياسة الشرعية والاقتصاد الإسلامي، بل مما يؤسف له أن المعاهد والجامعات الإسلامية لم تعط هذين العلمين المهمين في الإسلام-السياسة والاقتصاد-ما يستحقانه من العناية والاهتمام، وإن كانت بعض الجامعات قد أنشأت ما يسمى بقسم السياسة الشرعية، فإن الدراسة فيها دراسة جامدة تعتمد على مذكرات ونصوص جزئية لا تمت إلى حياة البشرية المعاصرة بصلة قوية.
وكان الأجدى بالجامعات الإسلامية أن تنشئ كليات للسياسة الشرعية والاقتصاد الإسلامي، وأن توجد أساتذة مؤهلين يجمعون بين الفقه الإسلامي من مصادره في هذين المجالين، وبين النظريات السياسية والاقتصادية المشهورة في العالم اليوم، وأن تدرس موادها بتوسع ليتخرج فيها ذوو كفاءات مؤهلون لإدارة البلدان الإسلامية سياسيا واقتصاديا، وليظهر للعالم ما في هذا الدين من مزايا يُحَل بها كثير من المشكلات العويصة، ويقضى بها على أزمات مستعصية، وأن وسطية هذا الدين في السياسة والاقتصاد جديرة بالدراسة والمقارنة والتطبيق الذي سيقضي على مفاسد الديمقراطية مع اشتماله على ما قد يكون فيها من محاسن، كما سيقضي على الدكتاتورية والاستبداد مع اشتماله على ما قد يكون فيهما من ضبط وعدم تسيب، وسيقضي على مفاسد الرأسمالية الربوية مع اشتماله على ما قد يكون فيها من حرية فردية محكومة، وعلى مفاسد الاشتراكية مع اشتماله على ما قد يكون فيها من حفظ حق الجماعة بدون اعتداء على حقوق الأفراد.
فهل ننتظر من الجامعات الإسلامية اهتماما ما بذلك؟!
سبب التخصيص.
إن تخصيص الجامعات الإسلامية في هذا السياق، إنما هو من باب مسايرة الواقع الذي فُرِض على الأمة الإسلامية فرضا، بسبب العلمنة التي سيطرت على الحكومات في الشعوب الإسلامية، بعد الجهل الذي خيم على المسلمين والاستعمار الذي كرس جهوده في زيادة جهلهم بدينهم، وبعد التمزق الذي أصاب الأمة الإسلامية في أعقاب سقوط ما كان يربطهم، وهو آخر رمز للخلافة الإسلامية-في دولة بني عثمان-حيث تم الفصل بين الدين والدولة، وتم بناء على ذلك الفصل بين ما سمي بالجامعات المدنية والجامعات الدينية. وأصبح طلاب الجامعات المدنية التي خلت في الغالب من الدارسات الإسلامية هم قادة الشعوب الإسلامية [1] والمدبرين لشؤونها السياسية والإدارية والاقتصادية وغيرها، لأن مناهج جامعاتهم أعدت لتؤهلهم لذلك.
أما طلاب الجامعات الدينية، فقد وضعت لهم مناهج قصد منها حصر نشاطهم في المساجد-أئمة وخطباء ومؤذنين-مقيدا بما يأذن لهم من تربع على كراسي الحكم من طلاب الجامعات المدنية، وفي تدريس المواد الدينية حسب المنهج الذي تضعه الزمرة الحاكمة، ولا زال هذا الفصل مستمرا إلى الآن.
وكان الجفاء والنفرة على أشدهما بين أساتذة الجامعات المدنية وطلابها، وبين أساتذة الجامعات الإسلامية وطلابها، حتى أصبحوا-وهم إخوة في بلد إسلامي واحد-كأن بعضهم أجنبي عن الآخر.(/4)
ولكن بحمد الله وتوفيقه ثم بفضل جهود دعاة الإسلام في نشر المعاني الإسلامية والدعوة إلى الرجوع إلى هذا الدين والتفقه فيه وحمله، أن أقبل طلاب الجامعات المدنية إلى هذا الدين وتمسكوا به حتى فاق كثير منهم في الالتزام به بعضَ طلاب الجامعات الإسلامية، حتى ضاقت بذلك صدور العلمانيين في البلدان الإسلامية، وأساتذتهم في بلدان الغرب ذرعا بهذه الظاهرة، وأصبحوا يحاربون هذا الصنف من الملتزمين أكثر من حربهم للملتزمين بالإسلام من طلاب الجامعات الإسلامية، حتى الطلاب الذين درسوا في الجامعات الغربية معقل العلمانية، رجع كثير منهم وهم يحملون الدعوة إلى الإسلام مع تخصصاتهم المسماة بالمدنية والعسكرية، فكان فيهم شبه بتربية موسى في قصر فرعون، وعلى أهلها تدور الدوائر!
هذا هو سبب تخصيص الجامعات الإسلامية، وإلا فالأصل أن تكون الجامعات في البلدان الإسلامية كلها جامعات إسلامية، بدون حاجة أن توصف بأنها إسلامية، على أن تضم الجامعة الواحدة جميع الكليات والأقسام التخصصية، فتكون في الجامعة كليات الطب والهندسة والجغرافيا والسياسة والاقتصاد والشريعة واللغة وغيرها، وتكون الدارسات الإسلامية مقررة في كل الكليات بالقدر المناسب، مع ما فيها من تخصصات، حتى يكون المتخرجون منها كلهم ذوي كفاءات ومؤهلات متخصصة، مع معرفة القدر الكافي من العلوم الإسلامية، وبذلك يقضى على الازدواجية الموجودة الآن في البلدان الإسلامية.
أقسام العلم في الشريعة الإسلامية.
إن العلم في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما هو فرض عين على كل مسلم.
وهو ما لا يسع أحدا من المسلمين جهلُه، لتعلقه بعينه وعدم سقوطه عنه-ما دام قادرا عليه-بفعل غيره، وذلك مثل العلم بالقدر الضروري من أصول الإيمان، والعلم الضروري بأصول الإسلام، وكل ما هو فرض على الأعيان، فإن الواجب على كل مسلم أن يعلم ما وجب عليه عينا بحسب ما هو مطلوب منه شرعا.
القسم الثاني. ما هو فرض كفاية من علوم الشريعة.
وهو ما لا يجب على أحد بعينه من المسلمين، وإنما يجب على الأمة أن يوجد فيها من يقوم به قياما كافيا، فإذا قام به واحد منها وكان كافيا للأمة سقط عن باقي الأمة، وإن لم يكف الواحد وجب أن يوجد العدد الكافي للأمة بحسب حاجتها، وذلك مثل الفتوى والقضاء والسياسة الشرعية والمواريث والمعاملات والعقوبات-الحدود والقصاص والتعزير-وغير ذلك من علوم الشريعة الإسلامية، فيجب أن يوجد القضاة الذين تحتاج إليهم الأمة مهما كان عددهم، وهكذا المُفْتُون، وفقهاء السياسة الشرعية وخبراء الجهاد والاقتصاد الإسلامي وغيرهم.
هذان القسمان-كما هو واضح-من علوم الشريعة التي تستفاد من القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الوحي الذي جاء به، من عند الله يشملهما، ويدخل في ذلك ما أخذ منهما بطرق الاستنباط والاستدلال المعروفة عند العلماء، وما دلا عليه من مقاصد الشريعة الإسلامية.
القسم الثالث: ما يتعلق بمصالح الدنيا. [2]
مما يرشد إليه الوحي أو العقل أو التجربة أو اللغة، وهي العلوم التي يحتاج إليها المسلمون وغيرهم، وإذا خلا منها بلد تعرض أهله للهلاك أو الانحطاط والتأخر والضعف.
مثل علم الطب والرياضيات والهندسة بأنواعها، وكذلك المهن الأخرى كالصناعة والزراعة والخياطة والحياكة والخبازة وغيرها، فهذه العلوم والمهن من فروض الكفاية.
وفرض الكفاية بقسميه. الشرعي والعادي تأثم الأمة كلها إذا لم يوجد من يقوم به قياما كافيا.
وكلاهما-فرض العين وفرض الكفاية بقسميه-يثاب فاعله-إذا قصد به وجه الله-ويعاقب تاركه القادر عليه. وكلها تدخل تحت الأحكام التكليفية الخمسة، وهي: الواجب والمندوب والمباح والمحرم والمكروه.
وبهذا يعلم أن المسلم مكلف شرعا بجميع العلوم: الشرعي منها والعادي، إلا أن منها ما يكون فرض عين ومنها ما يكون فرض كفاية [3].
وهذا يدل على ارتباط شؤون الدنيا بشؤون الدين، وأن الفصل بينهما فصلا يعزل الدين عن توجيه الأمة في حياتها الدينية والدنيوية، منكر في الإسلام لا يجوز إقراره، وهو الذي دمر حياة المسلمين في هذا العصر، حيث صار لشؤون الدنيا سلطة زمنية مستقلة، ولشؤون الدين زعامات تقيدها سلطة الشؤون المدنية بما تهوى، ولو ألغي بذلك تطبيق الإسلام، اتباعا لما سار عليه العلمانيون في الغرب من إقصاء الدين النصراني الكنسي المحرف عن التدخل في الشؤون الدنيوية، مع أن الفرق الكبير بين الدين الكنسي الذي تَحَكَّم في حياة الناس باسم الله، فأحل ما حرم الله وحرم ما أحل الله بدون إذن من الله، وليس فيه منهج صالح لحياة البشر الشاملة، بخلاف الإسلام الذي لم يدع شاردة ولا واردة في حياة البشر إلا شرع لها فيه ما يحقق لهم مصالحهم ويدفع عنهم المفاسد، إما بالنصوص الصريحة والظاهرة، وإما بالاستنباط والقياس، وإما بما وضعه من مقاصد يندرج تحتها ما لا يحصى من المسائل.(/5)
فالأصل-إذا-أن يكون التعليم ومناهجه ومدارسه وجامعاته على أساس الإسلام، وأن يكون العلماء الذين يتخرجون من تلك المدارس والجامعات كلهم متعاونين-مع تنوع تخصصاتهم-على إقامة دين الله في الأرض، يحكمهم جميعا شرع الله ويسيرون جميعا على نهج الإسلام.
ويظهر من ذلك أن الأوضاع الموجودة الآن في مؤسسات التعليم ومناهجه ونتائجه، التي أوجدت فئة علماء دين هم المسؤولون عن الشؤون الدينية في حدود ما يأذن لهم به الحكام، وفئة يدعون بالمثقفين الذين مكنتهم تخصصاتهم من قيادة الأمة غير متقيدين بشرع الله-إن هذه الأوضاع تعتبر شاذة يجب السعي لإزالتها وإعادة الأمور إلى أصلها كما هو واضح فيما ذكرنا.
ولست بهذا أرى منع جامعات أو كليات أو معاهد متخصصة في بعض العلوم قائمة بنفسها مستقلة عن غيرها، ولا أوجب أن تكون كل الكليات الشرعية وما تسمى بالمدنية في جامعة واحدة، وإن كنت أحبذ ذلك للقضاء على الوضع الراهن الشاذ، وإنما أردت بهذا أن لا توجد جامعات يقال لها مدنية، وأخرى يقال لها دينية، وتكون تلك غير مقيد طلابها بالإسلام في وظائفهم، وهذه غير مأذون لطلابها بالاشتراك في قيادة الأمة وإدارة شؤونها على أساس منهج الله، بل يجب أن يكون الجميع سائرين على هذا النهج الواجب شرعا، بل إن العلماء الذين تخصصوا في علم الشريعة هم الذين يحكمون على التصرفات والنظم، ما هو مشروع وما هو غير مشروع على ضوء فقههم في الدين وتصورهم لما يحكمون عليه.
وقد نص على ذلك العلماء، حتى قال الرازي رحمه الله: [والعلماء في الحقيقة هم أمراء الأمراء، فكان حمل لفظ أولي الأمر عليهم أولى] [4] .
وقال ابن العربي رحمه الله: (والصحيح عندي أنهم-يعني أولي الأمر-الأمراء والعلماء جميعا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم، وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق وجوابهم لازم وامتثال فتواهم واجب...) إلى أن قال. (والأمر كله يرجع إلى العلماء لأن الأمر قد أفضى إلى الجهال وتعين عليهم سؤال العلماء..) [5] .
وقال ابن القيم رحمه الله: (والتحقيق أن الأمراء يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء...) [6] .
ولو أن التعليم في البلدان الإسلامية سار على هذا النهج، لما سبق أهل الباطل بباطلهم إلى عقول أبناء المسلمين، ولكان السبق لعلماء المسلمين بالحق إلى عقول هؤلاء الأبناء.
الأمر الثالث: ما يناسب الدارسين في المراحل الدراسية المبكرة.
ويشمل ذلك طلاب الروضة وطلاب المرحلة الابتدائية والمرحلة المتوسطة-من الجوانب الإيمانية والعبادية والأخلاقية والآداب والحقوق الأسرية والأخوة الإيمانية وحقوق الجيران، والسيرة النبوية التي تغرس في نفوس الطلاب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه، وتعظيم شأن القرآن الكريم وتحبيب الطلاب في حفظه وقراءته، والتمسك به وحب السنة النبوية، وتوقير العلماء واحترامهم ومحبة المسلمين عموما، ومختصرات عن التاريخ الإسلامي وجغرافية البلدان الإسلامية، ونبذة مختصرة عن مقارنة الأديان، يبين فيها الأديان السماوية السابقة على الإسلام وما طرأ عليها من تحريف، والديانات الوثنية ليخلص من ذلك إلى أنه لم يبق دين حق في الأرض محفوظ وسيظل محفوظا إلى يوم القيامة، إلا الإسلام الذي جاء ليكون منهاجا لحياة الناس كلهم، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
مع دراسة بعض أبواب الفقه، وقواعد اللغة العربية من نحو وصرف، وشئ من المفردات اللغوية، وحفظ بعض النصوص المفيدة من الشعر والنثر، واختيارات من كلام الصحابة رضوان الله عليهم.
كما يهتم بتعليم الكتابة وقواعد الخط ومبادئ الحساب والهندسة ونحوها، وكل مرحلة من المراحل الثلاث، يوضع لها ما يناسبها مراعاة لسن الطالب مع الاهتمام بوسائل الإيضاح وجعل الدارس-مع حفظ ما لا بد من حفظه-يفكر ويشغل عقله في فهم ما يمكنه فهمه ولا يعتمد على التلقي فحسب.
إن هذه المراحل-من الروضة إلى المتوسطة-هي مراحل تأسيس لصياغة المسلم الذي يؤمن بدينه إيمانا صادقا مبنيا على حجة وبرهان، وليس على مجرد تقليد، والذي يفقه دينه فقها يصحح به تقربه إلى الله بالعبادة، ويجعل علاقته بالناس علاقة شرعية، تجعله يؤدي إليهم حقوقهم دون نقص، ويأخذ منهم حقوقه دون إجحاف، و يكون لبنة صالحة في الأمة يبني معها الحياة ويتعاون معها على البر والتقوى ولا يكون عالة عليها.
لذلك يجب مراعاة هذه المعاني في هذه المرحلة المبكرة من عمر الإنسان في مناهج التعليم، لما في ذلك من الإعداد والتحصين لعقول ذرا رينا حتى لا يسبقنا إليها أهل الباطل بباطلهم.
فإذا تجاوزوا هذه المرحلة إلى المرحلة الثانوية، أمكن بعد ذلك التوسع في العلوم الأخرى لإعداد الطالب للتخصصات التي يميل إليها في المرحلة الجامعية، وما فوقها.(/6)
الأمر الرابع: مراعاة الفوارق بين الذكور والإناث.
بعد مراعاة فروض العين وفروض الكفاية، والإعداد لما قد يتهيأ له المسلم من تخصصات.
فالمرأة يجب أن تهيأ في الأصل لشؤون المنزل وتدبيره، وتربية الأولاد الأسرية، التي هي أساس لتربية المدرسة والمجتمع، والمجالات التي تنتظر قيام المرأة بالواجبات المناسبة لها، لا تحصى كثرة، وهي لو صرفت كل أوقاتها فيها لكانت جديرة بها، كتهيئة المنزل وترتيبه وإعداد الغذاء، والتنظيف، وإرضاع الأطفال، والعناية بتغذيتهم ونظافتهم وتوجيههم التوجيه الإسلامي المبكر المناسب لأعمارهم، والعناية بالمريض وإسعافاته الأولية التي تقتضي تدربها على وسائل التمريض والإسعاف، والعناية بالمسنين من أقربائها كالأب والأم والجدة ونحوهم، وتعليم بناتها ما يحتجن إلى تعلمه من شؤون المنزل وتربية الأولاد وغيرها مما ذكر.
إن المرأة المسلمة هي المحضن الأول لتربية الطفل تربية إسلامية، وهي أول السباقين بالحق إلى عقل أبنائها وبناتها، ولو أن النساء المسلمات كلهن عنين بتربية أبنائهن وبناتهن تربية إسلامية سليمة في كل منزل، لكان جيل الأمة الإسلامية في كل عصر على هدى من ربه، فقد يكون في المنزل الواحد عشرون ابنا وبنتا أو أكثر أو أقل، فإذا تربى الولد الأكبر تربية سليمة، كان قدوة لمن بعده وخف العبء وأصبحت الأسرة كلها مسلمة بإذن الله.
وإن ما يعانيه المسلمون اليوم من تفلت كثير من الشباب وبعدهم عن التمسك بالإسلام، من أهم أسبابه عدم قيام الأسرة في المنزل وبخاصة الأم بهذا الواجب العظيم، إما جهلا به، وإما تكاسلا، وإما اشتغالا بغيره مما ليس بأولى منه، ولذلك يسبق إلى عقل الطفل بالتدريج الباطلُ، إما عن طريق أهله بالقدوة السيئة والتربية الفاسدة، وإما عن طريق الخادمات الأجنبيات غير المسلمات، أو المسلمات الجاهلات اللاتي هن في حاجة إلى التربة الإسلامية والتوجيه.
هذا هو الأصل الذي ينبغي أن تعد له المرأة.
وهذه المعاني، مع منهاج الحياة الزوجية وحقوق كل من الزوجين وواجباته، وحقوق الأولاد والآباء والأقارب والجيران، وفقه أحكام النساء هي التي ينبغي العناية بها في تعليم الفتاة ومنهاج دراستها.
ثم ينظر بعد ذلك في العلوم التي تحتاج الأمة إليها للنساء خاصة، بحيث تنشأ لهن مدارس ومعاهد وكليات، وتوضع لها مناهج تشتمل على مواد تلك العلوم التي تتخصص فيها النساء للقيام بتدريسها لبنات جنسها، أو بالوظائف التي يحتاج إلى أن تقوم المرأة بها، ولا مانع من مشاركتها في العمل في خارج منزلها في تعليم وخدمة نساء الأمة، إذا استغني عنها بيتها بغيرها من نساء أهل المنزل، كأن تكون غير متزوجة أو لا أولاد لها، والحاجة تدعو إلى مشاركتها في خارج المنزل، في تدريس الفتيات وإدارة مدرستهن، من روضة أطفال إلى الكليات، أو طبيبة في أمراض النساء في عيادة خاصة بهن أو مستشفى خاص بالنساء، ولا يدخله الرجال أطباء أو عاملين إلا عند الضرورة في حدودها، وما أحوج المسلمين إلى أمثال هذا المستشفى في كل مدينة وبلد ليستقل النساء فيه عن مخالطة الرجال! ولاسيما المخالطة مع الخلوة، ويمكن أن تتولى المرأة إدارته وجميع أعماله، كما هو الحال في مدارس البنات وكلياتهن في المملكة العربية السعودية، بل كما هو الحال في مستشفى....
وهكذا العمل في خدمات اجتماعية أخرى خاصة بالنساء وأعمال مالية خاصة بهن، كالمصارف التي يحتاج إليها النساء المسلمات في كثير من الأحيان، بسبب عدم وجود أولياء أمور لهن، فيضطررن إلى الذهاب إلى البنوك والانتظار هناك ومخالطة الرجال.
إنه لا يوجد مانع شرعي من خروج المرأة من منزلها للحاجة الخاصة بها أو حاجة المجتمع إليها، ولكن ينبغي الأخذ بالأسباب المانعة من الفتنة ما دامت ممكنة، أما عند الضرورة أو الحاجة القريبة منها، فإن المرأة تقوم بالأعمال لمساعدة الرجال كمداواة جرحاهم أو نقل موتاهم في وقت الحروب، وكذلك تختلط بالرجال في العبادات التي لا يمكنها الاستقلال فيها عنهم، كالطواف والسعي وغيرهما من أعمال الحج، إلا أنه يجب والحالة هذه الإكثار من تقوى الله ومراقبته-وإن كان ذلك مطلوبا في كل الأوقات-من الرجال والنساء معا، اتقاء لما قد يحصل من فتنة المخالطة، كل هذه المعاني ينبغي مراعاتها في مناهج التعليم.
وليس من الحكمة جعل المنهج للرجال والنساء سواء، مع وجود الفوارق بينهم في مجالات العمل، وفي قوة التحمل وضعفه، وفي الخروج من المنزل وعدمه أو قلته، وفي المشي في مناكب الأرض والأسفار وغيرها.(/7)
ويجب التنبيه هنا إلى ما يحصل من بعض الغيورين من منع النساء من حضور المساجد لسماع الخطب والمواعظ والاستفادة من العلماء في أمور دينهن، هو تشدد في غيره محله. وقد كان النساء يحضرن صلوات الجماعة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في أوقات معينة يعظهن فيها ويعلمهن، وغاية ما نصح به الرسول صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء هو الورع والبعد عن الفتنة فقال-كما روى عنه أبو هريرة-: [خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا.] رواه مسلم
ولا زال النساء يحضرن المساجد ويسمعن المواعظ في كل المساجد الكبيرة كالمسجد الحرام والمسجد النبوي وغيرهما، وإذا احتاجت المرأة إلى السؤال عن أمر من أمور دينها فلها أن تسأل العالم، بل إذا احتاج الرجل أن يسأل المرأة التي عندها علم يحتاج إليه فله أن يسألها، كل ذلك في حدود الحاجة والأدب الإسلامي لا مانع منه، فلا تفريط ولا إفراط.
الأساس الثالث. وضع الكتب المناسبة للمراحل الدراسية.
ويجب أن يتحقق بتلك الكتب أهداف التعليم المذكورة آنفا، بدء بالكتب المعدة للأطفال، وانتهاء بالمراحل الجامعية-الكليات وما فوقها-وتشمل كل العلوم والتخصصات.
ويراعى في إعداد هذه الكتب الأمور الآتية.
الأمر الأول: أن يختار لتأليفها متخصصون في كل علم مؤهلون لذلك قادرون على صياغتها، بأساليب تناسب العصر.
وينبغي تجنب العبارات المعقدة والمصطلحات الصعبة، وبخاصة في المراحل الأولى، مع التقيد باللغة العربية الفصحى، وأن يكون المؤلفون من الصالحين الملتزمين بالإسلام قولا وعملا، ليجتمع في المادة التي يتولون الكتابة فيها العلم الموثق والعاطفة الإيمانية الجياشة المؤثرة.
الأمر الثاني: أن يجمع في المادة المكتوبة بين القواعد والنصوص التي يجب حفظها وفهمها بالشرح والإيضاح، وبين الحوار والأسئلة التي تدرب الطالب على التفكير والاستنباط والاستنتاج والتطبيق.
ولا ينبغي أن يكون الطالب نسخة مكررة للكتاب الذي يحفظه، وهذا الأسلوب يمكن اتباعه في كل المراحل مع مراعاة السن، فالمقصود من التعليم إيجاد عقول تفكر وتبدع وليس مجرد ببغاوات تتلقى وتقلد.
الأمر الثالث: استعمال وسائل الإيضاح المعاصرة التي تمكن الطالب في جميع المراحل-وبخاصة المراحل المبكرة-من فهم المواد الدراسية، لا فرق بين الدينية منها وغير الدينية.
ومن أمثلة وسائل الإيضاح في المواد الدينية ما يأتي:
المثال الأول: توضيح معنى توحيد الربوبية للطفل في المرحلة الابتدائية:
ينبغي أن يكون في الفصل الدراسي شريط(فيديو) يشتمل على صور للكواكب من شمس وقمر ونجوم، وللأرض من جبال وغابات وأنهار وبحار وسحب ورمال… تعرض كلها عندما يقال للطفل: والدليل على توحيد الربوبية: خلق السماوات والأرض والشمس والقمر… ليتصور الطفل هذه الأدلة تصورا واضحا، فإنه لا يتصور ذلك بمجرد الحفظ والتلقين كما هو معروف.
المثال الثاني: توضيح معنى صفة الوضوء، وصفة الصلاة.
ينبغي كذلك أن يوجد شريط(فيديو) في الفصل الدراسي مشتمل على تينك الصفتين، بحيث يتصور الطفل صفة الوضوء وصفة الصلاة تصورا واضحا، ويطلب من بعض الأطفال تطبيق ذلك عمليا أمام زملائهم. وهكذا بقية العلوم.
كما ينبغي أن تكون طريقة المدرس في الشرح والإيضاح طريقة الحوار والسؤال والجواب، وليست طريقة الإلقاء والإملاء باستمرار، لما في الطريقة الأولى من إشراك الطالب وتفاعله مع المدرس والمادة والكتاب، وما في الطريقة الثانية من غفلته وشروده وعدم استيعابه وتصوره للمعاني التي لا يدرك غالبها.
وهكذا ينبغي أن يراعى في تأليف الكتب وإخراجها، ليقضى بذلك على الشكوى المتكررة من عدم فهم الطلاب، بل من الملل الذي يصيبهم في أوقات التدريس، ومن الرغبة في الخروج من المدارس…
الأمر الرابع: أن تكون الصبغة الإسلامية شاملة للكتب الدراسية كلها.
يستوي في ذلك ما يتعلق بالعبادة أو بغيرها، كالمعاملات والحدود والقصاص، وما يتعلق بعلوم الإنسان الأخرى، كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الاقتصاد.
ولا يجوز أن تكون –العلوم الإنسانية-نقلا محضا لأفكار الغربيين ونظرياتهم، وهذا لا يمنع من المقارنة وإيضاح ما بها من أخطاء وإبراز تفوق الإسلام عليها، فإن الكتاب والسنة إنما جاءا لإصلاح النفس البشرية والجماعات والأسر والأفراد والدول، فلا بد أن يكون الكتاب والسنة وما استنبطه منهما علماء الإسلام ومقاصد الشريعة الإسلامية، هي مصدر هذه العلوم ومرجعها، ولا يوجد باب من الأبواب التي يحتاج إليها الإنسان لإصلاح نفسه وعمارة الأرض والقيام بالخلافة فيها، إلا وقد اشتمل عليه الكتاب والسنة وفصله علماء المسلمين قديما وحديثا، في كتب التفسير، وشروح الحديث، وكتب الإيمان "العقائد" والأخلاق، وأصول العلوم، مثل. أصول التفسير وأصول الحديث وأصول الفقه، و الفقه، وغيرها من العلوم... .(/8)
ولا يمنع ذلك اطلاع علماء المسلمين على الأفكار والنظريات ة في تلك العلوم، ووزنها بميزان الإسلام، وبيان ما فيها من زيف للطلاب، حتى لا تغزو عقولهم وهي خالية غير محصنة فتتمكن منها، لتقديمها في أساليب مزخرفة.
ولا يقتصر هذا الأمر-وهو صبغة الكتب بالصبغة الإسلامية-على ما يسمى بالعلوم الإنسانية فحسب، بل إن العلوم الكونية كالجغرافيا والجيولوجيا وعلم الفلك وعلم الطب ونحوها، ينبغي أن تربط بالإسلام من حيث إن الله تعالى هو خالق هذا الكون وهذا الإنسان، وهو الذي سخر للإنسان ما في السماوات والأرض، ومنحه العقل الذي يتفكر ويتدبر ويستنتج ويزن ويقارن، والأدوات التي بها يستغل خيرات الأرض وبركات السماء، وكلما زاد الإنسان علما بما في الكون زاد إيمانه بالله خالق الكون وشكره له، وكثر تواضعه وأدبه مع ربه وقدره حق قدره، ولا يكون كمن صال وجال في استغلال هذا الكون وما فيه من طاقات ناسيا ربه بل مغرورا بنفسه مدعيا أنه قهر الطبيعة قائلا: {إنما أوتيته على علم عندي}.
وكذلك يجب أن تتضمن الكتب الدراسية توجيه الأجيال إلى السبيل المشروع في استغلال ثمرات العلوم المدروسة، بأن تستعمل في إسعاد البشر وأمنهم واستقرارهم، وليس في ظلمهم وتخويفهم واغتصاب حقوقهم، كما يفعل أعداء الإسلام اليوم، فالمسلم قائد عادل رحيم كريم حازم، لا يستغل ثمرات العلوم إلا فيما هو طاعة لله وإحسان إلى خلقه، وإذا ما قاوم الطغاة الجبابرة وجا هدهم وطاردهم في الأرض، فإنما يفعل ذلك رحمة بالأمم التي يظلمها هؤلاء الطغاة، ويحولون بينها وبين التمتع بالسعادة التي منّ الله بها عليهم، من حفظ الضرورات التي لا حياة لهم بدونها وحفظ مكملاتها.
الأمر الرابع: أن يجتهد مؤلفو الكتب الدراسية في معرفة قواعد العلوم وأسرارها.
وأعني بذلك العلوم الكونية كالرياضيات ونحوها، ويجب أن يجتهدوا كذلك في إيصال تلك القواعد والأسرار إلى عقول الطلاب، حتى لا تكون حكرا على غير المسلمين من أهل الغرب، هم يصنعون ونحن الذين نستهلك فقط، فإن ذلك يجعل الأمة الإسلامية خاضعة لغيرها مستعبدة مقلدة غير مبدعة، كما هو الحال الآن، إذ يأخذ أعداؤهم خيراتهم من أنواع المعادن والمواد الخام بأرخص الإثمان ويصنعونها، ثم يبيعون الرديء من مصنوعاتها لهم بأعلى الأسعار، وبخاصة السلاح الذي تتعطل حركة أي شعب مسلم في وقت شدة الحاجة إليه في أوقات الأزمات العسكرية إذا منعت عنها الدول الغربية قطع الغيار.
الأمر الخامس: أن يهتم العلماء المسلمون بترجمة الكتب العلمية المفيدة التي يكتبها الغربيون في العلوم الكونية أو الإدارية.
إن الواجب على المسلمين أن يستفيدوا من التجارب البشرية التي يحتاجون إليها، ما دامت لا تخالف شيئا من دين الله.
والتجارب البشرية ليست ملكا لأحد، فما من جيل يَخلُف إلا بنى نشاطه على تجارب أجيال تُخلَف. وقد اجتهد سلفنا في ترجمة كثير من الكتب العلمية التي ألفها اليونانيون وغيرهم واستفادوا منها وزادوا عليها وطبقوا نظرياتها في تجارب واقعة، وهي التي كانت مصدرا لحضارة الغرب الحالية باعترافهم، فلم لا نقتدي بسلفنا-فيما نحن في حاجة إليه ولا يخالف ديننا-ونسترد بضاعتنا؟!
الأساس الرابع. إعداد المدرسين والأساتذة المتخصصين.
ويجب إعداد المدرسين والأساتذة المتخصصين وتدريبهم، تدريبا يجعلهم قادرين على القيام بوظائفهم، قياما يخرج أجيالا ذات كفاءات عالية في كل علم من العلوم التي تحتاج إليها الأمة الإسلامية، وإذا أمكن القيام بهذا التدريب في بلدانهم فبها، وإلا اختير منهم المتفوقون دينا وخلقا وعلما ورغبة وقدرة على الاستيعاب، لما يتدربون عليه ثم إفادة أوطانهم إذا رجعوا إليها، فيندبون إلى البلدان التي يتوافر فيها التدريب المطلوب.
ويدخل في هذا إعداد أجهزة إدارية وإشرافية قادرة على إدارة المؤسسات التعليمية، تعين المدرسين والطلاب بتوفير كل ما يحتاجون إليه في أعمال التعليم، ليتفرغ المدرس والطالب لوظيفة التعليم والتعلم، حتى تؤتي هذه الوظيفة ثمارها.
الأساس الخامس. ربط التعليم بالتربية الإسلامية.
يجب تزكية الدارسين بالإيمان والتقوى والعمل الصالح الذي يرضي الله، وغرس الأخلاق الفاضلة في نفوسهم وجعلهم يحققون معنى الاستخلاف الشرعي في الأرض.
وبهذين الركنين-التعليم والتزكية-جاء القرآن الكريم، كما قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} .
فالمقصود من العلم: التربية والتزكية والحكمة، وليس العلم للعلم فقط كما يقال!
-------------
[1]-بل تجاوز الأمر المدنيين إلى أن تولى أزمّة الأمور في كثير من بلدان المسلمين العسكر.(/9)
[2]-الأصل في التقسيم أن العلم قسمان: فرض عين، وهو ما تعلق بذات كل فرد من أفراد المسلمين، بحيث لا يغني عنه غيره في القيام به… وفرض كفاية، وهو ما لم يتعلق بذات الأفراد، وإنما يتعلق بوجود الفرض نفسه، بحيث يغني في القيام به عن الأمة من يقوم به عنها قياما كافيا، وهذا الفرض قسمان: قسم يتعلق بالمصالح الدينية تعلقا مباشرا، كالجهاد في سبيل الله، والقضاء والفتوى… وقسم يتعلق بمصالح الدنيا، كالصناعة والتجارة… وقد فضلت إفراد هذا القسم وجعله ثالثا، لأنه-مع إثم المسلمين بتركه كالقسم الذي قبله-من الأمور التي يشترك المسلمون وغيرهم في ضرورة القيام بها لأن حياتهم لا تقوم بدونها. ولا مشاحة في الاصطلاحات.
[3]-راجع إحياء علوم الدين (1/16) للغزالي. ومجموع الفتاوى لابن تيمية (28/79-80).
[4]-التفسير الكبير (10/144-146).
[5]-أحكام القرآن (2/210-211).
[6]-أعلام الموقعين عن رب العالمين (1/10).
الوسيلة السادسة: العناية باللغة العربية ونشرها.
اللغة العربية هي لغة القرآن والسنة-أي لغة الإسلام، فالقرآن نزل بهذه اللغة، والسنة وردت بهذه اللغة، والآثار المفسرة للقرآن والسنة، ومصادر الفقه الإسلامي، وتاريخ الإسلام، وكتب الآلة من نحو وصرف وبلاغة ومصطلح وعلم تفسير وغيرها، أساسها اللغة العربية، فلا غرو أن تكون اللغة العربية هي مفتاح علوم الإسلام كلها، فلا يفقه هذا الدين حق الفقه، ولا يعلم مقاصده وأسراره وحكمه وعلله حق العلم، إلا من فقه هذه اللغة.
ولهذا كثر وصف كتاب الله-القرآن الكريم-بكونه عربيا، كما قال تعالى: {كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون} .
وقال تعالى: {إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} .
وقال تعالى: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} .
وقال تعالى: {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} .
وقال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} .
وقال تعالى: {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا} .
وقال تعالى: {وكذلك أنزلناه حكما عربيا} .
وقال تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} .
وقال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا} .
وقال تعالى: {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} .
حكمة وصف القرآن بأنه عربي.
إن هذا التنويه بكون القرآن عربيا، لجدير بالتأمل والنظر ولو وصف الله القرآن الكريم بأنه عربي مرة واحدة فقط لاستحق التأمل والنظر، فكيف وقد كرر تعالى وصفه بذلك في أساليب متعددة؟!.
ولو أن مخلوقا عاقلا وصف شيئا ما بوصف مرة واحدة، لكان لوصفه بذلك اعتبار عند القارئ والسامع فكيف إذا وصفه بذلك مرات؟!
وكيف إذا كان هذا الوصف صادرا عن الله في كتابه، فما حكمة وصف القرآن الكريم بأنه عربي؟
هل المقصود من ذلك بيان إعجاز القرآن الذي نزل بلغة العرب، وقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا؟
نعم إن ذلك لمقصود، ولكن هذا التحدي يكون أكمل عندما يتعلم غير العربي اللغة العربية ويصبح لسانه عربيا، يفهم القرآن الكريم بلغته التي نزل بها ويتذوق أساليبها وبلاغتها ويتعمق في فهم معانيها، ويطلع على أسرار القرآن وحكمه بها، فيتبين له معنى كون هذا القرآن معجزا حقا.
وهل المقصود بذلك نفى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم تعلم هذا القرآن من بعض من كان عندهم علم من الكتب السماوية السابقة، كما زعم ذلك بعض أعداء الإسلام؟
نعم، إن ذلك لمقصود وقد صرح الله بذلك في قوله. {لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} . ولكن هذا المعنى المقصود جزء مما يحمله هذا الوصف وليس كل معناه.
وهل المقصود أن هذا القرآن الذي نزل باللغة العربية، مع أنه نزل لهداية جميع البشر، شرف لك أيها الرسول ولقومك العرب وبخاصة قريشا؟!
نعم إن ذلك أيضا لمقصود، كما قال تعالى: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} .
ولكنه ليس ذلك كل المقصود.
بل هناك مقاصد أخرى من أهمها ما يأتي.
المقصد الأول: أن الدين الإسلامي إنما جاء باللغة العربية.
لقد جاء هذا الدين-أي دين الإسلام-عن طريق القرآن الكريم والسنة النبوية، وكلاهما باللغة العربية ويتوقف فهمه السليم الكامل على فهم اللغة التي حملته إلى الناس، وهي اللغة العربية، ولا يمكن أن يَنقُل للناس معاني دين الإسلام نقلا صحيحا ويبينها بيانا شافيا، إلا مَن كان عنده دراية تامة باللغة العربية، بقواعدها وبلاغتها واشتقاقها وغريبها وحقيقتها ومجا زها وأساليبها، لأنها لسان هذا الدين ولسان كتابه ولسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولسان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وهذا لسان عربيٌ مبين}. وقد كلف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بيانَ هذا الدين للناس، وقد فعل ذلك، وبيانه كان بلغته التي نزل بها القرآن قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} .(/10)
وقال تعالى: {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} .
وقد كلف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي آمنت به واتبعته، تبليغَ هذا الدين، وفي طليعة أمته أصحابه الكرام رضي الله عنهم، كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} .
وقد قاموا بنشر هذا الدين وبيانه للناس بلسان عربي مبين.
وترجمة معاني القرآن الكريم لمن لا يفهم اللغة العربية، لا سبيل إليها إلا لمن يجيد اللغة العربية واللغة المترجم إليها، فاللغة العربية هي أساس البيان لهذا الدين الذي نزل بها.
المقصد الثاني: أن من أهم وسائل نشر الإسلام اللغة العربية.
إن علماء الإسلام مأمورون باتخاذ كل وسيلة مشروعة لنشر هذا الدين وإبلاغ معانيه إلى الناس، ومن أهم وسائل نشره تعليم الناس اللغة العربية التي يتمكن مَنْ تعلمها من فهم هذا الدين فهما صحيحا سريعا.
المقصد الثالث: أن كثيرا من العبادات يجب أداؤها باللغة العربية.
مثل قراءة الفاتحة في الصلاة، وأذكار الصلاة كتكبيرة الإحرام وأذكار الركوع والسجود والتشهد، ونحوها من فروض العين التي يجب على المسلم أداؤها باللغة العربية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ليتقرب بها إلى الله تعالى.
المقصد الرابع: لا بد من وجود علماء يفقهون الإسلام باللغة الغربية.
إنه لا بد من وجود علماء يجيدون اللغة العربية، إجادة تجعلهم قادرين على فهم معاني القرآن والسنة وكتب العلم التي يحتاج إليها المسلمون، ليكونوا مرجعا لأهل كل بلد يعلمون الناس معاني القرآن الكريم والسيرة النبوية وغيرها، فإن وجود علماء باللغة العربية تحصل بهم الكفاية في ذلك وغيره، هو فرض كفاية يأثم كل قادر من الأمة على عدم إيجادهم، ويأثم القادرون على تعلم اللغة العربية للقيام بهذا الفرض إذا لم يتعلموها.
المقصد الخامس لا بد من وجود قادرين على ترجمة معاني الإسلام.
وهذا المقصد لا يحصل إلا بوجود علماء يجيدون اللغة العربية ويجيدون لغة البلد الذي يريدون دعوة أهله إلى الإسلام، ليترجموا لأهله معاني القرآن الكريم والسنة النبوية، وما يجب إبلاغه إلى الناس من أحكام هذا الدين، لأن علماء الإسلام مأمورون بالبلاغ المبين الذي أصبح من واجبهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من السهولة بمكان أن يتعلم كل الناس اللغة العربية.
ترجمة معاني الإسلام إلى اللغات الأخرى.
هذا وليعلم أن تبليغ الناس معاني الإسلام وأحكامه بالترجمة إلى لغات أخرى غير اللغة العربية، أمر تقتضيه الضرورة، إذ أنه مهما أوتي المترجم من إتقان للغة العربية واللغات الأخرى التي يترجم بها معاني الإسلام، لا يمكنه أن يستوعب ما تحويه اللغة العربية من معان إلى اللغات الأخرى، ولذلك يجب على المسلمين أن يهتموا بتعليم اللغة العربية ونشرها بكافة الوسائل المتاحة، كالمدارس والمعاهد والجامعات والكتب وإعداد المعلمين وتدريبهم، والمنح الدراسية في البلدان العربية لغير العرب، وكذلك استغلال أجهزة الإعلام كالمذياع والتلفاز والفيديو والكاسيت وغيرها، لتعليم الناس-وبخاصة المسلمين-لغة القرآن ليصلوا إلى فهم هذا الدين فهما مباشرا بلغته التي جاء بها.
وإني أشبه من يجيد اللغة العربية ويفهم دينه من القرآن والسنة وكتب العلم بها مباشرة، برجل اشتد عطشه فرأى عينا جارية تنبع من صخرة في قمة جبل وهو في أسفله، فشمر صاعدا حتى وصل إلى نبع الماء واستقى منه عذبا زلالا صافيا.
وأشبه من وصلت إليه معاني الإسلام بالترجمة، برجل آخر اشتد عطشه، وهو مصاب بالكسل، وقف في أسفل الجبل ينتظر وصول الماء إليه ليشرب منه وهو في مكانه، فوصل إليه الماء وقد مر بالتراب والقاذورات التي كدرته فأخذ يشرب منه وهو بتلك الحالة.
وإن الأمة الإسلامية لجديرة بالاهتمام بلغتها ونشرها بالوسائل المتاحة، لتصل إلى الناس في هذا الكوكب الأرضي، فهي لغة دين لم يعد في الأرض دين حق سواه، وهو الذي حفظ لها هذه اللغة من الضياع، لحفظ الله تعالى هذا الدين بحفظ كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} .
انتشار لغة الأمة من علامات قوتها.
وإن انتشار لغة أي أمة لهو دليل عظمتها وتفوقها، وبلغتها تستطيع أن تسبق بدينها وفكرها وسياستها واقتصادها وسائر علومها، غيرَها من الأمم إلى عقول الناس.
وهذا ما تحقق للأمة الإسلامية أيام مجدها، حيث انتشرت لغة دينها انتشار مساجدها ومعاهدها ودعاتها، ونبغ في اللغة العربية أئمة من غير العرب فملئوا بعلمهم الآفاق من حدود الصين شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا.
وكانت الأمم تتسابق إلى علوم المسلمين في كل مجال من مجالات الحياة، كما نقل المسلمون علوم الأمم الأخرى إلى لغتهم، واستفادوا منها وطبقوها عمليا وزادوا عليها، وعلى أيديهم تعلم الأوربيون أسس حضارتهم التي يفخرون بها اليوم.(/11)
وإن مما يؤسف له أن تنحدر الأمة الإسلامية انحدارا مروعا، في دينها وخلقها وسياستها واقتصادها وأمنها ووحدتها وقوتها العسكرية، مما كان له أثره البالغ على لغتها التي لم تعد لها مكانتها في العالم، بل أصبحت في مؤخرة اللغات، وأصبحت لغات الأجانب من النصارى وغيرهم هي لغات العلم والثقافة والفكر في العالم وأصبح المسلمون-والعرب منهم بصفة خاصة-يفتخرون باللغات الأجنبية ويتكالبون على أفكار أهلها وآدابهم ويتأثرون بهم، فأصبح السبق للأجانب ولغاتهم وأفكارهم إلى عقول أبناء الأمة الإسلامية بدلا من أن تسبق الأمة الإسلامية بلغتها ودينها وفكرها إلى عقول أبناء الأمم الأخرى [1] .
وها هي أمم الغرب تنشر لغتها في كل مكان، عن طريق مناهج التعليم والإعلام والبحث العلمي والأدوات المتنوعة والمواصلات والاتصالات، حتى ليكاد المسلم العربي يكون غريبا بلغته في بلاده، يقتني الجهاز الذي يحتاج إليه فلا يستطيع استخدامه لأن الكتب الإرشادية المتعلقة باستخدامه قد أعدت باللغات الأجنبية. وهكذا الدواء والغذاء وغيرها، وهكذا الفنادق والشركات والمستشفيات، بل إن بعض البلدان العربية ما زالت معاملاتها الرسمية باللغة الأجنبية!
وإنما هانت اللغة العربية عند أهلها، لهوان الدين في نفوسهم وضعف فقههم له، ولو كان الدين قويا في نفوسهم مطبقا في حياتهم، لعرفوا للغته حقها وقدروها حق قدرها، وسابقوا غيرهم بدينهم الحق بلغته إلى عقول الناس في الأرض كلها.
إن ترجمة معاني الإسلام من اللغة العربية إلى اللغات الأخرى لإبلاغ أهل تلك اللغات هذا الدين، هي فريضة كفائية، ولكن أنى لأهل تلك اللغات أن يفهموا حقائق هذا الدين كاملة عن طريق ترجمته وليس عن طريق اللغة العربية مباشرة؟!
ولقد بذل علماء الإسلام من سلفنا الصالح، جهودا مضنية لإبلاغ حقائق الإسلام إلى عقول الناس عربا وعجما، بما وضعوه من قواعد اللغة العربية من نحو وصرف واشتقاق وغيرها، وبما وضعوه من قواعد شرعية تضبط بها مقاصد الشريعة وأحكامها، من أصول الفقه وقواعده، فبينوا النص والظاهر والمجمل والمبين والمقيد والمطلق والخاص والعام، وما وضعوه من مصطلحات في علوم الحديث وعلوم التفسير، فكانوا بذلك أعظم أمة اتخذت وسائل لغوية وشرعية لتسبق بالحق الذي آتاها الله باطلَ الأمم الأخرى إلى عقول الناس.هذا بالإضافة إلى بذل جهودهم في مجالات التعليم والدعوة والجهاد في سبيل الله.
الوسيلة السابعة: القدوة الحسنة.
إن من أهم وسائل السباق إلى العقول، القدوة الحسنة التي يراها الناس ويلمسونها في صاحب الحق، بحيث يرون صاحب المبدأ يطبق مبدأه في واقع حياته وتصرفاته، فإذا كان المقام يحتاج منه إلى الكرم أقدم إلى البذل والعطاء، وإذا كان المقام يحتاج منه إلى خلق الشجاعة رآه الناس مقداما غير هياب، وإن اختبروه في صفة الصدق لم يجربوا عليه كذبا، وإن التمسوا عدالته لم يجدوا منه ظلما، وإن أرادوا معرفة تقواه ألفَوه يدع ما لا بأس به خشية من الوقوع فيما به بأس، لشدة تحرجه من الوقوع في المأثم، فضلا عن إتيانه الأوامر الواجبة وتركه المحرمات.
والخلاصة أنه يتحرك في نشاطه كله بالقرآن والسنة، فإذا رآه الناس مداوما على ذلك مالوا إلى الاقتداء به ولو لم يتكلم، لأن الحق بذاته يدعو الناس إلى ذاته، فكيف إذا رأوه مطبقا في حياة أهله ورأوا ثمار تطبيقه في الحياة؟ ويبدأ المعاند المناوئ للحق يفكر في سيرة صاحب الحق ويتدبر ويقارن بين الحق الذي يراه مطبقا في حياة صاحبه، وبين الباطل الذي يزاوله هو، ويترتب على ذلك أحد أمرين.
الأمر الأول: اتباع الحق والعمل به، ونبذ الباطل.
الأمر الثاني: الإصرار على الباطل، مع تيقنه أنه باطل، وترك الحق مع تيقنه أنه حق، وفائدة ذلك انكسار نفس صاحب الباطل أمام صولة الحق، وإقامة الحجة العملية عليه.
أما إذا كان الداعي إلى الحق لم يلتزم هو نفسه به ولم يطبقه في حياته، فإن الناس ينصرفون عنه ولا يشغلون عقولهم بالتفكير فيما يدعو إليه، لمعرفة كونه حقا فيُتَّبَع أو باطلا فيُجتَنَب.
وهذه هي القدوة السيئة التي تُنَفِّر من المبدأ وإن كان حقا، كما هي عادة غالب الناس، وقد يوجد من يفكر في المبدأ الذي لا يكون الداعي إليه قدوة حسنة في تطبيقه، فيعلم أنه حق ويتبعه، ولكن ذلك ليس من وسائل السباق الناجعة إلى العقول.
لهذا كان للقدوة الحسنة منزلتها في الإسلام. وكان رسل الله وأنبياؤه والداعون إلى هداه، كلهم قدوة حسنة، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بمن سبقه من إخوانه المرسلين، فقال تعالى: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} .
وأرشد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إلى الاقتداء بنبيه إبراهيم عليه السلام ومن معه، فقال تعالى: {قد كانت لكم حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله} .
وقال تعالى: {لقد لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} .(/12)
وحث تعالى هذه الأمة حثا مؤكدا على الاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم الذي جمع كل قدوة حسنة سبقه الأنبياء وزاده الله من فضله، فقال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} .
ولقد كانت الأمة الإسلامية في ماضي عهدها، قدوة حسنة في إيمانها وفي عبادتها ومعاملاتها وسلوكها، وفي عهودها ومواثيقها وفي الأخذ بأسباب القوة والعزة، فكان ذلك سببا في سرعة وصول الحق الذي يحملونه إلى عقول الأمم في مشارق الأرض ومغاربها، فسارع الناس إلى الاقتداء بهم واتباع دينهم، حتى ترك أهل الديانات الأخرى دياناتهم، ووقف رعايا الطغاة ضد طغاتهم إيثارا للحق على الباطل، ونصرةً لأهل الحق على أهل الباطل، فوصل الإسلام إلى لشبونة وفينا وبلغراد وموسكو وبلاد الصين والفلبين وإندونيسيا وإفريقيا، بدون قتال في غالب تلك البلدان، لأن القدوة الحسنة تجعل اتباع الحق سهلا ميسرا لرؤيته مطبقا في واقع الحياة، يطبقه البشر.
وذلك على عكس ما عليه الأمة الإسلامية اليوم، حيث يغلب عليها القدوة السيئة التي جعلت الأمم تنفر منها ومن دينها، وجعلت أعداء الإسلام يستغلون تلك القدوة السيئة، فيبرزونها في مؤتمراتهم وندواتهم ومناهج تعليمهم وإعلامهم وفي كل مناسبة تسنح لهم.
يسمع الناس أن الإسلام يدعو إلى الصدق، ولكنهم يرون في كثير من المسلمين الكذب.
ويسمعون أن الإسلام دين القوة والعزة، ولكنهم لا يرون في المسلمين الا الضعف والذلة.
ويسمعون أن الدين الإسلامي يدعو إلى الجماعة والوحدة وأن الأمة الإسلامية أمة واحدة، ولكنهم يرون المسلمين متفرقين مختلفين، يسب بعضهم بعضا، ويعتدي بعضهم على بعض، ويقتل بعضهم بعضا. ويسمعون أن الإسلام دين الرحمة وأن المسلمين رحماء فيما بينهم، ولكنهم لا يجدون في كثير من المسلمين إلا القسوة والعنف يأكل القوي منهم الضعيف. ويسمعون أن الإسلام دين العدل، ولكنهم يرون الظلم بين المسلمين هو السائد.
ويسمعون أن الإسلام يدعو إلى الشجاعة، ولكنهم يرون المسلمين جبناء تضيع حقوقهم وتغتصب بلادهم من قبل عدوهم القليل فيستسلمون له ويخضعون وهم كثر.
فكان ذلك سببا في نفور الناس عن هذا الدين الذي صار أهله قدوة سيئة فيه.
وأقول-إنصافا للحق-: إنه يوجد في المسلمين من هو قدوة حسنة ولكن ليس على مستوى الأمة.
والقدوة الحسنة عندما تكون على مستوى الأمة، تبرز معاني الإسلام في السياسة والحكم والاقتصاد والسلوك والنواحي الاجتماعية والعسكرية والقوة الصناعية وغيرها.
أما ما يكون على مستوى الأفراد والأسر وبعض الجماعات الصغيرة، فإنه قدوة حسنة، ولكنه محدودة غير بارز للعالم الذي لا يطلع إلا على ما تبرزه وسائل الإعلام وإمكانات الدول.
والذي يراه الناس الآن في المسلمين هو الإسراف في المحرمات ومحاربة أغلب حكوماتهم للإسلام والدعاة إليه، والتأخر في الشؤون الإدارية والاقتصادية، مع كثرة الخيرات في بلدانهم وسعة أراضيهم، كما يرون تقتيل أعدائهم لهم وإخراجهم من ديارهم، وهدم مساجدهم وانتهاك أعراضهم، وهم سادرون في غيهم يرقصون ويغنون ويمثلون ويتعرون، يقضي في أمورهم غيْرُهم، وكأنهم غير موجودين على ظهر الأرض:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود
فأين هي القدوة الحسنة فيهم، حتى يكونوا من السباقين بالحق إلى العقول، وعقولهم مأوى للباطل؟!
---------------
[1]- ليس المراد هنا التنفير من تعلم اللغات الأجنبية للاستفادة منها في العلوم المحتاج إليها وفي دعوة أهل تلك اللغات بها إلى الإسلام فهذا من فروض الكفاية في الإسلام، وإنما المراد المبالغة في تقديس تلك اللغات ونسيان اللغة العربية لغة الإسلام.(/13)
وسائل التربية الإسلامية
... تربية
لقد تميّزت التربية الإسلامية بوسائل فذّة، تنسجم مع خصائص النفس البشرية وتتعدّد وتتنوّع لتستوعب جميع مداخلها ومختلف أطباعها. ومن تلك الوسائل:
1 ـ التربية بالقدوة: فقد أجمع المربُّون المسلمون على أهمية ووجوب اتباع قدوة شرّعها الإسلام متمثلة بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلّم.
وهنا يتبادر للذهن سؤال، وهو: لماذا شخص الرسول بالذات؟
الجواب: أن الإسلام هو خاتم الأديان، ودين الكمال، وصاحب النهج الشامل المعجز، وقد أراد مُنزل هذا الدين أن يجتمع بشخص رسوله كل صفات الكمال وسمات العظمات الموجودة على الأرض وذلك ليكون قدوة للناس في واقع الأرض. فمن المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان خلقه القرآن فلذلك أراد الإسلام للمسلمين أن يلمسوا هذه الصفات الأخلاقية ويَرَوْها من خلال قدوة تتمثّل ببشر مثلهم، فيصدقون هذه المبادىء الحية لأنهم يَرَوْنها رأي العين ولا يقرؤونها في كتاب! ولأنهم يَرَوْنها في بشر مثلهم، فتتحرك لها نفوسهم وتهفو مشاعرهم فيحاولون تقليده واقتباس صفاته.
والمتتبّع لصفات الرسول يجد أن شخصيته الكريمة صلى الله عليه وسلّم متعددة الجوانب بشكل يجعله منفرداً عن الرسل بميزات عديدة، فشخصية الرسول تمثّلت بها كل جوانب الحياة وما كل رسول كان له مثل هذا: فالرسول عليه الصلاة والسلام كان أباً وما كل رسول كان أباً، وكان زوجاً وما كل رسول تزوّج، وبُعث للإنسانية عامة ولم يُبعث رسول قط للإنسانية عامة غيره.
فنحن نرى أن البشر فيهم الأب والابن والزوج، وفيهم السياسي والاقتصادي ورجل الشورى، وفيهم المحارب والمسالم، وفيهم المبتلى والمعافى، وفيهم الراعي والرعية، وفيهم العامل والتاجر، ونعجب لكون حياة الرسول صلى الله عليه وسلّم تستوعب كل جوانب حياة البشر لتكون قدوة لهم في هذا كله. كما أننا نجد هذا الشمول والاستيعاب في صفاته عليه السلام، فمثلاً إذا أخذنا مواقف الصبر عنده فإننا نجد أنها استوعبت كل مواقف الصبر التي قد تمر بالناس فقد ابتُلي ببلاء الخروج من وطنه، وبلاء من مات له ولد وأولاد وأحفاد، ومن ماتت له زوجة وعم وأبناء عم بعضهم قتلى، وبلاء من أُوذي، ومن فشل بالمعركة واستُهزىء به، ومن شُمِت فيه، ومن اتهم بعرض أحب الخلق إليه، وبلاء من مرض وجاع وجرح وعطش وغير ذلك من أنواع البلاء التي يعتبرها الناس مصائب بحيث لا تصيب إنساناً إلا ويجد أن الرسول صلى الله عليه وسلّم قد أُصيب بمثلها. وبالطبع فالرسول في كل موقف من هذه المواقف وفي كل حال من الأحوال كان المثل الأعلى للبشر والقدوة العليا والوحيدة لهم. ومن هنا كان الأجدر بالمربِّين أن يقتدوا بأوامر وصفات رسولهم وعلى أساسها يقوموا بتربية أولادهم. فالقدوة هي من أفضل الوسائل وأقربها إلى النجاح، لأن الكائن البشري يمر بمراحل عمريّة يتأثر بالقائد المشرف عليه؛ فالطفل يتأثر ويقتدي بوالديه، والفتى يتأثر بمثله الأعلى ويمكن أن يعتبره أستاذه أو والده أو حتى شخصية تلفزيونية مشهورة، والناشىء يتأثر ويقتدي بالشخصيات البارزة على صعيد المجتمع. وعلى كلٍّ فالتربية تفشل عند عدم اتباع القائد أو المربي للتوجيهات التي يوجهها للطفل ويطبقها على شخصه كما أن النظريات والأقوال تبقى حبراً على ورق ما لم تتحوّل إلى حقيقة واقعة تتحرك في واقع الأرض.
2 ـ التربية بالموعظة: تتأثر النفس الإنسانية بالكلام الموجَّه إليها، إلا أن هذا التأثر يتفاوت بين القبول والرفض لسببين.
أولهما: طريقة الكلام أو الوعظ الموجّه إليها.
ثانيهما: أن النفس بطبيعتها تميل إلى السهل دون الصعب، واللذيذ دون المؤلم، وتحب الانطلاق وتكره القيود.
فالواعظ يجب أن يتمتع بصفات تساعده على التأثير: من لباقة في اللسان، ووجه ضاحك هادىء يوحي بالصفاء والارتياح، مع الأخذ بعين الاعتبار النفس البشرية بكل
أطباعها وما لها من تأثير على الموعوظ فهي طبعت على الميل إلى الحرية والواعظ يقيّدها، وعلى الانطلاق وراء الأمور والواعظ يمسكها. ومثل الموعوظ كمثل الصخرة الراسية بأعلى الجبل لا تحتاج إلا إلى زحزحتها، وإمالتها، حتى تتدحرج وتهوي، بلا مشقة ولا تعب. فإذا أردنا أن نُرجعها لاقَيْنا المتاعب والمشاق.(/1)
وهذا هو مثال الإنسان يأتي رفاق السوء يدفعونه نحو الهاوية فإذا جاء الواعظ صعب عليه الاستجابة إليه، ومقاومة ميول نفسه. ذلك أن المعاصي لذيذة لأنها توافق طبيعة النفس، فالإنسان يجد لذة في سماع الغِبة والمشاركة فيها، لأنه يشعر أنه خير من هذا الذي يذكرونه بالسوء وأفضل، والغش في الامتحان لذيذ لأنه يوصل إلى النجاح بلا جهد وهو ما تهواه النفس وتتمنّاه. إلا أنه لا بد من الوعظ والقيد، ولو تركنا النفس تأتي ما تريد وتنطلق في حريتها كما تشاء لصار المجتمع (مارستاناً) كبيراً، لأن الحرية المطلقة للمجانين. لذلك يجب أن تكون الموعظة "موعظة مؤثرة تفتح طريقها إلى النفس مباشرة عن طريق الوجدان وتهزّه هزّاً، وتثير كوامنه لحظة من الوقت، كالسائل الذي تُقلِّب رواسبه فتملأ كيانه ولكنها إذا تركت تترسّب من جديد. لذك لا تكفي الموعظة وحدها في التربية إذا لم يكن بجانبها القدوة والوسط الذي يسمح بتقليد القدوة ويشجع على الأسوة بها فتصبح الموعظة بذلك ذات أثر بالغ في النفس وتصبح دافعاً من أعظم الدوافع في تربية النفوس".
والقرآن الكريم حث على الموعظة من خلال الكثير من آياته الكريمة، منها: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}
3 ـ التربية بالعقوبة: من الأمور التي تتدرج بها التربية الإسلامية هي العقاب. فبعد القدوة والموعظة الحسنة والصبر الطويل وعندما لا ينتج عنها أي تقدم أو تحسن كان لزاماً على المربي العلاج الحاسم وهو العقاب، والعقاب نفسه يندرج ضمن أساليب مختلفة؛ فقد يعمد المربي إلى حرمان الولد من شيء يحبه أو قد يعاقبه بوضعه في غرفة خالية دون أن يكلم أحداً، أو يحرمه من نزهة... إلخ. وعندما لا يفلح كل ذلك كان لا بدّ من الضرب غير المبرِّح تأديباً للولد وإرشاداً، والولد لا يعاقب في جميع أخطائه وهفواته السلوكية وإلاّ بات لا يخشى شيئاً والضرب لا يؤتي نتيجة معه.
والإسلام عندما يأمر المربي بعقاب الولد يضعه ضمن حدود وهي الضرب على غير الوجه، وأن يضربه ضرباً لا يؤذي، وأن لا يستعمل الضرب بشكل دائم لأن العنف والشدة دائماً قد يُشعلان قلب الطفل بالكراهية. محو مربِّيه، وهذا ما يفسِّر رفض الطلاب في المدارس لقوانين الإدارة واتهامها بالظلم لأن الإدارة حسب مفهوم التلميذ هي السلطة. أما التربية اللطيفة الحانية الرقيقة كثيراً ما تفلح في تربية الأطفال على استقامة واستواء مع الانتباه إلى أن التربية التي تزيد من الرقة واللطف والحنو تضرّ ضرراً بالغاً لأنها تُنشىء كياناً ليس له قوام.
ومن هنا كان لا بد من شيء من الحزم مع اللطف والحنو وذلك لصلح الأطفال والكبار على السواء.
والأمر في كل ذلك يرجع إلى النفس التي يتعامل معها المربي وهو مكلَّف بدراستها ومعرفة كيفية التعامل معها. فمن هذه النفوس من تكتفي بالقدوة ومنها من تكتفي بالموعظة أو الترغيب ومنها ما ينفع معها التهديد ومنها بعد ذلك من لا بد لها أن تحس بلذع العقوبة على جسمها لكي تستقيم.
4 ـ التربية بالقصة: للقصة تأثير عظيم في الأولاد والكبار على حد سواء، ومن مارس مهنة التربية لا ينكر ذلك، فالولد عند سماعه لقصة جميلة ينتبه إليها انتباهاً نادر المثال، مسحوراً بها خاصة إذا كان المربي يقوم بتمثيل القصة وإلقائها مع تغيير لهجة الصوت عند اللزوم.
والإسلام يدرك هذا الميل الفطري للقصة ويدرك ما لها من تأثير ساحر على القلوب فيستغلّها لتكون وسيلة من وسائل التربية والتقويم.(/2)
وهو يستخدم كل أنواع القصة: "القصة التاريخية الواقعية المقصودة بأماكنها وأشخاصها وحوادثها، والقصة الواقعية التي تعرض نموذجاً لحالة بشرية فيستوي أن تكون بأشخاصها الواقعين أو بأي شخص يتمثل فيه ذلك النموذج، والقصة التمثيلية التي لا تمثل واقعة بذاتها ولكنها يمكن أن تقع في أية لحظة من اللحظات وفي أي عصر من العصور."
والقرآن الكريم عند عرضه للقصص يكون هدفه الرئيس الاستفادة من الناحية الدينية والتربوية والتوجيهية. وهو حين يعرض الفتنة التي يتعرض لها الأنبياء لا يقف عندها طويلاً بل يسارع ليسلّط الأضواء على لحظة تغلّبهم على هذه الفتنة وهو أسلوب رائع في القصة يبين فيها لحظة الضعف وكيفية التغلب عليها. فالإنسان معرّض لفتن كثيرة ولكنه لا يقف مكتوف اليدين تجاهها بل يَعْتبر من قصص الأنبياء ليتلغب عليها وينجو بدينه منها.
5 ـ ملء الفراغ: نشأت مشكلة الفراغ أساساً بسبب انعدام الهدف في الحياة الذي يعاني منه الكثير من الناس. كما أن هذه المشكلة باتت منتشرة انتشاراً واسعاً لديهم وهي تصبح مشكلة خطيرة إذ قام الناشىء بتبديد الوقت الضائع في الأمور غير المشروعة. وهذه المشكلة ليست واردة لدى المجتمعات الإسلامية لأنها تربّي الإنسان على أن ينظر إلى كل ساعات الحياة ولحظاتها على أنها أمانة في عنقه، عليه أن يشغلها في الخير، وتربّيه على أن يجد لذة نفسية عظيمة كلما ساهم وسابق في عمل الخير أو دَفْعِ الشرّ عن نفسه وأمته.
والتربية الإسلامية تؤقت للإنسان يومه وتحثه على اغتنام جميع أوقات العمر فيما أمر الله تعالى وهي تقسم الحياة إلى قسمين {وجعلنا الليل لباساً. وجعلنا النهار معاشاً}. فالليل للسكون النفسي والراحة والهدوء والنهار للسعي والجد وطلب العلم. وخلال النهار على الإنسان أن يملأ وقته بالأمور المتوجِّبة عليه أولاً كالعبادات والتحصيل العلمي أو السعي لاكتساب المعاش وإذا شعر بفراغ عليه بالقراءة أو الرياضة أو الصحبة البريئة وأعظم من ذلك شغل الوقت بما ينفع الناس من دعوة إلى الخير أو هداية أو إصلاح على أن يكون هدف ذلك كله طاعة الله عزّ وجلّ.
6 ـ التربية بالعبرة: تمر بالإنسان أحداث عديدة يتفاعل معها ويتأثر بها ويعتبر منها. وقد تكون نتيجة تصرفه الخاص أو لأسباب خارجة عن إرادته. والمربي البارع لا يترك الأحداث تذهب سدى بغير عبرة ولا توجيه، وإنما يستغلّها لتربية النفوس وتهذيبها، فلا يكون أثرها موقوتاً سرعان ما يضيع، إذ عند وقوع شخص ما بحادثة خطيرة تكون نفسه طرية العود قابلة لأي توجيه وتحذير حيث يكون في حالة ذهول وندم شديدين يريد السبيل لمعرفة كيفية عدم الوقوع بالخطأ مرة أخرى. فتتفاعل النفس عند الصدمة على عكس عند كونها مرتاحة مطمئنّة لا تريد شغل بالها. والمثل يقول: اضرب والحديد ساخن! لأن الضرب حينئذ يسهل معه الطرق والتشكيل. أما إذا تُرك ليبرد فيهيهات أن يتشكل منه شيء ولو بُذلت أكبر الجهود. ولقد اهتم القرآن بأسلوب التربية هذا حيث كان من نتيجته تلك الأمة العجيبة الفريدة في التاريخ كله، إذ أن الله سبحانه وتعالى عند انصهار نفوس الصحابة يطبع من خلال القرآن الكريم ما يريده من التوجيهات والتهذيبات.
والمعروف أن العرب كانت لديهم الكثير من المعتقدات والتقاليد الجاهلية فجاء الإسلام ومحاها بالأساليب التربوية المختلفة، وهدفه الرئيس بذلك تخليص النفوس من أدرانها وتعلّقاتها حتى إن المسلمين يوم أعجبتهم كثرتهم في غزوة حنين، كان الرد قاسياً عليهم فكان التوجيه والإرشاد هو ردهم إلى الله ليعتزوا به وحده. والنفس ذا طبعت على طاعة الله وخشيته ارتكزت على ركيزة لا تهتز ولا تختل وتكون قد توازنت فلا يفسدها الضعف ولا تفسدها القوة.
وبعد، فتلك أهم وسائل التربية الإسلامية ـ ملخَّصة من كتاب الأستاذ الكبير محمد قطب "منهج التربية الإسلامية" ـ نضعها بين يَدَيْ كلِّ داعية ومربٍّ ـ وخاصة المرأة سواء كانت أمّاً أو داعيةُ أو معلَّمة ـ ليُستفاد منها. والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سوء السبيل.(/3)
وسائل التنصير
سلمان بن فهد العودة
يروى أن الثعلب حاول أن يصل إلى العنب فعجز، فقال: الحمد لله الذي أنجاني من الحرام! وفي لفظ أنه قال: هذا عنب حامض ولو صعدت إليه لوجدته غير ناضج، فتركه إذاً لعدم صلاحيته. وهكذا زويمر ومن معه لما عجزوا في فترة من الفترات عن الحصول عن أعداد كافية من المسلمين المتنصّرين طمأن قومه بأن ليس المقصود تنصريهم إنما المقصود إخراجهم من دينهم وهذا حصل على نطاق كبير، فهذا يكفينا (يقول)، ولا شك أن هذا هو بعض أهدافهم. ومن أهدافهم أيضاً التشكيك في بعض أحكام الإسلام، وهذا يعملونه على نطاق واسع خاصتة لدى القراء من المثقفين وأنصاف وأرباع المثقفين. ومن أبرز القضايا قضية الرق، وقضية الجهاد، وقضية تعدد الزوجات، فهذا الثلاثي لا تجد منصراً في الدنيا يتكلم عن الإسلام إلا ويبرز هذه الأمور الثلاثة، ويحاول أن يشكك المسلمين في دينهم من خلالها.
ومن أهدافهم الهيمنة على البلاد التي يكون لهم فيها وجود يذكر، بحيث يحاولون أن يرفعوا النصارى أو المتنصرين أو المتعاطفين معهم أيضاً إلى مواقع حساسة سواءً في الجيش والعسكر، أو في الإعلام، أو في التعليم، أو في المناصب السياسية، أو غيرها.. وليس سراً أن عدداً من البلاد الإسلامية أصبحت في قبضة النصارى بسبب وصول بعض عملاءهم إلى السلطة، بل ليس سراً أن أكبر بلد إسلامي في العالم؛ إندونيسيا -190000000- أكثر من 90 % منهم في الأصل مسلمين، هذا البلد يتعرض اليوم لحملة تنصيرية بلغ من وقاحتها وضراوتها أنهم يعدون رجل مسئولاً الآن عن العسكر وعن الأمن ليدخل في معركة الرئاسة (رئاسة الدولة). أي أن من الممكن أن يتولى رئاسة هذه الدولة رجل نصراني! لا تستغرب، ففي هذا البلد ذاته 190000000 عطلتهم يوم الأحد، ولا أحد يعترض هناك.
وسائل التنصير
كل وسيلة شريفة أو دنيئة فهي مباحة عندهم، فالغاية تبرر الوسيلة، ومتى كان للنصارى عهد أو عقد أو ميثاق؟!
خاصة بعدما كفروا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتركوا دينه، وأصرّوا على الكفر. فمن وسائلهم:
أولاً: الخدمات الإنسانية، هم يقولون التبشير، السلام، الديموقراطية، الإنسانية.. فالخدمات الإنسانية مثل: الإغاثة، والطب، والمساعدات من أهم ما يتوسلون ويتوصلون به. فهم يحملون الإنجيل بيد والعلاج باليد الأخرى، بل إن الكوارث التي تقع في البلاد الإسلامية هي فرصتهم السانحة، يفرحون بها، لأنهم من خلالها يلتقطون ما يريدون، ويضعون الحب ليصطادوا به..
منظمة الصليب الأحمر الدولية مثلاً: منظمة إغاثية عالمية كبرى، حتى بعض إغاثات المسلمين التي تؤخذ من جيوبهم بالقرش والريال تقوم أحياناً منظمة الصليب الأحمر الدولي بتوزيعها على مسلمين آخرين في بلادهم. في بنغلادش مثلاً قامت منظمة الصليب الأحمر بتوزيع بعض الإعانات -التي دفعتها دول إسلامية- على المسلمين هناك ليتنصروا بها، من ضحايا الفيضانات وغيرها. وهذه وصمة عار تلحق المسلمين. نعم، ووصمة عار أيضاً تلحق النصارى أنهم يستغلون ضعف الإنسان وحاجة الإنسان وفقر الإنسان من أجل الضغط عليه لتغيير دينه. وقد دافع الدكتور بيتر مكوليا عن ردة الفعل التي توجد لدي المسلمين (يسميهم "الجيران") من الاستغلال النصراني للكوارث من أجل ذبح نصارى جدد، وقال لهم: "أبداً نحن أولاً دوافعنا للمساعدة دوافع إنسانية، فنحن نلبي نداء المسيح الذي أمرنا أن نمسح على جراح المجروحين".
ثانياً: قال: "نحن نعالج الحاجات كلها، الحاجات الظاهرة والباطنة، فنعالج الفقير بالطعام، والمريض بالغذاء، والعاري بالكساء، وأيضاً نعالج الضال بالهداية التي نعطيها له من الكتاب المقدس" (يعني الإنجيل!). وقال: الشفاء نوعان: "شفاء طبيعي، وشفاء فوق طبيعي، فنحن نقدم لهم بيد الشفاء الطبيعي بالقارورة، ونقدم لهم باليد الأخرى الشفاء فوق الطبيعي وهو الدعوة إلى النصرانية". وليس خافياً عليكم أن الأمم المتحدة بمنظماتها، والبنك الدولي، مثلاً منظمة الصحة العالمية الصليب الأحمر، اليونسكو، وغيرها، هي وسائل بيد مجلس الكنائس العالمي وعملائه المغروسين في أنحاء العالم.
الوسيلة الثانية: التخريب الأخلاقي، فالكنسية تدار فيها الخمور، وتقام فيها علب الليل، وحفلات الرقص الماجن للمراهقين والمراهقات من أجل استهواء الشباب وجلبهم إلى النصرانية خاصة إن كانوا من شباب المسلمين. ومن الطريف، ذكرت لجنة مسلمي أفريقيا أن منصراً أقام في النيجر مسجداً. يقولون: ذهبنا ورأيناه بعيوننا فتعجبنا فوجدنا أنه أقام بجوار المسجد مرقصاً وملهى! فصار يأتي الشباب -الذين هم يصلون أصلاً- فإذا اجتمعوا في هذا المسجد تحدث إليهم وأخذهم إلى المرقص والملهى، ويسر لهم أسباب الفساد. يقولون: حاولنا أن نقف دونه لكن عبثاً نحاول لأن قوانين البلد تسمح بإقامة المراقص والملاهي ولو بجوار المساجد، والله المستعان.(/1)
وآخر -منصر فرنسي- أقام في بلد مجاور مسجداً، يقول: تعجبنا وذهبنا ورأيناه، فقال لنا المسلمون: بنى لنا هذا المسجد القس فلان، فقلنا: عجيب قس يبني مسجداً؟! قالوا: نعم وأكثر من ذلك، وبنى لأطفالنا مدرستاً بجوار المسجد يدرس فيها أولادنا، يقولون: فذهبنا إلى المدرسة فوجدنا الأطفال ولم نجد القس ومن معه ممن يدرسون الأطفال، فسألنا الأطفال سؤالاً: من ربك؟ وطلبنا أن يقوموا على السبورة ليكتبوا، يقول: فقام أحدهم وقال: الله هو المسيح! هذا من أولاد المسلمين، إذن النصارى يحملون معهم جراثيم الانحلال المتوارث حيث حلوا وحيث رحلوا، وما أخبار البيئات التي يكثرون فيها هنا في هذه البلاد عنا ببعيد، فما نسمعه وتسمعونه من أخبار أرامكو مثلاً حيث الاحتفالات الراقصة، وحيث الاختلاط، وحيث الزينة، وحيث التبرج، وحيث قيادة النساء للسيارة، وحيث الفساد، وحيث ألوان المخالفات الشرعية، هي نموذج لذلك.
الوسيلة الثالثة: توزيع الكتب والكتيبات بشتى اللغات، وبشتى الأساليب، وفي شتى الموضوعات، مع تعمّد دس التشويه والكذب في مثل هذه الدراسات والكتب والمقالات، وعندي من ذلك مئات أرجو أن أذكر منها شيء في المستقبل لكن يكفي أن تعلم أنهم طبعوا في العام المنصرم ثمان وثمانين ألف وستمائة كتاب، أنا متأكد أن أكثركم فوجئوا، قال: رقم قليل، ثمان وثمانين ألف وستمائة "بسيطة"..
لا، هذه ثمان وثمانين ألف وستمائة عنوان، يعني كتب جديدة، لكن من كل كتاب منها يطبع مئات الألوف من النسخ. فثمان وثمانين ألف وستمائة كتاب أضربها في مئة ألف أيضاً لأن كل واحد من هذه الثمان وثمانين ألف عنوان يطبع منه أحياناً مئات الآلاف من النسخ وتوزع بالمجان. هذا فضلاً عن أنه طبع في العام الماضي فقط ثلاث وخمسين مليون نسخة من الإنجيل غالبها يوزع على المسلمين، بل قبل سنتين وأثناء أزمة الخليج طبعت مؤسسة فرانكلين من الإنجيل أكثر من سبعمائة ألف نسخة مخصصة للخليج العربي، وقد وصلني منها نصيب لا بأس به. فضلاً عن الكتب والكتيبات، والنشرات المطويات الصغيرة التي تتعجب منها، كل الأحجام التي تتصورها وكل المقاسات، فضلاً عن التقاويم (الزرنامات) وفي كل يوم تجد التقويم مرصع بآية من الإنجيل مكتوبة بخط جميل وملونة وزهور، وأشياء حقيقةً تلفت الانتباه وتشد الذهن، ويتعجب الإنسان! ملصقات ممكن تلصق على السيارة أو على الباب، أو في المدخل، أو في البيت، أو على المكتب..
كروت التهاني مثلاً بالأعياد: أعياد الميلاد، الكرسمس، عيد رأس السنة، عيد القيامة، إلى غير ذلك من أعيادهم، وبخطوط جميلة وألوان وصور عارية أحياناً، وصور يزعمون أنها لمريم أو لعيسى أو فيها آيات من الإنجيل، إلى غير ذلك. فضلاً عن نشر الصلبان في كل مجال وفي كل ميدان: في الملابس، في السيارات، في الأواني، في الذهب، في كل شيء لو تأملت تكاد تجد صليباً موضوعاً على عمد. دعك من الوسوسات والتخيلات والأوهام، الصلبان التي تلوح وتلمع ولا يمكن تجاهلها، لا تكاد تجد شيئاً صدر منهم إلا وتجد فيه صليباً -ظاهراً أو خفياً- أو صورة عارية، أو صورة للعذراء كما يزعمون، أو صورة لعيسى، أو صورة للإنجيل، أو غير ذلك. بل إن منشوراتهم ومطوياتهم وصلت إلى المساجد، وإلى البيوت، وإلى المدارس. ولعل من الطريف أنه أرسل لي أحد الأخوة -جزاه الله تعالى كل خير- من ينبع أوراق جاءت من الإنجيل، تصوروا كيف جاءت هذه الأوراق؟! جاءت مع الفواكه التي تباع، مع كراتين الشمام، كراتين التفاح، كراتين البرتقال، تجد أنها فوقها وتحتها وعن يمنها ويسارها أوراق من الإنجيل يقصدون بها أن تصل إلى المسلمين، والكل يتذكرون تلك المطويات التي وصلت إلى معظم البيوت، مثل مطوية: "شهادة القرآن"، التي أجزم أنه وزع منها هنا ملايين، وهي عندي من أخطر ما يكون لأنها تشكك المسلم المغفل أو البسيط -ضعيف الثقافة- بأن القرآن يعترف بأن الإنجيل غير محرف، هذه خلاصة النشرة، ومثلها نشرة أخرى: "عندما تقابل الله"، نشرت في كل مكان، والثالثة: "صلاة الأسرار المقدسة"، وهي أيضاً نشرت على نطاق واسع.(/2)
من الوسائل أيضاً: المجلات، والدوريات، والصحف، عدد الصحف التي تخدم التنصير -المخصصة لهذا الغرض- أربع وعشرين ألف وتسعمائة مجلة ودورية، هذه إحصائية العام الماضي1991، يطبع من العدد الواحد أحياناً ملايين ويوزع بالمجان، ويرسل بالبريد لمن يريد، والرقيب على هذه المطويات والمنشورات في صدد! من وسائلهم: الإعلام المرئي، والمقروء، والمسموع؛ مثلاً: الإنجيل كله فرغوه على أشرطة كاسيت، أشرطة وعظية: فيها وعظ وكلمات من الإنجيل، وموسيقى دينية -كما يقولون-، وترانيم دينية، وابتهالات، وكلمات، استمعت إلى بعض هذه الأشرطة، بعضها معد خصيصاً للمسلمين، فتجد: كلمات، دعاء وابتهال ربما يسمعه الإنسان من أوله إلى آخره أحياناً لا يكتشف أنها تنصيرية! لأنها تقوم بالتمهيد لدعوة التنصير. منظمة في أفريقيا اسمها: "منظمة آر بي أم" قامت بخمسين تحويل من الإنجيل إلى الأشرطة، يعني خمسين إصدار -كما يقال-، وتقول هذه المنظمة: "يجب أن تتوفر في جميع الترجمات بكل اللغات للإنجيل بصورة أشرطة صوتية في نهاية عام ألفين للميلاد ( بعد نحو ثمان سنوات )، والعجيب أن هذه الأشرطة تصل حتى للفقراء الذين لا يجدون لقمة العيش في المخيمات! حدثني طبيب سعودي ثقة من الأخوة الطيبين، يقول: رأيناهم في بعض المخيمات إذا كان هناك كهرباء أهدوا للمسلم جهاز تسجيل على الكهرباء، وإذا لم يوجد أعطوه جهاز تسجيل ومعه البطاريات، فإذا لم يتمكن من هذا ولا ذاك أعطوه جهاز تسجيل يشتغل بالهندل، حتى يستمع إلى مضمون هذه الأشرطة.. أين الذين يحاربون الشريط الإسلامي؟! وكأن خصمهم الوحيد هو الشريط الإسلامي! ومثل الأشرطة الإذاعات -وسأذكر إحصائية الإذاعات بعد قليل-، لكن من أشهر الإذاعات وخاصة التي تتكلم بالعربية: صوت الغفران، حول العالم، نداء الرجاء؛ وهذه كلها تذاع من ألمانيا، دار الهداية من سويسرا، صوت الحق من لبنان، ثلستار من زائير، زيون من إندونيسيا، كلمة الحق، نور على نور مرسيليا. لاحظ الأسماء! المسلم العادي لا ينتبه أحياناً. عندهم برامج في الإذاعة اسمها: الله أكبر ، يقدمه الشيخ عبد الله!
المسلم في أدغال أفريقيا ماذا يدريه أن هذا برنامج تنصيري؟! البث في هذه الإذاعات متبادل على مدى عشرين ساعة، منسق بين جميع هذه الإذاعات، بحيث أنها لا تبث في وقت واحد، بل تتوقف هذه لتبث تلك مما يدل على التنسيق. وتبث هذه الإذاعات بأكثر من ثمانين لغة، ولها صناديق بريد في العواصم العربية وغيرها، وتستخدم المراسلة والمطبوعات وغيرها للتواصل مع مستمعيها، ليست تقول كلمة وتمشي..(/3)
لا، هناك برامج مخصصة للمستمعين: رسائلهم، بريد لهم يذاع باستمرار. ثم من الإذاعة يراسلونهم، وينقلون أسماء الذين يتصلون بالإذاعة إلى محطات التنصير في العالم لتتم مراسلتهم من تلك المراكز. ومن ذلك أشرطة الفيديو والتلفزة، وقد أغرقوا الأسواق بالأفلام التنصيرية المحضة في مصر وفي غيرها، فضلاً من أن معظم الأفلام التي تصدر من عدنهم فيها لوثات تنصيرية، حتى لو كانت بعيدة عن التنصير تجد أن فكرة الصلب أو فكرة الفداء أو الكلمات النصرانية تأتي على كلمات أبطال تلك المسرحيات وغيرها. ومن الطرائف والعجائب -وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء- أن مصر وصلها أشرطة عديدة تنصيرية منها شريط يتناول سورة البقرة، وفي مطلع هذا الشريط صوت خوار كخوار البقرة، ومغلف بآيات من سورة البقرة، وفي أثناءه كلام لا يمد إلى الدين بصلة، ليس فيه إلا السخرية والبذاءة والاستهزاء بالقرآن وبسورة البقرة. طبعاً صودر هذا الشريط، ولكن عام 89 ميلادي تم تنسيق بين تلفزيون مصر وبين الفاتيكان من أجل إعداد وإخراج معاني القرآن الكريم من خلال ما يسمى بالرسوم المتحركة التي تخاطب الأطفال غالباً، والخبر نشر في جريدة المسلون بقلم أحد الكتاب المصريين. رسوم متحركة يعدها الفاتيكان لتفسير القرآن تقدم لمصر، وتقدم للعالم الإسلامي من خلال البث الفضائي المصري الموجه إلى العالم الإسلامي. وهذا تمهيد للبث التلفازي التنصيري الذي سوف يتم عبر الأقمار الاصطناعية، وهذه خطة أعدها الفاتيكان لعام ألفين، ويرغب ويرجو ويأمل أنه خلال ذلك العام يكون قد غطى العالم كله ببث تنصيري من خلال الأقمار الصناعية. وليس سراً أن بابا الفاتيكان ألقى خطاب قبل أشهر بسبعين لغة منها العربية، والتقط هذا الخطاب في أنحاء العالم، ولا أذيع سراً إذا قلت: هذا الخطاب الذي ألقاه بابا الفاتيكان التقط في (الجزيرة)، حيث كان جهاز الاستقبال في المستشفى التخصصي ينقل محطة روسيا والسي أن أن آنذاك، ونقل بعض البرامج التنصيرية، ونقل خطاب البابا إلى العالم. هناك مؤسسة اسمها: "إعلام الشرق الأوسط" تقوم بالتعاون مع ست هيئات نصرانية بإنتاج برامج مشتركة، وتقول هذه المؤسسة في إحدى منشوراتها: "بالرغم من عدم سيطرة المسيحيين على برامج التلفزيون -أنا أنقل كلامها- في الشرق الأوسط إلا أن الأمور تسير بسرعة" وقدام بسرعة علامة تعجب، يعني الأمور على ما يرام ولو ما سيطرنا لكن الأمور بأيدينا. ثم تقول: "إن البث المباشر عن طريق الأقمار الصناعية يتدفق تدفقاً، ويلاحظ أن أعداداً كبيرة قد اشترت فعلاً الأجهزة الخاصة بالتقاط برامج البث المباشر بالرغم من فقر الكثيرين منهم".
سادساً (من وسائلهم): الرياضة، وقبل سنوات نشرت صحف سعودية منها جريدة "اليوم" كلاماً يدل على اكتشاف خطة تنصيرية لاستغلال مباراة كأس العالم لبث التنصير وتوزيع الكتب والأشرطة والنشرات، يقوم وراءها الفاتيكان، هذا وهي كانت أقيمت في السعودية، فكيف إذا كانت في بلد آخر من البلاد التي تعتبر مفتوحة للدعوة النصرانية؟! ومثله كل الألعاب والدورات الأولمبية التي تقام في العالم تستخدم التنصير، ومن آخرها ما يسمى بدورة "برشلونا" -والشباب يتابعون، لكن الكثير يمكن أول مرة يسمع هذا الكلام- ومعرض أشبيليا، هذه الدورة وهذا المعرض عندي وثائق على أنه هناك خطة أن يتولى النصارى العرب الاتصال والتنصير فردياً هناك، وتوزيع النشرات والأفلام، وعناوين المؤسسات التنصيرية في العالم على الحضور وعلى المسافرين إليها.
الوسيلة السابعة: العمل الاجتماعي في مجال المرأة، وفي مجال المجتمع، وفي مجال حل المشكلات، فمن ذلك -مثلاً- منظمة فيليبينية تنصيرية اسمها "منظمة شادي"، وكلمة شادي عندهم بلغتهم معناها: الرب، هذه المنظمة تهتم بشكل خاص بالمرضى والمعوقين وأصحاب المشكلات النفسية والذين يواجهون صعوبات في حياتهم، والغريب في الأمر أن هذه المنظمة لها نشرة اسمها "شادي" -وعندي أعداد من هذه النشرة-، أحد الأعداد نشرت فيه أربعة عناوين لمندوبي هذه المنظمات، وجدنا أن عنوانين منها في داخل الجزيرة، أحدها في بريدة (في المدينة الصناعية أدوان طبال، وصندوق البريد لمندوب هذه المنظمة). ويدخل لعمل الاجتماعي الذي يهدف إلى نشر النصرانية: العمل على تحديد النسل، صحيح هم يحاولون تنصير النسل، لكن أيضاً بودهم أن لا يوجد أصلاً مسلم على الأرض يحتاج إلى التنصير، وقد دفعت -هذه معلومات مؤكدة- أمريكا لمصر معونات ضخمة بشرط أن تستخدم في تحديد النسل! فضلاً عن هبات، ومعونات، ومعدات، وأجهزة أرسلت إلى كليات الطب في مصر، حتى كلية الطب في الأزهر ذاته -تتعلق بموضوع الإجهاض، وإمكانية إسقاط الأطفال من أرحام الحوامل. هذه الأخبار نشرتها عدة صحف منها جريدة المسلمون في العدد 275.(/4)
ومن ذلك أن مجلس الكنائس العالمي -وهو ربما أعلى سلطة مسؤولة عن التنصير- حشد الآلاف من المربيات -كما يقول رئيس إرسالية التنصير في الشرق الأوسط-: "إن مجلس الكنائس العالمي أرسل الآلاف من المربيات والخادمات والممرضات والأطباء والمهندسين لدعم خطة لتنصير المسلمين عام ألفين". هم مصرون على أن يتحول المسلمون عام ألفين إلى نصارى، ولذلك استخدموا حتى: المربيات، والخادمات، والممرضات، والأطباء، والمهندسين. ويقول هذا المسؤول: "إن هؤلاء الذين أرسلوا قد اتخذوا الوسائل والأسباب التي تمهد لهم التوغل في جزيرة العرب!
ثامناً (من الوسائل): المراسلات وهي من أخطر ما يكون، وأنجح الوسائل لسهولتها وحصولها في الغالب وإمكانية تداولها، وأنا أعجب من البريد في العالم العربي! الذي يلاحق رسائل الخير، والدعوة إلى الإسلام، والرسائل الموجهة إلى العلماء والدعاة، ويصادرها أحياناً، ويكشفها أحياناً أخرى، وتفوت منه القليل، أما رسائل النصارى فتأتي ليست على استحياء! رأيت بعيني طرداً بريدياً ضخماً في داخله نسخ من الإنجيل وأوراق ومجلات وأشياء كثيرة، مبعوثة من النصارى إلى مواطن عربي في بلد ما! الإذاعات التنصيرية لها برامج للتعليم بالمراسلة وهي برامج مجانية، وهي تعقد الصدقات، وترسل الكتب، والأشرطة، والمجلات، مجاناً إلى من يريد، كل ما يهمهم هو الحصول على عنوانك ثم بعد ذلك نم فسوف يأتيك كل شيء!
مثال: جمعية " طريق الحياة" في لبنان -للتنصير بالمراسلة- ترسل كتب وكتيبات وأشرطة وغير ذلك، بل وتمنح شهادات للخريجين وعندي نماذج من الأسئلة، ونماذج من الاختبار، ونماذج من هذه الشهادات. بل حتى ترسل لمن لم يطلب! بمجرد التعرف على عنوانه. وقد اكتشفت أن مجلة "الوطن العربي" -وهي وكر من أوكار النصارى في فرنسا، ومع الأسف أنها عملية لبعض الأنظمة العربية أيضاً، واتخذت هذا ذريعة لضرب الإسلام والمسلمين، والنيل من الدعاة بطريقة مهينة- مجلة تنصيرية وهي عندها ركن للتعارف، ويبدوا أن هناك تعاون بينها وبين المنظمات التنصيرية، فهي ترسل ركن للتعارف لتقوم بمراسلة الشباب والفتيات الذين يعلنون وينشرون أسمائهم وعناوينهم هناك. كذلك هناك المسابقات الثقافية التي تعد على كتب، أو من خلال الإذاعة، أو من خلال بعض البرامج، ويرصد لها جوائز ضخمة وتكون وسيلة للاتصال بين المؤسسات التنصيرية وبين القراء. وكذلك بعض السفارات تقوم بالعمل نفسه، وعندي نماذج من طرود تبعث بها السفارات وترسلها إلى المواطنين في كل مكان بحجة الدعوة إلى الترفيه أو السياحة أو التعريف ببلد ما، وهي تحمل في داخلها دعوة إلى التنصير.
بعض المنصرين يكتب لك: إذا لم يصلك خلال عشرين يوماً فأرجو إشعارنا بالبريد لنقوم ببعث طردٍ آخر، مع العلم أننا سوف نرد حالاً على جميع رسائلك. في أحد المرات طلب منهم أحد المسلمين كتاب (الإنجيل) -أو ما يسمى بالإنجيل وليس هو الكتاب الذي أنزله الله على عيسى، بكل حال هذا أمر معروف لدى كل مسلم- فقالوا له: "أما بالنسبة لهذا الكتاب فسوف نرسله لك من داخل بلدك لنضمن وصوله". لأنه بلد محافظ.. بلد مغلق! يخشون أن يكتشفه رقيب البريد.
هذا البحث: هو عبارة عن تفريغ لمحاضرة للشيخ سلمان بن فهد العودة، بنفس العنوان.
حدف بعض المقاطع، مع تصرف يسير.
...
...
...
... ...
...(/5)
وسائل الثبات على دين الله
يتناول الدرس الثبات على دين الله كمطلب أساسي لكل مسلم صادق، يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد، وذكر أهمية هذا الموضوع ثم ذكر وسائل الثبات، ونماذج من صور الثبات، ثم ذكر مواطن الثبات .
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
أهمية هذا الموضوع:الثبات على دين الله مطلب أساسي لكل مسلم صادق، يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد، وتكمن أهمية الموضوع في أمور منها:
أولا:وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً، فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً: [ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ] رواه الترمذي . ولا شك عند كل ذي لب أن حاجة المسلم اليوم لوسائل الثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف، والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر؛ لفساد الزمان، وندرة الأخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر .
ثانيا: كثرت حوادث الردة والنكوص على الأعقاب، والانتكاسات حتى بين بعض العاملين للإسلام مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى برٍ آمن .
ثالثا: ارتباط الموضوع بالقلب ؛ الذي يقول النبي صلى الله عليه وسلم في شأنه: [ لَقَلْبُ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ انْقِلَابًا مِنْ الْقِدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلْيًا] رواه أحمد وهو في صحيح الجامع رقم 5147. ويضرب عليه الصلاة والسلام للقلب مثلاً آخر، فيقول: [إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ] رواه أحمد وهو في صحيح الجامع 2364. فسبق الحديثُ قولَ الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيانه ولا القلب إلا أنه يتقلب
فتثبيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها .
وسائل الثبات
ومن رحمة الله عز وجل بنا أن بين لنا في كتابه، وعلى لسان نبيه، وفي سيرته صلى الله عليه وسلم وسائل كثيرة للثبات، أستعرض بعضاً منها:
أولاً:الإقبال على القرآن:القرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى، وهو حبل الله المتين، والنور المبين، من تمسك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، وقد نص الله على أن الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجماً مفصلاً هي التثبيت، فقال تعالى في معرض الرد على شُبه الكفار:} وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [32]{ سورة الفرقان .
لماذا كان القرآن مصدراً للتثبيت ؟
1- لأنه يزرع الإيمان، ويزكي النفس بالصلة بالله .
2- لأن تلك الآيات تتنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن، فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله .
3- لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور؛ فلا يضطرب حكمه، ولا تتناقض أقواله باختلاف الأحداث والأشخاص .
4- أنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول.
نماذج:
1- ما هو أثر قوله تعالى: }مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى[3]{ سورة الضحى. على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قال المشركون: [ ودع محمد … ] ؟
2- وما هو أثر قول الله عز وجل: }لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ[103]{ سورة النحل . لما ادعى كفار قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما يعلمه بشر، وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومي بمكة ؟
3- وما هو أثر قول الله عز وجل: }أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [49]{ سورة التوبة. في نفوس المؤمنين لما قال المنافق: }ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي...[49]{ سورة التوبة؟ أليس تثبيتاً على تثبيت، وربطاً على القلوب المؤمنة، ورداً على الشبهات، وإسكاتاً لأهل الباطل .. ؟ بلى وربي .(/1)
ومن العجب أن الله يعد المؤمنين في رجوعهم من الحديبية بغنائم كثيرة يأخذونها- وهي غنائم خيبر - وأنه سيعجلها لهم، وأنهم سينطلقون إليها دون غيرهم، وأن المنافقين سيطلبون مرافقتهم، وأن المسلمين سيقولون:لن تتبعونا، وأنهم سيصرون يريدون أن يبدلوا كلام الله، وأنهم سيقولون للمؤمنين: بل تحسدوننا، وأن الله أجابهم بقوله: } بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا[15]{ سورة الفتح ثم يحدث هذا كله أمام المؤمنين مرحلة بمرحلة وخطوة بخطوة وكلمة بكلمة ... ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين: الذين ربطوا حياتهم بالقرآن، وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً، ومنه ينطلقون، وإليه يفيئون، وبين من جعلوا كلام البشر جل همهم، وشغلهم الشاغل ... ويا ليت الذين يطلبون العلم يجعلون للقرآن، وتفسيره نصيباً كبيراً من طلبهم .
ثانياً:التزام شرع الله والعمل الصالح: قال الله تعالى: } يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ[27]{ سورة إبراهيم .قال قتادة:' أما الحياة الدنيا: فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وفي الآخرة: في القبر '. وقال سبحانه: } وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا[66]{ سورة النساء أي: على الحق، وهذا بيّن، وإلا فهل نتوقع ثباتاً من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة إذا أطلت الفتنة برأسها وادلهم الخطب ؟! ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطاً مستقيما؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يثابر على الأعمال الصالحة، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل . وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه . وكانت عائشة رضي الله عنها إذا عملت العمل لزمته .
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: [ مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنْ السُّنَّةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ] رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وهو في صحيح النسائي . أي: السنن الرواتب . وفي الحديث القدسي: [وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ]رواه البخاري.
ثالثاً: تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل: والدليل على ذلك قوله تعالى: }وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[120] { سورة هود. فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للتلهي والتفكه، وإنما لغرض عظيم هو: تثبيت فؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفئدة المؤمنين معه .
نماذج للتأسي:
إبراهيم عليه السلام : فلو تأملت قول الله : }قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ[68]قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ[69]وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [70] { سورة الأنبياء . قال ابن عباس: [ كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] رواه البخاري. ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب، يدخل نفسك، وأنت تتأمل هذه القصة ؟
موسى عليه السلام: لو تدبرت قول الله عز وجل في قصة موسى: } فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[61]قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[62] { سورة لشعراء . ألا تحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الطالبين، والثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة ؟
سحرة فرعون: لو استعرضت قصة سحرة فرعون، ذلك المثل العجيب للثلة التي ثبتت على الحق بعدما تبين، ألا ترى أن معنى عظيماً من معاني الثبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول: }قَالَ ءَامَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى[71] {سورة طه . ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون: }قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[72]إِنَّا ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[73]{ سورة طه ... وهكذا: قصة المؤمن في سورة يس، ومؤمن آل فرعون، وأصحاب الأخدود، وغيرها: يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة .(/2)
رابعاً: الدعاء: من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم: }رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا[8]{ سورة آل عمران ، }رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا[250]{ سورة البقرة . ولما كانت: [قُلُوب بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ] رواه مسلم و أحمد؛ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: [ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ] رواه الترمذي وابن ماجه، وهو في صحيح الجامع .
خامساً:ذكر الله: وهو من أعظم أسباب التثبيت؛ تأمل في هذا: الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[45]{ سورة الأنفال . فجعله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد، وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها، بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيراً ... وبماذا استعان يوسف عليه السلام في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها ؟ ألم يدخل في حصن: }مَعَاذَ اللَّهِ... [23]{ سورة يوسف . فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه؟ وكذا تكون فاعلية الأذكار في تثبيت المؤمنين .
سادساً:الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً: والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق: أهل السنة والجماعة، الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، أهل العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل . سمعنا كثيراً عن كبار تنقلوا في منازل البدع، وآخرين هداهم الله، فتركوا الباطل وانتقلوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ساخطين على مذاهبهم الأولى، ولكن هل سمعنا العكس ؟! فإن أردت الثبات فعليك بسبيل المؤمنين .
سابعاً:التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة:
التربية الإيمانية:التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة، المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة، والعكوف على أقاويل الرجال، فهي عامل أساسي من عوامل الثبات.
التربية العلمية :القائمة على الدليل الصحيح، المنافية للتقليد والإمعية الذميمة .
التربية المتدرجة:التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطمة ... ولكي ندرك أهمية هذا العنصر من عناصر الثبات، فلنعد إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسائل أنفسنا:ما هو مصدر ثبات صحابة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، إبان فترة الاضطهاد ؟ كيف ثبت بلال وخباب ومصعب وآل ياسر، وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار الشعب وغيره ؟ هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة، صقلت شخصياتهم ؟ لنأخذ رجلاً صحابياً مثل خباب بن الأرت رضي الله عنه، الذي كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمر، ثم تطرحه عليها عاري الظهر، فلا يطفئها إلا ودك [ أي شحم ] ظهره حين يسيل عليها، ما الذي جعله يصبر على هذا كله ؟ وبلال تحت الصخرة في الرمضاء، وسمية في الأغلال والسلاسل ... وسؤال منبثق من موقف آخر في العهد المدني: من الذي ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حُنين لما انهزم أكثر المسلمين؟ هل هم حديثو العهد بالإسلام ومُسلِمة الفتح الذين لم يتربوا وقتاً كافياً في مدرسة النبوة والذين خرج كثير منهم طلباً للغنائم؟ كلا .. إن غالب من ثبت هم أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقت قدراً عظيماً من التربية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لو لم تكن هناك تربية ترى هل كان سيثبت هؤلاء ؟
ثامناً:الثقة بالطريق:كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم، كان ثباته عليه أكبر، ولهذا وسائل منها:
1- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه ليس جديداً، ولا وليد زمانك، وإنما هو طريق عتيق قد سار فيه من قبلك الأنبياء والصديقون والعلماء والشهداء والصالحون؛ فتزول غربتك، وتتبدل وحشتك أنساً، وكآبتك فرحاً وسروراً؛ لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.(/3)
2- الشعور بالاصطفاء، قال الله عز وجل:}قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ[59]{ سورة النمل وقال: }ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [32]{ سورة فاطر .وقال: }وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [6]{ سورة يوسف. وكما أن الله اصطفى الأنبياء فاللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء، وهو ما ورثوه من علوم الأنبياء ...ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك، وأنْ جعلك داعية من أهل السنة والجماعة؛ من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك ؟
تاسعاً: ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل: النفس إن لم تتحرك تأسن، وإن لم تنطلق تتعفن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس:الدعوة إلى الله، فهي وظيفة الرسل، ومخلصة النفس من العذاب ؛ فيها تتفجر الطاقات، وتنجز المهمات: }فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [15]{ سورة الشورى ... والدعوة إلى المنهج الصحيح- ببذل الوقت، وكدّ الفكر، وسعي الجسد، وانطلاق اللسان، بحيث تصبح الدعوة هم المسلم وشغله الشاغل - تقطع الطريق على محاولات الشيطان بالإضلال والفتنة . زد على ذلك ما يحدث في نفس الداعية من الشعور بالتحدي تجاه العوائق، والمعاندين، وأهل الباطل، وهو يسير في مشواره الدعوي؛ فيرتقي إيمانه، وتقوى أركانه، فتكون الدعوة بالإضافة لما فيها من الأجر العظيم وسيلة من وسائل الثبات، والحماية من التراجع والتقهقر، لأن الذي يُهاجم لا يحتاج للدفاع، والله مع الدعاة يثبتهم ويسدد خطاهم والداعية كالطبيب يحارب المرض بخبرته وعلمه، وبمحاربته في الآخرين فهو أبعد من غيره عن الوقوع فيه .
عاشراً:الالتفاف حول العناصر المثبتة: تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ ]رواه ابن ماجه وابن أبي عاصم، وانظر الصحيحة. البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين، والالتفاف حولهم معين كبير على الثبات . وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين برجال، وتأمل ما قاله ابن القيم رحمه الله عن دور شيخه شيخ الإسلام في التثبيت:'وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، وآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها ' الوابل الصيب، وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق، والركن الشديد الذي تأوي إليه؛ فيثبتوك بما معهم من آيات الله والحكمة؛ فالزمهم وعش في أكنافهم، وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية .
الحادي عشر:الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام:نحتاج إلى الثبات كثيراً عند تأخر النصر، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، قال تعالى: }وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[146]وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[147]فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[148]{ سورة آل عمران . ولما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن فماذا قال ؟ قال: [ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ]رواه البخاري وأبو داود وأحمد . فعرض أحاديث البشارة بأن المستقبل للإسلام على الناشئة مهم في تربيتهم على الثبات .(/4)
الثاني عشر:معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به: ففي قول الله عز وجل: } لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ[196]{ سورة آل عمران تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم... وفي قوله عز وجل:} لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ[17]{ سورة الرعد ؛ عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له. ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل، وتعرية أهدافهم ووسائلهم: } وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ[55]{ سورة الأنعام. حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام . وكم سمعنا ورأينا حركات تهاوت، ودعاة زلت أقدامهم، ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا بسبب جهلهم بأعدائهم .
الثالث عشر:استجماع الأخلاق المعينة على الثبات: وعلى رأسها الصبر، ففي حديث الصحيحين: [ مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود والنسائي ومالك والدارمي وأحمد. وأشد الصبر عند الصدمة الأولى، وإذا أصيب المرء بما لم يتوقع تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عدم الصبر .
الرابع عشر:وصية الرجل الصالح: من عوامل الثبات أن يقيض الله للمسلم رجلاً صالحاً يعظه ويثبته، فتكون كلمات ينفع الله بها، ويسدد الخطى، وتكون هذه الكلمات مشحونة بالتذكير بالله، ولقائه، وجنته، وناره، وهذا مثال من سيرة الإمام أحمد رحمه الله، الذي دخل المحنة ليخرج ذهباً نقيا ً. لقد سيق إلى المأمون مقيداً بالأغلال، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه:فهذا أعرابي قال للإمام أحمد:'يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه، فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله، فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل ' قال الإمام أحمد:' وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه' . فاحرص على طلب الوصية من الصالحين، واعقلها إذا تليت عليك .
الخامس عشر: التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت: فالذي يعلم الأجر تهون عليه مشقة العمل، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لم يثبت، فستفوته جنة عرضها السموات والأرض، ثم إن النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي ويجذبها إلى العالم العلوي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم ذكر الجنة في تثبيت أصحابه،فقد مر بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذن في الله، فقال لهم: [صبراً آل ياسر صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة] رواه الحاكم وهو حديث حسن صحيح.
مواطن الثبات
وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيل، نكتفي بسرد بعضها على وجه الإجمال في هذا المقام:
أولاً:الثبات في الفتن: ومن أنواع الفتن:
1- فتنة المال: } وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ ءَاتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ[75]فَلَمَّا ءَاتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ[76]{ سورة التوبة .
2- فتنة الجاه: }وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[28] {سورة الكهف
وعن خطورة الفتنتين السابقتين قال صلى الله عليه وسلم: [مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ]رواه الترمذي وأحمد والدارمي وهو في صحيح الجامع .والمعنى: أن حرص المرء على المال والشرف أشد فساداً للدين من الذئبين الجائعين أرسلا في غنم .
3- فتنة الزوجة : } إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ[14] {سورة التغابن.
4- فتنة الأولاد : [الولد مجبنة مبخلة محزنة] رواه أبو يعلىوهو في صحيح الجامع .
5- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم : ويمثلها أروع تمثيل قول الله عز وجل: }قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ[4]النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ[5]إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ[6]وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ[7]وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[8]الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[9] {سورة البروج .(/5)
6- فتنة الدجال: وهي أعظم فتن المحيا: [ إِنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ... عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا فَإِنِّي سَأَصِفُهُ لَكُمْ صِفَةً لَمْ يَصِفْهَا إِيَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلِي...] رواه ابن ماجه،وانظر:صحيح الجامع .
ثانياً:الثبات في الجهاد: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [45] {سورة الأنفال . ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزحف، وكان عليه الصلاة والسلام، وهو يحمل التراب على ظهره في الخندق يردد مع المؤمنين: [............ وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا]رواه البخاري وأحمد والدارمي .
ثالثاً:الثبات على المنهج: }مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[23] { سورة الأحزاب مبادئهم أغلى من أرواحهم، إصرار لا يعرف التنازل .
رابعاً:الثبات عند الممات: أهل الصلاح والسنة؛ يوفقهم الله للثبات عند الممات، فينطقون بالشهادتين، وقد يُرى من هؤلاء تهلل وجه، أو طيب رائحة، ونوع استبشار عند خروج أرواحهم،
ومثل هؤلاء قال الله فيهم: }إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[30] {سورة فصلت . اللهم اجعلنا منهم، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
من كتاب: وسائل الثبات على دين الله
للشيخ/محمد صالح المنجد(/6)
وسائل الثبات
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فإن الثبات على دين الله مطلب أساسي لكل مسلم صادق يريد سلوك الصراط المستقيم بعزيمة ورشد .
وتكمن أهمية الموضوع في أمور منها :
- وضع المجتمعات الحالية التي يعيش فيها المسلمون ، وأنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون ، وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً ، فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً ( القابض على دينه كالقابض على الجمر ) .
ولا شك عند كل ذي لب أن حاجة المسلم اليوم لوسائل الثبات أعظم من حاجة أخيه أيام السلف ، والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر ؛ لفساد الزمان ، وندرة الأخوان ، وضعف المعين ، وقلة الناصر .
- كثرت حوادث الردة والنكوص على الأعقاب ، والانتكاسات حتى بين بعض العاملين للإسلام مما يحمل المسلم على الخوف من أمثال تلك المصائر ، ويتلمس وسائل الثبات للوصول إلى برٍ آمن .
- ارتباط الموضوع بالقلب ؛ الذي يقول النبي e في شأنه : ( لقلب ابن آدم أشد انقلاباً من القدر إذا اجتمعت غلياً ) رواه أحمد 6/4 والحاكم 2/289 وهو في السلسلة الصحيحة 1772 . ويضرب عليه الصلاة والسلام للقلب مثلاً آخر فيقول : ( إنما سمي القلب من تقلبه ، إنما مثل القلب كمثل ريشة في أصل شجرة يقلبها الريح طهراً لبطن ) رواه أحمد 4/408 وهو في صحيح الجامع 2361 . فسبق الحديث قول الشاعر :
وما سمي الإنسان إلا لنسيانه
ولا القلب إلا أنه يتقلب
فتثبيت هذا المتقلب برياح الشهوات والشبهات أمر خطير يحتاج لوسائل جبارة تكافئ ضخامة المهمة وصعوبتها .
وسائل الثبات
ومن رحمة الله عز وجل بنا أن بين لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته e وسائل كثيرة للثبات . أستعرض معك أيها القارئ الكريم بعضاً منها :
أولاً : الإقبال على القرآن :
القرآن العظيم وسيلة الثبات الأولى ، وهو حبل الله المتين ، والنور المبين ، من تمسك به عصمه الله ، ومن اتبعه أنجاه الله ، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم .
نص الله على أن الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجماً مفصلاً هي التثبيت ، فقال تعالى في معرض الرد على شُبه الكفار : ( وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة ، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً ، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً ) الفرقان /32 .
لماذا كان القرآن مصدراً للتثبيت ؟؟
- لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله .
- لأن تلك الآيات تتنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن فلا تعصف به رياح الفتنة ، ويطمئن قلبه بذكر الله .
- لأنه يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله ، وكذا الموازين التي تهيئ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه ، ولا تتناقض أقوله باختلاف الأحداث والأشخاص .
- أنه يرد على الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام من الكفار والمنافقين كالأمثلة الحية التي عاشها الصدر الأول ، وهذه نماذج :
1- ما هو أثر قول الله عز وجل : ( ما ودعك ربك وما قلى ) الضحى /3 على نفس رسول الله e ، لما قال المشركون : ( ودع محمد … ) أنظر صحيح مسلم بشرح النووي 12/156 .
2- وما هو أثر قول الله عز وجل : ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) النحل /103 لما ادعى كفار قريش أن محمداً e إنما يعلمه بشر وأنه يأخذ القرآن عن نجار رومي بمكة ؟
3- وما هو أثر قول الله عز وجل : ( ألا في الفتنة سقطوا ) التوبة /49 في نفوس المؤمنين لما قال المنافق : " ائذن لي ولا تفتني " ؟
أليس تثبيتاً على تثبيت ، وربطاً على القلوب المؤمنة ، ورداً على الشبهات ، وإسكاتاً لأهل الباطل .. ؟ بلى وربي .
ومن العجب أن الله يعد المؤمنين في رجوعهم من الحديبية بغنائم كثيرة يأخذونها ( وهي غنائم خيبر ) وأنه سيعجلها لهم وأنهم سينطلقون إليها دون غيرهم وأن المنافقين سيطلبون مرافقتهم وأن المسلمين سيقولون لن تتبعونا وأنهم سيصرون يريدون أن يبدلوا كلام الله وأنهم سيقولون للمؤمنين بل تحسدوننا وأن الله أجابهم بقوله: ( بل كانوا لا يفقهون حديثاً ) ثم يحدث هذا كله أمام المؤمنين مرحلة بمرحلة وخطوة بخطوة وكلمة بكلمة .
- ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً ، ومنه ينطلقون ، وإليه يفيئون ، وبين من جعلوا كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل .
- ويا ليت الذين يطلبون العلم يجعلون للقرآن وتفسيره نصيباً كبيراً من طلبهم .
ثانياً : التزام شرع الله والعمل الصالح :
قال الله تعالى : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) إبراهيم /27 .(/1)
قال قتادة : " أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح ، وفي الآخرة في القبر " . وكذا روي عن غير واحد من السلف تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/421 . وقال سبحانه : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ) النساء /66 . أي على الحق .
وهذا بيّن ، وإلا فهل نتوقع ثباتاً من الكسالى القاعدين عن الأعمال الصالحة إذا أطلت الفتنة برأسها وادلهم الخطب ؟! ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطاً مستقيماُ . ولذلك كان e يثابر على الأعمال الصالحة ، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل . وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه . وكانت عائشة رضي الله عنها إذا عملت العمل لزمته .
وكان e يقول : ( من ثابر على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة ) سنن الترمذي 2/273 وقال : الحديث حسن أو صحيح . وهو في صحيح النسائي 1/388 وصحيح الترمذي 1/131 . أي السنن الرواتب . وفي الحديث القدسي : ( ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ) رواه البخاري ، انظر فتح الباري 11/340 .
ثالثاً : تدبر قصص الأنبياء ودراستها للتأسي والعمل :
والدليل على ذلك قوله تعالى : ( وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) هود /120 .
فما نزلت تلك الآيات على عهد رسول الله e للتلهي والتفكه ، وإنما لغرض عظيم هو تثبيت فؤاد رسول الله e وأفئدة المؤمنين معه .
- فلو تأملت يا أخي قول الله عز وجل : ( قالوا حرقوه وأنصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ، قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين ) الأنبياء /68-70 قال ابن عباس: " كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل" الفتح 8/22
ألا تشعر بمعنى من معاني الثبات أمام الطغيان والعذاب يدخل نفسك وأنت تتأمل هذه القصة ؟
- لو تدبرت قول الله عز وجل في قصة موسى : ( فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا إن معي ربي سيهدين ) الشعراء /61-62 .
ألا تحس بمعنى آخر من معاني الثبات عند ملاحقة الطالبين ، والثبات في لحظات الشدة وسط صرخات اليائسين وأنت تتدبر هذه القصة ؟ .
- لو استعرضت قصة سحرة فرعون ، ذلك المثل العجيب للثلة التي ثبتت على الحق بعدما تبين .
ألا ترى أن معنى عظيماً من معاني الثبات يستقر في النفس أمام تهديدات الظالم وهو يقول : ( آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ، فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النجل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى ) طه /71
ثبات القلة المؤمنة الذي لا يشوبه أدنى تراجع وهم يقولون : ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ، فاقض ما أنت قاضٍ ، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) طه /72 .
- وهكذا قصة المؤمن في سورة يس ومؤمن آل فرعون وأصحاب الأخدود وغيرها يكاد الثبات يكون أعظم دروسها قاطبة .
رابعاً : الدعاء :
من صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم :
( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ) ، ( ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا ) . ولما كانت ( قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ) رواه الإمام أحمد ومسلم عن ابن عمر مرفوعاً انظر مسلم بشرح النووي 16/204 . كان رسول الله e يكثر أن يقول : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) رواه الترمذي عن أنس مرفوعاً تحفة الأحوذي 6/349 وهو في صحيح الجامع 7864 .
خامساً : ذكر الله :
وهو من أعظم أسباب التثبيت .
- تأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً ) الأنفال /45 . فجعله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد .
" وتأمل أبدان فارس والروم كيف خانتهم أحوج ما كانوا إليها " ما بين القوسين مقتبس من كلام ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء . بالرغم من قلة عدد وعدة الذاكرين الله كثيراً .
- وبماذا استعان يوسف عليه السلام في الثبات أمام فتنة المرأة ذات المنصب والجمال لما دعته إلى نفسها ؟ ألم يدخل في حصن " معاذ الله " فتكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه ؟
وكذا تكون فاعلية الأذكار في تثبيت المؤمنين .
سادساً : الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً :
والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة ، طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ، أهل العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل ، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل ..
وإذا أردت أن تعرف قيمة هذا في الثبات فتأمل وسائل نفسك : لماذا ضل كثير من السابقين واللاحقين وتحيروا ولم تثبت أقدامهم على الصراط المستقيم ولا ماتوا عليه ؟ أو وصلوا إليه بعدما انقضى جل عمرهم وأضاعوا أوقاتاً ثمينة من حياتهم ؟؟.(/2)
فترى أحدهم يتنقل في منازل البدع والضلال من الفلسفة إلى علم الكلام والاعتزال إلى التحريف والتأويل إلى التفويض والإرجاء ، ومن طريقة في التصوف إلى أخرى ..
وهكذا أهل البدع يتحيرون ويضطربون ، وانظر كيف حُرم أهل الكلام الثبات عند الممات فقال السلف : " أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام " لكن فكر وتدبر هل رجع من أهل السنة والجماعة عن طريقه سَخْطَةً بعد إذ عرفه وفقه وسلكه ؟ قد يتركه لأهواء وشهوات أو لشبهات عرضت لعقله الضعيف ، لكن لا يتركه لأنه قد رأى أصح منه أو تبين له بطلانه .
ومصداق هذا مساءلة هرقل لأبي سفيان عن أتباع محمد e ؟ قال هرقل لأبي سفيان : " فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ " قال أبو سفيان : لا . ثم قال هرقل : " وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب " رواه البخاري ، الفتح 1/32 .
سمعنا كثيراً عن كبار تنقلوا في منازل البدع وآخرين هداهم الله فتركوا الباطل وانتقلوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ساخطين على مذاهبهم الأولى ، ولكن هل سمعنا العكس ؟!
فإن أردت الثبات فعليك بسبيل المؤمنين .
سابعاً : التربية :
التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عامل أساسي من عوامل الثبات .
التربية الإيمانية : التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة ، المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة ، والعكوف على أقاويل الرجال .
التربية العلمية : القائمة على الدليل الصحيح المنافية للتقليد والأمعية الذميمة .
التربية الواعية : التي لا تعرف سبيل المجرمين وتدرس خطط أعداء الإسلام وتحيط بالواقع علماً وبالأحداث فهماً وتقويماً ، المنافية للانغلق والتقوقع على البيئات الصغيرة المحدودة .
التربية المتدرجة : التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً ، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون ، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطمة .
ولكي ندرك أهمية هذا العنصر من عناصر الثبات ، فلنعد إلى سيرة رسول الله e ونسائل أنفسنا .
- ما هو مصدر ثبات صحابة النبي e في مكة ، إبان فترة الاضطهاد ؟
- كيف ثبت بلال وخباب ومصعب وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار الشعب وغيره ؟
- هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة ، صقلت شخصياتهم ؟
لنأخذ رجلاً صحابياً مثل خباب بن الأرت رضي الله عنه ، الذي كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمر ثم تطرحه عليها عاري الظهر فلا يطفئها إلا ودك ( أي الشحم ) ظهره حين يسيل عليها ، ما الذي جعله يصبر على هذا كله ؟ .
- وبلال تحت الصخرة في الرمضاء ، وسمية في الأغلال والسلاسل ..
- وسؤال منبثق من موقف آخر في العهد المدني ، من الذي ثبت مع النبي e في حُنين لما انهزم أكثر المسلمين ؟ هل هم حديثو العهد بالإسلام ومُسلِمة الفتح الذين لم يتربوا وقتاً كافياً في مدرسة النبوة والذين خرج كثير منهم طلباً للغنائم ؟ كلا .. إن غالب من ثبت هم أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقت قدراً عظيماً من التربية على يد رسول الله e .
لو لم تكن هناك تربية ترى هل كان سيثبت هؤلاء ؟
ثامناً : الثقة بالطريق :
لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم ، كان ثباته عليه أكبر .. ولهذا وسائل منها :
- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه - يا أخي - ليس جديداً ولا وليد قرنك وزمانك ، وإنما هو طريق عتيق ( عتيق صفة مدح ) قد سار فيه من قبلك الأنبياء والصديقون والعلماء والشهداء والصالحون ، فتزول غربتك ، وتتبدل وحشتك أنساً ، وكآبتك فرحاً وسروراً ، لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.
- الشعور بالاصطفاء ، قال الله عز وجل : ( الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) النمل /59 . وقال : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) فاطر /32 . وقال : ( وكذلك يجتبك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ) يوسف /6 . وكما أن الله اصطفى الأنبياء فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء وهو ما ورثوه من علوم الأنبياء .
- ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جماداً ، أو دابة ، أو كافراً ملحداً ، أو داعياً إلى بدعة ، أو فاسقاً ، أو مسلماً غير داعية لإسلامه ، أو داعية في طريق متعدد الأخطاء ؟
- ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك وأنْ جعلك داعية من أهل السنة والجماعة من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك ؟
تاسعاً : ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل :
النفس إن لم تتحرك تأسن ، وإن لم تنطلق تتعفن ، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس : الدعوة إلى الله ، فهي وظيفة الرسل ، ومخلصة النفس من العذاب ؛ فيها تتفجر الطاقات ، وتنجز المهمات ( فلذلك فادع ، واستقم كما أمرت ) . وليس يصح شيء يقال فيه " فلان لا يتقدم ولا يتأخر " فإن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ، والإيمان يزيد وينقص .(/3)
والدعوة إلى المنهج الصحيح - ببذل الوقت ، وكدّ الفكر ، وسعي الجسد ، وانطلاق اللسان ، بحيث تصبح الدعوة هم المسلم وشغله الشاغل - يقطع الطريق على محاولات الشيطان بالإضلال والفتنة .
زد على ذلك ما يحدث في نفس الداعية من الشعور بالتحدي تجاه العوائق ، والمعاندين ، وأهل الباطل ، وهو يسير في مشواره الدعوي ، فيرتقي إيمانه ، وتقوى أركانه .
فتكون الدعوة بالإضافة لما فيها من الأجر العظيم وسيلة من وسائل الثبات ، والحماية من التراجع والتقهقر ، لأن الذي يُهاجم لا يحتاج للدفاع ، والله مع الدعاة يثبتهم ويسدد خطاهم والداعية كالطبيب يحارب المرض بخبرته وعلمه ، وبمحاربته في الآخرين فهو أبعد من غيره عن الوقوع فيه .
عاشراً : الالتفاف حول العناصر المثبتة :
تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام : ( إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر ) حسن رواه ابن ماجة عن أنس مرفوعاً 237 وابن أبي عاصم في كتاب السنة 1/127 وانظر السلسلة الصحيحة 1332 .
البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين ، والالتفاف حولهم معين كبير على الثبات . وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين برجال .
ومن ذلك : ما قاله علي بن المديني رحمه الله تعالى " أعز الله الدين بالصديق يوم الردة ، وبأحمد يوم المحنة " .
وتأمل ما قاله ابن القيم رحمه الله عن دور شيخه شيخ الإسلام في التثبيت : " وكنا إذا اشتد بنا الخوف ، وساءت بنا الظنون ، وضاقت بنا الأرض أتيناه ، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا ، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة ، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل ، وآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها " . الوابل الصيب ص 97 .
وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت ، فإخوانك الصالحون والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق ، والركن الشديد الذي تأوي إليه فيثبتوك بما معهم من آيات الله والحكمة .. الزمهم وعش في أكنافهم وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية .
الحادي عشر : الثقة بنصر الله وأن المستقبل للإسلام :
نحتاج إلى الثبات كثيراً عند تأخر النصر ، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها ، قال تعالى : ( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ) آل عمران /146-148 .
ولما أراد رسول الله e أن يثبت أصحابه المعذبين أخبرهم بأن المستقبل للإسلام في أوقات التعذيب والمحن فماذا قال ؟
جاء في حديث خباب مرفوعاً عند البخاري : ( وليُتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف الله والذئب على غنمه ) رواه البخاري ، انظر فتح الباري 7/165 .
فعرض أحاديث البشارة بأن المستقبل للإسلام على الناشئة مهم في تربيتهم على الثبات .
الثاني عشر : معرفة حقيقة الباطل وعدم الاغترار به :
في قول الله عز وجل : ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ) آل عمران /196 تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم .
وفي قوله عز وجل : ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) الرعد /17 عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له .
ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل وتعرية أهدافهم ووسائلهم ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) الأنعام /55 حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة ، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام .
وكم سمعنا ورأينا حركات تهاوت ودعاة زلت أقدامهم ففقدوا الثبات لما أتوا من حيث لم يحتسبوا بسبب جهلهم بأعدائهم .
الثالث عشر : استجماع الأخلاق المعينة على الثبات :
وعلى رأسها الصبر ، ففي حديث الصحيحين : ( وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر ) رواه البخاري في كتاب الزكاة - باب الاستعفاف عن المسألة ، ومسلم في كتاب الزكاة - باب فضل التعفف والصبر . وأشد الصبر عند الصدمة الأولى ، وإذا أصيب المرء بما لم يتوقع تحصل النكسة ويزول الثبات إذا عدم الصبر .
- تأمل فيما قاله ابن الجوزي رحمه الله : " رأيت كبيراً قارب الثمانين وكان يحافظ على الجماعة فمات ولد لابنته ، فقال : ما ينبغي لأحد أن يدعو ، فإنه ما يستجيب . ثم قال : إن الله تعالى يعاند فما يترك لنا ولداً " الثبات عند الممات لابن الجوزي ص34 تعالى الله عن قوله علواً كبيراً .
- لما أصيب المسلمون في أحد لم يكونوا ليتوقعوا تلك المصيبة لأن الله وعدهم بالنصر ، فعلمهم الله بدرس شديد بالدماء والشهداء : ( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم ) آل عمران /165 ماذا حصل من عند أنفسهم ؟(/4)
فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ، منكم من يريد الدنيا .
الرابع عشر : وصية الرجل الصالح :
عندما يتعرض المسلم لفتنة ويبتليه ربه ليمحصه ، يكون من عوامل الثبات أن يقيض الله له رجلاً صالحاً يعظه ويثبته ، فتكون كلمات ينفع الله بها ، ويسدد الخطى ، وتكون هذه الكلمات مشحونة بالتذكير بالله ، ولقائه ، وجنته ، وناره .
وهاك أخي ، هذه الأمثلة من سيرة الإمام أحمد رحمه الله ، الذي دخل المحنة ليخرج ذهباً نقياً .
لقد سيق إلى المأمون مقيداً بالأغلال ، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه ، حتى لقد قال خادم للإمام أحمد : ( يعز عليّ يا أبا عبد الله ، أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك ، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله e ، لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف ) البداية والنهاية 1/332 .
وهنا ينتهز الأذكياء من أهل البصيرة الفرصة ليلقوا إلى إمامهم بكلمات التثبيت ؛ ففي السير للذهبي 11/238 عن أبي جعفر الأنباري قال : " لما حُمِل أحمد إلى المأمون أخبرت ، فعبرت الفرات ، فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه .
فقال : يا أبا جعفر تعنيت .
فقلت : يا هذا ، أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك ، فو الله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق ، وإن لم تُجب ليمتنعن خلق من الناس كثير ، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك ، فإنك تموت ، لابد من الموت ، فاتق الله ولا تجب . فجعل أحمد يبكي ويقول : ما شاء الله . ثم قال : يا أبا جعفر أعِد ..
فأعدت عليه وهو يقول : ما شاء الله ... أ.هـ "
وقال الإمام أحمد في سياق رحتله إلى المأمون : " صرنا إلى الرحبة منها في جوف الليل ، فعرض لنا رجل فقال : أيكم أحمد بن حنبل .
فقيل له : هذا . فقال للجمال : على رسلك .. ثم قال : " يا هذا ، ما عليك أن تُقتل ها هنا ، وتدخل الجنة " ثم قال : أستودعك الله ، ومضى .
فسألت عنه ، فقيل لي هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الصوف في البادية يقال له : جابر بن عامر يُذكر بخير " سير أعلام النبلاء 11/241 .
وفي البداية والنهاية : أن أعرابي قال للإمام أحمد : " يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم ، وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه ، فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة ، وإن كنت تحب الله ، فاصبر على ما أنت فيه ، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل " .
قال الإمام أحمد : وكان كلامه مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع عن ذلك الذي يدعونني إليه . البداية والنهاية 1/332
وفي رواية أن الإمام أحمد قال : " ما سمعت كلمة وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة الأعرابي كلمني بها في رحبة طوق وهي بلدة بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات ، قال : " يا أحمد إن يقتلك الحق متّ شهيداً ، وإن عشت عشت حميداً .. فقوي قلبي " سير أعلام النبلاء 11/241 .
ويقول الإمام أحمد عن مرافقة الشاب محمد بن نوح الذي صمد معه في الفتنة :
ما رأيت أحداً - على حداثة سنه ، وقدر علمه - أقوم بأمر الله من محمد بن نوح ، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير .
قال لي ذات يوم : " يا أبا عبد الله ، الله الله ، إنك لست مثلي ، أنت رجل يُقتدى بك ، قد مد الخلق أعناقهم إليك ، لما يكون منك ، فاتق الله ، واثبت لأمر الله . فمات وصليت عليه ودفنته . سير أعلام النبلاء 11/242 .
وحتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد وهو مقيد ، قد ساهموا في تثبيته .
فقد قال الإمام أحمد مرة في الحبس : " لست أبالي بالحبس - ما هو ومنزلي إلا واحد - ولا قتلاً بالسيف ، وإنما أخاف فتنة السوط "
فسمعه بعض أهل الحبس فقال : " لا عليك يا أبا عبد الله ، فما هو إلا سوطان ، ثم لا تدري أين يقع الباقي " فكأنه سُرِّي عنه . سير أعلام النبلاء 11/240 .
فاحرص أيها الأخ الكريم على طلب الوصية من الصالحين : وأعقلها إذا تليت عليك .
- اطلبها قبل سفر إذا خشيت مما قد يقع فيه .
- اطلبها أثناء ابتلاء ، أو قبل محنة متوقعة .
- اطلبها إذا عُينت في منصب أو ورثت مالاً وغنى .
وثبت نفسك ، وثبت غيرك والله ولي المؤمنين .
الخامس عشر : التأمل في نعيم الجنة وعذاب النار وتذكر الموت :
والجنة بلاد الأفراح ، وسلوة الأحزان ، ومحط رحال المؤمنين والنفس مفطورة على عدم التضحية والعمل والثبات إلا بمقابل يهوّن عليها الصعاب ، ويذلل لها ما في الطريق من عقبات ومشاق .
فالذي يعلم الأجر تهون عليه مشقة العمل ، وهو يسير ويعلم بأنه إذا لم يثبت فستفوته جنة عرضها السموات والأرض ، ثم إن النفس تحتاج إلى ما يرفعها من الطين الأرضي ويجذبها إلى العالم العلوي.(/5)
وكان النبي e يستخدم ذكر الجنة في تثبيت أصحابه ، ففي الحديث الحسن الصحيح مر رسول الله e بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذن في الله تعالى فقال لهم : ( صبراً آل ياسر صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ) رواه الحاكم 3/383 ، وهو حديث حسن صحيح ، انظر تخريجه في فقه السيرة تحقيق الألباني ص103 .
وكذلك كان e يقول للأنصار : ( إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض ) متفق عليه .
وكذلك من تأمل حال الفريقين في القبر ، والحشر ، والحساب ، والميزان ، والصراط ، وسائر منازل الآخرة .
كما أن تذكر الموت يحمي المسلم من التردي ، ويوقفه عند حدود الله فلا يتعداها . لأنه إذا علم أن الموت أدنى من شراك نعله ، وأن ساعته قد تكون بعد لحظات ، فكيف تسول له نفسه أن يزل ، أو يتمادى في الانحراف ، ولأجل هذا قال e : ( أكثروا من ذكر هادم اللذات ) رواه الترمذي 2/50 وصححه في ارواء الغليل 3/145 .
مواطن الثبات
وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيل ، نكتفي بسرد بعضها على وجه الإجمال في هذا المقام :
أولاً : الثبات في الفتن :
التقلبات التي تصيب القلوب سببها الفتن ، فإذا تعرض القلب لفتن السراء والضراء فلا يثبت إلا أصحاب البصيرة الذين عمّر الإيمان قلوبهم .
ومن أنواع الفتن :
- فتنة المال : ( ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون ) التوبة /75،76
فتنة الجاه : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً ) الكهف /28 .
وعن خطورة الفتنتين السابقتين قال e : ( ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ) رواه الإمام أحمد في السند 3/460 وهو في صحيح الجامع 5496 . والمعنى أن حرص المرء على المال والشرف أشد فساداً للدين من الذئبين الجائعين أرسلا في غنم .
- فتنة الزوجة : ( إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ) التغابن /14 .
- فتنة الأولاد : ( الولد مجبنة مبخلة محزنة ) رواه أبو يعلى 2/305 وله شواهد ، وهو في صحيح الجامع 7037 .
- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم : ويمثلها أروع تمثيل قول الله عز وجل : ( قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شيء شهيد ) البروج 4-9 .
وروى البخاري عن خباب رضي الله عنه قال : شكونا إلى رسول الله e وهو متوسد بردة في ظل الكعبة ، فقال عليه السلام : ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيُجاء بالمنشار ، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، من دون لحمه وعظمه ، فما يصده ذلك عن دينه ( رواه البخاري ، انظر فتح الباري 12/315 .
- فتنة الدجال : وهي أعظم فتن المحيا : ( يا أيها الناس إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله آدم أعظم من فتنة الدجال .. يا عباد الله ، أيها الناس : فاثبتوا فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه قبلي نبي .. ) رواه ابن ماجه 2/1359 انظر صحيح الجامع 7752.
وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن يقول النبي e : ( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً ، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى يصير على قلبين ، على أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض ، والآخر أسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً ، إلا ما أشرب من هواه ) رواه الإمام أحمد 5/386 ، ومسلم 1/128 واللفظ له . " معنى عرض الحصير : أي تؤثر الفتن في القلب كتأثير الحصير في جنب النائم عليه . ومعنى مربداً : بياض شديد قد خالطه سواد ، مجخياً : أي مقلوباً منكوساً . "
ثانياً : الثبات في الجهاد :
( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ) الأنفال /45 . ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزحف وكان عليه الصلاة والسلام وهو يحمل التراب على ظهره في الخندق يردد مع المؤمنين : ( وثبت الأقدام إن لاقينا ) رواه البخاري في كتاب الغزوات ، باب غزوة الخندق انظر الفتح 7/399 .
ثالثاً : الثبات على المنهج :
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلاً ) الأحزاب /23 مبادئهم أغلى من أرواحهم ، إصرار لا يعرف التنازل .
رابعاً : الثبات عند الممات :
أما أهل الكفر والفجور فإنهم يحرمون الثبات في أشد الأوقات كربة فلا يستطيعون التلفظ بالشهادة عند الموت ، وهذا من علامات سوء الخاتمة كما قيل لرجل عند موته : قل لا إله إلا الله فجعل يحرك رأسه يميناً وشمالاً يرفض قولها .(/6)
وآخر يقول عند موته : " هذه قطعة جيدة ، هذه مشتراها رخيص " ، وثالث يذكر أسماء قطع الشطرنج . ورابع يدندن بألحان أو كلمات أغنية ، أو ذكر معشوق .
ذلك لأن مثل هذه الأمور أشغلتهم عن ذكر الله في الدنيا .
وقد يرى من هؤلاء سواد وجه أو نتن رائحة ، أو صرف عن القبلة عند خروج أرواحهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
أما أهل الصلاح والسنة فإن الله يوفقهم للثبات عند الممات ، فينطقون بالشهادتين .
وقد يُرى من هؤلاء تههل وجه أو طيب رائحة ونوع استبشار عند خروج أرواحهم .
وهذا مثال لواحد ممن وفقهم الله للثبات في نازلة الموت ، إنه أبو زرعة الرازي أحد أئمة أهل الحديث وهذا سياق قصته :
قال أبو جعفر محمد بن علي ورّاق أبي زرعة : حضرنا أبا زرعة بما شهران قرية من قرى الري وهو في السَّوْق أي عند احتضاره وعنده أبو حاتم وابن واره والمنذر بن شاذان وغيرهم ، فذكروا حديث التلقين ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه ، فقالوا تعالوا نذكر الحديث ، فقال ابن واره : حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح ، وجعل يقول ابن أبي - ولم يجاوزه - فقال أبو حاتم : حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح ، لم يجاوز ، والباقون سكتوا ، فقال أبو زرعة وهو في السَّوْق " وفتح عينيه " حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد عن صالح ابن أبي غريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله e : ( من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة ) وخرجت روحه رحمه الله . سير أعلام النبلاء 13/76-85 .
ومثل هؤلاء قال الله فيهم : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) فصلت /30 .
اللهم اجعلنا منهم ، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(/7)
وسائل الدعوة بين التوقيف والاجتهاد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله داعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا , والصلاة والسلام على المبعوث شاهدا ومبشرا ونذيرا.
وبعد:
فأصل هذه الرسالة الصغيرة ، محاضرة بعنوان (وسائل الدعوة) في الكويت ضمن ندوة شاركت فيها بعض الأخوة الأفاضل بدعوة كريمة من جمعية إحياء التراث الموقرة ، ثم استخرنا الله تعالى في طباعتها ليعم الانتفاع بها بتوفيق من الله تعالى .
أولا : التعريف بالمفردات .
(وسائل الدعوة ) كلمه مركبة من كلمتين , وسائل وهي مضاف ، والدعوة وهي المضاف إليه , ولا يعرف المقصود من هذا التركيب الإضافي إلا بعد معرفة معنى كل كلمة منه.
تعريف الوسائل :
أما الوسائل : فهي جمع وسيلة من (وسل إذا رغب والوا سل الراغب إلى الله عز وجل وقال لبيد بل كل ذي دين الى الله واسل) معجم مقاييس اللغة 6/110
(والوسيلة : المنزلة عند الملك والدرجة والقربة ، ووسل إلى الله تعالى توسيلا عمل عملا تقرب به إليه كتوسل ) القاموس 4/63
( والوسيلة : ما يتقرب به الى الغير والجمع الوسيل والوسائل والتوسل واحد يقال وسل فلان الى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة تقرب إليه بعمل ) الصحاح 5/1841
وفي اللسان : (هي في الأصل ما يتوصل به الى الشيء ويتقرب به 11/752
فالكلمة تدور على ( ما يتوصل به الى الشيء المطلوب ) , فهو الوسيلة إليه , ومن هنا أطلق على الرغبة والقربة ، وسمى الراغب واسلا لأنه يطلب شيئا يرغب فيه ، فيسلك ما يوصله إليه.
وقوله في اللسان (ما يتوصل به إلى الشيء) أي كل ما من شانه أن يوصل إلى المقصود من الطرق والأساليب والأفعال والأقوال ونحو ذلك فكلها وسائل ويسمى كل واحد منها وسيلة .
تعريف الدعوة:
الدعوة من دعا يدعو , ومعنى الكلمة يدور على (الطلب) ومنه الدعوة الى الطعام , وفي القاموس (دعاه ساقه) 4/322 وفيه (الداعية صريخ الخيل في الحروب)4/322 وفي اللسان : تدعى القوم دعى بعضهم بعضا حتى يجتمعوا ) 14/259 وفي الصحاح : داعية اللبن ما يترك في الضرع ليدعو ما بعده )5/2237.
فالدعوة إذن طلب الشيء والحث عليه والسوق إليه , فإذا دعوتهم الى الدين فأنت تطلبهم لامتثاله وتحثهم على اعتناقه وتسوقهم الى تحقيقه في حياتهم .
وبهذا يدخل في معنى الدعوة , دعاء الناس الى الدين وتعليمهم ما فيه من الهدي ، وتحقيق ذلك في حياتهم وواقعهم كما في قوله تعالى :
(هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين) (الجمعة :2)
فالنبي صلي الله عليه وسلم يتلو آيات الله ، ويتابع أثرها علي من يدعوهم بالتعليم المستمر ، ويزكيهم أي يسعي في تحقيق هذه التعاليم في واقع حياتهم ، فالتزكية هي غاية الدعوة كما قال تعالي (أفلح من زكها) وقال (قد أفلح من تزكي) ومعلوم أن حصول الفلاح هو غاية الدعوة كما يصف الله تعالى المؤمنين بالمفلحين في مواضع كثيرة في القران.ولهذا يأتي في القران تسمية هذا المطلب الشرعي أيضا (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وهو بمعني الدعوة , لأنه طلب حصول المعروف في الواقع بالأمر به وزوال المنكر بالنهي عنه , وجاء في السنة الأمر بالتغيير أيضا ، أي تغيير واقع الناس الى أن يكون وفق مقاصد الدعوة الإسلامية ، موافقا لما في الشريعة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما في حديث ابي سعيد : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم وأصحاب السنن ..
خلاصة ما تقدم في تعريف الدعوة :
الدعوة هي طلب تغيير الوقع الحياتي للناس بالقول والفعل ليكون موافقا للشريعة في جميع نواحي الحياة .
وبهذا يكون مفهوم الدعوة كما يدل عليه النصوص الشرعية أعم من مجرد إلقاء القول الى الناس وكفى، وإن كان هذا من الدعوة بل هو أصلها , لكن ليس هذا فحسب , بل يدخل في مفهومها هذا الذي هو التبليغ ,والتربية والتعليم لتكوين النماذج الإنسانية التي تتمثل فيها الناس في جميع ميادين الحياة.
تحقيق أهداف الدعوة واجب الدولة في الإسلام:
وبهذا تكون الدولة في الإسلام هي أول من يناط به تحقيق أهداف الدعوة وإظهار الدعوة الإسلامية على الدين كله أول واجباتها ، وقال تعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) التوبة :33
وكذلك كانت الدولة في الصدر الأول وفي العصور التي كانت فيها الدولة الإسلامية تعد الدعوة إلى الله – بالمفهوم السابق- أهم واجباتها وسر وجودها ، وكانت تقوم من خلال مؤسساتها بتحقيق جميع ما يدخل تحت معنى الآية السابقة مما اسم الدين الحق في الواقع الحياة .(/1)
فكانت تأمر بالمعروف وتقيم شعائره وتحمل الناس عليه بالترغيب والترهيب ، وتنهى عن المنكر وتغيره وتدفع الناس عليه بالترغيب والترهيب والقول ، ولو لم يتغير إلا بالقتال- في بعض الصور - سلكت سبيل القتال ، كقتال أهل الردة والبغي وأهل الحرابة والطائفة الممتنعة عن بعض شعائر الإسلام كما لو تواطأت طائفة على الامتناع عن أداء الزكاة أو الآذان وغير ذلك مما هو مذكور في مواضعه من كتب الفقه.
وكذلك تحمل الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الى خارج حدودها وهو الجهاد , جهاد الطلب , فتحمل الناس في الأرض على الخضوع للدين الحق كما قال تعالى ( وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ).
ويدخل تحت هذا كله إرسال الدعاة ونصب القضاة والأئمة للفتيا , وإقامة الحدود وتجنيد الجنود , وما يلزم لذلك من الوسائل والتراتيب الإدارية وغيرها.
معني وسائل الدعوة:
ويتبين مما تقدم أن وسائل الدعوة هي كل الطرق والأسباب التي من شأنها أن تجعل الدعوة الإسلامية ، واقعا متحققا في الحياة سواء كانت أسبابا شرعية أمر الله بها أو ندب إليها في الكتاب والسنة ، و كونية دل الشرع على إباحتها وجعلها الله كونا وقدرا تقتضي مسبباتها التي تكون في هذه الحال هدفا من أهداف الدعوة.
وهي بهذا الاعتبار تكون شرعية أيضا من جهة أن الشريعة دلت على إباحتها ، ودلت نصوصها العامة على شرعية استعمالها في تحقيق مقاصد الشريعة .
وسائل الدعوة يصعب حصرها:
وبهذا يتبين أن وسائل الدعوة ، بالمفهوم الشامل الذي بيناه ، والذي دلت عليه النصوص الشرعية ، يصعب دخولها تحت الحصر ، فإن الأسباب والطرق التي يتوصل بها الى تمثل المعروف في الحياة وزوال المنكر بقدر الاستطاعة كثيرة جدا ومتغيرة جدا ، فإن الله تعالى قد أجرى سننه الكونية على تغير كثير من الأسباب بتغير الزمان والمكان ، فقد يكون من الأسباب ما يقتضي حصول مسببات لم يكن يمكن حصولها في أزمان مضت , بل إن منها ما لم يسبق زمن بحصولها قط , مثل ما يستعمل الآن من السلاح في الحروب فإنه يحصل به من تحقيق أهداف الحرب ما لم يمكن في الماضي ، منه ما يقضي على الأمة العظيمة من الجند بلحظة واحدة ، ومعلوم أن هذا لم يكن قط ليتحقق في الأسباب العادية الطبيعية في جميع العصور السابقة منذ بدأت الحروب بين البشر.
وسائل تحسين الجيوش الإسلامية من وسائل الدعوة:
وكذلك وسائل تحسين الجيوش وإدارتها وتقسيم الجند والقادة وما يلزم في ذلك من التراتيب الإدارية وأنظمة الجزاء والتعزير والعقوبات العسكرية وغيرها ، ما هو كثير يصعب حصره وخاضع للتغير والتطوير المستمر.
ومعلوم أن ذلك كله من وسائل الدعوة ، ما يحتاج إليه المسلمون من الأسباب والطرق التي تقتضيها ظروف العصر لتحصيل العلوم الشرعية وتمكين حملتها من ممارسة دورهم في المجتمعات وإدخالهم في مؤسسات الدولة ليتمكنوا من خلالها من إيصال الدعوة الإسلامية .
مثل إنشاء الكليات الجامعية ، وإدارتها بأساليب الإدارة الحديثة التي يكون غالبها مما أحدثه غير المسلمين ، ومنحهم الشهادات على النظام التي تعترف به الدولة وقد يكون من الأنظمة المستوردة من غير بلاد المسلمين.
ولهذا رأي من رأى من العلماء جواز استعمال نظام منح الشهادات العليا في العلوم الذي يستعملها غير المسلمين ،ولا تعترف غالب الدول الإسلامية إلا به ، استعماله نفسه في علوم الشريعة ، مثل ما يسمي (الماجستير والدكتوراه) بنفس الترتيب الإداري الذي أحدثه أولئك ، ليتمكن حملة العلوم الشرعية بواسطته من تبوء المراكز العلمية التي تخولهم لإحداث التغير الذي ينشدون في مجتمعاتهم.
بل إن منهم من يدرس في البلاد النصرانية ويحصل على الشهادات العليا الشرعية من هناك ، وإنما يمنحه إياها جامعات تتبع دول النصارى ويكون ذلك عنده من الوسائل المباحة التي بها يتوصل الى دعوة الناس الى دين الإسلام وسائل تنظيم الإدارات في الدولة .
ويدخل تحت وسائل الدعوة - إذا اعتبرنا الدولة الإسلامية ما هي إلا المؤسسة العليا المنوط بها القيام بالدعوة الإسلامية – كل ما تحتاجه الدولة من وسائل معنوية ومادية وإدارية ، حتى أساليب الإدارة الحديثة التي تدرس اليوم في كليات متخصصة وينال الدارسون فيها شهادات إدارية ، وكذا ما تحتاجه الدولة من ذلك لإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونظام العقوبات الشرعية وترتيب إدارات القضاء والفتيا وتقسيم العاملين في ذلك كله وفق أنظمة العمل المعمول بها في العالم ، إذا لم يخالف شيء من ذلك الشريعة المطهرة.
ومعلوم أن هذا لا بد منه للدولة في العصر الحديث حتى لو كانت تدين بتحكيم الشريعة في كل شئون الدولة .
وأن هذه كله مما يصح دخوله تحت اسم الوسائل وأن ما يتحقق به هو نفسه أهداف الدعوة الإسلامية إذا كان ذلك ضمن عمل الدولة الإسلامية
وسائل الدعوة في عمل الجماعات الإسلامية :(/2)
وإذا كانت الدولة في الإسلام يجوز لها استعمال كل الوسائل المباحة للتوصل الى ترجمة التعاليم الإسلامية إلى واقع عملي وهو حقيقة عمل الدعوة.
فالأمر فيما يتعلق بعمل الجماعات التي تتحرك لتحقيق أهداف الدعوة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية التي لا تكون الدولة فيها تدين بتحكيم الشريعة , لا يختلف إذ لا وجه لاختلافه البتة ، فيصير تحت يديها كل ما لم ينص على تحريمه من الوسائل التي تمكنها من تحقيق أهدافها ، وكل التراتيب الإدارية الحديثة في تنظيم العمل الدعوى وأنظمة الإدارة التي تتطور ويتوصل الباحثون فيها الى أساليب أكثر فعالية كلما تطور الزمان.
كما أن للدعوة الإسلامية أن تستعمل الوسائل الإعلامية المتطورة إذا خلت من المحاذير الشرعية ، وقد تحتاج الى ابتكار أساليب ووسائل جديدة أو تقتبس من ما توصل إليه غير المسلمين من وسائل والأسباب التي سكت عنا الشرع لإنجاح أعمال الدعوة في المجتمع ، كما فعل أولئك الذين اقتبسوا نظام التعليم عن غير المسلمين ، وجعلوا علوم الشريعة منتظمة تحته كوسيلة لتحقيق هدف التعليم الشرعي في الأمة ، بما يناسب العصر .
التخريج الشرعي لوسائل الدعوة:
وقد يظن ممن لم يتمعن في لوازم ما يقول أن الوسائل المتعلقة بالدعوة إلى الله ينبغي أن تكون توقيفية لأن الدعوة الى الله أمر شرعي داخل تحت اسم العبادة والعبادة توقيفية فوسائلها كذلك ينبغي أن تكون توقيفية .
ومعلوم أن التوقيفي هو ما يتوقف العمل به على النص الخاص وما لا يصح فيه استعمال القياس.
وليتبين ما في هذا القول من مجانية الصواب ، مع أنه قد يصدر من أفضل أهل العلم ، لا بد من تناول المسألة من بابها اشرعي حسب قواعد الفقه وأصوله.
علاقة وسائل الدعوة بأفعال النبي صلي الله عليه وسلم:
ويبدو في ظاهر الأمر أن الوسائل التي استعملها الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته في زمانه ، تدخل في حكم أفعاله ، لان الوسائل غالبا ما تكون أفعالا وطرقا استعملها صلى الله عليه وسلم لتحقيق أهداف دعوته ، وقبل أن نبين العلاقة بين وسائل الدعوة وأفعاله صلى الله عليه وسلم ، لا بد من تقديم بيان موجز لأفعال النبي صلي الله عليه وسلم وكيف يستدل بها على الأحكام.
أقسام الفعل النبوي:
وقد قسم العلماء أفعاله صلي الله عليه وسلم الى عشرة أقسام :
- الفعل الجبلي
- الفعل العادي
- الفعل الدنيوي
- الفعل المعجز
- الفعل الخاص
- الفعل البياني المراد منه بيان مشكل أو مجمل في الأحكام الشرعية
- الفعل الامتثالي الذي يقصد به مجرد الامتثال لطلب معلوم
- الفعل المؤقت في انتظار الوحي ، كإهلاله مطلقا قبل نزول الوحي في يمينه.
- و الفعل المتعدي كتحريكه صلى الله عليه وسلم لابن عباس في الصلاة من يساره الى يمينه.
- و الفعل المبتدأ المجرد وهو الذي لا يقارنه قول ولا يدخل في الأقسام التسعة السابقة والصحيح انه يدل على الإباحة فقط ولا يستدل بمجرده على الاستحباب .
متعلقات الفعل النبوي:
وذكر العلماء أيضا ما يسمى متعلقات الفعل النبوي وذلك أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا مع التلبس بأمور مختلفة مثل
1- يقع لسبب معين
2- يقع من فاعل هو الرسول صلى الله عليه وسلم
3- يقع متعديا الى مفعول
4- لا بد أن يقع في زمان معين ومكان معين
5- وعلى هيئة معينة
6- وقد يستعمل فيه آله وعناصر مادية معينة
7- وقد يقارنه أمور تقع معه
8- وقد يقع الفعل مرة أو مرات معلومة أو مجهولة .
فقد يقع الفعل وله متعلق واجب وأخر مندوب وأخر مباح كصلاة الاستسقاء :صلى ركعتين بثياب بذلة ولها لون خاص
فالأول واجب أي أن تكون الصلاة ركعتين
والثاني :مستحب
والثالث : مباح
والقاعدة الشرعية الجامعة في هذا الباب أن المطلوب المماثلة إذا كان متعلق الفعل مقصود على أنه شرع عندما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الفعل.
ومثال ذلك ما لو فعل النبي صلى الله عليه وسلم أمرا لسبب ثم زال ذلك السبب فإنه لا يشرع ولا يكون فعل ذلك الفعل بعد زوال السبب سنة لأنه ليس للشارع غرض مقصود في ذلك السبب على أنه شرع ، ، بمعنى أنه ليس كل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو ما يتعلق بأفعاله من متعلقات يكون شرعا ، إلا إذا دل الدليل على أنه فعله بقصد التقرب إلى الله تعالى بخصوص ذلك الفعل ، وسيأتي مزيد إيضاح .
جهة فاعلية النبي صلى الله عليه وسلم للأفعال :
وكذلك من جهة فاعلية النبي صلى الله عليه وسلم للأحكام ، فإنه صلى الله عليه وسلم يتصرف :
1 – بمقتضى التبليغ للرسالة .
2 – بمقتضى الإمامة والسلطة العامة ومقتضاها السياسة العامة وتنفيذ الأحكام والقيام بالمصالح .
3 – وبمقتضى الإفتاء .
4 – وبمقتضى الحكم والقضاء .
نتائج مما تقدم من بيان أفعال النبي صلى الله عليه وسلم :
* كانت الوسائل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم هي ـ في كثير من الأحيان ـ أفعاله صلى الله عليه وسلم التي يفعلها أو يأمر بفعلها أو يقر فعلها من صحابته للوصول إلى أهداف دعوته .(/3)
* والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحقق أهداف دعوته من جميع هذه الجهات
* وكان يستعمل أساليب وأسبابا معينة وترتيب إدارية كوسائل في التبليغ وممارسة السلطة وتنفيذ الأحكام والقيام بمصالح العامة والإفتاء وغيرها .
* وكثير منها إنما هو من باب الأفعال النبوية لا الأقوال التي تخضع لدلالات الألفاظ الموضوع لها لغة وشرعا .
* وأفعاله صلى الله عليه وسلم كانت في كثير من الأحيان الأسباب الطبيعية والعادية التي تؤدي إلى تحقيق الأهداف التي أمر بتحقيقها من خلال تنوع جهات فعله صلى الله عليه وسلم من مبلغ وإمام ورئيس دولة وقائد للجيوش ومنفذ للأحكام وقاض ومفت. . . إلخ .
* وربما كانت في الأصل مباحة - لأن الفعل المجرد يدل على الإباحة - ، ولكنه استعملها ليتوصل بها إلى مستحب أو واجب من المأمورات العامة التي أمر بها ولم يتعبد بخصوص هذا الفعل وهذا السبب .
* وربها لم تكن موصلة في زمان آخر ومكان آخر لنفس المأمور ضرورة تغير الأسباب بتغير الزمان وهو من السنن الكونية المستقرة في العقول بداهة .
* فالواجب أن يسلك حينئذ ما هو مباح من الأسباب والوسائل الأخرى ويكون ذلك من سنته وشريعته .
* وربما زال السبب الذي من أجله فعل النبي صلى الله عليه وسلم الفعل فيزول الفعل تبعا لذلك ويكون عدم فعله من سنته وشريعته .
* وهذا كله لأن هذه هي طريقة الاستدلال الشرعي بالأفعال النبوية ، فإذا نطر إليها من خلال ما تقدم من متعلقات فعلها ، وجهات صدورها منه صلى الله عليه وسلم ، تنوعت دلالتها على الأحكام وهي تختلف بذلك عن أقواله صلى الله عليه وسلم .
استعمال النبي صلى الهل عليه وسلم للوسائل :
*والنبي صلى الله عليه وسلم يفعل أفعالا لتحصيل نفع في بدن أومال له أو لغيره أو دفع ضرر كذلك أو يدبر تدبيرا في شأنه خاصة أو شئون المسلمين عامة ، لغرض التوصل لجلب نفع أو دفع ضرر ويدخل تحت ذلك :
التدبير التي اتخذه في الحرب من استعمال المجانيق والسيوف والرماح والسهام ، وتربية الخيل للقتال ، وحفر الخنادق ، وترتيب الجيوش وتدريبها .
والتدابير التي اتخذها في الإدارة المدنية من اتخاذ الولاة والكتاب والحراس والحجاب والسفراء والأعلام والشعارات ، وقد ألف في ذلك الكتاني كتابه ( التراتيب الإدارية ).
وكثير من الوسائل التي استعملها عليه الصلاة والسلام ـ والتي هي من جملة أفعاله ، والاستدلال بها يدخل في باب الاستدلال بالأفعال النبوية ـ اقتضت الظروف في وقته أن تكون هي الأسباب الطبيعة التي تؤدي إلى تحقيق أهداف دعوته .
وليست كلها هو متعبد بفعلها لذاتها على وجه الخصوص وكثير منها هو في الأصل فعل مجرد مباح لكنه صار واجبا لأنه يوصله إلى غرض واجب وليس بالضرورة يكون كذلك في حقنا .
أمثلة على ما تقدم وزيادة إيضاح :
فالنبي صلى الله عليه وسلم استعمل أسلوب الهجرة لتكوين المجتمع الإسلامي النواة في بيئة أصلح ثم الدولة .
والهجرة كانت في حياته صلى الله عليه وسلم حدثا عظيما يشكل متغيرا تاريخيا أو كما يسمى هذه الأيام ( القرار الاستراتيجي ).
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة كوسيلة من وسائل تحقيق أهداف دعوته ، وهي مع ذلك تدخل في الاستدلال بأفعاله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يحتج إليها لم يهاجر ، ولو لم يقع السبب الذي اضطره إلى الهجرة لما سلك هذه الوسيلة .
فهل يجب علينا سلوك هذه الوسيلة في كل ظرف وزمان ومكان حتى لوزال السبب الذي اقتضى هذه الوسيلة ؟
وقد ظن هذا بعض الجماعات ، فأسسوا منهج الدعوة عندهم على أساس الهجرة ثم تكوين المجتمع النواة ثم الانقضاض على المجتمع الجاهلي ، وهي جماعة ( التكفير والهجرة ) .
وأغرب منهم من يستدل بالأدوات والعناصر المادية التي كان يستعملها صلى الله عليه وسلم ، على أنها مما يتبع فيه مطلقا كاستناده إلى جذع ثم المنبر وبناء المسجد من طين والمنع من مكبر الصوت في باب الترك مثلا .
وقد أُتي الجميع من قلة فقههم في وجه الاستدلال بالأدلة الشرعية عموما وبالسنة والسيرة النبوية على وفق القواعد التي ضبط بها العلماء ذلك ، وظنوا أن مقتضى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة هو فعل ما فعل مطلقا .
والاستدلال بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم - التي تعتبر وسائل الدعوة وثيقة الصلة بها -– يحتاج إلى فقه عميق ومعرفة بالقواعد والضوابط التي وضعها العلماء لتعصم من الاستدلال الجزئي أو العشوائي الذي ينظر إلى النص مقطوعا عن نظائره وعن القواعد التي يفهم من خلالها .
جماع الاستدلال بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم على مسألة وسائل الدعوة:
وجماع ذلك يرجع إلى ثلاثة أمور :
1 – أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المجردة في الأصل إنما تدل على الإباحة لا يستدل بها بالنظر إلى ذاتها على أكثر من ذلك .(/4)
2 – أن ماكان من أفعاله صلى الله عليه وسلم قد استعملها كوسيلة من وسائل الدعوة ، إنما استعملها لأنها في زمنه وظروف بيئته هي الأسباب الطبيعية التي تحقق له أهدافه فصارت مستحبة أو واجبة تبعا لذلك .
3 أن الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب يتحقق بمماثلته في صورة الفعل وحكمه وسببه والمقصد منه ويتخرج من المجموع حقيقة الائتساء به .
أمثلة :
ولهذا لو اتخذ من يريد الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، اتخذ شعرا طويلا وفعله على وجه القربة والعبادة فليس متأسيا به لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك على وجه الإباحة فهذا حكمه فلا يفعل إلا على وجه الإباحة .
ولو فعل شيئا كان صلى الله عليه وسلم قد فعل لسبب في غير ذلك السبب لم يكن ذلك ائتساء به كالهجرة إذا لم يقم مقتضاها .
ولو فعل شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحقق هدفا ومقصدا لا يتحقق بنفس الفعل في هذا الزمان أو المكان لم يكن ذلك ائتساء به وهذا قد بكون في العبادات أيضا .
ومن الأمثلة على هذا :ما قاله شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله ، قال : ( والأخرى – يعني الرواية الأخرى عن أحمد – يخرج ما يقتاته وإن لم يكن من هذه الأصناف ، وهو قول أكثر العلماء كالشافعي وغيره وهو أصح الأقوال فإن الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المواساة للفقراء كما قال تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم }والنبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير لأن هذا كان قوت أهل المدينة ولو كان هذا ليس قوتهم بل يقتاتون غيره لم يكلفهم أن يخرجوا مما لا يقتاتونه ) جزء الزكاة من مجموع الفتاوى ص 69 .
فتأمل كيف جعل إخراج الزكاة من غير الأصناف المنصوص عليها والتي فعلها صلى الله عليه وسلم وكانت وسائل مواساة الفقير في زمنه ، جعل ذلك هو الصواب الموافق للشريعة المحمدية .
ومما قال أيضا : ( وهذا باب واسع قد بسطناه في غير هذا الموضع وميزنا بين السنة والبدعة وبينا أن السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو فعل على زمانه أولم يفعله ولم يفعل على زمانه لعدم المقتضي حينئذ لفعله أو لوجود المانع منه ) مجموع الفتاوى 21 / 381 .
استعمال وسائل للدعوة لم يستعملها النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون من سنته :
وقوله : ( لعدم المقتضى حينئذ لفعله أو لوجود المانع منه ) هو موضع عظيم النفع فإن كثيرا من وسائل الدعوة المعاصرة هي أسباب مباحة توصل لتحقيق أهداف النبي صلى الله عليه وسلم من دعوته ولم توجد في زمنه لعدم قيام المقتضي لفعلها أو لوجود مانع منها لو زال رجعت إلى أنها مشروعة داخله في سنته وشريعته صلى الله عليه وسلم .
وقد يتنازع العلماء من أجل هذه القاعدة في أمور وقعت منه صلى الله عليه وسلم ، فيما يتعلق بالعبادات المحضة من أفعال اقترنت بها هل هي سنة ، أم لا تدل على ذلك .
قال ابن تيميه رحمه الله : ( وهذا هو الأصل فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل ولهذا لما اشتبه على كثير من العلماء جلسة الاستراحة هل فعلها استحبابا أو لحاجة عارضة تنازعوا فيها ، وكذلك نزوله بالمحصب عند الخروج من منى لما اشتبه هل فعله لأنه كان أسمح لخروجه أو لكونه سنة ؟ تنازعوا في ذلك ) مجموع الفتاوى 1 / 281 .
وإذا كان هذا في مثل هذه العبادات المحضة فكيف في غيرها مما سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من الوسائل والأسباب التي توصله لتحقيق أهداف دعوته العامة .
فكيف يصح أن يقال أنها توقيفية مطلقا ويغلق على المسلمين باب الاجتهاد فيها والقياس ، وكيف يمكنهم أن يحققوا أهداف الدعوة الإسلامية مع تغير الزمان والمكان واقتضاء ذلك لتغير الأسباب والوسائل ، إذا كانوا يرفضون هذه الأسباب التي لا تدل الشريعة أصلا على تحريمها وإنها هي من المباح .
وبهذا يتبين أن القول بأن وسائل الدعوة توقيفية ليس بوجيه ، وإن كان قد يقوله من أهل العلم والفضل من هو منهما بمكان .
شبهة للعلمانيين والرد عليها :
ولا يلتفت إلى ما تشغب به الأحزاب العلمانية الضالة على الشريعة من خلال هذه الأصول الشريفة.
وهم يتعلقون بكثير من كلام علماء الإسلام وقواعد الفقه العامة ،لكنهم يضعونها في غير موضعها ويشبهون بها على ضعاف العقول ومرضى القلوب ، ولهذا نجحوا في الترويج لمذهبهم وبدعتهم الشنيعة في بلاد المسلمين وأشكل كلامهم ـ كقولهم بأن إقامة الدولة وترتيب الإمامة بل وإقامة الحدود وسائل لتحقيق أهداف وروح الدين الإسلامي وأن ذلك يتحقق بغيرها في هذا الزمان ـ أشكل ذلك على كثير من المنتسبين إلى العلم الشرعي فتخبطوا في فقه السنة.
وجماع الجواب على ما تعلقوا به أن يقال :
أن جوانب الحياة البشرية لا تخرج عن ثلاثة أقسام :
القسم الأول :(/5)
جوانب ثانية متعلقة بحقيقة الإنسان ذاته في أي مكان وزمان وجد ، وتلك حقيقة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ، فجاءت الشريعة الحكيمة له بأحكام تفصيلية ثابتة بثباتها ، كالعبادات المحضة من صلاة وصيام وحج وأحكام الطهارة والأسرة والمحرمات المفق عليها المغروس في فطرة الإنسان قبحها كالزنا والسرقة والخيانة . . . إلخ .
القسم الثاني :
جوانب ثابتة الغاية والهدف ولكنها متغيرة الوسائل والأساليب والطرق التي تؤدي إلى الغاية حسب سنة الله الكونية مثل طريقة الحكم ورسم المنهج الاقتصادي والخطة التعليمية . . . إلخ .
فهذه وضعت لها الشريعة قواعد وضوابط عامة لا يجوز الخروج عنها .
فالحكم يقوم على أصول منها : أن يكون يما أنزل الله وأن يكون بالشورى ويراعي فيه العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد بقدر الإمكان . . إلخ . وتركت الوسائل إلى اجتهاد الأمة مثل كيفية تنظيم الشورى ومبايعة الحاكم وتحديد المصلحة والمفسدة . . . إلخ .
والاقتصاد يقوم على أن المال لله تعالى والناس مستخلفون فيه وعلى تحريم أكل الناس بالباطل وتحريم الربا وما ورد في النصوص من المعاملات المحرمة .
أما الوسائل كأسلوب وضع الخطط الاقتصادية التي تنهض باقتصاد الأمة داخل إطار الأحكام الشرعية وكيفية التعامل في الأسواق وتنظيم دور داخل في اجتهاد الأمة على أن يراعى فيه تحقيق المصالح الشرعية وفق قواعد وأحكام الشرع العامة .
القسم الثالث .
ماسوى القسمين السابقين من الأمور المباحة التي اقتضت حكمة الله تعالى أن يتعلمها الإنسان يما أودع الله فيه من العقل ، كالا كتشافات العلمية والأنشطة البشرية التي لا تدخل في حكم الواجب أو المسحب أو المكروه أو الحرام فهي من المباح .
كشئون الصناعة والزراعة والعمارة ومظاهر الحياة المادية وغيرها .
فهذه مسكوت عنها رحمة لا نسيانا –لأنها تخضع للتجربة البشرية وسريعة التغير والتطور في حياة البشر فتركت لهم .
لكنها تقع تحت الغاية الأساسية من الوجود وهي عبادة الله ، إذا توصل بها المسلمون إلى تحقيق علو كلمة المسلمين على غيرهم ورفع دين الإسلام على الدين كله .
وقد يدخل شيء منه في الأحكام التكليفية الأربعة إذا اقترن به أمر خارج عنه فيصير تبعا لذلك واجبا أو محرما أو مستحبا أو مكروها ، أما بالنظر إلى ذاته فهو مباح .
وبالجملة فإن جوانب الحياة البشرية لا تخرج عن هذه الأقسام ، وتصير الأحكام الشرعية بتعا لذلك قسمين :
قسم قد جاء فيه نصوص خاصة تفصيلية ثابتة ،وهو في الجوانب الثابتة التي لا تختلف باختلاف الظروف إلا ما كان من متعلقات ثانوية قد تتغير كالمثال المتقدم في زكاة الفطر .
وقسم جاءت النصوص فيه عامة وأمر المسلمون أن يحققوه بأي وسيلة مباحة .
من محاسن الشريعة الإسلامية :
وهذا من محاسن الشريعة الإسلامية ، لأن الحياة فيها ما هو متغير ومتطور فأنزل الله تصوصها قابلة لهذا التغير والتطور ومنها ما هو ثابت فجاءت النصوص كذلك ، ولهذا بقيت الشريعة صالحة لكل زمان ومكان .
ومن الأمثلة على ذلك أن الله تعالى علق بعض الأحكام على الإسم العام كالسفر ليدخل فيه كل سفر وإن كانت مدته قصيرة كسفر الطائرة مثلا – وذلك ليستوعب الحكم تغير الزمان ، وأمر بالإنفاق من السعة ليقبل ذلك اختلاف الزمان والمكان وأعراف الناس .
وكل ذلك عمل بالشريعة كل في بابه التوقيفي وغير التوقيفي .
وقد وضع القائلون بأن وسائل الدعوة توقيفية غير التوقيفي في القسم التوقيفي ، وذلك يلزم منه إدخال الدعوة في حرج عظيم وتضييق لما وسع الله ، مما يؤثر على صورة سماحتها وقابليتها لمواكبة المتغيرات في زمن نحن أحوج ما نكون إلى إظهار ذلك .
خلاصة مهمة :
وبهذا يتبين أن القول بأن الوسائل توقيفية يعني أن وسائل الدعوة في عهد النبوة لايجوز لاحد أن يسلك غيرها ولايتخذ سواها للوصول إلى أهداف الدعوة الاسلامية ، وهذا يقتضي أن افعال النبي صلى الله عليه وسلم المجردة واجبة الاتباع وليس مباحة في الاصل ، لان الوسائل التي اتخذها صلى الله عليه وسلم هي من أفعاله ، والقول بأنها واجبة الاتباع خلاف الصواب .
كما أن القول بأن الوسائل توقيفية يقتضي أن نخالف الرسول صلى الله عليه وسلم في مقصده من سلوك وسائله ، لانها في زمنه كانت تؤدي إلى مقاصده ، وقد لاتؤدي في غير زمنه نفس المقاصد ، وذكرنا على هذا مثال إخراج زكاة الفطر من الاصناف التي أخرجها صلى الله عليه وسلم ، فلو قيل إن هذه الوسيلة في مواساة الفقير توقيفية ، لأدى ذلك إلى الوقوع في حرج كبير ، إذ قد لاتحصل مواساة الفقير في كل زمان ومكان بنفس الذي حصل في زمنه صلى الله عليه وسلم .(/6)
والنتيجة أن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم المجردة حكمها الاباحة ، والقول بان الوسائل توقيفية يؤدي إلى أن تكون واجبة ، وأن فعل الوسائل التي كانت في عهده صلى الله عليه وسلم قد لايؤدي إلى مقاصد الشريعة بل إلى ضدها ، لان النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلها لانها في زمنه تؤدي إلى مقاصده ، ولو لم تكن كذلك لما فعلها ، فليس فعلها لذاته هوالمطلوب ، وإنما مجموع فعلها المؤدي إلى مقاصدها هو المطلوب .
وبهذا يتبين أن القول بأن الوسائل توقيفية في غاية الضعف .
استعمال النبي صلى الله عليه وسلم لوسائل الدعوة :
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم ، لإنجاح دعوته أتم وأكمل وأفضل الأسباب والوسائل في عصره فقد :
1ـ استعمل أسلوب الأهداف المرحلية فبدأ بالدعوة الفردية مع شيء من السرية ثم انتقل إلى مرحلة الجهر .
2ـ واستعمل التمرحل أيضا في التنفيذ فقد أمر أولا بكف الأيدي وعدم استعمال العنف ثم أذن فيه ثم أمر به كما أوحى الله إليه وعلمه .
3ـ واستعمل أسلوب التراكم الكمي الذي يؤدي إلى التغير الكيفي فقد امتلأت المدينة من أتباعه وحرص على نشر دعوته فيها قبل قدومه ليؤدي ذلك إلى التغير الكيفي بالتدريج .
كما قال جابر رضي الله عنه : (( حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا ودخله الإسلام )) رواه أحمد.
4ـ واستعمل تغيير البيئة وإيجا بيئة أفضل للدعوة كما في قصة الهجرة ، ولم يبق في مكة حيث البيئة لم تعد صالحة لبقية الأهداف المرحلية .
5ـ واستعمل أسلوب تغيير بعض مراحل الخطة إذا اقتضى الأمر ذلك كما فعل في الحديبية .
6 ـ واستعمل أسلوب الحرص على مراكز القوة في المجتمع ولهذا كان – أحيانا – ينتقي في الدعوة فأبو بكر الصديق رضي الله عنه كان معروفا في قريش مؤثرا في الدعوة، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على إسلام عمر . رواه أحمد وغيره .
7ـ وكان يستعمل أساليب الأعلام الأكثر تأثيرا كالشعر فاتخذ شاعرا هو كعب بن مالك .
ومما يدل على تمام حكمته وعلمه عليه الصلاة والسلام أنه عندما جاءه وفد الأنصار فوافوه شعب العقبة آخر العهد المكي قال للعباس هل تعرف هذين الرجلين قال العباس : نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك، قال كعب : لا أنسى قول النبي صلى الله عليه وسلم : الشاعر؟ قال نعم .
فكأنه أعجبه صلى الله عليه وسلم أن يكون معه شاعر ليكون جهازا إعلاميا لدعوته في العرب .
ولهذا اتخذ خطيبا أيضا هو ثابت بن قيس .
8ـ وكان حريصا على السمعة الحسنة لدعوته وتكثير المؤيدين ، ومن ذلك ما كان يفعله في المؤلفة قلوبهم وقد عفا عن ذلك الإعارب الذي سل سيفه وهو نائم فوجده قائما وبيده السيف على رأس النبي صل الله عليه وسلم وهو يقول من يمنعك منى ؟ قال : (( الله )) فسقط السيف من يده فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : (( من يمنعك منى ؟ )) قال الأعراب : كن خير آخذ، فعفا عنه صلى الله عليه وسلم ، وانطلق الأعرابي يثني على النبي صلى الله عليه وسلم في قومه .
9ـ وكان يسلك وسلية التربية القيادية الخاصة والتوجيه والإرشاد العام لتوسيع القاعدة الشعبية .
10ـ واستعمل أسلوب التمرحل من التجنيد إلى التمنيخ .
11ـ وكان يقسم معارضوه إلى درجات متفاوتة ويحرص على تميز هذه الدرجات ( مناصر ، مؤيد، محايد ، عدو محارب ، عدو غير محارب )
12ـ وكان يحرص على الروابط بين القيادين في دعوته ويدل عليه مصاهراته للقادة وهم خلفاءه من بعده .
13ـ واستعمل أسلوب الهيكل التنظيمي كما نقب النقياء في بيعة العقبة .
14ـ واستعمل أسلوب الإفادة من الوضع السياسي القائم كما أمر أصحابه بالهجرة إلى النجاشي لعدله .
15ـ وأسلوب التخلي عن بعض المصالح الجزئية طلبا لما هو أعظم منها والرجوع خطوة إلى الوراء لكسب خطوتين إلى الأمام كما في صلح الحديبية
16ـ واستعمل أسلوب الثواب والعقاب المادي والمعنوي كما في قصة المخلفين وغيرها كثير .
17ـ وكان يستعمل في الجهاد الذي كان أعظم وسيلة لتحقيق أهداف دعوته ، واستعلم فيه –كل الوسائل المباحة المشروعة التي أتيحت له في عصره :
كالحصار ، وضرب الخندق ، والمباغتة ، والمخابرات ، والحرب النفسية ( شعر حسان ) ، ووسائل الاتصال كما في غزوة حنين ، ونداء أصحاب السمرة ، ورفع الروح المعنوية في الأنشودة كما في أثناء حفر الخندق ، وإرهاب العدو ( نصرت بالرعب ) و ( قتل الأسرى ) ، والمهادنة ، والتوقيت المناسب للحرب ، والاغتيال ، وجر الخصم إلى المعركة ، وفتح الجبهات على العدو لإشغاله كما في قصة الخندق .
وغيرها كثير جدا ، وكثير منها سلكها النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنها الأسباب الطبيعية المؤدية إلى مقاصده في زمنه صلى الله عليه وسلم ، وليس لأنه متعبد بخصوصها كما هو متعبد بالعبادات التوقيفية .
ماذا يترتب على القول بأن وسائل الدعوة توقيفية :(/7)
والقول بأن وسائل الدعوة توقيفية يترتب عليه إلغاء أي وسيلة لم تكم على عهد صلى الله عليه وسلم ، وإن كانت مباحة في شريعته وإن أدت إلى تحصيل مصلحة شرعية توافق سنته ودينه .
وفي هذا العالم المعقد المتطور تطورا سريعا، حيث يقف الدعة وأمامهم معركة متشابكة الأطراف متداخلة الأهداف ، في عالم قامت فيه أحدث المؤسسات الثقافية والاتصالاتية والإعلامية والسياسية والتجارية والتكنولوجيا المتطورة .
كيف ينتصرون في معركتهم مع أعداء الإسلام ؟ بل كيف يبقون في ميدان الصراع مع عدم الأخذ بالوسائل والأسباب الحديثة التي يكافئون أو يقاربون بها أعداؤهم إذا لم تدل الشريعة على تحريمها .
بعض صور الوسائل الحديثة :
وفي مجال العمل الدعوى المنظم ، يحتاج الدعاة –في كثير من البلاد إلى عمل منظم جماعي حركي ذو آلية متطورة – يتخذ فيه القرار بناء على معلومات دقيقة عن المجربات اليومية المتلاحقة فحسابات فمعرفة بالبدائل فدرجة مخاطرة ثم ينتج القرار الذي يكون مصيريا في كثير من الأحيان يحتاج فيه إلى معلومات تجمعها لجان متخصصة متابعة للأحداث وذلك كله لا يتم على الوجه المطلوب إلا باستعمال وسائل الإدارة الحديثة ونظرياتها .
ويحتاج فيه إلى منهجية دقيقة للاتصال الداخلي وتقويم للعلم الحركي مستمر، وماخ تنظيمي سليم وتخطيط ومتابعة وتطوير ، حتى لو لم يكن كل ذلك سريا ، بل علني تسمح به الدولة.
فهذا ما يتعلق بنظام الدعوة الداخلي .
أما في المجال الخارجي عن جسمها ، فإنا – مثلا –قد تواجه نظاما جديدا تعيش فيه ، تضطر إلى سلوك أساليب معينة للمحافظة على الدعوة قد لا تناسب بيئة أخرى .
ومن ذلك أنه قد يكون ( ولي الأمر ) هذا الإسم الشرعي ، هو في الواقع عبارة عن مؤسسات مترابطة ، وشبكة من الإدارات السياسية تؤثر في درجة وجودها وقوتها وبقائها عوامل خارجية سياسية ، وقوة اقتصادية ، وثقل عائلي أو طبقي .
وقد تكفل هذه المؤسسات بطبيعتها ، أساليب مسموح بها للضغط على الحاكم ، لأن الحكومة تعتبر طرفا في هذه المؤسسات لا أكثر، ونكاما لنزع الثقة من الحكومة أو من وزير من وزارئها .
ويضمن أن لا يصيب الداعين إلى ذلك ضرر ما يسمى بالحصانة البرلمانية .
فكيف تتعامل الدعوة مع هذا الوضع وهل تفهم النصوص الشرعية في ولاة الأمر بأن تضعها في غير موضعها كما في هذا المثال .
وهل تبقى الدعوة بعيدا عن التأثير في الأحداث وكسب المواقف لصالح أهدافها من خلال الظروف الجديدة التي تكتسح العالم هذه الأيام بما يسمى ( بالديمقراطية ).
أم يجوز أن تسلك هذه الوسائل ، مما يحتاج من الدعاة إلى فهم ووعي لأساليب ( العمل السياسي ) في الدولة وكيفية التعامل مع كل طرف منها ، وكيف تناور لتكسب ، أو تخسر شيئا لتكسب شيئين ، وكيف تحافظ على التوازن بين الضوابط الشرعية والمواقف التي يضطرها إليها دخولها المعترك السايسي لتحافظ على نفسها ؟
مما يجعلها محتاجة إلى منظومة من الإدارات السريعة الحركة والحكيمة والمترابطة ونظاما للمعلومات وانسيابا في الخطوات المرحلية يتناسب مع سرعة التغيرات في الساحة ؟
وقد يحتاج إلى قدر من السرية ، لأنها في معترك سياسي تتنافس فيه الأحزاب على ضرب بعضها بعضا وتستفيد من المعلومات الداخلية لكل حزب بشكل مؤثر وخطير .
توسيع دائرة وسائل الدعوة ضرورة لتغيير واقع المسلمين في بعض البلاد :
ومما يستعمله الدعاة في بعض البلاد –هذه الأيام ويمكن بواسطته تغيير كثير من واقع المسلمين إلى الأفضل ، ولوج الاتحادات الطالبية ، ونقابات العمال والمعلمين ونحو ذلك ، والمجالس النيابية أو غيرها مما يحتاج في القيام بأعبائه إلى عمل دؤوب ولجان متخصصة ، وهي وسائل لم تكن على عهده صلى الله عليه وسلم ، ولو تركت بهذه الحجة بناء على أن وسائل الدعوة متوقفة على نصوص خاصة لأنها توقيفية ، لأدى ذلك – في بعض البلاد –إلى استغلال أهل الفساد وأعداء الدين وأصحاب المذاهب العلمانية لها لاجتيال شعائر الدين في المجتمعات الإسلامية وما أحرصهم على ذلك .
يجوز استعمال الوسائل المحرمة أحيانا :
بل إنه يجوز على الصحيح استعال وسائل تقترن بمحرم في الأصل إذا دخل ذلك في قاعدة ( ارتكاب أخف الضررين ) وقد جاء في الشريعة ما هو أصل لذلك ، وهو إباحة الكذب في الإصلاح بين الناس ، لأن مفسدة فساد البين أعظم من مفسدة الكذب ، ولا يعني هذا استعمال الكذب في مصلحة الدعوة ، فإنه ليس من مصلحة الدعوة في شيء ، بل أعظم مصلحة للدعوة إنما تكون في الصدق ، والصدق يجب أن يكون شعارها ، والدعاة أولى الناس بأن يكونوا أصدق الناس فإن الكذب من شعب النفاق .
وإنما المقصود إعمال هذه القاعدة الشرعية في مواضعها إذا تحققت شروطها ، وأ، هذا يجوز – أيضا – في وسائل الدعوة بحسب الضوابط اشرعية.
خلاصة البحث :(/8)
وبهذا يتبين – إن شاء الله – أن وسائل الدعوة الأصل فيها أنه يجوز استعمال المباح منها ولا يتوقف ذلك على نص خاص يدل على مشروعية استعمالها بخصوصها ، وأن القول بأنها توقيفية بعيد عن قواعد الفقه وأصول الاستدلال الصحيح بأدلة الشرع والله أعلم .
فتوى للشيخ العلامة محمد الصالح العثيمين :
ومما قاله العلامة الفقيه محمد الصالح العثيمين رحمه الله : ( والواسائل ليس لها حد شرعي ، فكل ما أدى إلى المقصود فهو مقصود ، ما لم بكن منهيا عنه بعينه ، فإن كان منهيا عنه بعينه فلا نقربه ، فلو نقربه ، فلو قال : أنا أريد أن أدعو شخصا بالغناء والموسيقى لأنه يطرب لها ويستأنس بها وربما يكون هذا جذبا له فأدعوه بالموسيقى والغناء هل نبيح له ذلك ؟ لا ، لا يجوز أبدا ، لكن إذا كانت وسيلة لم ينه عنها ولها أثرفهذه لا بأس بها ، فالوسائل غير المقاصد وليس من اللازم أن ينص الشرع على كل وسيلة بعينها يقول هذه جائزة وهذه غير جائزة ، لأن الوسائل لا حصرلها ، ولا حدلها ، فكل ماكان وسيلة لخير فهو خير )، لقاء الباب المفتوح رقم 15 ص 49 .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .(/9)
وسائل العلمانية في تحريف الدين في نفوس المسلمين وتزييفه
رئيسي :فرق ومذاهب وأديان :
يتناول الدرس وسائل هذا المذهب وهذه الشجرة الخبيثة العلمانية في تحريف وتمميع الدين في ديار المسلمين، والشبهات التي يعتمدون عليها ويثيرونها، ثم ذكر واجب المسلمين تجاه هذه العلمانية ووسائلها .
1- إغراء بعض ذوي النفوس الضعيفة والإيمان المزعزع بمغريات الدنيا من المال والمناصب , أو النساء : لكي يرددوا دعاوى العلمانية على مسامع الناس، لكنه قبل ذلك يُقام لهؤلاء الأشخاص دعاية مكثفة في وسائل الإعلام التي يسيطر عليها العلمانيون؛ لكي يظهروهم في ثوب العلماء، والمفكرين، وأصحاب الخبرات الواسعة، حتى يكون كلامهم مقبولاً لدى قطاع كبير من الناس، وبذلك يتمكنون من التلبيس على كثير من الناس .
2- القيام بتربية بعض الناس في محاضن العلمانية في البلاد الغربية، وإعطائهم ألقابًا علمية: مثل الدكتوراه، أو الأستاذية، ثم رجوعهم بعد ذلك ليكونوا أساتذة في الجامعات؛ ليمارسوا تحريف الدين وتزييفه في نفوس الطبقة المثقفة على أوسع نطاق، وإذا علمنا أن الطبقة المثقفة من خريجي الجامعات والمعاهد العلمية، هم في الغالبية الذين بيدهم أزِمَّة الأمور في بلادهم؛ علمنا مدى الفساد الذي يحدث من جراء وجود هؤلاء العلمانيين في المعاهد العلمية والجامعات .
3- تجزيء الدين والإكثار من الكلام والحديث والكتابة عن بعض القضايا الفرعية، وإشغال الناس بذلك : والدخول في معارك وهمية حول هذه القضايا مع العلماء، وطلاب العلم، والدعاة؛ لإشغالهم، وصرفهم عن القيام بدورهم في التوجيه، والتصدي لما هو أهم وأخطر من ذلك بكثير .
4- تصوير العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله - في كثير من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية - على أنهم طبقة منحرفة خلقيًا: وأنهم طلاب دنيا من مال، ومناصب، ونساء حتى لا يستمع الناس إليهم، ولا يثقوا في كلامهم، وبذلك تخلو الساحة للعلمانيين في بث دعواهم .
5- الحديث بكثرة عن المسائل الخلافية، واختلاف العلماء وتضخيم ذلك الأمر: حتى يخيل للناس أن الدين كله اختلافات، وأنه لا اتفاق على شيء حتى بين العلماء بالدين، مما يوقع في النفس أن الدين لا شيء فيه يقيني مجزوم به، وإلا لما وقع هذا الخلاف، والعلمانيون كثيرًا ما يركزون على هذا الجانب، ويضخمونه؛ لإحداث ذلك الأثر في نفوس المسلمين، مما يعني انصراف الناس عن الدين .
6- إنشاء المدارس والجامعات والمراكز الثقافية الأجنبية، والتي تكون خاضعة - في حقيقة الأمر - لإشراف الدول العلمانية التي أنشأت هذه المؤسسات في ديار المسلمين : حيث تعمل جاهدة على توهين صلة المسلم بدينه إلى أقصى حدٍّ ممكن، في نفس الوقت الذي تقوم فيه بنشر الفكر العلماني على أوسع نطاق، وخاصة في الدراسات الاجتماعية، والفلسفية، والنفسية .
7- الاتكاء على بعض القواعد الشرعية والمنضبطة بقواعد وضوابط الشريعة، الاتكاء عليها بقوة في غير محلها وبغير مراعاة هذه الضوابط: ومن خلال هذا الاتكاء الضال والمنحرف يحاولون ترويج كل قضايا الفكر العلماني، أو جُلها . فمن ذلك مثلاً:
قاعدة:' المصالح المرسلة ': يفهمونها على غير حقيقتها، ويطبقونها في غير موضعها، ويجعلونها حجة في رفض كل ما لا يحبون من شرائع الإسلام، وإثبات كل ما يرغبون من الأمور التي تقوي العلمانية وترسخ دعائمها في بلاد المسلمين .
وقاعدة:' ارتكاب أخف الضررين واحتمال أدنى المفسدتين ' .
وقاعدة:'الضرورات تبيح المحظورات'.
وقاعدة:'ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح'.
وقاعدة:'اختلاف الفتوى باختلاف الأحوال'.
يتخذون من هذه القواعد وأشباهها تُكأة في تذويب الإسلام في النحل والملل الأخرى، وتمييعه في نفوس المسلمين .
كما يتخذون هذه القواعد أيضًا منطلقًا لنقل كل النظم الاقتصادية، والسياسية السائدة في عالم الكفار إلى بلاد المسلمين، من غير أن يتفطن أكثر الناس إلى حقيقة هذه الأمور .
وفي تصوري أن هذا المسلك من أخطر المسالك، وأشدها ضررًا لما فيه من شبهة وتلبيس على الناس أن هذه الأمور إنما هي مرتكزة على قواعد شرعية معترف بها. ونحب أن نؤكد هنا أن اعتمادهم على هذه القواعد، أو غيرها ليس لإيمانهم بها، وليس لإيمانهم بعموم وشمول وكمال الدين الذي انبثقت منه هذه القواعد، وإنما هي عندهم أداة يتوصلون بها إلى تحقيق غاياتهم الضالة المنحرفة .
واجب المسلمين
في ظل هذه الأوضاع بالغة السوء التي يعيشها المسلمون، فإن على المسلمين واجبًا كبيرًا وعظيمًا ألا وهو:
العمل على تغيير هذا الواقع الأليم الذي يكاد يحرف الأمة كلها بعيدًا عن الإسلام .
والمسلمون جميعهم اليوم مطالبون ببذل كل الجهد: من الوقت والمال والنفس والولد لتحقيق ذلك، وإن كان العلماء، وطلاب العلم، والدعاة إلى الله، وأصحاب القوة والشوكة عليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم؛ لأنهم في الحقيقة هم القادة، وغيرهم من الناس تبع لهم .(/1)
ولا خروج للمسلمين من هذا الواقع الأليم إلا بالعلم والعمل: فالعلم الذي لا يتبعه عمل لا يغير من الواقع شيئًا، والعمل على غير علم وبصيرة يُفسد أكثر مما يُصلح . ولا أقصد بالعلم العلم ببعض القضايا الفقهية الفرعية، ولا ببعض الآداب ومحاسن العادات، كما يحرص كثير من الناس على مثل هذه الأمور، ويضعونها في مرتبة أكبر من مرتبتها في ميزان الإسلام، ولكني أقصد بالعلم: العلم الذي يورث إيمانًا صحيحًا صادقًا في القلب، مؤثرًا حب الله ورسوله ودينه على كل ما سوى ذلك، وباعثًا على العمل لدين الله، والتمكين له في الأرض وإن كلفه ذلك ما كلفه من بذل النفس والنفيس، ولن يتأتى ذلك إلا بالعلم الصحيح بحقيقة دين الإسلام، واليقين الكامل التام الشامل بحقيقة التوحيد أساس البنيان في دين الإسلام.
ثم لابد مع ذلك من العلم بالمخاطر التي تتهدد الأمة الإسلامية، والأعداء الذين يتربصون بها والدعوات الباطلة والهدامة التي يُروَّج لها، وما يتبع ذلك من تحقيق البراءة من أعداء الدين، وتحقيق الولاية للمؤمنين الصادقين .
وإذا كان من الواجب على المسلمين طلب العلم، والدأب في تحصيله، وسؤال أهل الذكر؛ ليكون المرء على بصيرة كاملة ووعي صحيح، فإن من الواجب على أصحاب القلم - من الكُتَّاب والناشرين - العمل على الإكثار من نشر الكتاب الإسلامي الذي يربط المسلمين بالإسلام كله، والذي يُعطي كل شرعة من شرائع الإسلام، وكل حكم من أحكامه قدره ومنزلته في ميزان الإسلام، بحيث لا يزيد به عن قدره، ولا ينزل به عن مرتبته، ولا يضخم جانبًا على حساب جوانب أخرى متعددة، وفي هذا الصدد فإن الكُتَّاب والناشرين مدعُوُّون بقوة إلى الالتزام بذلك، وخاصة في تلك الظروف العصيبة الحرجة التي تمر بها الأمة الإسلامية، فلا يليق بهم ولا ينبغي لهم أن يُجَاروا رغبات العوام وغيرهم في الإكثار والتركيز على جانب معين من جوانب الدين مع إهمال جوانب أخرى هي في ميزان الإسلام أجلّ قدرًا وأخطر شأنًا .
ونحن في هذا الصدد لا نريد أن نقع فيما وقع فيه غيرنا فندعو إلى إهمال الجانب الأقل في ميزان الإسلام لحساب الجانب الأكبر، ولكنا ندعو إلى التوازن بحيث تكون الكتابات في الجوانب المختلفة متوازنة مع مرتبتها وثقلها في ميزان الإسلام، فلا يُقبل أن تكون المكتبة الإسلامية مملوءة بالكتابات المختلفة المتنوعة عن الجن، والسحر، والشعوذة، والورع، والزهد، والأذكار، وفضائل الأعمال، وفروع الفروع الفقهية، وأشباه ذلك، بينما نجد المكتبة تكاد تكون خاوية من الكتاب الميسر الصالح للتناول لتناول العام في مجالات بالغة الأهمية، مثل:
أحكام الفقه السياسي في الإسلام: أو بالتعبير القديم:'الأحكام السلطانية' .
ومناقشة النحل الكثيرة التي بدأت تنتشر في عالم المسلمين: كالعلمانية، والديمقراطية، والقومية، والاشتراكية، والأحزاب ذات العقائد الكفرية: كحزب البعث، والأحزاب القومية، وغير ذلك .
والكتابات التي تتحدث عن الجهاد، لا أقصد الجهاد بمعنى فرضيته ودوامه إلى قيام الساعة، ولكن أقصد إلى جانب ذلك: الكلام عن جهاد المرتدين اليوم في عالم الحكام، وأصحاب السلطان الذين تبنوا المذاهب الاشتراكية، والعلمانية، والقومية، والديمقراطية، وغير ذلك، ودعوا إليها، وألزموا الناس بها .
والحديث عن كيفية العمل لإعادة الخلافة الضائعة.
إلى غير ذلك من المواضيع ذات الأهمية البالغة في حياة المسلمين، وإذا نظر الإنسان إلى ما كُتب في هذه المواضيع، وما كُتب في المواضيع الأخرى؛ لهاله التباين الشديد في هذا الأمر، وإذا نظر أيضًا إلى كمية المباع من ذاك ومن هذا؛ لهاله الأمر أكثر وأكثر .
قد يقول الكتاب والناشرون : إن الناس لديهم عزوف عن قراءة هذه المواضيع. لكن منذ متى كان لصاحب الرسالة التي يريد لها الذيوع والانتشار أن يطاوع الأهواء والرغبات، وإذا كان حقًّا ما يُقال عن هذا العزوف، فأنتم مشتركون بنصيب وافر في ذلك؛ لأنكم طاوعتموهم على ذلك، ولم تبصروهم بأهمية التوازن، وعدم تضخيم جانب، وإهمال جوانب أخرى؛ لأن هذا الأمر سيؤدي بالناس في النهاية إلى حصر الإسلام وتضييق نطاقه في إطار عبادة من العبادات، أو أدب من الآداب، أو عادة من العادات، بل قد انحصر الإسلام فعلاً عند كثير من الناس في أداء الصلاة، وصيام رمضان، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في مجموعة من الأذكار، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في حسن الخلق، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في هيئة، أو زي، أو لباس، وبعضهم انحصر الإسلام عنده في العلم ببعض فروع الفقه، أو العلم ببعض قضايا مصطلح الحديث... وهكذا .(/2)
فإذا خاطبت الكثير منهم عن عموم الإسلام وشموله، وحدثتهم عن بعض القضايا الهامة والملحة والمنبثقة من توحيد الله، والإيمان باليوم الآخر مثل الحديث عن الحكم بما أنزل الله، والالتزام بشرعه، ووجوب السعي لإقامة دولة الإسلام وإعادة الخلافة، وبيان بطلان المذاهب الكفرية كالعلمانية، والديمقراطية، وغير ذلك، ظنوك تتحدث عن دين غير دين الإسلام، وقالوا: هذا اشتغال بالسياسة، ولا يجوز إدخال الدين في السياسة .
ومثل هؤلاء لو تأكد عليهم الكلام في مثل هذه القضايا في خطب الجمعة، وفي دروس وحلقات العلم في المساجد، وفي الكتابات الميسرة التي يمكنهم قراءتها وفهمها بيسر؛ لم يصدر عنهم مثل هذا الكلام الضال المنحرف .
وفي إطار الحديث عن العلم ونشره فإن فئة المعلمين من المدرسين والأساتذة من أدنى مراحل التعليم إلى أعلاها عليهم واجب من أهم الواجبات العامة في حقهم وآكدها وهذا الواجب يتمثل في :
العمل على أسلمة المناهج: بحيث تصب كل المناهج العلمية في إطار خدمة الإسلام، وبحيث لا يكون الهدف العلمي البحت، هو الهدف الوحيد من تدريس هذا العلم، ونظرًا لأن ديننا من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن المكتشفات العلمية هي من خلق الله فلا تعارض إذن ولا تناقض بين العلم والدين، وبالتالي فإن كثيرًا من الحقائق العلمية يمكن استخدامها كأدلة في مجال الإيمان، وكثير من القوانين العلمية يمكن استخدامها كردود أو إبطال لنظريات إلحادية من وجهة نظر العلم التجريبي الذي يؤمن به الملحدون ولا يعولون على غيره، وعلى ذلك فإن المناهج العلمية الموضوعة للتلاميذ والطلاب لابد أن يراعى فيها ذلك، ولابد من توضيح ذلك الأمر بأوضح بيان، ولا يكفي فيه الإشارة والتلميح، وهذا الأمر واجب أكيد في حق أولئك الذين يضعون هذه المناهج ويقررون تدريسها .
تنقية المواد العلمية من الكفريات والضلالات المدسوسة بها: فقد يحدث أن يضع هذه المواد ومناهجها أناس غرباء على الدين، فالواجب على المدرس المسلم ألا يقوم بتدريس المادة العلمية كما هي، بل لا يحق له ذلك، وينبغي عليه كشف هذه الضلالات للطلاب وتحذيرهم منها، وبيان الصواب فيها، فلا يكتفي المعلم بدوره كمعلم للمادة فقط، بل يربط هذه العلوم بالإسلام وينقيها مما فيها من الشوائب، ويكون في الوقت نفسه داعية وواعظًا ومرشدًا، إلى جانب كونه معلمًا ومثقفًا .
أن ينتهز المعلم الفرصة كلما سنحت له لتوضيح مفهوم من مفاهيم الإسلام، أو لتثبيت عقيدة من العقائد، أو لبيان قضية من قضايا المسلمين، أو لتعليم أدب من آداب الإسلام، وهكذا .
وكل هذه الأمور يستتبع بالضرورة تحقيقها أن يرتفع المعلمون بمستواهم العلمي والشرعي في كثير من الأمور حتى يكونوا أكفاء لهذه المهمة النبيلة التي شرفهم الله بحملها .
الخاتمة
وفي الختام نأتي إلى العمل بعد العلم: أين العمل الذي يعود نفعه وخيره على الأمة الإسلامية بالإضافة إلى شخص العامل ؟ إنه مما يجب علينا:
أن نعتقد الحق، ونعمل به في خاصة أنفسنا، ومن نعول.
ثم لا نكتفي بذلك حتى ندعو غيرنا، ونبصرهم بحقيقة هذا الدين، وبتكالب الأعداء علينا من داخلنا وخارجنا، وبحجم المأساة التي تعيشها الأمة الإسلامية، ولا يصدنا عن القيام بهذا الدور ما نلقى من عنت ومشقة، ومن صدود من جانب الناس، ومن تضييق وحرب من جانب الحكام أذناب العلمانية وعملائها .
لابد من العمل بهذا الدين ولهذا الدين.
ولابد من جمع الناس على ما يحبه الله ورسوله من الاعتقادات، والأقوال، والأفعال.
ولابد من تحمل التبعات في سبيل ذلك.
ولابد من الجهاد في سبيل الله، وإعلان الحرب على كل محارب لله ورسوله حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله . ولا أحسب أني بذلك قد تحدثت عن واجب المسلمين كما ينبغي، ولكن يكفي أن تكون تذكرة لنا جميعًا، لعل الله ينفعنا بها .. اللهم آمين .
من رسالة:'العلمانية وثمارها الخبيثة' للشيخ/ محمد شاكر الشريف(/3)
وسائل تؤدي إلى الاتفاق ووحدة الصف
د. علي محمد علوان*
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد.
مقدمة
إن الإسلام منهج ذو خصائص متميزة من ناحية التصور الاعتقادي، ومن ناحية الشريعة المنظمة لارتباطات الحياة كلها، ومن ناحية القواعد الأخلاقية التي تقوم عليها هذه الارتباطات، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وهو منهج جاء لقيادة البشرية كلها، فلا بد أن تكون هنالك جماعة من الناس تحمل هذا المنهج لتقود به البشرية، وقيام هذه الجماعة ضرورة من ضرورات المنهج الإلهي؛ فهي الوسط الذي يتنفس فيه هذا المنهج ويتحقق في صورته الواقعية. هذا الوسط يتمثل في الجماعة المسلمة القائمة على ركيزتي الإيمان والأخوة، الإيمان بالله كي يتوحد تصورها للوجود والحياة، والقيم، والأعمال، والأحداث والأشياء والأشخاص، وترجع إلى ميزان واحد تقوم به كل ما يعرض لها في الحياة، وتتحاكم إلى شريعة واحدة من عند الله تعالى، وتتجه بولائها كله إلى القيادة القائمة على تحقيق منهج الله في الأرض، والأخوة في الله، كي يقوم كيانها على الحب والتكافل والتعاون.
توطئة
قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)([1]).
امتن الله تعالى على الجماعة الإسلامية الأولى بهذه النعمة: نعمة الأخوة المعتصمة بحبل الله تعالى، وما كان إلا حبل الله تعالى الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخواناً؛ فهي أخوة تنبثق من التقوى، وهي الركيزة الأولى، وعلى الأخوة في الله اعتصاماً بكتاب الله تعالى، هي الركيزة الثانية. وبلغت تلك الجماعة في ذلك مبلغاً، لولا أنه وقع لعُدَّ من أحلام الحالمين، وقصة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قصة من عالم الحقيقة، وهي قصة وقعت في هذه الأرض، ولكنها في طبيعتها من عالم الخلد والجنان([2])، وعلى ذات النهج يجب أن يرفع النداء عالياً لوحدة الصف، واتحاد الكلمة، وقيام الأخوة في الله تعالى.
وحدة الصف والتضامن الإسلامي فريضة دينية وضرورة إنسانية
إن الدعوة إلى الاتفاق ووحدة الصف لا تأتي تلبية للحاجة الملحة وللظروف المحيطة بالأمة الإسلامية فقط، وإنما هي استجابة لأمر إلهي، وتحقيق لمطلب ديني، قال الله تعالى: (وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم)([3])، وقال تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(2).
هذه الآيات وأمثالها تحدد طبيعة المجتمع المسلم، والقاعدة التي يقوم عليها وينطلق منها، والعلاقات التي تسود بين أفراده، إنها ليست علاقة الدم، ولا علاقة الأرض، ولا علاقة الجنس والتاريخ واللغة والقرابة، وليست هي الوطنية والقومية والمصالح الاقتصادية، إنما هي علاقة الولاء القائمة على العقيدة، وعلاقة القيادة الربانية والتنظيم الحركي الذي ألف بين قلوب أعضائه وأفراده.
قيام هذا المجتمع الإسلامي الحركي، الذي ألف الله تعالي بين قلوب أفراده، ضرورة لازمة في مواجهة التجمع الجاهلي ــ تجمع الكافرين والمشركين ــ، فالتجمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد، إنما يتحرك ككائن عضوي، يتدافع أعضاؤه بطبيعة وجوده وتكوينه للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه، فهم أولياء بعض طبعاً وحكماً. ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة تجمع آخر له خصائصه وذاتيته، فإذا لم يواجههم الإسلام بتجمع ولاؤه بعضه لبعض، وصفه متحد، وأخوته قائمة، فستقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام، ويقع الفساد في الأرض، ويقع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى وهو أفسد الفساد([4]).
فوحدة الصف المسلم لازم من لوازم عقيدة التوحيد، ودعامة من دعائمها لإيجاد الأمة المسلمة في مواجهة الملل الكافرة، قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)([5])، ووجود هذه الأمة وإخراجها لا يكون إلا بالأخوة الصادقة، وحدة الصف المخلص مهمة وضرورية أكثر من أي وقت مضى؛ حيث يترتب على وجودها فوائد ومنافع هي:(/1)
أولاً: تجسيد الإيمان في تجمع حركي، يقوم على إمرة العقيدة دون أوامر الجنس، واللون، واللغة، والأرض، والمصالح القريبة، والحدود الإقليمية الشخصية! الأمر الذي يحيل سلوكها وقيمها إلى حضارة إسلامية متميزة لها فكرها، وثقافاتها ونظمها الاجتماعية وتطبيقاتها في ميادين السلوك والقيم الممتدة عبر الزمان والمكان.
الفائدة الثانية: هي الاستقرار السياسي والاجتماعي في مقابل الاضطراب والفوضى الإباحية التي صنعتها الصليبية واليهودية وملة الكفر قديماً وحديثاً، وكل من الاستقرار السياسي والاجتماعي مشار إليهما تلميحاً، والله أعلم، في قوله تعالى: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرةُ ورزقُ كريم)([6]).
فالمغفرة في أبسط معانيها هي العفو من العقوبة، وعقوبات الأمم في القرآن، في الدنيا هي بث الاضطراب، وإشاعة الفتنة والحروب الداخلية، والتمزق في الداخل، وتسليط الغزاة من الخارج، قال تعالى:(قل هو القادر أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لقوم يفقهون)([7]).
الفائدة الثالثة: هي الازدهار الاقتصادي المصحوب بالتماسك الاجتماعي والعلاقات الكريمة بين مختلف أفراد الأمة الإسلامية، والمحافظة على كرامة الأمة وعلى قيمها وأخلاقها في الداخل، وسمعتها والحضارية والتاريخية في الخارج.
فالأمة المسلمة رزقها (رزق كريم)، يحفظ كرامات الرجال والنساء، فلا تضطرهم لقمة العيش إلى التنازل عن حرياتهم وعقيدتهم وحرماتهم وأعراضهم، ولا إلى تجارة الفواحش والمنكر.
ووجود هذه الأمة ذات الصف المتحد، والأفكار المتوافقة ــ ووجود هذه الأمة المسلمة مهم جداً لسكان الكرة الأرضية لأنه في غياب هذه الأمة سوف يجتمع الكافرون ــ وقد اجتمعوا فعلاً لإخراج أمة الكفر التي يوالي بعضها بعضاً كما قال تعالى:(والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)([8])، وعندئذ سوف تتولى (أمة الكفر) القيادة في الأرض، وتهيمن على مقاليد التوجيه والثقافة والإعلام والاجتماع، وكل ما يتعلق بشؤون الحرب والسلم، وانتقال القيادة العالمية إلى أمة الكافرين سوف يؤدي إلى استغلال المقدرات البشرية استغلالاً خاطئاً، وتوجيه النشاطات توجيهاً سيئاً، ثم يكون من نتائج ذلك الخطأ والسوء أن تمتلئ الأرض جوراً وفتناً وفساداً كبيراً، فتن في ميادين الصراعات والحروب الإقليمية أو العالمية أو الداخلية، وفساد كبير تمثله الانهيارات الأخلاقية وشيوع التحلل والإباحية وانتشار الفلسفات الهدامة.
وعليه لابد من وحدة الصف، واتفاق الكلمة لهداية البشرية التائهة في بيداء النظام العالمي اليهودي، ودعوتها إلى الخير، وقيامها بأمر العبادة وعمارة الأرض تنفيذاً لأوامر الله تعالى في هذا الشأن.
الوسائل الذاتية لوحدة الصف والاتفاق
أولاً: وحدة العقيدة:
العقيدة مأخوذة من العقد، والعقد هو الجمع بين أطراف الشيء، ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل، وعقد البناء، وتوسع استعمال العقد فاستعمل في المعاني كعقد البيع وعقد النكاح. والعقيدة الدينية هي ما يجب على المسلم الإيمان به، فكأن المؤمن المعتقد قد جمع أطراف قلبه وعقدها على ما صدق به([9]).
يقول سيد قطب: "والقاعدة التي يقوم عليها الإسلام على مدار التاريخ البشري هي قاعدة (شهادة أن لا إله إلا الله) أي إفراد الله سبحانه وتعالى بالألوهية، والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية، إفراده بها اعتقاداً في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة. ومن ثم لم يكن بد أن تشتمل القاعدة للإسلام (أي العقيدة) في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى. وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده، وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته.
وبعد فإن الإسلام يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج، ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي، ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة لا آصرة النسب ولا الجنس ولا اللغة ولا الأرض ولا اللون ولا المصالح ولا المصير المشترك، فهذه أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان، وهي أشبه شيء وأقرب إلى أوامر القطيع! وإلى اهتمامات القطيع!
لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي على هذه القاعدة: العربي والفارسي، والشامي والمصري، والمغربي والصيني، والتركي والهندي، والروماني والإغريقي، والأندونيسي والإفريقي... إلى آخر الأقوام والأجناس، لقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة وبأمر الحب، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة"([10]).
لقد كانت العقيدة الإسلامية إيذانا بمولد مجتمع جديد يخالف المجتمعات الجاهلية السابقة التي جعلت أساس مجتمعاتها الجنس أو القبيلة أو الإقليم أو اللغة.(/2)
فالعقيدة ضرورة لا غنى عنها للفرد والجماعة، ضرورة للفرد ليسعد وليطمئن، وتطهر نفسه ويتحرر من الخوف إلا من الله، ومن الرجاء إلا في الله، ومن التوكل إلا على الله، ومن التضرع واللجوء إلا إلى الله تعالى، وضرورة للمجتمع ليستقر ويتآخى، ويتعاون ويتماسك، ويتناصر وينهض. والعقيدة الإسلامية تربط بين قلوب معتنقيها برباط المحبة والإخاء والتراحم، ذلك الرباط الذي لا يساويه رباط الجنس أو اللغة أو الوطن أو القوم([11]).
وقد اتسمت العقيدة الإسلامية بالوضوح والشمول. ويتبين وضوحها وشمولها في الآتي:
أولاً: هي عقيدة لا تقبل التجزئة والتقسيم، بل هي عقيدة التوحيد، كلُّ يجب الإيمان به؛ فمن آمن ببعض وكفر ببعض فهو كافر. قال تعالى:(أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون)([12]).
ثانياً: إزالة الفوارق والطبقية من المجتمع الإسلامي وتثبيت مبدأ المساواة:
لقد قام المجتمع الإسلامي الأول على قدم المساواة بآصرة الأخوة والصف الصادق، آصرة تتعلق بربهم الواحد، وتبرز فيها إنسانيتهم وحدها بلا عائق، وهذا ما لم يحصل قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ. لقد توطد في شعورهم المبدأ السامي: أن الناس أمة واحدة، كلهم لآدم، وآدم من تراب. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في تقرير هذا المبدأ في خطبة حجة الوداع: ((يأيها الناس ألا إن ربكم واحد، ألا وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ألا لا فضل لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا قد بلغت؟ قالوا: نعم قال: ليبلغ الشاهد الغائب))([13])، بل إن اختلاف الألوان والأجناس واللغات آيات ناطقة ودالة على قدرة الله الخالق، قال تعالى:(ومن آياته أن خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)([14]).
ثالثاً: عقيدة حاربت العصبيات وجعلتها من دعوة الجاهلية:
لقد وقف الإسلام من أول يوم في وجه العصبيات وشن عليها حرباً لا هوادة فيها، وجعلت العقيدة الأخوة في الله والدين ركناً ثابتاً يجب الإيمان به وليس أمراً ثانوياً.
قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من مات على عصبية)).
وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم العصبية بالجيفة المنتنة؛ فقال لمن سمعه يذكرها وينادي بها: ((ما بال دعوى الجاهلية، دعوا هذه الكلمة فإنها منتنة))([15])، وجعل الإسلام التفاوت بين البشر بالتقوى، وليس باللون أو المولد أو الجنس أو النسب، قال صلى الله عليه وسلم: ((من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)).
ولقد حل محل العصبيات في المجتمع المسلم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)).
فنصرة الظالم بمنعه عن ظلمه، ونصرة المظلوم بمساعدته للوصول إلى حقه، قال تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).
ثانياً: عقد الأخوة في الله تعالى:
الأخوة في الله تعالى عقد واجب الوفاء به. ولقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقد الأخوة هذا فقال: "إن الحقوق التي ينشئها إذا كانت من جنس ما أقره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، والتي تجب للمؤمن على المؤمن، فإنما هي حقوق واجبة بمقتضى الإيمان، والتزامها بمنزلة الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله"([16]).
ولهذه الأخوة حقوق منها:
(1) تعزيز حب المسلم لأخيه المسلم خالصاً لوجه الله تعالى، هذه العقيدة تهتف بالبشرية بنداء الحب في الله، إنها حين تخالط القلوب تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب، التي تلين قاسيها، وترقق حواشيها، وتندي جفافها، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق، فإذا نظرة العين، ولمسة اليد، ونطق الجارحة، وخفق القلب ترانيم من التعارف والتعاطف، والولاء والتناصر، والسماحة والهوادة لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب، ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بين قلوبهم)([17]) يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكان من الله تعالى، قالوا يا رسول الله تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس))([18])، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ثلاثُ من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار))([19]).(/3)
وتأكيداً لمعنى الحب في الله ــ الذي يؤكد على معنى الأخوة، والتي تجعل من الجماعة المسلمة حية صامدة قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية ــ تأكيداً لهذا المعنى جعل الإمام حسن البنا رحمه الله الأخوة الركن التاسع من أركان البيعة لدى جماعته حين قال: "أريد بالأخوة أن ترتبط القلوب والأرواح برباط العقيدة، والعقيدة أوثق الروابط وأعلاها، الأخوة أخت الإيمان، والتفرقة أخت الكفر، وأول القوة قوة الوحدة، ولا وحدة بغير حب، وأقل الحب سلامة الصدر، وأعلاه مرتبة الإيثار"([20]) (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)([21])، والأخ الصادق يرى إخوانه أولى بنفسه من نفسه؛ لأنه إن لم يكن بهم فلن يكون بغيرهم، وهم إن لم يكونوا به كانوا بغيره، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)([22])، وهكذا يجب أن تكون.
فالمسلم قوي بجماعته، عزيز بإخوانه، وقد سأل موسى عليه السلام ربه ذلك واستجاب له في قوله تعالى: (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون)([23]).
(2) ومن حقوق هذه الأخوة: أن يوالي المسلم أخاه المسلم، فقد أملت علينا عقيدتنا أن نوالي بعضنا بعضاً على قاعدة الحب في الله والتآلف، وعلى أنبل مظاهر الأخوة والتعارف؛ حتى نكون رجلاً واحداً، وقلباً واحداً، ويداً واحدة. قال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض)([24]).
لقد صنع نبينا صلى الله عليه وسلم أمة بهذا القرآن لم نجد مثيلاتها في الأمم التي سبقتها، وصنع جيلاً لم يتكرر في التاريخ البشري، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، كل ذلك على قاعدة الولاء العقدي، والتآخي النبيل، والمناظر الجليلة التي لم تعهد البشرية لها شبيهاً عبر تاريخها الطويل، وقد اعترف بذلك العمل كبار مفكري أروبا، شهد بذلك الكاتب الروسي (تولستوي) بقوله: "مما لا ريب فيه أن النبي محمداً كان من عظام الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخراً أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح إلى السكينة والسلامة وتؤثر عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية، وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة.. ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام"([25]).
وقد وصف (وليم موير) ذلك بقوله:
"امتاز محمد بوضوح كلامه ويسر دينه، وقد أتم من الأعمال ما يدهش العقول، ولم يشهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد"([26]).
(3) ومن حقوق الأخوة الموصلة إلى وحدة الصف: أن يستشعر المسلم هذا الرباط الوثيق مع من سبقه من المؤمنين، والدعاء لإخوانه والاعتراف بفضل من سبقه في العلم والعبادة والجهاد في سبيل الله تعالى: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا في الإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا)([27]).
(4) ومن هذه الحقوق أن يكرم المسلم إخوانه المسلمين، يتألم لآلامهم، ويحزن لأحزانهم، ويسر لأفراحهم، فهو معهم وبهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))([28]). بالرغم من أن العمل الإسلامي اجتمعت نحوه مجموعة من المضاعفات فتت في عضده، ونخرت في عظامه، أقلها أنه أصبح في أودية متقطعة، لكن كل هذا لا يحول دون شعور أهله وإحساسهم بآلام بعضهم وأحزانهم، وأن يسعوا في حاجات بعضهم البعض ما وسعهم إلى ذلك سبيل.
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل وسلم وجلس، فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئباً حزيناً؟ قال: نعم لفلان عليّ حق ولاء ما أقدر عليه! قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟ قال: إن أحببت، قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟ قال: لا. ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين))([29]).
وتطبيق ذلك في عصرنا يكون إما بالزيارات المتبادلة أو الرسائل المتتابعة، أو البرقيات العاجلة، أو الندوات والاجتماعات المبرمجة حتى ولو كانت من قبيل التحية والمجاملة.
ثالثاً: الإيثار:
لقد مدح الله تعالى الأنصار في أخوتهم الصادقة للمهاجرين في قوله تعالى: (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قلوبهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)([30]).(/4)
والإيثار نعني به هنا أن يقدم أصحاب العمل الإسلامي ــ الواحد منهم ــ أخاه على نفسه في كل ما يحب، فهو يسهر ويجتهد ليرتاح إخوانه ويجوع ليشبع أخوه ويظمأ ليرتوي، ويعرض صدره للرصاص ليفدي أخاه المسلم. يفوت العاملون في الحقل الإسلامي مصالحهم لإقامة مصالح إخوانهم المستضعفين في العراق وفلسطين وأفغانستان وباكستان والشيشان وفي كل مكان. وهنا يجب أن نتفق على القيام بالآتي:
(أ) تقديم حقوق الجماعة على حقوق الأفراد، ومن ثم إيثار حق الأمة على حق الفرد بما يحقق مصلحة كبرى في دفع مفسدة عظمى.
(ب) تقديم أولوية الولاء لله وللرسول وللجماعة على الولاء للون أو الجنس أو القبيلة أو الفرد.
(ج) تصويب العزائم والهمم نحو القضايا الكبيرة عالمياً وإقليميا بدلاً من الانغلاق في حدود المحلي والوطني.
(د) توطيد العلاقات بين الجماعات الإسلامية جلباً للتعاطف والتناصر مع تقوية خطوات النفوس وذوات أفراد العمل الإسلامي.
رابعاً: خفض الجناح وسلامة الصدر مع العاملين لخدمة الإسلام.
إذا كان التواضع وخفض الجناح ولين الجانب قيماً مطلوبة من أفراد المجتمع الإسلامي لمكانتها في توطيد العلاقات، ورد الخصومات وردم هوة النزاعات، فهي أوجب بين أصحاب العمل الإسلامي وأفراد الجماعات العاملة للإسلام، فإن ما يناقض ويضادّ هذه القيم مثل الكبر والخيلاء، والعجب بالرأي، والاستبداد بالفكر، تغرس الفرقة والعداوة فضلاً عن أنها تحول دون إصلاح الصف الإسلامي، والله تعالى يقول: (واخفض جناحك للمؤمنين)([31]) ويقول: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وأن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً)([32]).
من خصائص بعض العاملين في الحقل الإسلامي الاعتزاز بالذات اعتزازاً يؤدي إلى نزعة الاستعلاء على الجميع مع سوء الظن بالآخرين، يضاف إليها ضيق الأفق في فهم الدين وفهم الواقع وفهم السنن الكونية والاجتماعية، مع استعجال الأشياء قبل أوانها، كل هذا يولد جفوة منه تجاه إخوانه الآخرين، ورفضاً لأفكارهم وآرائهم، الأمر الذي يحدث خصومة بين العاملين في الحقل الإسلامي، وفراغاً يستغله الآخرون فيعملون في عقول أبناء الأمة ما لا تفعله آلاف المدافع في بلاد المسلمين، وعليه فليترك العاملون في الحقل الإسلامي صراعاتهم الفكرية جانباً، وليخفضوا الجناح لإخوانهم جميعاً، وليتصفوا بسلامة الصدور ولين الجانب، وليُعملوا فقه الاختلاف وأدبه على قاعدة التعاون في المتفق عليه، والتسامح في المختلف فيه([33]).
وليكن تركيز العاملين للإسلام على المبادئ التالية:
(1) فقه الدين فقهاً يتميز بالشمول والاتزان والعمق.
(2) فقه واقع الحياة دون تهوين ولا تهويل واقع المسلمين وواقع أعدائهم.
(3) فقه سنن الله وقوانينه التي لا تتبدل.
(4) فقه مقاصد الشريعة، وعدم الجمود على ظواهرها.
(5) فقه الأولويات وهو مرتبط بفقه الموازنات.
(6) تقديم الإسلام مشروعاً حضارياً متكاملاً لبعث الأمة وإنقاذ البشرية من الفلسفات المادية المعاصرة.
(7) اتخاذ منهج التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة.
(8) اتخاذ الجهاد سبيلاً للدفاع عن حرمات وديار المسلمين([34]).
لا بد من بذل الجهد لجمع صف العاملين لخدمة الإسلام ونصرة عقيدته وتحكيم شريعته، ولا بد من تلازم الجهد الفكري والجهد العلمي لإزالة الجفوة بين فئات العمل الإسلامي، وغرس روح التسامح وحسن الظن بين صفوفهم، وإبعاد الغرور والاستبداد بالرأي واحتقار الآخرين.
وإذا كنا لا نملك اليوم القدرة على تجميع قوى أمتنا الكبرى من المحيط إلى المحيط، فلنجتهد على الأقل في تجميع قوى الفصائل الكبرى في الصحوة الإسلامية القابلة للحوار والتفاهم، وذلك بإزالة النتوءات، وتقليص التطرفات، وتقريب المفاهيم، وتنسيق المواقف، والوقوف صفاً واحداً في القضايا المصيرية، ويتعاون الجميع في المتفق عليه، ويتسامحون في المختلف فيه، فهذا التفاهم والتعاون والتجمع فريضة دينية وضرورة حيوية([35]).
خامساً: التكافل الاجتماعي بين العاملين في الصحوة الإسلامية
والتكافل له جانبان: جانب مادي وآخر، والذي نقصد به هنا:
التكافل المعنوي بين الجماعات العاملة لخدمة الإسلام.
ويتمثل في التعاون الدعوي والإصلاح الفكري بين العاملين للإسلام لإحقاق الحق وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يتمثل بالإرشاد والتوجيه والنصح بين العاملين في الحقل الإسلامي، وقد جعل الإسلام هذا النوع من التكافل فريضة على كل مسلم، فقال الله تعالى: (ولتكن منكم امة يدعون إلى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)([36])، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم ((الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم))([37]).
يقوم هذا التكافل عملياً على الآتي:(/5)
(1) الاستفادة من ذوي الخبرات العالية والكفاءات العلمية عند بعض منسوبي العمل الإسلامي من قبل قليلي الدراية في الصف الإسلامي.
(2) تقديم النصح والإرشاد عند ظهور بوادر الخلاف بين العاملين لخدمة الإسلام.
(3) عقد الاجتماعات الدورية والمؤتمرات الفصلية لمراجعة العمل الإسلامي وتطوير أداء العاملين للإسلام وتحديد مواثيق اللقاء والاتفاق وأدب الاختلاف بين الجماعات الإسلامية.
سادساً: ضبط النفس:
ومن الوسائل التي تعين على الاتفاق، ووحدة الصف المسلم ضبط النفس عند حدوث الخلاف بين الجماعات العاملة لخدمة الإسلام، فهو يمنع العاملين للإسلام من القطيعة والجفوة، كما أن ضبط النفس دليل اكتمال العقل الإسلامي، وصفة أهل التقوى. قال تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنةٍ عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )([38]). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس الشديد بالصُّرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).
ومن فوائد ضبط النفس الآتي:
أولاً: التسامي فوق الصراعات الداخلية بين أفراد العمل الإسلامي، والابتعاد عن مواطن الخلاف، وردم الفجوات التي ينفذ من خلالها أعداء الأمة الإسلامية.
ثانياً: التنزه عن اللغو والثرثرة الجالبين لغضب الله، ومحق بركة العمل الإسلامي.
ثالثاً: تجاوز حظوظ النفس القاعدة بالعاملين لخدمة الإسلام عن مواجهة التحديات العقدية والفكرية المفروضة من قبل النظام العالمي الجديد.
رابعاً: توجيه الطاقات الفكرية والدعوية إلى البناء والتكتل ضد الهجمة الصليبية اليهودية التي تخطط لتحرير شهادة وفاة جماعة المسلمين في كل مكان.
سابعاً: إصلاح ذات البين:
لا تقل أهمية المسارعة في إصلاح ذات البين بين الجماعات العمل الإسلامي عن أهمية المسارعة إلى الصلاة وغيرها من العبادات. ولأهمية إصلاح ذات البين وفعاليتها في تقوية الروابط الأخوية، جوّز بل أوجب الإسلام استخدام القوة في المحافظة على الكيان العام للجماعة المسلمة، وإبقاءً لعلاقات المودة والإخاء. يقول الله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)([39]).
إن ديننا جعل الكلمة الطيبة صدقة، فهي توحِّد شتات الأمة، وتجمع صفهم، وترأب الصدع، وفوق ذلك فهي من الخير الذي يتقرب به إلى الله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً)([40]).
إن الإسلام أعلن براءته من المفرقين؛ لأن الفرقة قاضية على الدين والدنيا معاً، قال تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)([41])، وقال تعالى: (ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزبٍ بما لديهم فرحون)([42]).
وعملاً بما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بإصلاح ذات البين، وأهميتها في تأليف القلوب، وتوحيد الصفوف نرى الآتي:
(1) قيام الهيئة العليا لرأب الصدع من بين أعضاء المؤتمر، أو حسب ما يراه المؤتمرون العاملون في مجالات الإسلام المختلفة.
(2) صياغة دستور الوحدة الفكرية والدعوية بين جماعات العمل الإسلامي.
(3) التأكيد على الأصول الجامعة والمبادئ الأصلية التي تمثل الحد الأدنى للاتفاق بين جميع العاملين للإسلام في مجالات الحياة المتعددة.
(4) التأكيد على أهمية الشورى باعتبار أنها تمثل ركيزة من ركائز تماسك الأمة، وتعاون أفرادها بالأخص القائمين على أمر العمل الإسلامي في أقطار العالم ودوله. ففي الشورى تتلاقح الآراء وتظهر المواهب، وتسمو الأفكار، وفي القرآن الكريم سورة كاملة تعرف باسم سورة الشورى.
خاتمة
هذه بعض الوسائل التي اجتهدنا في تقريرها، بالرجوع إلى كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه سلم، وهي وسائل موضوعية، أهم ما تتناوله:
(1) التأكيد على وحدة الصف المسلم، وتقويته أمام الزحف الصليبي اليهودي.
(2) إقامة علاقات الجماعات الإسلامية على أصول جامعة, ومبادئ سامية، وقواعد متينة.
(3) معالجة أوضاع المسلمين، اليوم والتي تبرز فيها صفات الجفوة، والقطيعة، وفي بعضها الفجور في الخصومة، ومجاوزة الحد إلى حيث ردم الفجوات، وسد الثغرات التي ينفذ منها عدو الأمة الإسلامية لبث سمومه وتفريخ أجياله.
(4) تذكير الأمة والجماعات الإسلامية بالقبلة الواحدة، والعقيدة الواحدة، والعبادة الواحدة، والشريعة الواحدة، لكي تصبح الأمة كتلة واحدة، يداً واحدة، وفي وجه الزحف التتري الجديد.
(5) أي صدع في وحدة العاملين لخدمة الإسلام، وأي هزة في هذا الكيان يعتبر جريمة ما بعدها جريمة فالله تعالى يقول: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).(/6)
-----------------------------------------------
([1]) سورة آل عمران: 102 ــ 103.
([2]) سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق مصر، 1/442 ــ 445.
([3]) سورة الأنفال: 63.
([4]) سيد قطب، في ظلال القرآن: 3/1555.
([5]) سورة آل عمران: 110.
([6]) سورة الأنفال: 74.
([7]) سورة الأنعام: 65.
([8]) سورة الأنفال: 72 ــ 73.
([9]) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، أحمد بن محمد بن علي الفيومي، مادة عقد 2/525.
([10]) سيد قطب، في ظلال القرآن: 3/1556، 1557، 1562.
([11]) محمد أمين حسن، خصائص الدعوة الإسلامية، مكتبة المنار، الأردن، ط1، 1983م، ص 258.
([12]) سورة البقرة: 85.
([13]) ابن الجوزي، الوفاء بأخبار المصطفى، دار الكتب الحديثة، بيروت، ط1، 1386هـ، 2/529.
([14]) سورة الروم: 22.
([15]) سنة أبي داؤود، كتاب الأدب، باب 121 ص 342، ط 1394هـ.
([16]) الشيخ جاسم مهلهل الياسين، رسائل شباب الدعوة 1/18.
([17]) سورة الأنفال: 62 ــ 63.
([18]) سنن أبي داود.
([19]) رواه الشيخان.
([20]) مصطفى محمد الطحان، الفكر الإسلامي المعاصر، دراسة في فكر الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، مصر، ط 2002، ص 238.
([21]) سورة الحشر: 9.
([22]) سورة التوبة: 71.
([23]) سورة القصص: 34 ــ 35.
([24]) سورة التوبة: 71.
([25]) عبد الرازق نوفل،القرآن والمجتمع الحديث، ص 23.
([26]) المرجع السابق ص 29.
([27]) سورة الحشر: 10.
([28]) صحيح مسلم، دار الحديث القاهرة ط 1994، كتاب البر والصلة والآداب، باب 27، 4/2000، حديث رقم 2586.
([29]) البيهقي، الآداب.
([30]) سورة الحشر: 9.
([31]) سورة الحجر: 88.
([32]) سورة الأعراف: 146.
([33]) د. يوسف القرضاوي، في فقه الأولويات: دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة، مكتبة هبة، القاهرة، ط 1965م، ص 223.
([34]) د. يوسف القرضاوي، مصدر سابق، ص 223. بتصرف.
([35]) د. يوسف القرضاوي، مصدر سابق، ص 227.
([36]) سورة آل عمران: 104.
([37]) رواه البخاري والترمذي والنسائي.
([38]) سورة آل عمران: 133، 134.
([39]) سورة الحجرات: 9.
([40]) سورة النساء: 114.
([41]) سورة الأنعام: 159.
([42]) سورة الروم: 32.
* الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية والقرآنية جامعة الرباط الوطني(/7)
وسائل دفع الشبهات
الأسباب التي تدفع الشبهات أو ترفعها بعد وقوعها
في عصر تكاثر فيه الناعقون والمرجفون في المدينة,كثرة وسائلهم وتعددت أهوائهم , أصبح المسلم نهباً لأفكارهم الخبيثة, لا ينفع معهم العزلة والابتعاد لأنهم يلاحقوننا إلى مراقدنا ومواطن رزقنا عبر التلفزيون والانترنت والجوال وما شابه, ولهذا فهناك وسائل علمية ذكرها الشيخ لدفع شبههم والنجاة من كيدهم إدارة الموقع
: ومن ذلك ما يلي:
* البصيرة في الدين والعلم بالشريعة المستمدة من الكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم .
وذلك لأن من أسباب الانحراف عن طريق الاستقامة الجهل بالدين وشرائعه ومقاصده فترى المنحرف عن الشريعة يحسب أنه على الحق لجهله بالحلال والحرام، أو لتقليده ومسايرته لمن يبرر المخالفة بشبهة أو تأويل أو غير ذلك. فإذا وجد العلم بالشرع ، والحلال والحرام، والبدعة والسنة، فإن الانحراف بسبب الجهل أو الشبهة سيندفع إن كان صاحبه متجرداً للحق متبعاً له بعد بيانه ، أما إن كان ذا هوىً وشهوة فقد لا يكون العلم بالشرع علاجاً مفيداً، إذ قد يعلم العبد المخالفة ويرتكبها عن ضعف وشهوة وعناد.
وإذا كان الشخص لا يستطيع البحث بنفسه والقراءة في كتب العلم لأميته أو انشغاله، فليتفقه في دين الله تعالى عن طريق أهل العلم والذكر
الذين يجمعون بين العلم والورع، ومعرفة الواقع، وليسألهم عما أشكل عليه في أمر دينه ودنياه، وليتجنب المنتسبين إلى العلم الذين يكتمون الحق ويسيرون مع أهواء الناس، ويتلمسون الرخص والآراء الشاذة المخالفة للنصوص الشرعية، وما عليه سواد أهل السنة والجماعة.
والعلم بالشرع هو الذي يورث العمل به، والاستقامة عليه، وهو الذي يورث الميزان الثابت الذي توزن به الآراء والأخلاق والمواقف.
والمقصود بهذا الميزان: ميزان أهل السنة والجماعة: أهل الاستقامة الذي هو الحق والوسط بين الغلو والجفا والذي من حكم به أصاب ومن وزن به عدل.
ولقد كان السلف رحمهم الله تعالى يوصون طلابهم بطلب العلم، ويرون فيه العصمة- لمن وفقه الله تعالى- من فتنة الشبهات ودفع وساوس شياطين الإنس والجن. فقد ذكر ابن عبد البر في كتاب العلم قال: "قال ابن وهب: كان أول أمري في العبادة قبل طلب العلم، فولع بي الشيطان في ذكر عيسى ابن مريم عليه السلام. وكيف خلقه الله تعالى؟ ونحو هذا فشكوت ذلك إلى شيخ فقال لي: ابن وهب قلت: نعم، قال: أطلب العلم. فكان سبب طلبي العلم [1].
ومن الفقه بالشرع الفقه بمقاصده وقواعده الفقهية لأن الجهل بهذه القواعد أو الغفلة عنها يوقع في الانحراف والشطحات من يفتي للناس دون مراعاة لمآلات الفتوى، والتي هي مرتبطة بقاعدة سد الذرائع، أو من يفتي بالضرورة والمصالح دون الإلمام بضوابط الضرورة والمصلحة. والحاصل أن البصيرة في الدين ومقاصد الشريعة تقي بإذن الله تعالى من مخالفة الاستقامة وأهلها إذا وجد الإخلاص والتجرد عن الهوى.
* التؤدة والأناة وعدم العجلة
إن العجلة والتسرع وترك التؤدة والأناة في الأمور لهي من أخطر الأبواب التي تدخل منها الشبهات إلى القلوب، وبالتالي يقع الانحراف ومخالفة طريق أهل الاستقامة سواء في المعتقد أو العمل، بينما لو حصل التأني وعدم التسرع في قبول ما يطرح من أفكار، لكان في ذلك فرصة لمزيد من البحث والمشورة وعرض كل ما يطرح على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم الصحابة رضي الله عنهم .
وقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم التؤدة في الأمور بقوله: ((التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة)) [2].
ومن ذلك عدم التسرع والعجلة في إفتاء الناس قبل معرفة حكم الله
عز وجل، ومعرفة الواقعة التي يستفتون عنها من جميع جوانبها وما يترتب عليها.
ومن ذلك عدم التسرع في إفتاء الناس في قضايا لم تقع بعد، لأن الواقعة تختلف في وصفها قبل وقوعها عنها بعد وقوعها، وقد يكون فيه
من الملابسات والأحوال مالا تظهر إلا بعد الوقوع.
فعن عامر الشعبي قال: (( سئل عمار رضي الله عنه عن مسألة فقال : كان هذا بعد ؟ قالوا: لا، قال: دعونا حتى يكون فإذا كان تجشمناه لكم))[3]
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال : (( لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها ، فإنكم إن لم تفعلوا لم ينفك المسلمون أن يكون منهم من إذا قال وفق، أو قال: سدد. وإنكم إن استعجلتم بالبلية قبل نزولها ذهب بكم السبل ها هنا، وها هنا)) [4].
وإن من فوائد الأناة وعدم العجلة أن يكون هناك فرصة لمشاورة أهل العلم والعقل والتجربة.
ومن فوائد التؤدة وعدم التسرع وبخاصة لأهل العلم والفتوى أيام الفتن أن يكون لديهم وقت ليسبروا فيه حال المستفتين ومقصدهم من سؤالهم، فقد يظهر بعد التأني والتفكر أن منهم من يزخرف سؤاله ويظهره في قالب يستل به الفتيا التي يريد .
وهذا مكر منه وخداع . فإذا تسرع المفتي وأفتى أمثال هؤلاء فإنه بذلك قد يضل ويضل وهو لا يشعر.(/1)
* مصاحبة أهل العلم الصادقين وتجنب أهل الشبهات والبدع
وهذا مما يتقى به الشبهات التي هي من أسباب الانحراف والجنوح عن طريق أهل الاستقامة، لأن في مصاحبة أهل العلم الذين يجمعون صحة العلم وحسن القصد عاصماً بإذن الله تعالى من الشبهات ورافعاً لها إذا وجدت، لأن الشبهات لا تنتشر إلا في بيئات الجهل وقلة العلم. كما أن في مجانبة مجالس أهل الأهواء والبدع والشبهات وعدم السماع لهم حماية بإذن الله تعالى من المزالق والمخالفات، لأن في مجالسهم تثار الشبهات ويكثر الجدال والمراء فتعلق بقلوب السامعين لها شبهاتهم، ويصعب التخلص منها بعد ذلك. ولذلك شدد السلف رحمهم الله تعالى في ذلك ونهوا عن مناظرة أهل الأهواء والشبهات، وعن حضور مجالسهم أو السماع منهم. وقد نقلت طائفة من هذه الأقوال في مبحث أسباب الانحراف فليرجع إلى ذلك.
وإذا كان هذا موقف السلف من أهل الشبهات وتشديدهم في النهي
عن حضور مجالسهم أو قراءة كتبهم، فكيف بمن يفتح لهم اليوم مجلته أو قناته أو موقعه في شبكة المعلومات ليبث شبهاته بحجة حرية الفكر والنقاش وفتح المجال لطرح الأفكار والرد عليها؟!
إني لأحسب أن في هذا مخالفة شديدة لمنهج السلف وباباً من أبواب نشر الأفكار المنحرفة، ويخشى على من يفتح منبره لأهل الأهواء والبدع أن يتحمل وزره ووزر من تتسبب هذه الأفكار في تضليله.
ويلحق بمصاحبة أهل العلم والاستقامة مصاحبة كتبهم ومقالاتهم وسماع أشرطتهم المسجلة. وفي مقابل ذلك هجر كتب أهل الأهواء والبدع والتنفير منها ومن سماع أشرطتهم إلا للمتمكن من أهل العلم الذين يقرأون أو يسمعون لأهل البدع بغرض الرد على شبههم وبيان ضلالاتهم.
* التواصي بالحق والدعوة إليه
وهذا من أعظم ما تدفع به الشبهات التي تحرف الناس عن طريق الاستقامة وبخاصة في عصور الغربة وانتشار الفتن.
فكلما وجد في زمان أو مكان دعاة إلى الحق يوصي بعضهم بعضاً بلزومه وينشرونه بين الناس كلما قلت البدع والشبهات، والعكس بالعكس فعندما تضعف الدعوة إلى المنهج الحق ويقل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الأهواء والشبهات حينها تفشو وينشأ من جراء ذلك التضليل والتلبيس والانحراف الذي يقوم به أهل الباطل حيث يزخرفون كلامهم لضعاف العلم والعقول من الناس فيصغون إليه، ويرضون به، ويحسبونه حقا لما كسوه من زخرف القول غر ور اً.
ويلحق بالتواصي بالحق: المناصحة بين الدعاة وطلبة العلم بعضهم مع بعض لأنه قد يتأثر أحد الدعاة بشبهة ما ويتعلق بها، فإذا وجدت المناصحة والمناظرة الصادقة في إزالة الشبهة فإنها تزول بإذن الله تعالى، أما إذا رأى أحدنا على أخيه موقفاً أو سلوكاً مشيناً سببه شبهة ثم تركه وجامله فإن هذا من أسباب رسوخ الانحرافات وانتشارها.
* لزوم الجماعة ونبذ الفرقة
إن لزوم جماعة المسلمين الملتزمة بما كان عليه الرسول صلى الله عليه سلم وأصحابه لمن أعظم الأسباب في الوقاية من الانحراف، والمقصود بالجماعة هنا جماعة العقيدة والمنهج الحق، مع لزوم جماعة المسلمين التي لها إمام موافق للشرع، فإذا تحقق هذان الوصفان وجب الالتزام بهما جميعاً، والمفارق لهما أو لأحدهما مفارق للجماعة ومعرض نفسه للشبهات والانحرافات.
أما إذا لم يوجد الإمام الشرعي. فيبقى لزوم الجماعة بالمعنى العلمي العقدي هو الأصل ولا يمكن أن يخلو منه زمان.
ولو تتبعنا نشوء الفتن والانحرافات في التاريخ الإسلامي لرأيناها إنما نمت وترعرعت في أرض الفرقة والاختلاف.
وقد وصى الرسول صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة قال: (( ...عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلكم المؤمن)) [5].
وفي عصور الغربة والفتن كعصرنا اليوم لا يكفي مجرد الانتماء العلمي لأهل الاستقامة، بل لا بد من العيش الجماعي والتواصي بالحق معهم. وعدم الانفراد أو العزلة عنهم لأن شياطين الإنس والجن يكونون مع الواحد، وهم مع الأثنين أبعد كما جاء في الحديث الآنف الذكر.
_________
[1] سير أعلام النبلاء10/ 31.
[2] أبو داود في الأدب (4810) ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 1794 ) .
[3] المطالب العالية 3/ 106.
[4] المصدر نفسه 3 / 106، وقال البوصيري: رواه إسحاق بإسناد حسن لابن أبي شيبة.
[5] جزء من حديث رواه الترمذي في الفقه وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1758) .(/2)
وسائل فاعلة لمقاومة الفساد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد .
فإنه لا يخفى ما تمر به بلدان المسلمين من تغيرات خطيرة وسريعة وذلك ضمن مخطط إفسادي كبير على العقيدة، والشريعة، والأخلاق، والمرأة، والاقتصاد ظهرت بعض أثاره اليوم على حياة الناس في بيوتهم، ومدارسهم، ومجتمعاتهم، وأموالهم، وأخلاقهم وبعضها في الطريق إلى التنفيذ .
ومشاركة مع إخواني الدعاة الذين أقلقهم هذا الخطر وراحوا يبحثون عن كل ما من شأنه مدافعة هذا الخطر وصده عن المسلمين أكتب هذه الخواطر السريعة التي كانت محل تفكير وحوار والتي أحسبها تسهم في إيجاد مشروع تحصيني وقائي لأسرنا ومجتمعاتنا أمام هذا الخطر الداهم أسأل الله عز وجل أن يلهمنا صحة الفهم وحسن القصد : فأقول وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
يقول الله تبارك وتعالى : (( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ)) (البقرة :251) .
ويقول عز وجل : ((فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ)) (هود: 116) .
ويقول سبحانه : ((وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران: 104) .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله بعقاب)) .
و إنفاذاً لهذه التوجيهات الإلهية والنبوية يجب على أهل الغيرة والإصلاح أن ينفروا لمدافعة هذه المخططات الإفسادية وصدها عن المسلمين قدر المستطاع، وأرى أن تتم هذه المدافعة عبر جبهتين رئيستين :
الجبهة الأولى: جبهة الاحتساب
والإنكار المباشر لمظاهر الفساد منذ بدايتها أو السماع بالتخطيط لها وذلك بمناصحة الأشخاص المنظرين أو المنفذين لها، والإنكار عليهم شفاها، ومكاتبة، ومخاطبة أهل الحل والعقد في البلد وإظهار الامتعاض، والإنكار وهذا أمر يجب أن ينفر له طائفة معينه وهم أهل العلم من المشائخ والقضاة وطلبة العلم والوجهاء .
وذلك يتطلب تعاونا وتشاوراَ بين أهل العلم في كل مدينة وأن يكون هناك مجالس وتوزيع للأدوار والجهود. كما يتطلب جهات مساندة تهيئ لهم المعلومات والوثائق وحصر ما يجد من منكرات ومعلومات وترتيبها وتنظيمها، وأحسب أن هذه الجبهة قائمة الآن ولا تزال في مراحلها الأولى ولكنها بحمد الله تعالى في تطور وتوسع .
الجبهة الثانية : جبهة التحصين والوقاية للمجتمع من الفساد.
وأحسب أنه لازال هناك تقصير شديد في هذه الجبهة مع أن الثمار المرجوة منها كثيرة جداً واستجابة الناس لها كبيرة والحمد لله ولا يعني هذا التقليل من جهود القائمين في الجبهة الأولى -حاشا لله- فهم تاج الرؤوس وأعمالهم لن تضيع عند الله عز وجل إن شاء الله تعالى، وحسبهم أن يفوزوا بالإعذار عند الله عز وجل وإبراء الذمة إذا حوسبت الذمم،مع ما تثمره جهودهم من مراغمة أهل الفساد والتخفيف أو التأخير لبعض المنكرات، وإنما المقصود أن لا تنسى جبهة التحصين والوقاية التي قد تكون أكثر ثمرة وآثارا.
وبخاصة أن المتحركين من المصلحين في الجبهة الثانية يمتلكون وسائل كثيرة ومجالات متعددة في مخاطبة الناس وتحذيرهم وتحصينهم لا يملكها غيرهم. ولو وظفت التوظيف الصحيح و تظافر الغيورون و المصلحون في تنفيذها وتوزعت الأدوار فيها لكان لها نتائج باهرة تحبط على المفسدين أهدافهم وترد كيدهم في نحورهم .
وفي هذه الورقة بعض المقترحات في تفعيل دور هذه الجبهة وكيفية الاستفادة من الوسائل الكبيرة المتاحة في مخاطبة المجتمع وتوجيه الناس.
ومن نافلة القول أن نشبه سيل الفساد المسلط على مجتمعات المسلمين وتنوع الناس في مقاومته بسيل جارف ينتهي إلى تغريق أراضي وعمران ودور. وأصحابها يعلمون أنه سيخرب دورهم ومزارعهم وأموالهم فانقسموا إلى فرقتين :
الأولى: فرقه رأت أن لا خلاص من خطر هذا السيل إلا أن يهب الجميع في قطعه من منبعه وأصله فتعذر ذلك غاية التعذر، وأبت طبيعة السيل وقوته عليهم ذلك فكلما سدوه من موضع نبع من موضع آخر وأنشغل أهل القرية بشأن هذا الوادي عن الزراعات والعمارات وغرس الأشجار و تحصين البيوت. ويمكن أن يكون في عمل هذه الفرقة تخفيف لشدة السيل أو سد لبعض منابعه لكن لا يمنعه عن بيوت الناس وممتلكاتهم.(/1)
الثانية : رأت أن صرف الجهود كلها في عمل الفرقة الأولى قد أضاع عليهم كثير من المصالح ولم يستطيعوا منع السيل فاتجهوا إلى بيوتهم في تقويم أساسها وقواعدها ورفع أسوارها عن مجرى السيل كما اتجهوا إلى صرف سيل الوادي عن مجراه المنتهي إلى البيوت والعمران وذلك بتحذير الناس من شره القادم وبتوجيه الناس إلى أن يحصنوا بيوتهم من هذا السيل و يتضافر الجمع على صرفه عن بيوتهم وعمرانهم إلى الرمال المحيطة بهم أو السبخات أو الحفر التي يجد السيل فيها مصرفا له يضيع فيه ويتفرق.
والمقصود من إيراد هذا المثال التأكيد على أهمية العمل في جبهة التحصين والوقاية للناس والمجتمعات من سبل الفساد الموجهة إليهم وأن يعطى حقه من الاهتمام مع بذل الجهد من أهل العلم في الجبهة الأولى وذلك بالاحتساب على المفسدين ولو للتخفيف أو التأخير وأهم من ذلك إبراء الذمة و الإعذار الى الله عز وجل، والمقصود توزيع الأدوار وأن لا ينشغل الدعاة بجبهة عن جبهة.
وأسوق فيما يلي ما يحضرني من الوسائل القوية التي يملكها المصلحون من الدعاة وطلبة العلم ولا يملكها غيرهم من المفسدين. وكيف يمكن تفعيلها وتنشيطها وتوظيفها.
الوسيلة الأولى : المنابر الدعوية
ويقصد بها تلك المنابر التي يخاطب فيها فئام من الناس على مختلف شرائحهم ويحصل من خلالها تحذير الناس ووعظهم وبيان خطر المنكرات على الفرد و البيت والمجتمع وبيان ذلك بالفتاوى الشرعية المستندة الى الأدلة الشرعية.
ويدخل تحت مسمى المنابر الإعلامية ما يلي :
1- خطبة الجمعة :
حيث أثرها العظيم على الناس ومما تتميز به دقة الإنصات من السامعين وتركيزهم على ما يقال فيها وهذه المنابر نعمة من نعم الله عز وجل على المسلمين و وسيلة عظيمة الفائدة يمتلكها الدعاة الى الله عز وجل ولا يملكها المفسدون .
وأقترح لتفعيل دور الخطبة واستثمارها في إصلاح الناس وتبغيض الفساد والمنكرات لهم النقاط التالية :
أولاً: إيجاد رابطة مستمرة بين الخطباء في كل حي تجتمع في كل أسبوع، وذلك للتنسيق وتبادل الخبرات وتبادل الخطب وتحديد المواضيع المهمة للخطبة وترتيب الأولويات في ذلك. كما يقترح رابطة أوسع للخطباء على مستوى المدينة وذلك في كل شهر مرة وذلك لتوسيع دائرة التشاور وتنسيق الجهود .
ثانياً: يتفرغ أناس لجمع الخطب الجيدة القديم منها والجديد والتي يحتاج إليها المجتمع وطبعها وجعلها في متناول الخطباء ليرجعوا إليها في كتابة الخطبة .
ثالثاً: يتفرغ أناس لجمع الفتاوى القديمة والجديدة للعلماء والتي يبين فيها أهل العلم الحكم في المنكرات القديمة والجديدة التي تعشعش بين المسلمين أو هي في بدايتها وذلك لرفضها من الناس ومقاطعتها وتزويد الخطباء بها لقرائتها على الناس.
رابعاً: التعاون مع القائمين على إذاعة القرآن بالاقتراح عليهم تسجيل بعض الخطب المهمة التي يتفق عليها سلفاً لتذاع على الناس وتكرر عليهم .
خامساً: طبع الخطب الجيدة والمهمة في رسائل صغيرة وتوزيعها مجاناً أو بيعها بسعر رمزي.
سادساَ: الحرص من محلات التسجيلات على تسجيل الخطب المهمة ونشرها بين الناس وأن يصاحب ذلك تغطية من الدعاية الجيدة والتسويق القوي.
سابعاً: يفعل دور أئمة المساجد وحلقات التحفيظ في توزيع أشرطه الخطباء الجيدة على بيوت الحي.
2- الدروس والمحاضرات والجولات الوعظية:
وهذه من الوسائل المهمة التي لو رتبت مواضيعها وأماكنها وأوقاتها لظهر لها وقع عظيم في تحصين الناس ووقايتهم من الفساد وهي والحمد لله كثيرة ومنتشرة ولكن يحتاج إلى تفعيل وتنشيط وتنظيم لكي يكون أثرها أكبر مما هي عليه الآن.
ومن الوسائل المقترحة لتفعيلها ما يلي .
أولاً : اختيار المواضع المهمة للمحاضرات والدروس أو توظيف الدروس في مخاطبة الناس ووعظهم وتحذيرهم من المنكرات سواء كان ذلك عندما يأتي مناسبة في الدرس أو تخصيص أخر الوقت في الدروس للحديث عن المنكرات والتحذير منها أو تعد أسئلة مهمة تطرح على الشيخ ليجيب عليها في نهاية الدرس ويركز على مظاهر الفساد والموقف منها .
ثانياً: تحريك بعض طلبة العلم المؤثرين بما عندهم من العلم والديانة والبلاغة في أن يشاركوا وينفروا وأن يعيدوا النظر في سلبيتهم بحجة الورع البارد.
ثالثاً: التنسيق مع إذاعات القرآن والقنوات الإسلامية بنقل الدروس والمحاضرات المهمة في إذاعة القرآن.
رابعاً : مساعدة المحاضر في جمع المادة العلمية والفتاوى المهمة التي يستخدمها في إقناع الناس برفض الفساد وتحريمه ومقاطعته .
خامساً: قيام محلات التسجيل بتسجيل مثل هذه الدروس والمحاضرات المهمة والدعاية له وتسويقها بين الناس .
سادساً: نشر هذه المحاضرات في بيوت الحي عن طريق مساجد الحي وحلقات التحفيظ ودعمهم مادياً.
سابعاً: يحسن أن يكون هناك رابط أسبوعي أو شهري بين طلبة العلم الذين يقومون بالدروس والمحاضرات للتنسيق بينهم والتشاور في المواضيع المطروحة.
ج- الاستفادة من إذاعات القرآن والقنوات الإسلامية :(/2)
وميزة هذه الوسائل الإعلامية أنها تخاطب الفئات الكبيرة من الناس لذا صارت من أهم الوسائل التي ينبغي أن يعتني بها الدعاة الى الله عز وجل واستثمارها في توجيه الناس وتحصينهم وتحذيرهم من الفساد الموجه لهم , ورد شبهات المفسدين ومن أوجه الاستفادة من هذه المنابر ما يلي :
* مايكون فيها من برامج الإفتاء, ويحسن أن توظف هذه البرامج في تحذير الناس من صور الفساد المسلطة عليهم وبيان الحكم الشرعي فيها والتركيز على هذا النوع من الفتاوى.
* تقديم الدروس العلمية المبسطة التي توعي الناس بدينهم (في التفسير والعقيدة والفقه والآداب) وترفع عنهم اللبس والتضليل.
* إجراء المقابلات والندوات والحوارات في القضايا التي تحذر المسلمين مما يراد بهم من الفساد والشر والرد على الشبهات وفضح أهلها .
* ولتفعيل دور هذه المنابر يحث أهل القدرات الإعلامية من الدعاة للدخول فيها والتعاون مع القائمين عليها في تهيئة البرامج وتقديم المواد التي تحقق الأهداف .
* نقل الخطب والدروس والدورات الشرعية التي تعقد في المساجد .
الوسيلة الثانية - إحياء اللقاءات الأسرية ودوريات الأحياء :
حيث ثبت بالتجربة عظيم فائدتها في تأليف القلوب و التعاون على الخير والتحذير من الفساد والمنكرات. ولو أن أهل الاستقامة في كل أسرة وكل حي -وهم كثير والحمد لله – كونوا هذه الروابط واللقاءات و استثمروها في وقاية الأسر والجيران نساءً ورجالاً من شر الفساد والمنكرات لكان لها الأثر العظيم .
ومن الأعمال الخيرة التي تقوم به هذه الروابط واللقاءات ما يلي :
1- توزيع الأشرطة والكتيبات التي تنشر الفضيلة وتحارب الرذيلة.
2- توزيع الفتاوى التي تبين حرمة ما جد في حياة المسلمين من منكرات البيوت .
3- إقامة المسابقات الهادفة التي تنبه السامعين إلى أمور شرعية قد يجهلونها أو يغفلون عنها.
4- استضافة بعض طلبة العلم المؤثرين ليتحدث عن بعض المنكرات وضرورة إنكارها وتحصين البيوت وتربية الأولاد والنشأة على حب الفضيلة وبغض الفساد والرذيلة .
5- العناية بشؤون المرأة وتوعيتها بأحكام الإسلام وتحذيرها من منكرات اللباس والزينة وما يراد لها من إخراجها واختلاطها بالرجال . ويمكن أن تنشأ روابط نسائية في الأسرة تتولى المستقيمات في كل أسرة تحقيق هذه الأهداف بما سبق من الوسائل .
6- مراقبة الحي وما فيه من المنكرات والتعاون مع الهيئات لإزالتها .
الوسيلة الثالثة - أئمة المساجد :
لا يخفى دور إمام المسجد في نشاط المسجد ونشاط الحي الذي فيه المسجد وهذا ملموس من بعض الأمة الناشطين. فلو أن إمام كل مسجد قام بدوره في جماعة الحي لكان في ذلك خير عظيم وسد منيع ومن أهم الأنشطة التي يقوم بها إمام المسجد ما يلي:
* القراءة على جماعة المسجد في الكتب والفتاوى التي تحذر من الفساد والمنكرات في البيوت أو الأسواق وغيرها .
* التعاون مع دورية الحي في دعم أنشطة المسجد وحلقات التحفيظ ومتابعة المنكرات في الحي .
* استضافة طلاب العلم ليلقوا كلمات و محاضرات وفتاوى تدعو الناس إلى الخير وتحصنهم من الفساد وتحذرهم منه .
* متابعة المحاضرات والدروس في المساجد الأخرى وتبليغ جماعة المسجد بها مشافهة أو عن طريق الملصقات الإعلانية.
* التعاون مع حلقات التحفيظ في توزيع الكتيبات والأشرطة على منازل أهل الحي .
* تفقد الأشخاص الذين لا يصلون مع الجماعة ومناصحتهم بالتعاون مع دورية الحي .
* إقناع طلاب العلم من جماعة المسجد على فتح دروس في المسجد سواء كانت لعوام المسلمين أو للطلاب الدارسين .
* ولتفعيل دور الأمام في المسجد يحسن تكوين رابطة لأئمة المساجد في الأحياء المتقاربة والتشاور معهم وتبادل الخبرات في أنشطة المساجد .
* الاستفادة من المشرفين على حلقات التحفيظ في تقديم الفتاوى و اقتراح الرسائل المهمة التي تقرأ على جماعة المسجد.
الوسيلة الرابعة- حلقات التحفيظ ومكتبات المساجد :
لا يخفى دور هذه الحلقات المباركة في حفظ أبناء الحي بحفظهم لكتاب الله عز وجل وتربيتهم وتحصينهم من الفساد . ومع ذلك يمكن أن يستفاد من هذه الحلقات ليظهر أثرها في أهل الحي وذلك بالوسائل التالية :
* توزيع الأشرطة والكتيبات على بيوت الحي .
* إعطاء طلاب التحفيظ بعض الأشرطة والفتاوى والكتب لأخذها إلى أهليهم مما من شأنه تحذير البيوت من المنكرات والفساد .
* الاهتمام بأولياء أمور طلاب التحفيظ والاجتماع بهم في دورية شهرية للعناية بأبنائهم والتناصح معهم في إصلاح البيوت وتطهيرها من الفساد.
الوسيلة الخامسة- مواقع شبكة المعلومات :
وقد ظهر أثر هذه المواقع في الآونة الأخيرة لما ظهرت المواقع الإسلامية للمشائخ والمؤسسات الإسلامية والمواقع التي تهتم بالمرأة والحسبة. لذا يجب الاهتمام بها وتفعيلها وتقديم المادة المناسبة التي فيها تحذير المسلمين مما يراد بهم من الفساد و تخصص بعض أهل العلم في تتبع شبهات المفسدين و شهواتهم و الرد عليها.(/3)
الوسيلة السادسة- المعلمون في المدارس :
المعلم المسلم صاحب الرسالة لا ينظر إلى وظيفته بأنها مصدر للرزق فحسب وإنما هي من أهم المجالات التي يمكن تربية النشأ فيها وتحصينهم من الفساد والمنكرات . كما يمكن التأثير من خلال التعليم على أسر الطلاب وبيوتهم بإيصال بعض الفتاوى والأشرطة عن طريق أبنائهم وكذلك يستفاد من مجالس الآباء في المناصحة مع أولياء الأمور في التخلص من المنكرات والفساد .
الوسيلة السابعة- الحسبة والاحتساب :
من خصائص هذه الأمة أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر . وكلما شاع الاحتساب وانتشر قل الفساد واندحر المفسدون سواء كان ذلك على يد مراكز الهيئات أو عن طريق المحتسبين لذا ينبغي للدعاة وطلاب العلم والمحاضرين أن يحثوا الناس على مختلف طبقاتهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلاَ فيما يخصه وحسب علمه وقدرته .
الوسيلة الثامنة- الكتاب والمؤلفون :
إن الإكثار من الكتب والرسائل و المطويات التي تحذر من الفساد وتكشف خطط المفسدين لتعتبر من أهم الوسائل التي توعي الأمة وتحذرهم من كيد المفسدين وتلبيسهم وتضليلهم وذلك بما يكون في هذه المؤلفات من بيان حكم الله عز وجل في مظاهر الفساد الذي يروج له المفسدون , وكشف سيئاتهم التي يلبسون بها على الناس .
الوسيلة التاسعة- أماكن الانتظار العامة :
وذلك مثل الانتظار في عيادات الأطباء وصرف الدواء في الصيدليات الحكومية ومحلات الحلاقة ومكاتب العقار وما شابهها.
حيث من المفيد تزويد هذه الأماكن بمطويات ورسائل وفتاوى تناسب حاجة الناس وتحذيرهم وتحصينهم من سبل الفساد .
الوسيلة العاشرة- الدور النسائية لتحفيظ القرآن :
لم يعد خافياً أثر هذه الدور المباركة إن شاء الله في تحصين المرأة المسلمة من كيد أعدائها وتعليمها دينها وتحذيرها من مظاهر الفساد الموجه لها وللأسر المسلمة. والعناية بالمرأة المسلمة له أثر في نفسها كما أن له أثر كبير في إصلاح الأسر والبيوت حيث تنقل المرأة ما تسمع وترى وتقرأ في هذه الدور وما يوزع فيها من أشرطه وكتيبات وفتاوى إلى أسرتها وأولادها. لذا لزم الأمر العناية الشديدة بهذه الدور.
الوسيلة الحادي عشر- رسائل الجوال:
لقد ظهر في الآونة الأخيرة أثر رسائل الجوال في نشر الخير والشر لذا ينبغي توظيفها من قبل المصلحين في نشر الفضيلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدلالة على الكتب والفتاوى والدروس المفيدة والتحذير من الفساد وتعرية أهله وتبيين المنكرات ودفع الناس لانكارها.
تنبيهات مهمة
الأول : لابد في الوسائل السابقة من عمل مرتب ومنظم ترتب فيه الآولويات وتوزع فيه الأدوار ويجند الآلاف المؤلفة من الصالحين في أحيائهم وتنفيذه بتوجيههم واستثمار طاقاتهم ولا يكتفى بالجهود الفردية.
الثاني : لا يقتصر في مخاطبة الناس ببيان الحكم الشرعي في المنكرات و تحذيرهم منها بل ينبغي أن يتوجه الخطاب إلى القلوب و تقوية العبودية لله عز و جل فيها و الاستسلام لشرعه سبحانه و الإذعان و القبول له وتخويفهم من الله عز وجل ومن عذابه و تقوية محبة الله عز و جل وتعظيمه والخوف من يوم الحساب والوقوف بين يدي الله تعالى.
الثالث : العناية بالجانب التربوي في أوساط الدعاة وطلبة العلم و أهل الاستقامة من شباب الأمة وفتياتها والعناية بصحة الفهم والتصورات وحسن السلوك والأخلاق وأن لا يكون العمل الإحتسابي والإعلامي سبباً في انشغالنا عن العمل التربوي .
الرابع : إعداد جيل إعلامي قوي يجمع بين العلم الشرعي والصمود على الثوابت الشرعية والبعد عن الضعف والانهزامية والاستجابة لأهواء الناس وبين الوعي الإعلامي والخبرة الإعلامية التي تخاطب الناس وتؤثر فيهم وتكسبهم .
أسال الله عز و جل أن يبرم هذه الأمة أمر رشد يعز فيه وليه ويذل فيه عدوه و يؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنه سميع الدعاء.
والحمد لله رب العالمين ..(/4)
وسائل في التأثير على القلوب
للشيخ إبراهيم الدويش من شريط طريقنا للقلوب
هذه سهام لصيد القلوب، أعني تلك الفضائل التي تستعطف
بها القلوب، وتستر بها العيوب وتستقال بها العثرات، وهي صفات لها أثر سريع وفعّال على القلوب، فإليك أيها المحب سهاماً سريعة ما أن تطلقها حتى تملك بها القلوب فاحرص عليها، وجاهد نفسك على حسن التسديد للوصول للهدف واستعن بالله.
• الوسيلة الأول: الابتسامة :
قالوا هي كالملح في الطعام، وهي أسرع سهم تملك
به القلوب وهي مع ذلك عبادة وصدقة، ( فتبسمك في وجه أخيك صدقة ) كما في الترمذي، وقال عبد الله ابن الحارث ( ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
• الوسيلة الثانية : البدء بالسلام :
سهم يصيب سويداء القلب ليقع فريسة بين يديك لكن أحسن التسديد ببسط الوجه والبشاشة، وحرارة اللقاء وشد الكف على الكف، وهو أجر وغنيمة فخيرهم الذي يبدأ بالسلام، قال عمر الندي (خرجت مع ابن عمر فما لقي صغيراً ولا كبيراً إلا سلم عليه)، وقال الحسن البصري (المصافحة تزيد في المودة) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق ). وفي الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء ) قال ابن عبد البر هذا يتصل من وجوه حسان كلها.
• الوسيلة الثالثة : الهدية :
ولها تأثير عجيب فهي تذهب بالسمع والبصر والقلب، وما يفعله الناس من تبادل الهدايا في المناسبات وغيرها أمر محمود بل ومندوب إليه على أن لا يكلف نفسه إلا وسعها، قال إبراهيم الزهري (خرّجت لأبي جائزته فأمرني أن أكتب خاصته وأهل بيته ففعلت، فقال لي تذكّر هل بقي أحد أغفلناه ؟ قلت لا قال بلى رجل لقيني فسلم علي سلاماً جميلاً صفته كذا وكذا، اكتب له عشرة دنانير) انتهى كلامه.
انظروا أثّر فيه السلام الجميل فأراد أن يرد عليه بهدية ويكافئه على ذلك.
• الوسيلة الرابعة : الصمت وقلة الكلام إلا فيما ينفع :
وإياك وارتفاع الصوت وكثرة الكلام في المجالس، وإياك وتسيد المجالس وعليك بطيب الكلام ورقة العبارة (فالكلمة الطيبة صدقة) كما في الصحيحين، ولها تأثير عجيب في كسب القلوب والتأثير عليها حتى مع الأعداء فضلاً عن إخوانك وبني دينك، فهذه عائشة رضي الله عنها قالت لليهود ( وعليكم السام واللعنة) فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مهلاً يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله) متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليك بحسن الخلق وطول الصمت فو الذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما ) أخرجه أبو يعلى والبزار وغيرهما.
قد يخزنُ الورعُ التقي لسانه …… حذر الكلام وإنه لمفوه
• الوسيلة الخامس: حسن الاستماع وأدب الإنصات :
وعدم مقاطعة المتحدث فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقطع الحديث حتى يكون المتكلم هو
الذي يقطعه، ومن جاهد نفسه على هذا أحبه الناس وأعجبوا به بعكس الآخر كثير الثرثرة والمقاطعة، واسمع لهذا الخلق العجيب عن عطاء قال : ( إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه وقد سمعته قبل أن يولد).
• الوسيلة السادسة : حسن السمت والمظهر:
وجمال الشكل واللباس وطيب الرائحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله جميل يحب الجمال ) كما في مسلم. وعمر ابن الخطاب يقول ( إنه ليعجبني الشاب الناسك نظيف الثوب طيب الريح )، وقال عبد الله ابن أحمد ابن حنبل ( إني ما رأيت أحداً أنظف ثوبا و لا أشد تعهدا لنفسه وشاربه وشعر رأسه وشعر بدنه، ولا أنقى ثوبا وأشده بياضا من أحمد ابن حنبل).
• الوسيلة السابعة : بذل المعروف وقضاء الحوائج :
سهم تملك به القلوب وله تأثير عجيب صوره الشاعر بقوله:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم … فطالما استعبد الإنسانَ
إحسانُ
بل تملك
به محبة الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أحبُ الناس إلى الله أنفعهم للناس )، والله عز وجل يقول { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين }.
إذا أنت صاحبت الرجال فكن فتى …….. مملوك لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء عذبا وباردا ……… على الكبد الحرى لكل صديق
عجباً لمن يشتري المماليك بماله كيف لا يشتري الأحرار بمعروفه، ومن انتشر إحسانه كثر أعوانه.
• الوسيلة الثامن: بذل المال :
فإن لكل قلب مفتاح، والمال مفتاح لكثير من القلوب خاصة في مثل هذا الزمان، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلى منه خشية أن يكبه الله في النار ) كما في البخاري.(/1)
صفوان ابن أمية فر يوم فتح مكة خوفا من المسلمين بعد أن استنفذ كل جهوده في الصد عن الإسلام والكيد والتآمر لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان ويرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه أن يمهله شهرين للدخول في الإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل لك تسير أربعة أشهر، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين والطائف كافراً، وبعد حصار الطائف وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في الغنائم يرى صفوان يطيل النظر إلى وادٍ قد امتلأ نعماً وشاء ورعاء.
فجعل عليه الصلاة والسلام يرمقه ثم قال له يعجبك هذا يا أبا وهب؟
قال نعم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم هو لك وما فيه.
فقال صفوان عندها : ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
لقد استطاع الحبيب صلى الله عليه وسلم بهذه اللمسات وبهذا التعامل العجيب أن يصل لهذا القلب بعد أن عرف مفتاحه.
فلماذا هذا الشح والبخل؟ ولماذا هذا الإمساك العجيب عند البعض من الناس؟ حتى كأنه يرى الفقر بين عينيه كلما هم بالجود والكرم والإنفاق.
• الوسيلة التاسعة : إحسان الظن بالآخرين والاعتذار لهم :
فما وجدت طريقا أيسر وأفضل للوصول إلى القلوب منه، فأحسن الظن بمن حولك وإياك وسوء الظن بهم وأن تجعل عينيك مرصداً لحركاتهم وسكناتهم، فتحلل بعقلك التصرفات ويذهب بك كل مذهب، واسمع لقول المتنبي:
إذا ساء فعل المرءِ ساءت ظنونه …… وصدق ما يعتاده من توهم
عود نفسك على الاعتذار لإخوانك جهدك فقد قال ابن المبارك ( المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم ).
• الوسيلة العاشرة : أعلن المحبة والمودة للآخرين :
فإذا أحببت أحداً أو كانت له منزلة خاصة في نفسك فأخبره بذلك فإنه سهم يصيب القلب ويأسر النفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه ) كما في صحيح الجامع، وزاد في رواية مرسلة ( فإنه أبقى في الألفة وأثبت في المودة)، لكن بشرط أن تكون المحبة لله، وليس لغرض من أغراض الدنيا كالمنصب والمال، والشهرة والوسامة والجمال، فكل أخوة لغير الله هباء، وهي يوم القيامة عداء (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
والمرء مع من أحب كما قال صلى الله عليه وسلم - يعني يوم القيامة -، إذا فإعلان المحبة والمودة من أعظم الطرقِ للتأثير على القلوب. فإما مجتمع مليء بالحب والإخاء والائتلاف، أو مجتمع مليء بالفرقة والتناحر والاختلاف، لذلك حرص صلى الله عليه وسلم على تكوين مجتمع متحاب فآخى بين المهاجرين والأنصار، حتى عرف أن فلانا صاحب فلان، وبلغ ذلك الحب أن يوضع المتآخيين في قبر واحد بعد استشهادهما في إحدى الغزوات.، بل أكد صلى الله عليه وسلم على وسائل نشر هذه المحبة ومن ذلك قوله صلوات الله وسلامه عليه (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) كما في مسلم.
وللأسف، فالمشاعر والعواطف والأحاسيس الناس منها على طرفي نقيض ، فهناك من يتعامل مع إخوانه بأسلوب جامد جاف مجرد من المشاعر والعواطف، وهناك من يتعامل معهم بأسلوب عاطفي حساس رقيق ربما وصل لدرجة العشق والإعجاب والتعلق بالأشخاص. والموازنة بين العقل والعاطفة يختلف بحسب الأحوال والأشخاص، وهو مطلب لا يستطيعه كل أحد لكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.
• الوسيلة الحادي عشر: المداراة :
فهل تحسن فن المداراة؟ وهل تعرف الفرق بين المداراة والمداهنة؟ روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما راءه قال بئس أخو العشيرة، فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل، قالت له عائشة يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا عائشة متى عهدتني فاحشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس لقاء فحشه) قال ابن حجر في الفتح (وهذا الحديث أصل في المداراة) ونقل قول القرطبي ( والفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا أو الدين أو هما معا، وهي مباحة وربما استحبت، والمداهنة ترك الدين لصلاح الدنيا ).(/2)
إذا فالمداراة لين الكلام والبشاشة للفساق وأهل الفحش والبذاءة، أولاً اتقاء لفحشهم، وثانيا لعل في مداراتهم كسباً لهدايتهم بشرط عدم المجاملة في الدين، وإنما في أمور الدنيا فقط، وإلا انتقلت من المداراة إلى المداهنة فهل تحسن فن المداراة بعد ذلك؟ كالتلطف والاعتذار والبشاشة والثناء على الرجل بما هو فيه لمصلحة شرعية، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( مداراة الناس صدقة ) أخرجه الطبراني وابن السني، وقال ابن بطال ( المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة(/3)
وسائلُ الدِّفاعِ عن رَسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم
أ . د . مسفر بن غرم الله الدميني
من المعلوم أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إيمان، وبغضه كفر ونفاق، وقد قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[لأعراف: من الآية158] وعَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" متفق عليه.
إن الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوجب علينا أموراً كثيرة منها: اتّباعه، والدعوة إلى سنته، ومحبته، والدفاع عنه في حياته، وبعد مماته، وقد أغضب المسلمين جميعاً ما أوردته جريدة (جلاندز بوستن) الدانمركية من رسومات لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، تصفه بالعنف والإرهاب، ومنها يظهر عداؤهم لهذا الدين وأهله، واحتقارهم للمسلمين أجمعين ، وقد قام كثير من العلماء وطلبة العلم والتجار والغيورين على دينهم ونبيهم وأمتهم كلٌ فيما يقدر عليه، ورأيت أن أدلي بدلوي في الذبّ عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم – بأبي هو وأمي – كيف لا وأهل الحديث هم أولى الناس به، وأقربهم صلة بكلامه وهديه، وأعلمهم بسيرته وشخصيته، لذا رأيت أن أضع يدي على أيديهم، وأضم جهدي إلى جهودهم، وأن أقوم ببيان ما يلزم عموم المسلمين في جميع أنحاء العالم دون تحديد للدفاع عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ينبغي لهم فعله حيال هذا الأمر الجلل، وقد رأيت أن عملية الدفاع عنه ينبغي أن تسير في اتجاهين متوازيين:
أحدهما: متعلق بدولة الدنمرك؛ للحكومة والجريدة، وللشركات والمؤسسات.
والثاني: متعلق بالمسلمين من ولاة، وعلماء، ودعاة، وتجار، ووسائل إعلام، ولعموم الناس دون استثناء.
أما العمل المتعلق بدولة الدنمرك فيكون بأمور منها:
- إرسال الوفود إلى السفارات الدانمركية في جميع أنحاء العالم، ومقابلة السفير أو القنصل، أو أي مسؤول في السفارة، وإعلامه باستياء المسلمين واستنكارهم لهذا العمل، وتسليمه خطابات الاستنكار.
- إرسال برقيات وفاكسات وإيميلات الاستنكار إلى ديوان ملكتهم، وإلى وزارة الخارجية، والى السفارات الدنمركية، والى الجريدة التي نشرت الصور.
- إبلاغ شركاتهم بأن العالم الإسلامي كله سيقاطعها، كما سيقاطع منتجاتهم وصادراتهم بأنواعها...
- التعاون مع المسلمين في بلاد الدنمرك سواء الأصليين أو الوافدين والمهاجرين إليهم في أمور منها:
- البحث في أنظمتهم وقوانينهم لعل فيها ما يجرّم تلك الأفعال الشنيعة.
- رفع قضايا عليهم في محاكمهم، والاستعانة بالمحامين المتمكنين في بلدهم.
- الكتابة في صحفهم ببيان أثر تلك الصور، ومدى الاستياء والغضب الذي أحدثته في نفوس المسلمين، وأثره الكبير على شعبهم وشركاتهم واقتصادهم، وعلى مستقبل علاقاتهم مع العالم الإسلامي.
- إشعار مفكريهم وكتابهم وعقلائهم - وحتى رجل الشارع عندهم - أن تلك الصور والتهم التي وصفوا بها نبينا قد أغضبت عليهم أكثر من مليار مسلم، وأن هذا الغضب أمر طبعي؛ فلو كتب عن عيسى عليه السلام مثل ذلك فهل سيسكتون ويرضون؟ بل لو كتب عن ملكتهم أو رئيس وزرائهم مثل ذلك هل سيغضبون؟ أو يقولون إنها حرية شخصية!
- مقابلة رجال الدين عندهم - من رهبان وقسس وغيرهم - وإبلاغهم بخطورة هذه القضية وشناعتها، فلعل فيهم عقلاء، وأهل عدل وحق يدفع الله بهم مثل هذا الأمر.
- إقامة الندوات واللقاءات والمحاضرات للدفاع عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإبراز خصائصه ومزاياه، وتعريف الناس جميعاً بسيرته وبراءته مما نسبه إليه المبطلون.
أما العمل المتعلق بالمسلمين عموماً:(/1)
فقد رأيت أن يكون محور كلامي في الدفاع عنه هو "محبته" صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المقتضية لبذل المسلم ما في وسعه دفاعاً عن نبيه وحبيبه، سواء برد دعاوى الخصوم، أو شبه الأعداء، أو تحمل ما يستطيعه المرء منا من خسارة مال، أو ذهاب مصالح، أوترك مرغوبات أو محبوبات في سبيل إظهار محبتنا لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعوانا محبته واتّباعه تقتضي ذلك، وقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" متفق عليه، و بناءً على هذه المحبة أتوجه بكلامي هذا إلى كل مسلم في أرض الله الواسعة، ليس في السعودية أو في العالم العربي أو الإسلامي فحسب، بل في كل أصقاع المعمورة، وأخص به من كان والياً أو مسؤولاً أو تاجراً أو عاملاً أو مواطناً عادياً، كل بحسب موقعه، وعلى مبلغ وسعه وطاقته، وأبدأ أولاً بولاة الأمر في أنحاء العالم الإسلامي الذين أكرمهم الله بالولاية على المسلمين فأطلب إليهم أن يرسلوا برقيات الشجب والاستنكار - إلى حكومة الدنمرك – لهذه الرسومات الشنيعة، التي نشرتها جريدة (جلاندز بوستن) والتي تضمنت إهانة لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووصفاً له بما هو منه براء، وكذلك:
- طلب محاكمة من قام بذلك، وإنزال أشد العقوبات عليه، وأن تعتذر الصحيفة والحكومة للمسلمين عامة عما بدر منهم من إهانة لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و لأمة الإسلام قاطبة.
- أن يبلغ ولاةُ أمر المسلمين سفاراتهم في الخارج بالاتصال بوزارة الخارجية الدانمركية وإبلاغها باستياء المسلمين من هذا الفعل الشنيع.
- حث الدول الإسلامية على قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدنمرك ما لم تعتذر تلك الصحيفة والدولة عن هذه الإساءة، وإلا على أقل تقدير يمكنهم سحب سفرائهم أو استدعاؤهم للمشاورة كما يقولون عادة.
- على جميع المنظمات والجمعيات والمجالس المختلفة في بلدان العالم الإسلامي أن تستنكر هذا الأمر علناً، وأن ترسل البرقيات والخطابات إلى المسؤولين في دولة الدنمرك.
- على العلماء أن يلقوا المحاضرات والدروس، ويعقدوا اللقاءات والمؤتمرات، ويبينوا للناس خطر التهاون بالرسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الغضب لله ولرسوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مقتضيات الإيمان بالله ورسوله، وهو من النصح لله ولرسوله ولكتابه الذي قال فيه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الدين النصيحة".
- على وسائل الإعلام من صحف ومجلات، ومحطات فضائية متنوعة أن تقوم بواجبها في الدفاع عن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأين استنكارها لهذا الحدث الأليم؟ وأين اللقاءات والمقابلات والبرامج التي تستنكر وتبين وتدافع عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
إنني أدعو كل المحطات الإذاعية والتلفازية، وكل الصحف والمجلات، والمواقع الإلكترونية أن تقوم بواجبها، وأن تظهر سخطها وغضبها على ما حصل من تلك الصحيفة، ماذا يكلفها هذا الأمر؟ إنهم إن فعلوا ذلك كانوا هم الرابحين في الدنيا، إن كانت الدنيا همهم، ففي طرح الموضوع شهرة ورواج لهم، و هم من الرابحين في الآخرة إن كان هدفهم الدفاع عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وعلى عموم الناس أن يستنكروا هذا الأمر، ويخبروا به أولادهم وأهليهم، وأقرباءهم وذويهم، وأن تبدأ الحكومات والشعوب، والشركات والمؤسسات، والأفراد والجماعات كلهم جميعاً في مقاطعة كل المنتجات والشركات الدانمركية، فيمكننا أن نعيش من دونها، وكل ما أنتجوه مما هو في الأسواق له بديل أفضل منه، أو مثله أو أقل منه، وعلينا أن نستشعر أن مقاطعتنا لبضائعهم وشركاتهم وكل ما يفيدهم ما هو إلا حباً لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودفاعاً عنه وعن دينه وأمته.
ألا يهون علينا أن نترك بعض ما نشتهي حباً وإكراماً لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
هل لا بد أن نشرب حليب (النيدو) أو (أنكور) وليس غيره من أنواع الحليب؟
وهل لا بد أن نأكل زبدة (لورباك) وليس أي زبدة أخرى وطنية أو مستوردة؟
وهل حب هذه المنتجات أعظم عندنا من حب رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
لك أن توازن – أخي المسلم - بين حب هذه المرغوبات وبين حب رسول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وبعدها تقيس إيمانك وتقواك ومحبتك لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فترى أيها أمكن في نفسك؟ وأيها أغلى وأعظم عندك؟
لقد راجعت أسماء كل الأطعمة والمنتجات المستوردة من دولة الدنمرك فوجدت لكل منها بديلاً عنه، بل بدائل كثيرة متنوعة، وربما كان أكثرها خيراً منها، ومع ذلك فلا بد أن نصبر عن شيء مما نشتهيه إكراماً لمن ندّعي أنه عندنا أحب إلينا من أنفسنا ومن أهلينا ومن الناس أجمعين.(/2)
أن المقاطعة لمنتجاتهم من الحرية التي قالتها محكمتهم في أن الصحيفة حرة في نشر ما تراه، وكذلك نحن أحرار أيضاً في مقاطعة ما نشاء من البضائع والمنتجات والشركات والأعمال ...فالحرية مكفولة للجميع، ولكن:
هل نحن أحرار في سب أنبيائهم وملوكهم ورؤسائهم؟
الجواب: لا
ليس لنا أن نسب أنبياءهم ورسلهم؛ لأن الله تعالى أوجب علينا الإيمان بأنبيائهم ومحبتهم، بل جعله من تمام الإيمان بالله تعالى، وذلك أن جبريل لما سأل رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان قال له: "الْإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ" وموسى وعيسى من رسل الله وأنبيائه.
وليس لنا أيضاً أن نسب ملوكهم وكبارهم لأن الله تعالى يقول: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:108].
فنحن نربأ بهم أن يقولوا أو يقروا مثل هذا عن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي جاء بالإسلام، والسلام، ولقد كان أرحم الخلق بالخلق، وقد وصفه الله بذلك فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]. وكان من خلقه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدم السب أو الشتم، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه قَالَ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا لَعَّانًا وَلَا سَبَّابًا..."
وَكَانَ يَقُولُ: "إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا" فهل من حسن الخلق أن تسب وتشتم، أو أن تتهم غيرك بما ليس فيه؟
إن من حسن الخلق الذي أوصانا به نبينا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نحسن إلى من أساء إلينا، وأن نعفو عمن ظلمنا، ففي الحديث الصحيح عن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله تعالى عنه أنه قال له: "صِلْ مَنْ قَطَعَكَ وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ".
وإذا لم يكن لنا أن نسب أو أن نشتم من سبنا وشتمنا فليس لنا أيضاً أن نعتدي عليه، أو أن نظلمه أو نسلبه حقاً من حقوقه، بل أمرنا الله تعالى بالعدل والقسط حتى مع الأعداء، ونهانا عن الظلم والجور، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8].
فعلينا أن نلتزم بالحق والعدل، وأن لا يحملنا ظلم أولئك واعتداؤهم على نبينا أن نظلمهم أو أن نعتدي عليهم لا بالقول ولا بالفعل.
وأخيراً يمكننا أن نستثمر هذه القضية في صالح الإسلام والمسلمين، وذلك بالتعريف به، وإظهار محاسن رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفته ورحمته بالخلق، والتأكيد على أن دين الإسلام دين الرحمة والمحبة والسلام، ليس إرهاباً ولا عنفاً ولا تطرفاً، بل دين وسط واعتدال، لا يجبر أحداً على الدخول فيه، ولا يُظلم في ظله أحد أو يُعتدى عليه، بل يحكم فيه بالعدل والقسط حتى مع الأعداء.
وبعد هذا كله علينا أن لا نيأس من جدوى مقاطعتنا لبضائعهم ومنتجاتهم، سواء استجابوا لمطالبنا، وقدموا الصحيفة لمحاكمة عادلة، تنصفنا منهم وتلزمهم بالاعتذار إلى المسلمين كافة، أو لم يفعلوا، فيكفينا أننا انتصرنا لرسولنا، وتبرّأنا منهم ومن عملهم، ورددنا كيدهم في نحورهم، وقمنا بما يمكننا عمله، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
هذا ما تيسر ذكره في هذا المقام، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/3)
وساوس الشيطان و صريح الإيمان
السؤال :
كنتُ فيما مضى أقترفُ ذنوباً كمشاهدة الأفلام و غير ذلك ، ثمّ تبت إلى الله تعالى و الحمد لله ، و لكنّي تعرّضت بعد ذلك إلى وساوس شيطانيّة شركية و غير خُلُقية و أصبحت تسيطر علي تفكيري ، و تزداد عند الصلاة و قراة القران ، حيث يقع في نفسي أنّي فاسدُ النيّة ، و أن صلاتي ليست لله ، و أنني غير مسلم .
و أنا الآن أعيش في عزلة و أبكي باستمرار خوفاً من الله عز و جل و خشيةَ غضبه و عقابه ، حتى أنّي لم أعُد أنام الليل من شدّة التفكير ، فبماذا تنصحوني جزاكم الله خيراً ؟
الجواب :
لا تضجر أخي السائل ممّا تجد في نفسك فأنت بخير ، و لا تدَع الشيطان يقطع عليك الطريق بوساوسه فيصرفك عن عبادة الله و طاعته .
إذ إنّك لو لم تكُن من أهل الإسلام لما صلّيتَ أصلاً و لما قرأت القرآن .
و لما ندِمتَ على تفريطك في جنب الله و لا تبتَ من بعض المعاصي ، و منها مشاهدة الأفلام المحرّمة .
و لو لم تكن مؤمناً بالله تعالى و اليوم الآخر فلماذا تخاف من النار ، و لماذا تبكي من خشيته تعالى ؟ و هل الكافر يرجو رحمة الله أو يخاف عقابه ؟
إنّ من تلبيس إبليس على العبد أن يوسوس له فيشكّكه في نيّته ، ليصرفه عن طاعة الله تعالى ، و يوقعه في حبائل المعاصي و الآثام .
فإذا عَرض لك وسواس فأعرض عنه و استعذ بالله منه ، و امضِ في عِبادتك .
قال تعالى : ( وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [ الأعراف : 200 ، و فصّلت : 36 ] .
قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية : ( مَعْنَى " يَنْزَغَنَّكَ " : يُصِيبَنَّكَ وَ يَعْرِض لَك عِنْد الْغَضَب وَ سْوَسَة بِمَا لا يَحِلّ . " فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ " أَيْ : اُطْلُبْ النَّجَاة مِنْ ذَلِكَ بِاَللَّهِ . فَأَمَرَ تَعَالَى أَنْ يُدْفَع الْوَسْوَسَة بِالالْتِجَاءِ إِلَيْهِ وَ الاسْتِعَاذَة بِهِ ) .
و إن عَرض لك الشيطان بوساوسه أثناء الصلاة فاستعذ بالله منه و انفث ( اتفل بدون ريق ) عن شمالك ثلاثاً و أتمَّ صلاتك ، فقد روى مسلم في صحيحه و أحمد في مسنده أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلاَتِي وَقِرَاءَتِي يَلْبِسُهَا عَلَيَّ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزِبٌ فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ وَاتْفِلْ عَلَى يَسَارِكَ ثَلاَثاً » . قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّى .
و إن كانت الوساوس من باب التشكيك و إثارة التساؤلات المُريبة في نفسك ، فلا تأبه بها ، و لا تشغل نفسك بالبحث و التفكير فيها ، فقد ابتُلي بها قَبلَك أكمل الناس إيماناً بعد الأنبياء ، و ثبت ذلك فيما رواه مسلم و أبو داود و أحمد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ إِنَّا نَجِدُ فِى أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ . قَالَ : « وَ قَدْ وَجَدْتُمُوهُ ؟ » . قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ « ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ » وَ فِي روَايَةٍ أُخْرَى : ( سُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ عَنْ الْوَسْوَسَةِ ؟ فَقَالَ : ( تِلْكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ ) .
قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث : قوله صلى الله عليه وسلم : ( ذلك صريح الإيمان , و محض الإيمان ) معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان , فإن استعظام هذا و شدة الخوف منه و من النطق به فضلاً عن اعتقاده ؛ إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً ، و انتفت عنه الريبة والشكوك ... و قيل : معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيِسَ من إغوائه فيُنَكِّدُ عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه , و أما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء و لا يقتصر في حقه على الوسوسة ، بل يتلاعب به كيف أراد . فعلى هذا معنى الحديث : سببُ الوسوسة محضُ الإيمان , أو : الوسوسة علامةُ محض الإيمان . و هذا القول اختيار القاضي عياض .اهـ .
و روى مسلمٌ أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ ، حَتَّى يُقَالَ : خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ) ، و في رواية : ( يَأْتِي الشَّيْطَان أَحَدكُمْ فَيَقُول : مَنْ خَلَقَ كَذَا وَ كَذَا ؟ حَتَّى يَقُول لَهُ : مَنْ خَلَقَ رَبّك ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ) .(/1)
و لا يفوتنّك أخي المسلم أن الإكثار من ذكر الله ، و قراءة القرآن ، و المواظبة – خاصّةً – على أذكار اليوم و الليلة ، حتى يَصرف الله عنك ما يسوؤك ، و يطمئن قلبك ( ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب ) ، و بالله التوفيق(/2)
وسطية أهل السنة والجماعة
يتناول الدرس بيان فضيلة أهل السنة والجماعة وأنها الفرقة الناجية والمصطفاة من أهل الإسلام ويعرض بإيجاز لمصادر التلقي عند أهل السنة وعند مخالفيهم ،كذلك يبين وسطية أهل السنة بين الفرق ويعرض لما يميزها من خصائص مع نقد المخالفين لها في هذه الخصائص .
نحمد الله أن جعلنا جميعاً من أهل السنة، ففي ذلك اصطفاء لنا، وتكريم من الله لمن كان كذلك، ونحمده أن جمعنا لنتدارس خصائصهم ومناقبهم العظيمة التي ميزهم الله بها عن سائر أهل الإسلام. وكما قال تعالى: }وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [68] {سورة القصص . فإن الله قد اختار أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم والملل، يقول تعالى: } ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [32] {سورة فاطر . ويقول :} كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [110] { سورة آل عمران . ويقول تبارك وتعالى: } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [143] {سورة البقرة . فهذه الأمة أوتيت الكتاب واصطفيت، واختار الله من هذه الأمة المصطفاة: طائفة بعينها هي في هذه الأمة كأمة الإسلام بين أهل الأديان وسائر الملل، وهذه الفئة والطائفة هي:'أهل السنة والجماعة' ولهذه التسمية مدلولها، ففيها وبها يتميز المنهج والخاصية العظمى لأهل السنة والجماعة.
من خصائص أهل السنة والجماعة:
1 - يتمسكون بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: قولاً وعملاً ، واعتقاداً ظاهراً وباطناً، فلا يأخذون دينهم وإيمانهم من غير كتاب الله وسنة رسوله كائناً من كان ذلك المصدر، ولا يقدمون بين يدي الله ورسوله، ولا يرضون أن يرفع أحد صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بأن يحْدِث في هذا الدين أمراً مخالفاً لهدْيه، مجانباً لسنته.
وبضدها تتميز الأشياء فإذا قارنا بين هذا المنهج العظيم، وبين غيره من المناهج؛ فإن الفرق يبدو جلياً واضحاً، ولسنا في صدد تبيان تلك المناهج بالتفصيل، ولكن لو نظرنا نظرة إجمالية ، لوجدنا أن المناهج هي في الأصل ثلاثة :
المنهج الأول :الذي ينحى المنحى العقلي، الذي يدعي بزعمه العقل، وتحكيم العقل والمنطقية، والنظريات العقلية.
والمنهج الثاني:الذي يستمد من الكشف أو الذوق أو الوَجْد وما شابه ذلك، أي المعايير غير العقلية: معيار العاطفة أو الظن.
وبإيجاز نقول: أن الأول هو منحى أهل الكلام عموماً من معتزلة وأشعرية ومن جرى مجراهم، وهذا المنحنى يجعل الدين والإيمان والعقيدة: فكرة عقلية .
والمنهج المضاد، وهو الثاني: هو منهج أهل التصوف والتفهم بغير المشروع، وهؤلاء يجعلون الإيمان والعقيدة: تجربة روحية .
وميز الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة بالرجوع إلى الكتاب والسنة، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: }قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ [45] {سورة الأنبياء. فعرفوا للعقل قيمته ومنزلته، وعرفوا للحقائق والأذواق الإيمانية الحقَّة قيمتها ومنزلتها...ولا يوجد عند أهل السنة والجماعة تصور معارضة، أو تضاد بين العقل الصحيح وبين الوحي... ولا بين الذوق الإيماني الصحيح وبين الوحي، فضلاً عن أن يقولوا كما قال أولئك:عند التعارض يقدم العقل، أو يقدم الكشف، أو يقدم أي شيء غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل إن من أصول أهل السنة والجماعة: أن أقوال أئمة أهل السنة والجماعة ابتداءً من الصحابة الكرام، ومروراً بالتابعين، ثم بالأئمة الأربعة والسلف الصالح أجمعين أقوال هؤلاء- على الرغم من قدرهم وفضلهم - لا يمكن أن يعارض بها نص من الكتاب والسنة على الإطلاق، وبهذا تميز منهج أهل السنة والجماعة.
2 - قيام منهجهم على العلم:فهم في كل أمر، وفي كل حكم يطلبون الدليل من الكتاب والسنة، ولهذا نجد أن علماء أهل السنة والجماعة:أكثر طوائف الأمة حرصاً على السنة وتدويناً لها وحفظاً ، وإن وجد من غيرهم من يهتم بها، فهو لخدمة هوى في نفسه، أو ليخلط حقاًّ بباطل، ولا يخلوا من ذلك... أما أهل السنة والجماعة: فيهتمون بكتاب الله عز وجل حفظاً وتلاوةً، ويهتمون بسنة النبي حفظاً وفهماً، وكذلك تصحيحاً وتضعيفاً... فالحديث الضعيف فضلاً عن الموضوع لا يعتد به، ولا يعمل به، فضلاً عن الكشوفات أو الآراء أو المنامات التي يعتمد عليها غيرهم.
فهم إذا: يتميزون بالبصيرة وبالمنهج الصحيح، وهو منهج العلم المتلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بواسطة الرجال الثقات الذين لم تشهد أمة من الأمم على الإطلاق مثلهم في الحصر والضبط والدقة والفهم والاستنباط.(/1)
3 - أنهم وسط: وكما أن هذه الأمة - أي أهل القبلة عموماً - جعلها الله تبارك وتعالى أمة وسطاً ، فأهل السنة هم وسط أهل هذه الأمة وخيارها، وهم أصحاب المنهج الوسط في هذه الأمة، وهذه الوسطية تتجلى في أمور الإيمان والعقيدة جميعاً، ونوجز ذلك بما يتضح به هذا المنهج القويم:
1] فهم وسط في صفات الله تبارك وتعالى : وقد ضلت طوائف في هذا الباب: فمنهم من أثبت وغلا في الإثبات؛ حتى مثَّل الله تبارك وتعالى بخلقه، وهؤلاء هم أهل التمثيل أو التشبيه، وهؤلاء سماهم السلف: عبَّاد صنم؛ لأنهم جعلوا صفات الله تبارك وتعالى مماثلة لصفات المخلوقين!! وفي المقابل: نجد أولئك الذين نفوا صفات الله ، وغلوا بالتنزيه - بزعمهم - حتى لم يثبتوا لله شيئاً من صفاته، أو أنكروا بعضاً منها، وهؤلاء كما قال السلف: المعطل عابد عدم!!
أما أهل السنة فهم وسط، فمثلاً في صفة العلو: يعتقدون أن الله تبارك وتعالى على العرش استوى، وأنه فوق جميع المخلوقات...أما هؤلاء المُمَثِّلة، فيقولون:استوى كالمخلوقين !!
وأولئك المعطلة يقولون:لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا شماله !!
فأهل السنة وسط، يثبتون لله تبارك وتعالى كل ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات إثباتاً لا تمثيل فيه، وينفون عن الله سبحانه وتعالى ما لا يليق به نفياً لا تعطيل فيه، من غير تحريف ومن غير تكييف...وهذا هو المنهج السليم الصحيح الذي كان عليه أهل السنة والجماعة جميعاً.
2 ]وهم وسط في باب الإيمان والأحكام والأسماء : فبعض طوائف الأمة: قد غلت؛ حتى كفَّرت من يرتكب ذنباً من الذنوب دون الكفر أو الشرك، فأخرجته من الملة، أو حكمت عليه بالخلود في النار...
ونجد في المقابل:من استهان وفرَّط في الأمر؛ حتى جعل أهل المعاصي والكبائر والفجور: مؤمنين كاملي الإيمان.
فالخوارج يقولون: أن مرتكب الكبيرة كافر.
والمعتزلة يقولون:هو في منزلة بين الإيمان والكفر، فغلوا في ذلك، وضلوا ... وأما المرجئة: فإنهم قالوا: من قال لا إله إلا الله، وشهد لله تعالى بالوحدانية، وأقر لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ فإنه مؤمن كامل الإيمان... وإن عمل ما عمل، وأنكروا أن الإيمان يزيد وينقص ... وكلا هذين الطرفين خارج عن الصراط المستقيم، فممَّا هو معلوم: أن الله تبارك وتعالى فرَّق في الحكم بين من يشرك به، وبين من يرتكب شيئاً من هذه المعاصي، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والأدلة كثيرة لا تحصى... وهو صلى الله عليه وسلم رجم الزاني، وقطع يد السارق، وجلد شارب الخمر، فلو كانت هذه الذنوب ردةً وكفراً كالكفر الأكبر المخرج من الملة؛ لكان حكمها واحد ولا تفريق بينها ، وأيضاً نقول للمرجئة: لو كان العاصي والفاجر كامل الإيمان؛ فما معنى تلك الآيات العظيمة التي جاءت في صفات المؤمنين، وفي بيان أحوالهم وما يتميزون به عن غيرهم، وتلك الآيات الصريحة القطعية من كتاب الله تعالى في بيان أن الإيمان يزيد وينقص، وما جاء أيضاً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ووفق الله تبارك وتعالى أهل السنة، فكانوا الأمة الوسط بين هؤلاء وهؤلاء.
3] وهم وسط في باب القدر: الذي ضلت فيه العقول والأفهام التي ابتعدت عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم :
فإن القدرية نفوا القدر ولم يثبتوه و غلوا في تحميل العبد للمسئولية عند فعل المعصية، فقالوا:العبد مسئول عما يفعل من المعاصي، وغلوا في ذلك حتى قالوا: أن الله تعالى لم يقدِّر عليه هذه المعاصي، ولم يخلقها، ثم غلوا حتى جعلوا جميع أفعال العبد هو الذي يستأنفها من عند نفسه، والله تبارك وتعالى لم يكتبها عليه، ولم يقدرها عليه، وغلا بعضهم، فقال: لا يعلم الله بها إلا بعد وقوعها... تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فقابلتهم الجبرية، وقالوا: لا حيلة للعبد، ولا إرادة له، ولا اختيار، وغلوا في إثبات القدر، حتى آل بهم الأمر إلى أن جعلوا الإنسان كالريشة في مهب الريح، لا إرادة له ولا اختياراً ، فكل الأمور بالقدر حتى إذا فعلوا المعاصي، وانتهكوا حرمات الله قالوا:هذا بقدر الله، وليس لنا بذلك أي ذنب، وهؤلاء في ضلال مبين.(/2)
ووفق الله تبارك وتعالى أهل السنة والجماعة، فاتبعوا صريح القرآن والسنة، فأثبتوا أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لأفعال العباد كما هو الخالق للعباد: }وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [96] {سورة الصافات . وفي الوقت نفسه: أثبتوا أن العبد هو الفاعل، فالعبد هو الذي يفعل أفعاله كما هو في كتاب الله سبحانه وتعالى }فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [7] وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [8] {سورة الزلزلة . فالعبد هو الفاعل ، والله تعالى هو الخالق ، وفعل العبد بمقتضى مشيئة، وإرادة خلقها الله تعالى فيه ، وأعطاه إياهاكما قال تعالى: }وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ[29] {سورة التكوير . فالمشيئة التي تنفذ وتتحقق هي مشيئة الله تبارك وتعالى، والعبد مع أن له مشيئة يتصرف بها، ويكون مسئولاً عما تمليه عليه من الأعمال، إلا أن هذه المشيئة لا تكون إلا بعد مشيئة الله، وكل ذلك في علمه تبارك وتعالى كما صرح في القرآن والسنة، فأهل السنة والجماعة لا يردون آيةً ولا حديثاً في القدر بحجة أنه يؤدي إلى الجبر، أو يؤدي إلى نفي مسئولية العبد، ويؤمنون بالجميع...وأما أولئك، فإنهم لابد و أن يردوا..!!!
فالقدرية النفاة: يردون كل حديث أو آية تدل على إثبات القدر؛ لأن ذلك في بدعتهم يدل على الجبر ، كقوله تعالى: }وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى [17] {سورة الأنفال. وكحديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام، عندما تحاجا فَقَالَ مُوسَى يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنْ الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي وابن ماجه ومالك وأحمد ...وكذلك حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الذي يقول في أوله: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَجَلُهُ وَرِزْقُهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ] رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه وأحمد. فأيضا أنكروا هذا الحديث، وأنكروا كثيراً من الأحاديث رغم ثبوتها وصحتها؛ لأنها بزعمهم تفضي إلى الجبر.
كذلك أولئك:أنكروا كل ما يدل على استقلال العبد بفعله، وأنه هو الذي يفعل، وبذلك أنكروا كل ظواهر القرآن وصريحه في أن العبد هو الذي يعمل، كقوله تعالى:}فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى [5] وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [6] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [7] وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى [8] وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [9] فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى{ سورة الليل.فأنكروا أن العبد هو الذي يعطي أو يصدق، أو يكذب أو يبخل، وجعلوا الفعل كله لله...المقصود أن الله وفَّق أهل السنة والجماعة، فآمنوا بكل الآيات و الأحاديث، وكانوا وسطاً بين القدرية والجبرية.(/3)
4] وهم وسط في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فالرافضة: يلعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل يكفرونهم إلا نفراً يسيراً معدودين، يقولون: أنهم علي وأصحابه الذين والوه. والخوارج: بالمقابل يكفرون علي بن أبي طالب، وعثمان رضي الله تعالى عنهما، ويكفرون من والاهما... أما أهل السنة والجماعة، فوفقهم الله، فكانوا على الطريق القويم والوسط، لا مع هؤلاء، ولا مع هؤلاء، فهم يوالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً، ويترضون عنهم جميعاً ، ولا يكفرون أحداً منهم، وإنما يؤمنون ويقرون بما أثبته الله من فضلهم ومن الكرامة والسابقة والإحسان ، ويؤمنون بأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة... ولا يذموهم كما فعلت الرافضة... ولا يكفروهم أو يكفرون بعضاً منهم، كما فعلت الخوارج... وأيضاً لا يغلون في حب أحد منهم، حتى الصدِّيق- وهو أجلهم جميعاً - لا يبالغون فيه ولا يرفعونه فوق درجته الحقيقية، كما فعلت الرافضة حين رفعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى درجة الألوهية، فجعلوه إلهاً من دون الله، وبعضهم جعله في منزلة النبوة، نسأل الله العفو والعافية.
وكذلك يحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ويوالونهم، ولا يعظمونهم ويخرجوهم من منزلتهم التي هم عليها حقاً...ولا يرضون لما نالهم من الأذى، ولا يؤذونهم، بل يحبونهم المحبة الشرعية التي جعلها الله تبارك وتعالى لسائر المؤمنين وزيادة لقرابتهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
5]وهم وسط في حياتهم العملية، ويدخلون في الإسلام كله ويجمعون الدين كله: فمن أهل السنة والجماعة من كان يلي القضاء، ومن كان يلي بعض المناصب، ومن كان ذا مال وسعة وفضل، وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الكاملة، فقد كان فيهم أهل الثراء والغنى ، كما كان فيهم أيضاً أهل الفاقة والفقر، أهل الصبر والزهد، وكان فيهم أهل العبادة والذكر، كما كان فيهم أهل الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...و أما مَنْ بعدهم، فحصل عندهم الاضطراب في ذلك: فبعضهم مال إلى الدنيا وركن إليها ولم يتحرز في قبول أي ولاية، أو منصب، فتوسعوا في ذلك توسعاً أخرجهم عما كان عليه السلف ...ومنهم طائفة مالت إلى العكس، فأخذوا بالزهد وتركوا متاع الحياة الدنيا، حتى أنهم حرموا الطيبات، أو نظروا إلى من يأخذ شيئاً من الطيبات بأنه خارج عن الصواب، وعن إصابة الحق... وتوسط أهل السنة والجماعة فكانوا كما قال الله: } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً [208] { سورة البقرة أي: ادخلوا في الدين كله، فكانوا بذلك أمة واحدة، مجتمعة على الحق والهدى، فحققوا عبادة الله تبارك وتعالى، والتي لا تتحقق إلا بأن يكون له سبحانه كمال الحب والخضوع، وأن يخاف و يرجى، فهذه هي العبودية الحقة، كما قال تعالى: } إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [90] { سورة الأنبياء وكما ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ:كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] رواه البخاري ومسلم وأبوداود وأحمد . فهذا كان شأنهم، أما غيرهم فإنهم أخذوا جزءاً من الدين، وتركوا الباقي. فأهل السنة والجماعة:جامعون بين الخوف والرجاء، والمحبة والخضوع، وهذه هي العبودية الحقة، والتألُّه الصحيح لله تبارك وتعالى، وظهر أثر الإيمان الحقيقي والصدق في العبودية في نصر الله لأهل السنة، وفي تأييده إياهم، وفي ذلك تصديق قول النبي صلى الله عليه وسلم لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ]رواه مسلم والترمذي وأبوداود وابن ماجه وأحمد. وامتن الله تبارك وتعالى عليهم بأنهم باقون متصلون غير منقطعين إلى أن يأتي أمر الله- وهو الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين قبيل قيام الساعة، فلا يبقى إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة- فهذا الظهور للحجة والبرهان، يصحبه إظهار الله تبارك وتعالى لهم بالنصر والتأييد والتوفيق .(/4)
4] أنهم موعودون بالنجاة من عذاب الله يوم القيامة:وهذا من خصائص أهل السنة والجماعة، التي لا يشاركهم فيها غيرهم، وذلك مبني على أنهم هم الطائفة المهتدية التي ثبتت على الصراط المستقيم في هذه الحياة الدنيا، وأن غيرهم متوعد بالهلاك، والعقوبة في الآخرة، ولا يعني ذلك أن كل فرد من أهل السنة والجماعة هو ممن يدخل الجنة ابتداءً، كما لا يعني ذلك أن كل فرد من غير أهل السنة والجماعة لا يدخل الجنة انتهاءً، أو لا يدخلها ابتداء، ولكن من حيث الجملة أهل السنة موعودون بالنجاة، وأهل البدع متوعدون بالهلاك... وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ قَالَ الْجَمَاعَةُ] رواه ابن ماجه. فهذا الوعيد لأهل الفرق، الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، الذين خالفوا وصية الله:}وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِه ِلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [153] { سورة الأنعام . فهؤلاء الذين خالفوا هذه الأوامر وأمثالها، يشملهم الوعيد، فهم من الثنتين والسبعين، المتوعدين بالنار... ومن حيث الجملة: فما من خير ولا خصلة عند غير أهل السنة والجماعة، إلا ولأهل السنة والجماعة من ذلك النصيب الأوفر والكمال في هذه الصفة، وفي هذه الخصلة... وأيضاً سيئات بعض أفراد أهل السنة والجماعة، يوجد عند أهل البدع مثلها، وأكبر منها.
5]ومن أعظم خصائصهم: أنهم منتسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: فلو سألت أي طائفة من الطوائف إلى من تنتسبون ومن أول من أظهر أو أنشأ عقيدتكم، لأخبروك، إلاّ أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون: هذا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ ولهذا لا يقال لهم: أول من أوجد مذهبهم، أو أسسه فلان ... ونكتفي بهذه الميزات وهي ليست كل خصائص أهل السنة والجماعة، وإنما هي بعض منها، ذكرناها في إيجاز وبتركيز شديدين، والعبرة العظمى التي تهمنا نحن المسلمين هي أن نؤمن بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على منهج السلف الصالح، أهل السنة والجماعة، ونتمسك بذلك قولاً، وعملاً، ونعض عليه بالنواجذ، ونعلم أنه لا نجاة للمسلمين، ولا خير، ولا فلاح في الدنيا ولا في الآخرة إلا بأن يكونوا على هذا المنهج السليم القويم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم منهم إنه سميع مجيب.
من محاضرة: وسطية أهل السنة والجماعة للشيخ/سفر الحوالي(/5)
وسطيّة القرآن في العقيدة (3/10)
د. علي محمد الصلابي 24/5/1426
01/07/2005
العقيدة لغة: (من العقد، وهو الربط والشدّ بقوة، منه الإحكام والإبرام، والتماسك والرصانة والإثبات والتوثق (1))
العقيدة في الاصطلاح: كلمة العقيدة لم تكن موجودة في الكتاب والسنة، ولا في أمهات المعاجم، وإن أول من تم الوقوف على ذكره لجمعها (عقائد) هو القشري (2) سنه 437 هـ في كتابه (الرسالة)، وهي كلمة مولدة لم تكن في الصدر الأول (3) وقد عرّفها الدكتور ناصر العقل (4) فقال: (الإيمان الجازم بالله وما يجب له في ألوهيّته وربوبيّته وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره، وشره، وبكل ما جاءت به النصوص الصحيحة في أصول الدين وأمور الغيب وأخباره، وما أجمع عليه السلف الصالح والتسليم لله تعالى في الحكم والأمر والقدر والشرع ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبالطاعة والتحكيم والاتباع) (5) يشمل التوحيد، الإيمان، والإسلام، والغييبات، والنبوات، والقدر، والأخبار، وأصول الأحكام القطعيّة، وسائر أصول الدين، والاعتقاد، ويتبعه الردّ على أهل الأهواء والبدع وسائر الملل والنحل والمذاهب الضّالة، والموقف منهم ومن مسمّيات هذا العلم، العقيدة، التوحيد، والسنة، وأصول الدين.
والعقيدة في الإسلام تقابل الشريعة؛ إذ الإسلام عقيدة وشريعة تعني التكاليف العملية التي جاءت في القرآن والسنة النبوية في العبادات والمعاملات، والعقيدة هي أمور علميّة يجب على المسلم أن يؤمن بها؛ لأن الله أخبرنا بها بطريق كتابه، أو بطريق وحيه إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأصول العقائد التي أمرنا الله باعتقادها هي التي حددها الرسول – صلى الله عليه وسلم – في حديث جبريل المشهور بقوله : ( الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى) (6) فالعقيدة في ديننا هي التي تدور حول قضايا معينة، هي التي أخبرنا بها الله ورسوله، وليست اعتقاد أي شيء وحتى تصبح هذه عقيدة لابد أن تصدق بها تصديقاً جازماً لا ريب فيه. فإن كان فيها ريب أو شك كانت ظناً لا عقيدة (7)والدليل على ذلك قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا...)(8) وقوله تعالى : (ألم ذلك الكتاب لاريب فيه) (9) وقال ( ...إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه... ) (10) وذم المشركين المرتابين (... وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) (11) . والمسائل التي يجب اعتقادها أمور غيبية، ليست مشاهدة منظورة، وهي التي عناها الله بقوله عندما مدح المؤمنين (يؤمنون بالغيب) (12) فالله غيب، وكذلك الملائكة واليوم الآخر، أما الكتب والرسل فقد يتبادر أنها تشاهد وتنظر، لكن المراد هو الإيمان يستبقها إلى الله أي كون الرسل مبعوثين من عند الله، وأن الكتب منزلة من عند الله ، وهذا أمر غيبي.
|1|2|3|
--------------------------------------------------------------------------------
1- انظر لسان العرب مادة (عقد) فصل (العين المهملة) ( ج3 /295)
2- هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشري صاحب الرسالة والتفسير وغيرهما صحب أبا علي الدقاق وغيره، وأخذ الفقه فأتقنه، ثم الأصول على ابن فورك والأستاذ أبي إسحاق ولد سنة 377 هـ وتوفي سنة: 465هـ انظر: تاريخ بغداد ( ج11/ 83) ترجمته رقم :5763
3- انظر معجم المنتهي اللفظية للشيخ بكر أبو زيد ص242
4- هو ناصر عبد الكريم العقل من علماء العقائد بنجد تحصل على درجة الدكتوراه – وأشرف على رسائل علمية في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن مسعود .
5- مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة ص(9)
6- مسلم ، كتاب الإيمان ، باب الإيمان بالقدر ( ج1 /38) رقم (8)
7- انظر : العقيدة في الله لعمر الأشقر (ص10،9)
8- سورة الحجرات ( آية : 15
9- سورة البقرة ، آية 2،1
10- سورة آل عمران آية 9
11-سورة التوبة ، آية 45
12- سورة البقرة ، آية 3(/1)
وسطيّة القرآن في باب توحيد الله وأسمائه وصفاته (6/10)
د. علي محمد الصلابي 16/6/1426
22/07/2005
إن المتأمل في كتاب الله تبارك وتعالى وما جاء فيه عن دعوات الرسل، وما أُنزل عليهم من الكتب ليخرج بحقيقة واحدة، اتفق عليها جميع الرسل، وأُنزلت بها جميع الكتب السماوية. وهذه الحقيقة هي: الدعوة إلى توحيد الله وعبادته دون سواه. فهي أُسّ الرسالات وعمودها الفقري، وهي القاسم المشترك بينها. وإن اختلفت بعد ذلك الشرائع والمناهج؛ فما من نبي أرسل ولا كتاب أنزل إلا وكان أول ما يدعو إليه هو توحيد الله تبارك وتعالى.
يقول الله -عز وجل- في تقرير هذه الحقيقة: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين )(1)
وفي آية أخرى يقول:(وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)(2) وإذا استعرضنا القرآن الكريم في حديثه عن رسل الله عليهم الصلاة والسلام نجد أن كل رسول قال لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (3) ابتداء من أولهم نوح عليه السلام، وانتهاء بخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام دينهم واحد ، وهو الإسلام ، وشرائعهم مختلفة كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد"(4) قال الحافظ ابن حجر: ومعنى الحديث: أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع. وقيل المراد إن أزمنتهم مختلفة) (5)
وقال الحافظ ابن كثير في معنى الحديث: "أي: القدر المشترك بينهم وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومنابعهم )(6) لقوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) (7)
وكل الأنبياء أخبروا بأنهم مسلمون ودعوا قومهم للإسلام؛ لأنه الدين الحق الذي لا يقبل الله غيره (إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب)((8)
(ومن يتبغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (9) وهذا يدل على أن دين جميع الانبياء واحد، هو الإسلام ودعوتهم واحدة، وهي الدعوة لتوحيد الله -عز وجل- وإفراده بالعبادة، على هذا مضى رسل الله والمسلمون من أممهم، ولكن أقوامهم غيّروا وبدّلوا بعدهم، وحرفوا وأدخلوا في دين الله ما لم يأذن به الله، وشمل التحريف والتبديل أساس دعوة الرسل، وهو التوحيد. وما يتعلق بذات الله -عز وجل- من الأسماء والصفات فتفرقت الأمم في ذلك ما بين مفرّط ، ومُفْرط ، وغالٍ ومقصّر؛ لإعراضهم عن هدي المرسلين واتباعهم غير سبيل المؤمنين، ومن أعظم الأمم اختلافاً وضلالاً في هذا الباب، أمتي اليهود والنصارى، واليهود غلب عليهم التقصير والتفريط والجفاء، وإن كان لديهم غلو وإفراط، والنصارى غلب عليهم الغلو والإفراط، وإن كان وقع منهم تفريط وتقصير في جوانب.
والمسلمون اتبعوا الرسل، فهُدوا لأقوم السُّبل ، فكان قولهم هدى بين ضلالتين، وحقاً بين باطلين، فهو كاللبن سائغ يخرج من بين فرث ودم, وإليك البيان فيما ذهبت إليه كل من هذه الأمم الثلاث في هذا الباب (10)
موقف أمة اليهود
عرفنا مما تقدم أن أمة يهود أمة غلب عليها طابع التفريط ، والتقصير في هذا الباب، بل هو الغالب عليهم في أكثر الأبواب.
ولعل من أبرز مظاهر تفريطهم وتقصيرهم في هذا الباب أمرين.
الأول: اتخاذهم الأنداد لله -عز وجل- وعبادة الأصنام.
الثاني: إغراقهم في تشبيه الخالق بالمخلوق، ووصف الله -عز وجل- بالنقائص التي لا تليق إلا بالمخلوق. فأما الأمر الأول: وهو اتخاذهم الأنداد وعبادة الأصنام؛ فإن القوم لما أنقذهم الله من عدوهم فرعون وجنوده، وجاوز بهم البحر مع موسى عليه السلام، وأغرق عدوهم على مشهد منهم، ومروا على قوم يعكفون على أصنام لهم. مالت نفوسهم إلى الوثنية، وطالبوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم مثلها: يقول الله -عز وجل- في ذلك: (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) (11) ثم بيّن لهم موسى -عليه السلام- ضلال أولئك وبطلان عملهم، وأن الإله الحق هو الله الذي فضلهم على العالمين فقال: (إن هؤلاء متبّر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعلمون. قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين)(12) اتخاذهم العجل في زمن موسى:
لم يلق نصح موسى عليه السلام وتذكيره ووعظه من القوم قلباً واعياً أو أذناً صاغية، فما أن تركهم عليه السلام وذهب إلى ربه يناجيه، حتى اتخذوا العجل من بعده إلهاً من دون الله قال تعالى: (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً اتخذوه وكانوا ظالمين) (13)(/1)
(وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون )(14) ثم بين تعالى من تولى كبر إضلالهم وصناعة العجل لهم فقال:( فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري) إلى قوله : ( فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي)(15)
فبين تعالى أن الذي عمل لهم العجل هو السامري. ومن العجيب أن كتاب العهد القديم ينسب هذا العمل الشنيع إلى هارون عليه السلام كما جاء في ( سفر الخروج ) (16) ولقد تكرر من القوم، اتخاذ الأصنام وعبادتها بعد موسى عليه السلام.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأهل الكتاب معترفون بأن اليهود عبدوا الأصنام مرات .... (17) وفي كتاب العهد القديم، إشارات كثيرة لعبادتهم الأوثان والأصنام، من ذلك:
1) ما جاء في (سفر الملوك الثاني) عن عودتهم لعبادة العجل في عهد رحبعام (18) . يقول السفر : " ...... وعمل عجلي ذهب وقال لهم : كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم هوذا ألهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر ووضع واحداً في بيت أيل، وجعل الآخر في دان) (19)
2) عبادتهم الأفعى وبعض التماثيل
يذكر (سفر الملوك الثاني) عن الملك خرقيال أنه: (أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاسي التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها ....... ) (20)
على أن موسى عليه السلام لم يعمل تمثالاً نحاسياً للحية، وإنما كانت عصاه تنقلب إلى حية تسعى معجزة له ثم تعود سيرتها الأولى بعد ذلك عصا يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، ولكن لعل بني إسرائيل عملوا ذلك ونسبوه إلى موسى -عليه السلام- لتروج عند الناس، ويعظموها ويعبدوها.
وأما الأمر الثاني: هو قولهم بالتشبية ووصف الخالق بصفات المخلوق:
وهذا أمر مشهور عنهم، حتى عده الشهرستاني (21) من طباعهم الملازمة لهم، فإن القوم أسرفوا في تشبيه الله -عز وجل- بالمخلوق، ووصفوه -جل وعلا- بالنقائص التي تختص بالمخلوق، ولقد سجل عليهم القرآن الكريم صوراً من ذلك. وكتابهم الذي بين أيديهم ينضح بالكثير من ذلك. ونحن نذكر فيما يلي نماذج من أقوالهم التي شبهوا فيها الخالق -عز وجل- بخلقه.
1) فمن ذلك: (وصفهم الله بالفقر) وهو وصف لا يليق بخالق البشر، ولكن القوم لا عقول ولا حياء عندهم، قال تعالى (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) (22)
2) ومن ذلك : (وصفهم له بأن يده مغلولة) قال عز وجل ذاكراً قولهم هذا: (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) (23)
3) وصفوه بأنه :(يحزن ، ويندم على أفعاله) . تعالى عن ذلك علواً كبيراً يصفه (سفر التكوين) بذلك فيقول: (ورأى الرب أن بشر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصور أفكار قلبه، إنما هو شرير كل يوم فحزن الرب أنه عمل الإنسان الذي خلقه، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم) (24)
4) ووصفوه: (بالتعب والاستراحة) تعالى عن ذلك.
جاء في (سفر الخروج): أذكر يوم السبت لتقديسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك، لا تصنع عملاً أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأن في ستة أيام صنع الرب الأرض والسماء والبحر وكل ما فيها (25) واستراح اليوم السابع لذلك بارك الرب اليوم السابع وقدسه...)
وفى (سفر التكوين) : (فأكملت السموات والأرض وكل جندها وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمله فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمله) (26)
وقالو: (بأنه إنسان وصارع يعقوب عليه السلام إلى الفجر) ففي (سفر التكوين) : (فبقي يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا قدرة عليه ضرب فخذه فأنخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال : أطلقني؛ لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني فقال له: ما اسمك؟ فقال يعقوب: وقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت ... فدعا يعقوب اسم المكان فينئيل قائلاً: لأني نظرت الله وجهاً لوجه ونجيت نفسي) (27)
6- وصفوه بما يفيد أنه (لا يعلم الغيب ويحتاج علامات يميز بها بنى إسرائيل من غيرهم، فوضع الدم علامة على بيوت بني إسرائيل ليميزها عن بيوت المصريين حتى لا يهلكهم ).
ففي (سفر الخروج): (إن الرب كلم موسى -عليه السلام- وقال له فيما قال: فإني اجتاز في أرض مصر هذه الليلة، وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم، وأضع أحكاماً بكل ألهة المصريين أنا الرب، ويكون لكم الدم علامة على البيت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم فلا يكون عليكم ضربه للهلاك حين أضرب أرض مصر) ( (28)(/2)
7) أنهم: جعلوا له أبناء كما أن للمخلوق أبناء جاء في (سفر التكوين): (وحدث لما ابتدأ الناس يكثرون على الأرض، وولد لهم بنات أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا) (29)
وحكى الله -عز وجل- عنهم أنهم جعلوا له ابناً فقال: (وقالت اليهود عزيز ابن الله .......) (30)
ثانياً :- موقف النصارى
لقد ضلت أمة النصارى في هذا الباب ضلالاً بعيداً، ولعل أمة من الأمم لم تضل في دينها وربها وإلهها كما ضل الذين قالوا إنا نصارى. ولا عجب فالضلالة صفتهم المميزة لهم، كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضُلاّل ) (31) قال ذلك في تفسير قول الله -عز وجل- (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)(32) ولعل من أعظم ضلالهم في باب توحيد الله وصفاته أنهم:
1) شبهوا المخلوق بالخالق:
وأضفوا عليه من الصفات والخصائص مالا يليق إلا بالله عز وجل، ولا يصلح إلا له سبحانه. فوصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به، فقالوا: (إنه يخلق ويرزق و يغفر ويرحم الخلق ويثيب ويعاقب) (33) إلى غير ذلك من خصائص الربوبية و خصائص الألوهية التي لا تكون إلا لله سبحانه، وذلك أن هذه الأمة الضالة، جعلت المسيح -عليه السلام هو الله ، كما ذكر الله عز وجل قولهم هذا وكفَرهم به فقال : (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ....) (34)
وتارة جعلوه ابناً لله، سبحانه وتعالى عما يقول المبطلون، وعن قولهم هذا يقول الحق تبارك وتعالى: (وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) (35)
وقالوا تارة أخرى: إنه شريك لله وجزء من ثلاثة يتكون منها الإله كما ذكر الله قولهم هذا وكفرهم به أيضاً فقال: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب اليم) (36)
فألّهوا المسيح عليه السلام وجعلوه شريكاً لله، وعبدوه من دونه ، بل وصفوه بأخص صفات الألوهية والربوبية من الخلق والرزق والأحياء، والإماتة، وبذلك فارقوا عباد الأصنام والأوثان الذين قالوا في معبوداتهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (37) ، ولم يضيفوا إليها شيئاً من خصائص الربوبية كالخلق والرزق ونحو ذلك، بل أقروا بكل ذلك لله وحده كما قال -عز وجل-: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) (38)
(ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون) (39) (ولئن سألتهم مَن نزل مِن السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولُنّ الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) )(40) (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل – الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) (41)
أما هؤلاء فلئن سألتهم عن شيء من ذلك ليقولُن المسيح ، فهو عندهم الإله الخالق المحي المميت، باعث الرسل، ومنزل الكتب، حكى الإمام ابن القيم عنهم أنهم قالوا:" وليس المسيح عن طوائفنا الثلاثة (هكذا) بنبي ولا عبد صالح ، بل هو رب الأنبياء وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم، ومؤيدهم ورب الملائكة" (42)
وفي قرارهم الذي قرروه في (مجمع نيقية) (43) الذي عقدوه سنة 325م وسموه بـ (الأمانة) ونصّوا فيه على ألوهية المسيح عليه السلام، صرّحوا بأنه هو الذي سينزل للقضاء بين الناس يوم القيامة لمحاسبتهم ومجازاتهم فقالوا: "وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء" ((44) يقول أحد قساوستهم في رسالة إلى أبي عبيدة الخز رجي (45)، مصرحاً بألوهية المسيح، وأنه خالق السماوات والأرض: "أما بعد حمد الله الذي هدانا لدينه، وأيّدنا بيمينه، وخصّنا بابنه ومحبوبة، ومدّ علينا رحمته بصلبه المسيح إلهنا، الذي خلق السماوات والأرض، وما بينهن، والذي أمدّنا بدمه المقدس، ومن عذاب جهنم وقانا ......." (46) وقال مخاطباً أبا عبيدة داعياً إياه للإيمان بألوهية المسيح الخالق: "وما عقائدكم كلها إلا حسنة، وكان عندكم عدل كثير في أصل دينكم، وخير شامل، فهل آمنتم بالمسيح وقلتم : " إنه هو الله خالق السماوات والأرض لكمل إيمانكم" (47) وهكذا نرى النصارى يصفون المسيح عليه السلام بصفات الربوبية المختصة برب العالمين عز وجل ، وهذا أمر انفردوا به من بين العالمين.(/3)
ولم يقتصر الأمر على المسيح عليه السلام، بل جعلوا لغيره من الخلق بعض صفات الله تبارك وتعالى. فجعلوا مريم -عليها السلام- آلهة؛ لأنها أم الله بزعمهم، ووصفوها بالجلوس على العرش مع الله عز وجل، وسألوها ما لا يُسأل إلا من الله عز وجل، يقول الإمام ابن القيم: "وأما قولهم في مريم! فإنهم يقولون: إنها أم المسيح ابن الله ووالدته في الحقيقة ... وإنها على العرش جالسة عن يسار الرب تبارك وتعالى والد ابنها، وابنها عن يمينه. قال: والنصارى يدعونها، ويسألونها سعة الرزق وصحة البدن وطول العمر ومغفرة الذنوب" (48) وهذه الأمور لا يملكها إلا الله -عز وجل- ولا يُسألها إلا هو سبحانه. ولقد أشار القرآن الكريم إلى قول النصارى بألوهية مريم في قوله تبارك وتعالى مخاطباً عيسى عليه السلام: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب)(49)
بل خصوا كنائسهم وبابواتهم ومطارنتهم ببعض خصائص الله -عز وجل- كمغفرة الذنوب ودخول الجنة والحرمان منها؛ ففي المجمع الثاني عشر من مجامعهم المعقود في سنة 1215/ قرروا: (أن الكنيسة البابوية تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء) (50) وبناء على هذا القرار قامت الكنيسة بإصدار ما يُسمّى( صكوك الغفران).
يقول أحد قسسهم في هذا: (وقد جعل الله في أيدي المطارين ما لم يجعله في يد أحد، وذلك أن كل ما يفعلون في الأرض يفعله الله في السماء، فإذا أذنبنا فهم الذين يقبلون التوابات ويعفون عن السيئات بأيديهم صلاح الأحياء والأموات (51) ماذا أبقوا لله عز وجل؟
2) ومن ضلالهم في هذا الباب أيضاً أنهم نسبوا إلى الخالق -عز وجل- وتنقّصوه، وذلك من وجهين:
الأول :- قولهم: إنه اتخذ ولداً. حيث قالوا: إن المسيح ابن الله، كما قال تعالى: (وقالت النصارى المسيح ابن الله) (52)
وقد نزه الله -عز وجل- نفسه عن اتخاذ الصاحبة والولد فقال: (وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون) (53)
وقال سبحانه: (وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) ((54) ، فأنكر قولهم، ونزه نفسه عن أن يكون له ولد وبيّن سبحانه في آية أخرى أن الولد لا يكون إلا من صاحبة، وهو سبحانه لا صاحبة له. فقال عز وجل: (بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ) (55)
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ( أي: كيف يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة؟ أي: الولد إنما يكون متولداً عن شيئين متناسبين، والله لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه؛ لأنه خالق كل شيء فلا صاحبة له ولا ولد ............ ) (56)
وقد بين سبحانه في الحديث القدسي، أن من نسب إليه اتخاذ الولد فقد شتمه وسبه بقوله ذلك. ففي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً) (57)
الثاني: زعمهم أن الله سبحانه وتعالى عن قولهم علواً كبيراً ( نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنساناً وحبل وولد من مريم البتول وقتل وصلب) (58)
وقال القس القوطي في رسالته إلى أبي عبيدة الخزرجي يشرح فيها مذهبه: (....فهبط بذاته من السماء منها حجاباً كما سبق في حكمته ......) (59)
يقول الإمام ابن القيم: ( .... إن هذه الأمة – أي : النصارى ارتكبوا محذورين عظيمين، لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة، أحدهما: الغلو في المخلوق، حتى جعلوه شريك الخالق وجزءاً منه، وإلهاً آخر معه، وأنفوا أن يكون عبداً له.
والثاني:- تنقّص الخالق وسبّه ورميه بالعظائم، حيث زعموا أنه سبحانه، وتعالى عن قولهم علواً كبيراً – نزل من العرش عن كرسي عظمته، ودخل في فرج امرأة وأقام تسعه أشهر يتخبط بين البول والدم و النجو (60) وقد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل، رضيعاً صغيراً يمص الثدي .....
ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهراً بين لصين وألبسوه إكليلاً من الشوك، وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام، هذا هو الإله الحق الذي بيده أُتقنت العوالم وهو المعبود المسجود له.
ولعمر الله إن هذه مسبة لله سبحانه وتعالى، ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم .....)
وذُكِر عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال فيهم: "أهينوهم ولا تظلموهم فلقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبّه إياها أحد من البشر" (61)
وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من قول معاذ بن جبل رضي الله عنه (62)(/4)
ثالثاً: موقف المسلمين
أما هذه الأمة المسلمة فقولها في هذا الباب هو ما جاء به المرسلون من توحيد الله وإفراده بالعبادة.
فآمنت بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره، ولا رب سواه، هو رب العالمين، وخالق الكون، ومدبره (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) (63)
ونزهوه سبحانه عن الأنداد، واتخاذ الصاحبة والأولاد، تصديقاً لقوله تعالى عن نفسه : (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ) (64) وقوله: (قل هو الله أحد الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد) (65) ، وقالوا كما قال مؤمنو الجن : (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) (66)
ووصفوه سبحانه بصفات الكمال والجلال، ونزهوه عن جميع صفات النقص، كما نزهوه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات ..... (67)
ولم يصفوه إلا بما وصف به نفسه سبحانه، أو وصفته به رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، من غير تعطيل ولا تمثيل.
فلم يشبهوا شيئاً من خلقه به، لا في ذاته ولا في شيء من صفاته، ولم يجعلوا له نظيراً أو نداً أو مثيلاً أو شريكاً في شيء من خصائص ألوهيته وربوبيّته – كما صنع النصارى – بل نزّهوه سبحانه عن الشبيه والنظير والكفء والند والمثيل (68)
وإذا تأملت سورة الإخلاص وجدت بها صفات الكمال لله -سبحانه وتعالى- وهو أنه المنفرد بها وحده دون ما سواه قال تعالى: ( قل: هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) (69)
ففي هذه السورة وصف الله سبحانه نفسه بأنه أحد صمد، فهذان الوصفان يدلان على اتصاف الله بغاية الكمال المطلق (70)
وذكر أبوهريرة في معنى الصمد " إنه المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد) (71)
ومن خلال قول أبي هريرة في معنى الصمد يدل على الإثبات والتنزيه، فالإثبات بوصفه سبحانه وتعالى بأنه هو الذي يُصمد إليه أي يُرجع في كل أمر، وذلك لأنه هو المتصف بجميع صفات الكمال، فهو القادر على كل شيء، والفعّال لما يريد والذي بيده الخلق والأمر والجزاء وما من قوة لغيره تعالى إلا بهيمنة منه إذا شاء أبقاها ومتى شاء سلبها، فالمرجع والمراد إليه سبحانه (72)
وأما التنزيه، فبوصفه تعالى بأنه غني عن كل شيء فلا افتقار فيه بوجه من الوجوه، لا في وجوده فإنه الأول الذي ليس قبله شيء وهو الذي لم يلد ولم يولد، ولا في بقائه؛ فإنه الذي يطعم، ولا في أفعاله فلا شريك ولا ظهير) (73)
كما أن وصفه سبحانه بأنه أحد صمد يدل على اتصافه بالكمال المطلق فكذلك يدلان على معنى آخر وهو نفي الولادة والتولد عن الله سبحانه، فإن الصمد جاء في بعض الأقوال بأنه لا جوف له ولا أحشاء، فلا يدخل فيه شيء فلا يأكل ولا يشرب سبحانه وتعالى كما قال تعالى.
(قل أغير الله أتخذ ولياً فاطر السموات والأرض وهو يُطِعم ولا يُطعَم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونَنّ من المشركين)(74)
وقال تعالى: (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) (75)
فإن الأحد هو الذي لا كفؤ له ولا نظير فيمتنع أن تكون له صاحبة.
والتولّد إنما يكون من شيئين.
قال تعالى: (بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) ((76)
وفي هذا سلب عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخالق ومثال ذلك قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) (77)
أي يعدلون به غيره فيجعلون له من خلقه عدلاً، ومثال هذا قوله تعالى: (رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً) (78) أي لا شيئاً يساميه ولا نداً ولا عدلاً ولا نظير له يساويه، فأنكر التشبيه والتمثيل وبهذا يتبين لنا تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته، كما دلت على ذلك سورة الإخلاص (79).
|1|2|3|4|5|6|
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش
1- سورة النحل آية 36
2- سورة الأنبياء آية 25
3- سورة المؤمنون آية 23 ، الأعراف آية 85،73،65
4- أخرجه البخاري : كتاب أحاديث الأنبياء ، باب ( واذكر في الكتاب مريم ) ج6/478
5- فتح الباري(ج6 / 489)
6- تفسير ابن كثير ( ج7 / 183)
7- سورة المائدة ، آية 48
8- سورة آل عمران آية 19
9- سورة آل عمران آية 85
10- وسطية أهل السنة بين الفرق ص (243،242)
11- سورة الأعراف آية 138
12- سورة الأعراف آية 139-140
13- سورة الأعراف آية 148
14- سورة البقرة آية 51
15- سورة طه الآيات من 88-85
16- انظر: العهد القديم ، سفر الخروج إصحاح 32 فقرة1-6
17- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (ج3/ 247)
18- هو رحبعام ابن سليمان عليه السلام ملك بعد أبية
19- سفر الملوك الأول ، إصحاح 12 فقرة 28 - 29
20- إصحاح 18 فقرة 4(/5)
21- انظر : الملل والنحل ( ج1 / 106 ) هو أبو الفتح محمد عبد الكريم توفي 48ه
22- سورة آل عمران آية 181
23- سورة المائدة ، آية 64
24- إصحاح 6 فقرة 5-8
25- إصحاح 20 فقره 1-17
26- إصحاح 2 فقره 1-2
27- إصحاح 32 فقره ( 24-30)
28- سفر الخروج ، إصحاح 12 فقره 12-13
29- إصحاح 6 فقرة 1-2
30- سورة التوبة آية 30
31- الترمذي : كتاب التفسير ، باب سورة الفاتحة ( ج5 / 204 )
32- سورة الفاتحة آية 7
33- ابن تيمية ، الوصية الكبرى ، ص 14
34- سورة المائدة آية 17
35- سورة التوبة آية 30
36- سورة المائدة آية 73
37- سورة الزمر آية 3
38- سورة يونس آية 31
39- سورة العنكبوت آية 61
40- سورة العنكبوت آية 63
41- سورة لقمان آية 25
42- هداية الحيارى ، ص ( 269)
43- سمي بذلك ، نسبة إلى مدينة نقية من أعمال اصطنبول التي اجتمع بها عدد من علماء النصارى ، وكان من إقرارهم القول بإلهية المسيح
44- انظر : الشهر ستاني ، الملل والنحل ( ج2 / 28)
45- هو أبو جعفر احمد بن عبد الصمد بن أبي عبيدة الخز رجي الساعدي كان مشهوراً بالذكاء والنبل مات بفأس بالمغرب عام 582هـ
46- أبو عبيدة الخزرجي بين المسيحية والإسلام ص ( 72)
47- نفس المصدر ص (87)
48- هداية الحيارى ص (261)
49- سورة المائدة آية 116
50- أبو زهرة النصرانية ، ص 148
51- أبو عبيدة الخز رجي ، بين المسيحية والإسلام ، ص (91)
52- سورة التوبة من آية 30
53- سورة مريم آية 88- 93
54- سورة الأنعام آية 101
55- سورة البقرة آية 116
56- تفسير ابن كثير ( ج3 / 302 )
57- البخاري : كتاب التفسير ، باب ( وقالوا اتخذا لله ولداً ...) ( ج8 / 168 ) رقم 4482
58- انظر : الشهر ستاني ، الملل والنحل ( ج2 / 28 )
59- أبو عبيدة الخز رجي ،بين المسيحية والإسلام ص( 83 – 84 )
60- النجو : ما يخرج من البطن من ريح وغائط : انظر : لسان العرب ( ج15/ 306 )
61- إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ( ج2 / 278 )
62- الجواب الصحيح ( ج2 /52 )
63- سورة الأعراف آية 54
64- سورة المؤمنون آية 91
65- سورة الإخلاص
66- سورة الجن آية 3
67- منها ج السنة لابن تيمية ( ج5 / 169 )
68- وسطية أهل السنة بين الفرق ص ( 258 )
69- سورة الإخلاص إلى آية 4
70- علو الله على خلقه بتعرف ص 28
71- تفسير القرطبي ( ج2 / 245 )
72- علو الله على خلقه بتصرف ص 28، 29
73- علو الله على خلقه بتصرف ص 28،29
74- سورة الأنعام آية 14
75- سورة الذاريات آية 56-57-58
76- سورة الأنعام آية ( 101)
77- سورة الإخلاص آية 4
78- سورة الأنعام آية 1
79- سورة مريم آية (65)
- علو الله على خلقه بتصرف ص 28 إلى 34 )(/6)
وسيلة لمقاومة الجوع الرمضاني
...
...
التاريخ : 10/10/2005
الكاتب : مجلة تحت العشرين ... الزوار : 1411
< tr>
عزيزتي .. التفكير في الطعام والشراب وعدم القدرة على مقاومة الجوع دليل على عدم وجود ما يشغل فراغك أو يعينك على ملء وقتك في رمضان .. لهذا نقدم لك هذه الأفكار التي قد تعينك على مقاومة الرغبة في تناول الطعام وتشعرك بحلاوة الصيام.
ـ صيام رمضان مرتين!!
لحفظة من فضلك .. فالأمر ليس مزحة .. كل ما عليك هو أن تفكري كل يوم في شخص تدعينه لتناول طعام الإفطار عندكم أو إرسال الطعام لبعض الصائمين في الجوار حتى تنالي الأجر الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم [[من فطر صائمًا كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا]].
ـ البحث والتحري والعمل بالدعاية
اشغلي ذهنك دائمًا بالبحث عن الوسيلة التي يمكنك من خلالها حث الآخرين على الإنفاق وذلك باستغلال التجمعات الرمضانية في جمع بعض الأموال والبحث عن طريقة لإيصالها إلى مستحقيها في كل مكان.
ـ إعادة برمجة
وذلك بترك العادات السيئة وشغل نفسك بمحاولة إكسابها عادات جيدة تتمنين أن تكون لديك.
ـ ترميم معلوماتك الدينية
فلا شك أن أيام الشهر الفضيل فرصة لحضور التجمعات التي تعقدها الفتيات والنساء في المساجد من أجل تدارس العلم .. يا لها من بديل رائع للالتقاء مع الصديقات من أجل تبادل الأخبار أو التجول في الأسواق أو سؤال كل واحدة ماذا أعددتن للإفطار فهذا الحديث سيزيد من إحساسك بالرغبة في تناول الطعام.
ـ إعلان المقاطعة
ولكن في هذه المرة ليس تجاه بعض البضائع والمنتجات بل مقاطعة مقننة لوسائل الإعلام إنها تجربة طريفة لتخيل حياتك بلا تليفزيون أو قنوات فضائية .. لا شك أن ذلك سيتيح لك الكثير من الوقت لعمل أشياء أكثر متعة.
ـ استغلال ساعات قبل الإفطار
فالوقت القليل الذي يسبق أذان المغرب من أكثر الأوقات التي قد تشعرين فيها بالجوع فما رأيك في محاربة هذا الجوع بالذكر .. فأنت بذلك ستذكرين الثواب الكبير الذي أعده الله للصائمين كما أنك ستكونين ضمن العائلة الذين يستجيب الله لدعائم وهم الصائم والمظلوم والمسافر.
ـ مساعدة الوالدين
لا شك أن جلوسك دون شيء يشغلك هكذا يزيد من إحساسك بالملل ويجعلك تفكرين في أشياء سيئة مثل الإفطار ولكن مساعدتك لوالدتك في إعداد الطعام أو الذهاب للجمعية بدلاً عنها أو العناية بالنباتات في المنزل أو أي عمل آخر اعتادت والدتك القيام به مثل تدريس إخوتك الصغار أو العناية بهم سيجعلك تنالين ثواب البر كما أن دعاء والدتك لك في هذا الوقت مستجاب لصيامها فلا تضيعي هذه الفرصة.
ـ أداء ثلاثين عمرة
لا تندهشي هكذا .. فيمكنك أداء عمره في كل يوم من أيام رمضان كل ما عليك هو عدم إضاعة الوقت ما بين صلاة الفجر أو شروق الشمس في النوم بل استغليه في الدعاء وقراءة القرآن والتسبيح .. ثم أدي ركعتين بعد شروق الشمس لتحصلي بذلك على ثواب عمرة تامة.
ـ الحج مع النبي صلى الله عليه وسلم
وذلك باستغلال بضع أيام في الشهر الفضيل لأداء مناسك العمرة في رمضان فالعمرة في رمضان كالحج مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ تنظيم حلقات
لا شك أنك ترغبين في حفظ بعض آيات القرآن .. وكذلك صديقاتك أو قريباتك أو جاراتك .. فما رأيك أن تتفقي معهن على الالتقاء معًا من أجل الحفظ وأن تسمع كل واحدة منكن للأخرى فهذا سيشجعك وما أجمل أن تدعين بعض الطفلات للانضمام إليكن فتحفظنهن بعض قصار السور وتسمعن لهن وتمنحن للمتميزات منهم بعض الجوائز.
ـ دعوة للفهم
كثيرًا ما نختم القرآن الكريم .. ولكن تمر علينا بعض الآيات دون أن نحول أن نفهم معناها أو الهدف منها .. فما رأيك أن تجعلي تلاوتك في هذا العام مختلفة بفهم كل ما غمض عليك من آيات القرآن الكريم.(/1)
وشرُّ الناس مَن سَرَقا
الكاتب: الشيخ د.قيس آل الشيخ مبارك
شاع في هذا العصر مصطلح حق التأليف والابتكار والإبداع وجرى الحديث حوله في كثير من المؤتمرات العالمية ، وتبنَّت منظَّمة (الويبو ) التابعة للأمم المتحدة مسؤولية الدفاع عن الحقوق الفكريَّة وعقدت لذلك عدَّة دورات ، وتبعتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية في مؤتمر بغداد في نوفمبر 1981م .
وفي الشريعة الإسلامية يعدُّ التأليف عملاً يُنسب لصاحبه لا ينقطع عنه بموت، فهو علمٌ يَنتفع به، وقد سُئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن من سَقَطَت منه ورقةٌ كُتِب فيها أحاديث أو نحوها ،أَيَجُوز لمن وَجَدَها أن يَكْتُبَ منها ثمَّ يرُدَّها ؟ فقال : لا ، بل يستأذن ثم يَكتب .فالإمام أحمد رحمه الله لا يمنع من قراءة المؤلفات ولا يحرِّمها، وإنما يُنبِّهنا وهو الفقيه الفهيم إلى ما يدِقُّ من معاني الفقه، وهو أن الكلام المكتوب إنما هو منفعة متقوَّمة حصلت على يد الكاتب فاختصَّت نسبتها إليه دون غيره ، وهذا هو معنى التملُّك إذ لا معنى للملك غير الاختصاص بالتصرُّف في الشيء والانتفاع به من غير مانع .
أما النقل عن المؤلفات مع الإشارة إلى الاستفادة منها فهو أمر جائز مادامت المؤلَّفات منشورة ولم يقف صاحبها دون الإذن بقراءتها والانتفاع بها، فإذا رضي المالك وهو المؤلف في قراءة ما كتب وفي النقل عنه فلا إشكال في الجواز لأن هذا حق مأذون فيه ، سواء كان الرضى بالعبارة الصريحة أو كان بالإذن العرفي بدلالة العرف حال طباعة المؤلِّف ما ألَّفه ونَشْرِه للباحثين ، فالإذن هنا حاصل بشهادة الحال .
غير أن الرضا هنا مقصورٌ على الإذن بالقراءة وبالنقل المقترن بالعَزْوِ والإحالة على المصدر لا يتعدَّاه ، وهو أمر دَرَجَ عليه الباحثون قديما من غير نكيرِ من أحد ، حتى صار عرفا بين الباحثين ، أما النقل عن الكتب من غير إحالة عليها فلا يتوجَّه إليه الرضا بحال. وهو معنىً لم يَغِب عن الناس حتى في الجاهلية فقد قال قائلهم :
ولا أغير على الأشعار أسرقها*** منها غَنِيتُ وشرُّ الناس من سرقا
وإذا كان التعليم كما يقول العلماء من فروض الكفايات ، فإن لِقوَّة التأليف وجَوْدته يدٌ مشهودة في ازدهاره ونَمَائِه ، فهو السبيل إلى قيد الإبداعات الفكرية التي لا تستقِرُّ ولا تُحفظ إلا بكتابتها ، فيسهل بعد ذلك بثُّها بين الناس للإفادة منها ثم تطويرها والارتقاء بها.
أما إذا كانت التأليف تكراراً لأقوال الآخرين ووُقوفاً عند إبداعات السابقين ، غايتها عَزْوٌ ونَقْل ، وقانونها : قال فلان وقال علاَّن! وما ترك الأوَّل للآخر ! فأيُّ تَقدُّم يُرتجى ؟ وأيُّ نُهوض يُرتقب ؟ ورحم الله الإمام مالكاً حين أبدع و ابتكر فوطَّأ لنا أوَّل مؤلَّف في شرائع الإسلام بَنَاهُ كما يقول العلماء على تمهيد الأُصول للفروع ونَبَّه فيه على معظم أُصول الفقه . فبنى الإمام الشافعي رحمه الله علمه على تلك القواعد التي أسسها شيخه مالك رحمه الله ، فأبرز لنا كتابه العظيم ( الرسالة ) في علم أُصول الفقه في ثوبٍ جديد.
وظلَّت قافلة الإبداعات الفكرية تسير حتى جاء الإمام الغزالي (450هـ-505هـ ) رحمه الله فأبرز لنا من مكنونات هذه الشريعة دُرَراً كثيرة ، منها في مجال علم النفس كَشْفُهُ لِمَسألة سَبْق الوَهْم إلى العكس (وهي ما تسمَّى حديثا:نظرية الاقتران الشرطي ) ، وتحليله لها تحليلاً دقيقاً في عِدَّة مواطن من مؤلَّفاته ، وقد كانت تُنسب إلى العالم النفساني الروسي بافلوف (1849م-1936م ) الذي استدلَّ على هذه النظرية من تجربته على الكلاب ، من حيث ذكر الإمام الغزالي مثالاً أرقى وأدق فنَزَّلها على الإنسان ، حال إنقاذ الغريق .وهكذا فرض هذا الدين على أتباعه النماء والإبداع والارتقاء في دَرَج الكمال والانخلاع عن رتبة التقليد والمحاكاة.ولِمَجَال التأليف ميدان أشدُّ ظلمة وأشدُّ تخبُّطاً من ميدان النَّقل والمحاكاة ، وهو ميدان يتدرَّع فيه صاحبُهُ بالليل ليكون أخفى عليه للويل، وهو ميدان سرقة المؤلفات وإضافتها إلى غيرمؤلفيها، وقد قيل :
أُضَمِّن كلَّ بيتٍ نصف بيتٍ*** فشعري نصفه من شعر غيري
فإن الدرهم المضروب باسمي*** أحبُّ إليَّ من دينار غيري
وهو عمل أخشى أن ينطبق عليه قول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام : (المُتَشَبِّع بما لم يُعْطَ كلابس ثوبي زور ) فقد حكى الخطابي عن نعيم بن حماد رحمهما الله أنه قال : يكون في الحيّ الرجلُ له هيئةٌ وشارةٌ ، فإذا احتيج إلى شهادة زور لَبِس ثوبيه وأقبل فشهد فَقُبِل ، لِنُبْلِ هيئته وحُسْن ثوبيه، فيقال : أمضاها بثوبيه أي أمضى الشهادة .
والمُتحلِّي بما ليس فيه كمن لبس ثوبي الزور ، ارتَدى أحدهما واتَّزر بالآخر كما قال العربي : إذا هو بالمجد ارتدى وتأزَّرا.(/1)
وقد كنت منذ اثنتي عشرة سنة تقريباً في تونس فأخبرتني الباحثة القديرة الدكتورة هند شلبي – وهي من فضليات نساء العصر وهبها الله علما غزيرا ودينا متينا وسلوكا يحكي هدي الصحابيات ولها موقف رَسَمَت به لوحةً مشرِّفة على تاريخ تونس الحديث – أنها عثرت بجامع عقبة بن نافع بالقيروان على أجزاء متفرقة من تفسير يحي بن سلام الذي هو أصل يرجع إليه الطبري في تفسيره . وذكرت أنها أتمَّت تحقيقه ، وطلبت منِّي إيصاله إلى ناشرٍ من إحدى الدول العربية يقيم في جدَّة ، فسلَّمتني الكتاب بعد أن احتفظت بصورة منه لديها نزولا عند رغبتي خوفا من ضياعه ، وكنت محتسباً أجري عند الله بأن يكون لي مساهمة في إخراج هذا الكنز ولم يَدُر بخلدي أنني سأقدِّمه للصٍّ يسرقه، أخذت الكتاب معي ووصلت مطار جدة واتصلت بالناشر وسلَّمته النسخة يداً بيد ثم غادرت إلى بلدتي الأحساء .
وتمضي الأيام فتكتشف الدكتورة هندٌ أن الناشر قد قدَّم الكتاب إلى جامعة أم القرى باسمه للحصول على درجة علمية ، والمرءُ توَّاقٌ إلى ما لم ينل، فجزى الله خيرا العلامة الجليل الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجه حين كشف الحقيقة للجامعة ، وأعاد الحق لصاحبه .
ومن الطريف المضحك المبكي ما أخبرني به قبل سنتين أستاذي الجليل الأستاذ الدكتور محمد نعيم ياسين في منزله بعمَّان أن بحثاً أُرسِل إليه لِيَحكُم عليه ، فإذا هو أحد أبحاثه المنشورة بقضِّهِ وقضيضه ، ساعتها تذكَّرت قول الشاعر :
أُمورٌ يضحك السُّفهاء منها ***ويَبكي من عواقبها الحليم
ومن ذلك أني كنت في شهر رجب من عام 1418هـ في تونس فاتَّصل بي أُستاذ من جامعة الملك عبد العزيز بجدة يخبرني أن أُطروحته لدرجة الدكتوراه طبعت منسوبة إلى باحثين لا يعرفهما ، ويسألني إن كنت أعرفهما، فأجبته بِنَعَم ، أما أحدهما فكنت أُحسن الظن به وعجزت عن الالتقاء به بِسبب سفره للخارج ، وأما الآخر فاتصلت به هاتفيا في نفس اليوم وصارحته بما انكشف من أمره ، فأنكر أن يكون سرق ، مُبدياً استغرابه من هذه التهمة ، فطلبت منه أن يُريَني مسودة التحقيق التي هي برهان صِدقِه ، فوعدني بذلك ، وجاءني بعد يومين بنسخة مرتَّبة ،وكان الاضطراب ظاهرا على وجهه فالمسألة عنده كما
يقال : يقع الخاطر على الخاطر كما يقع الحافر على الحافر ، فقلت له :لك أن تستظهر لي بالمسودات التي بنيت عليها بحثك لأذبَّ عنك عند صاحبي وأُثبِت له أن المسألة توارد خواطر، فقال لي بلهجته العامية : لوَّحْتُ المسودات كلها ولا أملك منها غير النسخة النهائية المرتبة التي عليها جرت الطباعة . فاعْجَب لباحث يفرِّط في أساس بحثه وقاعدته.ومنذ مدَّة كنت مشاركاً في مؤتمرٍ علمي بإحدى الدول العربية ،وحين وصلت مكان المؤتمر مع بداية الجلسة الثالثة من اليوم الأول رأيت خبرا شائعاً بين كثيرٍ ممن حضر المؤتمر وهو أن أحد أبحاث المؤتمر إنما هو نقلٌ مُجرَّد من كتابي: (التداوي والمسؤولية الطبية في الشريعة الإسلامية ) المطبوع بدمشق سنة 1412هـ.
ولمَّا وَقَفْتُ على حقيقة الأمر علمت أن ما شاع لم يكن ظنَّاً بل هو حقيقةٌ أدْرَكَها المشاركون وشَهِدَها أعضاء اللجنة التحضيرية للمؤتمر ، واستاءوا منها أشدَّ الاستياء فأفضَوا إليَّ بما ساءهم ، وكنت أُكذِّب نفسي لولا أن البحث مُقَدَّم للمؤتمر و مُنتحله موجود بمكان المؤتمر ،ووقف على منصَّة المؤتمر مستعلناً بنسبة البحث إلى نفسه غير هيَّابٍ ولا خجِل ، وغاب عنه أن حبل الانتحال قصير و أن أمره اطلع عليه الكثير .
وأطرف ما رأيت من أمره أنه عاجز حتى عن أن يقرأ النص الذي نسبه إلى نفسه قراءةً سليمة غير مغلوطة ، وبيان ذلك أن أحد مصادري كان كتاب ( النوادر والزيادات ) للشيخ أبي محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني رحمه الله ، فأثَبَتُّه في ثبت المصادر المخطوطة ولم أذكره في المصادر المطبوعة لأنه كان ولا يزال مخطوطاً ، ونَسَبْتُهُ إلى مصدره قسم المخطوطات بدار
الكتب الوطنية بتونس ، فإذا بالمنتحل يكتب : (ط ونشر دار الكتب الوطنية بتونس ) ولم يَدْرِ هداه الله أن الكتاب لم ينشر بل لم يطبع ، بل لم يعلم – وهذه جهالة لا تُقبل من منتسب إلى هيئة علمية-أن دار الكتب الوطنية ليست دار نشر وإنما هي واحدة من أشهر مراكز المخطوطات في العالم ، ولكن للسارق غفلة ، وقديماً قيل : يَركَب الصَّعب من لا ذلول له . وهكذا أساء فهماً فأساء نقلاً .وما عسى أن يرفعه انتحال كلام الآخرين غير الفضيحة في الدنيا و الخزي في الآخرة كما قيل : خيرٌ قليل وفضحت نفسي ، فلعله أن يتوب فيتوب الله عليه .وفي البحث طرائف من سوء النقل والتخليط في الانتحال أعرضت عن ذكرها .ولا تظنَّ أخي القارئ أن كل المنتحلين بهذه السذاجة والبساطة ، فقد أخبرني أخي الأستاذ الدكتور عبدالناصر أبو البصل أنه اكتشف سرقة فاستحلف السارق بالله أن يصدقه فقال السارق : أما أنني سرقت فنعم ، وهاهو البحث أمامك وأتحدَّى أن يستطيع أحدٌ إثبات ذلك .(/2)
وإن عندي من أخبار تجَّار السرقات الكثير لو تركت للقلم المجال، فلو علِم بها كُتَّاب المقامات لرأوا فيها مادَّتهم التي ينشدون وبُغيتهم التي إليها يتطلَّعون ،ولأغنتهم عن كثير من التخيُّلات، وهي تجارة تتستَّر بالظلام شأنها التحايل في الارتزاق،لِتُفسِدَ أسواق العلوم :
قد تَجِرَت في سوقنا عقربٌ ***لا مرحباً بالعقرب التَّاجرة
والتاريخ يُنَبِّهنا إلى أجلى مظاهر الرُّقِيّ في الأمم وهو قوَّة التعليم ونَفَاق سوقه وجودة التأليف فيه ، فهما معياران دقيقان بهما يُقاس تقدُّم الأمم ورُقيُّها، وهما أمران يَفرضان على المجتمع عُقولاً منفتحةً مستنيرة تُغالب الجهل وظُلمته .
ومن هنا كان لزاماً علينا أن ينفر في كل قطر من بلادنا من ينهض بشأن التعليم ، ويجب على الجامعات في بلادنا أن تهتم بذلك و أن تتميَّز بجودة الأبحاث والسَّبق فيها ، وأن تبني طلاَّبها وتحصِّنهم بالعلم والرحلة في طلبه حتى يَرتاضوا الأبحاث الجادة والمبتكرة .
وإن مِن أسباب حِفْظِ العلم أن يسير وفق منهج علمي صحيح له خطة مرسومة وغاية منشودة ، لا يورث الباحث شعوراً بعبث موقفه بحيث تتقطَّع أمامه سبل الطلب ، فتسرق منه أبحاثه وتُنسب لغيره ،ولا يجد من ينتصر له ويُنصفه في مظلمته ، فلا يرى معنىً لقول الشاعر :
يا من يحاول بالأماني رتبتي *** كم بين منخفضٍ وآخر راقي
أأبِيتُ ليلي ساهراً وتُضيعُهُ *** نوماً وتأمل بعد ذاك لحاقي
وإني أقول : إذا حرُم علينا في أسواق المنافع الحسية أو ما يسمونها أسواق المال كل بيع ينطوي على غبنٍ أو غررٍ أو غشٍ ، ولم يُبَح لنا تبادل المنافع إلا عبر أبواب العقود الصحيحة المعتبرة التي لا تعود على أصل التبادل وفائدته بالإبطال ، فكيف يحلُّ لنا في أسواق العلوم تبادل المعلومات والخبرات ونقلها عبر وسائل تعود على أصل العلم بالفساد وترجع على سوق العلم بالاختلال الذي يَقْعُد بالباحثين عن الارتقاء بالعلم وحسن التأليف فيه ويزيل من النفوس طموحها .
ولقد أحسنت دار المجد بالرياض حين أنشأت مشروعاً عنوانه : ( موسوعة السرقات الأدبية ) . فمنذ سنة تقريباً أهدى إليَّ أخي الفاضل الأستاذ عادل الماجد المدير التنفيذي لهذه الدار ملفاً حول فكرة الموسوعة وأهميتها في إِدارة المعلومات بين الباحثين وحرص القائمين عليها على التثبت من جميع ما يحصلون عليه من معلومات ، وأكَّد لي أن لديهم ضوابط واضحة تكوِّن معياراً دقيقاً تقاس به مواد الموسوعة ، وهي دليل نُبْل مَقصدهم من إنشاء هذه الموسوعة .
ففكرة الموسوعة تدخل ضمن وظيفة الحسبة فهي عمل مشكور ومأجور وشجاع ، غايتها التي ترمي إليها تتبَّع من يتكسَّب بالحرام ، من مختلسٍ أو لصٍّ ، لِيَنْكفَّ عن هذه الصَّنعة المشينة و الفعلة المهينة ، ووسيلة الموسوعة لِتحقيق هذه الغاية الطواف في أسواق العلوم بصُنُوفها المختلفة ومراقبتها بل وتفتيشها إن لزم الأمر لِلكشف عن سائر صور المتاجرة المحرَّمة من سرقة أو غش أو تدليس أو غير ذلك . ومن ثم إبراز الحقائق بنسبة الأقوال إلى أصحابها .
من هنا فإني أرى أن تبادر جامعاتنا إلى مدِّ يد العون لهذا المشروع بما تستطيعه من دعم مالي ومعنوي ، فهو يخدم رسالتها ،و يحفظ حقوق الباحثين فيها، وهو كذلك عمل تحتاجه الأمة فلا ينبغي أن يوكل شأنه لِفرد أو لِمؤسسة بمفردها .
وقد ذكر لي الأستاذ عادل أن عددا من الرسائل الهاتفية والكتابية وصلت إليهم طمعاً في التستر على أصحابها وفي عدم فضيحتهم بأساليب غير لائقة ، وهذه الأساليب منشؤها أَنفُسٌ مريضة انطبعت في مرآتها زخارف الدنيا وزينتها تحتاج إلى معالجتها بالنصح والإرشاد والتعليم والترقِّي بالنفوس بتزكيتها وتطهيرها .
ولا يُشكل على عمل الموسوعة أن الشرع الحنيف أمر بالستر على عورات الناس وندب إلى ذلك في عموم أحوال الناس ، وعَدَّ الكشف عن عوراتهم والتشهير بهم صورة من صور العدوان على الغير .
ذلك أن الكشف عن أحوال هؤلاء كما قال العلماء ليس من الغيبة المحرَّمة بل من النَّصيحة الواجبة وهذا محلُّ إجماع من المسلمين كما قال النووي رحمه الله، باعتبار أن تطهير الأرض من هذه المعاصي وإخلائها من هذه المفاسد أمرٌ مطلوب شرعاً ولا يتحقق هذا المطلوب بترك هؤلاء يتمادون في غيِّهم .ثم إن إظهار هؤلاء والتشهير بهم يعود ضرره بالفضيحة على أشخاصهم دون غيرهم ، أما السترعليهم وتركهم يعيثون ويُفسدون فإنه يهدم مصلحة عامة فالمتضرِّر منه سائر أفراد المجتمع، والحفاظ على المصلحة العامة مقدَّم على الحفاظ على مصلحة خاصة بفرد أو بأفراد مخصوصين.
نعم ذكر علماؤنا رحمهم الله أدباً هو عنوانٌ لما يتمتعون به من دِقَّة علمية فائقة ومن خلق سامٍ وذوق رفيع بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر ، فقالوا فيمن يشهد على السرقة : ( يجب أن يقول-أي الشاهد حين يقف أمام القاضي للشهادة- : أَخَذَ ، إحياءً لِحَقِّ المسروق منه ، ولا يقول :سَرَقَ ، محافظةً على الستر )(/3)
فإذا علمنا أن المؤلفات و الأبحاث العلمية هي طُرُق العلوم والوسيلة إليها فالواجب يقتضي أن تتولى الجامعات والمؤسسات العلمية معالجة هذه الجرائم التي تفسد الحياة الثقافية و العلمية وتَئِدُ الأبحاث في مهدها ، والحمد لله رب العالمين .(/4)
وصايا خمس طبقها وأبشر بخير يجري على يديك
أولها ... المعاهدة المعاهدة بينك وبين الله أن لا تعبد إلا إياه .. وأن لا تستعين إلا به { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين ُ} (الفاتحة:5). المعاهدة .. أن تكون من أولئك الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً .. رغم الإغراء .. رغم التهديد .. رغم الوعيد .. رغم الخذلان .. رغم المخالفة .. رغم تخلي الناس جميعاً .. وما بدلوا تبديلاً . المعاهدة بينك وبين الله على مدار الساعة .. على مدار اللحظة .. على كل حال من أحوالك .. عسراً ويسراً .. منشطاً ومكرهاً .. شدة وفرجاً .. رخاء وضراء .. يجب عليك أن تكون على حال وثانيها ... المحاسبة حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن لكم .. حاسبوا أنفسكم على نواياكم .. على خطراتكم .. حاسبوا أنفسكم على كل جهد بذلتموه وكل عمر أنفقتموه .. ماذا أردتم ؟؟ وجه الله أم كان مع الله ما كان .. هل كان خالصاً لدين الله أم كان فيه دخن الأهواء وحظوظ النفس والمصالح الذاتية .. حاسبوا أنفسكم في ما مضى وفيما تفعلون وفيما سيأتي .. حاسبوا قلوبكم .. حاسبوا نفوسكم .. انظروا في ذنوبكم في أخطائكم في عيوبكم راجعوا ذاتكم وانقضوها كونوا بينكم وبين الله خير مدقق في سجلات النفس والذات وتجردوا لله وأحسنوا خلاصكم وإخلاصكم قبل فوات الأوان .. ثالثها ... المراقبة لا تبالي بنظر المخلوقين سواء نظروا إليك نظرة إعجاب وثناء أم نظروا إليك نظرة شذر ونظرة حقد وكره .. راقب الله وليكن شعارك أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .. إياك أن يراك حيث نهاك .. وإياك أن يفقدك حيث أمرك .. اجعل رقابة الله لك ورقابتك لنفسك وعين الله تنظر إليك هي الأصل ولا تبالي بالمخلوقين وناجه وناده .. فليتك تحلوا والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح من الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب المراقبة .. لا تتأثر بالمخلوقين لا مدحاً ولا ذماً .. لا بنظرات إعجابهم ولا بنظرات حقدهم وحسدهم إنما استقم .. { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً } (الجن:16) قل الله ولا تبالي ثم استقم .. ثم استقم .. راقب الله واعلم أن الله يراقبك على مدار الدقيقة يا أخي .. رابعها ... المصاحبة صاحب النبي المختار صلى الله عليه وسلم .. صاحبه في سيرته .. أنصحك نصيحة أخوية جربتها في حياتي لن تجد مرشداً ومعلماً كسيرة النبي صلى الله عليه وسلم اقرأها في ليلك ونهارك حفظها أهلك اجعلها هي مطالعتك على كل أحوالك .. صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في أخلاقه في مأكله في دعوته في جهاده في صبره في تحمله في رباطه في قوته في صدعه بالحق .. صاحب النبي صلى الله عليه وسلم .. ومن ثم صاحب الأخيار الأبرار ولا تكن إمعة .. إياك أن تكن إمعة .. وإياك إياك أن يجرفك التيار العام بعيداً عن تيار الحق وأهله وإن قلوا وإن نُكِّل بهم تنكيلاً .. وهذه المصاحبة تكون لأمرين أولاً: لأن الله أمر بها قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة:119) والأمر الثاني: لأنها الطريق الوحيد في زمن الشهوات والشبهات وفي زمن تلاطم الفتن الطريق الوحيد لكي تثبت ولكي تستعين على أمر الله فالمرء على دين خليله فلينظر أحدكم إلى من يخالل ..(/1)
وخامسها ... المجاهدة جاهد نفسك جاهد هواك .. جاهد شيطانك .. جاهد حالة غضبك .. جاهد خمولك وكسلك وترددك وجبنك وهلعك وجزعك .. جاهد نفسك خلصها من كل هذا .. وهذا يأتي بالدربة ويأتي بالمران حتى أن الوحش يؤتى من البراري وما هي إلا أيام حتى يتروض ويمشي على الحبال ويقفز في دوائر النار غير هياب بينما أكثر ما يخيف الوحوش هي شعلة النار ومع ذلك بالتدريب والمران تقفز في النار .. فنفسك أولى من هذه الوحوش أن تتروض وأن تتدرب وأن تتمرن وأن تنصاع حينما تلزمها وتكون خير موجه لك فتنقاد لك ولا تنقاد لها .. ثم جاهد أعداءك جاهدهم بالكلمة .. جاهدهم بالفكرة .. جاهدهم بالقلم .. جاهدهم باللسان .. جاهدهم بالمال .. جاهدهم بأن تبقى متوحد مع الناس .. جاهدهم بعفوك .. بحلمك .. بكظم غيظك عن المؤمنين مهما أساءوا .. إنما وجِّه طاقاتك كلها إلى من احتلوا أرضك وأوصلوا أمتك إلى هذه الأخلاق مما أدى إلى تناحرها وتباعدها .. لا تحملوا على مسلماً .. لا تبغضوا موحداً .. صل من قطعك .. أعط من حرمك .. أعف عم ظلمك .. أحسن إلى من أساء إليك .. ادفع بالتي هي أحسن .. اكظم غيظك .. وكن دائماً الخيط الذي يجمع ولا تكن المقص الذي يفرق .. كن النحلة التي لا تسقط إلا على الأزهار ولا تجني إلا طيب ولذيذ العسل وإن نزلت على غصن ما كسرته وعلى وردة ما فتَّتتها إنما طيبة تجني طيباً وتعطي طيباً ولا تحدث أثراً ولا كسراً .. ولا تكن كالذباب لا يحط إلا على مواضع الأذى ولا يحمل إلا القذارة ولا يعطي إلى المكروبات والأوبئة .. لذلك عليك أن تدقق في نفسك وأن تجاهدها ابتداء .. ثم تجاهد أعداءك بطاقات غضبك وطاقات قوتك وأن لا تخلط بين الأمرين في صرف هذه الطاقات في غير محلها هذه أمور خمس إذا استطعت أن تطبقها ... معاهدة J ومحاسبة J ومراقبة J ومصاحبة J ومجاهدة إذا استطعت أن تطبقها أبشر بوسام يأتيك وأبشر باصطفاء يجتبيك .. وأبشر بخير يجري على يديك .. وإن عجزت فلا تحلم كثيراً .. ولا تتمنى كثيراً لأنك أنت جزء من خذلان الأمة وفشلها ..(/2)
وصايا طبيب
v تناول بضع تمرات في الصباح
v ابدأ نهارك بملعقة من العسل
v الحبة السوداء منشطة للمناعة .
v كلوا الزيت وادهنوا به .
v كأس من اللبن في الصحة والمرض .
v لا تدخن أبدا .
v إياك والمسكرات .
v لا تكثر من القهوة والشاي .
v وصايا للمصابين بالإمساك جديد
تناول بضع تمرات في الصباح
الدكتور حسان شمسي باشا
فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول : " من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة ، لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر ويقول أيضا : " يا عائشة ، بيت لا تمر فيه جياع أهله ، يا عائشة بيت لا تمر فيه جياع أهله ، أو جاع أهله ، قالها مرتين أو ثلاثا " .
وتقول عائشة رضي الله عنها لابن أختها عروة : والله يا بن أخي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ، ثلاثة أهلة في شهرين ، وما أوقدت في أبيات رسول الله عليه السلام نار . فقالت : يا خالة ، ما كان يعيشكم ؟ قالت : الأسودان: التمر والماء ، إلا أنه قد كان لرسول الله عليه الصلاة والسلام جيران من الأنصار كانت لهم " منائح " وكانوا يمنحون رسول الله عليه السلام من ألبانهم فيسقينا " .
فإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأزواجه يعشن الشهر والشهرين على التمر والماء ، وإذا كان المسلمون الأوائل قد فتحوا ربع المسكون من الأرض في ثلث قرن ، وإدارة التموين في جيوشهم لا تقدم لهم في كثير من الأحيان سوى جراب من التمر وقليل من الماء ، وإذا كان الله تعالى قد خص مريم بطعام واحد وهي في فترة المخاض :
( وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ) مريم 25
فلا بد أن يكون في التمر من الخير الكثير . وإني لأعجب إذ أرى أناسا يشكون من الإمساك ، والتمر في متناول أيديهم ، فبلادنا بلاد التمر . فإن كنت تشكو من الإمساك فتناول بضع تمرات في الصباح . ولا غرابة أن نجد دعايات المجلات الطبية الأمريكية تدعو إلى تناول تمور كاليفورنيا للتخلص من الإمساك الذي يشكو منه 18 % من الناس في أمريكا .
ومن المدهش أن تضع المصانع الأمريكية التمور في زجاجات صغيرة كزجاجات الأدوية ، وتوصف تلك التمور علاجا للإمساك . والتمور غنية بالألياف ، فالمئة جرام من التمر ( وهي تعادل 10 – 21 حبة من التمر) تحتوي على 8.5غ من الألياف . المنظمات الصحية العالمية الآن تدعو إلى الإكثار من الألياف ، لا للتخلص من الإمساك فحسب بل لما تقدمه الألياف من فوائد أخرى .
والتمر غذاء مناسب جدا للمصابين بارتفاع ضغط الدم ، فهو فقير بالصوديوم وغني بالبوتاسيوم . والأبحاث العلمية الحديثة تدعو المصابين بارتفاع ضغط الدم غلى تناول غذاء فقير بملح الطعام ( وهو كلوريد الصوديوم ) وغني بالبوتاسيوم . كما أن التمر غني بمعدن هام آخر هو المغنيزيوم . فنقص المغنيزيوم مشكل تصيب عددا ملحوظا من الذين يتناولون حبوب الديجوكسين أو المدارت البولية والمصابين بهبوط ( قصور ) القلب .
والتمر أيضا غني بالحديد ، فتناول مئة جرام منه يعطي سدس حاجة الجسم اليومية من الحديد . وأكثر الناس حاجة للحديد هم النساء في سن الطمث ، والحوامل ، واليفع ، والمصابون بفقر الدم بنقص الحديد لأسباب أخرى .
وقد صدق من قال : إن في التمر منجما من المعادن .
فاجعل التمر غذاء متوفرا في بيتك ، ففي الصباح يمكنك تناول بضع تمرات وخاصة إن كنت لا تتناول طعام الإفطار، فتذهب إلى عملك ، ولديك طاقة كافية من الحريرات . وليحذر المصابون بمرض السكر من الإفراط في التمر .
واجعل التمر بديلا عن الحلويات ، فتناول حبة أو حبتين منه بعد الغذاء بدلا من قطعة شوكولاتة أو قطعة من الحلويات وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال :
" بيت لا تمر فيه جياع أهله "
جدول يبين ما تحتوي 100 غ من التمر
عن كتاب ( The Composition of Food ) طبعة 1989
750 ملغ ... بوتاسيوم ... 248 كالوري ... سعرات حرارية
68 ملغ ... كالسيوم ... 63.9 غ ... سكريات
59 ملغ ... مغنيزيوم ... 8.7 غ ... ألياف
64 ملغ ... فوسفور ... 2 غ ... بروتين
1.6 ملغ ... حديد ... كمية زهيدة جدا ... دهون
0.21 ملغ ... نحاس ... 5 ملغ ... صوديوم
للمزيد من التفاصيل راجع كتابنا " الأسودان : التمر والماء " وهو من إصدار دار المنارة بجدة
===========
ابدأ نهارك بملعقة من العسل
الدكتور حسان شمسي باشا
استعمل الإنسان العسل في علاج الأمراض منذ قديم الزمن . فاستخدمه المصريون القدامى والإغريق والرومان والصينيون والهنود .
ولعل أروع ما جاء في وصفه قوله تعالى :
( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون . ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ) النحل 68 – 69
وقد جاء في كتاب " الطب من الكتاب والسنة " لموفق الدين البغدادي : " وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يشرب كل يوم قد عسل ممزوج بالماء على الريق ، وهذه حكمة عجيبة في حفظ الصحة " .(/1)
وقال عليه الصلاة والسلام : " عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن " .
ومن الاعتقادات الشائعة بين الناس أن مربي النحل يعمرون ويحيون حياة صحية مديدة أكثر من غيرهم .
ويذكر المؤرخون أن " فيثاغورث " صاحب نظرية فيثاغورث الشهيرة ، قد عاش أكثر من تسعين عاما ، وكان طعامه يتألف من " الخبز والعسل " . وأن أبولونيوس عاش أكثر من مئة عام ، وكان غذاؤه الخبز والعسل .
ولا عجب إذا عرفنا أن أبا الطب " أبو قراط " الذي عمر أكثر من 108 سنوات كان يأكل العسل يوميا . وكان العسل الطبيعي من الأشياء المحببة للشاعر الإغريقي " أناكريون " الذي عاش أكثر من 115 عاما .
وفي حفل عشاء للاحتفال بعيد الميلاد المئوي ليوليوس روميليوس ، سأله يوليوس قيصر عن سبب قوة صحته العقلية والجسمية حتى تلك السن المتأخرة ، فأجاب " العسل من الداخل والزيت من الخارج " .
ومن الصعب جدا إثبات القول الشائع : " إن العسل يطيل العمر " ، فيقول الدكتور كروفت في كتابه Honey & Health : " لو أردنا أن نقوم بتجارب على البشر لنجيب على هذا السؤال لاحتاج الأمر إلى أجيال عديدة ، حتى نتأكد من صحة البحث علميا ، وهذا أمر مستحيل " .
ولكن .. كانت هناك دراسات علمية عديدة أجريت على العسل خلال السنوات القليلة الماضية ، فكانت هناك دراسة في المجلة الطبية البريطانية " B.M.J " أدى فيه إعطاء العسل للأطفال المصابين بالإسهالات إلى سرعة شفاء هؤلاء الأطفال. وكانت هناك دراسة في مجلة الجراحة البريطانية عام 1988 م حول استعمال العسل في الجروح والقروح الملتهبة التي لم تستجب للمضادات الحيوية ، فكان له العسل شفاء خالصا .
كما نشرت المجلة الأسترالية الطبية ( Aust - N - Z - J - Obstet – Gynecol ) في شهر نوفبمبر 1992دراسة قام فيها باحثون أستراليون ، استعملوا فيها العسل في علاج 15 مريضة ، تفتحت الجروح عندهن بعد إجراء العملية القيصرية . ويقول هؤلاء الباحثون : " إن وضع العسل على الجروح المتفتحة كان فعالا وغير مكلف ، كما ألغى الحاجة إلى إعادة خياطة هذه الجروح وتعريض المريض لعملية جراحية أخرى " .
ونشرت مجلة Surgery عام 1993 دراسة قام بها الدكتور Efen عالج فيها عشرين مريضا مصابا بنوع من الغرغرينا تسمى " Fournier's Gangrene " بالعسل موضعيا على الغرغرينا إضافة إلى استعمال المضادات الحيوية عن طريق الفم .
وعولجت مجموعة مماثلة بالطرق التقليدية . فوجد الباحثون أن وضع العسل على الغرغرينا قد أعطى تفوقا واضحا على العلاج التقليدي ، وكانت استجابة المرضى أكثر عند من وضع عليه العسل .
كما نشرت مجلة اللانست البريطانية الشهيرة عام 1993 مقالا ذكرت فيه فوائد العسل في علاج الجروح والقروح ، وفي الحفاظ على قطع الجلد المزروعة عند المرضى .
وظهر حديثا عام 1992 في مجلة Infection الأمريكية الشهيرة بحث حول تأثير العسل على الجراثيم المسببة للالتهابات في جروح العمليات . وتبين أن العسل الطبيعي غير المصنع قد استطاع في أطباق المختبر ، تثبيط نمو معظم الجراثيم والفطور المسبب لالتهابات تلك الجروح ، باستثناء جرثوم يدى العصيات الزرق Pseudomonas وآخر يدعى Clostridium . وقورن في التجربة نفسها تأثير العسل بتأثير محلول سكري مركز ، له نفس الخواص الفيزيائية للعسل ، فتبين أن المحلول السكري لم يستطع تثبيط أي من الجراثيم أو الفطور .
واستنتج الباحثون أن العسل يعتبر علاجا مثاليا في تضميد الجروح المتقيحة بعد العمليات الجراحية .
وكانت هناك دراسة أخرى ظهرت في المجلة الاسكندنافية للأمراض الهضمية ، أجرى فيه الباحثون دراسة على الفئران حول تأثير العسل في وقاية المعدة من حدوث التهاب فيها نتيجة التخريش المستمر للكحول . وكانت نتائج الدراسة إيجابية جدا ، واقترح الباحثون إجراء دراسات مماثلة على الإنسان .
كما قام الباحثون بإجراء دراسة أخرى حول تأثير العسل الطبيعي على جرثوم Helicobacter Pylori الذي يسبب التهابا في المعدة . فتبين أن إعطاء محلول من العسل بتركيز 20 % قد استطاع تثبيط ذاك الجرثوم في أطباق المختبر .
ومن نيوزيلاندة ، خرجت حديثا دراسة لمعرفة أفضل أنواع العسل النيوزيلاندي غير المبستر في تأثيره على الجراثيم . وكان أفضلها نوع يدعى Manuka Honey . ولا شك أن أفضل أنواع العسل هو العسل الطبيعي غير المصنع ، إلا أن العسل التجاري المنتج من دولة واحدة وخاصة عسل الأكاسيا يظل غذاء نافعا بإذن الله تعالى .
وهكذا تتوالى الدراسات العلمية من أماكن مختلفة من العالم تثبت بعضا من فوائد العسل التي اكتشفت حتى الآن .
ويقول البروفسور كروفت في كتابه Honey & Health " إن تناول العسل الصافي يمكن في أحسن الأحوال أن يقوم بعمل رائع جدا ، ولو افترضنا أنه لا يفيد ، فإنه قطعا لا يضر . وليس هناك من أنواع الطعام إلا النزر القليل جدا من تنطبق عليه هذه الأوصاف .(/2)
من شاء التوسع في فوائد العسل فلينظر كتابنا " معجزة الاستشفاء بالعسل . حقائق وبراهين " وهو من إصدار مكتبة السوادي بجدة ودار القلم بدمشق .
==========
الحقيقة في الحبة السوداء ( حبة البركة )
Nigella Sativa
الدكتور حسان شمسي باشا
لم يستحوذ على اهتمام الناس في السنين الأخيرة نبات طبي مثلما فعلت الحبة السوداء . وكان من الناس من اعتقد أن الحبة السوداء شفاء لكل داء ، ومنهم من أنكر فوائدها كلية ، وآخرون أيقنوا أن في الحبة السوداء شفاء لبعض الأمراض . صحيح أن رسول الله عليه السلام قال في حديث رواه البخاري : " في الحبة السوداء شفاء من كل داء " إلا أن هذا – كما قال ابن حجر وغيره من العلماء – من العام الذي يراد به الخاص . ومثال ذلك قوله تعالى عن ريح عاد : ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) فهي تدمر البشر والمساكن ولا تدمر الجبال ولا الأنهار ولا الشمس أو القمر
وللأسف الشديد انتشرت بين الناس وصفات زيت الحبة السوداء فما تركت مرضا إلا وجدت له في الحبة السوداء شفاء !! واستغل الأمر بعض التجار ممن أخذ يبيع زجاجات زيت الحبة السوداء بأسعار باهظة ، ويجني الأرباح ، غير مبال بما قد يصيب المريض من ضرر .
والحقيقة أن هناك عددا من الدراسات العلمية التي نشرت حديثا ( خلال السنتين الماضيتين ) عن الحبة السوداء .
ولكن معظم تلك الدراسات كانت دراسات بدائية أجريت على الفئران وكانت نتائجها مشجعة ، ولكن يقتضي الأمر إجراء المزيد من الدراسات لتوثيق النتائج واستخلاص التوصيات .
وكان من تلك الدراسات تجربة أجريت على الفئران ، وأشارت إلى فائدة الحبة السوداء في تخفيف أعراض الحساسية عند الفئران . وقد نشرت هذه الدراسة في إحدى أشهر المجلات العالمية Annals of Allergy عام 1993 .
وكانت هناك دراسة أخرى نشرتها مجلة " International Journal of Pharmacology " عام 1993 وأشارت إلى قدرة خلاصة الحبة السوداء على خفض سكر الدم عند الأرانب .
ونشرت أكثر من دراسة علمية في مجلات معترف بها عالميا حول فائدة خلاصة الحبة السوداء في قتل عدد من الجراثيم في أطباق المختبر ، أو في حيوانات التجربة .
وهناك ما يشير إلى أن للحبة السوداء خصائص مضادة للسرطان ، ومقوية للجهاز المناعي الذي يدافع عن الجسم ضد الجراثيم والفيروسات وغيرها .
ومنها دراسة الدكتور أحمد القاضي ، والدكتور أسامة قنديل في الولايات المتحدة ، والتي أظهرت أن تناول جرام واحد من الحبة السوداء مرتين يوميا قد ينشط الجهاز المناعي . ولكن الدراسة كانت على عدد قليل من الناس .
ومن أهم الدراسات التي أجريت حتى الآن دراسة أجرتها البحاثة ريما أنس مصطفى الزرقا في جامعة كينغ في لندن ، ونالت بهذا البحث شهادة الماجستير . وقد أجريت تلك التجارب على الحبة السوداء تحت إشراف أساتذة بريطانيين وفي مخابر جامعة لندن .
وقد أثبتت تلك الدراسة وجود خواص مضادة للجراثيم في زيت الحبة السوداء الطيار على عدد من الجراثيم . كما أجريت دراسات لمعرفة الخواص المضادة للالتهاب ( Anti Inflammatory ) في المادة الفعالة في الحبة السوداء والتي تدعى الثيموكينون .
وقد قدمت حديثا رسالة جامعية عالية في موضوع الحبة السوداء في جامعة الرياض . وكانت نتائجها إيجابية ، ونحن بانتظار المزيد من الدراسات .
أما من يدعي على صفحات الجرائد أن ليس في الحبة السوداء أية فائدة ، فهذا محض وهراء ولا يستند إلى أي دليل .
واكتشف العلماء أن الحبة السوداء تحتوي على نوعين من الزيت ، الأول زيت ثابت وقد لا يكون له تأثير يذكر ، والثاني زيت طيار يعزى إليه التأثير الدوائي للحبة السوداء .
يقول الدكتور جابر سالم – أستاذ ورئيس قسم العقاقير الطبية بكلية الصيدلة في جامعة الملك سعود بالرياض - :
" إن زيت الحبة السوداء الموجود بالأسواق السعودية ليس له قيمة علاجية تذكر " . وقال : " إن التجار والمصنعين لهذا الزيت يقومون بتحميص الحبة السوداء ، ثم يكبسون البذور ، فيحصلون على الزيت الثابت ، ونسبة بسيطة جدا من الزيت الطيار ، وذلك لأن الزيت الطيار يتبخر عند تحميص البذور " .
وينصح الدكتور جابر بعدم استخدام الزيت الثابت ، واستعمال الحبة السوداء كما هي ، حيث يمكن سحقها واستعمالها فورا بعد السحق مباشرة . وينصح كذلك بعدم سحقها وتركها ، لأن الزيت الطيار – وهو المادة الفعالة – يتطاير بعض السحق . ويمكن استخدام مسحوق الحبة السوداء مع العسل ، واستعمالها في حينه ، أو تسف مع الماء أو الحليب . وهذا هو الاستعمال الأمثل للحبة السوداء .
وأبسط طريقة لتناول الحبة السوداء تكون بوضع ملعقة من الحبة السوداء على صحن يحتوي على اللبن ( الزبادي ) ويغمر بزيت الزيتون . فذلك من أنفع أطباق الفطور في الصباح أو العشاء .
فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى تقمح كفا من شونيز ويشرب عليه ماء وعسلا .
وتقمح أي : استف ، والشونيز : هو الحبة السوداء .(/3)
وأما مقدار الحبة السوداء ، فليس هناك دليل علمي كاف يشير إلى ذلك ، إلا أن الدراسة التي أجريت في أمريكا وأشارت إلى فائدة الحبة السوداء في تنشيط الجهاز المناعي ، استخدمت جراما واحدا من الحبة السوداء مرتين كل يوم.
والحقيقة نحن بحاجة ماسة إلى إجراء المزيد من الدراسات العلمية على الحبة السوداء لمعرفة خصائصها وتأثيراتها . وحتى ذلك الحين تظل الحبة السوداء غذاء مفيدا استعمله الناس لآلاف السنين .
* * *
__________________
للمزيد من التفاصيل ، راجع كتابنا " الشفاء بالحبة السوداء " وهو من إصدار مكتبة السوادي بجدة ودار القلم بدمشق .
=============
" كلوا الزيت وادهنوا به "
الدكتور حسان شمسي باشا
أقسم الله تعالى في قرآنه العظيم بالزيتون فقال : ( والتين والزيتون . وطور سينين ) التين 1 – 2
وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم باستعمال زيت الزيتون فقال : " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " .
دهش الباحثون حديثا حينما اكتشفوا أن سكان جزيرة كريت في البحر المتوسط هم أقل الناس إصابة بأمراض القلب والسرطان في العالم أجمع . ودهشوا أكثر حينما عرفوا أن أهالي جزيرة كريت يستهلكون زيت الزيتون أكثر من أي شعب آخر ، فحوالي 33 % من السعرات الحرارية التي يتناولونها يوميا تأتي من زيت الزيتون . فما علاقة زيت الزيتون بذلك ؟ وهل للطب الحديث رأي في هذه العلاقة ؟ وما تأثيراته على القلب والكولسترول ؟
ماذا يقول أطباء الغرب عن زيت الزيتون ؟
يقول الدكتور " ويليام كاستللي " مدير دراسة فارمنجهام الشهيرة : " إن هناك زيتا واحدا يتمتع بأطول سجل من سلامة الاستعمال في التاريخ هو زيت الزيتون . فلقد تناول زيت الزيتون أجيال وأجيال ، وامتاز هؤلاء بصحة الأبدان وندرة جلطة القلب عندهم . وهذا السجل الحافل بمآثر زيت الزيتون يجعلنا نطمئن لاستعماله ، ونقبل عليه بشغف كبير " .
ويقول الدكتور " أهرنس " من جامعة كوفلر بنيويورك : " إننا ندرك تماما أن استعمال سكان حوض البحر المتوسط لزيت الزيتون كمصدر أساسي للدهون في الغذاء هو السبب وراء ندرة مرض شرايين القلب التاجية عندهم " .
وينبه الدكتور كاستللي إلى فوائد استعمال زيت الزيتون في حوض البحر المتوسط فيقول : " رغم أن الناس في حوض البحر المتوسط يتناولون بعض الدهون المشبعة ( السيئة ) المتوافرة في لحم الخروف والقشدة والسمن والجبن ، إلا أنهم يستعملون زيت الزيتون بشكل رئيسي في طهي الطعام . وهذا ما يجعل أمراض شرايين القلب التاجية قليلة الحدوث عندهم " . ويقول أيضا : " إن أفضل طريقة لطهي الطعام وتحضير المأكولات هي باستعمال زيت الزيتون بشكل أساسي ، واستعمال كميات قليلة من زيت الذرة أو دوار القمر ( دوار الشمس ) . فالجسم لا يحتاج إلا إلى كميات قليلة من النوعين الأخيرين " . ويمتاز زيت الزيتون بغناه بالدهون اللامشبعة .
أما الدكتور تريفيسان من جامعة نيويورك فقد لخص فوائد زيت الزيتون في بحث نشر في مجلة ( جاما ) عام 1990 فقال : " لقد أكدت الدراسات الحديثة التأثيرات المفيدة لزيت الزيتون في أمراض شرايين القلب ، ورغم أن البحث قد تركز أساسا على دهون الدم ، إلا أن عددا من الدراسات العلمية قد أشارت إلى فوائد زيت الزيتون عند مرضى السكري والمصابين بارتفاع ضغط الدم " .
الأبحاث العلمية الحديثة :
حتى عام 1986 كانت الكتب الطبية تقول بأن زيت الزيتون لا يؤثر على كولسترول الدم ، فلا يزيده ولا ينقصه . ولكن الأبحاث العلمية الحديثة جدا قد أظهرت أن زيت الزيتون ينقص مستوى كولسترول الدم . وليس هذا فحسب بل إنه لا ينقص من مستوى الكولسترول المفيد في الدم . ومن الثابت علميا أنه كلما ارتفع مستوى هذا النوع من الكولسترول ، قلت نسبة الإصابة بجلطة القلب .
وقد أظهرت دراسة نشرت عام 1990 في مجلة جاما الأمريكية الشهيرة أن مستوى ضغط الدم ، وسكر الدم ، والكولسترول كان أقل عند الذين كانوا يكثرون من تناول زيت الزيتون . وقد أجريت تلك الدراسة على أكثر من مئة ألف شخص .
زيت الزيتون وارتفاع ضغط الدم :
أجرى الدكتور " ويليامز " من جامعة ستانفورد الأمريكية دراسة على 76 شخصا غير مصاب بأية أمراض قلبية لمعرفة تأثير زيت الزيتون على ضغط الدم . فوجد الباحثون أن ضغط الدم قد انخفض بشكل واضح عند الذين تناولوا زيت الزيتون في غذائهم اليومي . وكان انخفاض ضغط الدم أشد وضوحا عند الذين تناولوا 40 جراما من زيت الزيتون يوميا .
زيت الزيتون ومرض السكر :
ينجم مرض السكر عن نقص أو غياب في إفراز الأنسولين من البنكرياس ، مما يؤدي إلى زيادة مستوى السكر في الدم وقد أوصى الاتحاد الأمريكي لمرضى السكر ، المصابين بمرض السكر بتناول حمية تعطى فيه الدهون بنسبة 30 % من الحريرات على ألا تتجاوز نسبة الدهون المشبعة ( كالدهون الحيوانية ) عن 10 % . وأن تكون باقي الدهون على شكل زيت زيتون وزيت ذرة ، أو زيت دوار الشمس .(/4)
فوائد أخرى لزيت الزيتون :
ذكرت دائرة المعارف الصيدلانية الشهيرة " مارتندل " أن زيت الزيتون مادة ذات فعل ملين لطيف ، ويعمل كمضاد للإمساك . كما أن زيت الزيتون يلطف السطوح الملتهبة في الجلد ، ويستعمل في تطرية القشور الجلدية الناجمة عن الأكزيما وداء الصدف .
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ائتدموا بالزيت .. وادهنوا به " ( صحيح الجامع الصغير 18 )
وقد وصف الله تعالى هذه الشجرة بأنها مباركة ، فقال :
( يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ) النور : 35
فالشجرة مباركة .. والزيت مبارك .. وهنيئا لمن نال من تلك البركات ....
________________
لمزيد من التفاصيل انظر كتابنا " زيت الزيتون بين الطب والقرآن " وقد أصدرته دار المنارة بجدة
==============
اللبن الرائب
غذاء .. ودواء
د. حسان شمسي باشا
وردت كلمة اللبن في القرآن الكريم في قوله تعالى :
( وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين ) النحل آية 66
وقال تعالى في وصف الجنة :
( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ... ) ( محمد آية 15 )
وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل اللبن ( الحليب ) على غيره من الطعام فقال :
" من أطعمه الله طعاما ، فليقل اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ، ومن سقاه الله لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ، فإنه ليس شيء يجزىء من الطعام والشراب غير اللبن " ( رواه أحمد وأبو داود )
واللبن في اللغة هو ( سائل أبيض يكون في إناث الآدميين والحيوان ) وهو ما يطلق عليه الناس اسم ( الحليب ) . ولكن هذه التسمية تطلق في العديد من البلدان على ( اللبن الخاثر) . أو ( اللبن الرائب ) أو ( اللبن الزبادي ) ، تمييزا له عن الحليب .
وتختلف تسميات اللبن الرائب من بلد إلى آخر ، فهو يعرف في مصر والسودان باسم
( اللبن الزبادي ) ، في حين يعرف في المملكة العربية السعودية وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين باسم ( اللبن ) . وفي الهند باسم ( الداهي ) وفي اللغة التركية باسم (يوغورت)، ومنها دخلت اللغة الإنجليزية ( Yogurt ) واللغات الأوروبية الأخرى كالفرنسية والإيطالية واليونانية وغيرها .
أين اكتشف اللبن الرائب ؟
تقول دائرة معارف ( Everyman ) : " إن اللبن الرائب قد اكتشف صدفة من قبل البدو والعرب حينما كانوا يحملون الحليب في أوعية مصنوعة من معدة الغنم . فقد تخمر هذا الحليب بفعل جرثومة اللبن الموجودة في معدة الغنم ، وساعدت على هذا التخمر حرارة الصحراء . واستخدم اللبن الرائب لأول مرة في التاريخ في شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام. ومن هناك انتشر إلى جميع أنحاء العالم .
وقد انتقل اللبن الرائب إلى الغرب أثناء الحروب الصليبية ، وظلت طريقة تركيب اللبن سرا لا تعرفه إلا قصور الملوك في أوروبا . ويقال بأن ( فرانسوا الأول ) ملك فرنسا كان يعطى اللبن الرائب كغذاء حينما أصيب بالتهاب الأمعاء ، إلى أن شفي تماما من هذا المرض . وبعدها انتقلت صناعة اللبن إلى بيوت الناس في أوروبا " .
وقد دخل اللبن الطب الشعبي الحديث في القرن التاسع عشر حينما أعلن الدكتور
( ميتشنكوف ) الذي كان يعمل في معهد باستور - أن تناول اللبن يطهر الأمعاء من الجراثيم ، وأن اللبن علاج للشيخوخة وتدهور حالة الجسم .
ويقول كتاب Food & Nutrition طبعة 1992 م أن استهلاك اللبن الرائب في بريطانيا قد تضاعف 4 مرات ما بين عام 1970 م وعام 1980 م وأن الإنجليز يستهلكون مائة ألف طن من اللبن في العام الواحد .
كيف يتشكل اللبن الرائب ؟
اللبن هو عبارة عن حليب تخمر بواسطة إحدى الجراثيم المفيدة والتي تسمى ( العصية اللبنية البلغارية ) . وتقوم هذه الجراثيم بتخثير الحليب وتحويل سكر اللاكتوز في الحليب إلى حمض اللبن ، إذا ما توفرت لها الشروط المناسبة من حرارة ورطوبة وغذاء .
ويصنع اللبن بإضافة ملعقة من لبن جاهز ، وتسخين الحليب إلى درجة حرارة 43ْ م ثم يحفظ في مكان دافئ بدرجة 37ْ - 44ْ لمدة 6 - 8 ساعات .
ماذا تقول الأبحاث العلمية الحديثة عن اللبن ؟
استعمل سكان حوض البحر المتوسط اللبن الرائب لقرون عديدة في معالجة الإسهالات واضطراب الأمعاء . وقد تمكن الباحثون حديثا في أمريكا من عز سبعة مضادات حيوية من اللبن الرائب . وبعض هذه المضادات أقوى من التتراسيكلين .
وأظهرت الدراسات الحديثة أن اللبن الرائب يفيد في القضاء على الجراثيم المسببة للتسمم الغذائي . وأهمها السالمونيلا والجراثيم العنقودية .
ودلت دراسات أخرى من أمريكا وإيطاليا أن بإمكان اللبن الرائب منع حدوث الدزنتاريا ( الزحار ) . ومن العادات المتبعة في مستشفيات وسط أوروبا إعطاء اللبن للأطفال المصابين بالإسهالات .(/5)
ويقول الدكتور ( شاهاني ) من جامعة نبراسكا في الولايات المتحدة - وهو أحد أكثر الباحثين خبرة في العالم بالحليب ومشتقاته - : " إن اللبن الرائب يفيد في منع حدوث الإسهالات والدزنتاريا أكثر منه في علاجها " . ولا يقوم اللبن بفعل مضاد للجراثيم فحسب ، بل إن الأبحاث الحديثة من الولايات المتحدة تؤكد أن اللبن يقوي الوظيفة المناعية لخلايا الجسم .
اللبن الرائب والسرطان :
هناك دلائل علمية تشير إلى أن اللبن الرائب قد يفيد في الوقاية من سرطان القولون . فقد لاحظ الباحثون في بوسطن أن اللبن يمكن أن يثبط الإنزيمات التي تحول المواد الكيميائية غير الضارة في الأمعاء إلى مواد مسببة للسرطان .
وقد نشر الدكتور ( لي ) من فرنسا دراسة لاحظ فيها أن أكثر النساء تناولا للبن كن أقل عرضة للإصابة بسرطان الثدي من غيرهن .
اللبن كغذاء :
جاء في كتاب Food & Nutrition طبعة 1992 م أن اللبن مفيد :
1. كغذاء للذين يعملون على إنقاص وزنهم ، فإن الـ 100 غرام من اللبن الرائب تعطي
25 سعرا حراريا فقط .
2. يفيد في طعام الرضع حين البدء بإدخال الأطعمة إلى غذاء الرضيع بدلا من الحليب .
3. يستعمل عند الناقهين من الأمراض .
4. يستعمل كحلوى بعد الطعام وذلك بإضافة الفواكه كالفراولة والموز إلى اللبن الرائب.
واللبن غذاء سهل الهضم ، فقد نشرة مجلة اللانست الطبية تقول : " في حين يهضم 33% من الحليب بعد ساعة واحدة من تناوله ، فإن 91 % من اللبن يهضم في الوقت نفسه ، كما أن بإمكان معظم المصابين بعدم تحمل سكر اللاكتوز ( وهم الذين يشكون من غازات شديدة وإسهالات بعد تناول الحليب ) أن يتناولوا اللبن بدون انزعاج .
اللبن الرائب والشيخوخة :
أعلن العالم ( ميتشنكوف ) أن الذين يعيشون فوق المائة عام هم من آكلي اللبن الزبادي لأنها تحتوي على بكتيريا تصل إلى الأمعاء ، وتكون بيئة تمنع دخول الجراثيم غير المرغوب فيها . وقد أطلق عليه في البلقان اسم ( غذاء العمر الطويل ) لاحتوائه على مواد بروتينية ذات قيمة حيوية عالية ، وعلى أغلب المواد المعدنية اللازمة للجسم .
واللبن هو من أهم مواد التغذية عند الأتراك ، ولا تكاد تخلو منه مائدة في أي وجبة من وجبات الطعام . وربما كان ذلك سبب احتفاظ الأتراك بقوتهم ونشاطهم في سن متأخرة . فعدد الذين يتجاوزون المائة عام أكثر من عشرة في المليون ، بينما لا يعمر إلى تسعة في كل مليون أمريكي .
ويفيد اللبن المسنين الذين يعانون من ضعف في العظام ، وسقوط الأسنان ، فهو من أفضل العلاجات في مثل تلك الحالات . واللبن الرائب (الزبادي) يعتبر غذاء سهل الهضم ، يوفر على الناقهين عملية الهضم الطويلة مع الغذاء العادي . وتستعمل النساء اللبن الرائب في العناية ببشرتها وجلدها .
وهكذا يظل اللبن الرائب ( الزبادي ) الغذاء المتكامل للكبار والصغار ، والطعام البسيط الرخيص الذي يتربع على عرش الغذاء حين المرض ، وحين تعاف النفس الأنواع الدسمة من الطعام ، وكأنه عجلة النجاة التي يقدمها الله تعالى لهذا المريض .
جدول يبين محتوى 100 غرام من اللبن
17 ملغ ... مغنزيوم ... 86 % ... ماء
140 ملغ ... فوسفور ... 5 % ... بروتين
140 ملغ ... كلور ... 1 % ... دهون
7 ملغ ... فيتامين أ ... 4.6 % ... سكر اللاكتوز
0.05 ملغ ... فيتامين ب1 ... 1.6 % ... سكاكر أخرى
0.26 ملغ ... فيتامين ب2 ... 76 ملغ ... صوديوم
0.12 ملغ ... حمض النيكوتين ... 240 ملغ ... بوتاسيوم
0.3 ملغ ... فيتامين ( ي ) ... 180 ملغ ... كالسيوم
=================
كيف تتوقف عن التدخين ؟
الدكتور حسان شمسي باشا
بالله عليكم خبروني ، لو أن أحدنا وضع أمامه أفخر طعام يشتهيه ، ثم أُخبر أن في هذا الطعام سماًّ الفئران ، أتراه يأكله أتراه يمسُّه بيده ؟ لا والله .. فكيف يدخن المدخنون وهم يعلمون أن في كل سيجارة سمَّ فئران ، بل أشد فتكاً من سم الفئران ؟
فلو علم المدخنون حق العلم مدى خطورة التدخين لما دخنوا سيجارة واحدة .
ويؤكد تقرير منظمة الصحة العالمية أن عدد الذين يلاقون حتفهم أو يعيشون حياة تعيسة مليئة بالأسقام والأمراض المزمنة نتيجة استخدام التبغ ، يفوق دون ريب عدد الذي يلاقون حتفهم نتيجة الطاعون والكوليرا والجدري والسل والجذام والتيفوئيد والتيفوس مجتمعة في كل عام . ويقول تقرير الكلية الملكية للأطباء في إنجلترا إن ثلاثة من كل عشرة يدخنون سيلاقون حتفهم بسبب أمراض ناجمة عن التدخين ، وإن أغلب الباقين سيعانون من أمراض لها علاقة بالتدخين
فالتدخين هو أحد أهم أسباب جلطة ( احتشاء ) القلب ، كما أن يسبب سرطان الرئة والفم والمثانة والبنكرياس والقضيب وعنق الرحم . كما يسبب السكتة الدماغية والتهاب القصبات المزمن . وللتدخين علاقة بالعنانة عند الرجال والعقم عند النساء .
وتأكد أن فوائد التوقف عن التدخين تبدأ منذ اليوم الأول الذي تقلع فيه عن التدخين ،
الفم والمريء والمثانة وغيرها من السرطانات .(/6)
فإذا اقتنعت تماما بضرورة الإقلاع عن التدخين ، فأعلن ذلك أمام جميع أصدقائك وزملائك في العمل . فالخطوة الأولى هي اتخاذ القرار الحازم بالإقلاع عن التدخين .
ولا شك أن معظم الطرق التي استخدمت في الإقلاع عن التدخين قد كانت ناجحة عند كثير من المدخنين . فالبعض يلجأ إلى استعمال السجائر قليلة النيكوتين لأسبوع أو اثنين ، ثم يقلع عن التدخين نهائيا . وآخرون يستعملون لبانة النيكوتين أو لصاقة النيكوتين . والبعض يجد التوقف التدريجي عن السجائر لخفض عددها يوميا وسيلة مجدية .
نصائح تساعدك على ترك التدخين :
1. حدد الوقت الذي تنوي فيه التوقف عن التدخين ، في عطلة نهاية الأسبوع مثلا .
2. قبل أن تتوقف عن التدخين ، حاول أن تغير نوع السجائر إلى نوع لا تحبه من السجائر . ثم اتلف السجائر والكبريت وصحون السجائر التي لديك .
3. قم بزيارة طبيب الأسنان ، ودعه يزيل عن أسنانك بقع النيكوتين .
4. ابتعد عن أصدقائك المدخنين وأشغل نفسك في اليوم الذي تقلع فيه عن التدخين بأعمال كثيرة . اذهب إلى أماكن خالية من التدخين كالمخازن الكبرى وغيرها .
5. استعمل العلكة ( اللبانة ) أو أقراص النعناع والفواكه عندما تشتهي تدخين سيجارة ما
6. لا تحمل معك سجائر ، ولا تدخن مباشرة عندما تفكر بالتدخين . انتظر مضي عدة دقائق. وخلال هذا الوقت حاول أن تغير العمل الذي كنت تقوم به
7. ابتعد عن كل ما يثير رغبتك في التدخين ، ولا تدخن أبدا أثناء مشاهدة التلفزيون
8.فكر دوما في الآثار السيئة التي يتركها التدخين على صحتك . وفكر في المال الذي توفره على نفسك وعائلتك بالإقلاع عن التدخين
9. نظف أسنانك ثلاث مرات يوميا ، وتناول كمية كبيرة من الماء والعصير وأكثر من تناول الفواكه والخضار ، ومارس نوعا من الرياضة.
10. عليك أن تتوقع حدوث بعض الأعراض عقب التوقف عن التدخين كالصداع والسعال والإمساك والدوخة والتهيج وتغير المزاج أو بعض الهمود . ولكن لا تشغل بالك أبدا بهذه الأعراض ، مهما كانت شديدة ، فإنها لا تهدد حياتك بالخطر ، وعادة ما تختفي خلال أسبوع أو اثنين . وتذكر دوما كم تجني من التوقف عن التدخين .
11. انظر إلى نفسك تجد أن رائحتك أجمل ، وتنفسك أسهل .
12. تذكر أن التوقف عن التدخين ليس سهلا ، إلا أنه ليس مستحيلا . ولا تشعر بالخجل إن فشلت في الإقلاع عن التدخين لأول مرة ، بل حاول التوقف من جديد .
* * *
المصدر :كتاب "قلبك بين الصحة والمرض" و كتاب"وصايا طبيب"
تأليف الدكتور حسان شمسي باشا . استشاري القلب في مستشفى الملك فهد للقوات المسلحة بجدة.
وهي من منشورات دار البشير بجدة ت/ف 6608904ـ6657621
=============
إياك والمسكرات
الدكتور حسان شمسي باشا
شرب المسكرات مشكلة يعاني منها الغرب ، ويعاني منها البعض في بلادنا العربية والإسلامية . وإن ما يدعو إلى الأسف الشديد أن نشاهد ازديادا في شرب الخمر في بلادنا الإسلامية ، في الوقت الذي يدعو فيه الغرب إلى الابتعاد عن المسكرات .
تقول دائرة معارف جامعة كاليفورنيا للصحة ( طبعة 1995 ) : " يعتبر الخمر حاليا القاتل الثاني – بعد التدخين – في الولايات المتحدة . فشرب المسكرات في أمريكا سبب موت أكثر من 100.000 شخص سنويا هناك . والخمر وحده مسؤول عن أكثر من نصف الوفيات الناجمة عن حوادث الطرق في أمريكا (والبالغة 50.000 شخص سنويا) وليس هذا فحسب ، بل إن الخمر مسؤول عن إصابة أكثر من نصف مليون شخص بحوادث السيارات في أمريكا في العام الواحد . وأما في البيت ، فالمسكرات مسؤولة عن كثير من حرائق البيت ، وسقوط شاربي الخمر على الأرض ، أو غرقهم أثناء السباحة " .
وتتابع دائرة معارف جامعة كاليفورنيا القول : " والمسكرات لا تسبب المشاكل في البيت .. أو على الطرقات فحسب ، بل إن خسائر أمريكا من نقص الإنتاج وفقدان العمل نتيجة شرب الخمر تزيد عن 71 بليون دولار سنويا ، ناهيك عن الخسائر التي لا تقدر بثمن من مشاكل نفسية وعائلية واجتماعية . ويحث الكتاب في الجرائد والمجلات الأمريكية الناس على عدم تقديم المسكرات قبل العشاء – أثناء حفلاتهم – وعلى أن يصادروا مفاتيح السيارات من المفرطين في شرب الخمر ، حتى لا يقودوا أنفسهم إلى الموت " .
وتذكر موسوعة جامعة كاليفورنيا في مكان آخر : " إن ثلث اليافعين في أمريكا يشرب المسكرات بدرجة تعيق نشاطه الدراسي في المدرسة ، أو توقعه في مشاكل مع القانون .. وقد بدأ معظم هؤلاء الشباب شرب المسكرات قبل سن الثالثة عشرة من العمر " .
ويقول البروفيسور " شوكيت " وهو بروفيسور الأمراض النفسية في جامعة كاليفورنيا ومدير مركز الأبحاث المتعلقة بالإدمان على الكحول : " إن 90 % من الناس في الولايات المتحدة يشربون الخمر ، وإن 40 – 50 % من الرجال هناك يصابون بمشاكل عابرة ناجمة عن المسكرات . وإن 10 % من الرجال و 3 – 5 % من النساء مصابون بالإدمان على الكحول " .(/7)
ويقدر خبراء جامعة كاليفورنيا أن 15 مليون أمريكي يشرب أكثر من كأسين من البيرة – أو ما يعادلها من أنواع الخمر الأخرى – يوميا . واستنادا إلى المعهد الوطني الأمريكي للإدمان على الخمر ، فإن من يشرب مثل تلك الكمية يعتبر " مفرطا في شرب المسكرات " " Heavy Drinker " وأن 18 % من هؤلاء يشرب أكثر من 4 كؤوس من البيرة – أو ما يعادلها – يوميا ، وهذه الفئة مهددة بالإدمان الخطير على الكحول .
هذا ما يجرى في أمريكا ، فماذا يحدث على الجانب الآخر من الأطلنطي – وبالخصوص بريطانيا ؟ تقول مجلة لانست البريطانية الشهيرة : " إن مئتي ألف شخص يموتون سنويا في بريطانيا بسبب المسكرات " .
وذكرت المجلة البريطانية للإدمان " British Journal of Addiction " أن الخسائر الناجمة عن مشاكل الكحول الطبية بلغت 640 مليون جنيه إسترليني في العام الواحد ، وأن الخسارة الإجمالية الناجمة عن شرب المسكرات تقدر بـ 2000 مليون جنيه إسترليني في العام الواحد " .
وذكرت هذه المجلة أيضا أن 12 % من المرضى الذين يدخلون المستشفيات في بريطانيا ، يدخلون بسبب مشاكل ناجمة عن المسكرات .
وعودة إلى أمريكا .. فحسب ما جاء في كتاب Cecil الطبي الشهير – طبعة 1996 – " فإن الخسائر الكلية الناجمة عن مشاكل المسكرات في أمريكا بلغت ما قيمته 163 بليون دولار في العام الواحد . ويقدر الخبراء أن ربع الحالات التي تدخل المستشفيات الأمريكية سببها أمراض ناجمة عن شرب المسكرات " .
فحذار .. حذار أيها المسلمون ، قبل أن يستشري فينا الداء الذي يرده لنا الغرب . فالأفلام والمجلات الخليعة تدعو الناس صباح مساء في بلادنا العربية إلى شرب المسكرات عن طريق إبراز الفنانين والممثلين ، وفي أيديهم كأس من المسكرات ، أو عن طريق الدعايات والمقالات .
ويظن بعض الناس أن شرب قليل من المسكرات أمر لا بأس فيه ، ولكن هذا غير صحيح ، وقد نبهت على خطورته مجلة لانست البريطانية فتقول في عدد صادر لها عام 1987 : " لقد تبين أخيرا أن معظم الوفيات والاختلاطات الناجمة عن الكحول تحدث عند الذين يظنون أنهم لا يشربون الكثير من الخمور ، وعند أولئك الذين كان يظن أطباؤهم أن ما يتناولونه من المسكرات ما هو بالكثير ، بل هو في حكم المقبول في عرف المجتمعات الأمريكية والأوروبية " .
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان ليغفل عن ذلك ، فقال في حديثه المشهور :
( ما أسكر كثيره فقليله حرام )
وزعم البعض من الأطباء أن القليل من الخمر قد ينقص نسبة الوفيات من جلطة القلب . ولكن مقالا رئيسا في مجلة لانست البريطيانية ( صدرت عام 1987 ) فند هذه المزاعم . يقول كاتب المقال : " إن ما يدعيه بعض الأطباء من أن الكحول قد يكون مفيدا إذا ما أخذ بجرعات صغيرة إنما هو محض كذب وافتراء " . ويقول أيضا : " إن الدراسة التي يستند إليها هؤلاء دراسة غير موثوقة ولا يعتد بها " . ويتابع كاتب المقال القول : " وخلاصة القول إن على الأطباء أن يبلغوا الناس رسالة واحدة فقط وهي : أن الكحول ضار بالصحة " .
أنعجب بعد هذا كله من تحريم الإسلام للمسكرات ؟ حتى للقليل منها ؟ ألم يقول رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام ، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام " .
ثم ألم يحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجلوس على موائد الخمر لأن ذلك قد يعرض صاحبها لمسايرة الجالسين ، فربما ذاقها للمرة الأولى ثم تبعها جلسات وسكرات . " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدة يشرب عليها خمر " .
( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) ق : 37
* * *
للمزيد من التفاصيل راجع كتابنا : " أطباء الغرب يحذرون من شرب الخمور " وهو من إصدار دار القلم بدمشق ودار البشير بجدة
===============
القهوة والشاي ..
ما لها .. وما عليها
الدكتور حسان شمسي باشا
فنجان من القهوة أو الشاي شراب يستلذه الملايين من الناس في كل مكان ، فالعالم يستهلك خمسة بلايين كيلوجرام من القهوة كل عام ، والقهوة والشاي والكولا ، والشيكولاتة .. كلها تحتوي على مادة تسمى الكافئين . وقد يكون الكافئين – كما تقول المجلة الطبية البريطانية – من أكثر الأدوية انتشارا في العالم أجمع ، بسبب ما يستهلكه الناس من هذه المشروبات ، وبالنظر إلى الانتشار الواسع لاستعمال الكافئين ، فإن المخاطر الناجمة عن ذلك تعتبر قليلة نسبيا .
ولكن البعض قد هاجم الكافئين بسب وجود ارتباط – وفق الإحصائيات العلمية – بينه وبين عدد من الأمراض ...
فما حقيقة الأمر في هذا الموضوع الهام ؟(/8)
والواقع أن كثيرا من تلك الأشباح التي رسمت حول الكافئين قد تلاشت ، فقد زالت المخاوف التي كانت تتردد حول علاقة القهوة بسرطان البنكرياس والجهاز البولي ، وأما عن علاقة القهوة بمرض شرايين القلب التاجية فهي مثار جدل هذه الأيام . وقد تنبه الناس حديثا في أمريكا وأوروبا إلى محاذير الإفراط في شرب القهوة والشاي ، فحسب ما جاء في كتاب
Food and Health فإن 70 % من الإنجليز كانوا يشربون القهوة في عام 1982 ، وأن 86 % منهم كانوا يشربون الشاي ، إلا أن الإحصائيات الحديثة تشير إلى انخفاض هذه المعدلات في بريطانيا.
ويعتبر الفنلنديون أكثر الناس استهلاكا للقهوة في العالم ، يليهم سكان السويد ، فالدانمارك ، فالنرويج ، فهولندا ، فالولايات المتحدة ، فسويسرا ، فكندا ، فإيطاليا ، فبريطانيا ، فاليابان .
ولم تتوفر لي إحصائيات عن كمية القهوة التي يستهلكها العرب في العام الواحد ، في حين نعلم أن الفنلدني الواحد يستهلك سنويا حوالي 12.9 كيلوجرام من البن الأخضر ، أما الأمريكي فيستهلك 5.4 كيلوجرام ، والإنجليزي 2.6 كيلوجرام
القهوة والشاي عبر التاريخ :
يجمع المؤرخون على أن أول من اكتشف البن كان راعي غنم عربيا منذ عدة قرون فقط ، وكان اليمن أول من استعمل القهوة كمشروب يصنع من ثمار شجرة البن ، وفي أوائل القرن السادس عشر عرف المصريون القهوة ، وعرفها الترك خلال حروب السلطان سليمان الفاتح . وتقول الكاتبة " كلوديا رودين " لم تكن القهوة معروفة لدينا في الغرب إلا منذ ثلاثة قرون ، ولم يكن يسمح قبل القرن السابع عشر بزرع حبة واحدة من القهوة خارج أفريقيا والجزيرة العربية ، وقد بدأ استعمالها في البندقية ( فينسيا ) ومنها انتشرت إلى كافة مدن أوروبا وأمريكا .
وكلمة " Coffee " بالإنجليزية مشتقة من الكلمة العربية " قهوة " وكانت كلمة " قهوة " قد تحرفت باللغة التركية إلى كلمة " كافيه Kabveba " واشتق منها الاسم الفرنسي لها " Cafea " والإيطالي " Caffea " والألماني " Kaffeea "
أما كلمة الشاي " Tea " فقد اشتقت من الأصل الصيني الذي يلفظ " Taya " واحتفظ باللفظ الإنجليزي باللفظ الصيني تقريبا . ويقال إن إمبراطور الصين هو الذي اكتشف خصائص الشاي حوالي 3200 سنة قبل الميلاد . ولم يدخل الشاي أوروبا إلا في القرن السادس عشر . وقد خلت من ذكره المعاجم العربية القديمة وكتب المفردات . وقال مايرهوف : إن البيروني ذكر استعمال الصين للشاي .
ما هو الكافئين ؟
الكافئين مادة كيميائية من زمرة المنبهات التي تدعى " ميثيل كزانثين " ويوجد الكافئين – كما ذكرنا – أساسا في القهوة والشاي والكولا والكاكاو ، وتحتوي القهوة على 1 – 2 % من الكافئين في حين تحتوي أوراق الشاي على 1 – 4 % من الكافئين . وهو مادة منبهة للقلب والدماغ ، فيسرع القلب ، ويزيد النشاط الذهني كما يزيد إفراز العصارة المعدية ، ويوسع القصبات في الرئتين ، ويزيد من إدرار البول .
وبينما نجد القهوة والشاي ذات تأثير مؤرق قوي على البعض ، نجد آخرين يتناولها بكميات كبيرة ، ثم يسلمون أجفانهم للرقاد الهنيء بسهولة تامة !
وتختلف كمية الكافئين باختلاف نوع البن، والبن القوي الذي يصنع منه عادة القهوة الفورية ( مثل قهوة نسكافيه وشابهها) حيث يحتوي على أعلى نسبة من الكافئين ، كما تقل نسبة الكافئين أثناء التحميص الشديد للبن .
فوائد القهوة والشاي :
تجمع المصادر الحديثة على أن الكميات الصغيرة أو المعتدلة من الكافئين ( 30 – 200 ملليجرام ) تحسن أداء المرء لعمله اليومي . فالقهوة مثلا – كما تقول الباحثة الأمريكية جوديث وارثمان – تنشط الجسم ، إلا أن القهوة قد تعوق أداء الأعمال التي تتطلب مهارة في الأصابع كإدخال خيط في الإبرة ، أو تسديد الأهداف وغيرها .
ويمكن للقهوة والشاي أن تحسن المزاج عند بعضا الناس ، وقد يلعب الكافئين دورا مضادا للهمود عن البعض الآخر .
كمية الكافئين الموجودة في 180 ملغ من المنبهات :
80 – 140 ملغ ... القهوة الأجنبية
60 – 100 ملغ ... القهوة الفورية ( نسكافيه )
1 – 6 ملغ ... القهوة المنزوعة الكافئين
30 – 80 ملغ ... أوراق الشاي
25 – 75 ملغ ... أكياس الشاي
30 – 60 ملغ ... الشاي الفوري
10 – 50 ملغ ... الكاكاو
30 – 65 ملغ ... الكولا والبيبسى كولا ( 350 مل )
20 ملغ ... قطعة الشكولاته ( 60 غم )
20 – 60 ملغ ... شريحة من جاتو الشكولاته
يعرف المفرط في شرب القهوة والشاي بأنه الشخص الذي يتناول أكثر من 300 ملغ من الكافئين يوميا ، أي الذي يشرب 5 فناجين من القهوة الفورية ( نسكافيه ) وكل فنجان يحتوي على 60 – 20 ملغ من الكافئين ، أو الذي يشرب 10 فناجين من الشاي العادي ( وكل فنجان يحتوي على 30 ملغ من الكافئين ) ، ويختلف تأثير القهوة والشاي اختلافا شديدا بين الناس ، وقد يحدث الاختلاف في الشخص ذاته من حين لآخر .(/9)
ويبدو من أفرط في شرب القهوة والشاي متنبها .. قلقا .. متحفزا ويقظا ، وتشمل أعراض الإفراط الشديد في الكافئين
( تناول ما يزيد عن 500 ملغ من الكافئين ) القلق والتهيج والتململ والأرق والشعور بالإعياء ، ويحدث يحدث الخفقان القلبي عند هؤلاء المفرطين .
القهوة والكولسترول :
هناك دلائل تشير إلى أن الإفراط الشديد في شرب القهوة قد يزيد من مستوى الكولسترول في الدم ، ففي حين أظهرت عدة دراسات علمية وجود علاقة بين القهوة والكولسترول ، أكدت دراسات أخرى عدم وجود تلك العلاقة ، ومازال الأمر مثار جدل بين العلماء ، ويبدو أن شرب القهوة باعتدال لا يؤثر على مستوى الكولسترول تأثيرا ملحوظا .
القهوة وأمراض شرايين القلب التاجية :
لم تصل الأبحاث العلمية التي أجريت حول علاقة الكافئين بأمراض شرايين القلب التاجية إلى أي نتائج محددة ، بل كانت الآراء متعارضة في كثير من الأحيان ، وينصح بعض الباحثين الناس ذوي الاستعداد لحدوث جلطة في القلب بألا يتناولوا أكثر من 4 فناجين يوميا من القهوة الفورية المنتشرة في الغرب ، أما كمية الكافئين في القهوة العربية والقهوة التركية فتختلف حسب طريقة الصنع وشدة تحميص البن .
القهوة والشاي والخفقان :
الخفقان هو الشعور بضربات القلب ، أو الإحساس بوجود ضربات سريعة وقوية في القلب ، وقد يشكو البعض من حدوث ضربات القلب مبكرا ، يعقبها فترة سكون قصيرة ، ثم يعود القلب لضرباته العادية .
وكثيرا ما تحدث تلك الضربات المبكرة عند الإفراط في تناول القهوة والشاي أو المنبهات الأخرى التي تحتوي على الكافئين أو بعد شرب الخمر ، أو الإكثار من التدخين ، وفي مثل تلك الحالات ينصح بتجنب القهوة والشاي كما يوصى بالتوقف عن التدخين ، والامتناع عن شرب الخمور ، لا بسبب الخفقان فحسب ، بل لما فيها من أضرار أخرى .
القهوة والحمل :
هناك عدد من التقارير الطبية تشير إلى أن تناول القهوة بكميات كبيرة أثناء الحمل يمكن أن يؤدي إلى ولادة أطفال مصابين بعيوب خلقية ، أو صغيري الحجم ، ولهذا تنصح إدارة الأغذية والأدوية F.D.A في الولايات المتحدة الحوامل بالإقلال من تناول القهوة أثناء الحمل .
أما بالنسبة للإرضاع ، فليست هناك دلائل علمية تثبت أن شرب المرضع لكميات معقولة من القهوة يعرض الرضيع لأي مخاطر تذكر ، ومع ذلك فإن العديد من الأطباء ينصح الحوامل والمرضعات والأطفال بتجنب القهوة ، وإن لم يكن ذلك فينبغي تناول كمية من الكافئين تزيد عن 200 ملغ يوميا .
القهوة والشاي .. والحديد :
أظهرت دراسة علمية حديثة أن شرب فنجان واحد من القهوة الأجنبية مع الطعام ينقص امتصاص الحديد من وجبة هامبرجر مثلا بمقدار 39 % وينصح الذين يفضلون شرب القهوة والشاي مع الطعام أن يؤخروا ذلك بقدر ساعة أو ساعتين بعد الانتهاء من وجبة الطعام .
* * *
والخلاصة أن الاستعمال المعتدل للقهوة والشاي لا يأتي بضرر يذكر لدى عامة الناس ، بل إنها مشروبات مقبولة ومفيدة أحيانا ، إلا أن الإفراط في تناولها قد يسبب بعض المشاكل عند بعض الناس .
وتقول الدكتورة وارتمان من معهد ماسوتشوتيس الأمريكي : " إن شرب المزيد من القهوة بعد فنجان الصباح ( أي خلال النهار ) يعني إدخال المزيد من المواد الكيميائية إلى جسمك بلا مبرر كمثل الذي يحاول أن يجعل سيارته تنطلق بسرعة فيقف عند محطة البترول ، ليملأ سيارته ، وخزانها شبه ممتلئ أصلا بالبترول ، ولكن شرب فنجان آخر بعد الظهر يمكن أن ينشط الذهن لست ساعات أخرى .
للمزيد من التفاصيل : راجع كتابنا : " القهوة والشاي .. فوائدها وأضرارها " ، وهو من منشورات دار القلم بدمشق ، دار البشير بجدة
==============
وصايا للمصابين بالإمساك
الدكتور حسان شمسي باشا
الإمساك مشكلة يعاني منها الملايين في العالم ، ففي أمريكا وحدها – حسبما تقول الإحصائيات – تبين أن 18 % من الأصحاء يجدون صعوبة في قضاء الحاجة ، وأن 4 % من الناس هناك مصاب بإمساك شديد .
وكلمة إمساك تعني مشكلة طبية نجمت عن عجز أصاب الأمعاء ، فلم تستطع إخراج محتواها من الفضلات .
وبعض الناس يعتقد أن عليهم إفراغ أمعائهم يوميا ، ويعتبرون أنفسهم مصابين بالإمساك إن فشلوا يوما في فعل ذلك . فليس من الضروري أن تقضي حاجتك يوميا ، فالبعض منا يقضي حاجته كل ثلاثة أيام ، والبعض الآخر يقضيها ثلاث مرات يوميا ، وكلاهما في صحة جيدة تماما ، ولا يحتاج أي منهما إلى علاج طبيعي .
والإمساك نوعان :
الأول : تمكن من صاحبه سنين وسنين ، وكأنه الحاضر المداوم . والثاني هو الذي يفاجئ صاحبه على حين غرة ، وكأن الجهاز قد أصيب فجأة بأزمة حادة .
والإمساك الذي يمتد سنين وسنين هو النوع الذي أسيء علاجه ، واستبهم فهمه ، وتشابكت طرق مداواته .
أسباب الإمساك :(/10)
للإمساك أسباب كثيرة ، ومن أهمها إهمال نداء الجسم التطبيعي للتغوط عند امتلاء المستقيم ، فإن ذلك يؤدي إلى فقد إحساس المستقيم بالانتفاخ ، فيجف فيه البراز ، ويصبح صعب الخروج .
ومن أسباب الإمساك قلة تناول الألياف في الطعام ، وهذه مشكلة أساسية في أوروبا وأمريكا ، وللأسف الشديد فإن شعوب العالم الثالث لاحقة بركاب الغرب في التشبه بهم في نمط الحياة ، فأصبحنا نستعمل الدقيق الأبيض ، ونكثر من تناول الوجبات السريعة ، ونسينا تناول الأغذية الغنية بالألياف . وقد يكون الإمساك ناجما عن مرض في الجهاز العصبي ، أو مرض غدي كنقص إفراز الغدة الدرقية ، أو زيادة في الكالسيوم ، أو نقص في البوتاسيوم .. وغيرها .
وهناك أدوية تسبب الإمساك : كمركبات الحديد ، ومضادات الحموضة الحاوية على الكالسيوم والألمنيوم ، وحبوب منع الحمل
وصايا للمصابين بالإمساك :
- عليك بتناول الأغذية الغنية بالألياف : كالخبر الأسمر . وكذلك إضافة المزيد من الفواكه الغضة والخضراوات الطازجة يساعد في التغلب على الإمساك .
- ومن الناس من تعوزهم الحركة والنشاط ، فقم بمزاولة نوع من النشاط البدني كالمشي مثلا – وخاصة بعد العشاء - .
- تناول كمية كافية من السوائل أثناء النهار ، فما أكثر الذين لا يشربون الماء .
- حاول الحفاظ على وقت معين لقضاء الحاجة كل يوم ، ويفضل في الصباح بعد الإفطار .
- لا تلجأ لاستعمال المسهلات إلا عند الضرورة .
- على من يشكو من الإمساك مراجعة الطبيب ، فأنواع الإمساك كثيرة وعلاجها يختلف حسب السبب .
للمزيد من التفاصيل راجع كتابنا : " كيف تتخلص من الإمساك ؟ "
وهو من منشورات دار البشير بجدة
هاتف وفاكس 6608904(/11)
وصايا لحافظات كتاب الله
محمد بن صالح المنجد
دار الوطن
الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات يسّر بفضله ومنته حفظ كتابه لمعشر الأخوات والنساء الطيّبات فرأينا فيهنّ تحقيق موعود الله بتيسير القرآن للحفظ والذّكر، كما قال عزّ وجلّ: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر .
أما بعد فيا حافظة القرآن هنيئا لكِ فقد استعملك الله لحفظ كتابه في الأرض فكنتِ ممن حقق الله بهم موعوده في قوله: إنا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون .
يا حافظة القرآن لا تستقلّي ما فعلت فإنّ ما بين جناحيك هو العلم قال الله تعالى: بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم .
ففي صدرك كتاب لا يغسله الماء وقد جاء في الكتب المقدسة في صفة هذه الأمة: أناجيلهم في صدورهم .
يا حاملة القرآن أنت المحسودة بحقّ، المغبوطة بين الخلق
حسدكِ هو الحسد الجائز قال النبي : { لا تَحَاسُدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ فَيَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ } [رواه البخاري: 6974].
والحسد الجائز هو الغبطة وهي تمني مثل ما للغير من الخير دون تمني زوال النعمة عنه.
يا حافظة القرآن ويا أترجّة الدنيا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ } [رواه البخاري: 5007 ومسلم: 1328] وعنون عليه في صحيح مسلم باب فضيلة حافظ القرآن.
قوله: طعمها طيب وريحها طيب خص صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالرائحة ( لأنّ الطّعم أثبت وأدوم من الرائحة ) والحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والريح لأنه يتداوى بقشرها ويستخرج من حبها دهن له منافع وقيل إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج فناسب أن يمثّل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين، وغلاف حبِّه أبيض فيناسب قلب المؤمن، وفيها أيضا من المزايا كبر جرمها وحسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة وجودة هضم ودباغ معدة.
ياحافظة القرآن أتدرين أين رتبتك
روت أمكِ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ } [رواه البخاري: 4556].
والسفرة: الرسل، لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله، وقيل: السفرة: الكتبة، والبررة: المطيعون، من البر وهو الطاعة، والماهر: الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة بجودة حفظه وإتقانه، قال القاضي: يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقا للملائكة السفرة، لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى. قال: ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم.
والماهر أفضل وأكثر أجرا ; لأنه مع السفرة وله أجور كثيرة، ولم يذكر هذه المنزلة لغيره، وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته وروايته كاعتنائه حتى مهر فيه والله أعلم.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا } [رواه الترمذي: 2838 وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].
قوله: ( يقال ) أي عند دخول الجنة ( لصاحب القرآن ) أي من يلازمه بالتلاوة والعمل ( وارق ) أي أصعد إلى درجات الجنة، ( ورتل ) أي اقرأ بالترتيل ولا تستعجل بالقراءة ( كما كنت ترتل في الدنيا ) من تجويد الحروف ومعرفة الوقوف ( فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها )، قال الخطابي: جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة في الآخرة، فيقال للقاري أرق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن، فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة في الآخرة، ومن قرأ جزءا منه كان رقيه في الدرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة.
يا حافظة القرآن هنيئا لك فقد عمرت قلبك بكلام الله وأقبلت على مأدبته(/1)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنِّي لا أَعْلَمُ شَيْئًا أَصْفَرَ مِنْ خَيْرٍ مِنْ بَيْتٍ لَيْسَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ وَإِنَّ الْقَلْبَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ خَرِبٌ كَخَرَابِ الْبَيْتِ الَّذِي لا سَاكِنَ لَهُ" [رواه الدارمي: 3173].
يا حاملة القرآن مبارك عليك ومبارك لك إن أخلصت الآن نجوت بحفظكِ من عذاب النيران
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ الْمُعَلَّقَةُ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يُعَذِّبَ قَلْبًا وَعَى الْقُرْآنَ" [رواه الدارمي 3185].
يا حاملة القرآن هنيئا لك بشفاعة كتاب الله فيك وحليّك يوم القيامة إن ثبتّ أعظم مما تلبسين الآن
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { يَجِيءُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ حَلِّهِ فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ زِدْهُ فَيُلْبَسُ حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ثُمَّ يَقُولُ يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ فَيَرْضَى عَنْهُ فَيُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَارْقَ وَتُزَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً } [رواه الترمذي: 2839 وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].
يا أم حافظة القرآن هنيئا لك بابنتك
وعن بريدة قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: { تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ وَلا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ( أي السحرة ) قَالَ ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ يُظِلانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ وَإِنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ فَيَقُولُ لَهُ هَلْ تَعْرِفُنِي فَيَقُولُ مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ لَهُ هَلْ تَعْرِفُنِي فَيَقُولُ مَا أَعْرِفُكَ فَيَقُولُ أَنَا صَاحِبُكَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا فَيَقُولانِ بِمَ كُسِينَا هَذِهِ فَيُقَالُ بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلا. } [رواه الإمام أحمد: 21892 وحسنه ابن كثير وهو في السلسلة الصحيحة للألباني: 2829].
يا حافظة القرآن إن المحافظة على القمة أصعب من الوصول إليها
عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: { تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا } [رواه البخاري: 4645].
قوله ( تعاهدوا ) أي استذكروا القرآن وواظبوا على تلاوته واطلبوا من أنفسكم المذاكرة به لا تقصروا في معاهدته واستذكروه … من شأن الإبل تطلب التفلت ما أمكنها فمتى لم يتعاهدها برباطها تفلتت، فكذلك حافظ القرآن إن لم يتعاهده تفلت بل هو أشد في ذلك. وقال ابن بطال هذا الحديث يوافق الآيتين: قوله تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا وقوله تعالى: ولقد يسرنا القرآن للذكر فمن أقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسّر له ومن أعرض عنه تفلت منه. [فتح الباري].
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { مَثَلُ الْقُرْآنِ مَثَلُ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إِنْ تَعَاهَدَهَا صَاحِبُهَا بِعُقُلِهَا أَمْسَكَهَا عَلَيْهِ وَإِنْ أَطْلَقَ ذَهَبَتْ } [رواه البخاري: 4643].
فيا حافظة القرآن لا تزحزحي نفسك عن هذه الرتبة العالية بعد إذ نلتيها
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: "اختلف السلف في نسيان القرآن فمنهم من جعل ذلك من الكبائر، قال الضحاك بن مزاحم: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه لأن الله يقول: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ونسيان القرآن من أعظم المصائب …(/2)
وجاء عن أبي العالية رحمه الله: كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه. وإسناده جيد. ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح في الذي ينسى القرآن كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولا شديدا … والإعراض عن التلاوة يتسبب عنه نسيان القرآن ونسيانه يدل على عدم الاعتناء به والتهاون بأمره … وترك معاهدة القرآن يفضي إلى الرجوع إلى الجهل والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد. وقال إسحاق بن راهويه: " يكره للرجل أن يمر عليه أربعون يوما لا يقرأ فيها القرآن. " أهـ
يا حافظة القرآن قومي به وأكثري درْسه تعيشي به
قال الذهبي في السّيَر: قال أبو عبد الله بن بشر: ما رأيت أحسن انتزاعا لما أراد من آي القرآن من أبي سهل بن زياد وكان جارنا وكان يُديم صلاة الليل والتلاوة فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه.
يا حافظة القرآن ما دمت حفظتيه في قلبكِ فاحفظي به جوارحك
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: يجب على حامل القرآن وطالب العلم أن يتقي الله في نفسه ويخلص العمل لله فإن كان تقدم له شيء مما يكره فليبادر التوبة والإنابة وليبتدئ الإخلاص في الطلب وعمله، فالذي يلزم حامل القرآن من التحفظ أكثر مما يلزم غيره كما أن له من الأجر ما ليس لغيره.
يا حاملة القرآن لا يغرنّك الحفظ فتتركي العمل
فقد وقع في رواية شعبة عن قتادة { المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به مع السّفرة الكرام البررة } وهي زيادة مفسرة للمراد وأن التمثيل وقع بالذي يقرأ القرآن ولا يخالف ما اشتمل عليه من أمر ونهي وليس التلاوة فقط.
يا حاملة القرآن اقدري مكانة الذي في صدركِ وأعطيه حقّه ومنزلته وكما ارتقيت إلى المنزلة العالية بحفظه فعليك في المُقابل مسؤولية وواجبا يوازي ذلك. إنّ الحفظ ليس نيشانا يُعلّق ولا شهادة تُزوّق ولا مكافآت تُفرّق لكنه أمانة يجب القيام بحقّها.
ينبغي لحامل القرآن أن يكون على أكرم الأحوال وأكرم الشمائل
قال الفضيل بن عياض: حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن.
إنّه ثابت الجنان قائم بالحق، ولما حارب المسلمون مسيلمة الكذّاب وقُتل حامل رايتهم زيد بن الخطاب تقدّم لأخذها سالم مولى أبي حذيفة فقال المسلمون يا سالم إنا نخاف أن نُؤتى من قبلك فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قِبَلي، فقطعت يمينه فأخذ اللواء بيساره فقطعت يساره فاعتنق اللواء وهو يقول: وما محمد إلا رسول ، وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فلما صرع قيل لأصحابه ما فعل أبو حذيفة قيل قتل. [الجهاد لابن المبارك].
يا حاملة القرآن إياكِ والتكبّر على من ليس بحافظ فلربما أفلح المقلّ المعذور وخسر الحافظ المغرور
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: { أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ لَهُ اقْرَأْ ثَلاثًا مِنْ ذَاتِ ( ال~ر ) فَقَالَ الرَّجُلُ كَبِرَتْ سِنِّي وَاشْتَدَّ قَلْبِي وَغَلُظَ لِسَانِي قَالَ فَاقْرَأْ مِنْ ذَاتِ حم فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الأُولَى فَقَالَ اقْرَأْ ثَلاثًا مِنْ الْمُسَبِّحَاتِ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ وَلَكِنْ أَقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ سُورَةً جَامِعَةً فَأَقْرَأَهُ إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهَا قَالَ الرَّجُلُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لا أَزِيدُ عَلَيْهَا أَبَدًا ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ أَفْلَحَ الرُّوَيْجِلُ } [رواه أبو داود: 1191 ورجاله ثقات وعيسى بن هلال الصدفي وثّقه ابن حبّان وقال الحافظ في التقريب: صدوق وقال البخاري وأبو حاتم لا يصح حديثه ولعله لأجل هذا أورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود: 300].
يا حاملة القرآن لا تنتظري من الناس ثناء ولا تقديرا وجاهدي أن لا تتأثّري بمدحهم وإطرائهم إخلاصا لله
نعم يجب عليهم أن يوقروا حاملة القرآن لأنّ في جوفها كلام الله وإن من إجلال الله إكرام حامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه قال ابن عبد البَرّ رحمه الله: وحملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله المعظّمون كلام الله المُلبسون نور الله فمن والاهم فقد والى الله ومن عاداهم فقد استخف بحق الله تعالى. وقد نقل صاحب كتاب الفواكه الدواني قول أهل العلم: بأنّ غيبة العالم وحامل القرآن أعظم من غيبة غيرهما. أهـ ومع ذلك فإنّ على صاحب القرآن أن لا يغترّ بحقّ وحرمة الحفظة فلربما أخرجه عدم الإخلاص من بينهم.
دعاء(/3)
اللَّهُمَّ بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ وَالْعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامُ نَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ بِجَلالِكَ وَنُورِ وَجْهِكَ أن تهدي هؤلاء الحافظات وأَنْ تُلْزِمَ قلوبهن حِفْظَ كِتَابِكَ كَمَا عَلَّمْتهن، وأن َترْزُقهن تلاوتهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيكَ عَنهن، اللَّهُمَّ بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ وَالْعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامُ نَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ بِجَلالِكَ وَنُورِ وَجْهِكَ أَنْ تُنَوِّرَ بِكِتَابِكَ أبصارهن وَأَنْ تُطْلِقَ بِهِ ألسنتهن وَأَنْ تغسل بِهِ قلوبهن وَأَنْ تَشْرَحَ بِهِ صدورهن وَأَنْ تفرّج به همومهن وسائر المسلمين والمسلمات، وصلى الله على نبينا محمد.(/4)
وصايا لطالب العلم 1/3/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. أما بعد:
فإن العلم من المصالح الضرورية التي تقوم عليه حياة الأمة بمجموعها وآحادها، فلا يستقيم نظام الحياة مع الإخلال بها، فيجب على طالب العلم أن يتصف بالصفات التي تليق به وبما يحمله من العلم وأن يكون هذا العلم مؤثراً فيه ولا يكون كما قال الله _عز وجل_: "كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً" (الجمعة: من الآية5). وهنا وصايا أوصي بها طالب العلم حتى يثمر علمه نفعاً لأمته وله تبعاً، ومن هذه الوصايا ما يلي:
- الورع والتقوى والعمل بالعلم:
يجب على طلاب العلم بصفة خاصة أن يكونوا ورعين، تقاة بررة، وأن يعملوا بعلمهم، ويلتزموا بالإسلام عقيدة وسلوكاً، قولاً وعملاً، وقد قيل العلم بلا عمل جنون، والعمل بلا علم لايكون.
- بذل العلم للناس، عامهم وخاصهم:
وتوعيتهم بأمور دينهم ودنياهم، ونشر الخير بينهم، فإن كتم العلم وحجبه عن الأمة أمر خطير، قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة".
- الدعوة إلى الله على بصيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ومجالات الدعوة التي يجب على طلاب العلم الدخول فيها كثيرة يطول الحديث عنها، فليرجع إليها في مواضعها. يقول الله _تبارك وتعالى_: "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران:104).
- القدوة الصالحة:
فإن الناس ينظرون إلى طالب العلم نظرة خاصة، فعليه أن يجعل من نفسه مثالاً رائعاً، وألا يكون سبباً في ضلال الناس بتصرفاته، فلئن كانت المعصية في حق غيره واحدة، فهي في حقه عدة معاصٍ؛ لأن الناس يأتسون به.
- الاستمرار في طلب العلم حتى الممات:
والحذر من الشعور بالاستغناء والاكتفاء والاستعلاء، ولنا في سلف الأمة خير مثالٍ في هذا الباب، فبعض المنسوبين إلى طلب العلم إذا حصل على شهادة عالية توقف هنالك وانصرف عن الطلب، ومن نماذج ذلك أن أحد طلاب العلم لما أنهى رسالته العلمية باع كتبه، وهذه مأساة ورجوع إلى الوراء، وفهم سقيم لحقيقة العلم.
- الشجاعة في قول الحق من غير تهور:
وهذه صفة عزت في الأمة، وندر أهلها، فعظمت الحاجة إلى الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، الذين لا يخافون على أنفسهم، ولا على أموالهم، وفي نفس الوقت لا يذهبون أنفسهم في غير مذاهبها، بل في رؤى دخيلة، وأفكار شريرة ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، والسبب هو التهور والاستعجال وعدم تقدير مواضع الخطو قبل الشروع فيها، والشجاعة وسط بين التهور والنزق والاستعجال، وبين الجبن والخور والإحجام.
- الوعي بواقع الأمة:
والتفاعل مع قضايا المجتمع، وعدم الانعزال عن هموم الناس، وإن مما يبعث على الحزن أن نجد كثيراً من طلاب العلم من أبعد الناس عن واقع أمتهم فلا بد من الانخراط في قضايا الأمة وحل مشاكلها والعمل على إصلاحها من فساد المفسدين، وإذا لم يبادر طلاب العلم وأهله إلى مثل هذا فمن له؟ وإلى من سيلجأ الناس؟ ولماذا يطلب الطالب العلم إذن؟ فلابد إذن من الوعي بواقع الأمة كل بحسبه، فهذا يحكم عليه علمه وموضعه أن يعتني بشؤون، والآخر تتحتم عليه معرفة أمور أخرى.
هذه بعض الوصايا التي تلزم طالب العلم.. أسأل الله _عز وجل_ بمنه وكرمه أن ينفع به المسلمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.(/1)
وصايا لقمان وما تضمنته من جوانب التربية الإسلامية
رئيسي :تربية :الأربعاء 1شعبان 1425هـ - 15 سبتمبر 2004 م
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد،،،
فإن الحاجة إلى التربية الإسلامية شديدة؛ لأن العقول البشرية لا تستطيع وحدها إدراك مصالحها الحقيقة التي تكفل لها سعادة الدارين الدنيا والآخرة، كما أنها لا تهدي وحدها إلى التمييز بين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، فالإنسان ليس كامل الحواس والعقل، ومن ثمَّ، فإن مداركه ومعارفه مهما وصلت إلى درجة عالية، فإنها تبقى قاصرة ومحدودة.
لذا ينبغي أن يكون الإسلام هو المصدر الأساسي الذي يستمد منه المجتمع فكره التربوي، وأهدافه التربوية، وأسس مناهجه، وأساليب تدريسه، وسائر عناصر العملية التعليمية، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [153]} [سورة الأنعام]. يتضح من الآية الكريمة أنه لا سبيل إلى تلافي هذا النقص وذلك القصور إلا بتفهم أصول التربية الإسلامية من مصادرها الأصلية، والرجوع إلى سير السلف الصالح للإقتداء بهم.
وفي هذه الدراسة نستخلص أصول التربية الإسلامية للإنسان المسلم من خلال وصايا لقمان كما وردت في سورة لقمان.
أولًا:وصايا لقمان لابنه: وقد بينها لنا القرآن الكريم بأسلوبه ومعانيه المعجزة الخالدة، فكانت وصاياه أنموذجا يتوافر فيه الإخلاص والصواب، وعلى الآباء أن يسلكوا مسلكه في تنشئة أبنائهم تنشئة إسلامية صحيحة، وفق ما تعرضه الآيات الكريمة من كتاب الله والتي ذكرت بها وصايا لقمان:
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ[12]وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[13]وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[14]وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[15]يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[16]يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[17] وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[18]وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[19]}[سورة لقمان]. من خلال العرض السابق للآيات الكريمة يمكن توضيح الوصايا في النقاط التالية:
الوصية الأولى: توحيد الله وإفراده بالعبادة لله وحده لا شريك له في ذلك، فهو المستحق للعبادة وحده:{يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
الوصية الثانية: برَّ الأبناء لآبائهم:{وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْه...}.
الوصية الثالثة: أن يراقب العبد الله سبحانه في حركاته وسكناته وجميع أعماله، فالله عزوجل لا تخفى عليه خافية لا في الأرض، ولا في السماء: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ...} الآية.
الوصية الرابعة: الأمر بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على تحمل المشاق في سبيل ذلك: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ...} الآية.
الوصية الخامسة: التواضع لعباد الله، والإقبال عليهم بوجه طليق، والابتعاد عن مظاهر الكبر والغرور، وخفض الصوت أثناء الحديث معهم، وعدم رفعه:{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ….}الآية {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِك……} الآية. تلك هي وصايا لقمان الحكيم لابنه ذكرها لنا القرآن الكريم للتفكر والاعتبار.
ثانيًا: جوانب التربية الإسلامية المتضمنة لوصايا لقمان لابنه:(/1)
أولًا: الدعوة إلى غرس عقيدة التوحيد: والأسرة المسلمة هي المدرسة الأولى التي تقوم بتوجيه وتربية الأبناء تربية صالحة، فالأبناء أمانة في أعناقهم يسألون عنهم أمام الله، قال عز وجل:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[6]}[سورة التحريم].
فأول واجب يجب على الأبوين القيام به، والاهتمام بأمره دون كلل: هو غرس عقيدة التوحيد في نفس الطفل، وتوجيه عواطفه نحو حب الله ورسوله، وإخباره بأن الله يجب أن يكون أحب إليه من أمه وأبيه ونفسه، والإِيمان بالله الذي لا إله غيره، وبملائكته ورسله، وتوحيد الله في الألوهية، والربوبية، والقوامة، والسلطان، والحاكمية؛ لأن الإيمان بالله هو الموجه لسلوك الإنسان، والدافع له إلى اتجاه الخير، والنصير له، كما أنه الذي يصرفه عن طريق الشر، ويجعله متحلياً بالفضائل، وحسن الخلق.
والمقصود بالإيمان أي الإِيمان بما أوجب الله تعالى في قوله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ...[285]}[سورة البقرة].
وأما السنة: فقد ذكرت أركان الإيمان مجتمعة في حديث جبريل عليه السلام- وهو مشهور-.
إن الإيمان بالله هو الموجه للسلوك والضابط له، والمتصل اتصالًا وثيقاً بالأعمال الصادرة من الإِنسان، فإن التربية الإِسلامية تربط دائمًا بين العمل والسلوك، ثم بين العمل الصادر من هذا الإيمان وبين الجزاء، قال تعالى:{ وَالْعَصْرِ[1]إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[2]إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[3]}[سورة العصر].
وهناك آيات كثيرة تقرن الإيمان بالعمل، فالإيمان الحق هو الإيمان الذي يصدر عنه السلوك، وينبع منه العمل الصالح، ويخرج منه الخلق الكريم، فحسن الخلق، والإخاء والمودة، واجتناب الكبائر، والتمسك بالفضائل يجب أن تصدر عن هذه العقيدة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: [لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ]رواه أحمد.
ويقول صلى الله عليه وسلم في سلوك المؤمن نحو جاره، ونحو نفسه: [ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ] رواه البخاري ومسلم.
كما يتحدث عن أثر الإيمان في تجنب الرذائل، وارتباط الإيمان بالسلوك ساعة فعل العمل: كما جاء في الحديث الشريف: [لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ] رواه البخاري ومسلم.
وكما ورد في الحديث الآخر: [لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَوْ قَالَ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ] رواه البخاري ومسلم-واللفظ له-.
فالعقيدة لابد أن تنعكس على الإنسان وسلوكه، فإذا آمن إيمانا يقينيًا بالله سبحانه وبعلمه ومراقبته الدائمة لعبده؛ كان هذا الإيمان محدداً لسلوك المسلم كفرد، وسلوك الجماعة كأمة مسلمة.
فالعقيدة لابد أن تترجم في حياة الفرد الذي يعلم بأن الله يطلع على سره ونجواه، وأن أفعاله مكتوبة وهو محاسب عليها، ولابد أن تترجم في حياة الجماعة، فتبني نظام حياتها وفق هذه العقيدة التي آمنت بها.
من كل ما سبق يتقرر أنه لا سعادة لهذه النفس الإِنسانية، ولا استقامة لها إلا إذا ارتبطت كافة جوانبها بعقيدة التوحيد، ومن هنا يجب على المربي المسلم أن يربط كل جوانب التربية بهذا الأصل الاعتقادي لما له من أهمية كبرى في حياة الإنسان النفسية، وتوحد نوازعه وتفكيره وأهدافه، وتجعل كل عواطفه وسلوكه وعاداته قوى متضافرة متعاونة ترمي كلها إلى تحقيق هدف واحد هو الخضوع لله وحده، والشعور بألوهيته وحاكميته، ورحمته وعلمه، لما في النفوس وقدرته، وسائر صفاته.
ثانيًا:بر الوالدين: إن عطف الآباء على الأبناء من أبرز صور الرحمة، وهو يفرض على الأبناء أن يقابلوا رحمة والديهم لهم بأن يرعوهم كباراً، فيخفضوا لهم جناح الذل من الرحمة، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة بهم.
إن عطف الوالدين على أولادهم عطاء لا يقدر بثمن ولا ينتظر منه العوض، إنه فطرة فطر الله الوالدين عليها، ولذلك كان برهما من أعظم الواجبات، وفي مقدمة الصلات الاجتماعية، كما كان عقوقهما من الكبائر المقاربة للشرك بالله، ولهذا ورد الأمر بالإحسان إليهما في مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل عقب الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الإشراك به:
فمن ذلك قوله تعالى:{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ...[36]}[سورة النساء].(/2)
ففي الآية الكريمة يأمر الله تعالى بعبادته، وينهى عن الشرك به، ثم يتبعه الأمر بالإحسان للوالدين وبرهما لما لهما من الفضل على الابن منذ أن كان نطفة في رحم أمه حتى صار كبيراً يعتمد على نفسه.
ويعرض لقمان الحكيم في وصيته لابنه العلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق، وفي صورة موحية بالعطف والرقة، ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة؛ ولهذا كان شكر الوالدين بعد شكر الله؛ لأنه المنعم الأول.
ووصية الإنسان بوالديه تتمثل في: طاعتهما، وطاعة الوالدين لا تكون في ركوب كبيرة، ولا في ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات..مما سبق يمكن القول أن علاقة الأبناء بالوالدين يجب أن تكون علاقة قوية مبنية على التقدير والاحترام؛ ذلك أن فضلهم على أبنائهم لا يدرك مداه، ولا يستطيع أحد أن يقدره. ومن هنا كان توصية الأبناء بآبائهم تتكرر في القرآن الكريم، والسنة المطهرة؛ لما في ذلك من حاجة لتذكيرهم بواجب الجيل الذي نفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف، ومما لاشك فيه أن الإنسان لا يفي والديه حقهما عليه مهما أحسن إليهما، لأنهما كانا يحسنان إليه حينما كان صغيراً وهما يتمنيان له كل خير، ويخشيان عليه من كل سوء، ويسألان الله له السلامة وطول العمر، ويهون عليهما من أجله كل بذل مهما عظم ويسهران على راحته دون أن يشعر بأي تضجر من مطالبه، ويحزنان عليه إذا آلمه أي شيء، أما الولد فإذا قام بما يجب عليه من الإحسان لوالديه، فإن مشاعره النفسية نحوهما لا تصل إلى مثل مشاعر أنفسهما التي كانت نحوه ولا تصل إلى مثل مشاعره هو نحو أولاده إلا في حالات نادرة جداً.
من البيان السابق للوصية الثانية- والتي تتعلق ببر الوالدين- يتقرر أن من أول الواجبات التي يجب على الطفل المسلم أن يتعلمها: الشكر للوالدين، ويكون هذا بعد الإِيمان بالله سبحانه وحده، والشكر له، ولهذا جعل لقمان شكر الوالدين بعد شكر الله عز وجل، والإيمان به اعترافاً بحقوقهما، ووفاء بمعروفهما.
ثالثًا: التربية على الإِيمان بقدرة الله عز وجل: قال تعالى:{ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ[16]}[سورة لقمان].
في الآية الكريمة يعلم لقمان ابنه مدى قدرة الله تعالى، حيث قيل: إن الحس لا يدرك للخردلة ثقلًا، إذ لا ترجح ميزانًا. أي لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في هذه المواضع جاء الله بها حتى يسوقها إلى من هي رزقه، أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن إتباع سبيل من أناب إليّ.
والآية الكريمة السابقة توجه الإنسان إلى قدرة الله الواسعة، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، فسبحانه لا شريك له. وهناك آيات بينات من كتاب الله تدل على سعة علم الله، وقدرته العظيمة، فمن ذلك قوله تعالى:{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[59]}[سورة الأنعام].
وفي قوله تعالى:{حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَل}، إشارة إلى دقة الحساب، وعدالة الميزان، ما يبلغه هذا التعبير المصور حبة من خردل، صغيرة ضائعة لا وزن لها ولا قيمة {فَتَكُنْ فِي صَخْرَة} أي صلبة محشورة فيها لا تظهر، ولا يتوصل إليها {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ...} في ذلك الكيان الهائل الشاسع الذي يبدو فيه النجم الكبير ذو الجرم العظيم نقطة سابحة، أو ذرة تائهة {أَو ْفِي الأَرْض} ضائعة في ثراها وحصاها لا تبين {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} فعلمه يلاحقها وقدرته لا تفلتها [في ظلال القرآن 5/2789].
ويراد من ذلك: الأعمال: المعاصي و الطاعات، أي إنْ تك الحسنة أو الخطيئة مثقال حبة؛ يأت بها الله، أي لا تفوت الإنسان المقدر وقوعها منه، وبهذا المعنى يتحصل في الموعظة التوجية والتخويف.
ويدرك الإنسان من معرفته لقدرة: مراقبة الله الدائمة له في كل تصرف، مراقبة الله له في الصغيرة والكبيرة، وفي الجهر والخفاء؛ ولذا فهو يراقب الله وهم يعمل... فلا يعمل شيئاً بغير إخلاص، لا يعمل شيئاً يقصد الشر... لا يعمل مستهتراً ولا مستهينًا بالعواقب، ولا يعمل شيئا لغير الله، فالله سبحانه وتعالى يحاسبه على النية بعد العمل، وعلى الإخلاص فيه. هذا والله لا يقبل أن يكون شيء من العمل لغير وجهه.(/3)
فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ مَالَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَه]ُ فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَهُ] ثُمَّ قَالَ: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ] رواه النسائي.
وكذلك يراقبه وهو يفكر ويحس... فالله يعلم السر، وأخفى من السر الهاجسة في باطن النفس لم يطلع عليها أحد؛ لأنها مطمورة في الأعماق يراقبه فلا يحس بإحساس غير نظيف، يراقبه فينظف مشاعره أولًا بأول: لا يحسد ولا يحقد، ولا يكره للناس الخير، ولا يتمنى أن يحرمهما منه، ويستحوذ هو عليه، ولا يشتهى الشهوات الباطلة، والمتاع الدنس.
وحين توجد في القلب هذه الحساسية المرهفة تجاه الله، لتستقيم النفس، ويستقيم المجتمع، وتستقيم جميع الأمور، ويعيش المجتمع نظيفاً من الجريمة، نظيفاً من الدنس، نظيفاً من الأحقاد؛ لأنه لا يتعامل في الحقيقة بعضه مع بعض وإنما يتعامل أولا مع الله .
وبناء على ما سبق ذكره: ينبغي على الآباء والأمهات، وكذلك العاملين في مجال التربية والتعليم أن يغرسوا في قلوب أبنائهم وتلاميذهم مراقبة الله تعالى في أعمالهم وسائر أحوالهم، لتصبح هذه المراقبة الإلهية سلوكًا لازمًا لهم في كل تصرفاتهم، ويتم ذلك بترويض الولد على مراقبة الله وهو يعمل، فيتعلم الإخلاص لله في كل أقواله، وأعماله، وسائر تصرفاته، ويكون ممن شملهم القرآن بقوله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...[5]}[سورة البينة].
وكذلك ترويضه على مراقبة الله وهو يفكر: ليتعلم الأفكار التي تقربه من خالقه العظيم، والتي بها ينفع نفسه، ومجتمعه، والناس أجمعين.
وأيضاً ترويضه على مراقبة الله وهو يحس: فيتعلم كل إحساس نظيف وليتربى على كل شعور طاهر.. وهذا النمط من التربية والمراقبة قد وجه إليه المربي الأول عليه الصلاة والسلام في إجابته السائل عن الإحسان: [أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ] رواه البخاري ومسلم.
وحينما ينهج المربون في تربية الأولاد هذا النهج، ويسير الآباء والأمهات في تأديب الأبناء على هذه القواعد؛ يستطيعون بإذن الله في فترة يسيرة من الزمن أن يكوّنوا جيلاً مسلمًا مؤمنًا بالله، معتزًا بدينه، مفتخرًا بتاريخه وأمجاده، ويستطيعون كذلك أن يكوّنوا مجتمعًا نظيفًا من الإلحاد والميوعة والحقد، ونظيفاً من الجريمة.
رابعًا: التوجه إلى الله تعالى بالصلاة، والتوجه إلى الناس بالدعوة إليه تعالى، والصبر في سبيل الدعوة ومتاعبها:
أ- الأمر بإقامة الصلاة: يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ}. فرض الله على عباده عبادات لها أثرها في تهذيب سلوك الإنسان، وإصلاح القلوب ومن هذه العبادات: الصلاة، وهي الركن الثاني من أركان الإسلام وعموده الذي لا يقوم إلا به، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وقد بلغ من عناية الإسلام بالصلاة أن أمر بالمحافظة عليها في الحضر والسفر، والأمن والخوف قال تعالى: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ[238]فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ[239]}[سورة البقرة].
إن المتمعن بالعبادات التي فرضها الله عموماً، والصلاة خصوصاً؛ يدرك أثرها التربوي في إشراقة النفوس، وطمأنينة القلوب، وإصلاح الفرد والجماعة، ومن هذه الآثار التربوية ما يلي:
1- إقامة الصلاة دليل على صدق الإيمان، وعلى تقوى الله، وعلى ما يتمتع به صاحبها من بره بعهده، وقيامه على الحق، وإخلاصه لله، قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1]الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ[2]}[سورة المؤمنون].
2- الصلاة منهج متناسق لتربية الفرد والمجتمع يصل بهما إلى قمة السمو الأخلاقي، قال تعالى:{ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ...[45]}[سورة العنكبوت].
3- الصلاة تمد المؤمن بقوة روحية تعينه على مواجهة المشقات في الحياة الدنيا، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[153]}[سورة البقرة].(/4)
4- الصلاة غذاء روحي للمؤمن يعينه على مقاومة الجزع والهلع عند مسه الضر، والمنع عند الخير والتغلب على جوانب الضعف الإنساني، قال تعالى:{ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا[19]إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا[20]وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا[21]إِلَّا الْمُصَلِّينَ[22]الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ[23]}[سورة المعارج].
5- إن الصلاة سبب لمحو الخطايا وغفران الذنوب فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ] قَالُوا لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ قَالَ: [فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا] رواه البخاري ومسلم.
6- إن في الصلاة غذاء للروح لا يغني عنه علم، ولا أدب، فالصلوات الخمس هي وجبات الغذاء اليومي للروح كما أن للمعدة وجباتها اليومية يناجي المصلي فيها ربَّه فتكاد تشف روحه، وتصفوا نفسه.
7- في الصلاة تدريب للمسلم على النظام، وتعويد له على الطاعة، ويظهر هذا واضحًا في صلاة الجماعة.
8- في صلاة الجماعة دعم لعاطفة الأخوة وتقوية لروابط المحبة وإظهار للقوة فبالاجتماع تذهب الضغائن وتزول الأحقاد و تتآلف القلوب وتتحد الكلمة، قال تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ...[11]}[سورة التوبة].
ب- بعد ما أمر لقمان ابنه بالإِيمان بالله ، وعدم الإشراك به، والقيام ببر الوالدين، والثقة بعدالة الجزاء، والتوجه إلى الله بالصلاة، أمره بالقيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لما في ذلك من آثار حب الفضيلة، وأساس من أسس صلاح المجتمع، وإذا تضامن الناس في ذلك - كما هو الواجب شرعاً - ووجد تضامن الناس على الفضيلة فلا تضيع بينهم، ووجد تضامنهم على استنكار الرذيلة فلا توجد بينهم.
لا شك أن الله عز وجل جعل هذه الأمة المحمدية خير أمة أخرجت للناس، كما جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مناط هذه الخيرية مع الإِيمان بالله، قال تعالى: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...[110]}[سورة آل عمران].
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاولة تغيير المنكر بالنصيحة، وبالطرق العملية المثمرة؛ مساهمة جليلة في صيانة المجتمع وتقويمه و إصلاحه، وكل مساهمة في إصلاح المجتمعات، وتقويمها، وصيانتها أعمال أخلاقية فاضلة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنكاره ومحاولة تغييره من مكارم الأخلاق الإيمانية؛ لما فيها من خدمة اجتماعية، وصيانة للمجتمعات عن الانزلاق في مزالق الانحراف، ولذلك حرص الإسلام حرصا شديداً على جعل كل المسلمين والمسلمات حرّاساً لأسوار الفضائل وتعاليم الدين الحنيف، فمن جاهد منهم المنحرفين بيده، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه، فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. فوظيفة حراسة المجتمع لحمايته من الانحراف وظيفة اجتماعية لا يجوز التخلي عنها في أي حال من الأحوال فإذا حدث ذلك تعرضت الأمة كلها للعقوبة العامة.
جـ- تتطلب الدعوة إلى الله تعالى الصبر من الداعي في سبيل ما يلقاه من أعداء دعوته: ذلك لأن الناس أعداء لما جهلوا، وتحويلهم من عقيدة اعتنقوها فترة من الزمن- ولو كانت باطلة- إلى عقيدة أخرى لم يألفوها- وإن كانت هي الحق- أمر صعب على النفوس، ولهذا أوصى لقمان ابنه بالصبر يقول الحق تبارك وتعالى على لسان لقمان: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}، لأن الإنسان عندما يتعرض لدعوة الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابد أن يتصدى له أهل الشر، ويناله منهم أذى ولو كان قليلا، فأمر لقمان ابنه بالصبر عليه.
وبالصبر يتمكن الإنسان بطمأنينة وثبات أن يضع الأشياء في مواضعها، ويتصرف في الأمور بعقل واتزان، وينفذ ما يريد من تصرف في الزمن المناسب، بالطريقة المناسبة الحكيمة، وعلى الوجه المناسب الحكيم، بخلاف عدم الصبر الذي يدفع إلى التسرع والعجلة، فيضع الإِنسان الأشياء في غير مواضعها، ويتصرف برعونة فيخطئ في تحديد الزمان، ويسيء في طريقة التنفيذ، وربما يكون صاحب حق، أو يريد الخير، فيغدو جانياً، أو مفسداً، ولو أنه اعتصم بالصبر لَسلِم من كل ذلك.
لهذا أوصى لقمان ابنه بالصبر؛ لأن الصبر على المصائب يبقى للفعل نوره، ويبقى للشخص وقاره، ولذا كان الصبر من الآداب الرفيعة والأخلاق القويمة، و صفة من صفات المؤمن، وسمة من سمات المبشرين بالأجر العظيم من الله عز وجل قال تعالى: {...إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [10]} [سورة الزمر].(/5)
نخلص مما سبق أن لقمان وصيته هذه رتب الأمور بحسب أهميتها للداعية: حيث بدأها بتربية النفس على طاعة الله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاة} ثم ثنى بدعوة الآخرين: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ثم أمر بالصبر على ما يصيبه وتحمل ما يتعرض له من الأذى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَك}.
وهكذا يربَّي لقمان ابنه على منهج العبادة، حيث أن العبادة في الإسلامِ تربي الإنسان المسلم على الوعي الفكري الدائم، وهذا ما يجعله إنسانًا منطقياً واعياً في كل أمور حياته، ومنهجياً لا يقوم بعمل إلا ضمن خطة ووعي وتفكير، إلى جانب ذلك فهو في يقظة دائمة يراقب الله في كل أعماله.
وإضافة إلى ما سبق فإن العبادة تربي في الإِنسان المسلم الشعور بالعزة والكرامة، قال تعالى }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[8]}[سورة المنافقون].
خامسًا: الآداب الاجتماعية: يستطرد لقمان في وصيته التي يحكيها القرآن هنا إلى آداب الداعية إلى الله، فالدعوة إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس والتطاول عليهم باسم قيادتهم إِلى الخير، ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل.
يقول لقمان وهو يعظ ابنه:{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ[18]وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[19] } [سورة لقمان]. فمن الآيتين الكريمتين السابقتين يتضح أن الآداب المتضمنة في تلك الموعظة هي كالتالي:
1] {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاس} ينهى ابنه عن الكبر، والمعنى أن لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم، أو كلموك احتقاراً منك لهم، واستكباراً عليهم، ولكن ألن جانبك، وابسط وجهك إليهم. والصعر داء يصيب الإبل فيلوي أعناقها، والأسلوب القرآني يختار هذا التعبير للتنفير من الحركة المشابهة للصعر: حركة الكبر والازورار، وإمالة الخد للناس في تعال واستكبار. والتكبر ليس من أخلاق المؤمن، والإِنسان كلما تواضع لله رفعه الله، وكلما تكبر عليه وضعه وقصمه، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: [وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ] رواه مسلم.
فظهر بهذا أن أولى الأخلاق التي يرغب لقمان في غرسها في ابنه: عدم التكبر على الناس، والتواضع لهم.
2] {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً...} يعني: ولا تمش في الأرض مشية تبختر واختيال، ولذلك ختم الله الآية بما يناسب هذا المعنى فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي لا يحب كل مختالٍ على الناس، مستكبر عليهم بمشيته بينهم، أو بإعراضه عنهم، ولا يحب كل فخور على الناس بنفسه، أو بما أتاه الله من قوة، أو مالٍ، أو نسبٍ، أو جاهٍ، أو ذكاء قلب، أو جمال وجه، وحسن طلعة.
3] {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ...} بعدما نهى لقمان ابنه عن مشيه المرح وصعر الخد أمره بالمشية المعتدلة القاصدة، فقال:{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} والقصد هنا من الاقتصاد، وعدم الإِسراف، وعدم إضاعة الطاقة في التبختر، والتثني والاختيال، ومن القصد كذلك؛ لأن المشية القاصدة إلى هدف لا تتلكأ، ولا تتخايل، ولا تتبختر، إنما تمضي لقصدها في بساطة وانطلاق. ولقد نهى الله تعالى المسلم أن يسير مسرع الخطى وهو يلهث، كما نهاه أن يبطئ في مشيه وهو خامل كسول، إنما عليه أن يتوسط في مشيه.
فإذا وضعت أسس التربية على أساس من التوازن والاعتدال- كما أوضحتها النظرة الإسلامية- لاعتدل الأمر، وما تحولت الوسائل إلى غايات، وما انحرفت بنا الطريق بين غلو وتقصير، وإفراط وتفريط. والتربية الإِسلامية تهتم بالتركيز على التوازن بين إشباعات النفس، ومطالبها، وبين عفتها وقناعتها، وهذا وارد في قوله تعالى: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ … [29]}[سورة الإسراء].
فالوسط الإسلامي هو التوازن في الفكر والسلوك والتطبيق، من أجل ذلك طلب لقمان ابنه أن يتوسط في مشيته، والمراد من ذلك أن تكون مشيته ما بين الإسراع والبطء أي لا تدب دبيب المتماوتين ولاتثب وثب الشطار.
4] {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي: لا تتكلف رفع صوتك، وخذ منه ما تحتاج إليه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلف يؤذي، والمراد بذلك التواضع. وغض الصوت فيه أدب، وثقة بالنفس، واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته.. والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة، بشعة حين يعقب عليه بقوله:{إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}.(/6)
قال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير. وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاوناً بهم، أو بترك الصياح جملة.
يتضح من الوصايا التي وصى بها لقمان ابنه أنها تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً، وإلى مرتكبها إن كانت نهياً: فأمره بأصل الدين وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك، وبين له الموجبة لتركه.
وأمره ببر الوالدين وبين له السبب الموجب لبرهما، وأمره بشكره وشكرهما، ثم احترز بأن محل برهما وامتثال أوامرهما مالم يأمرا بمعصية ومع ذلك فلا يعقهما بل يحسن إليهما، وإن كان لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك.
وأمر بمراقبة الله، وخوّفه القدوم عليه، وأنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الخير والشر إلا أتى بها. وأمره بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وبالصبر اللذين يسهل بهما كل أمر كما قال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ...[45]}[سورة البقرة].
ونهاه عن التكبر وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك.. فحقيق من أوصى بهذه الوصايا أن يكون مخصوصًا بالحكمة، مشهورًا بها، ولهذا من منّة الله على عباده أن قصر عليهم من حكمته ما يكون لهم به أسوة حسنة.
فالوصايا السابقة هي منهج الآداب السامية التي يؤدب الله عباده ذلك؛ لأن في امتثالها فلاحهم دنيا وآخرة هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم يرون آثارها التربوية في توجيه وتهذيب سلوكهم، وتعمل على زيادة الألفة و المحبة بينهم كما يؤدي هذا إلى تماسك مجتمعهم.
من بحث:' معالم أصول التربية الإسلامية من خلال وصايا لقمان لابنه' د./ عبد الرحمن بن محمد عبد المحسن الأنصاري(/7)
وصايا للدعاة
يتناول الدرس بيان أهمية الدعوة إلى الله ودور الشباب فيها، ثم عرض لتوجيهات قيمة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر مثل تعميق الإيمان في النفوس والالتزام بمقتضياته، والإخلاص، والاجتهاد في طلب العلم، والصبر ثم عرض لقضية الحكم على الآخرين وضوابط ذلك.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وأصحابه، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،،،
أهمية الدعوة إلى الله:
أحب أن أذكركم بأن مهمة الدعوة إلى الله مهمة كبرى، وعظيمة، وفاضلة، مهمة رُتب عليها من الأجر العظيم ما الله به عليم؛ ولذا فقد اختار الله تعالى لها أفضل الخلق وأكرم البشر، وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: }وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[25]{ “سورة الأنبياء” فهي شرف لمن وفق لها، ولمن أخذها، فلا غرو أن يرغّب فيها، وأن يتنافس في ميادينها المتنافسون؛ طلبًا لهذا الشرف العظيم، فالمختارون لها هم سادات الأمة وفضلاؤها...وانطلاقًا من هذا؛ أذكركم بنصائح يحتاجها الدعاة، ولاسيما في عصرنا الحاضر، وأذكّر بها- لا من أجل أنها تخفىعليكم- ولكن امتثالاً لقول الله تعالى: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...[136] { “سورة النساء” فوصفهم بالإيمان وأمرهم بالإيمان.
أهمية دور الشباب:
وليسمح لي الشيوخ والعلماء أن أقدم الشباب فيما أخصهم بهذه النصائح، ولا غرو أن يقدم الأصاغر على الأكابر- في هذا المقام- فهم قدموا أنفسهم، والواقع قدمهم في هذا الميدان، وصدرهم في هذا الأمر، وأنزلهم هذه المنزلة؛ منزلة الدعاة والأئمة والسادة؛ إذ قاموا بمهمات الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا أقول هذا من باب إعجابي فقط، فقد عايشتهم وأعرف أخبارهم، فلقد قعد كثير من الشيوخ وقاموا، وركد كثير منهم وتحرك الشباب، وسكت كثير من الناس عن المنكرات ونطقوا هم وأنكروا.
وهذا هو شباب الإسلام، وانظروا في تاريخنا لتروا المهمات التي قاموا بها في مختلف المجالات: في مجال الجهاد والدعوة وفي مجال تحمل العلم، وتعرفون أن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ: [ عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي] رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد . وهذا يعني أن من أكمل الخامسة عشرة أصبح مكلفًا وصالحًا للجهاد، وصالحًا للقيام بالدعوة وتعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لأسامة بن زيد لواء الجهاد وسنه ـ كما ذكر المؤرخون ـ ثماني عشرة سنة، وكان في هذا اللواء كثير من كبار المهاجرين والأنصار. وأمَّرَ عليه الصلاة والسلام عتّاب بن أسيد على مكة وعمره قرابة العشرين. وأمَّ عمرو بن سلمة قومه في الصلاة وهو ابن سبع أو ست سنين، واعتبر العلماء سن الخامسة محل تحمل لرواية الحديث كما هو الحال في شأن محمود بن الربيع رضي الله عنه... لذا فإن نصائحي هي في الدرجة الأولى للشباب؛ فهم حملة الدعوة وأمل الأمة، وهم الذين يرجى أن يقودوا الأمة إلى شاطئ النجاة، وهم الذين أتوسم صلاحهم، وفي تحركهم بالدعوة تحقيقًا لوعد الله في قوله:} وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[38]{ “سورة محمد” وفي قوله:} يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[54]{ “سورة المائدة” .
وصايا وتوجيهات للآمرين بالمعروف:
ونصيحتي التي أقدمها لهؤلاء الدعاة أن يهتموا في دعوتهم، وفي تحركهم، وفي تعلمهم، وفي أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر بعدة وصايا :(/1)
الوصية الأولى: بذل الجهد في تعميق الإيمان في النفوس:فكلما بذل الجهد في تأصيل الإيمان في النفوس تعمق وترسخ واقتنع به صاحبه؛ فيصبح إيمانه ملء سمعه وبصره، وأنس قلبه وقرة عينه، ويصبح إيمانه محركًا لصاحبه إلى كل خير، ومقعدًا له عن كل شر، وإذا تعمق الإيمان، ووقر في القلب، واستقر فيه، فلن تزعزعه شبهة ولا شهوة، وسيواجه الأمور مواجهة الجبال الصمّ التي تصد الرياح، ولا تحركها الأعاصير. وكنت قد ابتدأت بقوله تعالى: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...[136] { “سورة النساء” بمعنى: قووا، ورسخوا، واستقيموا على الإيمان، وزيدوا الإيمان في النفوس- والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية- . والله جل وعلا لما قسم الناس ثلاثة أقسام: مؤمنين خلصًا، وكفارًا خلصًا، ومنافقين، فبدأ في صفات المؤمنين بقوله سبحانه وتعالى:} الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ... [3]{ وختمها بقوله:} ...وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ[4]{ “سورة البقرة” .
فأول نصيحة أقدمها وأذكر بها: أن يبذل الشباب المسلم- الذي هو الآن أمام فتن الشبهات والشهوات، وأمام أعداء الإسلام، وأمام الفتن الظاهرة والباطنة- جهده في تعميق إيمانه، والموفق من وفقه الله تعالى، وعلى المرء أن يبذل الجهد فيما يقدر عليه مما يقوي إيمانه؛ من تلاوة كتاب الله، وقراءة سير أنبياء الله، وقراءة سير الصالحين في هذه الأمة، ومن فعل الطاعات، ومن مجالسة الأخيار، والتأمل في نصوص الوعد والوعيد، والتوفيق من الله سبحانه وتعالى.
الوصية الثانية: الالتزام بمقتضيات الإيمان: وهذا أمر لابد منه لكل مسلم: شيخًا كان أو شابًا، ذكرًا أو أنثى، فضلاً عن أن يكون داعية، وهو التزامه بمقتضيات ما آمن به ...فينبغي للمسلم- لاسيما الداعية إلى الله- أن يكون أول ممتثل لما يأمر به، وأول منتهٍ عما ينهى عنه؛ لأنه إذا تمثلت فيه دعوته، واستقام على ما يدعو إليه كما أمر الله عز وجل:} فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ...[112]{ “سورة هود” سيصبح كأنه قطعة من الإسلام؛ يرى الناس جمال الإسلام وجلاله وحسنه في تصرفاته ومعاملاته . وعندما يبدأ الداعية بنفسه، ويستقيم ويلتزم بما يأمر به، ويدعو إليه؛ سيكون حريًا أن يقبل الناس قوله ودعوته، ولكم في ذلك سلف من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ قال شعيب لقومه كما حكى الله تعالى عنه:} وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ...[88]{ “سورة هود” وقال صاحب يس:} اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ[21]{ “سورة يس” فالالتزام، وإعطاء المدعو صورة حية من الإسلام؛ له أثر كبير في قبول الدعوة ونفاذها إلى القلوب، ثم إن المقتنع بما يأمر به، المحب له، الذي امتزجت دعوته بلحمه ودمه، لابد إذا قال قولاً؛ أن يقول له واقعه: صدقت وبررت، لا أن يقول له واقعه: لا صدقت ولا بررت.
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
وتراك تصلح بالرشاد عقولنا وأنت من الرشاد عديم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقد قال بعض الدعاة: لو وجد الالتزام والاستقامة من الرجل، لكان داعية بفعله، ولو لم يتكلم في الدعوة ببنت شفة.
الوصية الثالثة:الإخلاص لله في كل عمل: فيبتعد الداعية كل البعد عن إرادة الدنيا بعمله.وهذه هي طريقة أنبياء الله، واقرءوا سورة الشعراء وغيرها، فكل منهم يقول:} وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ...[109]{ “سورة الشعراء” وذلك في عدة آيات، وقال صاحب يس:} اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ[21]{ “سورة يس” فإذا كان عند الداعية القناعة في نفسه، والرضا بما يدعو إليه ومحبته؛ فلتكن رغبته منصرفة إلى ما عند الله سبحانه من أجر وثواب، فهمة الداعية فيما بينه وبين ربه؛ يجب أن تكون هي الدعوة وإصلاح الناس . فنصيحتي للمسلم أن يتعامل مع الله وحده، وأن يرتبط بالله وحده بأن تكون جميع تحركاته في دعوته.. في أمره.. وفي نهيه مع الله سبحانه لا مع غيره، رضي القوم أم لم يرضوا؟ فإذا بدر منه ما يقدح في تجرده لله؛ فليعد إلى الله، وليستغفر.(/2)
الوصية الرابعة:الاجتهاد في طلب العلم الشرعي: وهو أمر مهم يجب أن تفتح له الآذان والصدور، فليعلم الداعية شيخًا كان أو شابًا، ذكرًا أو أنثى، أن الآمر الناهي لابد له من العلم الشرعي عند دعوته للناس . ولقد بوب البخاري رحمه الله في كتاب العلم بابًا خصصه لذلك فقال:' بَاب: الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:} فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ...[19] {“سورة محمد”. فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ...'. وكذلك قال الله عز وجل:} قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...[108]{“سورة يوسف” والبصيرة هنا:هي العلم، فيجب على الداعية، أو الآمر، أو الناهي أن ينطلق في دعوته، وأمره، ونهيه على بصيرة من العلم الشرعي؛ إذا قال: هذا حلال، كان عنده من الله فيه برهان، وإذا قال: هذا حرام منكر، كان عنده من الله فيه برهان، فالله عز وجل قال:} وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ[116]{“سورة النحل” وهذا لا يعني أني أريد من الشباب أن يقعدوا عن الدعوة حتى تمتلئ رءوسهم بالعلم، ولكني أقصد أن يكونوا على علم بالأمر الذي سيأمرون به أو سينهون عنه، وإن جهلوا أمورًا كثيرة من الشرع، فأي مسلم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ورضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا، أصبح بهذا الشهادة جنديًا من جنود الله، وعضوًا في جماعة الدعوة إلى الله، وهو مطالب ببذل جهده ومشاركة إخوانه في ذلك، ولكن حسب استطاعته وعلى قدر علمه، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفدون على الرسول صلى الله عليه وسلم فيأخذون منه ما يأخذون من العلم وينصرفون بما تعلموا إلى قومهم وأهليهم دعاة بما عرفوا لا بمالم يعرفوا، وكذلك لم يقعدوا حتى يمتلئوا بالعلم.
فيا يا شباب الإسلام تسلحوا بالعلم لتقوية الإيمان في قلوبكم، وتسلحوا به لمحاربة وساوس الشيطان ومقاومة فتن الدنيا، وكلكم يعرف شرف العلم وفضله وأهميته وما أثنى الله تعالى به على العلماء، والقرآن مليء بالآيات الدالة على ذلك، وإن كان هذا ليس موضوعنا ولكن هذا مقام التذكير به.
قال الله عز وجل:} أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى...[19]{“سورة الرعد” . وقال سبحانه:} أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[22]{“سورة الملك” وقال سبحانه:} رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ...[9]{“سورة الزمر”.
وينبغي للمسلم في هذا العصر الذي كثر فيه الجدل أن يستقي علمه من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالدرجة الأولى وما عليهما من تفاسير، وشروح للعلماء الثقات، ويبتعد عن كل ما يشعب نفسه، ويبلبل أفكاره.
الوصية الخامسة:الصبر على مواجهة الواقع المنحرف: ليعلم الداعية إلى الله أنه في وقت كثر فيه الباطل، وكثرت فيه المكابرة عن الحق، وأصبح الشر هو الغالب، فواقع الناس كما قال سبحانه وتعالى:} وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[103]{ “سورة يوسف” وكما قال سبحانه:} وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...[116]{ “سورة الأنعام” مما يدعو حملة الدعوة ـ وهم يبذلون الجهد في مواجهة هذا الواقع ـ أن يتحسبوا لما قد يواجَهون به، وأن يهيئوا أنفسهم بما يعينهم على تحمل ما قد يُبتلون به في مسيرتهم ودعوتهم، وذلك بتقوية الإيمان، والتجرد عن الدنيا، وبالعلم الذي يجعلك تمشي على هدى وبصيرة، ولذا نجد أن أول سورة نزلت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبأمره بالدعوة إلى الله، وبالبلاغ جاء فيها الأمر بالصبر، فقال سبحانه وتعالى:} يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ[1]قُمْ فَأَنْذِرْ[2]وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ[3]وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[4]وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ[5]وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ[6]وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ[7]{“سورة المدثر “ فالله عز وجل بعلمه الأزلي علم ما سيلقاه الدعاة والمصلحون، الذين اختارهم واصطفاهم واجتباهم لهذا الأمر العظيم من أهل الباطل ومن أهل الضلال: كفارًا كانوا، أو فساقًا؛ فأمرهم بالصبر ولقد ذكر الإمام أحمد أن الصبر ورد في القرآن في قرابة تسعين موضعًا، وذلك لحاجة الناس إليه لاسيما الدعاة.(/3)
الوصية السادسة:التحلي بالأناة والحكمة: أوصي الدعاة وخاصة الشباب لأني أعرف أن الشباب قد يكون فيه من الحرارة والاندفاع والحمية، وقد يكون فيه من قلة التجارب ما يجعلهم يستعجلون في الأمور، فنصيحتي لهم: الأناة الأناة، التثبت التثبت، الحكمة الحكمة.
ولا أقصد بالحكمة ما هو مشهور عند كثير من الناس الذين يجعلون الصمت عن المنكر حكمة، ويجعلون قول الباطل في موقف ما حكمة؛ لا ، وإنما أقصد الحكمة التي جاء بها الشرع، وهي وضع الأشياء في مواضعها.. وأنصحهم بالتثبت خاصة في قضية الحكم على الآخرين بتكفير أقوام، أو تفسيق أقوام، لاسيما إذا كان الأمر يتعلق بالمسلمين، ولاسيما الدعاة منهم: أحياء كانوا أم أمواتًا؛ فالانحراف في قضية الحكم على الآخرين من الفتن التي ابتليت بها مجتمعاتنا اليوم وابتلي بها شباب- مع الأسف- منسوبون إلى العلم والاعتقاد السليم والدعوة إلى الله، ابتلوا بما جعل بعضهم ينهش بعضًا، ولا شك أن مثل هذا الانحراف في قضية الحكم على الآخرين خطر على شباب المسلمين وخطر على تماسك المسلمين، وخطر على الدعوة إلى الله، ولا يستفيد من ذلك إلا أعداء الجميع، فهناك أصابع خفية تسلط بعض الشباب على بعض وأنا أحذر من هذا. ولا تؤاخذوني إن انفعلت في هذا الأمر فقد عايشت في السنوات التي مضت أمثلة من هذا النوع، لقد عايشت مثل هذه الأمور مع كثير ممن نحسبهم دعاة والله حسيبهم، ونحسبهم علماء، ونحسبهم أيضًا أهل فضل وخير، لكنهم، وأقولها صريحة وفي نطاق تقويمي المحدود قسمان:
قسم: يحدث منه ذلك- مع اجتهاده وتحريه- اندفاعًا وطبيعة وجبلة، ولم يدر أنه بهذا يحارب الأخيار، ويقف في صف أعداء الله.
وقسم: قد يكون ممن تدور حولهم شبهات بأنهم مدفوعون لتفتيت الشباب وتفرقته.
ضوابط هامة في الحكم على الآخرين:
أولها: أن من لوازم أخلاق أهل السنة والجماعة أن يفرحوا بما عليه المسلم من خير، وأن يغضوا عما فيه من شر- إذا كان مقصورًا عليه- وأن لا يُشهِّروا به على أحد ميتًا ولاحيًا، وأن ينشغلوا بما ينفعهم وينفع دعوتهم، ما لم يكن الأمر متعلقًا بالحديث عن مبتدع بدعته مكفرة توافرت فيه شروط ما ينقل عن أصل الإيمان، ويخرج من الملة، وانتفت عنه موانع التكفير.
ثانيها: أن عقيدة السلف الصحيحة أن الإيمان يزيد وينقص.
ثالثها: قال الله عز وجل:} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...[10]{ “سورة الحجرات” وقال سبحانه:} وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ...[71]{ “سورة التوبة” فمقتضى الإخوة والولاء أن يحترم المسلم أخاه- لاسيما- إن كان عالمًا، وأن يكف عن مساويه، وأن يكف عن عرضه؛ لأن عرض أخيك المسلم مثل عرضك يجب أن يحترم خاصة إذا كان ذا قدم في الدعوة.
رابعها: لا يجوز لمسلم أن يعطي أعداء الإسلام حججًا على أولياء الله سواء كان ذلك بحسن نية، أو بسوء نية.
فعلى الدعاة خاصة الشباب أن يتأنوا، وأن يتثبتوا، وأن يشغلوا أنفسهم بالعلم النافع، وبالدعوة إلى الله لبيان المنهج السليم، وأن يثبتوا فيما ينقلوا أو يُنقل لهم، وألّا يجرحوا إخوانهم من الدعاة والمشتغلين بالعلم.
الوصية السابعة:الصبر على بطء الاستجابة للدعوة وقلة المستجيب: هذه الوصية أشعر أن الدعاة محتاجون لها من واقع أسئلتهم الكثيرة، فالدعاة وفقهم الله -خاصة الشباب- يشكون من عدم استجابة الناس لهم .. دعوا .. عملوا .. فما وجدوا لدعوتهم أثرًا في الناس !!(/4)
وأقول: أنتم مأمورون بالدعوة إلى الله، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالبلاغ، بالتعليم، هذه الهداية عليكم، أي هداية؟ هداية البيان والإيضاح للناس، أما هداية الإلهام والتوفيق، فهذه على الله عز وجل، وهي التي نفاها الله عز وجل عن أكرم خلقه في قوله تعالى:} إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ...[56]{“سورة القصص” فعلى من دعا وأمر ونهى وقضى عمره- لا أسبوعًا، أو أسبوعين- قضى عمره في ذلك، ولم يشعر أنه استجيب له ولم ير أثرًا لدعوته، على هذا أن يطمئن؛ فعمله محسوب عند ربه سبحانه وتعالى، فلا يجور أن يضيق صدره، ولا أن يحزن إلا حزنَ رثاء، وهو أن يرثى لحال المعرضين، ويرجو أن يهديهم الله لكن لا يضيق صدره فقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:} وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ...[127]{ “سورة النحل” جاء هذا الأمر بعد قوله سبحانه:} ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[125]وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[126]وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ... { قال بعدها:}... وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ[127]إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[128]{ “سورة النحل”. ومثل هذا قوله سبحانه:} فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا[6]{ “سورة الكهف” . فالمؤمن يبذل الجهد، ويبذل السبب، وأمر التوفيق إلى الله سبحانه وتعالى.
الوصية الثامنة:الإحسان إلى المدعو : فليعلم الشباب أن من أساليب القبول ومن الأساليب التي تؤدي إلى استجابة الناس للداعية؛ الإحسان إلى من يوجه إليه الأمر أو النهي إذا أمكن ذلك بشيء من المباحات، فكثيرًا ما يستميل الإحسان قلوب الناس حتى قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
ونحن لا نريد استعباد قلوب الناس، فهذا لا ينبغي أن يكون إلا لله، ولكن المراد استمالة قلوبهم وتألفها؛ ولذا فأنا أنصح الشباب عند دعوتهم للناس، أو في بيوت أهليهم أو في بيوت أقاربهم، أن يبدأ أولاً:بالإحسان بما استطاع من المباحات كالهدية، وحسن المعاملة حتى يصبح له عندهم قدم، وله في نفوسهم كلمة، ثم يدعوهم، ويصبر على دعوتهم.
الخاتمة:
وختامًا أقول وأدعو الله أن يميتنا ونحن نقولها: عليكم بالدعوة إلى الله، فليس في الحياة أفضل منها، ولا أشرف، ولا أعلى منزلة منها؛ لأن الله جل وعلا قال:} وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[33] {“سورة فصلت”، فكونوا من أهلها، وتحركوا بها؛ لعلكم أن تنالوا هذا الشرف العظيم، وأن تحظوا بجزائها الكبير، وقد استنبط بعض العلماء أن جزاء الداعية من جنس جزاء الأنبياء عليهم السلام، من قول الله عز وجل:} وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[69]ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا[70]{ “سورة النساء” فلما كان في عمله في الدنيا ما يماثل عمل الأنبياء ومهمتهم في تبليغ الرسالة والدعوة؛ كان جزاؤه من جنس جزائهم. فأرجو الله سبحانه وتعالى أن يستعملنا وإياكم في الدعوة إليه على بصيرة، وبصدق، وإخلاص، ونرجوه سبحانه أن يحيينا وذرياتنا على هذا الأمر، وأن يتوفانا في سبيله، فهو سبحانه وتعالى حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد .
من محاضرة: وصايا للدعاة للشيخ/ عبد الله بن قعود(/5)
وصايا للصائمين
...
...
التاريخ : 05/10/2005
الكاتب : صاحب همّة ... الزوار : 2445
< tr>
(( إن لربكم في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً )).
من هو المستحق للتذلل والخضوع والإنكسار ؟ من هو الذي ينبغي أن تملأ القلوب بحبه وتلهج الألسنة بذكره ؟ من هو الذي تطوف الأرواح حول عرشه تستنشق نسيم قدسه إذا وفقت لطاعته ؟ من هو المستحق للحمد والشك والثناء ؟ من هو الذي إذا لجأت إليه آنسك في وحشتك ؟ وإذا دعوته أجاب دعوتك ؟
إلهنا وسيدنا ومولانا ما أعظمك وما أعظم كرمك !! ما أرحمك وما أحلمك ! ، تعصى فتغفر وتطاع فنشكر ونزل وتستر خيرك إلينا نازل وشرنا إليك صاعد .
(( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين )).
أيها الإخوة : الله لطيف بعباده ورحيم بهم .. يدلهم على الطاعة ويوفقهم لأدائها ويثيبهم عليها . أفبعد هذا الكرم كرم ؟؟
يقول لهم : ادعوني أستجب لكم . واستغفروني اغفر لكم ، وإذا عملتم المعاصي فتوبوا إليَّ أقبل توبتكم . أفبعد هذا الإحسان إحسان ؟
من هو العاقل ؟ من هو اللبيب الأريب الفطن الموفق ؟
إنه ذلك الشخص الذي ماسمع بعمل فيه رضاً لله إلا وفعله واجتهد فيه وما سمع بشيء يسخط الله إلا واجتنبه وفاقه .. (( أولئك الذين يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون )).
أيها الإخوة الكرام : " هذا شهر الله المبارك شهر الخير والنعيم شهر الأمن والإيمان شهر القرآن والذكر والتسبيح والتراويح . شهر الصبر شهر المجاهدة شهر التقوى شهر الرحمة والمغفرة شهر العتق من النيران " .
إن الموفق هو الذي أيده الله وأعانه على استغلال ليالي الشهر الكريم وأيامه بالطاعات والقربات .. والمخذول من وكله الله إلى نفسه فاتبع هواه وخرج من الشهر مفرطاً خاسئاً وهو حسير .
هل يمكن أن نستفيد من هذا الشهر ؟ هل يمكن أن نخرج بأشياء عملية من هذا الشهر ؟
أقول نعم .. ولكن من هو المستفيد ومن هو الابح في هذا الشهر ... هذه نصائح ووصايا لإخواني علَّ الله أن ينفع بها من يسمعها ( فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ).
1- خير ما أوصي به نفسي وإخواني الإخلاص لله جل وعلا وإصلاح النية ولنحذر أن يكون صوماً مجرد عادة ، أو تحت ضغط اجتماعي أو أسري فالله لايقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً له جلّ في علاه .
2- تجديد التوبة في هذا الشهر وكثرة الإستغفار وأن لايتعاظم الواحد منا ذنبه وليتذكر قوله تعالى : (( قل ياعبادي الذين أسرفوا ... )) فباب التوبة مفتوح وعطاء ربك يغدو ويروح . وَضَع هذا النص النبوي أمام ناظريك : قال جبريل لنبينا الجليل : (( بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له ، قل آمين ، فقال النبي آمين )).
3- هذا الشهر شهر القرآن : فليكن للعبد ورد يومي يقرأ فيه كتاب الله ويترنم به ، والذي يطالع سير السلف في هذا الباب يقرأ الأعاجيب ... ووالله إن المحروم من الخير هو الذي يمر عليه هذا الشهر ولم يختم كتاب الله .
وحتى ننتفع بالقراءة .. خذ كتاب معاني القرآن – في الجيب – وضع مختصر تفسير ابن كثير للرفاعي قريباً منك حتى إذا أكلت عليك آية قرأت تفسيرها وتأملت معانيها .
4- مَن نوصي بالمحافظة على صلاة التراويح ... هل نوصي بها رجلاً لا يحافظ على الفرائض المكتوبات .. من أراد أن تتعود نفسه على الصلوات جماعة في المسجد فليبدأ من اليوم حتى لايدخل عليه الهر إلا وقد تهيأت نفسه لذلك ، فيكون رمضان عوناً على المحافظة مع الجامعة أما من يحافظ على الصلوات جماعة فأوصيه بالمحافظة على التراويح فعندك الأصل فشدَّ ساعديك ولاتحرمنَّ نفسك الأجر فالعاجر هو الذي يرضى بالقليل .
5- ليكن لنا في صومنا معنىً أعمَّ من مجرد الامتناع عن الأكل والشرب .. وغير ذلك من موانع الصيام ..
- لتصم أعيننا عن مشاهدة مالايحل لها . تلفاز وقنوات والفوازير المخلة بالآداب ..
- لتصم آذناننا عن سماع مالايحل لها . الغناء والغيبة.
- لتصم بيوتنا عن المنكرات من الاختلاط بين الاقارب ولتصم بيوتنا من الدشوش التي أفسدت شبابنا وبناتنا .
:: وقفة ::
:: من يتحمل مسؤولية الأسرة ؟ ::
أيها الأب أنت المسؤول الأول أما الله عن أولادك وذريتك . من الذي أدخل البيت الد والمجلة والشريط . أليس بمالك ألست ترى المنكرات أمامك . هل اقتصر دور الوالد على توفير المطعم والمشرب والملبس فقط . جزاك الله خيراً على هذا ولكن المهمة لم تنته بعد .
والابن والبنت كل منهما مسؤول فإن الوالد وإن أخطا مثلاً فهذا لايبرر لهما الوقوع في الخطأ .
-لتصم بطوننا عن الحرام : الربا والأسهم التي لايعرف بم يتاجر بها او التي توضع في بنوك ربوية.(/1)
• مع قوله تعالى (( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام .. )) فإن هذه الآية جاءت بعد آية : (( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط .. )) ، قال العلماء : فيها إشارة إلى أن من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل فإنه محرم بكل حال لاتباح في زمن من الأزمان .
- إن هذا الشهر فرصةً لتغيير السلوكيات الخاطئة والتصرفات غير المحمودة إلى الأفضل والأحسن وفيه تظهر الإرادة الحقيقية والعزيمة القوية لمن يتعللون أنهم لايقدرون على التخلص من بعض العادات السيئة فعلى سبيل المثال : المدخِّن .
إذاً هناك معنىً أعم للصوم فليس هو مجرد ترك الأكل والشرب : بل هو تربية وتزكية إذا أحسن المسلم التعامل معه .
6- الرحمة والشفقة والمحبة والإحسان ، فضل من الله يهبه لمن يشاء وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً جعله رؤوفاص رحيماً على إخوانه .
ولاتجد إنسناً محباً محسناً لإخوانه المسلمين الا وائتلفت القلوب على حبه وإكامه وتعظيمه . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف )). ((والراحمون يرحمهم الله وإنما يرحم الله من عباده الرحماء )).
كم من المسلمين الآن يحتاجون إلى وقفة إخوانهم معهم ، أشغلتهم الحروب واضطربت الأمور عندهم ، لا يجدون مأوى ولا يهنأون بعيش فمن لهم بعد الله جل وعلا .. إنهم أنتم أصحاب الشفقة وأهل الإيمان وحتى نكون فاعلين وجادين أكثر هناك فكرة ومشروع : الاستقطاع .
متى نحس بالمسؤولية ولاننتظر طلب الناس . لم لا نبادر . لم لا نفكر أحياناً بصدق ، الذي عنده صدقة او زكاة مال لك لايعطيها أسرة يعفها لمدة معينة بدلاً من أن يقوم بتوزيع المال على اكثر من مسكين أو فقير ، فلا أسمن ولا أغنى من جوع .
إن في وقوفك مع إخوانك المسلمين تحقيقاً للولاء لهم .
7- صُم صوم مودِّع :
• نصوم كل عام لإبراء الذمة فنصم هذا العام لتحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من صام رمضان إيماناً واحتساباً ))
• إذا حرصنا على ختم القرآن أكثر من مرة فلتكن إحدى الختمات بتدبر وخشوع .
• نحرص كل يوم من أيام رمضان الأولى على المحافظة على الصلوات جماعة فليكن هذا ديدننا طيلة العام والعمر.
• نتوسع في رمضان بغذاء الأبدان فلنتوسع في غذاء الأرواح والقلوب .
• نحن نتصدق لمساعدة الفقراء والمساكين فلنتصدق هذا العام على أنفسنا حتى نخلصها من النار فلا نقترف ماحرم الله علينا .
• اترك البخل في رمضان فاجعل لإخوانك المسلمين نصيباً من الدعاء ولاتقتصر على نفسك .
• إذا وفقت لتفطير الصائمين أو لعمل الخير فلايكن قصدك مجرد المحمدة والثناء .
ختاماً : قليل دائم خير من كثير منقطع ؛ محافظة على الفرائض والسنن الرواتب وصلاة التراويح والوتر مع الجماعة + قراءة جزء يومياً بشيء من التدبر ، وجلوس بعد الفجر إلى شروق الشمس ولوفي أيام الإجازة الجمعة والسبت . مع حفظ اللسان وبقية الجوارح من الحرام تحقق معنى التقوى غذ هي فعل المأمور وترك المحظور .
(( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )).(/2)
وصايا للمرأة المسلمة
رئيسي :تربية :الثلاثاء 18 محرم 1425هـ - 9 مارس 2004م
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين أما بعد،،،
أختي المسلمة أنت متميزة بخصائص لا يمكن أبداً أن تكوني مثل صاحبات الدنيا، بل أنت تؤمنين بالله، وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الإيمان لابد أن يرى أثره عليكِ واضحاً، بسلوك عملي يشاهد في واقع الحياة، فأنت إذا سئلت: لماذا خلقت فالإجابة واضحة: لعبادة الله، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[56]} [سورة الذريات].
وهذه العبودية ليست مجرد علم فقط، أو صلاة فقط، بل العبودية تشمل جميع جوانب حياتك؛ لأن ربك يقول آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[162]لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[163]}[سورة الأنعام]. فأنت عبدة لله في كل مجالات حياتك:في سوقك، في مدرستك، في جلساتك، في تربيتك لأولادك، في علاقتك مع زوجك، فواجب عليك أن يرى ذلك سلوكاً واضحاً عليك تتميزين به على سائر النساء على وجه الأرض، وهذا مما تتميز به الأخت في هذه الحياة الدنيا.
فأقول لك أختي المسلمة أنت مطالبة بأن تحرصي أشد الحرص على أمور متعددة أسردها سرداً سريعاً:
1- تحقيق العبودية لله تعالى: في خلقك، وتعاملك، وأدبك، وفي تربيتك لأولادك، وإذا دخلت منزلك رأيت العبودية، فليس ثمة صورة معلقة، وتماثيل، وإنما يوجد في البيت: المصحف، والكتاب، والشريط، والمسجل الذي نستمع فيه إلى الخير، فيصبح بيت المرأة المسلمة وقد تحققت فيه العبودية.
أختي المسلمة: أصبحت المرأة تهتم بزخارف الدنيا: فساعات طوال في تجملها وتزينها، وإذا وجدت مناسبة أضاعت وقتها فيما تشتغل به من متاع الدنيا، وربما أنفقت أموالاً طائلة على ذلك، والله يحذرنا فيقول:{...إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ[33]}[سورة لقمان]. فأصبحت المرأة تصبح وتمسى والدنيا أكبر همها، وتنظر إلى زينة الدنيا، وما درت المسكينة أنها لم تخلق للدنيا، وإنما خلقت لجنات عدن .
2- لا تكوني ممن تضيع وقتها في الأسواق: فكم من امرأة تقضى الساعات الطويلة لتشترى أشياء قليلة وربما تنطلق من سوق إلى سوق! رويدك: هل ستخلدين في هذه الحياة الدنيا؟ خذي حاجتك وما تطلبين منها في حدود؛ تسعدين في الحياة الدنيا، وتستعدين للقاء ربك.
3- الصلاة: فكم من امرأة تركع وتسجد ما تدرى ما تقول، لأن الدنيا أشربت قلوبنا.
4- النصيحة: وأوصى بذلك من تزوجت ومن لم تتزوج، فمن تزوجت فالواجب عليها أن تكون حريصة على هداية زوجها إن لم يكن حريصًا على طاعة الله، أوعنده جلسات على المعاصي؛ فلتكن ناصحة له بالكلمة الطيبة، وداعية له بظهر الغيب، وإن كان زوجك صالحًا فاحمدي الله.
والنبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالبحث عن الرجل الصالح الذي يزوج، وكذلك المرأة الصالحة، فقال: [إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ] رواه الترمذي وابن ماجة. ويقول صلى الله عليه وسلم: [الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ]رواه مسلم.
إن المرأة الصالحة، المستقيمة هي المحض الأول لتربية الأجيال، فما أحوجنا إلى إيجاد الأم المسلمة التي إن دخلت البيت ذكرت الله، وإن جلست، فكتاب الله بين يديها، وإن لم تكن قارئة، فهي تسمع للإيمان والتقوى فإذا هي تتقلب بين رياض الجنة في كل مجالسها، إن المرأة الصالحة هي التي تنشأ لنا الداعية إلى الله، وحافظ القرآن، وتنشأ لنا كذلك العضو الصالح في المجتمع وفي الأمة.
فاحرصي على الاستقامة على شرع الله، فإن صلاحك ليس لك فقط، ولكن لك ولذريتك، فأنت مسئولة عنهم يوم القيامة، فاحرصي أختي على تربية أولادك، وتحفيظهم الأذكار، والعناية بإيمانهم، وإعانتهم على صلاة الفجر، والتسميع لهم ما حفظوه من القرآن، ولا تكوني ممن يكون اهتمامهم بملابس أبنائهم أشد من اهتمامهم بإيمانهم وصلاحهم وتقواهم، إن إحداكن لو فات ابنها الاختبار يوماً ما نسيته طيلة دهرها، بينما لو فاتته صلاة الفجر سنة وسنتين لا تحزن لذلك، رويدك أيتها الأم، إنك ستسألين يوم القيامة عن إيمانه وصلاحه وتقواه، لا لماذا لم يختبر ولماذا لم يحصل على شهادة كذا وكذا؟ وهذه مسئولية ضخمة جداً!
أختي: إنك إن تستقيمي؛ ستنشئين جيلاً فريداً، يصلح بذاته، ويصلح المجتمع.(/1)
5- الرفقة الصالحة: فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ]رواه أبوداود والترمذي وأحمد. ونقول لك أختي: لا تصاحبي إلا مؤمنة، ثم ابحثي عمن تجالسينهم من أهل الصلاح، الذين إذا جلست معهم ازدادت إيماناً وصلاحاً، وكان ذلك سبباً لاستقامة قلبك على دين الله، وتتغير أحوالك فتستقيمي على أمر الله، فالرفيق له أثر عظيم.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الجلوس مع بعض النساء كنافخ الكير، فنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة، فكثير من النساء ينتج عن الجلوس معها البعد عن الله، والبعد عن الإيمان، والصلاح، والتقوى، فتجدها تجلس ما بين موديلات جديدة خرجت، أو أغاني جديدة، أو ما بين متابعة قنوات ومعاصي وغيرها.. أهكذا تكون المسلمة؟!
6- الالتحاق بدور تحفيظ القرآن: فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا حفتهم الملائكة، ولا يشترط أن يكون في المسجد، فيمكن أن يجتمع الناس في منزل، أو في مدرسة يتدارسون القرآن. ولهذا أثر عظيم عليك، وعلى غيرك، فلك ذرية ستحفظينهم وتعلمينهم، وستجتمعين بأخواتك وقريباتك، وبنساء جيرانك فتنقلي ما شاهدت من الخير، وستجدين أنك: تغيرت تصوراتك، وأفكارك، ونشأت في طاعة الله، وحرصت على الاستقامة، وعلى تكثيف العمل الصالح .
7- حضور المحاضرات والدروس العلمية: إن تيسر لك ذلك، فقد كانت نساء الصحابة رضى الله عنهن، يجلسن مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويحرصن أن يصلين معه، ويستمعن إلى حديثه، فكوني حريصة على حضور المحاضرات والدروس، فإنك إن تحضرين درساً فقد تنصرفين من هذا الدرس قد غفر الله لك، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ قَالَ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا يَقُولُ عِبَادِي قَالُوا يَقُولُونَ يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ قَالَ فَيَقُولُ هَلْ رَأَوْنِي قَالَ فَيَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ قَالَ فَيَقُولُ وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا قَالَ يَقُولُ فَمَا يَسْأَلُونِي قَالَ يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً قَالَ فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ قَالَ يَقُولُونَ مِنْ النَّارِ قَالَ يَقُولُ وَهَلْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُ فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا قَالَ يَقُولُونَ لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً قَالَ فَيَقُولُ فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ قَالَ يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فِيهِمْ فُلَانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ قَالَ هُمْ الْجُلَسَاءُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ]رواه البخاري ومسلم.
فيغفر لهذا الإنسان الذي حضر، فكيف بمن حضر للاستفادة والعلم والتحصيل، فكوني أختي حريصة مبادرة إلى حضور حلقات العلم، لكي يحصل لك أمثال هذا الخير العظيم.
8- حضور صلاة الجمعة: فابحثي عن المسجد الذي يوجد فيه جناح للنساء فتسمعين خطبةً، وموعظةً، ودرسًا، وهذه فائدة عظيمة.
9- وجود المكتبة المسموعة، والمقروءة في البيت: كوني حريصة على تكوين مكتبة صوتية منوعة: فيها قراءات، وفيها محاضرات علمية، وفيها برامج دعوية من وسائل التربية الإسلامية، ودور المرأة المسلمة، ووسائل إصلاح الأبناء، وما يتعلق ببر الوالدين، وما يتعلق بصلة الأرحام ، وفيها الرقائق من الحديث عن الجنة والنار وغيرها. وكوني حريصة على تكوين مكتبة لأبنائك الصغار فإن فيها من الأثر العظيم لإصلاح هذا النشئ، وما أسعدنا بمكتبة صوتية يتقلب أبناء البيت على اختلاف شرائحهم، فالأم تجد من الأشرطة ما يناسبها، والشاب يجد من الأشرطة ما يناسبه، وكذلك الصغار يجدون الأشرطة المناسبة، فنستفيد جميعا،ً ويحصل لنا الخير والصلاح والاستقامة.(/2)
أختي المسلمة: كوني في بيتك مكتبة مقروءة صغيرة، فاشترى كتباً في المنزل، يتربى الأبناء على حب القراءة والاستفادة، واشترى كذلك المجلات التي تناسب الصغار، والكتب النافعة، فلا يخلو بيتك من رياض الصالحين، وتفسير الشيخ ابن سعدي، وكذلك من كتاب إحكام الأحكام لابن القاسم، وكذلك في الحديث، وفي المصطلح، وفي الأخلاق، وكتباً تتعلق بالمرأة المسلمة، وعن حجاب المرأة المسلمة، وما أحوجنا للحديث عن هذا الأمر وإلى الله المشتكي .
10- الصدقة: ينبغي أن تكون حريصة أشد الحرص على قضية الصدقة، وهذه وصية نبيك صلى الله عليه وسلم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: [تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ]رواه البخاري ومسلم .
فعلى المرأة أن تحرص على الصدقة، لتكون الصدقة ستراً لها من النار، فتصدقي بشيء من لباسك، بشيء من حليك، بشيء مما تملكينه، فهذا له أجر عظيم، فهذه امرأة جاءت إلى عائشة رضى الله عنها وهي فقيرة مسكينة، ومعها ابنتان صغيرتان تريد طعاماً لعلها لم تأكل لها يوم أو يومين قالت: فأشفقت عليها انطلقت مسرعة لأبحث لها عن شئ أعطيها إياه، قالت: رضى الله عنها فما وجدت إلا ثلاث تمرات فقط-بيت محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق على الإطلاق لا يوجد فيه إلا ثلاث تمرات- إن الله وإنا إليه راجعون من حالنا نحن.. بيوتنا فيها مستودعات وثلاجات مليئة بأنواع الطعام والشراب، ومع ذلك تصبح المرأة متسخطة على زوجها وعلى ربها: ما عندنا شئ، وقلة زاد وغيره.. شتان ما بيننا وبين هؤلاء القوم-تقول عائشة: فجئت بالثلاث تمرات تصدقت بها، فأعطيت البنت الصغيرة تمرة، والأخرى تمرة، وأعطيت الأم تمرة، وإذا بالبنات الصغيرات يأكلن التمر، وبقيت الأم ترفع تمرتها إلى فيها، فإذا بالصغيرات ينظرن إلى تمرة أمهن فلما رأتهن ينظرن إليها أشفقت عليهن، فشقت التمرة نصفين، فأعطت البنت تمرة، والأخرى تمرة، وعائشة رضى الله عنها لم يكن عندها أولاد ولا رزقت بهم، تقول: فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّارِ]رواه البخاري ومسلم.
مما يدل على أن المرأة المسلمة ينبغي لها أن تكون دائماً مشاركة في أعمال الخير من صدقات، وبناء مسجد، وكفالة أيتام، وتوزيع الأشرطة، والكتب، وغيرها.
أختي المسلمة.. أختم بوصيتين:
الأولى:مواصلة العلم والتعلم:فإن المسلمة متى كانت متعلمة؛ فالله يرفع منازلها، ويعلي درجاتها ويرزقها الله القبول،
والمرأة تتأثر بأختها أكثر مما تتأثر بغيرها، فأوصيك أختي بالحرص على طلب العلم، فنحن بحاجة إليه إيجاد الداعية المسلمة، طالبة العلم المسلمة، المرأة التي تلقى الدروس والمحاضرات في بنات جنسها، وهذا الأمر من الأمور الميسرة، فتوجد الآن الدروس العلمية فالتحقي بها أختي، وكذلك توجد الأشرطة الإسلامية فتستطيعين الآن أن تسمعي، ثم تعلقي الفوائد، ثم تلقين الدروس وتتعلمي، فبالعلم نرفع الجهل، وبالعلم نعبد الله حق العبادة، وبالعلم نستفيد فوائد جمة، وبالعلم ندعو إلى الله، وبالعلم نبصر الناس، وبالعلم ندل الناس على الخير، ولا دعوة إلا بعلم، وما أحوجنا أختي المسلمة إلى طلب العلم والاستفادة منه.
وثمرة العلم: العمل به، وإلا نعوذ بالله أن نكون من قوم قال الله فيهم: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ[2]}[سورة الصف].
إن ثمرة العلم أن يرى أثره عليك واضحاً بسلوك عملي، فكوني أختي قدوة بسلوكك، فالعلم يهتف بالعمل فإن وجده وإلا إرتحل.
ثانيًا:القيام بواجب الدعوة إلى الله: إن الدعوة إلى الله ليست خاصة بالرجال وحدهم، بل أنت تستطيعين أن تكوني داعية إلى الله، بأشياء: داعية إلى الله بسلوكك، فإذا كنت قدوة صالحة، ذات خلق طيب، وأدب فاضل، ومظهر مسلم، وذات تعامل عظيم، فإن ذلك يؤثر في بنات جنسك تأثيراً عظيماً.. كوني داعية بالكلمة الطيبة، وببشاشة الوجه، وكذلك بتحسين الخلق، فإن ذلك له أثر عظيم.
كذلك أنت مطالبة بالدعوة إلى الله بوسائل شتى: بإلقاء الدروس، والمحاضرات، والمواعظ.. بإهداء الشريط.. بإهداء الكتاب.. بنقل الخير إلى الناس، وهذه الدعوة ليست مقصورة أبداً على طائفة دون طائفة، ولا بشخص دون شخص ولكن كل شرائح المجتمع يمكن أن يكونوا دعاة إلى الله .
وأسأل الله أن يجعلنا وإياكن ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
من شريط:'وصايا للمرأة المسلمة' للدكتور/عمر بن سعود العيد(/3)
وصايا نبوية للمجاهد
عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الغزو غزوان فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله, وأما من غزا فخراً ورياء وسمعة وعصى الإمام وأفسد في الأرض فإنه لم يرجع بالكفاف".
صدق النية والإخلاص:
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء: أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
وفي رواية: "أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للذكر ويقاتل ليحمد ويقاتل ليغنم ويقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله؟ قال صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
وصية عمر:
رسالة عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما:
( أما بعد فإني آمرك ومن معك بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي من احتراسكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون على عدوهم بمعصية عدوهم لله، ولولا ذاك لم يكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوى، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم من هو شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل – لما عملوا بالمعاصي- كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، وسلوا الله العون على أنفسكم، كما تسألون النصر على عدوكم..).
وعن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أمر أميراً على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى لله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر الله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادههم إلى ثلاث خصال – أو خلال – فأيتهن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن هم فعولا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبو أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبو فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم).
أخلاق عامة يجب التحلي بها:
1- أخلاق تقتضيها طبيعة (المهنة – الجندية).
2- تنقية النفس من حظ النفس.
3- التحذير من البطر.
4- كمال الطاعة والانقياد لله عز وجل.
5- طبيعة الأعداء (الكفار) في عدوانهم ومحاربتهم المسلمين.
6- كيف يقابل المسلمون هذا العداء المستحكم عند الكفار.
راجعه: عبد الحميد أحمد مرشد.
- رواه أبو داؤود 2/ 17 ، حديث رقم:2515 ، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود 2 :برقم 2195، الباب ،25 باب: في من يغزو يلتمس الدنيا.
- متفق عليه، البخاري 1/197 و 6/21، 22، ومسلم 1904 و150 واللفظ لمسلم.
- أخرجه أبو داؤود في سننه 2/ 18 ، حديث رقم:2517 ، وصححه الألباني.
ـ مسند أحمد 5/358 ، حديث رقم:23080 ، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.(/1)
وصايا للدعاة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وأصحابه، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،،،
أهمية الدعوة إلى الله:
أحب أن أذكركم بأن مهمة الدعوة إلى الله مهمة كبرى، وعظيمة، وفاضلة، مهمة رُتب عليها من الأجر العظيم ما الله به عليم؛ ولذا فقد اختار الله تعالى لها أفضل الخلق وأكرم البشر، وهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وفي مقدمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)} [سورة الأنبياء] فهي شرف لمن وفق لها، ولمن أخذها، فلا غرو أن يرغّب فيها، وأن يتنافس في ميادينها المتنافسون؛ طلبًا لهذا الشرف العظيم، فالمختارون لها هم سادات الأمة وفضلاؤها...وانطلاقًا من هذا؛ أذكركم بنصائح يحتاجها الدعاة، ولاسيما في عصرنا الحاضر، وأذكّر بها- لا من أجل أنها تخفىعليكم- ولكن امتثالاً لقول الله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...(136) } [سورة النساء] فوصفهم بالإيمان وأمرهم بالإيمان.
أهمية دور الشباب:
وليسمح لي الشيوخ والعلماء أن أقدم الشباب فيما أخصهم بهذه النصائح، ولا غرو أن يقدم الأصاغر على الأكابر- في هذا المقام- فهم قدموا أنفسهم، والواقع قدمهم في هذا الميدان، وصدرهم في هذا الأمر، وأنزلهم هذه المنزلة؛ منزلة الدعاة والأئمة والسادة؛ إذ قاموا بمهمات الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا أقول هذا من باب إعجابي فقط، فقد عايشتهم وأعرف أخبارهم، فلقد قعد كثير من الشيوخ وقاموا، وركد كثير منهم وتحرك الشباب، وسكت كثير من الناس عن المنكرات ونطقوا هم وأنكروا.
وهذا هو شباب الإسلام، وانظروا في تاريخنا لتروا المهمات التي قاموا بها في مختلف المجالات: في مجال الجهاد والدعوة وفي مجال تحمل العلم، وتعرفون أن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ:" عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي" رواه البخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد . وهذا يعني أن من أكمل الخامسة عشرة أصبح مكلفًا وصالحًا للجهاد، وصالحًا للقيام بالدعوة وتعرفون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لأسامة بن زيد لواء الجهاد وسنه ـ كما ذكر المؤرخون ـ ثماني عشرة سنة، وكان في هذا اللواء كثير من كبار المهاجرين والأنصار. وأمَّرَ عليه الصلاة والسلام عتّاب بن أسيد على مكة وعمره قرابة العشرين. وأمَّ عمرو بن سلمة قومه في الصلاة وهو ابن سبع أو ست سنين، واعتبر العلماء سن الخامسة محل تحمل لرواية الحديث كما هو الحال في شأن محمود بن الربيع رضي الله عنه... لذا فإن نصائحي هي في الدرجة الأولى للشباب؛ فهم حملة الدعوة وأمل الأمة، وهم الذين يرجى أن يقودوا الأمة إلى شاطئ النجاة، وهم الذين أتوسم صلاحهم، وفي تحركهم بالدعوة تحقيقًا لوعد الله في قوله: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ(38)} [سورة محمد] وفي قوله: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(54)} [سورة المائدة].
وصايا وتوجيهات للآمرين بالمعروف:
ونصيحتي التي أقدمها لهؤلاء الدعاة أن يهتموا في دعوتهم، وفي تحركهم، وفي تعلمهم، وفي أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر بعدة وصايا :
الوصية الأولى:(/1)
بذل الجهد في تعميق الإيمان في النفوس:فكلما بذل الجهد في تأصيل الإيمان في النفوس تعمق وترسخ واقتنع به صاحبه؛ فيصبح إيمانه ملء سمعه وبصره، وأنس قلبه وقرة عينه، ويصبح إيمانه محركًا لصاحبه إلى كل خير، ومقعدًا له عن كل شر، وإذا تعمق الإيمان، ووقر في القلب، واستقر فيه، فلن تزعزعه شبهة ولا شهوة، وسيواجه الأمور مواجهة الجبال الصمّ التي تصد الرياح، ولا تحركها الأعاصير. وكنت قد ابتدأت بقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...(136) } [سورة النساء] بمعنى: قووا، ورسخوا، واستقيموا على الإيمان، وزيدوا الإيمان في النفوس- والإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية- . والله جل وعلا لما قسم الناس ثلاثة أقسام: مؤمنين خلصًا، وكفارًا خلصًا، ومنافقين، فبدأ في صفات المؤمنين بقوله سبحانه وتعالى: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ... (3)} وختمها بقوله: { ...وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)} [سورة البقرة] .
فأول نصيحة أقدمها وأذكر بها: أن يبذل الشباب المسلم- الذي هو الآن أمام فتن الشبهات والشهوات، وأمام أعداء الإسلام، وأمام الفتن الظاهرة والباطنة- جهده في تعميق إيمانه، والموفق من وفقه الله تعالى، وعلى المرء أن يبذل الجهد فيما يقدر عليه مما يقوي إيمانه؛ من تلاوة كتاب الله، وقراءة سير أنبياء الله، وقراءة سير الصالحين في هذه الأمة، ومن فعل الطاعات، ومن مجالسة الأخيار، والتأمل في نصوص الوعد والوعيد، والتوفيق من الله سبحانه وتعالى.
الوصية الثانية:
الالتزام بمقتضيات الإيمان: وهذا أمر لابد منه لكل مسلم: شيخًا كان أو شابًا، ذكرًا أو أنثى، فضلاً عن أن يكون داعية، وهو التزامه بمقتضيات ما آمن به ...فينبغي للمسلم- لاسيما الداعية إلى الله- أن يكون أول ممتثل لما يأمر به، وأول منتهٍ عما ينهى عنه؛ لأنه إذا تمثلت فيه دعوته، واستقام على ما يدعو إليه كما أمر الله عز وجل: { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ…(112)} [سورة هود] سيصبح كأنه قطعة من الإسلام؛ يرى الناس جمال الإسلام وجلاله وحسنه في تصرفاته ومعاملاته . وعندما يبدأ الداعية بنفسه، ويستقيم ويلتزم بما يأمر به، ويدعو إليه؛ سيكون حريًا أن يقبل الناس قوله ودعوته، ولكم في ذلك سلف من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ قال شعيب لقومه كما حكى الله تعالى عنه: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ...(88)} [سورة هود] وقال صاحب يس: { اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)} [سورة يس] فالالتزام، وإعطاء المدعو صورة حية من الإسلام؛ له أثر كبير في قبول الدعوة ونفاذها إلى القلوب، ثم إن المقتنع بما يأمر به، المحب له، الذي امتزجت دعوته بلحمه ودمه، لابد إذا قال قولاً؛ أن يقول له واقعه: صدقت وبررت، لا أن يقول له واقعه: لا صدقت ولا بررت.
يا أيها الرجل المعلم غيره
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى
وتراك تصلح بالرشاد عقولنا
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
هلا لنفسك كان ذا التعليم
كيما يصح به وأنت سقيم
وأنت من الرشاد عديم
عار عليك إذا فعلت عظيم
وقد قال بعض الدعاة: لو وجد الالتزام والاستقامة من الرجل، لكان داعية بفعله، ولو لم يتكلم في الدعوة ببنت شفة.
الوصية الثالثة:
الإخلاص لله في كل عمل: فيبتعد الداعية كل البعد عن إرادة الدنيا بعمله.وهذه هي طريقة أنبياء الله، واقرءوا سورة الشعراء وغيرها، فكل منهم يقول: { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ...(109)} [سورة الشعراء] وذلك في عدة آيات، وقال صاحب يس: { اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)} [سورة يس] فإذا كان عند الداعية القناعة في نفسه، والرضا بما يدعو إليه ومحبته؛ فلتكن رغبته منصرفة إلى ما عند الله سبحانه من أجر وثواب، فهمة الداعية فيما بينه وبين ربه؛ يجب أن تكون هي الدعوة وإصلاح الناس . فنصيحتي للمسلم أن يتعامل مع الله وحده، وأن يرتبط بالله وحده بأن تكون جميع تحركاته في دعوته.. في أمره.. وفي نهيه مع الله سبحانه لا مع غيره، رضي القوم أم لم يرضوا؟ فإذا بدر منه ما يقدح في تجرده لله؛ فليعد إلى الله، وليستغفر.
الوصية الرابعة:(/2)
الاجتهاد في طلب العلم الشرعي: وهو أمر مهم يجب أن تفتح له الآذان والصدور، فليعلم الداعية شيخًا كان أو شابًا، ذكرًا أو أنثى، أن الآمر الناهي لابد له من العلم الشرعي عند دعوته للناس . ولقد بوب البخاري رحمه الله في كتاب العلم بابًا خصصه لذلك فقال:" بَاب: الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ...(19) } [سورة محمد]. فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَّثُوا الْعِلْمَ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ...". وكذلك قال الله عز وجل: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...(108)} [سورة يوسف] والبصيرة هنا:هي العلم، فيجب على الداعية، أو الآمر، أو الناهي أن ينطلق في دعوته، وأمره، ونهيه على بصيرة من العلم الشرعي؛ إذا قال: هذا حلال، كان عنده من الله فيه برهان، وإذا قال: هذا حرام منكر، كان عنده من الله فيه برهان، فالله عز وجل قال: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ(116)} [سورة النحل] وهذا لا يعني أني أريد من الشباب أن يقعدوا عن الدعوة حتى تمتلئ رءوسهم بالعلم، ولكني أقصد أن يكونوا على علم بالأمر الذي سيأمرون به أو سينهون عنه، وإن جهلوا أمورًا كثيرة من الشرع، فأي مسلم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ورضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا، أصبح بهذا الشهادة جنديًا من جنود الله، وعضوًا في جماعة الدعوة إلى الله، وهو مطالب ببذل جهده ومشاركة إخوانه في ذلك، ولكن حسب استطاعته وعلى قدر علمه، ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفدون على الرسول صلى الله عليه وسلم فيأخذون منه ما يأخذون من العلم وينصرفون بما تعلموا إلى قومهم وأهليهم دعاة بما عرفوا لا بمالم يعرفوا، وكذلك لم يقعدوا حتى يمتلئوا بالعلم.
فيا يا شباب الإسلام تسلحوا بالعلم لتقوية الإيمان في قلوبكم، وتسلحوا به لمحاربة وساوس الشيطان ومقاومة فتن الدنيا، وكلكم يعرف شرف العلم وفضله وأهميته وما أثنى الله تعالى به على العلماء، والقرآن مليء بالآيات الدالة على ذلك، وإن كان هذا ليس موضوعنا ولكن هذا مقام التذكير به.
قال الله عز وجل:{ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى...(19)} [سورة الرعد] . وقال سبحانه:{ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(22)} [سورة الملك] وقال سبحانه:{ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ...(9)} [سورة الزمر].
وينبغي للمسلم في هذا العصر الذي كثر فيه الجدل أن يستقي علمه من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالدرجة الأولى وما عليهما من تفاسير، وشروح للعلماء الثقات، ويبتعد عن كل ما يشعب نفسه، ويبلبل أفكاره.
الوصية الخامسة:
الصبر على مواجهة الواقع المنحرف: ليعلم الداعية إلى الله أنه في وقت كثر فيه الباطل، وكثرت فيه المكابرة عن الحق، وأصبح الشر هو الغالب، فواقع الناس كما قال سبحانه وتعالى: { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103){ [سورة يوسف] وكما قال سبحانه:} وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...(116)} [سورة الأنعام] مما يدعو حملة الدعوة ـ وهم يبذلون الجهد في مواجهة هذا الواقع ـ أن يتحسبوا لما قد يواجَهون به، وأن يهيئوا أنفسهم بما يعينهم على تحمل ما قد يُبتلون به في مسيرتهم ودعوتهم، وذلك بتقوية الإيمان، والتجرد عن الدنيا، وبالعلم الذي يجعلك تمشي على هدى وبصيرة، ولذا نجد أن أول سورة نزلت برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبأمره بالدعوة إلى الله، وبالبلاغ جاء فيها الأمر بالصبر، فقال سبحانه وتعالى: { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنْذِرْ(2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6)وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(7)} [سورة المدثر ] فالله عز وجل بعلمه الأزلي علم ما سيلقاه الدعاة والمصلحون، الذين اختارهم واصطفاهم واجتباهم لهذا الأمر العظيم من أهل الباطل ومن أهل الضلال: كفارًا كانوا، أو فساقًا؛ فأمرهم بالصبر ولقد ذكر الإمام أحمد أن الصبر ورد في القرآن في قرابة تسعين موضعًا، وذلك لحاجة الناس إليه لاسيما الدعاة.
الوصية السادسة:(/3)
التحلي بالأناة والحكمة: أوصي الدعاة وخاصة الشباب لأني أعرف أن الشباب قد يكون فيه من الحرارة والاندفاع والحمية، وقد يكون فيه من قلة التجارب ما يجعلهم يستعجلون في الأمور، فنصيحتي لهم: الأناة الأناة، التثبت التثبت، الحكمة الحكمة.
ولا أقصد بالحكمة ما هو مشهور عند كثير من الناس الذين يجعلون الصمت عن المنكر حكمة، ويجعلون قول الباطل في موقف ما حكمة؛ لا ، وإنما أقصد الحكمة التي جاء بها الشرع، وهي وضع الأشياء في مواضعها.. وأنصحهم بالتثبت خاصة في قضية الحكم على الآخرين بتكفير أقوام، أو تفسيق أقوام، لاسيما إذا كان الأمر يتعلق بالمسلمين، ولاسيما الدعاة منهم: أحياء كانوا أم أمواتًا؛ فالانحراف في قضية الحكم على الآخرين من الفتن التي ابتليت بها مجتمعاتنا اليوم وابتلي بها شباب- مع الأسف- منسوبون إلى العلم والاعتقاد السليم والدعوة إلى الله، ابتلوا بما جعل بعضهم ينهش بعضًا، ولا شك أن مثل هذا الانحراف في قضية الحكم على الآخرين خطر على شباب المسلمين وخطر على تماسك المسلمين، وخطر على الدعوة إلى الله، ولا يستفيد من ذلك إلا أعداء الجميع، فهناك أصابع خفية تسلط بعض الشباب على بعض وأنا أحذر من هذا. ولا تؤاخذوني إن انفعلت في هذا الأمر فقد عايشت في السنوات التي مضت أمثلة من هذا النوع، لقد عايشت مثل هذه الأمور مع كثير ممن نحسبهم دعاة والله حسيبهم، ونحسبهم علماء، ونحسبهم أيضًا أهل فضل وخير، لكنهم، وأقولها صريحة وفي نطاق تقويمي المحدود قسمان:
قسم: يحدث منه ذلك- مع اجتهاده وتحريه- اندفاعًا وطبيعة وجبلة، ولم يدر أنه بهذا يحارب الأخيار، ويقف في صف أعداء الله.
وقسم: قد يكون ممن تدور حولهم شبهات بأنهم مدفوعون لتفتيت الشباب وتفرقته.
ضوابط هامة في الحكم على الآخرين:
أولها: أن من لوازم أخلاق أهل السنة والجماعة أن يفرحوا بما عليه المسلم من خير، وأن يغضوا عما فيه من شر- إذا كان مقصورًا عليه- وأن لا يُشهِّروا به على أحد ميتًا ولاحيًا، وأن ينشغلوا بما ينفعهم وينفع دعوتهم، ما لم يكن الأمر متعلقًا بالحديث عن مبتدع بدعته مكفرة توافرت فيه شروط ما ينقل عن أصل الإيمان، ويخرج من الملة، وانتفت عنه موانع التكفير.
ثانيها: أن عقيدة السلف الصحيحة أن الإيمان يزيد وينقص.
ثالثها: قال الله عز وجل:} إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ...(10){ [سورة الحجرات] وقال سبحانه:} وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ...(71)} [سورة التوبة] فمقتضى الإخوة والولاء أن يحترم المسلم أخاه- لاسيما- إن كان عالمًا، وأن يكف عن مساويه، وأن يكف عن عرضه؛ لأن عرض أخيك المسلم مثل عرضك يجب أن يحترم خاصة إذا كان ذا قدم في الدعوة.
رابعها: لا يجوز لمسلم أن يعطي أعداء الإسلام حججًا على أولياء الله سواء كان ذلك بحسن نية، أو بسوء نية.
فعلى الدعاة خاصة الشباب أن يتأنوا، وأن يتثبتوا، وأن يشغلوا أنفسهم بالعلم النافع، وبالدعوة إلى الله لبيان المنهج السليم، وأن يثبتوا فيما ينقلوا أو يُنقل لهم، وألّا يجرحوا إخوانهم من الدعاة والمشتغلين بالعلم.
الوصية السابعة:
الصبر على بطء الاستجابة للدعوة وقلة المستجيب: هذه الوصية أشعر أن الدعاة محتاجون لها من واقع أسئلتهم الكثيرة، فالدعاة وفقهم الله -خاصة الشباب- يشكون من عدم استجابة الناس لهم .. دعوا .. عملوا .. فما وجدوا لدعوتهم أثرًا في الناس !!(/4)
وأقول: أنتم مأمورون بالدعوة إلى الله، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالبلاغ، بالتعليم، هذه الهداية عليكم، أي هداية؟ هداية البيان والإيضاح للناس، أما هداية الإلهام والتوفيق، فهذه على الله عز وجل، وهي التي نفاها الله عز وجل عن أكرم خلقه في قوله تعالى:} إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ...(56){[سورة القصص] فعلى من دعا وأمر ونهى وقضى عمره- لا أسبوعًا، أو أسبوعين- قضى عمره في ذلك، ولم يشعر أنه استجيب له ولم ير أثرًا لدعوته، على هذا أن يطمئن؛ فعمله محسوب عند ربه سبحانه وتعالى، فلا يجور أن يضيق صدره، ولا أن يحزن إلا حزنَ رثاء، وهو أن يرثى لحال المعرضين، ويرجو أن يهديهم الله لكن لا يضيق صدره فقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:} وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ...(127)} [سورة النحل] جاء هذا الأمر بعد قوله سبحانه:{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(125)وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ(126)وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ... } قال بعدها: {... وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ(127)إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(128)} [سورة النحل]. ومثل هذا قوله سبحانه:} فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا(6)} [سورة الكهف] . فالمؤمن يبذل الجهد، ويبذل السبب، وأمر التوفيق إلى الله سبحانه وتعالى.
الوصية الثامنة:
الإحسان إلى المدعو : فليعلم الشباب أن من أساليب القبول ومن الأساليب التي تؤدي إلى استجابة الناس للداعية؛ الإحسان إلى من يوجه إليه الأمر أو النهي إذا أمكن ذلك بشيء من المباحات، فكثيرًا ما يستميل الإحسان قلوب الناس حتى قال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
ونحن لا نريد استعباد قلوب الناس، فهذا لا ينبغي أن يكون إلا لله، ولكن المراد استمالة قلوبهم وتألفها؛ ولذا فأنا أنصح الشباب عند دعوتهم للناس، أو في بيوت أهليهم أو في بيوت أقاربهم، أن يبدأ أولاً:بالإحسان بما استطاع من المباحات كالهدية، وحسن المعاملة حتى يصبح له عندهم قدم، وله في نفوسهم كلمة، ثم يدعوهم، ويصبر على دعوتهم.
الخاتمة:
وختامًا أقول وأدعو الله أن يميتنا ونحن نقولها: عليكم بالدعوة إلى الله، فليس في الحياة أفضل منها، ولا أشرف، ولا أعلى منزلة منها؛ لأن الله جل وعلا قال: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33) } [سورة فصلت]، فكونوا من أهلها، وتحركوا بها؛ لعلكم أن تنالوا هذا الشرف العظيم، وأن تحظوا بجزائها الكبير، وقد استنبط بعض العلماء أن جزاء الداعية من جنس جزاء الأنبياء عليهم السلام، من قول الله عز وجل: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا(69)ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا(70)} [سورة النساء] فلما كان في عمله في الدنيا ما يماثل عمل الأنبياء ومهمتهم في تبليغ الرسالة والدعوة؛ كان جزاؤه من جنس جزائهم. فأرجو الله سبحانه وتعالى أن يستعملنا وإياكم في الدعوة إليه على بصيرة، وبصدق، وإخلاص، ونرجوه سبحانه أن يحيينا وذرياتنا على هذا الأمر، وأن يتوفانا في سبيله، فهو سبحانه وتعالى حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد .
وصايا للدعاة
الشيخ عبد الله بن قعود(/5)