وأضيف على ذلك بأن أحاديث (الرايات السود) و(السفياني) لا يصح منها شيء، وأحاديث هاتين العلامتين هما ركيزتا الكتاب المسؤول عنه، وقد جلب لها المؤلف من بواطل الروايات ومناكير الأحاديث ما استطاع جمعه، وأظهر شأنها، وكأنها من أصح علامات الساعة وأثبتها!! مع أن الواقع أبعد ما يكون عن ذلك، ومن تلاعب المؤلف واستخفافه بالقراء: أنه مع إيراده للأحاديث الموضوعة المكذوبة، فإنه ينزلها على الواقع متجاهلاً ما يبطل تنزيله وتفسيره من الرواية المكذوبة التي اعتمد عليها نفسها، ومن ذلك اعتباره (السفياني) أنه حاكم العراق، مع أنه أورد أن (السفياني) أموي، وحاكم العراق لا يعرف بـ(السفياني)، ولا ادعى هو ولا غيره أنه من بني أمية، هذا مع بطلان ذلك كله، كما سبق.
ولما أورد عن كعب الأحبار أنه قال: "علامة خروج المهدي ألوية تقبل من المغرب عليها رجل أعرج من كندة" [ص : 35 من كتاب هرمجدون]. يقول المؤلف: "فلما رأيت الجنرال (ريتشارد ما يرو) يقبل على عكازين ليعلن للشعب الأمريكي بدء عمليات القوات المشتركة ..." ونسي الكاتب أن الرجل الأعرج المذكور في النص عربي من كندة!! فما باله تجاهل هذه العلامة؟!! هذا لو صح الخبر، وهو لا يصح!!!.
ولما أورد المؤلف (ص : 54 – 55) أن السفياني يهزم الجماعة مرتين، وفسر الجماعة بالجيوش الغربية، رأى أنه لابد أن يجعل السفياني منتصراً هازما للجيوش الغربية حتى لا ينتقض عليه تنزيله السفياني على أنه حاكم العراق.
لقد جاء الكتاب بأمثال هذه البلايا التي لا تستخف بعاقل!!!
ومن بلايا الكاتب العظام: أنه عظم كتاب الكاهن اليهودي (نوستر اداموس) ورآه أهلاً للنقل عنه، حتى قال مؤلف كتاب (هرمجدون): "ونقول إن ما جاء به (نوستراداموس) هو من تراثنا المنهوب وميراثنا المسلوب، الذي سقط منا فالتقطوه، وجهلناه وعلموه" (ص:14).
هذا ما يقوله مؤلف (هرمجدون) عن كتاب هذا الكاهن، لقد جعله مما استفاده هذا الكاهن من النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومن الأحاديث النبوية، التي اطلع عليها هذا الكاهن، وغابت عن جميع علماء المسلمين!!!
أي طعنٍ في دين المسلمين أعظم من هذا الطعن؟!! وأي تشكيك في حفظه وبقائه أشد من هذا التشكيك؟!!
ثم هو بذلك زكى كلام هذا الكاهن الدجال أجل تزكية، أو جعله متلقى من مشكاة السنة النبوية!!!
والخلاصة: أن الكتاب المذكور كتاب خطير، مليء بالجهل والافتراءات على نبينا – صلى الله عليه وسلم – ومنهجه مبني على الاعتماد على كل شيء، وعلى ليِّ أعناق النصوص لتوافق الواقع ... إلى غير ذلك من أنواع الخطأ الكبيرة والضلال المبين.
ويجب الحذر من هذا الكتاب، والتحذير من كاتبه ومقاطعة كل ما يكتبه ويؤلفه بعدم الشراء؛ لأن ذلك يردعه هو وأمثاله من أن يتاجر بدين الأمة، ومن أن يستخف بعقول المسلمين. والله أعلم.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. * عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى.(/2)
هل المرأة إنسان؟
د.محمد بن صالح الدحيم (*) 28/5/1423
07/08/2002
من النادر أن نجد قضية اختلفت فيها وجهات النظر بمثل ما اختلفت وتعددت في قضية المرأة، هذه القضية التي تعددت فيها التشريعات ووجهات نظر المفكرين والدعاة على مر العصور حتى وصل التعدد إلى مستوى التناقض والاختلاف الجذري الذي لا إمكان معه للقاء أو الاتفاق أو التقارب.
وقد أغرى هذا التعدد كثيراً ممن لم تتهيأ لهم ظروف المعرفة والقدرة على الاجتهاد الصحيح في مثل هذه القضية الخطرة فقالوا وسودوا بمقالاتهم صحائف كثيرة لا يجد فيها القارئ المحقق سوى جهالات كبيرة ومركبة ، وشذرات مبتورة من حقائق غير كاملة عرفت شيئاً لكن غاب عنها أشياء كثيرة ولا عجب في هذا التعدد والاختلاف وكثرة القول والقيل فإن قضية المرأة إنما تعاني الجزء الأكبر من العمران البشري في حاضرة ومستقبله فأوضاع المرأة تؤثر بالسلب والإيجاب على كافة أوضاع العمران البشري فهي لا تعيش منفردة فيه .
لقد مر على معظم البيئات الإسلامية قروناً متطاولة من التهميش للمرأة في أنشطة محدودة وقوالب معينة وتحت وصيات مشددة – دينياً واجتماعياً وسياسياً – لا تتناسب إطلاقاً مع حجم الطاقات والقدرات والإمكانات التي منحها الله للمرأة في ظل الإسلام بكماله وشموله، فنحن - بحمد الله- الأمة الوحيدة التي حفظ الله لها اتجاهها العام وأهدافها الكبرى بما أذن لها من خلود الرسالة ولكن تقلب الأيام والليالي وبعد العهد وطول الأمد وطروء الحوادث وامتزاج الثقافات وتنوع الظروف – كل ذلك – أدى إلى غبش في الرؤية واختلاط العادات بالعبادات وتقديس الموروثات الآبائية حتى نسبت إلى الدين ومورست تحت هذا المسمى وضرب بالسياط مخالفها ورمى بالتبديع مناقشها مهدداً بـ(السيف المشهور) حتى ضعف الإحساس بالهدف أو غاب، والنتيجة الحتمية لذلك أن الأمة اليوم أًصبحت تواجه ضغوطات كبيرة من الخارج يقابلها خواء من الداخل مما أدى لسهولة الاستعمار الفكري والسلوكي في الوقت الذي كنا مرابطين فيه على حراسة الحدود. فقد تكشفت الأقنعة وأصبح بإمكان كل أحد أن يصافح المعرفة ويتواصل مع الحقيقة فإذا هو يفاجأ بأن كثيراً مما كان يملى عليه بكرة وأصيلاً ما هو إلا رؤى مذهبية في أحسن أحوالها سيقت على أنها نصوص معصومة .
مما أدى إلى ردة فعل بنفس القوة لكن بعكس الاتجاه وأخطر ما يكون الحال حين تقل الثقة أو تضعف المصداقية ونحن في عصر معلوماتي لا يرحم الكسالى ولا يعتذر للغافلين.
إن من ينظر إلى وضعية المرأة في كثير من البلدان الإسلامية يجد أنها ضعيفة التركيب هشة البناء ( دينياً وثقافياً واجتماعياً) الأمر الذي جعل جهات عديدة تستهدف المرأة فدعت إلى سفورها واختلاطها بالرجال في حال مزرية من التحلل من الحياء ونبذ الفضيلة، ووجدت من المرأة ترحيباً، إما لأنها انخدعت به أو لأنها تهرب إليها من مأساتها، ففقدت المرأة توازنها.
والحق أن ثمة جهودًا كبيرة أنفقت في الرد على تلك الحملات حتى طغى بعضها وجاوز الوسط. الأمر الذي شغلنا عن تنمية المرأة المسلمة ، ولو أننا رجعنا إلى ما كتبناه وسجلناه في قضايا المرأة لوجدنا أن نحواً من 80% من مؤلفاتنا ومحاضراتنا ودروسنا وفتاوينا تدور حول مسألة الحجاب، ولوجدنا أن نحواً من 20% منها يتحدث عن ترشيد المرأة وعلى استحياء في بعض الأحيان، وكان المطلوب هو العكس.
( ما هكذا يا سعد تورد الإبل) وما هكذا تحرس الفضيلة ، وإننا إذا أردنا إنصاف المسألة ورغبنا في إحقاق الحق فلن نجد سوى هدي القرآن والسنة في أجلى صفاء وأجمل بهاء. وما لم نستطع ذلك فإننا نكرس التخلف ونعمق الخلل( وسوف تسألون).
إن الوحي المعظم ينظر إلى المرأة على أنها إنسان وهذا هو سر المسألة الأكبر ومفتاحها الأوحد، وعليه فإن أي نظرة أخرى غير هدي الوحي فإنها لا تهدي سواء السبيل بل تضل ضلالاً بعيداً . لقد فهم الصحابة – رضي الله عنهم – وهم من شاهدوا التنزيل- هذا الفهم القويم. ففي صحيح مسلم عن أم سلمة زوج النبي – صلى الله عليه وسلم – رضي الله عنها – أنها قالت : كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما كان يوم من ذلك والجارية تمشطني فسمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : أيها الناس فقلت للجارية: استأخري عني ، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت: إني من الناس ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: " إني لكم فرط على الحوض .." الحديث .
بل إن النبي – صلى الله عليه وسلم – يرحب بالمرأة، ففي الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية النبي – صلى الله عليه وسلم- فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : " مرحباً بابنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله".(/1)
وهذه النظرة الصائبة للمرأة هي التي جعلتها تتحمل مسؤوليتها، فعن أبي سعيد قال : جاءت امرأة إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت : يا رسول الله - : ذهب الرجال بحديثك – وفي رواية قال النساء للنبي – صلى الله عليه وسلم - : غلبنا عليك الرجال – فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال : " اجتمعن في يوم كذا وكذا، في مكان كذا وكذا" فاجتمعن فأتاهن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فعلمهن ما علمه الله ثم قال : " ما منكن امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة إلا كان لها حجاباً من النار " فقالت امرأة منهم : يا رسول الله اثنين؟ قال : فأعادتها مرتين ثم قال:" واثنين واثنين واثنين" رواه البخاري ومسلم. وفي حديث أم الفضل بنت الحارث أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال بعضهم : هو صائم ، وقال بعضهم : ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه. رواه البخاري ومسلم. يقول الحافظ ابن حجر : وفي الحديث من الفوائد، فطنة أم الفضل لاستشكافها عن الحكم الشرعي بهذه الوسيلة اللطيفة اللائقة بالحال لأن ذلك كان في يوم حر بعد الظهيرة اهـ.
ولست هنا أرمي إلى استيعاب النصوص ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى الموسوعة الجميلة(تحرير المرأة في عصر الرسالة) لأبي شقة- قدَّس الله روحه -.
وإذا كانت المرأة إنسان انسحب عليه كل خصائص الإنسان وسماته وأي معاملة لها تعاكس هذه الخصائص فإنها تخرجها عن إنسانيتها وبالتالي لا تحصل الاستجابة بل على الضد.
إن على الدعاة إلى الله أن يجعلوا الإسلام خيارًا للمرأة. الإسلام وليس غيره من العادات والأعراف أو القناعات المذهبية أو الفتاوى الإقليمية . كما يجب عرض ما يستشكله الناظر على نصوص الوحي بفهم السلف بعيداً عن القراءات الإسقاطية التي تختزل وتقولب، وبعيداً عن استهجان الرأي الآخر أياً كان، كيف وإذا كان هو قول الجمهور؟ ولنعلم يقيناً أننا بالمسكنات الفقهية ( المصلحة، سد الذرائع ، الأحوط، الخروج من الخلاف) لن نحل قضية وإن استطعنا إزالة الأعراض فقد بقيت الأمراض، وقصتنا مع محاربة الأعراض، وقطع الأوراق وترك الجذور لتنبت من جديد قصة طويلة طويلة هي ما أشير إليه في مقالاتي في هذا الموقع المبارك .
لقد كنت عرضت هذه القضية في محاضرة سجلت باسم ( المرأة من جديد) وبعد نشرها ضاق بها قوم وسرَّ بها آخرون، وحسبي أنني مجتهد أدور بين الأجر والأجرين مؤمناً بخبر الصادق المصدوق – صلى الله عليه وسلم - .
والحديث حروف لها معان كبيرة وللمعاني دلالات واسعة وللدلالات ميادين رحبة للتطبيق. أقول ما تقرؤون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل تقصير وذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(*) القاضي بمحكمة الليث(/2)
هكذا بدأ الاختلاط
سليمان بن صالح الخراشي
دار القاسم
قال الشيخ علي الطنطاوي: [ أما الحرب التي تواجه الإسلام الآن فهي أشد وأنكى من كل ما كان، إنها عقول كبيرة جداً، شريرة جداً، تمدها قُوى قوية جداً، وأموال كثيرة جداً، كل ذلك مسخَّر لحرب الإسلام على خطط محكمة، والمسلمون أكثرهم غافلون.
يَجِدُّ أعداؤهم ويهزلون، ويسهر خصومهم وينامون، أولئك يحاربون صفاً واحداً، والمسلمون قد فرَّقت بينهم خلافات في الرأي، ومطامع في الدنيا.
يدخلون علينا من بابين كبيرين، حولهما أبواب صغار لا يُحصى عددها، أما البابان الكبيران فهما باب الشبهات وباب الشهوات. أما الشبهات فهي كالمرض الذي يقتل من يصيبه، ولكن سريانه بطيء وعدواه ضعيفة. فما كل شاب ولا شابة إذا ألقيت عليه الشبه في عقيدته يقبلها رأساً ويعتنقها.
أما الشهوات فهي داء يمرض وقد لا يقتل، ولكن أسرع سرياناً وأقوى عدوى، إذ يصادف من نفس الشاب والشابة غريزة غرزها الله، وغرسها لتنتج طاقة تستعمل في الخير، فتنشيء أسرة وتنتج نسلاً، وتقوي الأمة، وتزيد عدد أبنائها، فيأتي هؤلاء فيوجهونها في الشر، للذة العاجلة التي لا تثمر. طاقة نعطلها ونهملها ودافع أوجد ليوجه إلى عدونا، لندافع بها عن بلدنا، فنحن نطلقها في الهواء، فنضيعها هباء، أو يوجهها بعضنا إلى بعض.
هذا هو باب الشهوات وهو أخطر الأبواب. عرف ذلك خصوم الإسلام فاستغلوه، وأول هذا الطريق هو الاختلاط.
بدأ الاختلاط من رياض الأطفال، ولما جاءت الإذاعة انتقل منها إلى برامج الأطفال فصاروا يجمعون الصغار من الصبيان والصغيرات من البنات.
ونحن لا نقول أن لبنت خمس سنين عورة يحرم النظر إليها كعورة الكبيرة البالغة، ولكن نقول أن من يرى هذه تُذَكِّرُهُ بتلك، فتدفعه إلى محاولة رؤيتها.
ثم إنه قد فسد الزمان، حتى صار التعدي على عفاف الأطفال، منكراً فاشياً، ومرضاً سارياً، لا عندنا، بل في البلاد التي نعدُّ أهلها هم أهل المدنية والحضارة في أوربا وأمريكا.
كان أعداء الحجاب يقولون أن اللواط والسحاق، وتلك الانحرافات الجنسية سببها حجب النساء، ولو مزقتم هذا الحجاب وألقيتموه لخلصتم منها، ورجعتم إلى الطريق القويم. وكنا من غفلتنا ومن صفاء نفوسنا نصدقهم، ثم لما عرفناهم وخبرنا خبرهم، ظهر لنا أن القائلين بهذا أكذب من مسيلمة.
إن كان الحجاب مصدر هذا الشذوذ، فخبروني هل نساء ألمانيا وبريطانيا محجبات الحجاب الشرعي ؟ فكيف إذن نرى هذا الشذوذ منتشراً فيهم حتى سَنّوا قانوناً يجعله من المباحات ؟
ثم إن أصول العقائد، وبذور العادات ومبادئ الخير والشر، إنما تغرس في العقل الباطن للإنسان، من حيث لا يشعر في السنوات الخمس أو الست الأولى من عمره، فإذا عودنا الصبي والبنت الاختلاط فيها، ألا تستمر هذه العادة إلى السبع والثمان ؟ ثم تصير أمراً عادياً ينشأ عليه الفتى ، وتشب الفتاة، فيكبران وهما عليه ؟ وهل تنتقل البنت في يوم معين من شهر معين، من الطفولة إلى الصبا في ساعات معدودات، حتى إذا جاء ذلك اليوم حجبناها عن الشباب ؟
أم هي تكبر شعرة شعرة، كعقرب الساعة تراه في الصباح ثابتاً فإذا عدت إليه بعد ساعتين وجدته قد انتقل من مكانه. فهو إذن يمشي وإن لم تر مشيه، فإذا عودنا الأطفال على هذا الاختلاط فمتى نفصل بينهم ؟
والصغير لا يدرك جمال المرأة كما يدركه الكبير، ولا يحس إن نظر إليها بمثل ما يحس به الكبير، ولكنه يختزن هذه الصورة في ذاكراته فيخرجها من مخزنها ولو بعد عشرين سنة. أنا أذكر نساء عرفتهن وأنا ابن ست سنين، قبل أكثر من سبعين سنة. وأستطيع أن أتصور الآن ملامح وجوههن، وتكوين أجسادهن.
ثم إن من تُشْرِف على تربيته النساء يلازمه أثر هذه التربية حياته كلها، يظهر في عاطفته، وفي سلوكه، في أدبه، إذا كان أديباً. ولا تبعد في ضرب الأمثال، فهاكم الإمام ابن حزم يحدثكم في كتابه العظيم الذي ألَّفه في الحب " طوق الحمامة " حديثاً مستفيضاً في الموضوع.
خلق الله الرجال والنساء بعضهم من بعض، ولكن ضرب بينهم بسورٍ له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَلِهِ العذاب. فمن طلب الرحمة والمودة واللذة والسكون والاطمئنان دخل من الباب، والباب هو الزواج. ومن تسوَّر الجدار أو نقب السقف، أو أراد سرقة متعة ليست له بحق، ركبه في الدنيا القلق والمرض وازدراء الناس، وتأديب الضمير، وكان له في الآخرة عذاب السعير ] " ذكريات الشيخ على الطنطاوي (5/268-271) "
هذا ما قاله الشيخ عن بلادٍ غير بلادنا، والسعيد من وُعِظَ بغيره ولم يتعظ به الناس، فليحذر الذين يدندنون حول هذا الموضوع في بلادنا أن يشملهم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ [النور:19].
جنبنا الله مسالك أهل الفساد والإفساد، وجعلنا من الهُداة المهتدين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/1)
هكذا علمتني الحياة
تعلمت أن العقل كالحقل ، وكل فكرة نفكر فيها لفترة طويلة هي بمثابة عملية ري ، ولن نحصد سوى ما نزرع من أفكار ، سلبية أم إيجابية .
تعلمت أنه في المدرسة أو الجامعة نتعلم الدروس ثم نواجه الإمتحانات ، أما في الحياة فإننا نواجه الإمتحانات وبعدها
نتعلم الدروس .
تعلمت أن محادثة بسيطة أو حواراً قصيراً مع إنسان حكيم يساوي شهر دراسة .
تعلمت أنه لا يهم أين أنت الآن ، ولكن المهم هو إلى أين تتجه في هذه اللحظة .
تعلمت أنه خير للإنسان أن يكون كالسلحفاة في الطريق الصحيح من أن يكون غزالاً في الطريق الخطأ .
تعلمت أنه في كثير من الأحيان خسارة معركة تعلمك كيف تربح الحرب .
تعلمت أنه يوجد كثير من المتعلمين ، ولكن قلة منهم مثقفون .
تعلمت أن مفتاح الفشل هو محاولة إرضاء كل شخص تعرفه .
تعلمت أنه لا يجب أن تقيس نفسك بما أنجزت حتى الآن ، ولكن بما يجب أن تحقق مقارنة بقدراتك .
تعلمت أنه من أكثر الناس أذى لنا هم الأشخاص الذين أعطيناهم كل ثقتنا ، لأنهم بمعرفتهم أسرارنا يستخدمونها ضدنا
يوم نختلف معهم .. وهذه لا شك خيانة .
تعلمت أن الحياة تشبه كثيراً مباراة للملاكمة ، لا يهم إذا خسرت 14 جولة ، كل ما عليك هو أن تسقط منافسك بالضربة
القاضية خلال ثوان ، وبذك تكون الفائز الأوحد .
تعلمت أن النجاح ليس كل شيء ، إنما الرغبة في النجاح هي كل شيء .
تعلمت أنه يجب على الإنسان كي ينجح أن يتجنب الأشخاص السلبيين والمتذمرين والمملين والمتشائمين والحاسدين ..
لآن ما يقولوه عنا إذا تجنبناهم يعتبر أقل ضرراً مما يمكن أن يسببوه لنا لو لم نتجنبهم .. الملل والتذمر والتشاؤم
أمراض معدية كالكوليرا .. تجنبهم دائماً .
تعلمت أن الذي يكون مدخوله مليوناً في السنة لا يعمل 1000 مرة أكثر من الذي مدخوله 1000 في السنة .. السر
يكمن في كيفية تشغيل ذهنه .
تعلمت أن الأشخاص الناجحين يتخذون قراراتهم بسرعة ويغيرونها ببطء . أما الأشخاص الفاشلين يتخذون قراراتهم ببطء ويغيرونها بسرعة .
تعلمت أن كل ما نراه عظيماً في الحياة بدأ بفكرة ومن بداية صغيرة .
تعلمت أنه يوجد هناك دائماً طريقة أفضل للقيام بعمل ما ، ويجب أن نحاول دائماً أن نجدها .
تعلمت أنه خير للإنسان أن يندم على ما فعل من أن يتحسر على ما لم يفعل .
تعلمت أن العمل الجيد أفضل بكثير من الكلام الجيد .
تعلمت أن الناس ينسون السرعة التي أنجزت بها عملك ، ولكنهم يتذكرون نوعية ما أنجزته .
تعلمت أن التنافس مع الذات هو أفضل تنافس في العالم ، وكلما تنافس الإنسان مع نفسه كلما تطور ، بحيث لا يكون اليوم كما كان بالأمس ، ولا يكون غداً كما هو اليوم .
تعلمت أنه يوجد كثيرون يحصلون على النصيحة ، القلة فقط يستفيدون منها .
تعلمت أنه عندما توظف أناساً أذكى منك ، وتصل إلى أهدافك ، بذلك تثبت أنك أذكى منهم .
تعلمت أنه من أكثر اللحظات سعادة في الحياة هي عندما تحقق أشياء يقول الناس عنها أنك لا تستطيع تحقيقها .
تعلمت أن الإنسان لا يستطيع أن يتطور إذا لم يجرب شيئاً غير معتاد عليه .
تعلمت أن الفاشلين يقولون أن النجاح هو مجرد عملية حظ .
تعلمت أنه لا تحقيق للطموحات دون معاناة .
تعلمت أن المعرفة لم تعد قوة في عصر السرعة والإنترنت والكمبيوتر ، إنما تطبيق المعرفة هو القوة .تعلمت أن الذين لديهم الجرأة على مواجهة الفشل ، هم الذين يقهرون الصعاب وينجحون .
تعلمت أن الحظ في الحياة هو نقطة الإلتقاء بين التحضير الجيد والفرص التي تمر .
تعلمت أن المتسلق الجيد يركز على هدفه ولا ينظر إلى الأسفل ، حيث المخاطر التي تشتت الذهن .
تعلمت أن الفشل لا يعتبر أسوأ شيء في هذا العالم ، إنما الفشل هو أن لا نجرب .
تعلمت أنه هناك أناس يسبحون في إتجاه السفينة وهناك أناس يضيعون وقتهم في إنتظارها .
تعلمت أن هناك طريقتان ليكون لديك أعلى مبنى .. إما أن تدمر كل المباني من حولك ، أو أن تبني أعلى من غيرك .. إختر دائماً أن تبني أعلى من غيرك .
تعلمت أنه لا ينتهي المرء عندما يخسر ، إنما عندما ينسحب .
تعلمت أنه لا يتم تحقيق أي شيء عظيم في هذه الحياة من دون حماسة .
تعلمت أن الذي يكسب في النهاية من لديه القدرة على التحمل والصبر .
تعلمت أن الإبتسامة لا تكلف شيئاً ، ولكنها تعني الكثير .
تعلمت أن كل الإكتشافات والإختراعات التي نشهدها في الحاضر ، تم الحكم عليها قبل إكتشافها أو إختراعها بأنها مستحيلة .
تعلمت أن الإنتباه إلى أشياء بسيطة يهملها عادة معظم الناس تجعل بعض الأشخاص أغنياء .
تعلمت أنه إذا أمضيت وقتاً ممتعاً وأنت تلعب أي رياضة ، فأنت الفائز حتى لو خسرت النتيجة .
تعلمت أنه من أكثر الأسلحة الفعالة التي يملكها الأنسان هي الوقت والصبر .
تعلمت أنه يجب على المرء الا يحاول أن يكون إنسانا ناجحاً ، إنما أن يحاول أن يكون إنساناً له قيمة وبعدها يأتي النجاح تلقائياً .(/1)
تعلمت أن الفاشلين يقسمون إلى قسمين ، قسم يفكر دون تنفيذ ، وقسم ينفذ دون تفكير .
تعلمت أنه يجب على الإنسان أن يحلم بالنجوم ، ولكن في نفس الوقت يجب ألا ينسى رجليه على الأرض .
تعلمت أنه عندما تضحك يضحك لك العالم ، وعندما تبكي تبكي وحدك .
تعلمت أنه من لا يعمل لا يخطيء .
تعلمت أن قاموس النجاح لا يحتوي على كلمتي "إذا" و "لكن" .
تعلمت أن هدية بسيطة غير متوقعة لها تأثير أكبر بكثير من هدية ثمينة متوقعة .
تعلمت أن هناك قرارات مهمة يجب أن يتخذها الإنسان مهما كانت صعبة ومهما أغضبت أناساً من حوله .
تعلمت أنه هناك فرق كبير بين التراجع والهروب .
تعلمت أنه إذا لم يجد الإنسان شيئاً في الحياة يموت من أجله ، فإنه أغلب الظن لن يجد شيئاً يعيش من أجله .
تعلمت أن الشجرة المثمرة هي التي يهاجمها الناس .
تعلمت أن النقاش والجدال خاصة مع الجهلة خسارة بكل معنى الكلمة .. الناس لا يعترفون بأخطائهم بسهولة .
تعلمت أنه من أجمل الأحاسيس هو الشعور من داخلك بأنك قمت بالخطوة الصحيحة حتى ولو عاداك العالم أجمع .
تعلمت أن السعادة لا تحقق في غياب المشاكل في حياتنا ، ولكنها تتحقق في التغلب على هذه المشاكل .
تعلمت أن الأمس هو شيك تم سحبه ، والغد هو شيك مؤجل ، أما الحاضر فهو السيولة الوحيدة المتوفرة ، لذا فإنه علينا أن نصرفه بحكمة .
تعلمت أنه أولاً وأخيراً أن أحمد الله على كل حال وأصلي على الحبيب المصطفى .
أبو البراء(/2)
هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالَمين وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدِّين …
أوجب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين طاعته والإقتداء بهديه واتِّباع سُنَّته و توقيره ومحبته صلى الله عليه وسلم فوق محبة الآباء والأبناء والأزواج والعشيرة ، والتجارة والأموال ، وأوعد من تخلف عن تحقيق ذلك بالعقاب ، فقال سبحانه وتعالى : { قُلْ إِنْ كَانَ ءابَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة: 24.[
كان محمد صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً وأدباً وأكرمهم و أتقاهم وأنقاهم معاملة . قال عنه ربه عز وجل مادحاً وواصفاً خُلقه الكريم صلى الله عليه وسلم (( وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ )) ]القلم 4 [.
عن أنس رضي الله عنه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا " - متفق عليه.
وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت : " ما رأيت أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم " - رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن.
وعن عائشة لما سئلت رضي الله عنها عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام ، قالت : ( كان خلقه القرآن) صحيح مسلم.
عن عطاء رضي الله عنه قال : قلت لعبد الله بن عمرو أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، قال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وحرزًا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا لا إله إلا الله ، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا - رواه البخاري
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من أكمل الناس شرفاً وألطفهم طبعاً وأعدلهم مزاجاً و أسمحهم صلة وأنداهم يداً , لأنه مستغن عن الفانيات بالباقيات الصالحات.
محمد وما أدراك من هو محمد..بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم
- محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم المرسلين وهو سيد الأولين والآخرين : قال صلى الله عليه وسلم: ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر)
- محمد صلى الله عليه وسلم هو نبي الرحمة قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) .
- محمد صلى الله عليه وسلم أرسل للناس كافة قال تعالى : { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }
وقال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (الأعراف 158)
- محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب الشفاعة العظمى :
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( فيأتوني ، فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ، فأنطلق فآتي تحت العرش ، فأقع ساجداً لربي عز وجل ، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ، ثم يقال يا محمد ارفع رأسك ، سل تعطى ، واشفع تشفع ) متفق عليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب المقام المحمود :
قال تعالى: { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } (الإسراء: 79)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا - جلوسا على الركب - ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود ) رواه البخاري .
- محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد يوم القيامة
قال صلى الله عليه وسلم : (( وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ))
- محمد صلى الله عليه وسلم هو أول من تفتح له أبواب الجنة :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( آتى باب الجنة يوم القيامة فاستفتح ، فيقول الخازن : من أنت ؟ قال : فأقول : محمد. قال : يقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك (رواه مسلم . )
- محمد صلى الله عليه وسلم أخبره ربه بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال الله تعالى : (إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر و يتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ) الآيتان 1و2من سورة الفتح.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان من أعبد الناس :(/1)
عن عبد الله بن الشخير ـ رضي الله عنه ـ قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء) رواه أبو داود .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقالت عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : (أفلا أكون عبداً شكوراً) رواه البخاري.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحب الذكر :
قال صلى الله عليه وسلم : (لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس) رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم : (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره ، مثل الحي والميت) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم : (ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله) أخرجه الطبراني بسندٍ حسن.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس دعاءً ، وكان من أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : (اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) متفق عليه .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنه كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته: (اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل) رواه النسائي .
- محمد صلى الله عليه وسلم معجزته باقية خالدة ما بقيت السموات و الارض بعكس معجزات الأنبياء السابقين ، ومعجزة سيد الأولين والآخرين وهي القرآن العظيم باقية إلى يوم الدين .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان متواضعا وكان أبعد الناس عن الكبر ، كيف لا وهو الذي يقول صلى الله عليه وسلم : (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبدٌ فقولوا عبد الله ورسوله) رواه البخاري.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان شفيقا بمن يخطئ أو من يخالف الحق وكان يُحسن إليه ويعلمه بأحسن أسلوب ، بألطف عبارة وأحسن إشارة ، من ذلك لما جاءه الفتى يستأذنه في الزنا.
فعن أبي أُمامة ـ رضي الله عنه ـ قال : إن فتىً شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا: مه مه فقال له: (ادنو) ، فدنا منه قريباً ، قال: (أتحبّه لأمّك؟) قال : لا والله ، جعلني الله فداءك ، قال : (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم) قال ) : أفتحبه لابنتك؟) قال: لا والله يا رسول الله ، جعلني الله فداءك . قال : (ولا الناس جميعاً يحبونه لبناتهم) قال : (أفتحبه لأختك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك . قال : ولا الناس جميعاً يحبونه لأخواتهم). قال: (أفتحبه لعمتك؟) قال: لا والله ، جعلني الله فداءك . قال: (ولا الناس جميعاً يحبونه لعماتهم). قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس جميعاً يحبونه لخالاتهم) قال: فوضع يده عليه ، وقال : اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصّن فرجه) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء . رواه أحمد.
- محمد صلى الله عليه وسلم خير الناس لأهله يصبر عليهم ، ويغض الطرف عن أخطائهم قال عليه الصلاة والسلام: (( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )) سنن الترمذي .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم
عن الأسود قال : سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت : ( كان يكون في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة) رواه مسلم والترمذي.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يخصف نعله ، ويخيط ثوبه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان يخيط ثوبه ويخصف نعله ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم - رواه أحمد.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يمازح أهله ويلاعبهم ويسابقهم..
عن عائشة رضي الله عنها قالت " : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن ، فقال للناس : اقدموا فتقدموا ، ثم قال لي : تعالي حتى أسابقك فسبقته ، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت خرجت معه في بعض أسفاره ، فقال للناس : تقدموا فتقدموا ، ثم قال لي : تعالي أسابقك فسبقني ، فجعل يضحك وهو يقول هذه بتلك " رواه أحمد.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان عادلا يقيم شرع الله تعالى ولو على أقرب الأقربين.
قال تعالى: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَو ِالْوَالِدَيْنِ وَ الأقْرَبِينَ) (النساء:135)
قال عليه الصلاة والسلام في قصة المرأة المخزومية التي سرقت : ( والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد , لقطعت يدها ) .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يعدل بين نسائه صلى الله عليه وسلم ويتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة كما كانت عائشة ـ رضي الله عنها ـ غيورة.(/2)
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم تكلم بكلام فَصْلٍ مبين ، يعده العاد ليس بسريع لا يُحفظ ، ولا بكلام منقطع لا يُدركُه السامع ، بل هديه فيه أكمل الهديِّ ، كما وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بقولها: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فصل يتحفظه من جلس إليه( متفق عليه
- محمد صلى الله عليه وسلم , كان يتفقّد أصحابه ويسأل عنهم ، ويواسيهم ويقدم لهم النصيحة
في الحديث كان يزور الأنصار، ويُسَلِّم على صبيانهم ، و يمسح رؤوسهم "، حديث صحيح رواه النسائي.
- محمد صلى الله عليه وسلم يسلم كان يحيى مع أصحابه حياة فطرية عادية ، يشاركهم في ضحكهم ولعبهم ومزاحهم ، كما يشاركهم آلامهم وأحزانهم ومصائبهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا قال : " نعم غير أني لا أقول إلا حقاً
وجاءت إليه أمرأة عجوز تقول له : ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها : "يا أم فلان ، إن الجنة لا يدخلها عجوز" ! فبكت المرأة حيث أخذت الكلام على ظاهره ، فأفهمها : أنها حين تدخل الجنة لن تدخلها عجوزًا ، بل شابة حسناء.
وتلا عليها قول الله تعالي في نساء الجنة: (إنا أنشأناهن إنشاء. فجعلناهن أبكارًا. عربًا أترابًا).(الواقعة: 35-37( أخرجه الترمذي
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يجالس أصحابه ويماشيهم وإذا مشى مع أصحابه يمشون بين يديه وهو خلفهم ويقول دعوا ظهري للملائكة .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يماشي أصحابه فرادى وجماعة ومشى في بعض غزواته مرة فدميت أصبعه وسال منها الدم فقال :
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان في السفر ساقه أصحابه يزجي الضعيف ويردفه ويدعو لهم .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يكرم ضيفه ويجالسهم وكان يجلس على الأرض
لما قدم عليه عدي بن حاتم دعاه إلى منزله فألقت إليه الجارية وسادة يجلس عليها فجعلها بينه وبين عدي وجلس صلى الله عليه وسلم على الأرض .
قال عدي : فعرفت أنه ليس بملك
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يخفض طرفه
عن أبي هالة عن الحسن بن علي قال أن النبي عليه الصلاة والسلام كان خافض الطرف (من الخفض ضد الرفع ) فكان إذا نظر لم ينظر إلى شيء يخفض بصره لأن هذا من شأن من يكون دائم الفكرة لاشتغال قلبه بربه)، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء ، وكان جل نظره الملاحظة (المراد أنه لم يكن نظره إلى الأشياء كنظر أهل الحرص والشره بل بقدر الحاجة )
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أزهد الناس في الدنيا وأرغبهم في الآخرة خيره الله تعالى بين أن يكون ملكا نبيا أو يكون عبدا نبيا فاختار أن يكون عبدا نبيا.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان ينامُ على الفراش تارة ، وعلى النِّطع تارة، وعلى الحصير تارة ، وعلى الأرض تارة ، وعلى السرير تارة بين رِمَالهِ ، وتارة على كِساء أسود
قال أنس بن مالك رضي الله عنه : ( دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مزمول بالشريط وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ودخل عمر وناس من الصحابة فانحرف النبي صلى الله عليه وسلم فرأى عمر أثر الشريط في جنبه فبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا عمر قال : ومالي لا أبكي وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى فقال يا عمر : أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال : بلى قال: هو كذلك )
- محمد صلى الله عليه وسلم أفصح خلق الله وأعذبهم كلاما وأسرعهم أداء وأحلاهم منطقا حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويسبي الأرواح ويشهد له بذلك أعداؤه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم ؛ تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد ليس بمسرع لا يحفظ ولا منقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام بل هديه فيه أكمل الهدي قالت عائشة : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد سردكم هذا ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه ويتكلم بجوامع الكلام فصل لا فضول ولا تقصير وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه وإذا كره الشيء عرف في وجهه ولم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان جل ضحكه التبسم بل كله التبسم فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه .
وفي الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلا تَبَسُّماً، وكنتَ إذا نظرتَ إليه قُلتَ أكحل العينين وليس بأكحل "، حسن رواه الترمذي .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس معاملة ، وكان إذا استسلف سلفا قضى خيرا منه .(/3)
ذكر البزار أنه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل أربعين صاعا فاحتاج الأنصاري فأتاه فقال صلى الله عليه وسلم : ما جاءنا من شيء بعد فقال الرجل وأراد أن يتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقل إلا خيرا فأنا خير من تسلف فأعطاه أربعين فضلا وأربعين سلفة فأعطاه ثمانين.
وباعه يهودي بيعا إلى أجل فجاءه قبل الأجل يتقاضاه ثمنه فقال : لم يحل الأجل فقال اليهودي : إنكم لمطل يا بني عبد المطلب فهم به أصحابه فنهاهم فلم يزده ذلك إلا حلما فقال اليهودي : كل شيء منه قد عرفته من علامات النبوة وبقيت واحدة وهي أنه لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما فأردت أن أعرفها فأسلم اليهودي.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الأطفال ويداعبهم.
عن انس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يمر بالصبيان فيسلم عليهم - رواه البخاري واللفظ له ومسلم.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع بكاء الصبي يسرع في الصلاة مخافة أن تفتتن أمه.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحمل ابنة ابنته وهو يصلي بالناس إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وجاء الحسن والحسين وهما ابنا ابنته وهو يخطب الناس فجعلا يمشيان ويعثران فنزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما حتى و وضعهما بين يديه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان لطيفا رحيماً فلم يكن فاحشاً ولا متفحشا ولا صخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح.
عن أنس رضي الله عنه قال : " خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، والله ما قال أف قط ، ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا" - رواه الشيخان وأبو داود و الترمذي.
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له ولا امرأة ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله متفق عليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم نبي التيسير على أمته وعلى الناس أجمعين.
عن عائشة رضي الله عنها قالت " ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا ، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم".
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحب أمته ويدعو على من آذاها : ( اللهم من وليَ من أمرِ أمتي شيئاً ، فشقَّ عليهم ، فاشقُق عليه ، و من ولي من أمر أمتي شيئاً ، فرفق بهم ، فارفق به )
- محمد صلى الله عليه وسلم عندما قيل له ادع على المشركين قال صلى الله عليه وسلم " إني لم أبعث لعانًا ، وإنما بعثت رحمة " - رواه مسلم
- محمد صلى الله عليه وسلم كان رحيما في تعامله مع الناس حكيما في توجيههم
عن أنس رضي الله عنه قال : " بينما نحن في المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد فصاح به أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : مَه مَه ( أي اترك ( !!.قال النبي عليه الصلاة و السلام : لا تُزرموه، (لا تقطعوا بوله(.
فترك الصحابة الأعرابي يقضي بَوله ، ثم دعاه الرسول صلى الله عليه و سلم و قال له:
" إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنَّما هي لِذِكر الله والصلاة و قراءة القرآن " ، ثم قال لأصحابه صلى الله عليه و سلم : " إنَّما بُعِثتم مُبَشِرين ، ولم تُبعَثوا معسرين، صُبّوا عليه دلواً من الماء ".
عندها قال الأعرابي : "اللهم ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً ".
فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : "لقد تحجَّرتَ واسعاً"، (أي ضَيَّقتَ واسعاً)، متفق عليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوتهم دعوة الحر والعبد والغني والفقير ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر.
عن أنس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب - رواه الترمذي .
الإهالة السنخة : أي الدهن الجامد المتغير الريح من طوال المكث.
وقال صلى الله عليه وسلم (لو أُهدي إليَّ كراعٌ لقبلتُ ولو دُعيت عليه لأجبت) رواه الترمذي .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يقضي حوائج الناس :
عن ابن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأنف ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي له حاجته) رواه النسائي والحاكم.
- محمد صلى الله عليه وسلم يأتيه الصغير، فيأخذ بيده يريد أن يحدثه في أمر، فيذهب معه حيث شاء.
- محمد صلى الله عليه وسلم وقاره عجب ، لا يضحك إلا تبسما ، ولا يتكلم إلا عند الحاجة ، بكلام يعد يحوي جوامع الكلم ، حسن السمت.
- محمد صلى الله عليه وسلم لا يحب النميمة ويقول لأصحابه : " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقا ، قال أنس : "خدمت رسول الله عشر سنين ، والله ما قال لي: أف قط ولا لشيء فعلته : لم فعلت كذا ؟، وهلا فعلت كذا؟". مسلم(/4)
محمد صلى الله عليه وسلم لا يقابل أحدا بشيء يكرهه ، وإنما يقول: (ما بال أقوام )
- محمد صلى الله عليه وسلم لا يغضب ولا ينتقم لنفسه ، إلا إذا انتهكت حرمات الله تعالى ، فينتقم لله.
* محمد صلى الله عليه وسلم دخل في فتح مكة إلى الحرم خاشعا مستكينا ، ذقنه يكاد يمس ظهر راحلته من الذلة لله تعالى والشكر له.. لم يدخل متكبرا، متجبرا، مفتخرا، شامتا.
* محمد صلى الله عليه وسلم وقف أمامه رجل وهو يطوف بالبيت ، فأخذته رعدة ، وهو يظنه كملك من ملوك الأرض ، فقال له رسول الله : " هون عليك ، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة ".
* محمد صلى الله عليه وسلم يمر الشهر وليس له طعام إلا التمر.. يتلوى من الجوع ما يجد ما يملأ بطنه ، فما شبع ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى فارق الدنيا .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان رحيما بأمته.
- محمد صلى الله عليه وسلم أعطاه الله دعوة مستجابة ، فادخرها لأمته يوم القيامة شفاعة ، قال : ( لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته ، وإني أختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا ) [البخاري] ؛ ولذا قال تعالى عنه : {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم } - محمد صلى الله عليه وسلم كان يمر عليه الشهران والثلاثة ولا يوقد في بيته نار
عن عروة رضي الله عنه قال : عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها كانت تقول : والله يا ابن أختي كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين ما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قلت: يا خالة فما كان عيشكم؟ قالت : الأسودان ـ التمر والماء ـ) متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : (كان النبي صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءاً، وكان أكثر خبزهم الشعير) رواه الترمذي وابن ماجه.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما عاب شيئا قط.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاما قط ؛ إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
- محمد صلى الله عليه وسلم يبدأ من لقيه بالسلام.
- محمد صلى الله عليه وسلم يجالس الفقراء.
- محمد صلى الله عليه وسلم يجلس حيث انتهى به المجلس.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس
- محمد صلى الله عليه وسلم أشجع الناس
- محمد صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما سئل شيئا فقال: "لا" .
- محمد صلى الله عليه وسلم يحلم على الجاهل ، ويصبر على الأذى.
- محمد صلى الله عليه وسلم يتبسم في وجه محدثه، ويأخذ بيده ، ولا ينزعها قبله.
- محمد صلى الله عليه وسلم يقبل على من يحدثه ، حتى يظن أنه أحب الناس إليه.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما أراد احد أن يسره بحديث ، إلا واستمع إليه بإنصات.
- محمد صلى الله عليه وسلم يكره أن يقوم له أحد ، كما ينهى عن الغلو في مدحه.
- محمد صلى الله عليه وسلم إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه.
- محمد صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيمينه قط إلا في سبيل الله.
- محمد صلى الله عليه وسلم لا تأخذه النشوة والكبر عن النصر.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان زاهدا في الدنيا.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يبغض الكذب.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أحب العمل إليه ما دوم عليه وإن قل
- محمد صلى الله عليه وسلم كان أخف الناس صلاة على الناس وأطول الناس صلاة لنفسه
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضجعه جعل يده اليمنى تحت خده الأيمن .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا جاء أمرا أسره يخر ساجداً شكرا لله تعالى.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يحب قال الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وإذا رأى ما يكره قال الحمد لله على كل حال .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا بدا بنفسه .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال استغفروا الله لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان لا ينام إلا والسواك عند رأسه فإذا استيقظ بدأ بالسواك .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاثة أصابع ويلعق يده قبل أن يمسحها .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن ما استطاع في طهوره وتنعله وترجله وفي شأنه كله.
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله تعالى في كل وقت .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله .
- محمد صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الاثنين والخميس .
- محمد صلى الله عليه وسلم يضطجع على الحصير، ويرضى باليسير، وسادته من أدم حشوها ليف.(/5)
- محمد صلى الله عليه وسلم على الرغم من حُسن خلقه كان يدعو الله بأن يحسّن أخلاقه ويتعوذ من سوء الأخلاق عليه الصلاة والسلام .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان صلى الله عليه وسلم يقول اللهم كما أحسنت خلقي فأحسن خلقي " - رواه أحمد ورواته ثقات.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول " اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق " - رواه أبو داود والنسائي
وختاماً :
قال تعالى : (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً *ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً ) [سورة النساء:69-70].
وقال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً)[سورة الأحزاب:21[.
فالمؤمن الحق هو المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وآدابه صلى الله عليه وسلم والمستن بسنته وهديه .
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا)).
قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن؛ وإن الله يبغض الفاحش البذيء)).
وقال صلى الله عليه وسلم : ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، وخياركم خياركم لأهله)).
ومن ها هنا نعلم اضطرارنا فوق كل ضرورة إلى معرفة نبينا صلى الله عليه وسلم لتقوى محبتنا له ، فإذا ما أحببناه اقتدينا بهديه وتأدبنا بآدابه وتعاليمه ، فبمتابعته يتميز أهل الهدى من أهل الضلال.
أخي المسلم وبعد هذا أسالك سؤالا فأقول هل تحب نبيك صلى الله عليه وسلم ؟؟؟
هل تريد نصرته ؟؟
فلماذا لا تهتدي بهديه وتستن بسنته وتطيعه ولا تعصيه حتى تكون من أهل سنته؟؟؟
نسأل المولى عز وجل أن يرزقنا حسن متابعته صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأن ينفعنا بهديه ، لنفوز بشفاعته ومحبته صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وأن يعيننا على خدمة السُنَّة النبوية المُطَهَّرة وأن يجمعنا وإياكم تحت لواء المصطفى صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعل حبك وحب رسولك أحب إلينا من أنفسنا وأبنائنا ومن الماء البارد على الظمأ ، اللهم ارزقنا شفاعة نبيك محمد وأوردنا حوضه ، وارزقنا مرافقته في الجنة ، اللهم صلى وسلم وبارك أطيب وأزكى صلاة وسلام وبركة على رسولك وخليلك محمد وعلى آله وصحبه.
وصلى الله على نبينا وحبينا وقرة أعيننا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(/6)
هكذا كان يخطب الرسول
وصفي عاشور أبو زيد - 26/10/2003
بديهي أن الخطابة من الركائز الأساسية والوسائل المهمة في الدعوة إلى الله تعالى؛ فهي اللقاء الأسبوعي الذي يحتشد فيه المسلمون في مسجد جامع ليسمعوا داعي الله وهو يذكرهم به ويعلمهم دينه.
فالخطابة في الإسلام تمثل مظهر الحياة الذي يجعل القيم النبيلة والمثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة تصل من قلب إلى قلب، وتثب من فكر إلى فكر؛ فتنعش الروح وتجدد الإيمان، فلا غرو أن تكون بذلك من شعائر الإسلام.
ومن المؤسف حقًّا -في عصرنا الحاضر- أن المنابر أصبحت تحمل فوقها ساعة الجمعة أشباه الخطباء الذين فرَّغوا الخطابة من محتواها، وأخرجوها من إطارها الصحيح، وأبعدوها عن أداء أماناتها وإبلاغ رسالتها.
وإني لأعرف أناسًا من المصلين يتأخرون عن الخطبة -بصرف النظر عن الحكم الشرعي لذلك- ويحضرون قبيل إقامة الصلاة حتى يعفوا آذانهم من سماع هذا العبث الذي يخدش روعة الجمعة، ويُذهب جلال اليوم وبهاءه.
وهذا الحديث ليس موجهًا لهؤلاء الذين اتخذوا من الخطابة مهنة يتكسبون من ورائها، إنما هو موجه إلى دعاة على درجة معينة من الثقافة، فاقهين دور الخطابة، مدركين أثرها وتأثيرها في المجتمع.
أما غيرهم فساحة المسجد أولى بهم من مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نموذج حري بأن يُحتذَى
بين أيدينا حديثٌ من جوامع الكلم، وخطبة تعتبر وثيقة من وثائق الإسلام، ومثلا أعلى لكل داعية، ونموذجًا للخطبة الناجحة يحتذيه الخطيب الناجح.
إنها خطبة حجة الوداع التي ألقاها أفصح العرب طرًّا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في جموع بلغت الآلاف.
فبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال[1]: "أيها الناس، اسمعوا قولي، فإن لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا. أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلَّغت، فمن كانت عنده أمانة فلْيؤدِّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رءوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوعٌ كله، وإن كل دمٍ كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضَعًا في بني ليث فقتلته هذيل، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدًا، ولكنه إن يُطعْ فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.
أيها الناس، "إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله فيُحلوا ما حرم الله" (التوبة: 37) ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم: ثلاثة متوالية، ورجب مضر[2]، الذي بين جمادى وشعبان.
أيها الناس، إن لكم على نسائكم حقًّا، ولهن عليكم حقًّا، لكم عليهن ألا يُوطئن فرُشكم أحدًا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربًا غير مبرِّح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عندكم عوانٍ[3]، لا يملكن لأنفسهن شيئًا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاعقلوا أيها الناس قولي، فإني قد بلَّغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبدًا، أمرًا بينًا: كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمُنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟
فذُكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد.
قال ابن إسحاق: .... كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعرفه ربيعة بن أمية بن خلف..." انتهى ما أردته.
وفي الخطبة من الدروس والعبر ما لو أدركه الدعاة والخطباء لأدت الخطابة رسالتها أحسن ما يكون الأداء.. ومن أهم هذا الدروس.
دروس للدعاة والخطباء
...
أولا- الإخلاص والحرص على هداية الناس:
فالإخلاص هو مدار الأمر كله بعد الفقه الكامل لمعنى الخطابة؛ إذ به يصل الكلام إلى القلوب، فيتمثله الناس واقعًا عمليًّا في حياتهم، وبغيره لا يتعدى الكلام الآذان، ولو ملك الخطيب ناصية البيان وقوة الحجة ونصاعة البرهان.
من هنا وجدنا الإخلاص متمثلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصيح في هذا الجمع الحاشد: "اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا".(/1)
إن الذي يعيش الموقف مع هذا الجمهور يشعر أن النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الأمة بمثابة الأب مع أبنائه، يريد ألا يدعهم في آخر لقاءٍ بهم قبل أن يُلقي في آذانهم آخر ما لديه من نصح وحب وإرشاد.
وهذا من تمام حرص النبي صلى الله عليه وسلم على قومه وإخلاصه لهم، "كان يُحس أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة وحده؛ فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذي انطلق به القطار، يوصيه بالرشد، ويذكره بما ينفعه أبدا" [4].
أفلم تكن تغني ثلاث وعشرون سنة -هي عمر الدعوة في هذا الوقت- عن هذا البيان الأخير؟! ولكن النبي الرءوف الرحيم يريد أن يضع اللمسات الأخيرة، والمبادئ الكلية، وأهداف الرسالة وخلاصتها قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى؛ لتظل هذه التوجيهات، وتلك الصيحات حاضرة في أذهانهم، ترددها آذانهم بعد رسول الله أبد الآبدين.
والحق أن الإخلاص والحرص على هداية الناس هما منهج الأنبياء جميعًا، فكم تكرر في القرآن الكريم على لسان الأنبياء: "فاتقوا الله وأطيعون"، "إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم"، "وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين". وغير ذلك.
وفي هؤلاء الأنبياء جميعًا أسوة للدعاة إلى الله الذين يواجهون المجتمع، ويوجّهون الجماهير إلى الله تعالى.
ثانيًا- جذب الجمهور وتهيئته من أول الخطبة:
وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم في البداية عبارته الفاجعة: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا". وهنا تشرئب الأعناق، وتتطاول الرقاب، وتترقب الآذان ما يُلقَى من وعظ ومن إرشاد.
إن وسائل الجذب وبراعة الاستهلال أول الخطبة ليتهيأ الناس للكلام لا حصر لها، يملكها الخطيب اللبيب من خلال الواقع الذي يموج بأحداث يعيشها الناس، ومن خلال القضايا المثارة في المجتمع، والتي ينبغي أن يكون الخطيب على دراية كاملة بها.
ولم يكن هذا الدرس الهام في بداية خطبة النبي فقط، إنما تخلل مواضع كثيرة منها، فكم قال: "أيها الناس"، وقال: "اسمعوا قولي واعقلوه"، وقال: "فاعقلوا أيها الناس قولي" ثم يرمي بالتبعة على كاهلهم حتى يتنبهوا لخطورة الكلام حين قال: "فإني قد بلَّغت"، وفي النهاية: "اللهم اشهد".
والقرآن الكريم يعلمنا هذا الأسلوب في كثير من سوره: فمرة يبدأ السورة بذكر شيء، ثم يستفهم عنه، ثم يعظِّم من شأنه: "الحاقة * ما الحاقة * وما أدراك ما الحاقة"، وقوله: "القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة"، ومرة يفاجئ الناس بوقائع مرهبة، وأحداث مرعبة: "إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت * وإذا الجبال سيرت..."، ومرة أخرى يثير تساؤلا، ثم يجيب عنه: "عم يتساءلون * عن النبأ العظيم"، ومرة يبدأ بقسم -والقسم يشير إلى أهمية ما بعده- مثل قوله: "ن والقلم وما يسطرون". إلى آخر هذه الوسائل المثيرة للعقل والوجدان معًا.
والخطيب الحاذق هو الذي يتعلم من هذا الكلام المعجز؛ فيوظف أحداث عصره في ذلك، ثم يستهدي الشفاء والدواء من كلام الله ورسوله.
ثالثا- التركيز على المتفق عليه وترك المختلف فيه:
فينبغي ألا تثار قضايا الخلاف على المنبر في حضور هذا التجمع، أو في أي تجمع؛ لئلا يُحدث ذلك اضطرابًا واختلافًا وجدلا بين الناس، وما لأجل هذا جُعلت المنابر، إنما جعلت لتثبيت أركان التوحيد، وتقرير شعائر الإسلام، وتوضيح مبادئه الكلية ومقاصده العامة.
هناك نوعٌ من الخطباء لا ينقصهم الإخلاص بقدر ما ينقصهم حسن الفهم وعمق التجربة يصعدون المنابر -وليتهم لا يصعدون- من أجل إثارة هذه القضايا التي لم ينتهِ الخلاف فيه أزلا، ولن ينتهي الخلاف فيها أبدًا، ويقيمونها مقام أصول الإسلام، ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ فينقسم الناس إلى طوائف يتراشقون ويتشاحنون، وليتهم شغلوا أنفسهم بالمتفق عليه -وهو كثير- أو بقضايا واقعهم المخزي المرير.
إن المتأمل في خطبة الوداع لا يجد فيها إلا أصول الإسلام العامة ومبادئه الكلية التي لا يختلف فيها اثنان.
من يختلف في حرمة دم المسلم وماله وعرضه، وأداء الأمانة؟ أو من يشك في حرمة الربا؟ أو من ينكر حقوق المرأة التي قررها الإسلام؟ أو من يماري في أن الرابطة العليا هي أخوة الإسلام؟ بل من يتكلم في كلمة النبي الجامعة: "تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا، أمرًا بينًا: كتاب الله وسنة نبيه".
إن إثارة القضايا الخلافية في تجمعات الناس وجُمعهم لَيُعَدّ نوعًا من السفه الذي يجب أن يترفع عنه الدعاة الذين أقامهم الله مقام الأنبياء ليُضيئوا ظلمات الأرض بنور السماء.
رابعًا- شمول الخطبة أمور الدنيا والآخرة:
من الخطباء مَن يجعل شغله الشاغل وهمه الأكبر الحديث عن عذاب القبر، وعذاب النار، وسخط الله وعقابه، وقضايا الآخرة عمومًا، ويعتبر الحديث عن شئون الدنيا أمرًا ينبغي ألا يكون موضوع خطبة، بل يجب على الخطباء أن يجتنبوه، فإن الخطبة -بزعمهم- تقوم على الوعظ الذي يشمل التخويف والترهيب وحسب.(/2)
وما نحن بصدده أكبر دحض لهذا، وإن أطول آية في كتاب الله تعالج أمرًا دنيويًا.
إن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته هذه لم يركز على أمور الآخرة -على أهميتها- بقدر ما ركز على شئون الدنيا؛ فقد ذكّرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم سيلقون ربهم فيسألهم عن أعمالهم، ثم بين لهم سبل غواية الشيطان وحذرهم منه، لا تكاد الخطبة تذكر من أمور الآخرة شيئًا سوى ذلك. أما بقيتها فتعالج شئون الحياة الدنيا، فإن صلاح الآخرة مرهونٌ بإصلاح الدنيا، والذين لا يبنون دنياهم يهدمون آخرتهم.
بينما قرر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أمور الدنيا الكثير والكثير، من ذلك:
ـ حرمة الأموال والدماء والأعراض: وهذا يمثل مفرق الطريق بين نظام الإسلام والنظم الأخرى من شيوعية ورأسمالية وغيرها.
ـ حرمة الربا: وهو هذا النظام الذي يسحق الفقراء، ويجعل المجتمع طبقيًّا.
ـ العدل والمساواة وحقن الدماء: حيث وضع النبي الربا، وأول ربا وضعه هو ربا عمه العباس بن عبد المطلب، ووضع دماء الجاهلية، وأول دم وضعه دم ابن ابن عمه، ابن ربيعة بن الحارث.
ـ حق الرجل على المرأة وحق المرأة على الرجل: اللذان يبلوران أسس العلاقة التي تقوم عليها كبرى لبنات المجتمع المسلم.
ـ حق المسلم على أخيه المسلم: وهو بيان أن الرابطة العليا في الأمة هي رابطة العقيدة.
هل ترك النبي من أنواع العلاقات شيئًا؟!
لقد ذكر علاقة المسلم بنفسه، عندما حذر من الشيطان وأوصانا بمجاهدته.
وذكر علاقة المسلم بربه، عندما تحدث عن لقائنا بالله وسؤاله لنا.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الصغير "الأسرة"، عندما ذكر حقوق النساء، وأوصى بهن خيرًا.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الكبير، عندما قرر حرمة الدماء والأموال والأعراض وأمر بأداء الأمانة.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الأكبر، وهي الأخوة التي تنتظمها العقيدة؛ لتكوِّن الرابطة العليا في الأمة.
إن الخطابة التي تقتصر على أمور الآخرة والترهيب، وتهمل شئون الدنيا، تبعث على اليأس والقنوط، وتجعل الناس في حالة من السآمة والملل والإعراض، ما لم تشتمل على قضايا تلمس واقع الناس، وتعالج مشكلاتهم.
"وبهذا لا يجيء الكلام على المنابر إلا حيًّا بحياة الوقت، فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد، ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل"[5].
إن كل نبي من الأنبياء أرسله الله ليعالج مرضًا واقعيًّا موجودًا في حياة الناس، وذلك باستهداء الوحي الذي ينزله الله عليه، مع الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده قبل كل شيء.
وهكذا المجددون والمصلحون يبعثهم الله بعد انقطاع من الزمن ليجددوا ويحيوا معالم الإسلام التي انطمست وماتت -أو تكاد- في ضمير الأمة.
خامسًا- الاقتباس من القرآن والسير معه:
وهذه لا يتقنها أشباه الخطباء، إنما يقدر عليها أولو العزم منهم، الذين استظهروا كتاب الله قراءة وحفظًا وتفسيرًا وتدبرًا، وقبل ذلك حازوا ثقافة اللغة والأدب.
إن النبي صلى الله عليه وسلم ضمَّن خطبته معاني وآيات قرآنية كثيرة، وكيف لا وهو أفصح من نطق بالضاد، من ذلك: "لكم رءوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون" (البقرة: 279)، و"إنما النسيء زيادة في الكفر..." (التوبة: 37). و"ألا يأتين بفاحشة مبينة" (النساء: 19). وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن[6]، وغير ذلك.
وكيف يكون داعيةً إلى الله مَن لا يفقه كلام الله قراءة وحفظًا، فضلاً عن إدراك أسراره ومقاصده؟ فالقرآن لم يدع أمرًا من شئون الدنيا والآخرة إلا تحدث فيه، والخطبة التي تخلو من كلام الله ينقصها الكثير.
إن "الخطيب الذي يصلح للتحدث عن الإسلام رجلٌ خبيرٌ بالحياة وعللها، مكين في الوحي الأعلى" [7].
يقول الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله: "لا تسمى خطابة إسلامية هذه الكلمات الميتة التي يسمعها الناس في بعض المساجد ثم يخرجون وهم لا يدرون ماذا قال خطيبهم؛ لأنه لم يَصل أحدًا منهم بروح القرآن، ولا أنعش قلبًا بمعانيه، ولا علَّق بصرًا بأغراضه" [8].
وبجانب الاقتباس من القرآن يليق للخطيب أيضًا أن يسير مع القرآن؛ فهناك قضايا ركز عليها القرآن، وأطال الحديث عنها في غير موضع، وهناك قضايا ذكرها في موضع أو موضعين، وبين هذه وتلك تفاوتٌ ونسبيّة في عرض القرآن للقضايا، والخطيب الناجح هو الذي يسير مع القرآن حيث سار، فيولي ما اهتم به القرآن اهتمامه الأكبر؛ لأن القرآن لا يركز على أمر إلا إذا كان له أثره الكبير في معاش الناس ومعادهم.
سادسًا- على الداعية البلاغ وليس عليه النتائج:
وهذا أمرٌ حسمه القرآن مع الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ قال له: "ليس لك من الأمر شيء" (آل عمران: 129)، و"ليس عليكم هداهم" (البقرة: 272)، و "إنك لا تهدي من أحببت" (القصص: 56)، و"إن أنت إلا نذير" (فاطر: 23)، و"فإنما عليك البلاغ" (آل عمران: 20)... إلى آخر هذه الآيات التي تحسم الأمر بوضوح لا لبس معه، ولا شبهة فيه.(/3)
وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يلقي التبعة عليهم -بعد أن بلغ ما عليه- بأنهم سيلقون ربهم، ويسألهم عن أعمالهم، وكم تكرر في خطبته الجامعة: "اللهم هل بلغت؟"، فتردد الجماهير: "اللهم اشهد".
وهذا بالطبع لا يتنافى مع شعور الداعية بالأسف والحزن على ما به قومه من ضلالة، وأنهم على غير الصراط المستقيم، فقد كان صلوات الله عليه أوضح مثَل لذلك، حتى أنزل الله عليه يواسيه ويخفف عنه: "فلعلك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفًا" (الكهف: 6) وقوله: "لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين" (الشعراء: 3).
والداعية يسير بهذا الحرص على قومه، ويرجو الله أن يهديهم، لكنه لا يقنط ولا ييأس إن استجابت له قلة، أو لم يستجب له أحد؛ فلقد مكث نوحٌ عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وما آمن معه إلا قليل.
المهم أنه أدى ما عليه، وبلَّغ ما أناط الله بعنقه، وأشهد الله وأشهدهم على ذلك، كما فعل مؤمن آل فرعون، وقد سلك مع قومه كل سبيل، ثم قال في النهاية: "فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله" (غافر: 44).
[1] السيرة النبوية لابن هشام: 6(/8ـ11) دار الجيل. بيروت. طـ أولى. 1411هـ. بتحقيق طه عبد الرؤوف سعد، رواها ابن هشام عن ابن إسحاق بغير إسناد، وقد جاء إسنادها في أحاديث متفرقة، فقد جاءت في الصحيحين عن أبي بكرة، ولمسلم عن جابر رواية جامعة، وفي سنن الترمذي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص، وغيرها من كتب السنة. وحسبنا ما قاله ابن حجر العسقلاني في مقدمة "لسان الميزان" وهو يتحدث عن فضل الاشتغال بعلم الحديث موردًا بعض ما جاء في خطبة الوداع: "فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع.."، قال عن الخطبة: "وقد بلغت حد التواتر" راجع لسان الميزان: (1/3) بيروت. طـ ثالثة. 1406هـ.
[2] إنما قال النبي ذلك؛ لأن ربيعة كانت تُحرم رمضان وتسميه رجبًا، فبين أنه رجب مضر لا رجب ربيعة، وأنه الذي بين جمادى وشعبان.
[3] عوانٍ: جمع عانيه، وهي الأسيرة.
[4] فقه السيرة للشيخ الغزالي: 505. بتخريج الشيخ الألباني. دار الدعوة. طـ ثانية. بدون تاريخ.
[5] وحي القلم: (2/247).
[6] إشارة إلى الآية 34 من سورة النساء.
[7] مع الله دراسات في الدعوة والدعاة: للشيخ الغزالي: 273. دار الكتب الإسلامية. طـ سادسة 1405هـ.
[8] السابق: 272(/4)
هكذا كانت حياتي
محمد الدويش
المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد:- فماذا دهى فتاة الإسلام اليوم؟ فتاة ولدت من أبوين فاضلين، وعاشت فى بيت محافظ تستيقظ وتنام وتغدو وتروح وهى تسمع الدعاء لها بالستر والعافية، ولكنها مع فتن العصر وصوارفه، ومع الغربة الحالكة بدأت تنظر ذات الشمال، وتلتفت إلى الوراء، فترفع سماعة الهاتف لتخاطب شابا لم تعرفه إلا من كلامه، وتسهر أحيانا على فلم ينسخ من ذاكرتها كل صور البراءة والعفة لتتراءى أمام ناظريها مظاهر السفور والعلاقة المحرمة. فتعيش في دوامة من الصراع، تسمع تارة هذا الصوت النشاز الذي يدعوها إلى الارتكاس والتخلي عن كل معاني العفة، وتسمع أخرى الصوت الصادق يهزها من داخلها هزاً عنيفاً ليقول لها رويدك فهو طريق الغواية وبوابة الهلاك، وتتصارع هذه الأصوات أمام سمعها وتتموج هذه الأفكار في خاطرها. ومع ذلك كله فقد بليت بأب غافل قد شغل بحياته الخاصة وعلاقته مع أصدقائه وزملائه، وأم بعيدة عنها كل البعد لا يعنيها شأنها ولا تشغلها قضيتها. لقد كان هذا الواقع نتاج حملة ظالمة مسعورة، لم تستهدف الفتاة المسلمة فحسب، ولا الأسرة وحدها، بل الأمة في أعز ما تملك، في الأم محضن الرجال، ومربية الأجيال. ومع هذا الواقع المؤلم رأينا بحمد الله من استعلين على الواقع السيء، وأقبلن على الله، فصرن معالم لطريق الهدى والصلاح. وهذه محاولة متواضعة من الكاتب، لخطاب الفتاة المسلمة ودعوتها للعودة إلى الأصل، لسلوك الجادة المستقيمة، والسير في ركاب الصالحات القانتات. وقد آثرت أن تكون هذه الرسالة بلسان فتاة مسلمة، فتاة أقبلت وعادت إلى الله بعد أن سارت خطوات في طريق الغفلة والهوى. أرجو الله أن أكون قد وفقت في إبلاغ هذه الرسالة، وأن يجعل عملي خالصاً صواباً، وأن ينفع به من قرأه إنه سميع مجيب.(/1)
هكذا كنت يحرص كثير من الناس على تدوين مذكراتهم وقصصهم وتجاربهم في الحياة، أما قصتي وتجربتي فلها شأن آخر، وهي مع ذلك لا تستمد قيمتها من شخصية من كتبها وبلاغة لسانه وسيولة قلمه، ولا من كونها قصة غريبة فريدة، إنما لأنها تحكي قصة الحياة، قصة الهداية الغاية الأسمى للوجود. وليس من حقي فرض وصاية على أفكار الآخرين واقتناعاتهم، ولا إلزامهم بآرائي وتجاربي الشخصية، لكن من حقي أن أسمعهم رأيي، ومن حقهم بعد ذلك أن يصلوا لأي نتيجة. كنت -شأني شأن كثير من الناس- أشعر أن غاية الحياة وقيمتها تتمثل في المتعة العاجلة التي يجنيها صاحبها، ومن ثم أصبحت ألهث في سعار وراء تحقيق الرغبات والملذات، وأبذل في سبيل ذلك الغالي والرخيص. كانت أمنيتي تقف عند تحصيل رغبات النفس التي كانت أغلى ما يتطلع إليه أترابي، وكانوا يبذلون في سبيل تحقيقها المال والوقت، بل السمعة الحسنة، بل يجرؤ بعضهم إلى أن يدفع ثمن تحقيقها من أعز ما تملك المرأة في هذه الدنيا من حيائها وعفافها. لقد كان الحديث في سماعة الهاتف، والمغامرات العاطفية، ورسائل العشق والغرام المتبادلة، بل واللقاء مع غير المحارم، كانت كل تلك الممارسات تعني مكسباً للاتي يظفرن بها، والوفاء للصديقة كان يعني التعاون معها في تبادل الأرقام الهاتفية والعلاقات، وربما تزكيتها لدى فلان أو فلان من الشباب، واقتراحها صديقة جديدة. كان اللهو يعني لدي شيئاً ذا بال وثمن، لا بل كان أفضل ما أقضي فيه وقتي وأفني فيه ساعات عمري، لقد كانت غرفتي مليئة بأكوام المجلات والصحف، لا رغبة في العلم والثقافة، لكن جرياً وراء ما تدعو إليه وتدفع قراءها له دفعاً. كنت أجلس الساعات الطوال أمام الشاشة أعيش مع مسلسل أو فيلم تأسرني مشاهده وتشدني مواقفه، أعجب ببطولة أو شاب وسيم، أو فستان أو كلمة غرام وهوى. كنت كأولئك الذين ينظرون إلى أحكام الشرع وتكاليفه على أنها قيود وآصار تكبلهم وتحد من حرياتهم وتحول بينهم وبين تحقيق ما يريدون، ومن ثم كانوا يحتالون عليها، ويقفزون على أسوارها، بل أحيانا يتجرؤون على مخالفتها صراحة، بل وإعلان التبرم منها والتضايق. إن تلك الصور من التحايل على الحجاب الشرعي الذي تسلكه بعض النساء اليوم لا يمثل إلا مظهراً واحداً من مظاهر هذه النظرة وهذا الشعور تجاه الأحكام الشرعية وواجباتها. وحين أرى المتدينين والمتدينات يفتر ثغري عن ابتسامة ساخرة، أقول بلسان حالي -وأحياناً بلسان مقالي- مساكين هؤلاء كيف ينظرون هذه النظرة السوداء إلى الحياة؟ كيف يعيشون هذه العقد ويلازمون هذه الأوهام؟ فالجمال والمتعة والأنس كلمات لاوجود لهم في قاموس حياتهم، بل لعلهم لا يدركون لها معنى. وأتساءل في نفسي سؤالاً آخر كيف يطيق هؤلاء العيش والصبر على هذه الحياة وكأنهم يدفعون إليها دفعاً، بل كان يدور في خاطري أحياناً حين لا أجد الإجابة على هذا اللغز المحير أن هؤلاء يعانون من عقد نفسية وأن لهم شأناً غير شأن سائر بني الإنسان. أما الذين يجدون لهم مكاناً رحباً في قلبي فهم أولئك النجوم، نجوم الفن، ونجوم الرياضة، ونجوم التمثيل، ولم يكن يرد في ذهن صاحباتي التفريق بين هؤلاء على أساس عرق أو جنس أو فضيلة أو أي أمر آخر، كانت النجومية هي المعيار الأول والأخير في الإعجاب بهؤلاء وأولئك. هكذا كانت حياتي، وهكذا كانت سيرتي حتى من الله علي بفضله وكرمه فبدا لي مشعل الهداية، وأضاء أمامي نورها، فسلكت سبيلها وطريقها، وودعت طريق العبث واللهو الفارغ.(/2)
حقائق قادتني للهداية الأولى: من الشاذ؟ خرجت يوماً مع أهلي إلى الصحراء وسرحت طرفي هنا وهناك: في الجبال الشاهقة، والأشجار الباسقة، والأرض التي اهتزت وربت وتزينت، حينها تذكرت قوله تعالى (( أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشّجَرُ وَالدّوَآبّ وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِن مّكْرِمٍ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)) (الحج:18). تأملت حين تشرق الشمس كيف يتقلص الظل ويقصر، ثم ما يلبث أن يمتد مرة أخرى حتى يلف الليلُ الأرضَ بظلامه (( أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمّ جَعَلْنَا الشّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً. ثُمّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً))(الفرقان:45-46) حينها تذكرت قوله تعالى ((وَللّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ)) (الرعد:15 ). إن العالم الفسيح من حولنا بأرضه وسمائه ونجومه وأفلاكه، وكل صغير وكبير ندركه ولا ندركه، كل ذلك يسجد ويخضع لخالقه تبارك وتعالى، ويلهج بالتسبيح له عز وجل. والظل الذي نتقي به لهيب الشمس المحرقة يتفيأ ذات الشمال واليمين ساجداً لله تبارك وتعالى. بل هذه الشمس التي نراها كل يوم، تعلن خضوعها وسجودها لخالقها، عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس:"أتدري أين تذهب؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى ((والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم )) ". فما بال الإنسان بعد ذلك؟ ما باله يستنكف ويستكبر على خالقه؟ بل ما باله يتمرد على نظام الحياة أجمع؟ وماذا عساه يساوي في هذا الكون؟ وأين مكانه في هذا العالم الفسيح؟ حينها تساءلت: من الشاذ والغريب؟ ومن الذي يسبح ضد التيار؟ أهو المسلم القانت الساجد المسبح لله تبارك وتعالى فيتجاوب ذلك مع هذا الكون الخاضع لربه؟ أم هو الذي يتمرد على خالقه، ويستنكف عن طريق الهداية، فيستظل ويختبئ حين يواقع المعصية وراء حائط يسبح ويسجد لربه، والسيارة والهاتف والقلم… وسائر ما ييسر له طريق المعصية يخضع لمولاه ويسبح ويسجد له. فشعرت بعد ذلك أنني حين أسلك طريق الهداية أسير وفق السنة التي يسير عليها الكون أجمع. وشعرت أن الذين يتنكبون طريق الهداية يعيشون تناقضاً في حياتهم، ليس مع الكون الأرحب الواسع بل مع ذواتهم وأنفسهم، فأجسادهم وأعضاؤهم تخضع لله، ولذا ذكر تبارك وتعالى ضمن من يسجدون لله (( وَكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ وَكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) ) (الحج:18). قال ابن جرير في تفسير هذه الآية:"يقول تعالى ذكره: وكثير من بني آدم حق عليه عذاب الله فوجب عليه بكفره به، وهو مع ذلك يسجد لله ظله". الثانية: سر الوجود: أما الحقيقة الثانية التي قادتني إلى الهداية فهي أني تفكرت كثيراً في سر الوجود. إن الشخص الوحيد الذي يعمل وهو لا يدري لماذا يعمل هو المجنون، وحين يرى المرء آلة متقنة الصنع بديعة المنظر فأول تساؤل يطرحه على نفسه لماذا صنعت هذه الآلة وما وظيفتها؟ وهو يرفض رفضاً قاطعاً أن تكون صنعت عبثاً. فما بالك بالإنسان الذي يملأ هذا العالم المترامي الأطراف، الإنسان الذي يحمل هذه الطاقة الهائلة، الذي يدير بعقله هذا الكون ويتعامل فيه مع سائر المخلوقات، فضلاً عن عالم الجان الذي لا نعرف عنه إلا النزر اليسير، وحتى لو افترضنا صدق الخرافات والتصورات التي في أذهان العامة عن عالم الجن فهي لا تمثل إلا اليسير من هذا العالم الغريب العجيب. هذا الإنسان والجان إنما تتمثل غاية وجودهم في عبادة الله وحده، وهي حقيقة لا يجادل فيها مسلم مهما كان إيمانه {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وهي حقيقة لها دلالاتها وآثارها المهمة فمن ذلك: 1- أنه قد ركب وخلق بما يتناسب مع هذه الوظيفة الشريفة العالية، فعواطفه ومشاعره وأحاسيسه وصفاته كلها تتسق مع هذه المهمة وهذه الوظيفة. 2- أنه قادر على القيام بأعباء هذه الوظيفة ومهماتها؛ ذلك أن الذي خلقه تبارك وتعالى هو الذي اختار له طريق العبودية، فهو أعلم به وبما يعينه أو يعيقه عنها {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} وأولئك الذين يزعمون أنهم لايطيقون تكاليف هذه العبودية يجهلون هذه الحقيقة، أو يكابرون فيها. 3- أن حياته لا تستقيم، ولا تتسق إلا حين يحقق هذه العبودية، كيف الأمر بسيارة أعدت لأن تسير على الطرق المعبدة وجهزت بوسائل الراحة؟ كيف بها حين تسير في طريق صحراوي؟ وفي المقابل فالسيارة التي أعدت لتحمل أعباء الصحراء ومشاقها لايجد فيها من يسير بها(/3)
على الطرق المعبدة ما يجد في غيرها. وهكذا الإنسان فحين يتنكب طريق الهداية ويسلك سبيل الضالين الكافرين يعيش ألواناً من التناقض مع ذاته، ويتمثل هذا التناقض في اضطرابات في المشاعر وتعاسة وقلق؛ ذلك أن هذا الكيان وظف في غير ماخلق له، إنه كالذي يسبح ضد التيار ويسير عكس اتجاه الريح، وتزداد الهوة، ويعظم الثمن الباهض الذي يدفعه صاحبه حين يزداد بعده عن هذا الطريق، لذا فأهل الإلحاد والكفر أكثر الناس معاناة، وأهل الإيمان والطاعة أكثر الناس استقراراً واتفاقاً مع أنفسهم. حينها أدركت أن سلوكي هذا الطريق أمر لامناص منه ولا محالة. الثالثة: الرحيل ليس منه مهرب: كنت كغيري من المسلمين أقرأ القرآن -إن قرأته- قراءة جامدة، فلاأتدبر ولاأعي معاني كلام الله عز وجل، وذات يوم أتيت للسلام على جدتي، وإذا هي مطرقة تستمع مقرئاً يتلو القرآن بصوت خاشع من جهاز التسجيل، وسمعته يقرأ قوله تعالى { كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنّمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران:185). فوقعت هذه الآية في نفسي موقعاً، وحين انصرفت واستلقيت على سريري عاد هذا الصوت الخاشع يتردد في ذهني، وشعرت بهول الأمر وفداحة الخطب، إنه الرحيل الذي ليس منه بد، إنها النهاية المتحتمة لكل بشر في هذه الدنيا مهما علا شأنه وارتفع قدره، يرحل الجميع الشريف والوضيع، الغني والفقير، يرحلون من هذه الدار بخرقه بيضاء سرعان ما تبلى، ويوسدون الثرى. حينها ما قيمة الدنيا بأسرها؟ وهب أن المرء عمر فيها ما عمر، وتمتع فيها بالشهوات والملذات، فهي النهاية والمصير الذي ليس منه مهرب، وليته المثوى الأخير والنهاية المتحتمة للمرء إذاً لهان الأمر وسهل الخطب، لكنه بداية لما بعده من البعث والنشور والقيام بين يدي رب العالمين جل جلاله.(/4)
هكذا حياة الصالحين تدفع اللذة والشهوة العاجلة أولئك الذين يمتعون أنفسهم بالحرام، ويدركون أن لها معنى وقيمة ليس لغيرها، وكنت أشعر كغيري أن أولئك الذين يستعلون على شهواتهم ولذاتهم يعيشون مرارة الحرمان والمعاناة، وأنهم يدفعون أنفسهم دفعاً للقيام بالتكاليف والواجبات الشرعية. لكني أدركت بعد أن سلكت طريق الهداية أن عالم الصالحين عالم آخر غير هذا العالم، وأنه في مقابل هذه اللذات التي يحصل عليها أهل الشهوات لذائذ أعظم وأولى، ومنها: 1- لذة الإيمان وهي لذة حرمها الغافلون المعرضون، ولم يدركها إلا عباد الله الصادقين، أهل الإخلاص والتقوى. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:»ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» عن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً». 2 - لذة الانتصار على الذات وثمة لذة أخرى أعظم من لذة أولئك الذين يعاقرون الحرام، إنها لذة الانتصار على النفس والاستعلاء على الشهوات. إنها القيمة الحقة للإنسان، بل أي قيمة لذاك الذي يصير أسيراً مكبلاً للشهوات الفانية، سرعان ما ينهار عندها ويهوي، فهو يبذل وقاره وحياءه وماله وسمعته ثمناً لتحصيل اللذة الفانية، ولايطيق أن يقول لنفسه لا في موقف من المواقف. وهاهي عباراتهم ومقولاتهم تشهد وتنطق بعبوديتهم للشهوات ووقوعهم في أسرها: (لا أطيق، لا أصبر، كيف أنساه...). تقدمت إحدى الباحثات بدراسة علمية لجامعة عين شمس، حصلت فيها على درجة الماجستير حول الآثار النفسية والسمات الشخصية للحجاب، أجرتها على مائتين وخمسين طالبة محجبة وغير محجبة، تم اختيارهن من سبع كليات مختلفة، وكان من نتائج هذه الدراسة : أن غير المحجبات أكثر انفعالية وتوتراً وإحساساً بالقلق، وأنهن أقل اتزاناً وجدانياً من فئة المحجبات. 3 - صحبة الصالحات كنت أشعر أن تركي لصاحبات السوء سيجعلني أعيش في عزلة وبعد عن الناس، وأني سأنتقل إلى عالم الهموم والأشجان، لكني رأيت الأمر غير ذلك حين شرفني الله بصحبة الصالحات. الصدق في الحديث عنوان منطقهن، حديثهن عن إحداهن بما تكره مثل أكل لحمها ميتاً، ونقل الكلام المفسد للآخرين كبيرة من الكبائر. يخترن أطايب الكلام كما يخترن أطايب الثمر، والسب والفحش والألفاظ البذيئة كلمات معدومة في قاموسهن. هذه بعض الثمرات العاجلة، أما ثمرات الآجلة فتجل عن الوصف. ففي يوم القيامة حين يتبرأ الخليل من خليله، ويفر المرء من أبيه وصاحبته وأخيه، فخلتهم ومودتهم باقية ((الأخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ إِلاّ الْمُتّقِينَ)) (الزخرف:67 ). ويكرمهم تبارك وتعالى بمنزلة يتطلع إليها سائر الناس، كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم «قال اللَّه عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء». وحين يكون عمل أحدهم دون عمل أصحابه يكرمه الله فيحشره معهم، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال:«المرء مع من أحب». وحين يكرمهم تبارك وتعالى بدخول الجنة يتحقق لهم تمام الصفاء، ويزول ما قد يكون في النفوس مما لا يخلو منه بشر((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَىَ سُرُرٍ مّتَقَابِلِينَ)) (الحجر: 47). 4 - الشوق للقاء الرحمن ومن أعظم مايجده الصالحون الشوق للقاء لله تبارك وتعالى، والتمتع بثوابه وجنته، بل والتلذذ بالنظر لوجهه الكريم تبارك وتعالى، ولعظم منزلة الشوق للقاء الله كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يرزقه إياه، وقرنه بالنظر لوجهه تبارك وتعالى، فسأل الله أعلى نعيم الجنة وهو النظر لوجهه، وسأله أعلى نعيم الدنيا وهو الشوق للقائه. فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم:"وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة".(/5)
نهاية طريق الشهوات كنت أشعر أن طريق الشهوات طريق ممتع، طريق يمتد عبر عمر الإنسان -الذي يتخيل مع سكر الشهوة أنه لن ينتهي-. لكني شعرت أنه طريق محفوف بالمخاطر العاجلة والآجلة، ورأيت بعض الصور التي أودت بشرف بعض الفتيات، بل أتعست حياتهن، ومنها: الصورة الأولى: فتاة كانت تمتع نفسها بالحديث عبر الهاتف، ويمتد هذا الحديث مع فارس الأحلام والعشيق الموهوم ليتطور إلى لقاء ولقاءات، قد تكون هذه اللقاءات بريئة بمصطلح هؤلاء -فالبراءة لديهم ما لم يصل إلى حد مقارفة الفاحشة- وما هي بريئة بالمفهوم الشرعي للنظافة والبراءة. فتدور الأيام دورتها وتتزوج الفتاة، وتبدأ مرحلة أخرى من حياتها في عش الزوجية الهادئ الحالم، ظانة أن تلك المرحلة مرحلة صبوة قد ودعتها إلى غير رجعة، وأنها قد مضت بأفراحها وأتراحها. فما تلبث أن تفاجأ بأن تلك المرحلة قد غدت بذرة لنبتة سوء تهدد كيان الزوجية كله بالانهيار، فأولئك الذين التقت بهم، وعاشرتهم وحادثتهم لم يقر قرارهم، فينتهزون الفرصة ليتخذوا من انتقالها إلى هذه الحياة الجديدة ورقة لابتزازها مستثمرين العلاقة السابقة أو الخطيئة السابقة. ويبدأ موقفهم أقوى وهم يملكون سلاح التهديد بكشف أوراق الماضي أمام الزوج، ويتجرءون حينها على المطالبة بما لم يطالبوا به من قبل، إذ زال ما قد كان عائقاً بينهم وبين مقارفة السوء والفاحشة -حمانا الله-. فتبقى الفتاة بين خيارين أحلاهما مر، مواجهة الواقع ورفض الابتزاز، وذلك قد يعرضها لأن تكشف أوراقها وتهتك أستار الماضي، فتنهد أسوار بيت الزوجية، وتخرج من بيتها تحمل الحسرة والأسى والألم، لم تعد صاحبة زوج تسكن إليه ويسكن لها وتعفه ويعفها، عادت إلى منزل أهلها ضيفة ثقيلة تستسلم وحدها للخواطر والأفكار، وتحلم بأن يأتيها خاطب آخر. والخيار الآخر أن تستجيب للضغوط، وتخضع للمطالب الآثمة على كره وأسى، ظانة أنها بتجرعها كأساً واحداً من الرذيلة والممارسة المحرمة ستغلق الملف، وتضع حداً للمأساة، لتكتشف أن هذا الكأس أصبح سلاحاً لدى الساقطين أمضى وأخطر من السلاح السابق، فيراهنون به على المزيد. الصورة الثانية: فتاة تصحب صديقها! في خلوة محرمة تقع في قبضة رجال الحسبة أو الأمن، ويستدعى والدها إلى هناك فيفاجأ بهذا المشهد الذي كان يتمنى أن يواريه الثرى قبل أن يراه، فينعقد لسانه ، وينهار وهو الرجل القوي الصلب، وتتدافع الكلمات والأنات على لسانه. وينصرف يحمل ابنته، ويحمل معها العار والهوان والأسى، وتعلم الأم هي الأخرى بالمأساة فينطلق لسانها ((يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً)). وتبدأ رائحة الفضيحة تبدو وتظهر للناس من هنا وهناك، فيزيد الناس فيها وينقصون، وتلوك القضية الألسن، وتغدو هذه الفتاة بقعة سوداء في تاريخ أسرتها وأهلها، والسبب انسياق غير متزن مع العاطفة والشهوة الحرام. الصورة الثالثة: ونترك فيها الحديث لصاحبة الشأن تتحدث عن مأساتها: في مجلة مرآة الأمة الصادرة بتاريخ 22/7/1987م نقرأ هذه المأساة «أنا فتاة أبلغ من العمر التاسعة عشرة في السنة الأولى في الجامعة، اعتدت أن أراه في ذهابي وعند عودتي من الجامعة، في كل مرة يبادلني التحية، وتصادف أن التقينا في مكان عام، وشعرت معه بمعنى الحياة، تعاهدنا على الزواج، ثم تقدم لخطبتي وعشت أياماً سعيدة. وفي ذات يوم حدث بيني وبينه لقاء فقدت فيه عذيرتي ووعدني أن يسرع بالزواج، وبعد عدة شهور من لقائنا اختفى من حياتي وأرسل والدته لتنهي الخطوبة، ولتنهي معها حياتي كلها، فالحزن لايفارق عيني أعيش في سجن مظلم مليء بالحسرة واللوعة والأسى، ولاتقولي لي إن الأيام كفيلة بأن تداويني بنعمة النسيان، فكيف أنسى ما أصابني من الذي أعطيته كل شيء، وجعلني لا أساوي شيئاً». النهاية الآجلة وأيقنت أيضاً أن سالك هذا الطريق إن فاتته الأولى فسيدرك الأخرى، فأولئك الذين أدركوا من شهوات الدنيا ما أدركوا، وأصابوا ما أصابوا، ولم يأتهم ما يعكر عليهم، أولئك تنتظرهم نهاية أليمة تنسيهم في لحظة واحدة لذة الشهوات والنعيم الزائل. عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط». فما قيمة الدنيا بأسرها حين مصيرها النسيان أمام غمسة واحدة في العذاب، فكيف بما وراء ذلك؟ فعجباً لأولئك الذين تقودهم شهواتهم عبر الطرق والأزقة المظلمة الموحشة إلى نهاية مفزعة في الدنيا والآخرة، عجباً لهم إذ يشترون شقاء الدارين بنزوات طائشة سرعان ما ينساها صاحبها لتبقى حسرة وندامة.(/6)
مصارع العشاق وتأملت في حال أولئك الذين سلكوا طريق العشق والغرام كيف آلوا إلى ما آلوا إليه، رأيتهم ورثيت لحالهم وحق لي ذلك. إنهم أسرى وعبيد لهذه الشهوة المحرمة تأمرهم فيطيعون، وتنهاهم فينتهون، ولسكرهم في لذتهم لا يدركون ما هم فيه، وهاهو أحدهم لا يجد شبهاً لنفسه وحاله إلا بأهل الجنون، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه. قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين إن أحدهم يقدم ما يملك فداء لمن يعشقه ويحبه، بل قد ينحر دينه قرباناً بين يدي معشوقه، وهاهو أحدهم يعبر عن ذلك: رهبان مدين والذين عهدتهم يبكون من حذر العذاب قعوداً لو يسمعون كما سمعت كلامها خروا لعزة ركعاً وسجوداً ويستغرق المعشوق فؤاد من يعشقه فلا يبقى فيه مكان للبحث عن رضا مولاه، بل قد يصبح رضا الله مرتبة دون رضا معشوقه، كما قال هذا الشقي عن محبوبه -عافانا الله-: رضاك أشهى إلي من رحمة الخالق الجليل فحمدت الله تبارك وتعالى أن أنقذني بفضله قبل أن أخوض في هذا المستنقع الآسن. رأيت كيف أن هؤلاء يختصرون الحياة كلها في هذا المعنى، وكيف أن سكرة العشق تغطي على عقل أحدهم وتفكيره فضلاً عن دينه، فتصبح الشهوة هي الآمر الناهي في حياته.
حين رأيت جدتي ذهبت للسلام على جدتي وزيارتها فجلست أستمتع بحديثها عن ذكريات الماضي وأخباره، فطار خيالي إلى واد آخر، بدأت أعيد النظر في جسمها النحيل، وظهرها المتقوس، ووجهها المتجعد، وعدت بعدها إلى الماضي، إلى مرحلة الشباب. لقد كانت فتاة تتقد حيوية وشباباً، كانت يضرب بها المثل في الجمال وبهاء الطلعة ويخطب ودها الجميع، وكم كان سرور جدي حين أجيب مطلبه بخطبتها. ثم مضت السنون وسارت الأيام، فآلت إلى هذه الحال، ولهذا كان غيرنا -من الأمم التي لا تدين بهذا الدين- يلفظونها حين تبلغ هذا المبلغ فلا تجد من يلتفت إليها ويعنى بها؛ ذلك أن الوفاء والبر والصلة كلمات معدومة في قاموسهم. لقد قادني هذا الموقف إلى التفكير فيما أنا عليه، فكم سنة: عشر، عشرون، أكثر من ذلك..؟ وبعدها أودع مرحلة الشباب والحيوية إلى غير رجعة، ويبدأ العد التنازلي فأضع قدمي في أول طريق الهرم والشيخوخة، فما تعدو حينها مرحلة الشباب أن تكون مجرد ذكرى وطيف يمر بالخيال. وتساءلت: ترى لو كانت حال جدتي كما هي حال بعض الفتيات الغافلات اليوم، فكيف تنظر إلى ماضيها الآن؟ إنها سوف تجتر الأسى والحزن على هذه الأيام التي ذهبت بلذاتها ورغباتها وشهواتها وبقي الألم، بقيت الذكرى السيئة، وبقي الشعور بالخوف من المستقبل، من اليوم الذي يجزى فيه المرء على الصغيرة والكبيرة. فحمدت الله على أن سلكت طريق الخير والصلاح، وشعرت أني مهما طال بي العمر، ومهما متعت نفسي بالشهوات واللذات فإن قطار الشباب ما يلبث أن يقف معلناً دخولي مرحلة الهرم والشيخوخة. ماذا تستحق تلك السنوات القصيرة حين نقضيها في لهو وعبث فارغ، وماذا سنقول عن أنفسنا حين يحدودب الظهر ويتجعد الوجه، أم ترانا -عافانا الله وحمانا وأحسن لنا الخاتمة- نصطحب السوء والصبوة معنا إلى مرحلة الشيخوخة؟ بل وما أسعد من تحفظ الله في شبابها لتكون ممن قال فيهم صلى الله عليه وسلم :« سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه...» ، ومتى ذلك التكريم والثواب، إنه يوم تعظم الأهوال ويشتد الخطب بالناس، ويصف لنا الناصح الأمين ذلك الموقف بقوله :«تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل» قال سليم بن عامر -أحد رواة الحديث-: فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال:«فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما» قال وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه.(/7)
حين رأيت جدتي ذهبت للسلام على جدتي وزيارتها فجلست أستمتع بحديثها عن ذكريات الماضي وأخباره، فطار خيالي إلى واد آخر، بدأت أعيد النظر في جسمها النحيل، وظهرها المتقوس، ووجهها المتجعد، وعدت بعدها إلى الماضي، إلى مرحلة الشباب. لقد كانت فتاة تتقد حيوية وشباباً، كانت يضرب بها المثل في الجمال وبهاء الطلعة ويخطب ودها الجميع، وكم كان سرور جدي حين أجيب مطلبه بخطبتها. ثم مضت السنون وسارت الأيام، فآلت إلى هذه الحال، ولهذا كان غيرنا -من الأمم التي لا تدين بهذا الدين- يلفظونها حين تبلغ هذا المبلغ فلا تجد من يلتفت إليها ويعنى بها؛ ذلك أن الوفاء والبر والصلة كلمات معدومة في قاموسهم. لقد قادني هذا الموقف إلى التفكير فيما أنا عليه، فكم سنة: عشر، عشرون، أكثر من ذلك..؟ وبعدها أودع مرحلة الشباب والحيوية إلى غير رجعة، ويبدأ العد التنازلي فأضع قدمي في أول طريق الهرم والشيخوخة، فما تعدو حينها مرحلة الشباب أن تكون مجرد ذكرى وطيف يمر بالخيال. وتساءلت: ترى لو كانت حال جدتي كما هي حال بعض الفتيات الغافلات اليوم، فكيف تنظر إلى ماضيها الآن؟ إنها سوف تجتر الأسى والحزن على هذه الأيام التي ذهبت بلذاتها ورغباتها وشهواتها وبقي الألم، بقيت الذكرى السيئة، وبقي الشعور بالخوف من المستقبل، من اليوم الذي يجزى فيه المرء على الصغيرة والكبيرة. فحمدت الله على أن سلكت طريق الخير والصلاح، وشعرت أني مهما طال بي العمر، ومهما متعت نفسي بالشهوات واللذات فإن قطار الشباب ما يلبث أن يقف معلناً دخولي مرحلة الهرم والشيخوخة. ماذا تستحق تلك السنوات القصيرة حين نقضيها في لهو وعبث فارغ، وماذا سنقول عن أنفسنا حين يحدودب الظهر ويتجعد الوجه، أم ترانا -عافانا الله وحمانا وأحسن لنا الخاتمة- نصطحب السوء والصبوة معنا إلى مرحلة الشيخوخة؟ بل وما أسعد من تحفظ الله في شبابها لتكون ممن قال فيهم صلى الله عليه وسلم :« سبعة يظلهم الله في ظله يوم لاظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه...» ، ومتى ذلك التكريم والثواب، إنه يوم تعظم الأهوال ويشتد الخطب بالناس، ويصف لنا الناصح الأمين ذلك الموقف بقوله :«تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل» قال سليم بن عامر -أحد رواة الحديث-: فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال:«فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إل(/8)
من القدوة؟ كنت أنظر إلى جيل أهل الفن والتمثيل أنهم هم القدوات، وكانت تشدني أشخاصهم وتأخذ بنفسي، بل إن هذه العواطف لم تبق حبيسة النفس فانعكست آثارها على مظهري فصار لباسي، وقصة شعري، وحذائي، وحقيبتي، بل كل ما أقتنيه صار ذلك معرضاً متنقلاً لمقتنياتهم. وبعد أن هداني الله شعرت أن حياة هؤلاء عالم آخر وجحيم لا يطاق، وهذا نموذج يصور حالتهم: الممثلة الراحلة -كما يقال- (مارلين منرو) نالت المال الذي تستطيع أن تحصل به على كل شيء، والشهرة التي جعلت اسمها وصورتها تملأ صحف العالم، والجمال الذي يشد أنظار الرجال إليها ويجذبهم نحوها، لقد وجد المحقق الذي درس قضية انتحار هذه الممثلة الشهيرة رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في بنك منهاتن في نيويورك، فتح المحقق الرسالة وجدها مكتوبة بخط مارلين منرو نفسها وهي موجهة إلى فتاة تطلب نصيحة مارلين عن الطريق إلى التمثيل فتقول في رسالتها إليها : احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء، إننى أتعس امرأة على هذه الأرض، لم أستطع أن أكون أماً، إنى امرأة أفضل البيت أفضل الحياة العائلية على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، بل إن هذه الحياة لهي رمز سعادة المرأة بل الإنسانية. نعم هذه المرأة التي تجعلها فتيات المسلمين قدوة لها، أما أنا فكان لي شأن آخر، ورأيت بعد أن هداني الله أن قدوتي ليست في الساقطات، إنما في أولئك الصالحات اللاتي سطرن صفحات بيضاء في التاريخ. هاهي امرأة صالحة يثني عليها تبارك وتعالى في كتابه، بل يضرب بها المثل للمؤمنين. ((وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنّةِ وَنَجّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظّالِمِينَ)) (التحريم:11). ويشهد لها أصدق الناس بشهادة خالدة، فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال قال رسول الله r:« كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». لقد حاولت أن أضع كل تلك الأوسمة وألوان الثناء، وعبارات المديح والإعجاب التي يتلقاها النجوم في كفة، وأضع هذه الشهادة من رب الناس أجمع، والشهادة من النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في كفة أخرى. فرأيت أنه لا مجال للمفاضلة، بل إنه من سوء الأدب أن تقارن هذه التزكية الشرعية بآراء البشر وأهوائهم، وأين يأتي الثرى من الثريا؟ ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا روى ابن جرير عن سلمان -رضي الله عنه- قال: كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس. فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة. وروى القاسم بن أبي بَزّة، قال: كانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فيقال: غلب موسى وهارون. فتقول: آمنت بربّ موسى وهارون فأرسل إليها فرعون، فقال: انظروا أعظم صخرة تجدونها، فإن مضت على قولها فألقوها عليها، وإن رجعت عن قولها فهي امرأته فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء، فأبصرت بيتها في السماء، فمضت على قولها، فانتزع الله روحها، وأُلقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح. إنها لم تكن امرأة عادية «فقد كانت امرأة فرعون أعظم ملوك الأرض يومئذ، في قصر فرعون أمتع مكان تجد فيه امرأة ماتشتهي، ولكنها استعلت على هذا بالإيمان، ولم تعرض عن هذا العَرَض فحسب بل اعتبرته شراً ودنساً وبلاءً تستعيذ بالله منه، وتتفلت من عقابيله، وتطلب النجاة منه، وهي امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية...ولكن هذه المرأة وحدها في وسط ضغط المجتمع، وضغط القصر، وضغط الملك، وضغط الحاشية، والمقام المملوكي، في وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء» قائلة ((ونجني من فرعون وعمله)).(/9)
ماذا يريدون من المرأة؟ يسعى كثير من الناس إلى خطب ود المرأة، فهاهم الشباب يبدون إعجابهم، ويسطرون كلمات الثناء على الفتاة الحسناء، ويسعون لكسب ودها واللقاء معها بما يملكون. وهاهم يعبرون عن الصدق والحب والوفاء من خلال سماعة الهاتف أو الرسالة أو مشافهة، وهو منطق ربما انطلى على كثير من فتيات المسلمين. لقد عشت برهة أشعر أنهم صادقون وأنهم محبون، عشت كغيري أنظر إلى هذا السعار المحموم من الشهوات على أنه عواطف صادقة بريئة، لكني شعرت بعد ذلك أن سكر الشهوة كان يحول بيني وبين إدراك ماوراء ذلك، وتساءلت كثيراً، أهؤلاء صادقون فعلاً في حبهم ووفائهم وصداقتهم البريئة، أم أنهم يخفون وراء ذلك أهدافاً أخرى؟ بعيداً عن سراب العاطفة ووهمها الخادع لو كانت تلك الفتاة التي تقيم العلاقة المحرمة منطقية مع نفسها وطرحت هذا السؤال : ماذا يريد هذا الشاب؟ ما الذي يدفعه لهذه العلاقة؟ بل ماذا يقول لزملائه حين يلتقي بهم؟ وبأي لغة يتحدثون عني؟ إنها حين تزيح وهم العاطفة عن تفكيرها فستقول وبملء صوتها إن مراده هى الشهوة الحرام ليس إلا، إذاً ألا تخشى الخيانة؟ أترى هذا أهلا للثقة؟ لقد خان ربه ودينه وأمته ولن تكون هذه الفتاة أعز مالديه، وما أسرع ما يحقق مقصوده لتبقى صريعة الأسى والحزن والندم. وحين يخلو هؤلاء الشباب التائهون بأنفسهم تعلو ضحكاتهم بتلك التي خدعوها، أو التي ينطلي عليها الوعد الكاذب والأحاديث المعسولة، فليت أخواتي الفاضلات يدركن شيئاً من اللغة التي تسود مجالسهم وتملأ حديثهم، وليتهن يسمين الأمور بأسمائها، ويضعنها في نصابها الصحيح، ويتجاوزن لغة الإعلام الساقط الذي يصف الخنا والفجور والفواحش بألقاب الغرام والعلاقة العاطفية، والحب البريء، والصلة بالجنس الآخر. فوالله ماهؤلاء بأصدق من النبي صلى الله عليه وسلم، وحاشاه -بأبي وأمي- أن يبالغ في حديثه، فهاهو يحدثنا عن خطوات الشيطان، ويسميها باسمها الصحيح. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه». فيالله كم نظرة محرمة آثمة يتبادلها الشاب والفتاة؟ كم كلمة هوى وصبابة؟ كم خطوة نحو اللقاء؟ بل كم خلوة؟ وأيما خلوة فلابد أن يشهدها الشيطان، وهاهو صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وهم من هم في الصفاء والطهر والورع فيقول:«لا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما« هكذا كنت أشعر أن العلاقة مع الشباب توصلني إلى قمة السعادة والمتعة، لكن حمدت الله أن أدركت النهاية المؤلمة لهذا الطريق قبل أن أتوغل فيه. صورة أخرى: لقد انتشرت صورة المرأة في الإعلان التجاري بشكل يعبر عن معنى الاحتقار لإنسانية المرأة، ويمثل اختزالاً صارخاً لدورها. وثمة سؤال يطرحه كل مسلم غيور، يقدر حق المرأة، ويشعر أنها مخلوق أسمى وأعلى من أن يكون وسيلة لترويج سلعة أو بضاعة كاسدة. لماذا يختار هؤلاء صورة المرأة بالذات، ولماذا تتكرر صورتها ومشاهدها في سلع ربما لا تمت إليها بصلة؟ إنها وسيلة ساقطة ترخص مكانة المرأة وتدوسها، ووسيلة ساقطة تتاجر بأعراض المسلمين وعفافهم، ووسيلة ساقطة تجعل الربح المادي والشخصي هدفاً يرتقى إليه على سلم الأعراض ومقومات المجتمع المسلم المحافظ. لقد شعرت حين أدركت ذلك أنني صاحبة مكانة أسمى وأعلى، وشعرت كيف ترخص الأعراض لدى هؤلاء، فحمدت الله على حجابي وعفافي وحيائي. صورة ثالثة لاحتقار المرأة مَن مِن الناس اليوم لم تقع عينه على مجلة اختارت للغلاف صورة فتاة حسناء؟ وتسهم الجاذبية في هذه الصورة بقدر كبير في ترويج هذه المطبوعة وانتشارها، فعجبت كيف خدعنا هؤلاء؟ كيف جعلوا من المرأة سلماً للثراء والأمجاد الشخصية؟ هاهي إحدى الساقطات تستيقظ برهة لتدلي بهذه الشهادة. «نشرت إحدى الصحف أن ممثلة فرنسية بينما كانت تمثل مشهدا عارياً أمام الكاميرا ثارت ثورة عارمة وصاحت في وجه الممثل والمخرج قائلة: أيها الكلاب أنتم الرجال لا تريدون منا النساء إلا أجسادنا حتى تصبحوا من أصحاب الملايين على حسابنا ثم انفجرت باكية، لقد استيقظت فطرة هذه المرأة في لحظة واحدة على الرغم من الحياة الفاسدة التي تغرق فيها، استيقظت لتقدم الدليل القاطع على المأساة التي تعيشها المرأة التي قالوا إنها متقدمة».(/10)
بين ثناءين كانت عبارات الثناء والإعجاب تعني شيئاً كبيراً لدي، وكنت كغيري من الفتيات يعتبرن الوصف بالجمال وحسن المظهر وساماً غالياً، ومن ثم كن يدفعن ثمن هذا المديح والثناء في سباق محموم لإبداء شيء من المفاتن، وفي المجتمعات المحافظة يمارسن ألواناً من التحايل على الحجاب الشرعي والالتفاف عليه. لكن بعد أن استيقظت ووفقني الله لسلوك طريق الصالحين شعرت أن هناك ثناء أعظم وأجل، إنه ثناء الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم في آيات تتلى إلى يوم القيامة: ((فَالصّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ))(النساء:34). وقال تعالى ((إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصّائِمِينَ والصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) (الأحزاب:35). وحين أمر الله نساء المؤمنات بالحجاب شرفهن وأعلى من قدرهن حين ربط الأمر بذلك بخير النساء: زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ((يَأَيّهَا النّبِيّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنّ مِن جَلاَبِيبِهِنّ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً)) (الأحزاب:59). أما أولئك اللاتي يتسابقن إلى ثناء أصحاب الشهوات وإعجابهم، فحذار لهن من هذا الوعيد الشديد الذي يحدثنا عنه أنصح الخلق للخلق صلى الله عليه وسلم. عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا». أما تلك التي تستعطر وتتطيب حين تخرج لتلاحقها الأنظار، فويل لها من هذا الوعيد: عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية».
شهادة غير مجروحة قد كنت فيما سلف من حياتي أسير على طريق السفور والتبرج؛ إذ كنت أشعر أن ذلك بوابة السعادة واستقلال الشخصية، لكني أدركت بعد ذلك أنه طريق الضالين المعرضين عن منهج الله تبارك وتعالى، وأن المسلمة حين تسلكه فهي تسعى لدخول جحر الضب وراءهم. وهاهو أحد عقلائهم يسجل هذه الشهادة وهو دكتور فرنسي متخصص في جراحة الأمراض النسائية فيقول:«إن أغلب الأمراض الجنسية التي نعاني منها سببها الاختلاط غير المشروع بين الرجل والمرأة، ولو عدنا إلى أصول هذه المشكلة لوجدنا أن سببها تخلي المرأة والرجل عن حيائهما الذي وضعه الله في كل رجل وامرأة وبخاصة وبشكل كبير لدى المرأة، فالمرأة بعد أن تخلت عن حيائها، وخالفت بذلك طبيعتها الإنسانية، راحت تختار الألبسة التي تكشف عن مفاتنها، فانتشرت الفتنة في المجتمع، وانتشرت الأمراض بعد ذلك…لابد من التزام المرأة بلباس موحد على مدى الأزمان لا يغير مواصفات الحشمة فيه وإن تغيرت نوعيته، فاللباس المحتشم للمرأة في العصور الوسطى هو نفسه لباس الوقحات في العصور القديمة، ولباس المرأة المحتشمة اليوم هو نفسه لباس العاهرات في القرون الوسطى، في البداية كانت المرأة تغطي وجهها بغطاء سميك مع تغطية سائر جسمها، وكانت الوقحات في ذلك الوقت يضعن خماراً شفافاً على وجوههن مع اللباس الساتر لأجسادهن، وبعد زمن راحت فئة من النساء غير المحتشمات تقصر أثوابها الطويلة شبراً فوق الكعب، ثم بعد زمن آخر أصبح هذا اللباس هو لباس المحت إن هذه الشهادة لا تسمتد قيمتها لدينا من كونها صدرت من رجل له قيمته، وشهادته لاترد، إنما لكونها صدرت من رجل من ذلك المجتمع الذي عاش التحرر والتخلي عن الدين والحجاب والعفاف.(/11)
باب التوبة لم يغلق وأخيراً أختي المسلمة إن كنت قارفت سوءاً فالبدار البدار بالتوبة والإقبال على الله، وحذار من اليأس من رحمة الله والقنوط من عفوه، فالله تبارك وتعالى يخاطب المسرفين المقصرين ناهياً إياهم عن اليأس والقنوط ((قُلْ يَعِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىَ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رّحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعاً إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ)) ويأمرهم تبارك وتعالى بالمبادرة قبل حلول العذاب ((وَأَنِيبُوَاْ إِلَىَ رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمّ لاَ تُنصَرُونَ. وَاتّبِعُوَاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رّبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ)) حينها تتحسر نفوسهم ويندمون ولات ساعة مندم ((أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَحَسْرَتَا عَلَىَ مَا فَرّطَتُ فِي جَنبِ اللّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنّ اللّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتّقِينَ)) ويتمنون الرجعة ليعملوا صالحاً فهيهات ((أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنّ لِي كَرّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)) ((حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ. لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) (المؤمنون:99-100) ويعظم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه منزلة التوبة، ويخبرهم أنه تبارك وتعالى يفرح بتوبة عبده إذا تاب ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها - قد أيس من راحلته - فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح». وما أجمل تلك الحكاية التي ساقها ابن القيم رحمه الله حيث قال:«وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنه حصل له شرود وإباق من سيده، فرأى في بعض السكك باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف مفكراً، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه، ولا من يؤيه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مرتجاً فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه، والتزمته تقبله وتبكي وتقول:ياولدى، أين تذهب عنى؟ ومن يؤيك سواي؟ ألم أقل لك:لاتخالفني، ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك، وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت، فتأمل قول الأم: لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: «لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها» وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟ فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه، فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به والآن أشعر أن المداد قد نفد، وأنه آن الأوان لطوي الصفحة ورفع القلم، فهذه قصتي مع الهداية، فأحمد الله على أن وفقني لسلوك هذا الطريق، وأسأله الهداية والثبات، وأتمنى أن أرى أخواتي وإخواني معي على هذا الطريق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجميعن،،،
فصول الكتاب
المقدمة
هكذا كنت
حقائق قادتني للهداية
هكذا حياة الصالحين
نهاية طريق الشهوات
مصارع العشاق
حين رأيت جدتي
من القدوة؟
ماذا يريدون من المرأة؟
بين ثناءين
بين صوتين
شهادة غير مجروحة
باب التوبة لم يغلق(/12)
هكذا كانوا في الليل .. فهل نكون؟
د. علي بن عمر بادحدح 25/2/1426
04/04/2005
الليل المظلم مُشرق الأنوار، الصمت المطبق معطَّر بآيات القرآن، السكون الموحش مُبدّد بانحناء الأصلاب وسجود الجباه، والجفاف اليابس مُبلّل بدموع الأسحار، قلوب خاشعة، وأنفس زكية، وألسن ذاكرة، وأعين ساهرة، وجباه ساجدة، وجنوب متجافية، إنه مساء الصالحين وليل العابدين، إنها همّة المتهجّدين ولذّة المتضرّعين، إنه أُنس المنفردين وحبّ المخلصين، إنها مجاهدة السالكين ومكابدة المرابطين، الله أكبر، ما أروع هذا الليل، وما أحبه وما أمتعه، وما أروعه!
أين هذا الليل من نوم طويل، وركون ثقيل، وغفلة تامة؟ شتان ما بين النور والظلمة، وبين السموّ والدنوّ، وبين الثرى والثريّا.
إنه قيام الليل أيها النائمون، اسمعوا النداء ممن عمّروه بالطاعات، وملؤوه بالصلوات، فهذا " زمعة العابد" كان يقوم فيصلي ليلاً طويلاً فإذا كان السَحَر نادى بأعلى صوته: " يا أيها الركب المعرِّسون، أَكُلّ هذا الليل ترقدون؟ ألا تقومون فترحلون"، فإذا طلع الفجر نادى:" عند الصباح يحمد القوم السُّرى" [ صفة الصفوة 2/229-230 ] .
دعني أريك ليلهم، بل دعني وإياك نقضي ليلة معهم، هذا أبو هريرة رضي الله عنه " كان هو وامرأته وخادمه يقسِّمون الليل ثلاثاً، يصلي هذا ثم يوقظ هذا " [ نزهة الفضلاء 1/199 ] ، فالليل كله صلاة ومناجاة، ودموع وخشوع، وذكر وشكر، والشّعار لا للفُرُش الوثيرة، والنوم اللذيذ ، إنهم الموصوفون بأبلغ قول وأعظم صورة في قوله تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة:16]. القرآن يرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرّقاد، والراحة والتذاذ المنام، ولكن هذه الجنوب لا تستجيب؛ لأن لها شغلاً عن المضاجع اللّينة والرقاد اللذيذ شغلاً بربها، شغلاً بالوقوف في حضرته، والتوجّه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء" [ الظلال5/2812-2813 ].
استمع إلى يزيد الرقاشي وهو يقول: " إذا نمتُ فاستيقظتُ ثم عدتُ في النوم فلا أنام الله عيني"، وتأمل هذا الحوار مع الفراش حيث كان عبد العزيز بن أبي رواد " يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل فكان يضع يده على الفراش ويتحسّسه ثم يقول: ما ألينك! ولكنّ فراش الجنة ألين منك، ثم يقوم إلى صلاته"، نعم " هؤلاء القوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم قائمون ساجدون، ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن ذي الجلال والإكرام" [الظلال 5/2578] ، ولله در الفضيل بن عياض، وهو يعرض وضعاً شعورياً إيمانياً بديعاً؛ إذ يقول: " أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك قال: ليس هذا لكِ، قومي خذي حظكِ من الآخرة"، ولا تنسَ أنهم كانوا بذلك التعب يتلذّذون، وبالقيام يفرحون، وبعيونٍ غير أعيننا إلى الليل ينظرون، فهو عندهم" موطن تنتعش فيه الأرواح، وتبتهج وترتاح، وتتقلّب بين مسرات وأفراح، وتكثر من المساءلة والإلحاح .. فهي قائمة بين يدي خالقها، عاكفة على مناجاة بارئها، تتنّسم من تلك النفحات، وتقتبس من أنوار تلك القُرُبات، وما يَرِدُ عليها في تلك المقامات" [الصلاة والتهجد ص301] ولذا جاءت وصاياهم وقد عملوا، وتذكيرهم وقد اعتبروا، وحثّهم وقد سبقوا، فها هو الحسن ينادي بكم قائلاً: " كابِدوا الليل، ومدّوا الصلاة إلى السحر ثم اجلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار" [الصلاة والتهجد ص303] ، وقال أبو محمد الجريري: " قصدتُ الجنيد فوجدتُه يصلي فأطال جداً فلما فرغ قلتُ: قد كبرتَ وَوَهَنَ عَظْمُكَ ورقََّ جلدكَ وضعفتْ قوتكَ، ولو اقتصرتَ على بعض صلاتك، فقال: اسكتْ، طريق عرفنا به ربَّنا، لا ينبغي لنا أن نقتصر منه على بعضه، والنفس ما حمّلتها تتحمل، والصلاة صلة والسجود قُربة، ولهذا قال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)، ومن ترك طريق القرب يوشك أن يُسلَك به طريق البعد" [ الصلاة والتهجد ص309] وأبو سليمان الداراني يجدّد هذا الفقه، ويبين هذا الشعور بقوله :" أهل الليل بليلهم ألذّ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، ولو لم يعطِ الله تعالى أهل الليل في ثواب صلاتهم إلا ما يجدون من اللذّة فيها لكان الذي أعطاهم أفضل من صلاتهم [الصلاة والتهجد ص 311].
في ظلمة الليل للعباد أنوارُ ... ...
منها شموسٌ ومنها فيه أقمارُ
تسري قلوبهم في ضوئهن إلى ... ...
ذاك المقامُ ومولاهم لهم جارُ
تخالهم ويك موتى لا حراك بهم ... ...
وهم مع الله إقبالٌ وإدبارُ
إن ينطقوا فتلاواتٌ وأذكارُ ... ...
أو يسكتوا فاعتبارٌ وأفكارُ
مستيقظين لذي الذكرى فكلّهم ... ...
لذا التذكرِ أسماعٌ وأبصارُ(/1)
لم يستثقلوا القيام لأن النفوس راغبة، والنوايا صادقة، والخشية غامرة، " وإذا قوي الباعث وكثرت الرغبة، وعظمت الرهبة، نشطت النفس وخف الجسد، وذلّ الصعب، وهانت المؤنة" [ الصلاة والتهجد ص15 ].
وإليك الترجمة العملية لذلك فيما قاله رجل لزمعة العابد:"ما أفضل عملك؟ فقال: " ما أتتني صلاة قط إلا وأنا مستعدٌّ لها ومشتاق إليها، وما انصرفت من صلاة قط إلا كنت إذا انصرفت منها أشوق إليها مني حيث كنت فيها، ولولا أن الفرائض تقطع لأحببت أن أكون ليلي ونهاري قائماً راكعاً ساجداً" [ الصلاة والتهجد ص316]، ذلكم هو الشوق والتعلق، وهذا هو الذوق والتعبّد، قلوب للعبادة ظامئة، ترتشف ولا ترتوي، تزيد ولا تحيد، نفوس بالذكر متلذّذة، تغترف ولا تنصرف، تنصب ولا تتعب، " كان صلة بن أشيم يقوم الليل حتى يفتر فما يجيء إلى فراشه إلا حبواً " [ الصلاة والتهجد ص288] ، " لأمرٍ ما سهروا ليلهم، ولأمرٍ ما خشعوا نهارهم .. ينتصبون لله على أقدامهم، ويفترشون وجوههم سجداً لربهم، تجري دموعهم على خدودهم فَرَقَاً من ربهم" [مختصر قيام الليل ص63] ، قدوتهم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وقد خاطبه ربه: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) وناداه مولاه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ)، فقام ليله بلا مزيد عليه، وسئل عن إتعاب نفسه وقد تورّمت قدماه فقال - وما أعظم ما قال!-: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، ومن هنا جاء وصفهم بلسان الحسن حيث قال: " صحبت أقواماً يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجُّداً وقياماً، يقومون هذا الليل على أطرافهم، تسيل دموعهم على خدودهم، فمرة ركّعاً ومرة سجّداً، يناجون ربهم في فكاك رقابهم، لم يَمَلُوا كلال السهر لما قد خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع، فأصبح القوم بما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين، وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين، فرحم الله امرأً نافسهم في مثل هذه الأعمال، ولم يرض من نفسه لنفسه بالتقصير في أمره باليسير من فعله، فإن الدنيا عن أهلها منقطعة، والأعمال على أهلها مردودة" ثم يبكي حتى تبتلّ لحيته بالدموع [التهجد وقيام الليل ص 340-341] .
وحالهم يطول وصفه، والسعيد من اقتدى بهم، ولي ولكم أقول: " هكذا كانوا.. فهل نكون؟".(/2)
هكذا كانوا
ذكر بعض المؤرخين أن العدو أغار على ثغر من ثغور الإسلام
فقام عبد الواحد بن زيد وكان خطيب البصرة وواعضا فحث الناس على البدر والجهاد ووصف لهم ما في الجنة من نعيم ثم وصف الحور العين وفقال:
غادة ذات دلال ومرح **** يجد الواصف فيها ما اقترح
خلقت من كل شيئ حسن **** طيب فالليث عنها مضطرح
أترى خاطبها يسمعها **** إذ تدير الكأس فورا والقدح
يا حبيبا لست أهوى غيره **** بالخواتيم يتم المفتتح
لا تكونن كما جدّى إلى **** منتهى حاجته ثم جمح
لا فما يخطب مثلي من سهى **** إنما يخطب مثلي من ألح
فإشتاق الناس إلى الجنة وارتفع بكاء بعضهم ورخصت عليهم أنفسهم في سبيل الله
فوثبت عجوز من بين النساء وهي أم ابراهيم البصري وقالت: يا أبو عبيد اتعرف إبني ابراهيم الذي يخطبه رؤساء أهل البصرة إلى بناتهم وأنا أبخل به عليهم؟
قال: نعم
قالت: والله قد أعجبني حسن هذه الجارية وقد رضيتها عروسا لإبني ابراهيم
فكرر ماذكرت من أوصاف لعل نفسه تشتاق.
فقال أبو عبيد:
إذا مابدت والبدر ليلة تمه **** رأيت لها فضلا مبينا على البدر
وتبسم عن ثغر نقي كأنه **** من اللؤلؤ المكنون في صدف البحر
فلو وطأت بالنعل منها على الحصى **** لأزهرت الأحجار من غير مامطر
ولو شئت عقد الخصر منها عقدته **** كغصن من الريحان في ورق الخضر
ولو تفلت في البحر حلو لعابها **** لطاب لأهل البر شرب من البحر
أبى الله إلا أن أموت صبابة **** بساحرة العينين طيبة النشر
فلما سمع الناس ذلك اضطربوا وكبروا وقامت أم ابراهيم وقالت: يا أبو عبيد قد والله رضيت بهذه الجارية زوجة لإبني ابراهيم فهل لك أن تزوجها له في هذه الساعة وتأخذ مني مهرها عشرة ألاف دينار لعل الله أن يرزقه الشهادة فيكون شفيعا لي ولأبيه يوم القيامة ؟
فقال أبو عبيد: لإن فعلتي فأرجوا والله أن تفوزوا فوزا عظيما.
فصاحت العجوز: يا ابراهيم...يا ابراهيم
فوثب شاب من وسط الناس وقال : لبيكي يا أماه
فقالت: أي بنيا أرضيت بهذه الجارية زوجة لك ومهرها أن تبدل مهجتك في سبيل الله؟
قال: أي والله ياأماه
فذهبت العجوز مسرعة الى بيتها ثم جاءت بعشرة ألاف دينار ووضعتها في حجر عبد الواحد بن زيد ثم رفعت بصرها إلى السماء وقالت: اللهم اني أشهدك أني زوجت إبني من هذه الجارية على أن يبدل مهجته في سبيلك فتقبله مني يا أرحم الراحمين.
ثم قالت: يا أبو عبيد هذا مهر الجارية عشرة ألاف دينار فجهز به وجهز به الغزات في سبيل الله.
ثم انصرفت واشترت لولدها فرسا حسنا وسلاحا جيدا ثم أخدت تعد الأيام لمفارقته وهي تودعه في كل نظرة تنظرها وكلمة تسمعها.
فلما حان وقت النفير خرج ابراهيم يعدو والمجاهدون حوله يتسابقون والقراؤوا يتلون قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . صدق الله العظيم
ثم نظرت إليه لما أرادت فراقه وقالت: يا بني اياك أن يراك الله مقصرا في سبيله
ثم ضمته إلى صدرها وقالت: اذهب يا بني فلا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه يوم القيامة.
فلما وصلوا إلى ساحة المعركة وبرز الناس للقتال أسرع ابراهيم إلى المقدمة وبدأ القتال ورميت النبال أما ابراهيم فقد جال بين العدو وصال وقاتل قتال الأبطال حتى قتل أكثر من ثلاثين من جيش العدو فلما رأى العدو ذلك أقبل عليه جمع منهم هذا يطعنه وهذا يضربه وهو يقاوم ويقاتل حتى خارت قواه ووقع من فرسه فقتلوه.
ورجع الجيش إلي البصرة منتصرا رافعا راية الإسلام..فلما رأتهم أم ابراهيم أخذت تبحث بعينيها فلما رأت أبى عبيد قالت له:هل قبل الله هديتي فأهنى أو ردت فأعزى
فقال لها: بل والله لقد قبل الله هديتك وأرجوا أن يكون ابنك الآن مع الشهداء في الجنة يسترزق
فقالت: الحمد الله الذي لم يخيب فيه ضني وتقبل نسكي مني.
فلما كان الغد جاءت أم ابراهيم إلى مجلس أبو عبيد وقالت: السلام عليك يا أبو عبيد بشراك بشراك.
فقال: مازلتي مبشرة بالخير ما خبرك؟
فقالت: نمت البارحة فرأيت إبني ابراهيم في المنام في روضة حسناء وعليه قبة خضراء وهو على سرير من اللؤلؤ وعلى رأسه تاج يتلؤلؤ واكليل يزهر وهو يقول: ياأماه أبشري قد قبل المهر وزفت العروس
فيا الله في أناس أيقنوا أنه لا مفر من الموت فسعووا إليه قبل أن يسعى اليهم..أناس أحبوا لقاء الله فأحب الله لقاءهم.
الموت باب وكل الناس داخله فيا من هو على محبة الدنيا متهالك أما علمت أنك عن قليل هالك أما تيقنت أن الدنيا محبوب تارك
أين الوالدون وماولدوا؟
أين الجبارون وأين ما قصدوا؟
أين أرباب المعاصي؟ على ماذا وردوا ووفدوا؟(/1)
أما خلوا في ظلمات القبور؟ بكوا والله وانفردوا أما ذلوا وقلوا بعد أن عتوا أما طلبوا زادا يكفي طريقهم ففقدوا
أما حل الموت فحل عقد ما عقدوا؟
تزود من التقوى فإنك لا تدري ***** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم امسى واصبح ضاحكا ***** وقد نسجت أكفانه وهو لا يدر
وكم من عروس زينوها لزوجها ***** وقد قبضت أرواحهم ليلة الفرح
وكم من صغير يرتجي طول عمرهم ***** وقدأدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من صحيح مات من غير علة ***** وكم من سقيم عاش حين من الدهر
تشاد المباني والقبور دوارس ***** ولا يملأ الأقبار باب وحارس
ومهما يكن فالله باق ودائم ***** ويجني الفتى من بعد ماهو غارس.
سمعت هذه القصة في شريط لداعية الشيخ محمد العريفي تحت عنوان حدائق الموت فأحببت أن أضعها بين يديكم.
وأنا أسمع هذه القصة أعجبني الثبات الذي كان عليه المسلمين وقوة ايمانهم بالله ولكن لا يمكننا أن نغض البصر اليوم أن ألاف أمهات تشبه هذه الأم وألاف الشهداء استشهدوا في سبيل الله.
صدق رسول الله حين قال: الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة
اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم الأحزاب
اللهم اهزمهم اللهم زلزلهم اللهم انصرنا عليهم
اللهم دمر سلاحهم اللهم اهزم جنودهم
اللهم شتت شملهم اللهم فرق جمعهم
اللهم اقسم ظهورهم واجعلهم عبرة لمن بعدهم
اللهم إنهم لا يعجزونك فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين
يا رب العالمين إنك على كل شيء قدير
هكذا كانوا (2)....
ذكر ابن كثير وغيره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشا لحرب الروم وكان من ضمن هذا الجيش شاب من الصحابة هو عبد الله بن حداثة رضي الله عنه .
طال القتال بين المسلمين والروم وعجب قيصر ملك الروم من ثبات المسلمين و جرأتهم على الموت فأمر أن يحضر بين يديه أسير من المسلمين فجاؤوا بعبد الله بن حداثة يجرونه، الأغلال بيديه والقيود في قدميه فلما أوقفوه أمام الملك تحدث قيصر معه فأعجب بذكائه وفطنته فقال له: تنصر وأطلقك من الأسر
فقال عبد الله: لا
فقال: تنصر وأعطيك نصف ملكي
قال: لا
قال: تنصر وأعطيك تصف ملكي وأشركك معي في الحكم
فقال عبد الله: والله لو أعطيتني ملكك وملك أبائك وملك العرب والعجم على أن أرجع عن ديني طرفة عين مافعلت.
فغضب قيصر وقال: إذن أقتلك
قال: أقتلني
فأمر به وعلق على خشبة وجاء قيصر وأمر الرماة أن يرموا السهام حوله ولا يصيبوه وهو في أثناء ذلك يعرض النصرانية وهو يأبى وينتظر الموت.
فلما رأى قيصر اصراره أمر به إلى الحبس ففكوا وثاقه وأخد به وأمر أن يمنعوا عنه الطعام والشراب حتى إذا كاد أن يهلك من الضمأ والجوع أحضروا له خمرا ولحم خنزير، فلما رآهما عبد الله قال: والله إني لأعلم أني مضطر وأن ذلك يحل لي الآن في ديني ولكن لا أريد أن يشمت بي الكفار. فلم يقرب الطعام.
فأخبر قيصر بذلك فأمر له بطعام حسن ثم أمر أن تدخل عليه إمرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة فأدخلت عليه أجمل النساء وجعلت تعرض له وتتزين وهو معرض عنها
وهي تتمايل أمامه ولا يلتفت إليها، فلما رأت المرأة ذلك خرجت وهي غضبة وهي تقول:لقد أدخلتموني على رجل لا أدري هل بشر أم حجر وهو لا يدري عني أأنا أنثى أم ذكر.
فلما يئس منه قيصر أمر بقدر من نحاس ثم أغلى فيها الزيت ثم أوقف عبد الله بن حداثة أمامها وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثقا بالقيود حتى ألقوه في هذا الزيت وغاب جسده وطافت عظامه تتقلب فوق الزيت وعبد الله ينظر إلى العظام فالتفت قيصر إلى عبد الله وعرض عليه النصرانية فأبى فاشتدى غضب القيصر وأمر به أن يطرح في القدر فلما جروه وشعر بحرارة النار بكى ودمعت عيناه ففرح قيصر وقال: تنصر وأعطيك.. وأمنحك..
قال: لا
قال: إذن ماالذي أبكاك؟؟
فقال عبد الله: أبكي والله لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذه القدر فتموت ولقد والله وددت أن لي بعدد شعر رأسي نفوس كلها تموت في سبيل الله مثل هذه الموتة.
قال له قيصر: قبّل رأسي وأخلي عنك.
فقال عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين عندك ؟؟
قال: نعم
فقبل رأسه ثم أطلقه مع باقي أسارى المسلمين
عجبا لله ذر هذا الصحابي، أين نحن اليوم من مثل هذا الثبات؟
فمن المسلمين اليوم من يتنازل عن دينه من أجل دراهم معدودات أو لأجل تتبع الشهوات أو البلوغ في الملذات ثم يختم له بالسوء والعياذ بالله.
ومن عدل الله تعالى أن العبد يختم له بما عاش عليه فمن كان في حياته يشتغل بالذكر والقيام والصدقات والصيام ختم له بالصالحات ومن تولى وأعرض عن الخير خشي عليه أن يموت على ما إعتاد عليه .
قصة أخرى من قصص السلف الصالح سمعتها في شريط لداعية " محمد العريفي" جزاه الله كل خير.
عندما سمعت هذه القصة استوطنت عديد الأسئلة في مخيلتي كما هي شأنها دائما وتسائلت لماذا لسنا مثلهم؟
هم مسلمون ونحن مسلمون؟
هم قرؤوا القرآن ونحن أيضا للقرآن قارؤون؟
هم بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم ولنا كذلك كان خير المرسلين؟
فأين الإختلاف؟؟؟؟(/2)
والحمد الله أني وبعد ثواني من التفكير وجدت الجواب لأنه موجودفي كتاب الله
الفرق الذي بيننا أننا لم يعد يحركنا حب الله والإستسلام لله...مشكلتنا أننا منحنا لدنيا قيمة أكبر من قيمتها فلعن الله دنيا زائلة أنستنا نعيم الجنة ...دنيا أطفئت فينا لهيب الشوق في لقاء الله.
لن أكون ظالمة ففينا أكيد من يملأ قلبه حب الله..فينا من يحركه حب رسول الله
انني أقف اليوم وقفة احترام لكل الشهداء ولكل أمهات الشهداء ولكل الأباء الذين أطعموا حب الله وحب الوطن في رغيف الخبر..الذين سقو حلاوة الشهادة لأبنائهم في شربة الماء.
ووقفة احترام لأناس تعيش اليوم تحت الحصار..تحت الظلم وسيطرة العدوان
أناس تجاهد في سبيل الله ليلا نهار...وما أكثرهم
فسلامي اليكم ياأبناء فلسطين... ياابناء العراق...ياابناء الشيشان وياابناء لبنان اليوم بعد أن انضاف للأمة جرح جديد وقائمة الضحايا تطول وتطول .
سلامي إلى أسرى في السجون...يعذبون...
سلامي إليكم...يامن تحاربون ونحن شبابناهنا يرقصون
سلامي إليكم...يامن تتعبون ولا تجدون غير الخبز تأكلون
ونحن هنا نأكل الهمبرجر ولا نرضى على منتوجات مكدونالد بديل
سلامي اليكم...يامن تعطشون وقليل من الماء تجدون
ونحن هنا نشرب الببسي والكولا وما حرم الله
فسامحونا..لأننا نمول أمريكا ونمول اسرائيل..لأننا ندفع ثمن الرصاصة التي تمزق عروقكم من الوريد الى الوريد
سامحونا لأننا نشرب دمائكم في قوارير ونلبس جلودكم التي فصلت إلى سراويل وفساتين
بالله عليكم سامحونا وعلى جهلنا لا تحاسبونا فمن يلبس قميص صنع في امريكا... صنع في اسرائل لن يفهم يوما قيمة فلسطين..
لكم يحززني وأنا أرى شباب وبنات يرتدون ملابس كتب عليهاUSAأو رسم عليها علم أمريكا وأنقلترا فيا اللعار..يا اللعار.
كلماتي قاسية وأنا أعرف ذلك..كلماتي ذبحتني قبل أن تذبحكم
لكم أتمنى أن أخمد نار الغضب التي أشعلتها نفسي في نفسي(/3)
هكذا يحارب المدلِّسون الإسلام!
خطابٌ مفتوح
أ.د/إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
http://ibrawa.coconia.net
الكل يتبرأ من القمص المنكوح ويقول إنه لا يوافق على شتمه للمسلمين ونبيهم ودينهم، يستوى فى ذلك المهذبون، والسفلة الذين لا يقلون عنه بذاءة وتطاولا. والغاية من ذلك واضحة: أن نسكت فلا ندافع عن ديننا وقرآننا ورسولنا وأمتنا، تحت ذريعة أن من غير اللائق مجاراته فى أسلوبه. وهذا كلام حق يراد به باطل، وبخاصة أننا لا نجاريه فى أسلوبه، رغم أننا لو فعلنا ذلك فلا ملام علينا، لأن جميع القوانين والأعراف تعطى كل إنسان الحق فى الدفاع عن نفسه، وبذات الطريقة، بل كل ما نفعله هو الرد المنطقى الباتر الذى يترك الخصم واقفا مبلولا لا يحير جوابا لا من فوق ولا من تحت، اللهم إلا الشتائم العاجزة التى لا يأبه بها إلا أصحابها ومن على شاكلتهم، وإن كنا لا ننكر أن ما نكتبه لا يخلو من شىء من التهكم يكشف خزى الطرف المعتدى السافل وهشاشته، غير متطرقين إلى المساس بسيدنا عيسى ولا بأمه وحوارييه ولا بالمؤمنين به عليه السلام سواء فى ذلك من يراه نبيا رسولا أو من يؤلهه فيقول إنه ابن الله أو الله ذاته. فكل إنسان حر تمام الحرية فيما يعتقد، والآخرون الذين لا يعتدون علينا ولا على إلهنا وديننا وقرآننا ونبينا هم منا على العين وعلى الرأس. نقول هذا دون مجاملات كاذبة، ذلك أنهم بشر مثلنا، ويحبون دينهم كما نحب نحن ديننا ونغار عليه ونفديه بالغالى والرخيص. ونحن على إدراك وفهم تام للقانون الكونى الذى على أساسه خلق الله البشر مختلفين فى أشياء كثيرة منها الدين، مثلما هم متفقون فى أشياء أخرى كثيرة أيضا. لكن لا يمكن أن يحظى المتطاولون المتباذئون مشعلو الحرائق بمثل هذه المعاملة الطيبة. ولو كان الحق هو مقصد هؤلاء المتبرئين من القمص المنكوح لكان الأولى بهم أن يحوّلوا رسائلهم إليه بدلا من توجيهها إلينا. ولَكَمْ يكون الأمر مضحكا لو أننا تركنا القمص المنكوح دون أن نُرِيَه مركزه، فمضى بغير حياء يشتم ويتطاول ويتحدى ونحن واضعون أيدينا على خدودنا كالولايا، فإذا ما طلبنا منهم إسكاته ردوا فى شماتة وهم يضحكون فى أكمامهم من سذاجتنا: "إنه خارج علينا، ولا نملك من أمره شيئا"! عظيم، فلماذا تغضبون لما نقول فى حقه إذن؟ دَعُونا له ودَعُوه لنا، وكونوا على الحياد، فلا تعاونونا عليه ولا تعاونوه علينا. أما إذا لم يعجبكم هذا الحل فلا أدرى ماذا أفعل، لأنه ليس لدىّ للأسف حلٌّ سواه. ترى هل هذا الكلام يصعب فهمه؟ ثم إننا لا نحرّض ولا نهيّج، بل ولا نتعصب تعصب الذى لا يرى فى نفسه وفى أمته إلا كل جميل، والدليل على ذلك أننا نُسْمِع أمتنا من قارص القول ما نرى أنها تستأهله، ودائما ما نقول إنها تستحق ما يحدث لها بل ما هو أفظع منه لأنها رضيت بالهوان فأهانها الله: أهانها على أيدى حكامها، وعلى أيدى أعدائها، وعلى أيدى كل ذليل وغد يطمئن إلى حسن عاقبة التطاول عليها وعلى دينها ونبيها وكتابها. نعم لقد أذلت نفسها بركونها إلى الجهل وانتهاجها ثقافة البكش والبلادة والجعجعة بلا طِحْن ونفاد الصبر وكراهية العمل والإتقان واللامبالاة بقِيَم الجمال والنظام والذوق والنفور من ضريبة المجد والسيادة. وكل ما نفعله هنا هو أننا نرد على الشبهات الطفولية المتخلفة عقليا بالحجة المفحمة المخرسة، ولا نسكت على ما يوجهه الأوغاد اللئام لنا ولديننا ولرسولنا وصحابته والكتاب الذى أنزله الله عليه من إهانات، وهذا كل ما هنالك.(/1)
صحيح أن الإسلام بوجه عام يؤثر العفو والتغاضى، لكن ليس فى مثل تلك الظروف ولا فى تلك القضايا، ولا فى أيامنا هذه التى يظن كثير من أعداء ديننا العظيم أن ساعة وفاته قد دَنَتْ بل قد دَقَّتْ. إننا هنا إنما نتأسى بقوله تعالى: "لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)" (سورة "النساء")، وبقوله تعالى: "وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)" (سورة "الشورى"). ولا بأس أن أكرر مرة أخرى ما أقوله دائما من أن كل إنسان يرى نفسه على الحق، وهذا من حقه تماما. بل إننى لأعتقد أن الله سبحانه وتعالى لن يعامل الكافرين جميعهم نفس المعاملة بحيث يتساوى رأس المجرم المكابر منهم برأس الذى يبحث عن الحق جهد استطاعته فلم يهتد إليه سبيلا. والآن نبدأ الكلام، وهو للصنف المكابر المجرم الذى فهم وعرف، لكنه يكتم الحق ويذهب فيصيح متباذئا علينا وعلى ديننا ورسولنا فى الفضائيات التى تخاطب الملايين، على حين تضيق صدور فريق من الناس بردّنا عليه وفضحنا لسوآته الفكرية والنفسية رغم أننا ليس عندنا فضائيات ولا مؤسسات تقف وراءنا ولا حتى حزب أو جماعة سياسية أو دينية، بل مجرد جريدة ضوئية محدودة الانتشار. فأبو جمل إذن يحسد أبا معزة على طريقة "إن هذا أخى له تسعٌ وتسعون نعجةً، ولى نعجةٌ واحدة، فقال: أَكْفِلْنيها، وعَزَّنى فى الخِطَاب"! والسبب معروف، وهو أن صاحب الجمل، رغم كل هذا الهيل والهيلمان، يشعر أنه عاجز أمام سطوة الحق الذى فى يد صاحب المعزة وبطش منطقه. أى أن المسألة ليست جملا فى مواجهة معزة، بل حقا يمسك بالباطل من زمارة رقبته ويجعل منه مسخة، ومن لا يشترى يتفرج، وهذا هو السبب فى كثرة رسائل السباب التى تبرهن بأجلى بيان على التهاوى وفقدان الأعصاب والرعب من سطوة الحقيقة. وإذن فعلى الله نتوكل، وباسمه سبحانه نُسَمِّى، وإياه نستعين فنقول:
منذ نحو عشرة أيام وصلتنى من القمص المنكوح رسالة تتضمن حدوتة تبشيرية مضحكة لا يصدقها إلا أبله مثله، تدور حول ما يزعم كاتبها أنه مجادلة قامت بين راهب نصرانى وثلاثة شيوخ من أئمة المسلمين فى العصر الأيوبى، وتحدانى أن أرد عليها. وكالعادة أهملتها، وإن اتخذتها مع ذلك فرصة للسياحة فى كتب التاريخ لعلى أصل إلى أية معلومات تتعلق بطَرَفَىِ المجادلة المزعومة، فلم أصل إلى شىء. إلا أن العزم صح منى فجأة منذ أربعة أيام على التعليق على هذا السخف المتخلف الذى يحسب المنكوح أنه يشكل تحديا مستحيلا سنقف أمامه حيارى لا نحير جوابا، وهو ما يدل على أن مستواه الفكرى والعقلى على درجة كبيرة من الضحولة والانحطاط، وأنه فعلا كما قيل ليس أكثر من آلة دعائية يبرمجونها ويطلقونها على المسلمين على أمل أن ينشر بينهم الشك فى دينهم وحضارتهم وتاريخهم ورموزهم. وكانت نتيجة ذلك العزم هى المقالة التالية التى أنهيتها البارحة قبل مباراة الأهلى والزمالك فى نهائى الكأس بنحو ربع ساعة قبل أن أعود اليوم (السبت 17 يونيه 2006م) فأضيف هذه المقدمة، على عادتى من تأجيل مقدمات كتبى ودراساتى إلى ما بعد الانتهاء تماما من البحث، على أن أقوم لاحقا بما يلزم من المراجعة والتنقيح والحذف والإضافة.(/2)
هذا، ولم أفعل، فى الرد على تلك الحدوتة المتخلفة مثله هو وأشباهه من المناكيح المتنطعين، إلا المضىّ فى قراءتها فقرة فقرة والرد مباشرة على ما جاء فى تلك الفقرات أولا بأول، اللهم إلا إذا احتاج الأمر التثبت من شىء، فعندئذ كنت أرجع إلى هذا الكتاب أو ذاك. وتتلخص تلك الحدوتة المتخلفة تخلف عقل منكوحنا أبى الزيك، ذى الجلد السميك، فى أن جماعة من الرهبان الحلبيين ذهبوا لمقابلة الملك الظاهر بن صلاح الدين الأيوبى صاحب حلب فى شأن من شؤون الدير الذى يسكنونه، فتصادف مجىء ثلاثة من أئمة المسلمين وهم فى حضرة أخيه الأمير المشمّر، وجرت بينهم وبين أحد أولئك الرهبان، واسمه الأنبا جرجى، مناظرة بين الإسلام والنصرانية خرج منها دين التثليث منتصرا بالضربة القاضية على دين التوحيد. وقد أظهرت الحدوتة المضحكة الأمير الأيوبى منحازا طول الوقت إلى الجانب التثليثى شامتا بالمشايخ "المساكين المحتاسين" العاجزين عن الرد والفهم. بل زاد على ذلك فأسرّ إلى الراهب المذكور، على مرأًى من الحاضرين، أن أمه نصرانية رومية، وأنه ينبغى أن يأخذ راحته فى مسح أولئك المشايخ البُلْه بالأرض دون خوف من أى اعتبار. والحدوتة تصرخ بأعلى حِسّها أنها مصنوعة صنعا كما سنبين بالدليل القاطع الذى لا يمكن نقضه بأى حال، وأن شيئا مما ورد فيها لم يقع، وأن المقصود منها هو مكايدة المسلمين ورفع الروح المعنوية لجماهير المثلثين عن طريق إيهامهم أن أئمة المسلمين أنفسهم لا يستطيعون الوقوف أمام ضياء التثليث الباهر الذى يُعْشِى العيون!
والآن إلى مناقشة الحدوتة التى أعتذر للقراء مقدما عن نزولى إلى مستواها، إذ لا يليق فى الواقع أن آخذ مثل تلك التحديات الطفولية مأخذ الاهتمام، إلا أننى قد لاحظت أثناء السياحة التاريخية التى قمت بها فى البداية أنها منشورة فى مواقع تبشيرية كثيرة، ومعنى هذا أن مِن القراء الخالى البال مَنْ قد يظن أنها قصة حقيقية، فقلت: إنها فرصة لفضح أساليب الكيد الرخيص الذى يلجأ إليه القمّص المنكوح ذو الدبر المقروح وأمثاله فى محاربة الإسلام حتى يعرف القاصى والدانى أن القوم مفلسون تمام الإفلاس وأنهم إنما ينتهزون سانحة ضعف المسلمين فى العصر الحالى وهجوم الثور الأمريكى الأحمق على المنطقة، للتنفيس عن أحقادهم والجرى فى بيداء الأوهام التى تصور لهم، كما يصرح المنكوح منتشيا وشامتا، أن ساعة الإسلام الأخيرة قد دنت، وأن المسألة مسألة وقت. أما نحن فواثقون بعون الله، رغم الفروق الهائلة بيننا وبين الأمريكان فى العتاد والسلاح والتقدم العلمى والتقنى، أن الثور الأمريكى الأحمق سوف تكون نهايته بمشيئته سبحانه على يد أبطال المقاومة العربية والإسلامية، وإن كان هذا لا يعنى أننا بعدها سنكون عال العال، إذ لا بد من النهوض مما نحن فيه من بلادة حضارية، وكراهية للعلم والعالمين والعمل والعاملين، ونفور من النظافة والجمال، وعداوة للنظام والتخطيط والطموح، وعجز عن الابتكار وجبن أمام المجهول، وقِصَر نَفَسٍ وباعٍ فى ميادين الصبر على مشقات العمل والإتقان والتجديد والتحسين، لا الصبر على الهوان والمذلة والظلم والرضا به والاستزادة منه والركوع أمام الظالم، وبخاصة إذا كان هذا الظالم حاكما من الحكام. وقادة العرب والمسلمين بوجه عام هم، بحمد لله الذى لا يُحْمَد على مكروه سواه، من أسوإ حكام الأرض وأخشاهم لأعداء أوطانهم ودينهم وأمتهم وأطوعهم لأولئك الأعداء وأعملهم لمصلحتهم، وهو أمر طبيعى، إذ "كما تكونوا يُوَلَّ عليكم"، ونحن سيئون مثل حكامنا بل أسوأ، فنحن وهم "ذرية بعضها من بعض"، ذرية غير طيبة، وإلا لكنا قد متنا منذ وقت طويل من الغم والقهر بسبب ما نحن فيه، أو على الأقل: توارينا خجلا! أما النصر الذى سيبوء به المسلمون بمشيئة الله فهو بفضل أبطال فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من المجاهدين الذين لم يفتّ فى عضدهم شىء من عوامل الإحباط ولا يهابون أمريكا ولا أذيالها من أمتهم، لعنة الله على كل ذليل تعيس!(/3)
إذن فالمنكوح يتحدى المسلمين بهذه القصة وقد بلغ دبره غاية الانتشاء والنعنشة! ماشٍ يا منكوح! والآن تَعَالَوْا، أيها القراء الأعزاء، لنرى ما فى جعبة الحاوى المثلِّث من كتاكيت يخرجها من كُمّه يحاول إيهامنا أنه يأتى بها من الهواء! أين المرحومة زينات صدقى لتقول له: "كتاكيته بُنّىّ"؟ والقصة، بالمناسبة، قد تبناها ونشرها راهب يقول إنه من المرسلين الكاثوليكيين العاملين فى إفريقيا، وإنه اعتمد فى نشره لها على عدة مخطوطات يرجع أقدمها إلى ما بعد تاريخ وقوع المجادلة المزيفة بثلاثة قرون وربع القرن، وإنه ليس هناك أية معلومات تاريخية، لا فى كتب المسلمين ولا فى كتب النصارى، عن الأنبا جرجى أو المشايخ الثلاثة الذين جادلوه. وعنوان الحدوتة هو "مجادلة الأنبا جرجي الراهب السمعاني مع ثلاثة شيوخ من فقهاء المسلمين بحضرة الأمير مشمر الأيوبي". فعلى بركة الله إذن، وسوف يتبين بما لا مجال معه للشك أن الحكاية ليست أكثر من حدوتة لم يحسن ملفقها تزييفها فجاءت وبالا على كل من اشترك فى كتابتها وتحريرها ونشرها والتحدى بها، ومثلت فضيحة مدوية للجميع كما سيتضح حالا.
وأول داهية من الدواهى الثقيلة التى أوقع نفسه فيها محقق القصة الكذاب مثل كاتبها الكذاب هى أول جملة فى التقديم، وها هى ذى: "من سمات كنيسة المسيح الظاهرة أن تدعو جميع الناس في كل عصر ومصر إلى دين الله بحسب البيان وجميل الإحسان عملا بأمره، له المجد: بشّروا بالإنجيل في الخليقة كلها". ووجه الكذب والتدليس فى هذا الكلام أنه لم يكن هناك، فى اعتقاد النصارى، وجود للإنجيل قبل ترك السيد المسيح للدنيا، إذ الأناجيل (حسب كلام النصارى. ولاحظ: "الأناجيل" لا الإنجيل) إنما كُتبت بإلهام من الروح القدس بعد ذلك، أما فى حياة عيسى بن مريم على الأرض فلم يكن ثمة أناجيل ولا يحزنون. فأى إنجيل كان هناك إذن (حسب كلام المحقق الكذاب الذى لا يعرف كيف يدارى كذبه وتدليسه، إذ من نعم الله على العباد أن الجريمة الكاملة لا وجود لها فى الحياة) حتى يكلف المسيح تلاميذه بالدعوة إلى دين الله من خلال التبشير به؟ أما إذا قالوا إنه كان فى حياته صلى الله عليه وسلم إنجيل أو أناجيل، فالسؤال الذى ينبثق فى الذهن على الفور: وأين ذلك الإنجيل، أو تلك الأناجيل؟ من ثَمّ كان على محقق الكتاب المزيَّف المملوء بالترهات والأباطيل والتناقضات والأكاذيب أن يجيب على هذا السؤال بدلا من خَوْتَة الدماغ التى لا يَنُون عن إزعاجنا بها كلما حاولوا أن يردوا على اتهامنا لهم بالتلاعب فى الإنجيل والعبث به، إذ يتساءلون وبراءة الأطفال فى عينيهم: إذا كان هناك إنجيل صحيح تم العبث به، فأين ذلك الإنجيل؟ ولماذا لم يعثر أحد ولو على نسخة واحدة منه يتضح منها الاختلافات التى يتحدث عنها المسلمون؟ وسوف نرد على هذه النقطة فيما بعد، أما الآن فتعليقنا هو: إذا كان هناك إنجيل فى حياة السيد المسيح كما تقول العبارة المنسوبة له عليه السلام، فعليكم أنتم أن تخبرونا بموضعه وتحضروه لنا حتى نقارن بينه وبين الأناجيل التى بين أيديكم والتى إنما أُنجِزَت بعد انتقال عيسى بن مريم عن الدنيا وتحيط بها الشكوك والشبهات من كل جانب، سواء فيما يتعلق بمؤلفيها أو بتواريخ كتابتها أو الظروف التى كُتِبَتْ فيها. أما إذا قلتم إنه لم يكن هناك أناجيل فى حياته، فعليكم فى هذه الحالة أن تقروا بأن هذا الكلام المنسوب للسيد المسيح عليه السلام فى الأناجيل الحالية عن وجوب التبشير بالإنجيل فى كل الأمم هو كلام كاذب لم يقله المسيح لأن الإنجيل لم يكن قد وُجِد بعد. هكذا بصريح العبارة دون لف أو دوران!
ثم داهية ثقيلة أخرى هى الفقرة الثانية من التقديم الذى قدم به لها محررها، إذ يقول ما نصه: "إن دين المسيح لم يستطع أن يحجبه الإسلام بحجته الكبرى التي هي الجهاد وقتال من لا يدين به. ولم يقطع سيفُه كلَّ لسان ولم يكسر أقلام ضعاف الرهبان الذين هم أخص دعاة النصرانية الموصوفون بـ"جند الكنيسة". ومن هؤلاء الشجعان الذين أرهفوا القلم وأحسنوا البيان الأنبا أو الأب جرجي أحد رهبان دير القديس سمعان الذي موقعه في جبل سمعان في ولاية حلب الذي كان من أعظم وأشهر ديارات البطركية الأنطاكية"، ففى هذه الفقرة نقرأ أن الإسلام لم يمنع واحدا كالأنبا جرجى أو غيره من التبشير بالإنجيل بين المسلمين، حتى فى حضور أمرائهم ومواجهة شيوخهم. فما معنى ذلك؟ معناه ببساطة ووضوح أن كل ما يزيفه المزيفون ويدلس به المدلسون الأفاكون المشّاؤون بالنميم بين الأمم والطوائف المثيرون للفتن عن الضغوط التى تعرَّض ويتعرّض لها النصارى فى بلاد المسلمين هو كلام لا أساس له من الصواب، وإلا أفلو كان الإسلام يضطهد الأديان الأخرى أكان أتباعها يستطيعون أن يفتحوا أفواههم مجرد فتح، فضلا عن أن يدخلوا مع أئمة الإسلام فى جدال من أجل نشر دينهم وتخطئة دين المسلمين؟(/4)
إذن فالإسلام لم يضطهد الأديان الأخرى، بل أفسح لها صدره وحمى أهلها وأسبغ عليهم كرمه وعطفه، ولم يفكر مجرد تفكير فى استئصالهم مثلما استأصل النصارى كل من يخالفهم فى الدين فلم يسمحوا له أن يعايشهم فى وطن واحد، كما هو الحال فى الأندلس مثلا حين أجبر فرناندو وإيزابلا ومن جاء بعدهما عشرات الملايين من المسلمين الأسبان أهل البلاد على التنصر، وإلا فالحرق أو الإغراق أو الحشر فى نعوش مبطنة بالمسامير الضخام تُغْلَق على من بداخلها فتخترق المسامير بطنه وظهره وصدره وعينيه ورأسه وقفاه وفخذيه وساقيه وقدميه ويديه فى الحال وتهرسه هرسا وتحوله إلى مصفاة من اللحم والعظام (اللهم لطفا!)، وهو ما يمثل أسلوبا واحدا من أساليب محاكم التفتيش التى أقيمت لإرضاء الرب ونشر دينه، دين الرحمة والتواضع والسلام، وكما هو الحال أيضا فى الأمريكتين حيث تم القضاء على دين أهل البلاد تماما فلم يعد له من أثر، بل حيث تم القضاء أيضا على أهل البلاد أنفسهم فى أمريكا الشمالية، وعلى عشرات الملايين منهم فى أمريكا الجنوبية! و"إن كنت ناسيا (كما تقول الأغنية) أفكرك" بكتاب المطران برتولومى دى لاس كازاس: "المسيحية والسيف"، الذى ترجمته سميرة عزمى الزين، وبمقال فنسينزو أوليفيتى الذى ترجمه العبد لله ونشره على المشباك بعنوان "العنف النصرانى للتاريخ"، ولا داعى لذكر غيرهما، ففيهما الكفاية بمشيئة الواحد الأحد الفرد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ومِثْلَ ذلك قُلْ عن الأستراليين الأصليين الذين لم يعد لهم وجود فى بلادهم بعد أن دنستها أقدام نصارى أوربا ودمرت كل شىء يخصهم من حضارة وثقافة ودين، ثم دمرتهم هم أيضا فلم تكد تبقى منهم باقية على ظهر البسيطة! أما تشريع القتال فهو فعلا موجود فى الإسلام، ذلك الدين العظيم الذى لم يبرع أصحابه فى تسويقه بالحق براعة النصارى فى تسويق دينهم بالباطل حين ادَّعَوْا أن دينهم هو دين الرحمة والسلام، على حين أنهم فى احتلالهم للبلاد الأخرى لا يعرفون رحمة ولا سلاما، على عكس الإسلام، الذى ينص فعلا على قتال المعتدين حين لا يكون أمام أهله مناص من القتال وبعد أن يستنفدوا كل سبل السلام والتفاهم مع أعدائه، لكنه رغم كل هذا يحرص على العدل والإنسانية والتسامح ما أمكن مع هؤلاء الأعداء، فإذا بأصحاب دين الرحمة والسلام يشنعون عليهم وعلى نبيهم ويتهمونهم بما ليس فيهم ولا فى دينهم اعتمادا على آلة الإعلام الجهنمية التى يمتلكها الأقوياء منهم فى الدول المتقدمة ويستثمرها سائرهم فى كل أرجاء الأرض بالكذب الفاجر المتوحش الذى لا يعرف الحياء!(/5)
وعلى كل حال ها هو ذا كاتب الحدوتة يعلن كيف عومل الرهبان والقساوسة من قِبَل الأمير الأيوبى المسلم: "اتفق أن رئيس دير القديس ماري سمعان العجائبي البحري حضر بين يدي الأمير والسلطان صاحب مدينة حلب وأعمالها حيث كان ينزل جيشه في الفضا الذي بين عُمّ وحارم. وكان حضور الرئيس لدى الأمير لأجل حوائج عرضت له من حوائج ديره ومصالحه. فلما مثل بين يدي السلطان مع من كان قد صحبه من الرهبان قبلهم أحسن قبول وأمر بقضاء حوائجهم وما التمسوه. ورسم لهم النزول في خيمة أخيه الملك المشمّر... فحين حضر بين يدي الملك المشمّر قبلهم أحسن قبول بغاية الإكرام والإجلال. ولما نظر إلى الشيخ أنبا جرجي استلذّ بالنظر به وأدناه إليه ورسم له الجلوس بقربه. ولما عاد الرئيس من عند السلطان ليكمل حوائجه تمسك الأمير بالشيخ وأخذ يحدّثه ويسأله عن أمور الدين والرهبان وعيشتهم وسيرتهم وتصرفهم"، فضلا عما ذكرته الحدوتة فى نهايتها من إتحاف الأمير للرهبان بوَسْقِ بغلٍ (مثل الأنبا جرجى) سمكا، وبغلةٍ من بغاله الأميرية مُسْرَجة. وواضح أن ما حدث لهم من الإكرام والترحيب لم يكن شيئا استثنائيا، بل كان أمرا معتادا، وإلا لم يفكروا أصلا فى المجىء والمثول بين يَدَىِ الحاكم المسلم. أليس هذا ما يقول به المنطق؟ علاوة على أنه لم تصدر عن الكاتب أية كلمة تدل على أن هذا الاستقبال الذى حَظِىَ به الرهبان والقساوسة كان شيئا غريبا لم يتوقعوه. لكن الخبيث القليل الأدب لا يريد أن يقر بجميل للمسلمين، بل ينزل على حكم طبيعته الثعبانية السامة فيعض اليد الكريمة التى امتدت له بالحسنى! ألا لعنة الله على الحقدة المارقين الذين يعاملهم الإسلام أجمل المعاملات فلا يكون منهم إلا أن ينقلبوا عليه فيتهموه كذبًا وزُورًا بكل نقيصة فيهم، وإن كنا نشك فى الحدوتة كلها، لكننا إنما ندينهم بما تخطه أيديهم النجسة الدنسة! بالسم الهارى، يا بعيد، السمك الذى أطعمكم إياه الأمير رغم أننا لا نصدق حدوتتك، وبخاصة أنك تقول إن الأمير قد أمر حاجبه الموجود عند مَسْمَكته (ولا أدرى ماذا يفعل الحُجّاب عند مصايد السمك!) أن يعطى السمك الرهبان "معافًى مبرّأً من سائر الغرامات والحقوق"، وكأن عطايا الملوك والأمراء فى تلك الأيام كانت تخضع للمحاسبة الضريبية وأمثالها فأراد الأمير أن يستثنى الرهبان المناجيس منها! عال والله! هذا ما كان ينقصنا فى يومنا العجيب! كما تذكر الحدوتة أن اسم الحاجب هو تمام السيارى، وقد حاولت العثور على هذا الاسم فى مواقع المشباك المختلفة، وبالذات فى المواقع التى توجد فيها عادةً كتب ذلك العهد فلم أفلح فى الوصول إلى شىء! وأغلب الظن أنه اسم منتحل كأسماء بيّاعى البطاطة الثلاثة الذين اخترعهم دبر الكاتب السقيم وجعلهم من "أئمة الإسلام"!
وبالإضافة إلى ذلك نرى الأمير يوقع باسم "المشمر الملكى"، وهذا غريب، فالمعروف أن لقب "المشمر" إنما أطلقه الأمير على نفسه (حسبما كتب بعض المؤرخين) إشارة إلى أن أباه لم يعطه مملكةً كبعض إخوته، فكيف لم يستخدم لنفسه إلا هذا اللقب الذى يرمز إلى الحرمان، مع أن له لقبا آخر فخما ليست له هذه الإيحاءات السلبية، وهو "الظافر"؟ ثم، وهذا مجرد استفسار، هل كان أحد من الأمراء الأيوبيين يصف نفسه بـ"الملكى"؟ ليس ذلك فحسب، إذ يقول الكذاب النجس إن المصيدة كانت عند برزة. أتدرى، أيها القارئ، أين تقع برزة؟ إنها فى غوطة دمشق، ونهرها (الذى سوف يأخذ الراهب المنفوخ ذو الدبر المشروخ السمك منه) هو نهرٌ محلىٌّ صغير ينبع من عينٍ هناك ولا يزيد طوله كثيرا عن عشرة كيلو مترات، والمسافة بين دمشق ومنطقة حلب حيث جرت أحداث الحدوتة وحيث كان دير الرهبان السناكيح المناكيح، الذين يخرج من أدبارهم دائما فحيح، علامة الشوق إلى التشليح والتلقيح، هى فوق الثلاثمائة والخمسين كيلو مترا. أى أن الكذاب يريد أن يفهمنا أنهم قد خرجوا عن مسار عودتهم إلى ديرهم عدة مئات من الكيلومترات كى يحصلوا على وَسْقِ بغلٍ مثلهم سمكا، وأن الأمير لم يجد فى ممتلكاته إلا هذه المصيدة التى يقطّع الوصول إليها الأنفاس كى ينعم على الراهب ببعض ما يصاد منها من سمك! هذا ليس سمكا. هذا سمك، لبن، تمر هندى! ثم بالله كيف يمكن أن يبقى السمك طوال طريق العودة سليما لا ينتن كدبر قمصنا وراهبنا، ومعروفٌ بطء وسائل المواصلات فى ذلك العهد وعدم وجود حافظات للَّحم والسمك وأمثالهما من الأطعمة التى تفسد سريعا؟(/6)
وهذا النهر، كما هو واضح، لا يتبع مملكة حلب، التى كانت تحت إمرة الملك الظاهر، بل يقع فى مملكة دمشق، التى كانت تحت سلطان أخ آخر هو الملك الأفضل، الذى كان يتبعه الأمير المشمر (اسمه الحقيقى "الخضر"، ولقبه الرسمى "الظافر" كما سبق بيانه)، ولعل فى ذلك ما يفسر أن المصيدة التى يملكها الأمير كانت فى دمشق لا فى حلب، وإنْ ظن محقق الحدوتة أنه كان تابعا لأخيه الملك الظاهر صاحب حلب (الذى لم يكن شقيقا له)، على عكس "الأفضل" (الذى كان أخاه لأبيه وأمه معا). وهذه عبارته: "ويظهر أنه كان من أتباع أخيه الملك الظاهر غياث الذين غازي صاحب مدينة حلب أصغر أولاد صلاح الدين. ومن ثم كان الأمير المشمّر أقل شأنا من أخيه الملك الظاهر الذي مات في حلب ودفن في قلعتها سنة 617 للهجرة التي توافق سنة 1216 مسيحية عندما جرت هذه المجادلة، ولعلّه كان تابعا لأخيه المذكور". والصواب ما ذكرناه من أنه كان تابعا للأفضل، أما الذى كان تابعا للظاهر فهو شقيقه الأمير داود، وكانت فى يده قلعة البيرة على الفرات. يقول النويرى فى "نهاية الأَرَب": "استقر ملك دمشق وما معها للملك الأفضل نور الدين أبي الحسن علي، وهو أكبر أولاده وولي عهده، وعنده أخواه شقيقاه الملك الظافر خضر والملك المفضل موسى. واستقر ملك حلب ما يليها للملك الظاهر غياث الدين غازي، وعنده أخوه الملك الزاهر، فجعله من قِبَله على البيرة"، وفى "النجوم الزاهرة" لابن تغرى بردى أن أولاد صلاح الدين "كانوا ستة عشر ذكرًا وابنةٌ واحدةٌ: أكبرهم الأفضل علي، ولد بمصر سنة خمس وستين يوم عيد الفطر. وأخوه لأبيه وأمه الملك الظافر خضر، ولد بمصر سنة ثمان وستين. وأخوهما أيضا لأبيهما وأمهما قطب الدين موسى، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين. فهؤلاء الثلاثة أشقاء. ثم الملك العزيز عثمان الذي ملك مصر بعد أبيه، ولد بها سنة سبع وستين. وأخوه لأبيه وأمه الأعز يعقوب، ولد بمصر سنة اثنتين وسبعين. والملك الظاهر غازي صاحب حلب، ولد بمصر سنة ثمان وستين. وأخوه لأبيه وأمه الملك الزاهر داود، ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين. والملك المعز إسحاق، ولد سنة سبعين. والملك المؤيد مسعود، ولد بدمشق سنة إحدى وسبعين. والملك الأشرف محمد، ولد بالشام سنة خمس وسبعين. وأخوه أيضا لأبيه وأمه الملك المحسن أحمد، ولد بمصر سنة سبع وسبعين. وأخوه أيضا لأبيه وأمه الملك الغالب ملكشاه، ولد بالشام سنة ثمان وسبعين. وأخوهم أيضا لأبيهم وأمهم أبو بكر النصر، ولد بحران بعد وفاة أبيه سنة تسع وثمانين. والبنت مؤنسة خاتون تزوجها ابن عمها الملك الكامل... ابن الملك العادل وماتت عنده. وملك بعد السلطان صلاح الدين مصر ابنه الملك العزيز عثمان...، وملك دمشق بعده ابنه الملك الأفضل علي، وملك حلب ابنه الظاهر غازي كما كانوا أيام أبيهم"، وإن كنت لا أحب أن أقف عند هذه النقطة أطول من ذلك رغم إمكان اتخاذها دليلا إضافيا على الاضطراب والتدليس فى تلك الحدوتة، إذ ثم سؤال يفرض نفسه هنا، ألا وهو: ماذا كانت صلاحية الأمير الظافر فى حلب بحيث يقوم بتضييف الرهبان المذكورين، ولم تكن له صفة رسمية فى تلك المملكة؟(/7)
كذلك ففى هذه الفقرة الأخيرة يوقع المحققَ فى المهالك غباؤُه مرة أخرى فيكون فى هذا برهان جديد على أنه لا توجد جريمة كاملة أبدا مهما ظن مرتكبها أنه قد احتاط فيها لكل شىء فسدّ كل الثغرات ولم يترك وراءه قط أى أثر يمكن أن يكشف أمره، إذ قال الكذاب عن الأنبا جرجى المزعوم إنه "من هؤلاء الشجعان الذين أرهفوا القلم وأحسنوا البيان"، مع أن راوى الحدوتة المضحكة قد ذكر أن ما جرى على لسان ذلك الأنبا (الذى ليس له وجود إلا فى العقول المدلسة) لم يكن سوى كلام شفوى لم يُسْتَخْدَم فيه قلم ولا ورق ولم يكن ثمة وقت للتحبير وإظهار البيان، على عكس ما يكذب المحقق المدلس الذى يعرف قبل غيره أن هذه المجادلة لم تقع قط وأنه لم يكن هناك مثل ذلك اللقاء المزعوم بين جرجى ومن سماهم بـ"أئمة المسلمين". كذلك أين كتبه الأخرى التى تظهر براعته البيانية ومواهبه العقلية؟ بل أين أخباره وتاريخ حياته عندهم، وهو الرجل الذى انتصر ذلك الانتصار الباهر على المسلمين وفى حضور أمير من كبار أمرائهم كما يزعمون؟ وبالإضافة إلى هذا فإن فى الحدوتة أخطاء لغوية لا تليق إلا بكذاب غبى مثله. إنهم أهل الإعلام الطنان من قديم الزمان، وصناع النجوم الزائفة بالباطل! ثم لو كان هناك لقاء كهذا، فأين خبره فى كتب المسلمين؟ أمن المعقول أن يقع مثل ذلك اللقاء، وأن يكون وقوعه فى معسكر الأمير الأيوبى ابن صلاح الدين، ثم تسكت عنه كل كتب المسلمين فلا تتعرض له ولو بكلمة؟ لقد ذهبتُ ففتشتُ بطون كتب تلك الفترة فلم أجد لتلك الحدوتة من أثر، بل لم أجد أى أثر لأى واحد من طرفيها: لا الأنبا جرجى ولا الفقهاء الثلاثة الذين تقول الحدوتة إنهم جادلوا هذا الجرجى فجندلهم، وهم أبو سلامة وأبو ظاهر والرشيد بن الهادى. ثم ما هذه النغمة الغريبة، نغمة انتصار النصارى على المسلمين فى الجدال، والمعروف أن علماء المسلمين لم يدخلوا قط مع رهبان النصارى ورجال دينهم فى جدال إلا كان الفلج للمسلمين، وكثيرا ما انتهى الجدال بدخول مجادليهم فى الإسلام. وما خبر المناظرة التى تمت فى السودان بين مجموعة الدكتور محمد جميل غازى وجماعة القساوسة السودانيين فى أواخر القرن الماضى وانتهت بإعلان القساوسة جميعا اعتناق الإسلام على بكرة أبيهم ببعيد! وبإمكان القارئ أن يطالع وقائع تلك المناظرة كاملة فى كتاب "مناظرة بين الإسلام والنصرانية"، ويقع فى طبعته الثانية (الرياض/ 1413هـ- 1992م) فى 500 صفحة، وهو متاح على المشباك لمن يريد تحميله. وبالمناسبة فقد كان بين أعضاء الوفد المسلم الأستاذ إبراهيم خليل أحمد، وهو قس مصرى سابق أسلم وأصبح من أشد المدافعين عن سيد الأنبياء والدين الذى جاء به.
كذلك أين خبر هذا اللقاء فى كتب النصارى فى ذلك الوقت، بل إلى ما بعد ذلك الوقت بعدد من القرون؟ لقد جرت المجادلة المزيفة عام 1216م تقريبا، إلا أن أقدم مخطوط لهذه الحدوتة يعود إلى عام 1539م، فأين كانت تلك الحدوتة طوال تلك القرون الثلاثة والعقدين والنصف؟ يقول المحقق الكذاب ككاتبها الكذاب: "لم ننشرها إلا بعد أن قابلناها على عدة نسخ قديمة وجدناها في مكتبة الأمّة في باريس وغيرها من مكاتب الشرق، وهي كثيرة تعدّ بالعشرات، وأقدمها وأصحها كتبت بخط جميل سنة 1539 عن نسخة قديمة لا نعلم تاريخها". إننى فى الواقع لا أطمئن إلى أولئك الناس، فهم متخصصون فى التزييف والعبث حتى بكتبهم المقدسة، وما خبر تحريفهم إنجيلهم بالذى يجهله أحد، ومن هنا فليس لكلام ذلك الكذاب عندى وعند كل عاقل من معنى إلا أنها قد وُضِعَتْ وَضْعًا فى ذلك التاريخ إن صح ما يقول. أى أنها قد اخْتُرِعَتْ من بُنَيّات الخيال والأوهام بعد الوقت الذى قيل إنها وقعت فيه بأكثر من ثلاثة قرون! ترى أين حمرة الخجل عند أولئك الكذابين؟ الواقع أنهم لا يخجلون ولا يستحون، ومن كان هذا شأنهم فإن الله سبحانه لا يكتب لهم التوفيق أبدا، بل يفضحهم ويهتك سترهم كما فضح القمص المنكوح، ذا الدبر المقروح، الذى منه الديدان تلوح، والنتانة تفوح!(/8)
ثم من هم أولئك المشايخ الثلاثة النكرات الذين لا نعرف عنهم شيئا البتة، وكأن الحاشية الأيوبية والبيئة الحلبية قد خلتا من مشاهير المشايخ والعلماء والكتاب ممن كانوا يستطيعون أن ينفضوا هذا الراهب فى الأرض كما أفعل أنا الآن بالقمص المنكوح رغم أنى عبد ضعيف لا أرتقى إلى مستواهم من العلم بهذه الموضوعات؟ ودعنا الآن من أن الأمير المشمر ذاته كان من أهل العلم والحديث وصاحب ثقافة تاريخية واسعة كما سيأتى فيما بعد من هذه الدراسة! أو كأن المسلمين يمكن أن يتجاهلوا مثل أولئك العلماء فلا يكتبوا عنهم أو يترجموا لهم! عال والله عال، لم يبق إلا أبو سلامة وأبو ظاهر والرشيد بن المهدي! لو أن الملفق الكذاب قال إن هؤلاء ثلاثة من العربان مثلا أو من بائعى البطاطا من أمثاله فلربما كان لكلامه بعض القبول، أما أن يكونوا علماء فقهاء فليس لذلك من معنى إلا أن الأبعد كان يفكر بدبره المنتن كفمه ويستملى قلمه من دواته الخلفية السفلية! أيعقل أن يكون هؤلاء من كبار أئمة المسلمين على ما يزعم ملفق الحدوتة ولا يرد لهم ذكر بين علماء حلب ولا غيرها من تلك البلاد؟ لقد وقعت مثلا، وأنا بصدد إعداد هذه الدراسة، على مقال فى العدد 1007 من "جريدة الاسبوع الادبي" (20/ 5/ 2006م) بعنوان "لماذا حلب عاصمة للثقافة الإسلامية؟" ذكر فيه كاتبه د.أحمد فوزي الهيب، ضمن من ذكر من علمائها فى الميادين المختلفة على مر العصور القديمة، مشاهيرهم فى العصر الأيوبى، فكان منهم الأسماء التالية، وليس فيها لا أبو ظاهر ولا أبو باطن ولا دياولو، ببساطة لأنهم ليس لهم وجود إلا فى دبر الراهب المدلس. قال المؤلف: "ومن علماء حلب آنذاك في التفسير والحديث والفقه وعلوم العربية والخط والتاريخ والجغرافية الفلك والرياضيات والطب والفلسفة: القفطي وابن العديم وابن سعيد الأندلسي وابن شداد وابن العجمي وعالي بن إبراهيم الغزنوي وابن الصلاح والكاشغري والكاساني وصقر بن يحيى وعبد الله الجماعيلي والهاشمي عبد المطلب بن عبد الفضل وابن الخباز وشهدة بنت ابن العديم وابن يعيش وابن عمرون وابن مالك والواسطي القاسم بن القاسم والحسين بن هبة الله الموصلي وسعيد بن أبي منصور الحلبي وحمد بن علي المازندراني وابن خروف النحوي وعبد اللطيف البغدادي وعلي بن أبي الفرج البصري والأسعد بن مماتي وابن المولي ويحيى بن محمد وابن أبي طي وياقوت الحموي وحمد بن طلحة والهروي علي بن أبي بكر والسهروردي الفيلسوف المتصوف وأبو الفضل بن يامين الحلبي وأبو الحجاج يوسف الإسرائيلي وغيرهم. ومن أطبائها عبد اللطيف البغدادي وعفيف بن سكرة الحلبي وحسون الرهاوي"ـ وغير هؤلاء كثير.
على أن هناك شيئا فى زاوية السرد الخاصة بالحدوتة، ألا وهى أن الراوى، رغم ما قيل من أنه كان أحد أعضاء الوفد الذى ذهب للقاء الملك الأيوبى وأنه كان حاضرا المجادلة المزعومة فى حضرة الأمير المشمر كلمة كلمة، لم يَرْوِ الحدوتة بضمير المتكلم، شأن من كان فى مثل موقفه من الحضور والمشاركة، بل حكاها بضمير الغائب، لا على سبيل النحو فقط، بل على سبيل الملاحظة والوجدان أيضا، إذ لم يحدث أنْ فَكَّر فى التعبير عن مشاعره مرة أو التعليق على ما جرى رغم خطورته البالغة ولو بكلمة واحدة، فيقول مثلا: كنت واحدا من وفد الرهبان الذى ذهب للقاء الأمير المشمر فى شأن كذا فقال لنا كذا وقلنا له كيت، وكنت أشعر بالسرور وأنا أرى الأنبا جرجى يفحم المشايخ المسلمين ويحظى بتشجيع الأمير...إلخ. بل إنه حين تكلم عن الراهب الذى تولى المجادلة المزعومة لم تبدر منه لفظة واحدة تنبئ أنه كان يعرفه أو كانت له به علاقة قط! وهذه ثغرة خطيرة فى الحدوتة تدل على أنها مصنوعة صنعا وأن قائلها لا يمكن أن يكون قد حضر شيئا مما يَدَّعِى وقوعه بين الأنبا المذكور والمشايخ الثلاثة.(/9)
ولكى يعرف القارئ ما أريد أن أقوله ويتمثل الأمر التمثل الصحيح أسوق له هذه الأسطر من رواية أم سلمة رضى الله عنها عما وقع للمسلمين فى الحبشة فى عهد النبى حيث كانت معهم هناك: "قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ r قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ: أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا، وَعَبَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى لا نُؤْذَى وَلا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ، وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا الأُدْمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إلا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَأَمَرُوهُمَا بِأَمْرِهِمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعَا إلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمَا إلَى النَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ، ثُمَّ سَلاهُ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْكُمَا قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ. قَالَتْ: فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ، عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بِطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إلا دَفَعَا إلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، وَقَالا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ: إنَّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ، وَجَاءُوا بِدِينِ مُبْتَدَعٍ لا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ. فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلِّمَهُمْ إلَيْنَا وَلا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ. فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ. ثُمَّ إنَّهُمَا قَدَّمَا هَدَايَاهُمَا إلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إنَّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ، وَجَاءُوا بِدِينٍ ابْتَدَعُوهُ لا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ. وَقَدْ بَعَثَنَا إلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ...". فانظر كيف روت أم سلمة حكايتها بضمير المتكلم فقالت: "نزلنا، جاورنا، أَمِنّا، عَبَدْنا، لا نُؤْذَى، لا نسمع..." رغم أنها لم تكن من الحاضرين مجلس النجاشى، بل كانت فقط واحدة من جماعة المهاجرين المسلمين هناك، فما بالنا بمن كان حاضرا وسمع ورأى كل شىء كراوى هذه الحدوتة؟(/10)
ويقول الراهب جرجى ردًّا على ما نُسِب إلى الأمير المشمّر من سؤاله إياه عن الحكمة فى تحريمهم اللحم والنساء على أنفسهم (مع تأكدى أن الأمير لم يكن بحاجة لمثل هذا السؤال لمعرفته أنه لا ينفر من النساء إلا كل منكوح ذى دبر مقروح، إذ لم يخلق الله جنسى الذكر والأنثى فى البشر عبثا، بل لينكح الرجال النساء كى تستمر مسيرة الحياة، أما من يعيب النكاحين فهو لا يمكن إلا أن يكون منكوحا يحقد على النساء ويريد أن ينال نصيبه مثلهن مما عند الرجال، غافلا بدبره الغبى مثله أن ذلك شذوذ ولواط قذر كخلقته وطبيعته القذرة لا يرضاه الرجال النكاحون الأسوياء)، المهم أن الراهب يقول فى الرد على سؤال الأمير: "ولا نحن نحرّم الزيجة ولا أكل اللحم. وإنما نقصد بذلك العيشة اللطيفة غير الهيولية لنتقرّب إلى الله الجوهر اللطيف غير الهيولي بتلطيف الجسم". ووجه الشاهد هنا هو وصف الراهب المنكوح لله سبحانه بأنه "جوهر لطيف غير هيولى". الله أكبر! أليس هذا شيئا قريبا مما تعب المسلمون فى قوله للنصارى طوال هاتيك القرون؟ أليس ما يزعمونه من أن الله قد تجسد ونزل إلى الأرض وأكل وشرب وتبول وخرأ وشُتِم وضُرِب وأُهين وطُعِن فى جنبه بالحربة ولُعِن وصاح واستغاث وما من مغيث، كل ذلك فساد فى فساد حسب ما قاله ذلك المنكوح فى "لحظة" تجلٍّ كانت استه فيها (على غير العادة الشهرية، وكذلك اليومية، التى تصيبه فيها دائما) لا تنبض بالألم ولا تعانى من سعار الشهوة فنطق بالحقيقة؟ ومع ذلك فمن قال إننا نتقرب لله بالتنكر لأجسادنا وشهواتها؟ إن هذه الأجساد وتلك الشهوات إنما هى جزء أصيل من كياننا لا تستقيم الحياة بدونه، فكيف يطلب عز وجل منا أن نتنكر لها؟ وما العلاقة بين كون الله غير ذى جسد وبين تنكر البشر لأجسادهم؟ لو قال الراهب الأبله إن الاعتدال مطلوب فى إشباع شهواتنا لقلنا له: نعم ونعام عين! أما تجاهل الجسد ومطالبه فإنه ينتهى بكوارث أخلاقية واجتماعية ليس أقلَّها أن يتحول بعض من يتجاهلون تلك المطالب إلى مناكيح، إذ الطبيعة لا ترحم من يتنكر لقوانينها التى فطرها الله عليها، لا تبديل لخلق الله! وحتى المسيح عليه السلام الذى يقول ذلك الراهب ومن على شاكلته إنه هو الله لم يكن ليستطيع أن يعيش إلا بإشباع فمه وبطنه، ولو استطالت به الحياة فأغلب الظن أنه كان سيتخذ له زوجة، إن لم يكن قد تزوج فعلا كما يقول مؤلف "شفرة دافنشى"، وهو أمر غير مستبعد لأنه مسألة طبيعية تماما، وإن لم يرد ذِكْره فى كتب التاريخ التى بين أيدينا! وبالمناسبة فقانون الاعتدال غير خاص بمطالب الجسد، بل يصدق على مطالب العقل والروح كذلك، فمثلا لو أنفق الإنسان عمره أو معظم عمره فى العبادة دون الالتفات لمصالحه الدنيوية أو واجباته الاجتماعية لكانت عقابيل ذلك سيئة أيضا، وقد تكون كارثية فى بعض الأحيان.
ويستمر الراهب فى سماديره قائلا إن "السيد المسيح قال لنا: إنكم ما تقدرون أن تنالوا الفرح والسرور في العالم الآتي دون الشقاء والحزن في هذا العالم الفاني". ونحب أن نعرف أين قال عيسى بن مريم ذلك. وإذا كان هذا القول صحيحا أيًّا من كان قائله فليس له من معنى إلا أن النصارى كلهم، اللهم إلا من يَصْدُق القولَ والعملَ بذلك من الرهبان (وأين هم؟)، سوف يكون مصيرهم أسود من قرن الخروب، إذ هم كلهم يستمتعون بملاذّ الجسد، شأنهم شأن سائر عباد الله! هيه يا كذاب! ماذا تراك قائلا فى هذا؟ لقد كان المسيح يأكل الطعام الطيب مثلما يحب أن يأكله جميع الناس، وكلنا يعرف كيف حنق عليه السلام على التينة بل لعنها لأنها لم يكن فيها تين فى غير إبانه حسبما لفق مؤلفو الأناجيل! ترى لماذا غضب عليه السلام على الشجرة المسكينة حين لم يجد فى أغصانها تينا رغم أنها لم تكن فى موسم الثمر ورغم أنها لا تعقل ولا تملك من أمر نفسها شيئا؟ أليس لأنه يحب التين ويريد أن يأكله، وهو طيّبة من طيبات الدنيا؟ ألم تطلب أمه أن يوفّر الخمر لضيوف أحد الأعراس فاستجاب لها، وكانت هذه أول معجزة قام بها فى حياته؟ وإن كنا لا نصدق أن أمه قد طلبت منه ذلك ولا أنه عصى الله وصنع هذه المعجزة! ألم يقم بمعجزة إطعام الآلاف طبقا لما جاء فى الأناجيل؟ أهناك من ينكر أن الطعام والشراب لذتان من لذائذ الحياة؟ ألم يعمل بكل ما وهبه الله من مقدرة على شفاء العُمْى والبُرْص والبُكْم، وقد كان ينبغى، لو كان ما نسبه له ذلك الراهب صحيحا، ان يُبْقِيَهم فيما هم فيه من هم وشقاء ومعاناة حتى يكون حظهم فى ملكوت السماوات عظيما؟ ألا يرى القارئ أن ما قاله الراهب الكذاب مجرد كلام فى الهواء لا مضمون له ولا مصداقية فيه؟(/11)
كذلك يدل على أن راوى الحدوتة كذاب أيضا فيما قاله عن الجسد وطيبات الحياة أنه يركز، فى مدحه للرهبان، على أشكالهم وملابسهم. ترى لو كان الجسد وما يتعلق به يمثل سوءا ونقمة على صاحبه، فلم اهتم ذلك الكذاب بحلاوة منظر الراهب فوصفه بقلمه مرة، وعلى لسان الشيوخ المسلمين مرة، بطريقة من ينظر إليه على أنه امرأة فاتنة تستهوى ألباب الرجال وعيونهم، فهو يزينها لهم كى ينكحوها؟ إنه يقدمه لنا على النحو التالى: "تَزَيَّنَ بشيبةٍ زاهرةٍ وأخلاقٍ عذبةٍ تتوق الألحاظ إلى معاينته"، كذلك فأبو ظاهر البغدادى يقول عنه: "كل ما عنده حسن وجميل، ووجهه صبيح ومليح". أوهذا كلام من يرى متع الدنيا مناقِضة للعاقبة الحسنى فى دار النعيم؟ جدير بالذكر فى هذا السياق أن نشير إلى ما كان يفعله بعض شياطين المسلمين فى الأزمان القديمة حين كانوا يقصدون الأديرة للفِسْق بالرهبان، وبخاصة الشبان منهم، ثم ينظمون فى هذا شعرا عجيبا حتى تكون الفضيحة بجلاجل. وهذا معروف للجميع، ومن يُرِدْ أن يستزيد من ذلك الموضوع فليقرأ مثلا كتب "الديارات"!
وبالمثل لا يمكن أن يصدّق إنسان أن الراهب يفقد عقله إلى المدى الذى يقول فيه للشيخ: "إننا عارفون أن الغضب والقتل عندكم سنّة لا تُعاب، وعادة بها تفتخرون، وقد قال بعضهم: دارِهم ما دمتَ في دارهم، وأَرْضِهم ما دمتَ في أرضهم... يا أبا سلامة نحن لا نورد مكان الصدق كذبا، وإنما نخشى أن تتصوّر، لغلظ طباعك، الحق كذبا". إن هذا لهو الجنون بعينه، لأن المسلمين لم يكونوا بالهوان الذى يسوّل لمثل هذا الراهب المنكوح أن يجبههم فى وجههم بتلك الكلمات القاسية المهينة. بل إن أحدا من النصارى الآن فى ظل التجبر الأمريكى الحالى والشماتة التى يبديها بعضهم فى أكمامه بالمسلمين لا يجرؤ أن ينطق بشىء من هذا فى مثل تلك الظروف، فما بالنا بالعصر الذى كان المسلمون يُنْزِلون فيه بالصليبيين الضربات تلو الضربات، وكانت ممالك هؤلاء الخنازير فى الشام وفلسطين تتقلص باستمرار وتنبئ الشواهد بأنهم عما قليل مكسوحون إلى بلادهم النجسة مثلهم؟ ثم ما معنى قوله لهم فى وجههم: "دارِهم ما دمت فى دارهم، وأَرْضِهم ما دمتَ في أرضهم"؟ أليس معناه أنه لا يقدر على مواجهتهم بما يريد أن يقوله؟ فكيف إذن يواجههم بل يجبههم بذلك الكلام القاسى المهين؟ بل كيف يفضح نفسه ويكشف عن خطته فى مداهنتهم واستغفالهم؟ ما رأيك يا أيها القمص المنكوح، يا من ظننت أنك ستفحمنى بإرسال هذه الحدوتة لى فى بريدى المشباكى؟ أجب يا ذا الدبر المقروح! ردّ يا من تتعذب ليلك ونهارك مما تسومك إياه اسْتُك التى تظل تدهنها بالأصفر والأحمر والأخضر تزيينا لها، والتى لا تكف عن التشنّج والتغنّج، والشهيق والنهيق، والزَّفِير والزَّحِير طول اليوم طلبا للسِّفَاد يا أيها الشائب العائب! أجب، لعنة الله عليك وعلى اسْتٍ تجشّمك كل هذا العذاب والهوان! ألا يمكن أن تفيق مما أنت فيه مرة فتعرف أن دبرك لم يعد صالحا للنكاح بعد أن شاخ كما شِخْتَ، وتهدَّل كما تهدل عقلك الزنخ، وفقد مرونته وخاصته المطاطية (elasticity)، وأن كل ما يمكن أن يصلح له الآن هو تحويله إلى مِبْصَقَة للتفّ والنفّ، أو إلى مِبْوَلَة لقضاء الحاجة؟ تصوروا القمص المنكوح وقد كُتِب عليه طول عمره أن ينام منتكس الوجه، وقد شرع دبره فى الهواء يتلقى فيه ما لذ وطاب، من ذلك السخام والهباب، ثم إذا ما امتلأت استُه المنتنة رَكَله المارة بأقدامهم فقَلَبوه على الناحية الأخرى وأخذوا يتفّون وينفّون ويتبولون فى فمه الأكثر نتانة؟(/12)
ومن البلاهة التى لا يحسن النصارى سواها فى الاختراع والتلفيق قول الراوى الأخطل إن الأمير، لما أفحم الأنبا النصرانىُّ الشيخَ المسلم، قد مال عليه وأسرّ له فى أذنه أن أمه نصرانية وأنه معه بعواطفه تماما، ثم لم يكتف بهذا بل خلع خاتمه الثمين وألبسه إياه فى إصبعه! يا سلام! ما كل تلك البراعة؟ ترى إذا كان كلام الأمير صحيحا، أكان رجال الحاشية وغيرهم من الحاضرين يجهلون هذا حتى يسارّ الراهبَ وحده به بما يفيد أن أيا منهم لم يكن يعلم بهذا الأمر؟ هل كان صلاح الدين مثلا قد تزوج بأم الأمير عرفيا وسهّاها وسرق منها الورقة حتى لا تستطيع أن تثبت عليه نفقة أو تحصل منه على إرث أو تنسب ابنه منه إليه كحكاية فلان وفلانة المغثية التى أضحت كاللبانة فى فم كل من هب ودب فى أيامنا هذه؟ ما رأيكم فى هذا أيها القراء؟ بل ما رأيكم فيما فعله الأمير من الميل بجسمه إلى الراهب والإسرار له فى أذنه بذلك السر الخطير دون الخشية من سماع المسلمين الموجودين له، وكأنه طفل من الأطفال قُبِض عليه متلبسا بسرقة لعبة زميله، فتراه يسارع إلى تخبئة يده خلف ظهره على مرأى من الحاضرين ظنا منه أنه بهذا يخفى الشىء المسروق عن العيون؟ أم هل كان المسلمون يغفرون للأمير ما فعله من الانتصار لنصرانى على مسلم؟ أوكانت تمر مثل هذه الواقعة مرور الكرام وكأن شيئا لم يحدث فلا يهيج بسببها العلماء والجمهور ولا يكتب فيها الكاتبون فيُبْدِئون ويُعِيدون؟ ومع ذلك كله فهؤلاء المناكيح يظنون أن بمقدورهم إقناعنا بهذا الهراء! أما واقعة خلع الأمير خاتمه من إصبعه ووضعه فى إصبع الأنبا فلا ريب فى أنها كانت ستكون مقنعة لو أنه، بدلا من إدخال الخاتم فى إصبع الأنبا، قد وضع إصبعه كله بالخاتم فى دبره (ودبر زيكو أيضا فوق البيعة حتى لا يغضب، وكله بثوابه!) فانحشر وبقى على هذا الوضع حتى مات وتخشّب إصبعه بالخاتم بداخل سرمه واستحال إخراجه من مكمنه (هنيئا لك يا أنبا جرجى! مكتوبة لك!)، فاضطروا أن يدفنوهما معا فى قبر واحد رغم اختلاف الدينين نزولا على حكم الضرورة، وإصبع هذا فى دبر ذاك، ولا عزاء لأى منكوحٍ سنكوح!(/13)
ولو سلمنا بما قيل عن تعاطف الأمير مع النصارى بسبب نصرانية أمه المزعومة التى تخلو كتب التاريخ من أى كلام عنها، بل هى من بنيات دبر الكاتب المفضوح، فهل كانت أم أخيه الظاهر ملك البلاد نصرانية أيضا؟ ولنلاحظ أنهما لم يكونا شقيقين كما وضحنا فى موضع سابق من هذه الدراسة، فكيف سكت ذلك الملك عن العَكّ الذى فعله أخوه الأمير والذى كان لا بد أن تكون له عواقب وخيمة على المملكة؟ وذلك بغض النظر عن قوة تشدده فى أمور الدين وعدم تساهله بوجه من الوجوه فى مثل هذه القضية. يقول ابن خلكان فى كتابه: "وفيات الأعيان": "كان ملكا مهيبا حازما متيقظا كثير الاطلاع على أحوال رعيته وأخبار الملوك، عالي الهمة حسن التدبير والسياسة باسط العدل محبا للعلماء مجيزا للشعراء"، وقال ابن العديم فى "زبدة الحلب" عما وقع فى مملكة صلاح الدين بعد وفاته: "واستقر ملك ابنه السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر يوسف بن أيوب لحلب، والبيرة، وكفر طاب، وعزاز، وحارم، وشيزر، وبارين، وتل باشر. واستقل بملك حلب، وأنعم على رعيته، واستمال قلوبهم بالإحسان، وعمل بوصية أبيه في الأفعال الحسان. وشارك أهل حلب في سرورهم والحَزَن، وقلد أعناقهم أطواق الأنعام والمنن، وجالس الكبير منهم والصغير، واستمال الجليل والحقير. وكان رحمه الله، مع طلاقة وجهه، من أعظم الملوك هيبة وأشدهم سطوة وأسدهم رأيا وأكثرهم عطاء. وكانت الوفود في كل عام تزدحم ببابه من الشعراء والقراء والفقراء وغيرهم. وكان يوسعهم فضلاً وإنعاما، ويوليهم مبرة وإكراما. ولم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد سيف الدولة بن حمدان ما اجتمع ببابه رحمه الله، وزاد على سيف الدولة في الحباء والفضل والعطاء"، وذكر ابن شداد فى "النوادر السلطانية" أن جماهير المقاتلة فى عكا (على أيام الناصر صلاح الدين، رضوان الله عليه) كانت تعتقد أن الله قد هيأ اندحار العدو ببركة قدوم الملك غازي، كما استبشر والده صلاح الدين به وعلم أن ذلك بصلاح سريرته، إذ وجد النصر مقرونا بقدومه مرّة بعد أخرى، وثانية بعد أولى. ومن المعروف أنه قد حضر مع أبيه معظم وقائعه مع الصليبيين الخنازير. وفى "ترويح القلوب بذكر ملوك بني أيوب" يورد المرتضى الزبيدي ما أثنى به ابن عربى عليه من أنه لم تُرْفَع إليه حاجة من حوائج الناس إلا سارع في قضائها من فوره من غير توقف كانت ما كانت. وكان الملك مريدا لذلك الشيخ وحصل منه على إجازة في العلم توجد مخطوطتها فى مكتبة الأسد الوطنية (مخطوط رقم 6284) حسبما كتب أسعد الخطيب فى مقاله: "الإطار الدّفاعي عِندَ الصُّوفيَّة" بموقع "التصوف الإسلامى". فمثل هذا الملك لم يكن ليسكت على كفر أخيه المزعوم لو كان ما قالته الحدوتة صحيحا، وهو ما لا يمكن أن يكون قد حدث قط، اللهم إلا فى دبر الراهب ودبر كاتب الحدوتة، ذلك أن دبريهما ليس عليهما جُنَاح ولا يتقيدان بقانون!
ولو افترضنا أن تلك المجادلة وذلك الكتاب الذى ضمّها صحيحان، فكيف نفسر سكوت علماء المسلمين عن كتابة رد على تلك الشبهات التى أوردها الراهب المنكوح؟ لقد كتب مثلا ابن كمونة اليهودى بعد ذلك التاريخ ببضعة عقودٍ قليلةٍ كتابه: "تنقيح الأبحاث للملل الثلاث" الذى تعرّض فيه لليهودية والنصرانية والإسلام وأورد بعض الاعتراضات على دين محمد عليه السلام وعلى نبوته، فهب على الفور خواجة نصير الدين الطوسى وكتب تفنيدا لها بعنوان"الردّ على شبهات ابن كمونة" رغم أن ابن كمونة إنما عبّر عن رأيه كتابةً ولم يقله فى مناظرةٍ عامةٍ انتهت بهزيمةٍ مدويةٍ ومخزيةٍ للجانب المسلم كما يزعم كاتب المجادلة، فضلا عن أن اعتراضاته على الإسلام كانت أهدأ جدا جدا مما قاله الأنبا جرجى فى مجادلته حسبما كتب مدوّنها الموهوم. فإذا أضفنا أن ابن كمونة كان يعيش فى بغداد حيث كانت الخلافة العباسية ضعيفة وحيث كان المسلمون بعيدين عما يجعل وقع كلام ابن كمونة على نفوسهم عنيفا كما هو الحال فى دولة بنى أيوب قائدة الصراع الدامى مع الصليبيين، وأن المسلمين هاجوا وماجوا يريدون البطش باليهودى مما استدعى تدخل كبار رجال الدولة وكبار علمائها بغية محاصرة المسألة التى لم تنته مع ذلك إلا بتهريب ابن كمونة فى صندق مجلَّد إلى الحِلّة، التى مات فيها بعد ذلك بأيام طبقا لما كتبه ابن الفوطى فى كتابه: "الحوادث الجامعة والتجارب النافعة فى المائة السابعة" فى حوادث سنة 683 للهجرة، إذا فعلنا ذلك تبين لنا أن سكوت المسلمين وعلمائهم على هذه المهزلة غير مستطاع التصديق لأنه مما يخالف طبائع الأمور، ودَعْنا من الكذبة البلقاء التى كذبها الكاتب المدلس حين ادعى أن ابن صلاح الدين مالأ النصارى فى تلك الواقعة ضد المسلمين!(/14)
ولم يكن الرد على كتاب ابن كمونة شيئا استثنائيا فى تاريخ الثقافة الإسلامية، بل هو القاعدة، وأستطيع أن أذكر من محفوظى الآن "الرد على النصارى" للجاحظ (الذى أعدت كتابته من جديد كما لو كان الجاحظ يعيش فى عصرنا الآن، بعنوان "مع الجاحظ فى رسالة الرد على النصارى")، و"الرد على ابن النغريلة اليهودى" لابن حزم، وجواب القاضى أبى الوليد الباجى على رسالة راهب فرنسا التى دعا فيها حاكم سرقسطة المسلم إلى النصرانية، وكتاب أبى عبيدة الخزرجى فى الرد على قسيسٍ قُوطِىّ كان يحاول تشكيك المسلمين فى عقيدتهم فألف رسالة بهذا المعنى أَعْطَوْها لأبى عبيدة فكتب يفنّدها تفنيدا صاعقا، ويتهكم بصاحبها ودينه تهكما ماحقا، ويفضح ألاعيب رهبان النصارى ومخاريقهم التى يموهون بها على عامتهم بسبب افتقار عقيدتهم إلى أساس عقلى يسنده، و"إظهار الحق" لرحمة الله الهندى، ورد قاسم أمين على دوق داركور، ورد محمد عبده على هانوتو، وكذلك رده أيضا على فرح أنطون، و"ما يقال عن الإسلام" للعقاد، وما كتبه العبد الضعيف فى "المستشرقون والقرآن" و"دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" و"عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين" وغيرها... إلخ. فكيف بعد ذلك كله يريدنا القمص المنكوح ذو الدبر المقروح، وكذلك راهبه المنفوخ ذو الدبر المشروخ، لنصدق أن المسلمين يمكن أن يسكتوا على هذا التجاوز الذى فاق كل تصور من بعض نصارى الدولة الأيوبية، وفى حضرة واحد من أكبر أمرائها؟ ولماذا نذهب بعيدا، وبين أيدينا مثال القمص المنكوح نفسه وكيف أن شبان المسلمين قد كتبوا فى الرد عليه رسائل ومقالات تفحمه وتسد فمه ودبره سدا منيعا، بل أنشأوا أيضا مواقع مشباكية تفند كل ما يقول، ومعظمهم غير متخصص فى هذا المجال، بل إن كثيرا منهم لم تكن له قبل هذا اهتمامات خاصة بالدين أو بالدفاع عنه، إلا أن قلة أدبه ونتانة فمه واسْته قد استفزتاهم إلى نصرة دينهم والذب عن كتابهم المجيد ورسولهم الكريم!
وإلى نقطة أخرى فى هذه الحدوتة المصنوعة التافهة ننتقل لنقرأ الحوار التالى: "قال الراهب: ... قل يا أبا سلامة: ألا تقرّ أن الله خلق الخلائق كلها؟
قال المسلم: نعم. ما في السموات والأرض خلقه الله تعالى بأمره وكلمته.
قال الراهب: فهل يوجد عالمٌ خلقه الله، وعالم خلقه إله آخر؟
قال المسلم: لا. ولكن العالم كلّه خلقه إله واحد، وهو الله الذي نعبده، ولا إله سواه.
قال الراهب: فهل ترى أن الله يشاء خلاص العالم كلّه أم يؤثر خلاص أمّة واحدة من خلقه وهلاك سواها؟ أو لا تقرّ أنه غني كريم جوّاد؟ فإن قلتَ أنه تعالى لا يؤثر خلاص العالم كله فقد نسبت الباري تعالى عز وجلّ إلى الفقر أو البخل كإنسان أعدّ طعاما لمائة رجل فلما حضره مائة غيرها قال للمائة الأخيرة: انصرفوا عني، فما يوجد عندي لكم طعام. فيدل هذا على فقر ذلك الإنسان أو بخله.
قال المسلم: إن الله يتعالى عمّا وصفت، وإنّي أقرّ وأعترف إنه غنيّ كريم جوّاد خالق الخلائق بأسرها ومؤثر خلاصها.
قال الراهب: فإذا كان الله يشاء خلاص العالم كلّه فيجب أن يكون رسوله إلى العالم كلّه لا إلى أمّة واحدة".(/15)
حلوٌ جدا! لقد وقعتم ولم يُسَمِّ أحد عليكم أيها الكذابون: لا باسم الله الرحمن الرحيم ولا باسم الآب والابن والروح القدس، ومن فمكم وكتابكم لا من فمنا ولا من كتابنا ندينكم ونُرِى الناس جميعا أنكم أغبياء لا تفقهون ولا عقل لديكم به تفكرون. ترى أى الرسولين الكريمين هو الذى قال إنه إنما بُعِث لأمته فقط، وأيهما هو الذى قال إنه بُعِث للناس كافة؟ الإجابة التى لا يمكن أن يجادل فيها إنسان، أو حتى حيوان مثلك أيها الكاتب الكذاب، تتلخص فى أن الأول هو عيسى بن مريم، والآخر هو محمد بن عبد الله، عليهما جميعا الصلاة والسلام. وهذه هى الشواهد لمن يريد من الحمقى رغم ذلك أن يجادل: فعلى حين نسمع المسيح يقول بصيغة الحصر والقصر إنه لم يُرْسَل إلا لخراف بنى إسرائيل الضالة، نجد القرآن المجيد منذ العصر المكى يقول عن سيد الأنبياء والمرسلين: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا"... إلخ، كما أشار صلى الله عليه وسلم مرارا إلى طبيعة مهمته وأنها مهمة عالمية وليست خاصة بالعرب وحدهم وأن هذا مما تتميز به رسالته على رسالات الرسل السابقين، على عكس السيد المسيح الذى تحكى لنا الأناجيل نفسها أنه لما طلبت منه المرأة الكنعانية أن يساعدها رفض وأسمعها تلك الكلمة القاسية الفظة المفعمة بالاحتقار والتكبر والتجبر، وهى أن خبز البنين لا يؤخذ فيُطْرَح للكلاب. والبنون هنا هم بنو إسرائيل، أما الكلاب فهم الأمم الأخرى، ومنها تلك المسكينة التى لم تجد بدا من إظهار استعدادها لتجرع كؤوس المهانة والتحقير حتى آخر قطرة، فقالت له إن الكلاب تصيب أيضا من فتات الطعام المتساقط من المائدة على الأرض، فعند ذلك رَضِىَ المسيح بعد أن أعجبه كلامها الذليل، وقَبِلها على سبيل الاستثناء ليس إلا. وقد أكد كلامه مرة أخرى تأكيدا صريحا على سبيل المخالفة: "5هؤُلاَءِ الاثْنَا عَشَرَ أَرْسَلَهُمْ يَسُوعُ وَأَوْصَاهُمْ قَائِلاً:«إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا، وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ" (متى 10). ولا يقولن قائل إنه قد غير كلامه فى آخر حياته حين طلب من تلاميذه أن ينطلقوا ليبشروا بالإنجيل بين الأمم، إذ إن هذا لو صدقنا حدوثه لم يكن إلا بعد أن يئس عليه السلام من "البنين" فاضطر إلى اللجوء لـ"الكلاب" على مضض وكراهية وقنوط، بخلاف محمد عليه السلام الذى كان يجمع حوله من البداية الرجال والنساء من غير العرب كما هو معروف مفسحا لهم فى صدره وقلبه وعطفه وكرمه وحنانه ومبادئه دون مَنٍّ عليهم ولا أذى ولا نَبْزٍ لهم بالكلاب أو الخنازير، وكان منهم الحبشى، والرومى، والفارسى: محمد الذى قال إنه لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى والعمل الصالح، فلا بنين عنده ولا كلاب، بل الكل أبناء الله الرحيم الكريم! محمد الذى جعل من سلمان الفارسى واحدا من أهله: "سلمان منا أهل البيت"! محمد الذى قام عند مرور جنازة يهودى بمجلسه قائلا لمن استغرب ذلك من أصحابه: أليست نفسا؟ ولم يقل: دعوكم منه، فإنه كلب ابن كلب؟...إلخ.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم قد أتبع القول بالعمل فبعث برسائل إلى ملوك الأرض من حوله يدعوهم فيها إلى الإسلام، أما عيسى فلم يخرج عن دائرة بعض المدن الفلسطينية التى كان يتحرك فيما بينها على الأقدام، ولم يحدث قط أن دعا أحدا من غير بنى إسرائيل إلى آخر لحظة فى حياته على الأرض. وهذا إن قبلنا رواية الأناجيل عن تغير اتجاه الريح فى دعوته عليه السلام، وإلا فلنلاحظ أنه، حين نص على أن رسالته مقصورة على البنين ولا نصيب فيها للكلاب أولاد الكلاب، قد قال: لَمْ أُرْسَل إلا إلى خراف بنى إسرائيل الضالة. فهو هنا ينص نصًّا على أن هذه طبيعة مهمته، وأن هذا هو نطاقها لا يمكنها أن تتعداه لأن ذلك هو ما أرسله الله من أجله. فالقرار إذن هو قرار الله، بخلاف أمره هو لتلامذته بالانطلاق إلى الأمم لتبشيرهم بالدعوة الجديدة، الذى لا يعكس إلا قراره هو، وإلا لقال إن الله سبحانه قد غير الأوضاع وأمركم بالخروج من نطاق المحلية إلى نطاق البشرية كلها. ولا أحب أن أتوقف كثيرا عند قوله إنه لم "يُرْسَل" إلا إلى خراف بنى إسرائيل، بما يعنى أن هناك من أرسله، وهو الله. أى أنه ليس أكثر من عبد لله ورسول كريم من رسله لا أنه هو الله نفسه، تعالى الله عن ذلك، وإلا فكيف يرسل نفسه بنفسه؟ ولا أزيد عن هذا هنا لأن السياق ليس سياق المناقشة لألوهيته المدَّعاة عليه الصلاة والسلام.
ويستمر الأنبا المزعوم فى الكلام قائلا: "وكذلك يجب على كلّ من نادى على نفسه وقال إنه رسول من الله أن يكون معه قوّة مرسِلِه ودليل يشهد له أنه رسول من الله.
قال المسلم: وما القوّة والدليل؟
قال الراهب: التي كانت في رسل المسيح.
قال المسلم: وما هي؟(/16)
قال الراهب: هي ثلاثة خصال: اجتراح المعجزات، والتكلم بسائر اللغات، والمناداة في الدنيا كلها. وأنتم لكم ثلاثة خصال تضاد هذه.
قال المسلم: وما هي؟
قال الراهب: التهديد بالسيف، والترخيص، والإقناع السفسطي أو الخيالي. وهذه ثلاثة الخصال وُجِدَت في محمد.
والتفت الراهب إلى الأمير وقال له: أعزّك الله أيّها الأمير. إن حضر لديك في وقتنا هذا إنسان يقول عن نفسه إنه رسول من الخليفة أرسله إليك في أمر من الأمور ولم يوجد معه كتاب من الخليفة ولا خاتمه ولا علامته ولا ما يدل عليه، فهل كنتَ تصدّقه إنه رسول من الخليفة؟
قال الأمير: لا. ويؤخذ عندي والله تحت الذنب والعقوبة.
قال المسلم: وما هو الدليل والبرهان على أن رسل المسيح كان فيهم هذه القوات والخصال من افتعال المعجزات والتكلم بسائر اللغات والمناداة في الدنيا كلّها؟
قال الراهب: الدليل حاضر بين يديك، والبرهان واضح أمام عينيك. لأنك إن مضيت إلى الشرق، وإن ذهبت إلى أقاصي الغرب، وإلى آخر الجنوب والشمال، فإنك تجد عبادة المسيح في أقاصي الأرض، ولا يوجد إقليم من أقاليم الأرض يخلو من عباد المسيح. وهذا الدليل الواضح على أن رسل المسيح طافوا الأرض جميعها من أقصى الأقطار إلى أقصاها. والدليل على أنهم تكلّموا بسائر اللغات أنك لا تجد أمّة ولا لغة ولا لسانا إلا وقد نودي فيها باسم المسيح وعبدوا فيه المسيح. وداود النبي قد تنبأ قبل رسل المسيح بأجيال كثيرة على تكلّم الرسل بسائر اللغات وقال (مز 18، 5): "في كل الأرض خرج نطقهم، وفي جميع المسكونة انبثّ كلامهم". وهذا دليل واضح على أن الحواريين تكلموا بسائر اللغات. فهل عندك يا أبا سلامة في هذا شكّ؟
قال المسلم: هذا أمر ظاهر لا شكّ فيه".(/17)
وهذا الرد المنسوب للشيخ المسلم هو كذبٌ فى كذبٍ فى كذبٍ، كذبٌ بالثلث، إذ لا يمكن أن يقول ذلك مسلم أبدا، وإلا فأين الدليل الذى يقيم عليه تصديقه وتسليمه بمثل هذه الدعوى التى لم يتحدث أحد على ظهر الأرض عنها غير أصحابها، فهم إنما يغنّون ويردون على أنفسهم: ترى كيف يمكن أن يجيب المسلم على هذه الدعوى العريضة المستحيلة بأن "هذا أمر ظاهر لا شكّ فيه"؟ كيف بالله يكون ذلك أمرا ظاهرا لا شك فيه؟ أين الدليل؟ لقد مات الرسل المذكورون وشبعوا موتا ولم يرهم الشيخ المسلم وهم يجترحون المعجزات فَشَر الحواة فى السيرك، ويتكلمون باللغات المختلفة ولا مترجمو الأمم المتحدة، فكيف يشهد لهم بذلك ويؤكده وينفى عنه الشك نفيا مطلقا كما فى الكلام المزور على لسانه؟ والله إن هذا لهو البله بعينه من هؤلاء الحمقى الذين يظنون أن المسلمين يجرون على سنتهم فى تصديق مثل تلك الخرافات دون عقل أو دليل، بل رغم كل عقل ودليل! ثم متى كان المسلمون يستخدمون لفظ "قوات" بمعنى "معجزات" كما ورد على لسان الشيخ هنا؟ إنه مصطلح نصرانى لا يعرفه الإسلام، وهذه شواهده من العهد الجديد: "كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك اخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة" (متى/ 7/ 22)، "حينئذ ابتدأ يوبّخ المدن التي صنعت فيها اكثر قواته لانها لم تتب" (متى/ 11/ 20)، "فسمع هيرودس الملك. لان اسمه صار مشهورا. وقال ان يوحنا المعمدان قام من الاموات ولذلك تعمل به القوات" (مرقس/ 6/ 14)، "ويل لك يا كورزين. ويل لك يا بيت صيدا. لانه لو صنعت في صور وصيدا القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديما جالستين في المسوح والرماد" (لوقا/ 19/ 27)، "ايها الرجال الاسرائيليون اسمعوا هذه الاقوال. يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما انتم ايضا تعلمون " (أعمال الرسل/ 2/ 22)، "ولآخَر عَمِل قوات. ولآخَر نبوةً. ولآخر تمييزَ الارواح. ولآخر انواعَ ألسنة. ولآخر ترجمة ألسنة" (كورنثوس/ 12/ 10)، "شاهَدا الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس حسب ارادته" (عبرانيين/ 2/ 4). أما بالنسبة للتراث الإسلامى فقد بحثت عن هذه الكلمة فى مئات الكتب الموجودة فى مكتبة قرص "الموسوعة الشعرية" فلم أجدها إلا مرة واحدة فى كتاب يرجع إلى القرن الخامس عشر، أو أواخر الرابع عشر على أبعد تقدير، وهو كتاب "العقود اللؤلؤية فى تاريخ الدولة الرسولية" لعلى بن الحسن الخزرجى اليمنى، وفى معنى لا علاقة بـ"المعجزات" على الإطلاق، وهو "الجنود". ومعروف أنها لم تأت فى القرآن ولا فى أحاديث الرسول عليه السلام بأى معنى من المعانى. وعلى هذا فالكلام المنسوب إلى الشيخ ليس له بكل يقين، بل هو كلام مزيف كسائر الحدوتة! أما أن النصرانية قد انتشرت فى البلاد المختلفة فهذا يصدق على الإسلام أيضا، وعلى كثير من الديانات الأخرى كذلك، وإن لم يكن انتشارها بهذه السعة التى نلاحظها فى الإسلام. ولا ننس أن انتشار النصرانية فى ثلاث قارات من قارات العالم إنما تم بالمحق والمحو والاستئصال، وبمساعدة ومباركة القساوسة والأساقفة الذين كانوا يصاحبون القادة الأوربيين فى اجتياحهم المدمر للأمريكتين وأستراليا رافعين الصليب بيد، وممسكين الأناجيل باليد الأخرى، وكل ذلك باسم السيد المسيح كاره الكلاب ومحتقرهم ومذلهم وماسح كرامتهم بالأرض! أم تراه يقول إن رسل المسيح هم الذين نشروا النصرانية فى الأمريكتين وأستراليا والفلبين والروسيا وجنوب أفريقيا بعبقريتهم فى التحدث باللغات المختلفة دون تعلمهم لها من قبل وعَمَلِ القوات العجيبة التى كانوا يشدهون بها العيون؟ إننا بطبيعة الحال لا نصدق شيئا مما يروى عن عيسى بن مريم فى هذا الصدد، لكننا إنما نجادل أصحابنا برواياتهم وأقوالهم هم لا بما عندنا من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ترفعه عليه السلام مكانا عاليا بين البشر والنبيين، وإن لم يصل لا هو ولا سواه من المرسلين إلى مقام الزعامة النبوية المحمدية، على الرسل جميعا أفضل الصلوات وأطيب التسليمات. وبالمناسبة فلدينا أكداس وأكداس من روايات المعجزات والكرامات منسوبة إلى الصحابة والتابعين والمتصوفة والزاهدين، ونحن على استعداد أن نعطيك منها بالقُفّة إذا أرت، لكننا نغضى عن هذا كله لأن كل ذلك قد ذهب مع التاريخ ولم يبق إلا ما يخاطب العقل المجرد والقيم التى دعا إليها كل من محمد وعيسى عليهما السلام حسبما وردتنا فى كتاب كل من الديانتين مما يمكن أن نتخذه فيصلا للمفاضلة بينهما.(/18)
بقى أمر فى هذه النقطة، ألا وهو قول الملفق الكذاب عن الحواريين إن داود قد تنبأ بأنهم سوف ينطقون بكل الألسنة، وإن كان قد نسى المغفل أن يوضح لنا هل كانت الشهادة المضروبة المنسوبة لداود مختومة بخاتم النسر الموجود فى الأرشيف فى عهدة الأستاذ عَبْعَاطِى البيروقراطى الذى يفتّح مخه دائما بسيجارة لا راحت ولا جاءت من نوع "الوينجز"، تلك السيجارة التى كان الشبان من قريتى أيام التلمذة يفسرون رَمْزَىْ "ب. و" المكتوبين عليها بأن معناهما: "بيئة واطية"، على اعتبار أن الوينجز هى أردأ أصناف السجائر وأرخصها، ومن ثم لا يعفّرها إلا الآتون من "بيئة واطية" كمؤلف الحدوتة التى بين أيدينا. وهذا نص ما قاله الأنبا المنكوح سَلَف قمّصنا ذى الدبر المقروح، لعن الله السالف والخالف جميعا: "وداود النبي قد تنبأ قبل رسل المسيح بأجيال كثيرة على تكلّم الرسل بسائر اللغات وقال (مز 18، 5): في كل الأرض خرج نطقهم، وفي جميع المسكونة انبثّ كلامهم".
وتعليقى على ذلك أولا: أن الإحالة فى كلام الراهب المزيف إلى كتابه المقدس خاطئة، فالنص ليس موجودا فى المزمور الثامن عشر بل فى التاسع عشر، كما أن الفقرة المعنيّة ليست هى الخامسة بل الرابعة. وهذه نقطة نظام أحببت أن أشير إليها فى بداية التعليق كى يفهم القاصى والدانى أن ما قاله مؤلف الحدوتة الساذجة عن عِلْم الأنبا جرجى بالقرآن والإسلام هو "أى كلام، يا عبد السلام"، إذ ها هما الاثنين لا يعرفان حتى مواضع النصوص التى يستشهدان بها من كتابهما المقدس، فكيف بحال الراهب مع كتابنا نحن، وهو غير مقدس عنده بحال؟ ثانيا: هذا الكلام (إن صدّقْنا بما يقوله المؤلف الأبله عن النبوءة) لا يعنى أبدا أن الرسل المذكورين كانوا يتكلمون باللغات المختلفة، بل كل ما هنالك أن كلامهم قد انتشر فى كل الأرض، أما بـ"كَمْ لغة" فلا ذكر لشىء من هذا على الإطلاق. والذى يتبادر إلى الذهن هنا وفى كل النصوص المشابهة هو أن كلامهم قد تُرْجِم لمن لا يعرفه. ثالثا، وهى القاصمة: أن كلام داود لا صلة له بتاتا برسل المسيح ولا بأى رسل من أية ملة أو دين، بل هو كلام عن السماوات والأفلاك التى تتحدث دون كلام عن صانعها سبحانه وتعالى وعظمته، فهى تتكلم ولا تتكلم، تتكلم بلسان الحال، وإن لم تتكلم بلسان المقال، وهو ما يشبه قوله تعالى فى الآية الرابعة والأربعين من سورة "الإسراء": "وإِنْ مِنْ شىءٍ إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم". وهذا هو النص فى سياقه كيلا يفتح فمه أى عيّار بعد ذلك: "1اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ. 2يَوْمٌ إِلَى يَوْمٍ يُذِيعُ كَلاَمًا، وَلَيْلٌ إِلَى لَيْل يُبْدِي عِلْمًا. 3لاَ قَوْلَ وَلاَ كَلاَمَ. لاَ يُسْمَعُ صَوْتُهُمْ. 4فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ. جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَنًا فِيهَا، 5وَهِيَ مِثْلُ الْعَرُوسِ الْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ. يَبْتَهِجُ مِثْلَ الْجَبَّارِ لِلسِّبَاقِ فِي الطَّرِيقِ. 6مِنْ أَقْصَى السَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا، وَمَدَارُهَا إِلَى أَقَاصِيهَا، وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا". وهذه هى طريقة القوم فى المجادلة عن دينهم: سذاجة ما بعدها سذاجة، ثم يريدون من الآخرين أن يخرّوا على ما يقولونه لهم عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا، فلا تفكير ولا استعمال للعقل، بل إيمان أعمى متعصب يقوم على ترديد المحفوظات والعبارات الإنشائية التى لا معنى لها. وقد كتبتُ ما كتبتُ بناء على قراءتى الهادئة الواعية للنص الكتابى، ثم لم أكتف بهذا بل رجعت إلى بعض التفاسير المشهورة للكتاب المقدس، فكانت هذه النقول التالية التى تبين بأجلى بيان أن ذلك هو المعنى المنطقى للكلام المنسوب لداود عليه السلام:
1- Commentary Critical and Explanatory on the Whole Bible:
Psalms 19:1-14. After exhibiting the harmonious revelation of God's perfections made by His works and His word, the Psalmist prays for conformity to "the glory of God."
1. the glory of God--is the sum of His perfections (Psalms 24:7-10, Romans 1:20).
firmament--another word for "heavens" (Genesis 1:8).
handywork--old English for "work of His hands."
2. uttereth--pours forth as a stream; a perpetual testimony.
3. Though there is no articulate speech or words, yet without these their voice is heard.
4. Their line--or, "instruction"--the influence exerted by their tacit display of God's perfections.
2- The 1599 Geneva Study Bible:
19:4 Their d line is gone out through all the earth, and their words to the end of the world. In them hath he set a tabernacle for the sun,(/19)
(d) The heavens are as a line of great capital letters to show God’s glory to us.
3- Matthew Henry Concise Commentary on the Whole Bible:
Verses 1-6 The heavens so declare the glory of God, and proclaim his wisdom, power, and goodness, that all ungodly men are left without excuse. They speak themselves to be works of God's hands; for they must have a Creator who is eternal, infinitely wise, powerful, and good. The counter-changing of day and night is a great proof of the power of God, and calls us to observe, that, as in the kingdom of nature, so in that of providence, he forms the light, and creates the darkness, ( Isaiah 45:7 ) , and sets the one against the other. The sun in the firmament is an emblem of the Sun of righteousness, the Bridegroom of the church, and the Light of the world, diffusing Divine light and salvation by his gospel to the nations of the earth. He delights to bless his church, which he has espoused to himself; and his course will be unwearied as that of the sun, till the whole earth is filled with his light and salvation. Let us pray for the time when he shall enlighten, cheer, and make fruitful every nation on earth, with the blessed salvation. They have no speech or language, so some read it, and yet their voice is heard. All people may hear these preachers speak in their own tongue the wonderful works of God. Let us give God the glory of all the comfort and benefit we have by the lights of heaven, still looking above and beyond them to the Sun of righteousness.
وعجيب، بعد ذلك كله، أن يستشهد الأنبا المزعوم هنا بداود، داود الذى يصوّره العهد القديم (أستغفر الله) بصورة المجرم القرارى الزانى الفاجر قتّال القَتَلة. أفلم يجد إلا هذا كى يستعين به فى التدليل على أن ما يقوله هو عن رسلهم صحيح؟ المتعارف عليه أن الإنسان، إذا ما كان عليه أن يحضر شهودا لنصرة قضية له، فلا بد أن يختارهم ممن يوثق بكلامهم لما اشتهروا به من صدق واستقامة وعفة ونزاهة وخلق طيب كريم لا ترتقى إليه الشبهات. وأين داود من هذا؟ داود الذى ورد ذكره فى العهد القديم لا داود الذى يثنى عليه القرآن المجيد ويبرئه من أى دنس أو إجرام! وعجيب أيضا أن يرسم ملفق الحدوتة للمشايخ الثلاثة صورة مضحكة تدل على جهلهم وسذاجتهم، منتهزا فرصة أنهم نكرات لم يسمع بهم أحد، إذ لا وجود لهم فى كتب التاريخ والتراجم. بيد أن هذه الصورة التى رسمها لهم تتناقض، رغم ذلك، مع ما تركه المفكرون المسلمون السابقون على العصر الأيوبى من مؤلفات غزيرة وعظيمة فى مقارنة الأديان والرد على النصارى لم تغادر شاردةً ولا واردةً مما عند القوم إلا وبينت عُوَارها وتهافتها وساقت الحجج المفحمة التى تكسحها كسحا. إن لدينا، والحمد لله، قائمة طويلة من المؤلفات فى هذا الميدان ثرية غاية الثراء تركها علماؤنا العباقرة الأفاضل، فكيف يتصور مؤلفُ تلك الحكايةِ الساذجةِ أن بمستطاعه إيهامنا بجهل أولئك المشايخ (الذين يسميهم: "أئمة المسلمين") بذلك التراث الجدالى العظيم، وسطحية تفكيرهم إلى هذا الحد الهزلى؟ وهذه قائمة بأهم الكتب السابقة على تاريخ المجادلة المزعومة، ولا أقول شيئا عما أُلِّف بعدها من كتب فى ذات الموضوع، وهى منقولة عن موقع "ملتقى أهل التفسير":
* كتاب على عمار البصري النصراني لأبي الهذيل العلاف المعتزلي. مفقود.
* كتاب جواب قسطنطين عن الرشيد, لمحمد بن الليث الخطيب. منشور.
* رد على النصارى لضرار بن عمرو المعتزلي. مفقود.
* رد على النصارى لعيسى بن صبيح المردار. مفقود.
* كتاب على أبي قرة النصراني لعيسى بن صبيح المردار.
* رد على النصارى لحفص الفرد. مفقود.
* رد على النصارى لأبي عيسى محمد بن هارون بن محمد الوراق: أكبر وأوسط و أصغر.
نشر منه جزآن في بريطانيا بجامعة برمينجهام على يد دافيد توماس.
* كتاب على النصارى لأبي جعفر الإسكافي. مفقود.
* كلام على النصارى للنظّام المعتزلي. مفقود.
* كلام على في كتاب المعونة لأبي بكر أحمد بن علي بن الأخشاد المعتزلي. مفقود
* الرد على النصارى ليعقوب بن إسحاق الكندى. محفوظ في رد يحي بن عدي النصراني عليه.
* رد على النصارى لعمرو بن بحر الجاحظ. حُفِظ مختار منه وطُبِع ثلاث مرات.
* الرسالة العسلية في الرد على النصارى للجاحظ. مفقودة.
* رد على النصارى لأبي القاسم ترجمان الدين الحسني الشيعي (ت 246هـ). منشور مرتين.
* الحجة على النصارى لمحمد بن سحنون المالكي (ت 256هـ). مفقود.(/20)
* رد على أصناف النصارى لعلي بن ربّن الطبري. قطعة وحيدة منه منشورة في بيروت سنة 1959م بجامعة القديس يوسف، وحفظت نصوص منه في رد ابن العسال النصراني, وترجمه كوديل إلى الفرنسية عام 1996م.
* الدين و الدولة لعلى بن ربَّن الطبري. مطبوع بتحقيق منيانا، وأعاد نشره عادل نويهض.
* رد حميد بن سعيد بن بختيار المتكلم على مَطران فارس المسمى يوشع بخت. مفقود.
* كتاب لحميد بن سعيد بن بختيار المتكلم رد فيه على النصارى في مسألة النعيم و الأكل و الشرب في الآخرة وعلى جميع من قال بضد ذلك. مفقود.
* رد على النصارى للقحطبي. مفقود.
* رد على النصارى للحسن بن أيوب, وهو كتاب إلى أخيه علي بن أيوب يبين فيه فساد مقالات النصارى و تثبيت النبوة. محفوظ جله في الجواب الصحيح لابن تيمية, وقد حقق مستقلا في هولندة كرسالة دكتوراه.
* الكلام على النصارى مما يحتج به عليهم من سائر الكتب التي يعترفون بها لأبي الحسن الأشعري.
* رد على النصارى (ناقص) لمؤلف مشرقي من القرن الرابع. نشر مع دراسة عنه بالفرنسية بمجلة دراسات إسلامية.
* الإعلام بمناقب الإسلام لأبي الحسن العامري (ت381ه)ـ مطبوع.
* كلام على النصارى للقاضي أبي بكر الباقلاني (ت 403هـ) في كتاب التمهيد، له. مطبوع.
* رد على النصارى للقاضي عبد الجبار المعتزلي ضمن كتابه تثبيت دلائل النبوة. مطبوع.
* كلام على النصارى في كتاب المغني ج 5 للقاضي عبد الجبار المعتزلي.
* الرد على أناجيل النصارى لابن حزم. مذكور في سير أعلام النبلاء للذهبي.
* إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بين أيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل، لابن حزم.(جذوة المقتبس للحميدي).
* مناظرة الحسن ابن بقي المالقي صديق ابن حزم لنصراني. موجودة.
* مناظرة لابن حزم مع قاضي نصارى قرطبة حول الأكل والشرب في الجنة. نشرتها على الملتقى المفتوح.
* مناظرة ابن الطلاع القرطبي لنصراني من طليطلة. مفقودة.
* قصيدة في الرد على نقفور فوقاس لابن حزم. ورد نصها في فهرسة ابن خير، والبداية و النهاية لابن كثير، و طبقات الشافعية الكبرى.
* جواب أبي الوليد الباجي (ت 474هـ) على رسالة راهب إفرنسة. نشرت أربع مرات اعتمادا على مخطوطة وحيدة في الأسكوريال رقم 538.
* شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل لأبي المعالي الجويني (ت 478هـ). منشور مرتين.
* إفحام النصارى لابن جزلة المتطبب (ت 493هـ). مفقود.
* رسالة ابن جزلة ( أبو علي يحيى بن عيسى) كتبها إلى إليا القس. مفقودة.
* الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل لأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ). نشر ثلاث نشرات مختلفة.
* رسالة ميزان الصدق المفرق بين أهل الباطل وأهل الحق، إملاء أبي مروان عبد الملك بن مسرة بن عزيز اليحصبي قاضي الجماعة بقرطبة (ت 552هـ) في مجاوبته عن كتاب أساقفة النصارى إليه مع قصيدة له نظمها في معنى هذه الرسالة (فهرسة بن خير ص 373). مفقود.
* مقامع الصلبان لأبي جعفر أحمد بن عبد الصمد الخزرجي القرطبي (ت582هـ). طبع مرتين.
* قصيدة في الرد على نقفور فوقاس عظيم الروم، للفقيه أبي الأصبغ عيسى بن موسى ابن عمر بن زروال الشعباني ثم الغرناطي. توفي قبل سنة 575هـ (فهرسة ابن خير ص 368 رقم 1145). مفقودة.
* كتاب في الرد على النصارى للرهاوي (ذكره صالح بن الحسين الجعفري صاحب التخجيل لمن حرف الإنجيل).
* كتاب في الرد على النصارى لخلف الدمياطي (ذكره الجعفري صاحب التخجيل).
* الرد على المتنصر لأبي الطاهر ابن عوف المالكي (ت 581هـ).
* الداعي إلى الإسلام للأنباري (ت 577هـ) (فيه فصل في الكلام على النصارى). مطبوع.
* النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية لنصر بن يحيى بن سعيد المتطبب. مطبوع.
* مناظرة في الرد على النصارى لفخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 606هـ). مطبوعة.(/21)
ومما جاء على لسان الأنبا جرجى أيضا فى المجادلة المزيفة المصنوعة قوله: "فقد شهدت السماء والأرض والملائكة والناس والملوك والعوام والجاهل والعاقل أن الحواريين رسل الله تعالى وأنصار دينه الحق الصادق. ونبيك محمّد يشهد لهم ويحقّق قولهم وإنجيلهم بقوله في القرآن: "إننا أنزلنا القرآن مصدّقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل". فإذا كان نبيّك وكتابك قد صدَّق الإنجيل فقد لزمك أنت أيضا أن تصدّقه، وإن كذبته فقد كذّبت نبيّك وكتابك". وجوابنا أن هذا كله كلام خطابى لا برهان عليه، إذ ليس كل الناس (وخَلِّ الملائكة الآن على جنب!) يؤمنون برسل المسيح، وهذا لو كان الذى يُنْسَب لهم من الكتب هو مما كتبه فعلا حواريوه الحقيقيون رضى الله عنهم، وهو ما نشك فيه شكا مطلقا لأن الحواريين لا يمكن أن يكفروا بالله ويشركوا به عبده عيسى بعد أن صح إيمانهم به على عهده صلى الله عليه وسلم، بل الذين يؤمنون به على النحو الذى تشرحه كتبهم هم النصارى المثلثون فقط. أما قول الأنبا التعبان فى مخه إن فى القرآن نصا يقول: "إننا أنزلنا القرآن مصدّقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل" فهو كذب مبين لأن مثل هذا النص لا وجود له فى القرآن، بل الموجود فيه هو قوله تعالى: "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ"، "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ". والمهم أن القرآن (كما نرى) يعلن نفسه مهيمنا على الكتب السابقة، أى أن ما يقوله عنها هو الصواب الذى ينبغى اعتماده. ومعنى هذا أن الأنبا، إذا أراد أن يحاجّ المسلمين بكتابهم، فعليه أن ينقل كلام كتابهم كما هو، مثلما أفعل أنا مثلا حين أجادل القوم فأنقل كلامهم بنصه، لا أن يؤلف كلاما من عنديّاته ثم يزعم أن هذا هو كلام القرآن.
وعلى هذا فلا معنى لقوله إن القرآن قد شهد للتوراة والإنجيل، ومن ثم فعليكم أيها المسلمون أن تصدقوا بما فى أيدينا. ذلك أن التوراة والإنجيل لدينا غير التوراة والإنجيل لديهم، فالتوراة والإنجيل لدينا وَحْيان نزلا على موسى وعيسى، أما الذى عندهم فهو العهد القديم والعهد الجديد، وهما مجموعة من الكتب ألفها أشخاص متعددون بعد موت موسى وانتهاء حياة عيسى على الأرض، وليسا وحيين سماويين، وإن لم يعن هذا بالضرورة أن كل ما فيهما لا يمت إلى الوحى بصلة، إذ قد بقيت فيهما أشياءُ وأصداءٌ من وحى السماء مختلطة بما سطرته أيدى البشر. ومن هنا فلا بد أن ينزل الأنبا على حكم القرآن إن كان يريد أن يقنع المسلمين من خلال آيات ذلك القرآن، أما أن يلوى النصوص القرآنية ويحرفها جريا على ما تعوده قومه مع التوراة والإنجيل فليس من العدل ولا من الأمانة ولا من المنهجية فى شىء. واضح أيها القمص المنكوح، يا من أرسلت لى تلك الحدوتة التافهة تفاهة عقلك، أم نعيد الكلام من أول وجديد؟
ومن ثم فقول المسلم للأنبا المزعوم: "أنا مصدّق الإنجيل، ولكنّكم حرفتموه بعد نبيّنا (أحسب أن المقصود: "بعد نبيكم") وجعلتموه على غرضكم وهواكم" هو كلام صحيح تمام الصحة. لكن ماذا قال الراهب؟ وماذا كان رد المسلم عليه؟ وكيف مضت المحاورة؟ هذا ما سنقرؤه الآن. "قال الراهب: لا تتحدّث بهذا ولا تورد قضية لا يمكنك القيام بتحقيقها، وأخيرا تخجل بباطلك كمن يروم ستر الشمس عن الناس بكفِّه. قل لي يا أبا سلامة: كم من السنين مضت من المسيح إلى محمد؟
قال المسلم: ما أدري.
قال الراهب: أنا أقيم لك البيّنة. إن من المسيح إلى محمد ستمائة سنة ونيّف.
قال المسلم: صدقت يا راهب. كذلك هو، وكذلك وجدنا في التواريخ.
قال الراهب: أفما كان النصارى قد وُجِدوا في الدنيا كلها؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: مثلما في وقتنا هذا؟
قال المسلم: نعم. (وما زاد).
قال الراهب: فهل يمكنك أن تعدَّ الأناجيل التي كُتِبت في أقطار الأرض وفي سائر اللغات والألسن؟
قال المسلم: لا أقدر على ذلك.(/22)
قال الراهب: فاجعل أن طائفة من أهل الغرب حرَّفت أناجيلها، فكيف وصلت هذه الأناجيل إلى الذين هم في أواخر الشرق، ولهم لغة أخرى ولسان آخر؟ وكذلك الذين هم في الجنوب والشمال مع تخالف لغاتهم وسجاياهم. فكيف يمكن أنْ كان إنجيل واحد قد تحرّف كما تقول أمكن أن تحرَّف به أناجيل لا تعدّ ولا تحصى في أقطار الأرض كلّها عند شعوب مختلفة لغاتها؟ فهذا من الممتنع أن يكون الاتفاق عليه. ولو كان ذلك لوجدت بعضها محرّفة عند جماعة من النصارى، وبقيت عند غيرهم أناجيل غير محرّفة. ولكنّك إن طفتَ الدنيا كلها: الجنوب والشمال والشرق والغرب تجد الأناجيل في سائر اللغات على المثال الذي سلَّمه إلينا الحواريين رسل المسيح لا يخالف الواحد للآخر. وأنا أحضر لك مثال يصدّق ويحقّق قولي: إن قَدِم أحد الناس وأظهر قرآنا يخالف القرآن المعروف الآن عندكم وقال لكم: هذا القرآن المنزل على النبي، وليس هو ذاك، فهل كنتم تقبلونه؟
فقال الأمير: لا. وعليّ ما كنّا نقبله بل نحرقه ومن أتى به.
قال الراهب: فإذا كان كتابكم قد كُتِب في لغةٍ واحدة وبشفةٍ واحدة لا يمكن ولا يجوز أن يحرّف، فكيف يمكن لمن يروم تحريف الأناجيل، وقد وُزِّعت في المسكونة كلها عند شعوب مختلفة لغاتها؟ وقد يوجد عندنا حجج واضحة وبراهين بيّنة غير هذه توضّح صدق ما أوردنا الآن لكم من الكتب العتيقة مما قَدِمَتْ به الأنبيا من قديم الزمان عن المسيح ورسله، لكنْ أَوْجَزْنا الكلام خيفة أن يكون عندكم ثقل من إطالة الشرح".
وواضح أولا أن كاتب الحدوتة لا يحسن التلفيق، فالشيخ المسلم يعلن جهله بالمسافة الزمنية التى تفصل بين النبيين العظيمين، وهو أمر لا يجهله أصغر تلميذ مسلم. لكن الله سبحانه يأبى إلا أن يفضح الأنبا، وبلسانه هو الذى يستحق القطع من اللغلوغ، إذ يقول على لسان الشيخ تعليقا على الموضوع ذاته: "صدقت يا راهب. كذلك هو، وكذلك وجدنا في التواريخ"، يما يعنى أنه يعرف الفارق الزمنى بين محمد والمسيح ولا يجهله كما ادعى عليه الكاتب الكذاب. وواضح كذلك ما فى ردود الأنبا وتعليقاته من سفسطة مضحكة، فهو يتحدث كما لو لم يكن هناك إلا الأناجيل التى بأيدى النصارى المثلثين، متجاهلا ما يعرفه كل من له أدنى إلمام بتاريخ النصرانية من أن ثمة أناجيل كثيرة جدا سوى التى تعترف بها الكنيسة، وهى تختلف عن هذه اختلافات عنيفة، مثلما أن هذه تختلف فيما بينها اختلافات عنيفة أيضا حسبما وضحتُ أنا مثلا فى دراسة سابقة لى على المشباك نشرتْها عدة مواقع منذ شهور بعنوان "إلى القمّص المنكوح: الأناجيل- نظرة طائر"، كما أن هناك فِرَقًا أخرى من النصارى لا تؤمن بألوهية المسيح على أى وضع: لا ربًّا ولا ابنا للرب، بل عبدا ورسولا لا أكثر ولا أقل، وهو ما يقول به القرآن، علاوة على أن ثمة إنجيلا يحمل اسم برنابا ليس فيه عن المسيح إلا أنه عبد ورسول، مَثَلُه مَثَلُ أى نبى آخر من أنبياء الله. ليس ذلك فقط، بل هناك فى العهد الجديد أسفار لم تكن الكنيسة تعترف بها فى البداية، ثم عادت فأدخلتها فى كتبه، وهى رسالة يعقوب، والرسالة الثانية لبطرس، ورسالة بولس إلى العبرانيين، والرسالتان الثانية والثالثة ليوحنا، ورؤيا يوحنا اللاهوتى. بيد أن الأنبا غير المحترم يقفز فوق هذا كله محاولا إيهام القارئ الذى ليس لديه اطلاع على تاريخ الأناجيل أن الأشياء معدن، وكله تمام التمام. وهذا هو التدليس بعينه وأنفه وفمه! إذن فليس هناك إنجيل واحد، بل أناجيل كانت بالعشرات اختفى جزء منها وبقى جزء آخر عندى منه أكثر من عشرة أناجيل مترجمة إلى الإنجليزية، ولا تعترف الكنيسة إلا بأربعة من هذا الجزء الباقى فقط. وقد اتخذت الكنيسة إجراءات صارمة للقضاء على هذه الأناجيل وأصدرت أمرا بإعدامها، إلا أن الحق غالبٌ مهما كانت قوة أعدائه. ولسوف يأتى يوم ينكشف فيه ما تخبئه الكنائس فى سراديبها البعيدة عن العيون من مخطوطات لا تريد أن يلقى عليها أحدٌ نظرةً مخافة الافتضاح وانهيار البناء المؤسس على الباطل، ولسوف يتضح أن كل ما يهرف به القوم هو هراء فى هراء. هذه هى حقيقة الأمر، لا الذى يطنطن به الأنبا البكاش!(/23)
ومرة أخرى نقول: إن الإنجيل الذى يتحدث عنه الإسلام هو الإنجيل الذى نزل على عيسى لا الأناجيل التى كُتِبَتْ بعد رفع الله له، فهذه مجرد تراجم للسيد المسيح تشبه فى إطارها العام سيرة نبينا عليه السلام، مع الفارق الكبير المتمثل فى أن السيرة المحمدية قائمة على الإسناد بحيث يعرف القارئ من أين بدأ الخبر، ومَنْ نقله لنا، وعَمَّنْ نقله، أما الأناجيل فهى كتابات كتبها أصحابها دون أن يعنّوا أنفسهم بإسناد ما يكتبونه، بل يعتمدون على الشائعات والروايات المختلفة بلا أية محاولة للتثبت والتمحيص. لكن أين الإنجيل الذى كان يبشر به المسيح عليه السلام؟ ذلك هو مربط الفرس! إن فى الأناجيل الحالية كلاما للسيد المسيح صلى الله عليه وسلم يذكر فيه الإنجيل، وهو ما يعنى أنه كان هناك إنجيل يبشر به عليه السلام قبل تلك الأناجيل التى بأيدى النصارى حاليا. إلا أن الأناجيل الحالية لا تذكر فى أى موضع منها على الإطلاق أن تلاميذ عيسى بن مريم كانوا يكتبونه. وأعتقد أن هذا هو السبب فى أنه قد ضاع. لقد بقيت منه، فيما نتصور، عبارات وشذرات نقلها لنا كتاب الأناجيل الموجودة بين أيدينا الآن، أما باقى ذلك الإنجيل فلم تحتفظ به ذاكرة النصارى آنذاك، وبخاصة أن أتباع عيسى عليه السلام كانوا، كما هو واضح من القراءة اليقظة للأناجيل، قلة قليلة جدا حتى إنهم، عند القبض عليه (حسب رواية تلك الأناجيل)، قد تركوه يقاسى وحده مصيره الرهيب دون أدنى محاولة من جانبهم للدفاع عنه أو تخليصه من أيدى أعدائه، لا يُسْتَثْنَى من ذلك أقرب المقربين من حوارييه إليه، إذ وجدنا بطرس ينكره ويقسم بالله كذبا إنه لا يعرف عن هذا الرجل شيئا، كما أن واحدا آخر من المؤمنين به خلع عن نفسه ملابسه التى أمسكه الجند منها ومضى يجرى لا يلوى على شىء وهو بلبوص لا يغطى عورته غطاء، فضلا عن أن الاضطهادات كانت تنتاش هذا العدد القليل جدا من كل جانب فلم تدع لهم عقلا، فيما يبدو، يذكرون به كل ما قاله السيد المسيح، وبخاصة فى ظل الظروف الغريبة التى انتهت بها حياة المسيح على الأرض! ومن هنا كانت الاختلافات الرهيبة بين الأناجيل المختلفة، إذ كان كل مؤلف يكتب ما يعنّ له أو ما يؤمن به أو ما وصله وكان على هواه!
وهذا ما يقوله لوقا مثلا فى أول الترجمة التى كتبها عن السيد المسيح والمسماة: "إنجيل لوقا"، وهى فى الحقيقة ليست من الإنجيل فى شىء، اللهم إلا بعض بقايا من بقاياه مما استطاعت الذاكرة النصرانية آنذاك الاحتفاظ به بعُجَره وبُجَره: "1إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، 2كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ، 3رَأَيْتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، 4لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ". فالأمر إذن، كما يرى القارئ، لا يعدو أن يكون تأليفا منقولا مما سمعه لوقا وغيره، لا وحيا من السماء نزل على عيسى وحفظه التلاميذ من بعده كتابة واستذكارا كما هو الحال فى القرآن الكريم، أو حتى فى الحديث النبوى الشريف رغم نزوله فى درجة اليقين عن كتاب الله. لقد كان القرآن المجيد يُكْتَب أولا بأول غِبَّ نزوله من عند الله، كما كانت الذاكرة البشرية تظاهر القلم فى ذلك. وفى كل جيل كان ولا يزال هناك ملايين من المسلمين كبارا وصغارا يحفظون القرآن عن ظهر قلب. وفى الأحاديث كان هناك منهج لكل محدِّث يعتمده فى قبول أو رفض ما يجمعه من الروايات المنسوبة إلى رسول الله، علاوة على أن المسلمين يحفظون كثيرا من كلامه صلى الله عليه وسلم. أما الإنجيل فلم يعرف هذا ولا ذاك، إذ لم يحدث أن كُتِب منذ البداية أو فكر أحد فى حفظه فى صدره، كما أن مؤلفيه لم يستندوا إلى أى منهج فى قبول ما وقع لهم من الروايات المتعلقة بحياة السيد المسيح أو رفضها، وهذا جَلِىٌّ من كلام لوقا فى مفتتح السيرة التى ألفها عن حياة عيسى عليه السلام كما مرّ آنفا.(/24)
وإلى القارئ المثالين التاليين كيلا يكون كلامنا بلا دليل: وأحدهما خاص بنسب السيد المسيح، والآخر يتعلق بالحَجَر الذى قيل إنه كان يسد القبر الذى دُفِن فيه ثم زُحْزِح من موضعه. فأما بالنسبة لنسب المسيح فمتّى فى بداية الإصحاح الأول يقول إن عيسى عليه السلام هو ابن داود بن إبراهيم، أى أنه من سلالة بشرية: "1 كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ: 2إِبْراهِيمُ وَلَدَ إِسْحاقَ. وَإِسْحاقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذَا وَإِخْوَتَهُ. 3وَيَهُوذَا وَلَدَ فَارِصَ وَزَارَحَ مِنْ ثَامَارَ. وَفَارِصُ وَلَدَ حَصْرُونَ. وَحَصْرُونُ وَلَدَ أَرَامَ. 4وَأَرَامُ وَلَدَ عَمِّينَادَابَ. وَعَمِّينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ. وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُونَ. 5وَسَلْمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَابَ. وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوثَ. وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى. 6وَيَسَّى وَلَدَ دَاوُدَ الْمَلِكَ. وَدَاوُدُ الْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ الَّتِي لأُورِيَّا. 7وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحَبْعَامَ. وَرَحَبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا. وَأَبِيَّا وَلَدَ آسَا. 8وَآسَا وَلَدَ يَهُوشَافَاطَ. وَيَهُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا. 9وَعُزِّيَّا وَلَدَ يُوثَامَ. وَيُوثَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَازُ وَلَدَ حَزَقِيَّا. 10وَحَزَقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى. وَمَنَسَّى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا. 11وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ. 12وَبَعْدَ سَبْيِ بَابِلَ يَكُنْيَا وَلَدَ شَأَلْتِئِيلَ. وَشَأَلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرُبَّابِلَ. 13وَزَرُبَّابِلُ وَلَدَ أَبِيهُودَ. وَأَبِيهُودُ وَلَدَ أَلِيَاقِيمَ. وَأَلِيَاقِيمُ وَلَدَ عَازُورَ. 14وَعَازُورُ وَلَدَ صَادُوقَ. وَصَادُوقُ وَلَدَ أَخِيمَ. وَأَخِيمُ وَلَدَ أَلِيُودَ. 15وَأَلِيُودُ وَلَدَ أَلِيعَازَرَ. وَأَلِيعَازَرُ وَلَدَ مَتَّانَ. وَمَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. 16وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ". هذا ما قاله متى، على حين يقول لوقا فى أول فقرة من أول إصحاح فيه: "بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللَّهِ"، أى أنه من سلالة إلهية، لكنه فى موضع آخر يورد نسبه على النحو التالى: "23وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً ، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ ، بْنِ هَالِي،24بْنِ مَتْثَاتَ، بْنِ لاَوِي ، بْنِ مَلْكِي ، بْنِ يَنَّا ، بْنِ يُوسُفَ،25بْنِ مَتَّاثِيَا ، بْنِ عَامُوصَ ، بْنِ نَاحُومَ ، بْنِ حَسْلِي ، بْنِ نَجَّايِ، 26بْنِ مَآثَ ، بْنِ مَتَّاثِيَا ، بْنِ شِمْعِي ، بْنِ يُوسُفَ ، بْنِ يَهُوذَا،27بْنِ يُوحَنَّا ، بْنِ رِيسَا ، بْنِ زَرُبَّابِلَ ، بْنِ شَأَلْتِئِيلَ ، بْنِ نِيرِي،28بْنِ مَلْكِي ، بْنِ أَدِّي ، بْنِ قُصَمَ ، بْنِ أَلْمُودَامَ ، بْنِ عِيرِ، 29بْنِ يُوسِي ، بْنِ أَلِيعَازَرَ ، بْنِ يُورِيمَ ، بْنِ مَتْثَاتَ ، بْنِ لاَوِي،30بْنِ شِمْعُونَ ، بْنِ يَهُوذَا ، بْنِ يُوسُفَ ، بْنِ يُونَانَ ، بْنِ أَلِيَاقِيمَ،31بْنِ مَلَيَا ، بْنِ مَيْنَانَ ، بْنِ مَتَّاثَا ، بْنِ نَاثَانَ ، بْنِ دَاوُدَ،32بْنِ يَسَّى ، بْنِ عُوبِيدَ ، بْنِ بُوعَزَ ، بْنِ سَلْمُونَ ، بْنِ نَحْشُونَ،33بْنِ عَمِّينَادَابَ ، بْنِ آرَامَ ، بْنِ حَصْرُونَ ، بْنِ فَارِصَ ، بْنِ يَهُوذَا ، 34بْنِ يَعْقُوبَ ، بْنِ إِسْحَاقَ ، بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، بْنِ تَارَحَ ، بْنِ نَاحُورَ،35بْنِ سَرُوجَ ، بْنِ رَعُو ، بْنِ فَالَجَ ، بْنِ عَابِرَ ، بْنِ شَالَحَ، 36بْنِ قِينَانَ ، بْنِ أَرْفَكْشَادَ ، بْنِ سَامِ ، بْنِ نُوحِ ، بْنِ لاَمَكَ، 37بْنِ مَتُوشَالَحَ ، بْنِ أَخْنُوخَ ، بْنِ يَارِدَ ، بْنِ مَهْلَلْئِيلَ ، بْنِ قِينَانَ،38بْنِ أَنُوشَ ، بْنِ شِيتِ ، بْنِ آدَمَ ، ابْنِ اللهِ".(/25)
وكما ترى فهذه السلسلة تختلف إلى حد بعيد عن سلسلة متى، سواء فى عدد حلقاتها أو فى ترتيبها، وهو أمر مضحك، إذ ليس من المعقول أن يجهل القوم سلسلة نسب ربهم. فيا له من رب! وياله من نسب! ولا تظن أيها القارئ أنى أتهكم حين أقول: "سلسلة نسب ربهم"، فقد قالوها هم بأنفسهم رغم أنى كتبت ما كتبت قبل أن أرى ما كتبوا، بل رجعت إليه فيما بعد. وهذا مثلا ما كتبه محررو "تفسير الكتاب المقدس": "إن غرض تتبع سلسلة نسب ربنا والرجوع به إلى داود هو أن يظهر أن المواعيد التى أعطيت لداود إنه سيصير سلفا للمَسِيّا قد تحققت فى يسوع المسيح" (تأليف مجموعة من اللاهوتيين برئاسة الدكتور فرنسيس دافدسون/ ط2/ دار منشورات التفسير/ بيروت/ 5/ 1990م/ 14). بل إن الشخص المذكور فى هذه السلسة على أنه ابن الله ليس هو المسيح بل آدم، أما المسيح فهو، حسبما كان يقول الناس، ابن يوسف! أما سلسلة متى فهى صريحة فى أنه ابن يوسف، أستغفر الله، إذ ليس هناك من معنى للقول بأنه ابن يوسف إلا معنى واحد لا أستطيع أن أنطق به! وهو ما يؤكده النص التالى المأخوذ من مطلع إنجيل توما (أحد الأناجيل غير القانونية): "And a certain Jew when he saw what Jesus did, playing upon the Sabbath day, departed straightway and told his father Joseph: Lo, thy child is at the brook, and he hath taken clay and fashioned twelve little birds, and hath polluted the Sabbath day. "، إذ يقول المؤلف إن يهوديا من اليهود الغيارى على الشريعة الموسوية، حين رأى عيسى الصغير يصنع يومَ سبتٍ من الطين طيرًا، ذهب من فوره إلى "أبيه يوسف" وشكا له ما صنع الغلام من الاعتداء على حرمة اليوم المقدس. ومثله قول المؤلف فى موضع آخر إن عيسى ذهب ذات يوم لزراعة القمح مع "والده" فى حقلهم: "Again, in the time of sowing the young child went forth with his father to sow wheat in their land: and as his father sowed, the young child Jesus sowed also one corn of wheat"... وغير ذلك من المواضع التى وُصِف فيها يوسف بأنه "أبوه". بل إننا لنقرأ أن يوسف، تعجُّبًا من المعجزات التى كان يعملها عيسى الصغير، قد دعا ربه شاكرا أنْ "أعطاه طفلا مثله": " Happy am I for that God hath given me this young child".
وبعد قليل يقول الكاتب السابق: "يُرَجَّح أن سلسلة النسب هذه (يقصد سلسلة النسب المذكورة فى متّى) لا تتبع التسلسل الطبيعى (الذى تجده فى لوقا...)، بل الملكى والشرعى الذى بفضله كان المسيح وارثا لعرش داود" (نفس المرجع والصفحة). عال، عال! عشنا وشفنا الآلهة لها نسب. وأى نسب؟: 1- نسبٌ طبيعى، وهذا نعرفه فيما بيننا، لكن لا يصح أن نظهره لأنه كفيل بإفساد الخطة الخاصة بوراثة العرش. 2- ونسبٌ أىّ كلام لزوم وراثة العرش عن داود وعشيقته (التى صارت زوجته فيما بعد) بَتْشَبَع: إى نعم، داود وبتشبع الزانيين القراريّين كما تكلم عنهما الكتاب المقدس ذاته ولست أنا والله العظيم! وأنطسّ فى نظرى لو كنت قلت هذا أو شيئا من هذا أو أرضى بهذا أو لا ألعن سنسفيل جدود من قال هذا، عليه وعلى من يرضى بهذا لعنات الله والملائكة والرسل والمسيح والناس أجمعين خالدين فيها إلى يوم يبعثون! لكن نعود للنسبين: الإلهى والبشرى، ونتساءل: لماذا هذا الاختلاف بين الكاتبين فلم يذكر كل منهما النسبين فيريح ويستريح؟ سيقولون إن كلا منهما ركز على جانب من جانبى السيد المسيح. لكن السؤال هو: ولماذا لم يكن كل منهما واضحا فى هذه المسألة التى تقوم عليها الديانة التى ينتمى إليها فيقول بصريح العبارة إنه قد ركز على جانب واحد من الأمر وترك الجانب الآخر من أجل كذا وكذا؟ كما أن ثمة سؤالا آخر فى غاية الخطورة: ترى هل معنى تركيز متّى على الجانب البشرى فى المسيح أن ينسبه، وفى بداية الإصحاح الأول منه، إلى يوسف النجار، الذى كان كثير من اليهود وما زالوا يتهمون به مريم عليها السلام؟ إن أقل ما يقال فى متّى أنه قد أعطى بذلك أعداء المسيح صلى الله عليه وسلم الخنجر لطعن شرفه وعِرْض أمه الكريمة الطاهرة التى رفعها القرآن الكريم فوق نساء العالمين، إن لم نقل فيما فعله أكثر من هذا! وهاهو ذا متّى يؤكد أنه ابن يوسف ومريم معا فى أكثر من موضع، إذ يصفهما مثلا بأنهما: "أَبَوَاهُ" (2/ 41)، "وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ..." (2/ 27)، كما تقول مريم مخاطبة عيسى الصغير وهى تشير إلى يوسف ونفسها: "يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هَكَذَا؟ هُوَ ذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!" (2/ 48).(/26)
ولو تركنا وراء ظهورنا هذه المشكلة إلى أن يجد لها أحد حلا، وهذا مستحيل، وانتقلنا إلى المثال الثانى، وهو موضوع الحَجَر الذى زُحْزِح من فوق فوهة القبر المدفون فيه المسيح، لوجدنا عدة مشاكل معقدة أشد التعقيد، وكل ما فى تلك الديانة معقد تعقيدا لم تتعقده أية قضية أخرى: فهل كانت أمه مريم وخالتُه هما اللتين ذهبتا إلى القبر؟ أم هل كانت مريم المجدلية ومريم الأخرى؟ أم هل كانت المجدلية وحدها؟ وهل كان ذلك فى غلس الظلام؟ أم هل كان عند الفجر؟ أم هل كان بعد بزوغ الشمس؟ وهل دخلت مَنْ ذهبتْ هناك إلى القبر أو لم تدخله وانصرفت كما جاءت؟ وهل كان هناك ملاك واحد أو اثنان أو شابّ أو لم يكن هناك ملائكة ولا ناس بالمرة؟ وهل كل الذى قيل هو أن يسوع قام من الأموات وينتظر تلاميذه فى الجليل؟ أم هل قيل كلام أكثر من ذلك؟ وهل أتى بعض التلاميذ للقبر ليتأكدوا مما حدث أوْ لا؟ وهل لمست مريم المسيح كما جاء فى الرواية التى تقول إنها ورفيقتها أمسكتا بقدميه وسجدتا له؟ أم هل منعها عليه السلام من لمسه بذريعة أنه لم يصعد بعد إلى السماء، وكأنها بعد صعوده للسماء ستراه مرة أخرى وتلمسه كما تحب؟ والمضحك أنها، بعد كل ما قاله لها عن "أبيه وأبيهم وإلهه وإلههم"، تقول إنها قد رأت "ربّها"! يعنى: على رأى سعد زغلول "ما فيش فايدة"! وها هى ذى النصوص أضعها أمام القارئ ليقارن بينها ويتحقق من الأمر بنفسه:
متى (ف 27- 28): "62وَفِي الْغَدِ الَّذِي بَعْدَ الاِسْتِعْدَادِ اجْتَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلاَطُسَ 63قَائِلِينَ: يَا سَيِّدُ ،قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. 64فَمُرْ بِضَبْطِ الْقَبْرِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ ،لِئَلا يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ: إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ ،فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى! 65فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: عِنْدَكُمْ حُرَّاسٌ. اذْهَبُوا وَاضْبُطُوهُ كَمَا تَعْلَمُون. 66فَمَضَوْا وَضَبَطُوا الْقَبْرَ بِالْحُرَّاسِ وَخَتَمُوا الْحَجَرَ. 28 1 وَبَعْدَ السَّبْتِ، عِنْدَ فَجْرِ أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ الأُخْرَى لِتَنْظُرَا الْقَبْرَ.2وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ ،لأَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ الْحَجَرَ عَنِ الْبَابِ ،وَجَلَسَ عَلَيْهِ. 3وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَالْبَرْقِ ،وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَالثَّلْجِ. 4فَمِنْ خَوْفِهِ ارْتَعَدَ الْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. 5فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لِلْمَرْأَتَيْنِ: لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. 6لَيْسَ هُوَ هَهُنَا ،لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ! هَلُمَّا انْظُرَا الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ الرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ. 7وَاذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ : إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا . 8فَخَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ الْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ ،رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ. 9وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمَا . فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ. 10فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: لاَ تَخَافَا. اِذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى الْجَلِيلِ وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي".(/27)
مرقس (ف 16): "16 1وَبَعْدَمَا مَضَى السَّبْتُ، اشْتَرَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطاً لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. 2وَبَاكِراً جِدّاً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. 3وَكُنَّ يَقُلْنَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ: مَنْ يُدَحْرِجُ لَنَا الْحَجَرَ عَنْ بَابِ الْقَبْرِ؟ 4فَتَطَلَّعْنَ وَرَأَيْنَ أَنَّ الْحَجَرَ قَدْ دُحْرِجَ! لأَنَّهُ كَانَ عَظِيماً جِدّاً. 5وَلَمَّا دَخَلْنَ الْقَبْرَ رَأَيْنَ شَابّاً جَالِساً عَنِ الْيَمِينِ لاَبِساً حُلَّةً بَيْضَاءَ، فَانْدَهَشْنَ. 6فَقَالَ لَهُنَّ: لاَ تَنْدَهِشْنَ! أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ هَهُنَا. هُوَذَا الْمَوْضِعُ الَّذِي وَضَعُوهُ فِيهِ. 7لَكِنِ اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ: إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُم . 8فَخَرَجْنَ سَرِيعاً وَهَرَبْنَ مِنَ الْقَبْرِ، لأَنَّ الرِّعْدَةَ وَالْحَيْرَةَ أَخَذَتَاهُنَّ. وَلَمْ يَقُلْنَ لأَحَدٍ شَيْئاً لأَنَّهُنَّ كُنَّ خَائِفَاتٍ. 9وَبَعْدَمَا قَامَ بَاكِراً فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ظَهَرَ أَوَّلاً لِمَرْيَمَ الْمَجْدَلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ قَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ. 10فَذَهَبَتْ هَذِهِ وَأَخْبَرَتِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَهُمْ يَنُوحُونَ وَيَبْكُونَ. 11فَلَمَّا سَمِعَ أُولَئِكَ أَنَّهُ حَيٌّ، وَقَدْ نَظَرَتْهُ، لَمْ يُصَدِّقُوا".
لوقا (ف 24): "24 1ثُمَّ فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ ، أَوَّلَ الْفَجْرِ ، أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ حَامِلاَتٍ الْحَنُوطَ الَّذِي أَعْدَدْنَهُ ، وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ. 2فَوَجَدْنَ الْحَجَرَ مُدَحْرَجاً عَنِ الْقَبْرِ، 3فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ الرَّبِّ يَسُوعَ. 4وَفِيمَا هُنَّ مُحْتَارَاتٌ فِي ذَلِكَ ، إِذَا رَجُلاَنِ وَقَفَا بِهِنَّ بِثِيَابٍ بَرَّاقَةٍ. 5وَإِذْ كُنَّ خَائِفَاتٍ وَمُنَكِّسَاتٍ وُجُوهَهُنَّ إِلَى الأَرْضِ ، قَالاَ لَهُنَّ: لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الأَمْوَاتِ؟ 6لَيْسَ هُوَ هَهُنَا ، لَكِنَّهُ قَامَ! اُذْكُرْنَ كَيْفَ كَلَّمَكُنَّ وَهُوَ بَعْدُ فِي الْجَلِيلِ 7قَائِلاً: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي أَيْدِي أُنَاسٍ خُطَاةٍ ، وَيُصْلَبَ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُوم . 8فَتَذَكَّرْنَ كَلاَمَهُ، 9وَرَجَعْنَ مِنَ الْقَبْرِ ، وَأَخْبَرْنَ الأَحَدَ عَشَرَ وَجَمِيعَ الْبَاقِينَ بِهَذَا كُلِّهِ. 10وَكَانَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَيُوَنَّا وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَالْبَاقِيَاتُ مَعَهُنَّ ، اللَّوَاتِي قُلْنَ هَذَا لِلرُّسُلِ. 11فَتَرَاءَى كَلاَمُهُنَّ لَهُمْ كَالْهَذَيَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُنَّ. 12فَقَامَ بُطْرُسُ وَرَكَضَ إِلَى الْقَبْرِ ، فَانْحَنَى وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً وَحْدَهَا ، فَمَضَى مُتَعَجِّباً فِي نَفْسِهِ مِمَّا كَانَ".(/28)
يوحنا (ف 20): "20 1وَفِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ جَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ إِلَى الْقَبْرِ بَاكِراً، وَالظّلاَمُ بَاقٍ. فَنَظَرَتِ الْحَجَرَ مَرْفُوعاً عَنِ الْقَبْرِ. 2فَرَكَضَتْ وَجَاءَتْ إِلَى سِمْعَانَ بُطْرُسَ وَإِلَى التِّلْمِيذِ الآخَرِ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ، وَقَالَتْ لَهُمَا: أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ الْقَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ! . 3فَخَرَجَ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ وَأَتَيَا إِلَى الْقَبْرِ. 4وَكَانَ الاِثْنَانِ يَرْكُضَانِ مَعاً. فَسَبَقَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ بُطْرُسَ وَجَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، 5وَانْحَنَى فَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ. 6ثُمَّ جَاءَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ يَتْبَعُهُ، وَدَخَلَ الْقَبْرَ وَنَظَرَ الأَكْفَانَ مَوْضُوعَةً، 7وَالْمِنْدِيلَ الَّذِي كَانَ عَلَى رَأْسِهِ لَيْسَ مَوْضُوعاً مَعَ الأَكْفَانِ، بَلْ مَلْفُوفاً فِي مَوْضِعٍ وَحْدَهُ. 8فَحِينَئِذٍ دَخَلَ أَيْضاً التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي جَاءَ أَوَّلاً إِلَى الْقَبْرِ، وَرَأَى فَآمَنَ، 9لأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا بَعْدُ يَعْرِفُونَ الْكِتَابَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقُومَ مِنَ الأَمْوَاتِ. 10فَمَضَى التِّلْمِيذَانِ أَيْضاً إِلَى مَوْضِعِهِمَا. 11أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ وَاقِفَةً عِنْدَ الْقَبْرِ خَارِجاً تَبْكِي. وَفِيمَا هِيَ تَبْكِي انْحَنَتْ إِلَى الْقَبْرِ، 12فَنَظَرَتْ مَلاَكَيْنِ بِثِيَابٍ بِيضٍ جَالِسَيْنِ وَاحِداً عِنْدَ الرَّأْسِ وَالآخَرَ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، حَيْثُ كَانَ جَسَدُ يَسُوعَ مَوْضُوعاً. 13فَقَالاَ لَهَا: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ قَالَتْ لَهُمَا: إِنَّهُمْ أَخَذُوا سَيِّدِي، وَلَسْتُ أَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ! . 14وَلَمَّا قَالَتْ هَذَا الْتَفَتَتْ إِلَى الْوَرَاءِ، فَنَظَرَتْ يَسُوعَ وَاقِفاً، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ يَسُوعُ. 15قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا امْرَأَةُ، لِمَاذَا تَبْكِينَ؟ مَنْ تَطْلُبِينَ؟ فَظَنَّتْ تِلْكَ أَنَّهُ الْبُسْتَانِيُّ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُه . 16قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا مَرْيَم فَالْتَفَتَتْ تِلْكَ وَقَالَتْ لَهُ: رَبُّونِي! الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ. 17قَالَ لَهَا يَسُوعُ: لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلَكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلَهِي وَإِلَهِكُم . 18فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التَّلاَمِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هَذَا". والآن فلينظر القارئ الفرق بين ما ردده من ألوان الهلس الأنبا جرجى الذى ليس له أى وجود إلا فى أستاه الكذابين وبين حقيقة أمر الأناجيل كما هى فى الواقع. كل ذلك، ولم نقل شيئا عن الشكوك العاصفة التى تحيط بكل ما يتعلق بالأناجيل: كتابها الحقيقيين، وتاريخ كتابتها، ومدى أهليتها للثقة عند العلماء المحققين من النصارى قبل المسلمين.
وهنا تنعطف المجادلة فى الحدوتة التى نحن بصددها إلى المقارنة بين الرسول الكريم وأخيه عيسى بن مريم عليهما السلام، فنقرأ ما يلى:
"قال المسلم: فمحمّد عندكم في منزلة دون المسيح ودون الحواريين؟
قال الراهب: وكيف أستجيز أن أساوي بين العبد بالمولى، والمخلوق بالخالق، والإنسان بالإله؟
قال المسلم: ألا تعلم يا راهب أن محمّدا نبيّ الله ورسوله لأنه هدى أمّة إسماعيل ونقلها عن عبادة الأصنام إلى عبادة الله نظير المسيح ورسله؟
قال الراهب: أنا أعلم أن محمدا تملّك على الأعراب أولاد إسماعيل ونقلهم من عبادة الأصنام إلى معرفة الله، لكن ليس إلى معرفته الحقيقيّة لأنه قصد التملّك عليهم وإدخالهم تحت الطاعة له أكثر من أن يعرّفهم الخالق المعرفة الحقة. فإن أطلتَ أنّاتك وملكتَ الصبر في ذاتك وتوادعتَ في أخلاقك أوردتُ لك الحجة الكافية عنّي وعن أهل ديني في أمر محمد، ولماذا لم نوجِّبه ولم نَدْعُه نبيّا ولا رسولا.
قال المسلم: إذ كان الأمير، أعزه الله، قد أرخى لك العِنَان وخوَّلكَ الأمان وفسح لك الكلام في دين الإسلام، فقل ما شئتَ.
أجاب الأمير وقال: يا أبا سلامة، إن الراهب إلى الآن لم ينطق إلا بما يناسب الصدق ويقرب إلى الحق ويليق في قياس العقل.
قال المسلم: هاتِ ما عندك في أمر محمّد.(/29)
قال الراهب: اعلم يا أبا سلامة أن محمدا كان من الأعراب من بني قريش من أمّة إسماعيل من بني هاجر المصريّة عَبْدة سارة امرأة إبراهيم، وكان رجلا أعرابيا سفّارا يتردّد بسفره إلى بيت المقدس، فأضاف برجلٍ نصراني نسطوري اسمه بحيرا. فلما استخبره بحيرا عن مذهبه ودينه وَجَدَه من الأمة التي لا تعرف الله من بني إسماعيل. وكانوا يعبدون صنما يسمّونه الأكبر، وكانت صلاتهم أمام ذلك الصنم أشعارا تشتمل معانيها على الشوق والعشق، وكانوا يكتبونها على الألواح ويعلّقونها فوق ذلك الصنم يصلّون بها ويتقربون بها إليه ويسمّونها: "المعلّقات السبع". فلما علم بحيرا أنه من تلك القبيلة رقّ له على سبيل الألفة والمروءة وأفاده المعرفة بالله وتلا عليه فصولا من الإنجيل والتوراة والزبور. ولما عاد محمد إلى أرضه وأمته قال لهم: ويحكم! إنكم على ضلالة وعبادة باطلة ضارة غير نافعة... وكان محمد يكاتب بحيرا بما يتجدّد له، وبحيرا يأمره بنهيهم عن مثل ذلك...".
وهذا كله خبل وكذب وافتراء، فليس عيسى سوى عبد الله ورسوله، والله سبحانه لا يمكن أن يتجسد ويدخل بطن امرأة تحبل به وتلده وتعطف عليه فترضعه وتقول له وهى تطبطب على ظهره: "خذ البِزّة ونم!"، وتغير له كافولته وتعلمه المشى والكلام وتهشتكه وتمشتكه، وعندما يكبر قليلا تنهره بل تضربه على أردافه كلما عملها على نفسه، وتُمَشْوِره فى طلبات البيت وترسله للمعبد لتعليمه الكتابة والقراءة لأنه إلهٌ أمىٌّ لا بد من تنجيره وصقله على أيدى الأحبار من بنى إسرائيل! يا له من إلهٍ! أما بخصوص بحيرا والكلام المضحك الذى يفتريه النصارى بشأنه منذ قرون وقرون، فهل كان بحيرا يلتقيه عليه السلام فى جُبٍّ تحت الأرض بحيث لا يراه أحد فيسجل لنا ما كانا يتقاولانه؟ إن حياته صلى الله عليه وسلم كتاب مفتوح، ولم يحدث شىء من هذا على الإطلاق. ثم لماذا لم يتكلم بحيرا أو أحد من النصارى الذين كانوا مع بحيرا أو كان لهم اتصال ببحيرا فيقول إنه هو الذى علم محمدا كذا، وقال له: قل كذا، وأْمُرْ قومك بكذا، وانههم عن كذا. وبالمثل فإن أحدا من قومه، ومنهم من كان يخرج معه فى القوافل للتجارة وسمع ببحيرا أو رآه إذا كان لبحيرا هذا وجود، لم يفتح فمه بكلمة واحدة من هذا الاتهام، ولم يجر بحيرا لهم على لسان ولو مرة واحدة عارضة طوال الحرب الضروس التى شنوها عليه صلى الله عليه وسلم وامتدت أعواما طوالا لم يألوا أثناءها جهدا فى اتهامه بكل التهم، ثم رجعوا فلحسوا جميع ما قالوه فيه وآمنوا به، مبرهنين بذلك على أنهم، فى كل ما عابوه به، كانوا يكذبون كذبا مفضوحا. فما معنى ذلك؟ وحتى لو صدقنا بأنه قد قابل بحيرا مرة يتيمة فى سفرة من سفراته، وهو صبىٌّ صغير إلى بلاد الشام، رفقةَ عمه أبى طالب (وكان ذلك بالمناسبة على مرأى ومسمع من القافلة كلها، وكان بحيرا (حسبما تقول الرواية) هو الذى طلب رؤيته وأراد الاطمئنان إلى أنه هو النبى المنتظر، وحذر عمه أبا طالب من غدر يهود طالبا منه أن يعود به من حيث أتى حتى لا يتعرض لمكايدهم، وهذه هى المرة اليتيمة التى يقال إن بحيرا قد رآه فيها كما قلنا)، فمتى وأين كان يقابله بحيرا بعد ذلك، ومعروف أن الرسول، بمجرد أن بدأ دعوته إلى أن هاجر للمدينة، لم يغادر مكة إلا إلى الطائف مرة يتيمة؟ وكيف كانت تدور بينهما المحاورات والمناقشات والمراجعات يا ترى وهما لا يلتقيان؟ أتراهما كانا يستعملان المحمول ونحن لا ندرى؟ أم تراهما كانا يتبادلان الرسائل بالماسنجر؟(/30)
ثم إن ما قاله القرآن عن المسيح وأنه لم يُصْلَب ولم يُقْتَل ولم يكن ثمة فداء ولا خطيئة أولى لَيتصادم مع النصرانية كما يؤمن بها القطاع الأعظم من النصارى، فما موقع بحيرا من إعراب تلك الجملة؟ ولماذا اندفعت الملايين النصرانية إلى الدخول فى الإسلام عند سنوح أول فرصة والتصديق بما قاله محمد عن دينهم السابق إذا كانوا يعرفون حقيقةً أنه ليس إلا صناعة نصرانية بَحِيراويّة؟ لقد كان عندهم الأصل، فكيف يتركونه ويؤثرون عليه الفرع؟ كذلك فإن القول بأنه عليه السلام كان أعرابيا هو كذبٌ فاضح، فالأعراب هم سكان البادية، والرسول كان من قريش سكان أم القرى، وكان يشتغل بالتجارة قبيل رسالته، فهو إذن حضرى لا بدوى، فكيف يقول الراهب المهتوك إنه عليه السلام كان أعرابيا؟ وأنكى من ذلك أن يحاول ذلك الأحمق إقناعنا بأن الشيخ المسلم قد وافقه على هذا الهراء، وكان كل همه مساواة الرسول بالمسيح، إذ ما من عالم من علماء الإسلام إلا ويعلم أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو سيد الأنبياء والمرسلين وأنه قد فُضِّل على سائرهم بعدة مزايا، وأنه فوق ذلك مرسل إلى الناس كافة لا إلى أولاد إسماعيل وحدهم، وإلا فأين نضع الأكراد والفرس والترك وأهل الهند والصين والشام وفلسطين ومصر والسودان والمغرب والأندلس، ثم أهل أوربا وأمريكا وأستراليا فى العصر الحديث يا مفترى يا ضلالى أنت وهو؟ أوكل هؤلاء من أولاد إسماعيل؟ إن أصغر طفل مسلم فى أتفه كتاب فى أحقر قرية فى أجهل بلد فى العالم ليعرف أن محمدا هو رسول للعالمين جميعا، على حين أن عيسى (كما يقرأ كل يوم فى القرآن) لم يُرْسَل إلا لبنى إسرائيل وحدهم ليس إلا، وأن هذا هو أحد الفروق بين الرسولين الكريمين، فكيف تغيب هذه عن إمام من أئمة المسلمين أو عن الأمير الذى دارت المجادلة فى حضرته، وهو ابن من أبناء صلاح الدين "الكردى" قاهر الصليبيين، ومُكْمِد المثلِّثين، وناصر دين النبى الأمين، محمد سيد الأنبياء والمرسلين؟ ويبقى تخريف الأنبا الأخرق الذى يدّعى فيه كذبا وزورا أن العرب كانوا يصلّون لآلهتهم بالقصائد التى ينظمها شعراؤهم فى الغزل والمديح والفخر والهجاء والحروب ويكتبونها على ألواح يعلقونها عليها. ألواح يا لوح أنت وهو؟ أرأيتم، أيها القراء، قلة حياء وسماكة جلد بهذا الشكل؟ يا أيها المنكوح، إننى رغم تخصصى فى الأدب العربى ورغم تأليفى عدة دراسات فى الأدب الجاهلى لم أسمع بهذا قَطُّ، ولن أسمع به عَوْضُ!
"قال الراهب:... لعمري إن محمدا يقول إنه وأنتم على هدى أو ضلال مبين عن الهدى والطريق المستقيم بقوله: "ما أعلم ما بي وبكم"، وقال أيضا: "إني وإياكم على هدى أم على ضلال مبين" (سورة سبأ)، وقوله: "اتقوا ما استطعتم لعلكم تفلحون"، ثم رسم لكم في كل صلاة تصلّونها أن تسألوا الله الهدى إلى الطريق المستقيم بقولكم: "اهدنا السراط المستقيم" (الفاتحة). فإن كنتم على هدى، فما لكم حاجة لتسألوا الهدى لأن من قد اهتدى دفعةً فما باله يسأل الهدى؟ بل يسأل الله العون للسير في هداه. وخذ المثل في ذلك واجعل أيها الأمير أنني اليوم قد خرجت عن حضرتك طالبا المقرّ والوطن وضللت عن السبيل فلا أزال أسأل الله والناس الهدى حتى أجد السبيل الراشد إلى الوطن، فإذا وجدتُ السبيل فما بي حاجة أن أسأل الهدى، بل أسأل العون على الوصول إلى الوطن.
قال المسلم: وهو كما تقول.
قال الراهب: ولو عرف محمد أنكم على هدى لما سنَّ وشرّع لكم السؤال إلى الله في الرشد والهدى. ثم لعلمه أن صلاته لا تجزيه عند الله تعالى ربطك أيضا وشرّع لكم الصلاة عليه بقوله: "يا أيها الذين آمنوا صَلُّوا عليه وسَلِّموا تسليما".
قال المسلم: أما علمتَ أن الله وملائكته يصلّون على محمد؟ أفما يجب أن أصلي أنا عليه؟
قال الراهب: أفما كان أولى بك أن تصلي على ذاتك وتسأل الله العفو عن زلاتك، ولا تكون كمن أضواه الجوع وهو يسأل الطعام لغيره، أو كمن انسقم بذاته ويطلب الطبّ لغيره؟ فإذا كنتَ أنت والله والملائكة يصلّون على محمّد، فمن الإله الذي يقبل الصلاة؟ فإذا كان هذا الرأي فقد ساويت بالصلاة بين الله وملائكته والناس.
قال المسلم: إن الصلاة هي رحمة منه على عباده.
قال الراهب: فمن قدر على نيل رحمة الله وملائكته فما به حاجة إلى صلاتك، بل الأولى بك أن تصلي على نفسك.
قال المسلم: أفما تصلون أنتم النصارى على مسيحكم؟
قال الراهب: لا. ولكنا نصلي إليه لأنه إلهنا وخالقنا، وهو يقبل صلاة العباد.
قال المسلم: يا ذا الكفر المبين والرأي الفاسد الوخيم! إنكم تعبدون إنسانا مخلوقا وُلِد من امرأة وصابه من الهوان ما أنتم به مقرّون، وأنت يا راهب لا تنكره على نفسك، وأنت تَتَّقِح وتهجو نبيّنا محمد المصطفى".(/31)
أرأيتم رقاعة بهذا الشكل؟ ترى ما وجه الخطإ فى أن يستعين الإنسان بربه ويطلب منه أن يهديه فلا يضل السبيل؟ إن هذا التخطىء والتشنيع ليناقض الإيمان بالله من أساسه، وإلا فما معنى عبادة الله والإيمان بقدرته ورحمته؟ وما الفرق بين المؤمن والكافر إذن؟ يا أنبا يا فَطّاس، ألم تقرأ ما ورد فى الإصحاح الثالث من الإنجيل الذى ألفه متى عن محاولة الشيطان إغواء المسيح؟ فهذا هو ما يتعوذ منه المسلم بالضبط، فماذا فيه؟: "1ثُمَّ أُصْعِدَ يَسُوعُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ مِنَ الرُّوحِ لِيُجَرَّبَ مِنْ إِبْلِيسَ. 2فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا. 3فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ:«إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا». 4فَأَجَابَ وَقَالَ:«مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ». 5ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، 6وَقَالَ لَهُ:«إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ». 7قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ». 8ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا، 9وَقَالَ لَهُ: «أُعْطِيكَ هذِهِ جَمِيعَهَا إِنْ خَرَرْتَ وَسَجَدْتَ لِي». 10حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ». 11ثُمَّ تَرَكَهُ إِبْلِيسُ، وَإِذَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ جَاءَتْ فَصَارَتْ تَخْدِمُهُ". ألم يكن عيسى عليه السلام، وهو الإله حسب ادعائهم، يعرف الطريق المستقيم؟ بلى كان يعرف ذلك، إلا أن هذا لم يمنع أمير الظلام من الاجتهاد فى محاولة إضلاله وتكفيره مرة واحدة لا إغرائه بالزنا مثلا أو السرقة فقط! ألا يقول الرقيع هو وهو وهو فى صلاتهم: "نجّنا من الشرير (أى الشيطان)"؟ بلى يقولون ذلك، فما العيب إذن أن يقول مثلها المسلمون؟ ألم يتهم عيسى عليه السلام حوارييه مرارا بضعف الإيمان والنفاق رغم أنهم كانوا قد عرفوا الطريق واتبعوه؟ ثم ما معنى نصحه لهم فى النص التالى: "أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ"؟ أليس معناه أن من الممكن جدا بعد اهتدائهم على يديه أن يعودوا فينتكسوا ويفسدوا مثلما يفسد الملح فيلقى به عندئذ تحت الأقدام ويدوسه الناس؟ إذن فمخاطر الطريق كثيرة حتى لو تأكد الإنسان أنها هى فعلا الطريق التى تؤدى به إلى هدفه، إذ من الجائز مثلا أن يهجم عليه أسد أو يطلع عليه لص أو قاطع طريق أو يقع فى الظلام فى حفرة مهلكة أو يلدغه ثعبان أو يتعرض له بتزيين الكفر، أو على الأقل بنتانة دبره، قمص منكوح مثل الأنبا جرجى، شارب الدّرْدِى، أو أبى الزيك، ذى الدبر الهتيك، فيفسد عليه أمره كله!(/32)
لنسمع ما ينسبونه من نصائح وتوجيهات للمسيح فى إنجيل متى على سبيل المثال: "27قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. 28وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. 29فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. 30وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ... اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 2فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 3وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، 4لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 5وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 6وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 7وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. 8فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ... 16وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. 17وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، 18لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 19«لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. 20بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، 21لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا. 22سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، 23وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!".(/33)
أليس هذا وسواه مما يمكن أن يفاجئ الإنسان فى أثناء الطريق؟ أليس هذا وسواه هو ما سماه السيد المسيح فى النص التالى: "عثرات"؟: "7وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْعَثَرَاتِ! فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ! 8فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. 9وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمِ النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ". أليس هذا وسواه مما ينبغى أن يتعوذ الإنسان منه ويستعين بالله عليه؟ ألم يضلّ حواريوه حين تركوه ساعة القبض عليه وفروا هاربين لا يلوون على شىء وأنكروه وأقسم بطرس إنه لا صلة له به البتة طبقا لرواية الأناجيل؟ أما كانوا يعرفون الطريق المستقيم؟ أمنعهم هذا من الحَيْد عن الطريق؟ إن الشهوات إنما تسكن أعماق قلوبنا ولا تأتينا من خارج: "20إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. 21لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، 22سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. 23جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ»" (مرقس/ 7)، ومن ثم فلا مفر لنا منها، وكل ما نستطيعه حيالها هو أن نبذل جهدنا للانعتاق مما تغرينا به من حرام، أما أن نتجاهلها تماما فمستحيل. ولسوف نظل طول الحياة نتعرض لإغراءاتها، ولسوف يظل المؤمن بحاجة إلى الاستعانة عليها بربه ودعائه إياه أن يهديه الصراط المستقيم فلا يحيد عن الحلال ولا يتطلع إلى الحرام. إننا نسلك فى العادة طريقا معينا كل يوم، ومع هذا فكثيرا ما تقع فيه أشياء تنكّد علينا صفونا، بل كثيرا ما تحدث مصائب لا تخطر على بال، كأن يلقى أحدهم، ولو بدون قصد، حجرا يكسر زجاج النافذة، أو نفاجأ ببلاعة لم نتحسب لها لأن اللصوص سرقوا غطاءها فنقع فيها، أو أهمل العمال إحكامه فبقى ناتئا فاصدمت به عجلات سيارتنا فتمزقت إطاراتها كما حدث لى ذات مرة، أو بسلك كهربى عار فيصعقنا، أو ببلطجى يعترض طريقنا ويجردنا مما معنا، أو ببعض السفلة يخطفوننا ويضربوننا ثم يخلعون عنا ملابسنا ويتركوننا فى طريق صحراوى إلى أن تمر سيارة يعطف أصحابها علينا ويأخذوننا معهم ونحن على هذا الوضع المزرى الذى قصد به فاعلوه أن يربّونا حتى نلزم حدودنا ولا نتعرض للكبار بكلمة سفيهة مثلنا ونمشى على العجين فلا نلخبطه... إلخ. وهذا رغم الفارق الكبير بين الطريق الذى نقطعه كل يوم وطريق الحياة الذى يمتد من ميلادنا إلى مماتنا: فطريق الحياة لا ينتهى ولا نعرفه حق المعرفة إلا بعد أن نموت، ونظل طول عمرنا نجهل مفاجآته ومنعطفاته، أما طريق كل يوم فقد حفظناه عن ظهر قلب، إذ نقطعه كل يوم ذهوبا وجيئة مرات ومرات، ومع هذا فما أكثر ما يبادهنا بما لم يخطر لنا من قبل على بال، فما بالنا بالطريق الآخر المحجوب عنا؟ ثم هل يصح أن نقيم من أنفسنا قضاة على سلوكنا وأخلاقنا فنصدر لمصلحتها الأحكام ونعطيها الدرجات والتقديرات العالية ونتجاوز بهذا حدودنا وصلاحياتنا؟(/34)
وقبل ذلك كله ألم يتعمّد المسيح على يد يحيى مؤكدا أنه ينبغى له تلقّى التعميد منه حتى يكمل كل بِرّ؟ ألم يأكل هو وتلاميذه من الحقل دون إذن من أصحابه؟ ويقول الأحمق إن عيسى لم يكن يصلى لله بل كان الناس يصلون له. ألم أقل إنه جاهل حتى بكتابه الذى يقدسه؟ ألم يقرأ ما قاله متى بعد انصراف الجموع الذين أطعمهم سمكا وخبزا: "22وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوهُ إِلَى الْعَبْرِ حَتَّى يَصْرِفَ الْجُمُوعَ. 23وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ مُنْفَرِدًا لِيُصَلِّيَ"، "36حِينَئِذٍ جَاءَ مَعَهُمْ يَسُوعُ إِلَى ضَيْعَةٍ يُقَالُ لَهَا جَثْسَيْمَانِي، فَقَالَ لِلتَّلاَمِيذِ:«اجْلِسُوا ههُنَا حَتَّى أَمْضِيَ وَأُصَلِّيَ هُنَاكَ».37ثُمَّ أَخَذَ مَعَهُ بُطْرُسَ وَابْنَيْ زَبْدِي، وَابْتَدَأَ يَحْزَنُ وَيَكْتَئِبُ. 38فَقَالَ لَهُمْ:«نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ. اُمْكُثُوا ههُنَا وَاسْهَرُوا مَعِي». 39ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي قَائِلاً:«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ، وَلكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ»... 42فَمَضَى أَيْضًا ثَانِيَةً وَصَلَّى قَائِلاً:«يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ إِلاَّ أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ». 43ثُمَّ جَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَيْضًا نِيَامًا، إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ ثَقِيلَةً. 44فَتَرَكَهُمْ وَمَضَى أَيْضًا وَصَلَّى ثَالِثَةً قَائِلاً ذلِكَ الْكَلاَمَ بِعَيْنِهِ". ألم يغلبه الألم على نفسه فجعل يصرخ ويدعو الله قائلا: "إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟"؟ فما معنى هذا؟ ألم يسمع الأنبا الجاهل قول المسيح كما حكاه كتابه: "لماذا تدعونى صالحا؟ ليس أحد صالحا إلا واحد، وهو الله". ومن هنا كانت دهشتى عظيمة حين شاهدت ذات مرة إحدى الراهبات الأجنبيات فى برنامج مرنائى عربى تؤكد أنها لا تخطئ ولا ترتكب ذنبا وأنها من ثم تعرف أنها ناجية يوم القيامة. إن هذا لهو الخبل العقلى والغرور الخلقى! نعوذ بالله من انغلاق القلوب وتحجر الضمائر! إن الراهبة المخبولة تتصور نفسها وكأنها إنسان آلى مبرمج على نظام معين فهو لا يعدوه ولا يستطيع الخروج عنه إلى ارتكاب الخطإ بحال، وأنى لها أو لسواها ذلك؟ بل من قال إن الإنسان الآلى لا يخطئ أو يتعطل أو يخرج على برنامجه المُغَذَّى به سلفا؟ أوقد تجردت تماما ونهائيا من الغرائز والشهوات فهى لا تضلّ أبدا؟ أوقد ضمنت ألا تنسى شيئا أو تخطئ فى وضعه موضعه الصحيح؟ أوقد أخذت على الله عهدا أنها لا يمكن أن يدور فى ذهنها أية نية غير سليمة؟ إن استغفار محمد وطلبه الهدى دائما من ربه لهو أكبر دليل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وإلا أفلم يكن قادرا على أن يقول ما قالته الراهبة المجنونة لو كان الأمر عنده أمر ادعاء للنبوة؟ لا لا، ليس هذا بصنيع الكذابين المدلسين! لقد كان محمد نبيا عظيما رغم أنه كان دائما ما يحث أتباعه ألا يفضّلوه على أى من إخوانه. وهذه هى العظمة النفسية والأخلاقية فى أبهى صورها! أما أمر القرآن له فى سورة "سبإ" عليه السلام بأن يقول للكفار: "وإنا أو إياكم لعلى هُدًى أو فى ضلالٍ مبين" فهو الغاية فى أدب الجدال، إذ الأمر من الناحية النظرية المجردة لا يخرج عن هذا، وقد أُمِر صلى الله عليه وسلم بذلك حتى يضع حدا للجدال الذى لا ينتهى والذى كان الكفار بغبائهم وعنادهم بارعين فيه مثلما كان بنو إسرائيل يشغبون دائما على المسيح طبقا لروايات الأناجيل ويكثرون من الأسئلة التى يريدون بها إرهاقه وإعناته لا التعلم منه ومحاولة الوصول إلى الحقيقة بالتعاون معه. وأنا، أيها العبد الضعيف، كثيرا ما ألجأ لشىء مثل هذا فى محاضراتى حين يطول الجدال بينى وبين أحد الطلاب دون أن ننتهى إلى رأى نتفق عليه أو نتوصل إلى حل وسط، فأقول له عندئذ: "هأنتذا ترى أننا قد وصلنا إلى طريق مسدود وأن كُلاًّ منّا قد قال كل ما لديه ولم يعد هناك شىء يمكن أن يضاف إلى ما قلناه. فلهذا لا داعى لأن نمضى فى المناقشة بعد أن أصبحت المسألة واضحة، وليس هناك من جديد نقوله، ولا يريد أحدنا أن يقتنع بما يقوله الآخر. وقد أكون أنا المخطئ، أو قد تكون أنت". أقول له هذا دون أن أحاول إجباره على تبنِّى رأيى! كل ذلك دون أن أحاول التقليل من موقفه رغم تصورى أننى بطبيعة الحال على الحق وأننى أعلم من الموضوع أكبر كثيرا مما يعلم هو. ولكن هذه هى طريقتى "الديمقراطية"، إذا أحببت أيها القارئ أن تسميها هكذا، إذ لا مانع عندى! وهل هناك من يكره؟ وفى النهاية ألم يقل عيسى عليه السلام إن جميع من أتى قبله من الأنبياء والمرسلين كانوا لصوصا؟ "8جَمِيعُ الَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ(/35)
وَلُصُوصٌ" (يوحنا/ 10)، نعم حميع الأنبياء بما فيهم إيليا وموسى كما أكد د. ألبير باييه فى كتابه: "أخلاق الإنجيل- دراسة سوسيولوجية" (ترجمة د. عادل العوا/ دار كنعان ودار الحصاد/ 26). فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهؤلاء الأماجد، فكيف بمن ليسوا أنبياء ولا مرسلين؟ أليسوا بحاجة أشد إلى طلب العون من الله واستهدائه الطريق المستقيم فى كل خطوة؟ إننى بطبيعة الحال لا أصدق أن السيد المسيح قال شيئا من هذا، بَيْدَ أنى أحاكم القوم إلى كتابهم حتى أبين لهم ولكل من كان عنده عين للقراءة أنهم يهرفون بما لا يعرفون!
أما إشارة الأنبا المضحكة إلى مسألة زينب بنت عمة الرسول عليها رضوان الله وقوله إنه عليه الصلاة والسلام "هام بامرأة زيد مولاه سابقا لمّا نظر إليها، وأخذها منه كُرها وزعم أنّ الله قد أزوجه بها دون زيد، وخاطب بها صحابته قائلا: "ولما قضى زيد منها وطرا أزوجناك بها يا محمد"، وزعم أن هذا وحي من الله أُنزل عليه في امرأة زيد. ولما خاطب بذلك صحابته قالوا: خذ يا رسول الله ما أنعم به عليك وحلّله لك وحرّمه على غيرك"، فملخص القصة (بعيدا عن كذب الأنبا المزعوم وجهله بالآيات القرآنية، أو تحريفها بالأحرى كما فعل قومه مع كتابهم المقدس من قبل) أنه عليه السلام كان قد خطبها لزيدٍ عبده السابق ومتبَنَّاه اللاحق رغم كراهيتها هى وأخيها لذلك، إذ كانت من ذؤابة قريش وبنت عمة الرسول، أما زيد فمجرد عبد عتيق لابن خالها محمد. ومع هذا فقد التزمت بما نزل فى القرآن من وجوب الانصياع لمثل هذا القرار وتزوجته، إلا أن الأيام لم تفلح فى تلطيف مشاعرها تجاه زوجها وظلت الأمور بينهما متوترة. وفى يوم من الأيام فكر زيد فى تطليقها كى يضع حدا لهذا التوتر، وفاتح الرسول بهذا، لكنه عليه السلام راجعه وطلب منه الصبر. وفى النهاية طلقها زيد وتزوجها الرسول عليه السلام حين نزل القرآن بذلك كى يعرف الناس أن التبنى لا يعطى للابن غير الحقيقى فى مسائل الزواج أو النسب وضع الابن الحقيقى أبدا. وكان زيد رضى الله عنه هو الذى خطبها بدوره لرسول الله، وهو ما يدل على أنه لم يكن فى الأمر ما يثير شكوكه أو حنقه. هذه هى المسألة باختصار، فلم الطنطنة والتشهير؟ هل طمع فيها الرسول وتآمر على تطليقها من زوجها؟ أبدا، فقد رأيناه يراجعه ويأمره بالصبر. هل انتهز فرصة غيابه عن البيت ودخل على زوجته ليستمتع ولو بتبادل الحديث معها والتغزل فى محاسنها، ولا نقول: الزنا بها؟ أبدا، فإن الروايات تنص على أنه حين ذهب يطلب زيدا فى أمر من الأمور ولم يجده انصرف فى الحال ولم يتلبث. إذن فما المشكلة؟ سنفترض أنه عليه السلام قد تعلق بها بعد أن كان هو الذى ضغط عليها كى تتزوج زيدا، فما وجه العيب فى هذا؟ هل يملك البشر عواطفهم فى أيديهم؟ ومع ذلك فلا بد أن يعرف القارئ أن زينب كانت تحت بصر الرسول وتصرُّفه طوال الوقت قبل أن يزوجها زيدا على كره منها ومن أخيها، أفلمّا تزوجها عبده السابق، وهو (فوق عبوديته له) من قبيلةٍ لا تسامت قبيلته هو وزينب، تحلو فى عينيه إلى الحد الذى يريد الأفاكون أن يجعلوا من حبتها قبة؟
المهم أنه لم يلجأ إلى أى شىء يمكن أن يُؤْخَذ عليه فى هذا السياق: فلا هو ألمح لزيد برغبته فى امرأته حتى يدفعه من طَرْفٍ خفىٍّ إلى التنازل له عنها، فضلا عن أن يكرهه على طلاقها، ولا هو حاول إبعاده عن البيت كى يخلو بها متى أحب، ولا هو تآمر على قتله كما صنع داود (داود النبى والملك) مع قائده وجاره أوريّا الحثى الذى رأى زوجته عارية كما ولدتها أمها (طبعا! ألم تكن من راقصات الإستربتيز؟) وهى تستحم فى فناء بيت قائده المجاور لقصره حين كان يتمشى على سطح القصر ذات يوم، ولا أدرى ماذا كان يفعل ملك مثله على سطح القصر إلا أن تكون هناك بقايا طفولة لم تزل فيه فصعد ليطير طائرته الورقية أو ليطمئن على غيّة الحمام الذى يربيه هناك (داود "ابن الله البكر" كما جاء فى العهد القديم، وجَدّ إله الأنبا الأحمق أو أبوه كما يقولون، إذ المسيح عندهم هو "ابن داود". والمصيبة أنه ابنه من جهة يوسف لا من جهة مريم، فتأمل الخيبة القوية واتهامهم مريم فى شرفها وعفتها بغباءٍ ما بعده غباء!)، فما كان منه إلا أن أرسل فأحضرها وزنى بها (هكذا خبط لزق "دون إِحِم أو دستور"!)، ثم لم يكتف بهذا بل وضع خطة للتخلص بها من الزوج المسكين. ولما تمت الجريمة استلحقها بحريمه، ولكن بعد أن انقضت أيام مناحتها. شوفوا ذوقه وحنيّة قلبه ومراعاته للتقاليد! والله فيه الخير! لكن نعود فنقول: يا ليته ما زنى ولا راعى التقاليد، وترك الرجل وزوجته فى حالهما!(/36)
أما الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فرغم أن مسألته زواجٌ حلالٌ لا زنًا كما فى حالة داود حسبما يفترى عليه ملفقو العهد القديم عليهم لعائن الله، فقد مكث فترة من الزمن يحاول أن يتجنب التزوج من زينب خشية أن يظن الناس أنه اقترانُ أبٍ بامرأة ابنه كما كانت العرب حتى ذلك الحين تعتقد، إلى أن نزل القرآن يعاتبه ويشتد عليه صلى الله عليه وسلم ويأمره أمرًا بإمضاء هذا الزواج حتى يضع حدا لذلك الفهم الجاهلى. ثم إنه عليه السلام لم يكن يوسّع فى نفقة زينب ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وحين طلبن منه ذات مرة أن يوفر لهن شيئا من بحبوحة العيش كسائر النساء نزل القرآن يخيّرهن جميعا بين الرضا بما هن فيه أو تسريح الرسول عليه الصلاة والسلام لمن لا ترضى بهذا الوضع المتقشف منهن، إلا أنهن جميعا قد اخترن الله ورسوله والدار الآخرة على حظوظ الدنيا. وليس هذا بطبيعة الحال سلوك من تأسره النساء ويتسلطن على عقله وحكمته ويفسدن عليه أمره، بل سلوك نبى كريم يملك نفسه تماما أمام المرأة إن كان ثمن ذلك هو الخروج على مبادئه التى يدعو إليها أدنى خروج! ثم لا ينبغى هنا أن ننسى شيئا، وهو أن زيدا لو شعر أن فى الأمر ما يريب، أكان يظل على ولائه لمحمد ودين محمد ويخرج للغزو معرضا حياته بحرارة فى سبيل الدفاع عن ذلك الدين ولا يهرب مثلا إلى الروم أو فارس ويفضحه هناك؟ وذلك بدلا من أن يموت فى معركة مؤتة ميتته البطولية التى تدل على إيمان لا يتزعزع، إذ كانت كل عوامل النصر من فارق ضخم فى العدد والعتاد فى صف الروم، فضلا عن انحياز أرض المعركة لأهلها، ومع ذلك خاضها، رضى الله عنه، هو وبقية زملائه فى رجولة وإخلاص لا يُبَارَيان! ويمكن القارئ أن يرجع إلى ما كتبته فى هذا الأمر فى الفصل الأول من الباب الأول من كتابى: "مصدر القرآن- دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى" (مكتبة زهراء الشرق/ 1417هـ- 1997م/ 71 فما بعدها). والعجيب بعد هذا كله أن يقول النصارى إن الله قد غفر لداود وغيره من أنبياء العهد القديم جرائمهم ذات العيار الثقيل لأنهم فى نهاية المطاف بشر، والبشر خطاؤون، ثم يجيئون إلى الحلال الزلال الذى فعله النبى محمد عليه السلام فتضيق أستاههم النتنة المدوَّدة غيرةً على الشرف الرفيع (كشرف الراقصة اللولبية فلانة الفلانية! وأحسن م الشرف ما فيش!)، ويذهبون فيلطمون الخدود ويشقون الجيوب ويضعون على رؤوسهم مما تحت أرجلهم ويَدْعُون بدعوى الجاهلية زاعمين التألم للأخلاق والدين! يا حرام!
"قال المسلم: ويحك! إنما ننكر عليكم أنكم تجعلون لله ابنا وأن المسيح ابن الله وأنه الأزلي خالق الخلائق، وتجعلونه مساويا لله في الطبيعة والجوهر والقدرة، وهو إنسان وُلِد من امرأة، ومَثَله مَثَل آدم، قال له الله: كن، فكان.
قال الراهب: هل أنت يا أبا سلامة مصدّق كل ما ذكره نبيك في القرآن؟
قال المسلم: نعم أنا مصدّق جميع ما في القرآن لأنه منزل من الله على نبيه المصطفى محمد.
قال الراهب: أفليس في القرآن أن المسيح روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم؟
قال المسلم: نعم، كذلك هو.
قال الراهب: فإذا لله روح وكلمة؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: أخبرني عن روح الله وكلمته: أزليّة هي أم محدثة؟
قال المسلم: بل أزليّة غير محدثة.
قال الراهب: فهل كان الله في وقتٍ من الأوقات أصم أخرس خاليا من كلمةٍ وروحٍ؟
قال المسلم: أعوذ بالله من ذلك حيث إن الله لم يخلُ قط من كلمته وروحه.
قال الراهب: وكلمة الله خالقة أم مخلوقة؟
قال المسلم: ما أشك في أنها خالقة.
قال الراهب: أفما تعبد أنت الله؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: فهل عبادتك لله مع كلمته وروحه أم لا.
قال المسلم: أعبد الله وروحه وكلمته.
قال الراهب: قل الآن: أومن بالله وروحه وكلمته.
قال المسلم: آمنت بالله وروحه وكلمته، ولكني لا أجعلهم ثلاثة آلهة بل إله واحد.
قال الراهب: فهذا الرأي هو رأيي واعتقادي واعتقاد كل نصراني. وإلى هذا كان قصدي بأن أقودك إليه لتعرف الثالوث: الآب الذي هو الله، والابن الذي هو كلمته، وروحهما القدوس.
وكان الأمير متكئا فاستولى جالسا ورفع عن حاجبيه شربوشه، وصفّق وكبّر، وقال ضاحكا: وحق عليٍّ يا أبا سلامة لقد نصّرك الراهب وأدخلك في دينه".(/37)
ومرة أخرى نجد أنفسنا وجها لوجه مع الخبث والتفاهة والتهافت، فالقرآن لا يقول عن عيسى عليه السلام إنه روح الله، بل "روح منه"، وهو فى هذا لا يتميز على أى إنسان كائنا من كان، إذ ما من أحد من بنى آدم جميعا إلا وفيه من روح الله. قال تعالى: "ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (9)" (سورة "السجدة"). فالله، كما تقول الآية الأخيرة، قد نفخ فى البشر من روحه سبحانه، وهذا هو نفسه الوضع فى حالة عيسى عليه السلام، فهو إذن كسائر البشر: كلاهما مخلوق. أما أنه عليه السلام كلمة الله فالمقصود كلمة "كن" فيكون، وهذا هو نفسه الوضع فى حالة آدم أيضا: "إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)" (آل عمران). وطبعا ليس المقصود أنه هو الكلمة ذاتها، بل العبارة هنا على المجاز، إذ ليس عيسى ولا أى مخلوق آخر غير عيسى هو الكلمة نفسها، بل ما أحدثته الكلمة فى عالم الوجود، وذلك كما يقول الواحد منا لغيره: "أنا ذراعك اليمنى"، ولا يمكن أن يقصد أنه ذراعه فعلا، بل المقصود أن بإمكانه الاعتماد عليه مثلما يعتمد على ذراعه. ومثل ذلك ما قاله ابن منظور صاحب "لسان العرب" فى مادة"يمن"، ونصه: "وفي الحديث: الحَجرُ الأَسودُ يَمينُ الله في الأَرض. قال ابن الأَثير: هذا كلام تمثيل وتخييل، وأَصله أَن الملك إذا صافح رجلاً قَبَّلَ الرجلُ يده، فكأنَّ الحجر الأَسود لله بمنزلة اليمين للمَلِك حيث يُسْتلَم ويُلْثَم". وعليه فلا تميز لعيسى فى هذا، اللهم إلا أن ولادته قد اختلفت عن ولادتنا: فنحن قد خُلِقْنا بكلمة التكوين، لكن من خلال القوانين الطبيعية للولادة، أما هو فخُلِق بكلمة التكوين مباشرة دون الخضوع لتلك القوانين كاملة، إذ لم يكن له أب، وإن كانت له أم سكن أحشاءها وبقى فيها زمنا. أما آدم فقد خُلِق دون أب أو أم، ومن هنا فإن خلقه أعجب وأبعث على الدهشة. كل ما فى الأمر أن أحدا من البشر لم يكن هناك ليدهش أو يعجب، لأننا ببساطة لم نكن قد خُلِقْنا بعد، وإلا لعبده الناس هو أيضا، والحكاية ليست ناقصة مصيبة ثانية، وإن كان العهد القديم يقول عنه رغم ذلك إنه ابن الله!(/38)
ولقد زاد القرآن هذه القضية إيضاحا وتأكيدا فى مواضع أخرى منه ولم يتركها غامضة حتى تأتى است هذا الأنبا فتفتى فيها، فالفتاوى بحمد الله متوفرة عندنا، وهى فتاوى طيبة طاهرة لأنها خارجة من أفواه طاهرة طيبة لا كفتاواه المنتنة، وكأنهم لم يكتفوا بتحريف كتابهم وإفساده، فهم يريدون أن يلبِّسوا علينا نحن أيضا ديننا وكتابنا، خيبهم الله! قال جل شأنه: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173)" (النساء)، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)" (المائدة)، "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)" (المائدة)، "ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)" (مريم)... إلخ.
فكيف يزعم الأنبا المخبول بعد ذلك أن القرآن يؤله المسيح؟ أما قوله عن الأمير الأيوبى السنى: "وكان الأمير متكئا فاستولى جالسا ورفع عن حاجبيه شربوشه، وصفّق وكبّر، وقال ضاحكا: "وحقّ عليٍّ يا أبا سلامة لقد نصّرك الراهب وأدخلك في دينه"، فلا أدرى كيف يقسم سُنِّىٌّ (سُنِّىٌّ حطّم أبوه دولة الشيعة فى مصر والشام) بحقّ علىٍّ، وهو يمينٌ لا يقسم به سوى الشيعة، الذين بينهم وبينه هو وأبيه وأسرته كلها حتى اليوم وإلى ما بعد اليوم إلى أن تقوم القيامة ما طرق الحدّاد. وبالمثل لا أدرى كيف يُبْدِى أمير مسلم فى ذلك الوقت الذى كان للدين فيه سلطانه الهائل على القلوب، وبالذات أيام الحروب الصليبية التى كان للأيوبيين فيها القِدْح المُعَلَّى، شماتتَه على الملإ فى دينه ودين أمته وانحيازَه لجماعة من النصارى لا قيمة لهم عنده ولا يمثلون له أى اعتبار، خارجا بذلك عن الملة!(/39)
لقد كان ذلك الأمير، فيما قرأنا، مؤمنا حريصا على أداء فروضه الدينية، فعلى سبيل المثال كان عزمه قد صحَّ على أداء مناسك الحج فى سنة كانت هناك مشاكل سياسية بينه هو وأخيه الأفضل وبين الكامل ابن عمهما أرسل الكامل من جرائها عسكرا كثيرا ينتظرونه قبيل مكة ظنا منهم أنه ينوى الذهاب لليمن بغية أخذها لا لأداء الفريضة. ولنستمع إلى النويرى فى "نهاية الأرب" يحكى لنا القصة كلها، ووجه الشاهد فيها أنه كان ديّنا: أولا فى خروجه للحج على ما فيه من مشقة يعرفها كل من خاض تجربته، وثانيا فى عرضه على الخصوم أن يقيدوه ويحيطوا به حتى يقضى المناسك كى يطمئنوا إلى أنه فى أيديهم لا يريد اليمن بل الحج، وثالثا فى حرصه على اتباع سنة النبى فى غزوة الحديبية لما عجز عن تأدية الشعيرة، إذ ذبح أميرنا وقصّر شعره وانصرف قافلا إلى الشام، ورفض الدخول فى معارك وإراقة دماء مع جند ابن عمه: "وفيها (أى فى السنة العاشرة بعد الخمسمائة من الهجرة) توجه الملك الظافر الخضر بن السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب من حلب لقصد الحج. فنزل بالقابون في يوم الأحد رابع شوال، ثم انتقل إلى مسجد القدم في خامس الشهر. وكان الملك المعظم بحوران، فوصل إلى دمشق، وأدخله إليها وعمل له ضيافة. ثم توجه إلى الحجاز صحبة الركب الشامي، فلما وصل إلى المدينة زار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحرم بالحج من ذي الحُلَيْفة. فلما انتهى إلى بدر وجد عسكر الملك الكامل قد سبقه من مصر إلى بدر خوفا منه أن يتوجه إلى اليمن ويستولى عليها. فقالوا له: ترجع! فعلم مرادهم، فقال: إنه قد بقي بيني وبين مكة مسافة يسيرة، وإني قد أحرمت. ووالله ما قصدي اليمن، ولا أقصد غير الحج، فقيِّدوني واحتاطوا بي حتى أقضي المناسك وأعود. فلم يوافقوه على ذلك، وأعادوه إلى الشام. فصنع كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم حين صده المشركون عن البيت: قصر وذبح ما تيسر، وعاد إلى الشام". وكان بمستطاعه أن يهب لمحاربتهم كما قلنا أخذًا بما اقترحه عليه قواده وجنده الذين عز عليهم أن يرجع على هذا النحو المهين دون أن يحج، إلا أنه رفض كما جاء فى "تاريخ الإسلام" للذهبى: "قال أبو شامة: وحكى لي والدي، وكان قد حج معهم، قال: شق على الناس ما جرى عليه، وأراد كثير منهم أن يقاتلوا الذين صدوه عن الحج، فنهاهم وفعل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين صُدّ عن البيت، فقصر من شعره، وذبح ما تيسر، ولبس ثيابه، ورجع وعيون الناس باكية، ولهم ضجيج لأجله". فهل من يتصرف مثلا على هذا النحو من الحب لدينه وتحمُّل المشاق من أجل تأدية مناسكه والحرص على اقتفاء سنة رسوله عليه السلام منذ أن خرج للحج حتى أعيق عن إتمامه يمكن اتهامه بأنه يمالئ النصرانية ضد الإسلام؟
وذكر ابن العديم فى كتابه: "بغية الطلب فى تاريخ حلب" أن الأمير المشمر كان عالما محدِّثا، "سمع منه بعض أصحابنا شيئا يسيرا. خرّج عنه صاحبنا أبو عبد الله محمد بن يوسف البرزالي حديثا في معجم شيوخه، وروى لنا عنه أبو المحامد إسماعيل بن حامد القوصي إنشادا أخرجه عنه في معجم شيوخه. وكان يزور عمي أبا غانم، وكنت أجتمع به عنده في المسجد المعروف بنا، فلم أتحقق ما سمعته منه، فإنه كان يورد أشياء حسنة... وكان جوادا سخيا شجاعا عارفا بالتواريخ وأيام الناس، وكان من جِلّة بني الملك الناصر يوسف بن أيوب وكان يُنْبَز (أى يلقَّب) بالملك المشمّر، بحيث أنه غلب على لقبه: الملك الظافر. وبلغني أنه إنما غلب عليه هذا اللقب لأن أباه قسم البلاد على أكابر إخوته، قال: أنا مشمر، فغلب عليه المشمر، وهجر ما سواه...". وفى "الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام و الجزيرة" لابن شداد أنه بنى فى أرباض حلب مسجدا. أفمثل هذا الأمير يمكن أن يوالس مع النصارى ضد الإسلام ونبيه، فضلا عن أن يفعل ذلك على مرأى ومسمع من عسكره ورجال حاشيته وضيوفه والناس جميعا؟ وأخيرا وليس آخرا ها هو ذا الراوى الكذاب الذى لا يحسن تلفيق حدوتته الساذجة يقول إن الأنبا حين سأل الأمير السؤال التالى: "إن قَدِم أحد الناس وأظهر قرآنا يخالف القرآن المعروف الآن عندكم وقال لكم: هذا القرآن المنزل على النبي، وليس هو ذاك، فهل كنتم تقبلونه؟" جاء رد الأمير صاعقا على الفور هكذا: "لا. وعليّ ما كنّا نقبله بل نحرقه ومن أتى به". فهل من يكون رد فعله بهذا العنف على دعوى وجود قرآن غير القرآن يمكن أن يشمت بالإسلام وعلمائه الذين ينافحون عنه، ويشجع المناكيح المقاريح على تثليثهم ويُسِرّ لهم بأنه معهم بقلبه لأن أمه نصرانية مثلهم؟ كما أنطقه الراوى، حين أراد أن يوهمنا باتخاذه صف الأنبا، بصيحة "الله أكبر"، وهى صيحة إسلامية خالصة لا يقولها الأمير لو كان فى قلبه موالاة للنصارى. يا للكذب! يا للعار! أرأيت أيها القارئ كيف يقع هؤلاء الحمقى فى شر أعمالهم؟(/40)
على أن الأمر لم ينته عند هذا الحد، إذ طفق الراهب المزعوم يحاول تفنيد ما نفهمه نحن المسلمين، ويفهمه معنا كل من لديه أدنى قدر من العقل، من نص سورة "آل عمران" الذى مر آنفا فى التسوية بين آدم والمسيح. ولم لا يأخذ الراهب راحته، والملعب ملعبه، والحَكَم من طرفه، والخصم غير موجود، إذ ليس هناك فى الحقيقة إلا "روبوت" يحركه من بعيد كما يشاء بـ"الريموت كونترول"؟ بل إن المسألة كلها ليست أكثر من حدوتة خيالية لم تقع إلا فى وهم كاتبها؟ "قال الراهب: وأما قولك يا أبا سلامة أن نبيك قال: "وما مثل عيسى ابن مريم إلا مثل آدم قال له: كن، فكان" (سورة آل عمران) فقد صدق نبيك في قوله لأن كلمة الله وروحه الخالقة الأزلية غير المحدودة وغير المدركة اتخذت لها من طبيعة آدم جسما من مريم وسكن فيه واحتجب به لاهوت الكلمة لأجل السياسة والتدبير لأن الجوهر اللطيف لا يظهر إلا في جسم. وخذ المثل من جوهر النار، فإنه جوهر لطيف لا يُنْظَر ولا يُرَى إلا في مادة من المواد. ثم اعلم أن موسى النبي طلب من الله تعالى أن يبصر الله بجوهر اللاهوت، فقال له الله: ادخل في باطن الصخرة، وأنا أضع يدي في ثقب الصخرة، وأنت تبصر ما ورائي. فلما كان منه ذلك أبصر موسى ما كان وراء الجوهر الإلهي، فلمع فى وجه موسى نورٌ لا يستطاع النظر إليه حتى ما كان أحد من الشعب ينظر إلى وجه موسى إلا مات. فاحتاج إلى برقع كان يضعه على وجهه حين كان يخاطب الشعب لئلا يموت كل من ينظر إلى وجه موسى من الشعب.
قال المسلم: إذا كان اعتقادك أن روح الله وكلمته حلا في بطن مريم فقد بقي الله بغير روح ولا كلمة بعد حلولها في بطن مريم.
قال الراهب: توهّمك هذا يا أبا سلامة يليق بصبيان المكاتب وأهل القرى والمضارب لأنك تقايس الإله الجوهر اللطيف الذي لا يُحَدُّ ولا يُرَد، ولا يحصره مكان ولا يحويه زمان، وهو غير المتنقل، وتتخيله محصورا ومتنقلا. أَبْعِدْ هذا الوهم من ظنك، وهذا الرأي من رأيك، ولا تتخيَّلْ روح الله وكلمته محصورة ومتنقلة.
قال المسلم: فكيف يمكنني أن أحقّق أن كلمة الله وروحه بجملتها في بطن مريم، وهي بجملتها على العرش عند الله ولا يخلو منه ولا يفارقه على حسب رأيك؟
قال الراهب: توهّمك هذا يناسب عيشتك الغليظة الرخية ومذهبك وناموسك وشريعتك لأنكم تتصورون وتنسبون الأشياء المعقولة كالأشياء المحسوسة بحسب عقولكم المكدرة من رخاوة العيشة واستعمال اللذات الجسدية، ولكني لا أكسل عن أن أوضّح لك البيان عما سألت وآتيك بمثالات توضّح الصدق. فما قولك في الشمس؟ أليس هي في أفق السما؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: أفليس تبعث شعاعها وحرارتها ونورها على الأرض كلها؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: فهل نورها وحرارتها حين تبعثهما إلى الأرض يفارقها أم لا؟
قال المسلم: لا يفارقها ولا يخلو منها.
قال الراهب: كذلك كلمة الله وروحه حلت في مريم ولم تخلُ من الله الآب. ونأتيك بمثال آخر فنقول إن مولانا الأمير إذا تكلم كلمة برزت من عقله ومِنْ فيه، وصارت الكلمة في كتاب من الرَّقّ والمداد، وحصلت في جسم ثم نودي بها في العالم وصارت مسموعة عند الكل، فهل كلمة الأمير فارقت عقله وبقي فيما بعد بغير كلمة؟! أفليس الكلمة بجملتها في عقل الأمير، وهي بجملتها في الكتاب والقرطاس والمداد؟
قال المسلم: نعم".(/41)
والمجادلة كلها سفسطة فى سفسطة، فالله سبحانه مطلق لا يحده حد، فكيف يحل فى بطن مريم ويبقى هناك طوال شهور الحمل، ثم حين يولد يظل فى الأرض محصورا فى ذلك الحيز المادى المتغير من لحظة لأخرى، وهو جسد عيسى الرضيع فالطفل فالصبى فالمراهق فالشاب فالرجل، ويعتريه ما يعترى أجسادنا جميعا من انحلال أنسجة وتكوّن غيرها، وموت خلايا وحلول سواها محلها، فضلا عن الألم والضعف والصداع والحاجة إلى الطعام والشراب والرغبة فى الدخول إلى الخلاء والحركة والانتقال من مكان إلى مكان وتلقى الشتم والتكذيب... إلى آخر مظاهر المعاناة التى تحتمها مطالب العيش والتفاهم مع الآخرين، إلى حين القبض عليه كما يُقْبَض على أحقر مجرم وتعرُّضه للضرب والطعن والإهانة والسخرية والصلب والقتل، وهو يجأر فى جنبات الفضاء نِشْدَانًا لعون لا يأتيه أبدا: "إلهى إلهى، لم تركتنى؟"، مقرًّا على نفسه رغم كل سفسطات الأنبا البكاش وأشباهه أنه ليس إلا "عبدا" ضعيفا يتجه إلى "إلهه" يرجوه المساعدة؟ ولقد صدق المسلم حين علق على هذه السفسطة الرقيعة قائلا: "إذا كان اعتقادك أن روح الله وكلمته حلا في بطن مريم فقد بقي الله بغير روح ولا كلمة بعد حلولها في بطن مريم". ذلك أنه متى ما جعلنا لله وجودا متحيزا بحيز المكان والزمان فلا بد أن يجرى عليه من ثم كل ما يجرى على الوجود المتحيز من الانحصار دائما فى مكان دون سائر الأمكنة، وفى زمان دون باقى الأزمان. وعلى هذا فإذا كان الله فى بطن مريم أو فى البيت الفلانى أو على الصليب العلانى فلا وجود له حينئذ فى غير هذا البطن أو ذاك البيت أو على غير ذلك الصليب. إن المسلمين حين يقولون هذا فإنما يقولون ما يقضى به العقل والمنطق، وما سوى ذلك هو مجرد سفسطة رقيعة كما قلنا مرارا. ثم إن عالما مسلما، فضلا عن أن يكون هذا العالم من أئمة المسلمين، لا يمكن إذا أراد الردّ بالإيجاب على سؤال منفى أن يقول: "نعم" كما ادّعى كاتب الحدوتة على الشيخ، بل عليه أن يستعمل كلمة "بَلَى". جاءك "البَلا" منك له يا بعيد! فهذه علامة أخرى من العلامات المخزية التى تفضح كاتب الحدوتة وتهتك ستار كذبه وزيفه!
والغريب أن الراهب الكذاب يأبى إلا أن يَحُور إلى طبيعته المدلسة الكذابة فيتهم المسلم بأنه هو الذى يقول بتحيز الله! انظروا إلى مدى الالتواء فى تفكير هذا الكائن وسلوكه: "توهّمك هذا يا أبا سلامة يليق بصبيان المكاتب وأهل القرى والمضارب لأنك تقايس الإله الجوهر اللطيف الذي لا يُحَدُّ ولا يُرَدّ، ولا يحصره مكان ولا يحويه زمان، وهو غير المتنقل، وتتخيله محصورا ومتنقلا"، وإلا فإذا كان الله جوهرا لطيفا لا يُحَدّ، فكيف يريد الأنبا الرقيع حَصْره فى بطن مريم وغيره من الأماكن التى كان يحل فيها عيسى عليه السلام أو يتنقل بينها؟ وهو يتطاول على المسلمين (طبعا لأنه كالكلب: ينبح ما لم يجد إنسانا حوله، فإذا شم رائحته انقمع وتخاذل وخرس تماما)، قائلا إنهم حسيون متبلدو المشاعر والفهم لانشغالهم باللذائذ المادية، وكأنه هو وأمثاله يعيشون على نور الشمس ونسمات الهواء فلا يأكلون ولا يشربون ولا يلبسون ولا ينامون، وفوق ذلك كله لا يُنْكَحون؟ اللهم إلا إذا قال عن الأخيرة إنها من مذهب أفلاطون، وأفلاطون من الفلاسفة المثاليين، فعندئذ نسكت ولا نفتح فمنا بالكلام عن الاتجاه الجديد فى بعض الكنائس لترسيم الأساقفة من اللوطيين حتى تتم الخيبة القوية ويُقْبِل الأسقف من هؤلاء على رعيته فيعظهم ويصلى بهم ودبره مبلول من ماء الفحل الذى نهض عنه لتوه، مثلما كان حال ذلك الشيوعى الحقير المُسْتَهْوِد الذى نكحه خادمهم النوبى فى بيتهم ذى النوافذ المفتوحة وبلله فذهب إلى الحمام، وقد تدلى سرواله وبانت مؤخرته، ليزيل آثار ذلك النكاح اللذيذ عند كل من يكره الإسلام، ثم عاد منه وماء الصنبور الذى تسرب إلى حذائه يحدث صوتا يشبه ما يسمونه فى الإنجليزية: "squelching"، ولا أدرى كيف أقوله بالعربية لجهلى أنا لا لضيق لغتنا العبقرية! الآن عرفنا لماذا قال لنا أولاده ذات يوم إنهم لا يريدون الانتساب له! والله معهم حق!(/42)
أما قول الراهب إن "كلمة الله وروحه الخالقة الأزلية غير المحدودة وغير المدركة اتخذت لها من طبيعة آدم جسما من مريم وسكن فيه واحتجب به لاهوت الكلمة لأجل السياسة والتدبير لأن الجوهر اللطيف لا يظهر إلا في جسم"، فليس له من معنى سوى أنه سبحانه لم يكن يدبّر أو يسوس قبل زمن عيسى ولا بعد انتقاله عن دنيانا. ألم يقل إن الجوهر الإلهى اللطيف إنما سكن جسد عيسى كى يتم التدبير والسياسة؟ إذن فنحن الآن بلا سياسة ولا تدبير إلهيين، والذى يدبر ويسوس هو أمريكا، وقد عَرَفها فوكوياما العفريت المكّار من نفسه وأدرك على الفور أنها "نهاية التاريخ"، كما أعلن نيتشه المجنون من قبل أن "الله مات"، ولا عزاء للسيدات ولا حتى للبنات، أما بالنسبة للرجال فهل عاد هناك رجال بعد أن أخصتهم أمريكا وأحالتهم إمَّعات؟ ولا يكتفى الأحمق بما مضى، بل يأبى إلا أن يسقط سقطة قاتلة أخرى حين يقول: "ولما كنا ذوي أجسام وجب عند حكمته أن يخاطبنا بجسم لأن اللاهوت عادم الجسم، كما إن جوهر النار لا يُعْلَنُ ولا ينتفع الناس منه إن لم يظهر في مادة من المواد". وسؤالنا هنا هو: وكيف كان الله يخاطب البشر منذ بدء الخليقة؟ ألم يكن يرسل لهم أنبياء ورسلا، أم كان يتجسد بنفسه فى هؤلاء الأنبياء والرسل؟ إن قال بالأولى فعيسى مجرد نبى ورسول مثل سائر الأنبياء والمرسلين، وإن قال بالثانية فجميع الأنبياء والرسل إذن آلهة أو أبناء آلهة. وفى الحالتين لا فرق بين عيسى وسواه!
ولا يكتفى الأنبا المزيف بهذا، بل يلجأ إلى مثال النار التالى ليقنع المسلم بسخف ما يقول: "فما قولك في الشمس؟ أليس هي في أفق السما؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: أفليس تبعث شعاعها وحرارتها ونورها على الأرض كلها؟
قال المسلم: نعم.
قال الراهب: فهل نورها وحرارتها يفارقها حين تبعثهما إلى الأرض أم لا؟
قال المسلم: لا يفارقها ولا يخلو منها.
قال الراهب: كذلك كلمة الله وروحه حلت في مريم ولم تَخْلُ من الله الآب".
وهذا المثال مما يجرى على ألسنة النصارى للتدليل على صحة تثليثهم، مع أن هناك فارقا جذريا بين النار وبين الله: فالنار كيان مادى، أىْ مُرَكَّبٌ من عناصر متعددة كانت متفرقة قبل ذلك ثم تجمعت وأصبحت نارا، وسوف تتفرق بعد ذلك كرة أخرى... وهكذا دواليك. فهل الله هكذا؟ وهل الله كالنار متحيز فى مكان وزمان معينين؟ ثم إن النار باستمرار صدور أشعتها منها تفنى، وبعد قليل لا تعود هناك نار. بل إن الشمس وسائر النجوم، وهى كرات نارية هائلة الحجم إلى درجة رهيبة، لها عمرٌ مقدَّر سوف تبلغ تمامه يوما ولا تعود ثمة شمس ولا نجوم، وإن كان عمرها أطول بما لا يقاس من النيران الأرضية التى سرعان ما تفنى كما قلنا، والتى لا يصح تشبيه الله بها بالمعنى الذى يريده الأنبا الأخرق. كذلك فإن أشعة النار والشمس ليست هى النار أو الشمس كلها، بل جزءا منها فقط، وهو عندما يغادرها لا يعود جزءا منها بل ينفصل عنها، فما علاقة ذلك بروح الله التى تفارقه ولا تفارقه؟ ثم إن حرارة الشمس تضعف كلما ابتعدنا عنها، فهل روح الله تضعف على هذا النحو أيضا؟ يعنى: هل كان عيسى إذن إلها على قد حاله؟ إلها "نصّ نصّ" كما تقول نانسى عجرم التى ينتحل اسمها وشخصيتها أحد المناكيح فى رسائله لى فى محاولة منه لتحسين نفسه والإيهام بأنه لا يزال "حلوة وشابة"! اسم الله عليها! كما أن وصول الأشعة والنور من الشمس إلينا يستغرق وقتا، فهل يجوز أن نقول ذلك عن روح الله؟ أترى هذا هو السبب فى أن عيسى لم يصل إلينا منذ أول الخليقة، بل تأخر إلى ما قبل ألفى عام من الآن؟ كذلك فإن أشعة الشمس ونورها لا يصلان إلى كل مكان، فهل نقول عن روح الله ما نقوله عنهما ونفسر فى ضوء ذلك أن عيسى بن مريم عليه السلام كان، فى الوقت الذى يوجد فيه فى مكان معين، يكون غائبا عن بقية الأماكن؟ يمينا بالله إن هؤلاء لحمقى أغبياء!(/43)
ومرة أخرى يسقط الجردل سقطة قاتلة، إذ يتحذلق قائلا: "ونأتيك بمثال آخر فنقول إن مولانا الأمير إذا تكلم كلمة برزت من عقله ومِنْ فيه وصارت الكلمة في كتاب من الرَّقّ والمداد وحصلت في جسم ثم نودي بها في العالم وصارت مسموعة عند الكل، فهل كلمة الأمير فارقت عقله وبقي فيما بعد بغير كلمة؟ أفليس الكلمة بجملتها في عقل الأمير، وهي بجملتها في الكتاب والقرطاس والمداد؟". ومرة أخرى نجده يلجأ إلى أسلوب التفكير العامى الذى لا يصلح فى مخاطبة العقل والمنطق، فالكلام المقيّد فى الكراس ليس هو الفكرة التى فى عقل الأمير، بل هو مجرد رمز لها وصورة منها، والصورة غير الأصل كما هو معروف، وإلا كان لزاما علينا أن نقول إن صورتى المنشورة فى بعض المواقع المشباكية هى أنا، هذه الصورة التى يشبّهها المنكوح المذكور آنفا (فى رسائله إلىّ) بمؤخرته، مع أنى (رغم كونى من غير ذوى الوسامة) لست قبيحا ولا منتنا كمؤخرته ذات الدبر المتهدل الذى ضرب فيه الدود! ولا شك أن لكل من الأصل والصورة كيانه ووجوده المستقل، فالفكرة فى عقل الأمير مثلا لا تبقى كما هى بل تتطور، أما فى الكراس فستبقى كما هى برمزها الأول لا يعتريها تطور، كما أن فكرة الأمير حين تنتقل إلى عقل شخص آخر تمتزج به وتصبح عنصرا من عناصر فكره، فهل نقول هذا عن الله وروح الله؟ وبالمثل إذا أراد الأمير أن يستعيد فكرته كما انبثقت فى ذهنه لأول مرة بالضبط فلن يستطيع ذلك أبدا، بخلاف رمزها الكتابى فى الكراس، فهو دقيق واضح تماما كما كُتِب للمرة الأولى. كما أن الأمير عندما يموت تنتهى معه الفكرة التى كانت فى ذهنه، على حين يبقى رمزها الكتابى الذى فى الكراس، أو قد يحترق الكراس وتبقى الفكرة الذهنية فى رأس صاحبها، ولكن بعد اعتراء التطور لها حسبما وضحنا، أو قد يموت الأمير ويحترق الكراس جميعا: إما فى نفس الوقت، أو فى وقتين مختلفين، مع تقدم هذا على ذاك، أو ذاك على هذا. ثم قبل ذلك كله ينبغى ألا يفوتنا ما قلناه عند حديثنا عن النار، وهو أن الفكرة التى فى ذهن الأمير (بل كل الأفكار التى فى ذهن الأمير والخفير والشريف والحقير) لم تكن هناك من قبل ثم كانت، وهى تدين فى وجودها لما قرأه الأمير أو الخفير أو سمعه أو شعر به أو فكر فيه من قبل، فهل روح الله هكذا؟
ولا يتوقف الراهب الضلالى عن الكذب، وهذا أمر طبيعى، إذ قد أصبح الكذب يجرى فى دمه هو وأمثاله بحيث إذا توقف عنه مات كما يقع للسمكة إذا بقيت خارج الماء. ومن هنا نجده يكذب على القرآن والإسلام زاعما أنه يشهد لكتابهم وعقيدتهم بالصدق. ونسى الكذاب القرارى أنه لو صح ذلك فلماذا يشتم هو ومن على شاكلته المسلمين ويهاجم الرسول؟ لكن مثل هذا الأغلف لا يفقه ولا يفهم، وليس عنده من الأحمر بعض شىء. ولنقرأ ما قاله المعجون المأفون: "قال المسلم: ومَنِ الشاهدُ لك بصحة دينك؟
قال الراهب: أنت ونبيك وكتابك.
قال المسلم: فما بيان ذلك؟
قال الراهب: أليس يقول كتابك في سورة "آل عمران" إن "من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله في الليل والنهار ويؤمنون بالله واليوم الأخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. أولئك هم الصالحون بأعمالهم، ونورهم يعلو كل نور"؟ ويقول أيضا فيها: "إنا أنزلنا القرآن نورا وهدى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل". ويقول: "آمنا بالذي أنزل عليكم وعلينا، وإلهنا وإلهكم إله واحد" (سورة العنكبوت). ويقول: "لتجدنّ أقرب الناس إلينا مودة الذين قالوا إننا نصارى، وذلك أن فيهم قسيسين ورهبانا، وإنهم لا يستكبرون، وهم أمّة من الصالحين يتلون آيات الله ويهذّون بالحق" (سورة آل عمران). ويقول في سورة آل عمران: "المسيح كلمة الله وروحه ألقاها إلى مريم". ويقول أيضا: "يا عيسى ابن مريم، إني متوفيك ورافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا وجاعل الذين آمنوا بك فوق الذين كفروا بك، وأنت ديان العالمين" (سورة آل عمران). أليس نبيك وكتابك يشهدان لنا بهذه الشهادات وأكثر منها، وأن المسيح له في السماء الفضل على سائر الأنبياء، وأنت تتَّقح ولا تصدّق نبيك وكتابك؟ أفما تعلم أنك إذا لم تصدّق الإنجيل فقد كذّبت نبيّك وكتابك فما تكون فيما بعد لا مسلما ولا نصرانيا؟
قال المسلم: أنا مصدّق القرآن لأنه منزل من السماء، وأصدّق جميع ما كتُبِ فيه عن عيسى.
قال الراهب: لو صدَّقتَ القرآن لصدَّقت الإنجيل".(/44)
والحق أنه لو لم يكن فى الحدوتة البلهاء التى بين أيدينا سوى هذه الأخطاء فى تلاوة الآيات القرآنية وفى نسبتها إلى غير سُوَرها لكان هذا كافيا وفوق الكافى فى الإيقان بأن هذا الكلام كله مزيف مصنوع وأنه لم تكن هناك مجادلة بين الأنبا المنكوح وأولئك الشيوخ النكاحين. لماذا؟ نعم، قلت لى: لماذا؟ فأقول لك: لأنه لو كانت هناك مثل هذه المجادلة بين الأنبا المنكوح والشيوخ النكاحين لقاموا (يغفر الله لهم!) فنكحوه فى الحال وصححوا له أخطاءه تلك. أمّا وإن شيئا من ذلك لم يحدث، وإلا لذكره الأنبا وكاتب الأنبا لأنه مما يسعدهم وينعشهم أن يقال عنهم فى أرجاء العالم إنهم منكوحون، فمعنى هذا أن المسألة برُمّتها غير حقيقية. بكل يقين ليس من المعقول أن يسمع عالم مسلم أخطاء فاحشة مثل هذه فى تلاوة القرآن وفى نسبة الآيات إلى غير سورها ويسكت، فضلا عن أن يوافق المخطئ ويعلن موافقته له إعلانا. كما أن ملوك بنى أيوب وأمراءهم كانوا أصحاب ثقافة أدبية ودينية رفيعة، بل كان منهم الأدباء والعلماء كما قلنا. وكنا، قبل عدة أسابيع، نناقش رسالة دكتوراه عن المجالس الأدبية فى العصر الأيوبى، وكانت فرصة للمقارنة بين المستوى الثقافى لملوك وأمراء بنى أيوب "الأكراد" وبين الحكام "العرب" الحاليين، فكانت تعليقات بعض المناقشين فاضحة مخزية للأخيرين. ومن ثم فليس من المعقول أبدا أن يخطئ المأفون كل هذه الأخطاء دون أن يصكه الأمير الأيوبى فى فمه بالنعل التى فى قدمه، بَلْهَ أن يرافئه على سخريته بالشيوخ المسلمين ودينهم. ومن يفتح المصحف ويقارن بين ما قاله الأنبا وما يقوله المصحف لأدرك مقدار تحريف العلج الوقح للآيات القرآنية الكريمة التى استشهد بها وعبث بمعناها ليصل منها إلى تقويل القرآن ما ليس فيه بُغْيَةَ إيهام القراء أن الكتاب العزيز يشهد للنصرانية الحالية وأناجيلها بالصحة والاستقامة، وهيهات. وهذا صنيع المبطلين المنافقين لا صنيع الذين يحرصون على إصابة الحق والتزامه، وهو ما يدل على أنهم يعرفون من أنفسهم الضلال والانحراف، ولكنهم يكذبون!
والآن سوف نقوم بالمقابلة بين ما أورده المأبون من آيات محرفة وبين هذه الآيات نفسها كما وردت فى القرآن، فهو يقول مثلا: "المسيح كلمة الله وروحه ألقاها إلى مريم"، يريد بذلك أن يمرر عقيدته الوثنية فى أن المسيح هو الله نفسه أو ابنه، وصوابها فى سياقها الكامل هو: " يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173)" (النساء)، ففى القرآن أنه المسيح عيسى بن مريم، وأنه كلمة الله وروح منه، وعند الأنبا المشروخ هو "المسيح كلمة الله وروحه" بحذف بنوته لمريم وجَعْله "روح الله" نفسه لا روحا من الله، وهو فرق رهيب. وهكذا تكون الأُبْنَة والتحريف، وإلا فلا. ثم يقولون إن المسلمين يتهمونهم بالباطل بأنهم حرفوا الإنجيل، وها هم أولاء يحرفون لا الإنجيل فقط، بل كتابنا نحن أيضا، عينى عينك ودون أى شعور بالخجل. فما معنى ذلك؟(/45)
وفى آية أخرى نراه يقول: "إنا أنزلنا القرآن نورا وهدى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل"، على حين أنها فى الأصل: "نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ" (آل عمران). ومن نفس السورة نراه يورد الآية رقم 114 على النحو التالى: "من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله في الليل والنهار ويؤمنون بالله واليوم الأخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. أولئك هم الصالحون بأعمالهم، ونورهم يعلو كل نور"، مضيفا إليها ما ليس منها، وحاذفا منها ما هو أصيل فيها، وهذا نصها الصحيح: "مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)". وهى ليست فى النصارى كما يريد اللئيم المغفل أن يلوى عنقها، بل فى من أسلم من أهل الكتاب ولم يَبْقَوْا على دينهم، فآيات الله هنا هى آيات القرآن الكريم، والسجود هو سجود المسلمين، إذ لا يصف القرآن بالإيمان بالله واليوم الآخر أبدا بعد مجىء النبى محمد بدعوته إلا من آمن به وصدّق بالقرآن كما توضح الآيتان 105- 151 من سورة "النساء" والآية 92 من سورة "الأنعام" والآيات 156- 158 من سورة "الأعراف" وغيرها.(/46)
وبالمثل فالذين قالوا إنا نصارى فى الآية التالية ليسوا هم النصارى بوجه عام بل فريق بعينه منهم جاء إلى المدينة للقاء الرسول عليه السلام، وقد فتح قلبه وعقله لدعوة الحق، فلما سمعوا القرآن منه صلى الله عليه وسلم بَكَوْا وخشعوا وسارعوا إلى الدخول فى الدين الجديد كما هو جَلِىٌّ بيّنٌ لمن فى عقله أدنى مقدار من الفهم: "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأََنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)" (المائدة)، أما هو فقد أوردها على النحو التالى، وقَصْده أن يقول إن القرآن يثنى على النصارى المثلثين: "لتجدنّ أقرب الناس إلينا مودةً الذين قالوا إننا نصارى، وذلك أن فيهم قسيسين ورهبانا، وإنهم لا يستكبرون. وهم أمّة من الصالحين يتلون آيات الله ويهذّون بالحق". وبالمناسبة فقد قال إن هذه الآية هى من آيات سورة "آل عمران"، على حين أنها من "المائدة". أما الآية التالية فالهدف الخبيث الذى يتوخاه المنفوخ المشروخ واضح لا يحتاج إلى شرح، فهو يقول فى الآية رقم 55 من سورة "آل عمران": "يا عيسى ابن مريم إني متوفيك ورافعك إليَّ ومطهِّرك من الذين كفروا وجاعل الذين آمنوا بك فوق الذين كفروا بك، وأنت ديان العالمين"، فى حين أنها فى الحقيقة تجرى على النحو التالى: "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)". والفرق بين القراءتين هو الفرق بين الكفر والإيمان، فالمسيح فى الآية الصحيحة لا يعدو أن يكون عبدا لله لا يملك من الأمر شيئا، أما فى الآية المحرفة فهو "ديان العالمين"، والدينونة هى من صلاحيات الله سبحانه وحده لا يشاركه فيها أحد. فانظر الفرق بين الأصل والتحريف تعرف ما عند هؤلاء المناجيس المتاعيس من كفر والتواء وخبث وفساد. وأخيرا فقوله تعالى فى آخر الآية التالية من سورة "العنكبوت": "وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)" معناه أنه ليس هناك إله إلا الله: فلا المسيح إله، ولا روح القدس إله، ومن ثم فلا أقانيم ولا تثليث، على عكس ما يريد كاتب الحدوتة أن يوقع فى رُوع القراء من أن القرآن يشهد بأن الإله ذا الأقانيم الثلاثة الذى يؤمن به النصارى هو الإله الذى ينبغى أن يؤمن به المسلمون(/47)
أيضا. وشتان هذا وذاك!
إلهنا الذى نؤمن نحن المسلمين به ولا نعرف إلها غيره واحد أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولَد ولم يكن له كفوا أحد. إلهنا لم يتجسد ولم يُصْلَب ولم يُقْتَل ولم يُدْفَن ولا يأكل أو يشرب، ولم تكن له صاحبة أو ولد، وخلق كل شىء فقدّره تقديرا. ومع هذا فكل إنسان وما يعتقد، والمهم ألا يتجاوز أحد حدوده ويتواقح على ديننا ويشتم ربنا ونبينا ويدَّعى الكذب ويؤلف الحكايات المسيئة المتخلفة، فإن فعل فليس أمامنا إلا الرد بحزم، وليس لأحد الحق فى أن يغضب ويطلب منا أن نسكت، وإلا فردّنا معروف، وهو إسكات الكلاب النابحة علينا، فإن قالوا إننا عاجزون عن ذلك فهم إذن عن إسكاتنا أعجز لأنه ليس من العقل ولا من العدل أن تطلب ممن يطرد عن نفسه الكلاب النبّاحة العضّاضة تَرْكَها تعضه وتنبحه! أما قول الأنبا المزعوم: "أليس نبيك وكتابك يشهدان لنا بهذه الشهادات وأكثر منها وأن المسيح له في السماء الفضل على سائر الأنبياء وأنت تتقح ولا تصدّق نبيك وكتابك؟ أفما تعلم أنك إذا لم تصدّق الإنجيل فقد كذّبت نبيّك وكتابك فما تكون فيما بعد لا مسلما ولا نصرانيا؟" فجوابه هو أننا نؤمن بعيسى بن مريم عبدا لله ونبيا من أنبيائه كما ورد فى القرآن، ولا نزيد عن ذلك شعرة لأن ما يقوله الأنبا المخبوط فى عقله لا وجود له فى القرآن، بل فى الآيات التى حرّفها على عادة قومه فى العبث بالنصوص السماوية، إذ يكتبونها بأيديهم التى تستحق القطع ثم يقولون: "هذا من عند الله" ليشتروا به ثمنا قليلا. ولكن هيهات، فنحن لهم بالمرصاد نفضح كذبهم ونهتك تدجيلهم، وأدبارهم فوق البيعة. أما أن يحاول كاتب الحدوتة خداع الناس بالقول بأن القرآن الكريم يشهد لعيسى عليه السلام بما يعتقده النصارى المثلثون فيه فهو تزييف وتدليس حقير. ولو كان هذا صحيحا فلماذا يا ترى يتطاول الأنبا الحقير على النبى محمد عليه الصلاة والسلام؟ ألم يكن ينبغى عليه أن يرفع له القبعة (أقصد الطاجن الذى على رأسه) احتراما؟ لكن لأنه يكذب نراه يتناقض، وهذا شأن اللص حين يُضْبَط متلبسا بجريمته، فهو يدافع عن نفسه بكلام لا منطق فيه، ويتخبط فى هذا الدفاع بكلمة من الشرق وكلمة من الغرب.
ومرة أخرى يعود كاتب الحدوتة إلى الزعم بأنه "لما كنا ذوي أجسام وجب عند حكمته أن يخاطبنا بجسم لأن اللاهوت عادم الجسم كما إن جوهر النار لا يُعْلَنُ ولا ينتفع الناس منه إن لم يظهر في مادة من المواد. فأرسل الله ابنه وحبيبه الذي هو كلمته وروحه إلى مريم العذراء حسبما يشهد بذلك نبيك وكتابك بقوله: "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" (سورة التحريم). ويقول أيضا إن الله اصطفى كلمته وروحه الخالقة الأزلية وحلّت في بطن مريم، ومع حلولها اتخذت جسما من طبيعة آدم بريئا من الخطية وكونته كما شاءت. واحتجبت الكلمة والروح اللطيف بذلك الجسم واتحدت به، ولم يتقدم الجسم قبل حلول الكلمة والروح بل مع حلول كلمة وروح الله الخالقة تكوَّن الجسم. ومثال ذلك يكون الضو مع البرق وظهور الضو مع حضور النار. واتحد اللاهوت بالناسوت المأخوذ من طبيعة آدم اتحادا بلا اختلاط لأن الطبيعة الإلهية لم تنتقل إلى طبيعة الجسم الآدمي، ولا طبيعة الجسم الآدمي انتقلت إلى طبيعة اللاهوت، بل صار كل منهما مالكا خاصته وطبيعته. مثال ذلك أنك إذا أخذت سيفا أو سكينا وأحميتهما بالنار حميا بليغا صار ذلك السيف أو السكين يفعل فعل الحديد وفعل النار فيقطع ويحرق، ولم تنتقل طبيعة الحديد إلى طبيعة النار. كذلك الجسد المأخوذ من طبيعة آدم صار يفعل فعل اللاهوت باتحاده باللاهوت. وبيان ذلك أن المسيح أقام الموتى وشفى البُرْص والمرضى وفتح عيون العميان بوضع يده. وبتوسُّط ذلك الجسم المقدس نحن نسجد لإله متأنِّس. فإن عزلتَ بوهمٍ ذلك الجسم عن كلمة الله وروحه فإنه غير مسجود ولا معبود. ولكنّا نعتقد أن الواحد إله، والآخر تألَّه بحلول الإله فيه. فإذا أخذتَ خمس حبّات مسك ثم وضعتها في خزانة وأدخلتها في منديل ألا تحصل رائحة المسك في الخزانة والمنديل؟
قال المسلم: نعم
قال الراهب: فإذا كان المسك الذي هو مادة من المواد المخلوقة يملك هذه القوة والفعل، فكم تقدر كلمة الله روحه الخالقة الأزلية إذا اصطفَتْ لها مسكنا وحلّت فيه لأجل قصدٍ اعتمدته من السياسة والتدبير؟".(/48)
وقد سبق أن رددنا على حكاية الضرورة التى توجب إرسال جسم إلى البشر حتى يفهموا، ومع ذلك فلا بأس أن نعيد هنا ما قلناه قبلا من أن الرسل ذوو أجسام مثل سائر البشر، ومن ثم كانت فيهم الكفاية لتأدية المهمة التى يتحدث عنها الأنبا، ولا حاجة إلى تجسد الله، وإلا فما القول فى الرسل السابقين؟ أكانوا آلهة متجسدين؟ إذن فالمسيح لا ينفرد بهذه الميزة؟ أم أَدَّوُا المهمة رغم أنهم كانوا بشرا؟ إذن فالمسيح مثلهم، قام بنفس المهمة التى قاموا بها، ولا معنى للزعم بأنه من طبيعة إلهية نزولا على حكم الضرورة التى يدلس بها الأنبا الدجال لأنه لا ضرورة هناك كما هو واضح. أما قوله: "أرسل الله ابنه وحبيبه الذي هو كلمته وروحه إلى مريم العذراء حسبما يشهد بذلك نبيك وكتابك بقوله: "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" (سورة التحريم). ويقول أيضا إن الله اصطفى كلمته وروحه الخالقة الأزلية وحلت في بطن مريم، ومع حلولها اتخذت جسما من طبيعة آدم بريئا من الخطية وكونته كما شاءت. واحتجبت الكلمة والروح اللطيف بذلك الجسم واتحدت به، ولم يتقدم الجسم قبل حلول الكلمة والروح، بل مع حلول كلمة وروح الله الخالقة تكوَّن الجسم"، فهو كذب مثلث لأنه لا وجود لهذا الذى يقول فى أى موضع من القرآن، وإلا فليدلنا هذا الكذاب الذى لن يكسِّبه ربنا أبدا لا فى السارحة ولا فى الرائحة على الآيات القرآنية التى تقول إن الله أرسل ابنه وحبيبه الذى هو كلمته وروحه... إلى آخر هذا الكلام الذى نَعُدّه كفرا وشركا يُرْدِى فى جهنم الحمراء حيث مثوى الراهب المنكوح المفضوح ومثوى كل من يفترى على الله الكذب ويحرّف كتابه وينسب له ما ليس فيه. لقد نفى القرآن نفيا مطلقا أن يكون عيسى بن مريم ابنا له سبحانه قائلا إن السماوات يكدن أن يتفطرن وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هَدًّا أنْ دعا الكفار لله ولدا، إذ لا ينبغى أن يتخذ الله ولدا، بل كل من فى السماوات والأرض بما فيهم عيسى بن مريم سوف يأتى الله يوم القيامة عبدا، ولسوف يسأل الله عيسى بن مريم ساعتئذ: "أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله؟"، ولسوف يرد عليه فى منتهى الخشوع والعبودية: "سبحانك! ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق. إن كنتُ قلتُه فقد عَلِمْتَه. تَعْلَم ما فى نفسى ولا أَعْلَم ما فى نفسك. إنك أنت علام الغيوب* ما قلتُ لهم إلا ما أمرتنى به أَنِ اعبدوا الله ربى وربَّكم". كذلك لم يقل القرآن قط إن عيسى بن مريم "روح الله"، بل قال: "روح منه"، مثلما قال أيضا عن آدم: "ونفخ فيه من روحه". فهذا هو الذى يقوله القرآن، أما ما يقوله الأنبا، أو بالأحرى: الكاتب الكذاب الذى لفق هذه الحدوتة، فليس له من مكان يليق به إلا المراحيض!(/49)
أما كيف تكون الطبيعتان الإلهية والبشرية للسيد المسيح (حسب زعمهم وكفرهم) متحدتين دون أن تختلطا فهذا ما أتركه لذهن الأنبا الغبى، أما نحن فنربأ بأذهاننا أن تؤمن بهذا الغثاء. اتحاد ولا اختلاط؟ الحق الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أنه لا اتحاد هنا ولا اختلاط على أى وضع من الأوضاع، تعالى الله عن ذلك، ونستغفره سبحانه عن كتابة هذا الكلام رغم أننا لا نؤمن به ولا نتصوره مجرد تصور ولا ندرى كيف يكون. إن الاتحاد معناه أن الطبيعتين أصبحتا شيئا واحدا: فإما أن تكونا قد أصبحتا كلتاهما إلهية، وإما أن تكونا قد أصبحتا كلتاهما بشرية، وإما أن تكونا قد تقابلتا فى منتصف الطريق على طريقة الحل الوسط وأصبحتا شيئا ثالثا لا هو إلهى خالص ولا هو بشرى محض. ولْيَحُلّ لنا الأنبا المأفون هذه المعضلة قبل أن ينتقل إلى تدليسة أخرى من تدليساته ويقول إن الأمير من شدة إعجابه به قد دسّ إصبعا آخر من أصابعه المتختمة فى دبره أيضا حتى تكون المصيبة مصيبتين ويكون علينا أن نبحث فيهما بدورهما، وهل يا ترى احتفظت كل من المصيبتين بطبيعتها؟ أم هل اتحدتا دون اختلاط؟ أم هل اختلطتا دون اتحاد؟ أم هل تقابلتا فى منتصف الطريق فوقفتا عند حلقة دبره فلم تدخلاه؟ أم اخترقتاه حتى اللغلوغ فمزقتاه؟ أم ماذا؟ ولقد أتى الأنبا بعد كل الذى قال فزعم أنهم حين يسجدون لعيسى إنما يسجدون "لإله متأنس"! الله أكبر، إذن فقد تأنس الإله، أى تحولت طبيعته من الإلهية الخالصة إلى الإلهية المتأنسة، ولَمْ نَعُدْ أمام إلهٍ صافى الألوهية، بل إله "نصف نصف"! إله تجارى لا يابانى أصلى! لكن انتظروا من فضلكم أيها القراء، فالأنبا الملتاث يعود فيقول إنهم يعتقدون "أن المسيح ذو طبيعتين: طبيعة إلهية وطبيعة إنسانية نسجد لهما مع استقرار ونفوذ إحداهما في الأخرى بغير اختلاط ولا انفصال"، وكأنك يا أبا زيد لا رحت ولا جيت! إن الذين يفكرون بعقولهم لا يستطيعون أن يهضموا هذا الهراء، ومع ذلك فلربما كانت أستاه بعض الناس تستطيع ما لا تستطيعه عقولنا. وتبقى حكاية حبات المسك الخمس والمنديل: فأما المنديل فقد تكفل به كارم محمود وعبد العزيز محمود وشهرزاد وغيرهم فى أغانيهم الجميلة التى يَشْدُون فيها بمناديل العشاق فيُرْجَع إليها فى ذلك، ولا بأس كذلك بإضافة المغنية المسلوخة الصوت التى تقول لنينتها إن منديلها وقع فى الحارة وتسأل البنات هل رأين منديلها مع أية جارة. وأما المسك فَاسْتُ كل من الأنبا والقمص تحتاجه أشد الحاجة لفوحان نتانتها فى الآفاق، فلو دسّ كل منهما حبات المسك فى دبره فمن يدرى؟ لعل وعسى! وإن كنت أشك فى ذلك لأن مثل تلك النتانة لا يكفيها خمس حبات ولا خمسون ولا حتى خمسمائة ولا ألف، بل "ولا ألف وثلاثمائة ولا مليوووون" كما يؤكد المغنى حكيم الذى يفتح فمه دائما (مثل الوزير إياه الذى كانت صحيفة "الوفد" تتخذه سَلْوتها فى الثمانينات) كاشفا عن أسنانه الكبيرة والظريفة "بعض الشىء" على عكس أسنان الوزير! وأعجب من ذلك أنهم لا يستحون ولا يَتَوَارَوْن بعقيدتهم بل يأبَوْن إلا أن يجادلونا ويخطئونا ويتطاولوا على رسولنا الذى لم تنجب الأرض مثله ولم يأت رسول بما أتى به بهذا الوضوح والبقاء سالما نقيا لم تمسسه أيدى التحريف بعد انتقاله لربه.
ثم هذا الإنسان الذى تألم على الصليب وأهين وقُتِل، ما ذنبه مادام غير إلهى؟ إن الذى شعر بالألم هو هذا الآدمى لا الله. أليس كذلك؟ فأين الرحمة الإلهية فى عملية الصلب إذن إذا كان الله قد أراد أن يخلص البشر من خطيئتهم الأولى من خلال تحمّله هو نفسه لها دونهم ثم غافلهم فأحضر بشرا مثلهم تعذب نيابة عنهم؟ إنه إذن لإله أحمق ظالم، وعاجز كاذب! لقد وَعَد أن يَحْمِل عن البشر جميعا خطيئتهم ثم سهّاهم وحمّلها واحدًا منهم. أى أنه حمّل خطيئة البشرية واحدا فقط من البشرية وترك الباقين، وبهذا يكون قد كذب فيما قاله، وعجز عن الوفاء بما وعد، وظلم المسكينَ الذى كُتِب عليه الصلب والضرب والشتم والإهانة والصفع والطعن وحده دون باقى البشر. حرام والله! وفوق ذلك فإنه كان دائم السخط على الناس الذين قال إنه أتى لفدائهم، إذ كان لا يكف عن شتمهم وعن توعُّدهم بالحرق هم والذين حَطّوا بذرتهم، لم ينج من لسانه الحادّ أحد ولا الحواريون أنفسهم. أىّ إله هذا الذى لا يدرى ماذا يريد، ولا كيف يتصرف، وفوق ذلك يخالف قوله فعله، حتى إذا جَدَّت ساعة الجِدّ أخذ يُعْوِل ويصيح ويقول: "أجيرونى يا خَلْق هُوه"؟ لماذا بالله؟ أوقد نَسِىَ ما أتى من أجله أم ماذا؟(/50)
وعندما ينكر الشيخ، على الراهب البكاش لاعب البيضة والحجر وسليل المحرفين العابثين بالكتب السماوية، تسمية النصارى للمسيح: "ابن الله" يرد عليه الأنبا الكذاب الذى لا يعرف شيئا اسمه الحياء قائلا إن محمدا "قد قال في قرآنك: "إن الله لو أراد أن يتخذ له ولدا لاصطفاه من ولد آدم" (سورة الزمر)، أفتنكر أن الله اصطفى كلمته وروحه وسماها ولدا له؟ وإنما نبيك محمد، لما عرف من غلظ فهمك وكثافة عقلك لئلا تتصور في الله ولادة جسمية، قال لك: "قل: هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد"...". فانظر مدى الوقاحة التى يتمتع بها كاتب هذا الهراء، إذ لا يبالى أن يكشف المسلمون كذبه وتضليله وتدجيله، فتراه يمضى ساخرا متهكما وكأنه صاحب حق عندنا أكلناه عليه وأنكرناه! لكن من قال إنه يبالى؟ إن هدفه هو تثبيت أهل ملته على ما هم عليه، وتشكيك عوام المسلمين: فأما أهل ملته فسيفرحهم هذا الكلام وأشباهه وسينتشون به، وهذا كل ما يريدونه. وأما عوام المسلمين الذين لا يحفظون القرآن فهو يرجو وقوعهم فى مصيدته اعتمادا على أنهم لن يتصوروا لجوءه إلى تحريف آيات القرآن على هذا النحو الجلف. وعلى أقل تقدير فـ"العيار الذى لا يصيب يزعج"! كذلك فهو بسلامته يريد أن يوهمنا أن التوحيد غلظ فى الطباع، أما التثليث والتجسيد وعبادة البشر فهو الدليل الذى لا يُرَدّ ولا يُصَدّ على أن صاحبه عبقرى عميق الفهم رقيق العقل. هذا، وصواب الآية الكريمة هو: "لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ". فأين زعمه أن الله لو أراد أن يتخذ له ولدا لاصطفاه من ولد آدم؟ وعلى أية حال فوجود حرف "لو" فى الجملة معناه أنه سبحانه لم يُرِدْ، ومن ثم لم يتخذ ولدا، وهذا الحرف يسمَّى: "حرف الامتناع للامتناع". أى أن اتخاذه سبحانه الولد امتنع فلم يقع لأن مشيئته لذلك امتنعت بدورها فلم تتم. كما أن قوله عقب ذلك: "سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ " هو تأكيد آخر على أنه سبحانه وتعالى واحد أحد لا اثنان ولا ثلاثة بأية صورة من الصور!
ولا تتوقف وقاحة راوى الحدوتة عند هذا الحد، بل يستمر فى الغرور والنرجسية زاعما أنه صياد ماهر لا يستطيع الظبىُ (الذى هو الشيخ) إلا أن يقع فى يده ويستسلم للذبح والسلخ والطبخ. يقول الشيخ: "إنه يصيدني بأقواله، ويجادلني من قرآني كأنه صياد يحاول الظبي ويأخذ عليه الدروب ومخارج السبل، فلا شكّ أن له تابعا من الجنّ". وبطبيعة الحال لن يجد هذا الجنى مكانا يسكنه إلا دبر الأنبا المنكوح المقبوح حتى يكون قريبا منه، متى استدعاه أجابه فى الحال. وينتشى الراهب ذو الدبر المنتن المقروح كدبر زيكو المنكوح فيمضى فى الغرور والنرجسية قائلا: "ولهذا تعبت في إطالة الشرح لكي أصيدك وأدنيك مني وأوقفك على ما أنا عليه لتعرف الصدق والحق وتختاره طائعا". ما كل هذا التواضع يا مولانا؟ لقد أخجلتنا، لعنك الله وشَرَم دبرك الكاذب أكثر مما هو مشروم! ثم يستمر فى الوقاحة والكذب فيقول للشيخ إن "كتابك ونبيك يشهدان لديني بالحق اليقين بقوله: إن الله حقق الحق بكلمته وروحه". يا للوقاحة والكذب! ترى أين فى القرآن، أو حتى فى السُّنّة، هذا الذى يقول؟ ألم يقرأ قوله تعالى: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)" (المائدة)؟ إن هذه الآية وحدها لكفيلة بإخراس ذلك الكلب، ولكن متى كانت الكلاب تفهم أو تعقل؟ وإذا كان الرسول محمد عليه وعلى أخيه عيسى الصلاة والسلام يشهد لكِتَاب النصارى الحالى بالحق ويوافقهم على تأليههم لعيسى، فلم لا يؤمن الراهب المنكوح بمحمد إذن ويكف هو وأمثاله عن التطاول عليه وعلى الكتاب الذى جاء به؟ أتريد منا أيها المنكوح أن نصدق بأنه صلى الله عليه وسلم قد دعا إلى التثليث والتجسيد والصلب والفداء؟ ألا لعنة الله على كل مفتر كذاب! فلماذا إذن كل هذا الغِلّ الذى يُهْرِئ أبدانكم وقلوبكم منذ أربعة عشر قرنا؟(/51)
ثم يأخذنا ملفق الحدوتة فى جولة من جولات الحكايات الشعبية المسلية فيحكى لنا قصة عن إبليس مسرفة الطول لا يهمنا منها إلا ما انتهت به من قضاء الله على قوة الشر فى العالم بمجىء المسيح (الذى هو الله عندهم) ووقوعه سبحانه فى قبضة إبليس وحبس هذا له فى هاوية الجحيم فترة من الزمن وتعذيبه وإهانته إياه، ثم مكاشفة الله له فى النهاية بحقيقته الإلهية التى كان يجهلها اللعين وحُكْمه سبحانه عليه بالبقاء فى الجحيم أبد الآبدين قائلا: "أنا لا أحكم عليك إلا بما حكمتَ عليَّ لأنَّ ظلمك يعود إلى رأسك، وجَوْرك يرجع إليك، وتكون في هذه الهاوية دائما مؤبدا مغلولا بتلك الرباطات. ومع كلام الملك حصل القول في ذلك المارد فعلا، وأمر الملك بخراب ذلك السجن وبإطلاق من فيه وأن يُدْرَس درسا كليّا، وعاد الملك إلى قصره قاهرا ظافرا". الله أكبر! لم يبق إلا أن يُحْبَس الآلهة ويصفَّدوا فى الأغلال فى قعر الجحيم! أى آلهة هؤلاء يا ترى؟ كذلك فمعنى أن الله عاد فى النهاية إلى قصره قاهرا ظافرا أنه قبل ذلك لم يكن قاهرا ولا ظافرا، وهذا أمر طبيعى حسب عقيدة الأنبا المغفل، فقد حبس الشيطان الله كما رأينا فى الهاوية وقيّده وعذّبه. أستغفر الله العظيم من كل كفر عظيم! ومعنى هذا أيضا أن إبليس قد اندحر منذ ذلك التاريخ اندحارا نهائيا، وهو ما تكذبه حقائق الحياة، أما هذه الإنشائيات فلا مكان لها إلا لدى العوام الذين يشغفون بحواديت عقلة الصباع وأُمّنا الغُولة وما أشبه، وإلا فما معنى أن الأديان الأخرى غير النصرانية لا تزال موجودة؟ أليست هذه الأديان فى اعتقادهم من صنع الشيطان؟ والنصارى أنفسهم، أوقد أصبحوا ملائكة طُوبَاويّين لا يخطئون ولا يكذبون ولا يسرقون ولا ينمّون ولا يغتابون ولا ينافقون ولا يزنون ولا يشربون الخمر ولا يتظالمون أو يتحاقدون؟ فلماذا إذن لا يزال إلقاء المواعظ الكنسية وتأليف الكتب الدينية مستمرا حتى الآن؟ ولماذا كل تلك الصلوات والأدعية التى يرفعونها إلى المسيح ما داموا قد أصبحوا أطهارا أنقياء كالبفتة البيضاء؟ ولماذا يظلون حتى الآن ينادون المسيح: "ونجّنا من الشرير" إذا كان الشرير، أى الشيطان، قد قُضِىَ عليه القضاء النهائى المبرم بعد مجىء المسيح؟
أما فى القرآن فقد طلب الشيطان فى بدء الخليقة من ربه أن يمهله إلى يوم البعث، فوعده الله بذلك. أى أن الشيطان لم تتم هزيمته النهائية بعد كما يزعم الأنبا فى كلامه الطفولى، وهذا ما نلمسه فى الحياة من حولنا لمسا. يقول سبحانه فى سورة "الحِجْر": وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آَمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)".(/52)
ويستمر "ابن الفُرْطوس" فى الكذب والجهل فيزعم أن عقيدة الصليب كانت موجودة على عهد موسى عليه السلام، إذ شق بعصاه البحر عَرْضًا حتى عبر بنو إسرائيل، ثم عاد بها عليه بعد ذلك طُولاً فالتأم، فرسمت العصا بهذه الطريقة صورة الصليب، وحصلت البركة وأنقذ الله بنى إسرائيل من الهلاك على يد فرعون، الذى كان يطاردهم ويريد أن يفتك بهم. وبالمثل كانت هناك حيات كثيرة فى البرية بعد الخروج تلدغهم لدغا مهلكا لولا أن موسى وضع إحداها على رمحه عرضا، بعد أن كان قد وضعها بالطول فلم تأت بنتيجة. وهذا نص كلام الكذاب الذى سيشويه الله بمشيئته تعالى فى نار جهنم: "وقد وجدنا في القديمة فعلا إلهيا رسما له من شقّ البحر بالعصا طولا ثم طّقه بعودتها عليه عرضا (خر 4، 21- 27). ولما كان موسى وشعبه في البرّيّة معسكرا خرجت عليهم حيّات تلذغ الشعب لدغا مميتا فقال الله لموسى: اصنع لك حية من نحاس وارفعها على رمح عالٍ، فإنّ كل من نظر إليها من الشعب ما يموت من نهش الحيّات ولدغها. فصنع موسى الحية ووضعها على رمح طويل فما أغنت الشعب شيئا. فقال الله لموسى ضع الحيّة عرضا. فلما وضعها عرضا وصارت برسم صليب لم يمت من الشعب أحد (عدد 21، 6-9)".
والآن تعالوا إلى النصين فى الكتاب المقدس ليرى القارئ بنفسه مدى خيانة هذا الراهب وتدليسه، ونبدأ بالنص الأول الخاص بانشقاق البحر والتئامه، وهو موجود فى الإصحاح الرابع عشر من سفر "الخروج" لا الرابع كما جاء فى الحدوتة التافهة: "21وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ الْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَابِسَةً وَانْشَقَّ الْمَاءُ. 22فَدَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ عَلَى الْيَابِسَةِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ. 23وَتَبِعَهُمُ الْمِصْرِيُّونَ وَدَخَلُوا وَرَاءَهُمْ. جَمِيعُ خَيْلِ فِرْعَوْنَ وَمَرْكَبَاتِهِ وَفُرْسَانِهِ إِلَى وَسَطِ الْبَحْرِ. 24وَكَانَ فِي هَزِيعِ الصُّبْحِ أَنَّ الرَّبَّ أَشْرَفَ عَلَى عَسْكَرِ الْمِصْرِيِّينَ فِي عَمُودِ النَّارِ وَالسَّحَابِ، وَأَزْعَجَ عَسْكَرَ الْمِصْرِيِّينَ، 25وَخَلَعَ بَكَرَ مَرْكَبَاتِهِمْ حَتَّى سَاقُوهَا بِثَقْلَةٍ. فَقَالَ الْمِصْرِيُّونَ: «نَهْرُبُ مِنْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّ الرَّبَّ يُقَاتِلُ الْمِصْرِيِّينَ عَنْهُمْ». 26فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مُدَّ يَدَكَ عَلَى الْبَحْرِ لِيَرْجعَ الْمَاءُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ، عَلَى مَرْكَبَاتِهِمْ وَفُرْسَانِهِمْ». 27فَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ فَرَجَعَ الْبَحْرُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ إِلَى حَالِهِ الدَّائِمَةِ، وَالْمِصْرِيُّونَ هَارِبُونَ إِلَى لِقَائِهِ. فَدَفَعَ الرَّبُّ الْمِصْرِيِّينَ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ. 28فَرَجَعَ الْمَاءُ وَغَطَّى مَرْكَبَاتِ وَفُرْسَانَ جَمِيعِ جَيْشِ فِرْعَوْنَ الَّذِي دَخَلَ وَرَاءَهُمْ فِي الْبَحْرِ. لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ وَلاَ وَاحِدٌ. 29وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ فَمَشَوْا عَلَى الْيَابِسَةِ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ، وَالْمَاءُ سُورٌ لَهُمْ عَنْ يَمِينِهِمْ وَعَنْ يَسَارِهِمْ". وكما يلاحظ القارئ بنفسه لا وجود لما افتراه الكذاب على أى نحو، فليس فى النص ذكر لطول أو عرض. وإلى القارئ مرة أخرى ما قيل فى انشقاق البحر والتئامه: "وَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ، فَأَجْرَى الرَّبُّ الْبَحْرَ بِرِيحٍ شَرْقِيَّةٍ شَدِيدَةٍ كُلَّ اللَّيْلِ، وَجَعَلَ الْبَحْرَ يَابِسَةً وَانْشَقَّ الْمَاءُ"، "فَمَدَّ مُوسَى يَدَهُ عَلَى الْبَحْرِ فَرَجَعَ الْبَحْرُ عِنْدَ إِقْبَالِ الصُّبْحِ إِلَى حَالِهِ الدَّائِمَةِ".(/53)
ثم نثنى بالنص الثانى الخاص بالحيات والرمح: "6فَأَرْسَلَ الرَّبُّ عَلَى الشَّعْبِ الْحَيَّاتِ الْمُحْرِقَةَ، فَلَدَغَتِ الشَّعْبَ، فَمَاتَ قَوْمٌ كَثِيرُونَ مِنْ إِسْرَائِيلَ. 7فَأَتَى الشَّعْبُ إِلَى مُوسَى وَقَالُوا: «قَدْ أَخْطَأْنَا إِذْ تَكَلَّمْنَا عَلَى الرَّبِّ وَعَلَيْكَ، فَصَلِّ إِلَى الرَّبِّ لِيَرْفَعَ عَنَّا الْحَيَّاتِ». فَصَلَّى مُوسَى لأَجْلِ الشَّعْبِ. 8فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا». 9فَصَنَعَ مُوسَى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ وَوَضَعَهَا عَلَى الرَّايَةِ، فَكَانَ مَتَى لَدَغَتْ حَيَّةٌ إِنْسَانًا وَنَظَرَ إِلَى حَيَّةِ النُّحَاسِ يَحْيَا". هيه؟ ترى أين الطول والعرض فى هذا الكلام؟ أرأيت أيها القارئ بنفسك وعاينت ببصرك مقدار الكذب الذى يمارسه هذا الكائن وأمثاله بدم بارد وضمير ميت؟ أرأيت كيف مردوا على التزييف حتى استحال جزءا من كيانهم لا يستطيعون أن يدعوه حتى تدع أرواحهم أجسادهم؟ ثم إذا قلنا إنهم قد حرفوا كتابهم ردوا بكل بجاحة: أبدا لم يحدث! يا كذاب فى أصل وجهك أنت وهو وهو، ها أنتم أولاء لا تزالون تحرفون كتابكم وتدّعون عليه ما ليس فيه، وكذلك كتابنا نحن أيضا، فهل هناك دليل أقوى من هذا الدليل؟ ثم لو سلمنا بما قاله الأنبا المقروح الدبر، فأين الصليب يا ترى فى أن يضع موسى الحية مرة بالطول، ومرة بالعرض؟ إن صورة الصليب إنما تتم بتعامد الحيتين فى ذات الوقت. وأين الصليب فى أن يخطّ عليه السلام بعصاه على الماء مرة بالعرض فينشق البحر، وبعد مرور مدة يكون موضوع الخط العرضى أثناءها قد نُسِى تماما يخطّ بها مرة أخرى بالطول فيلتئم ثانية؟ إن الصليب معناه أن يكون هناك خطان مستقيمان متعامدان لا أن يكون عندنا خط عرضى، ثم بعد قليل نشطبه ونرسم بدلا منه خطا بالطول. أليس كذلك يا مغفل منك له؟ وحتى لو كان الكلام الذى زعمه هذا الخنزير عن الصليب فى هاتين القصتين صحيحا، فكيف فاته أن الصليب دليل على أن من مات عليه فهو ملعون من الله كما قال الكتاب المقدس نفسه؟ جاء فى سفر "التثنية" (21/ 23): "وإذا كان على إنسان خطيّةٌ حقُّها الموت، فقُتِل وعلقته على خشبة، فلا تبت جثته على الخشبة، بل تدفنه في ذلك اليوم، لأن المعلّق ملعون من الله". ترى هل من الممكن أن تتحول اللعنة إلى بركة؟
ونضحك كثيرا حينما نسمع الراهب يسأل الشيخ المسلم عن الدين الذى يعده حقا بين الأديان الأربعة: الإسلام أم النصرانية أم اليهودية أم الصابئة؟ فيرد الشيخ قائلا: "ما أعلم"! ترى هل هذا ممكن الحدوث، وبخاصة بعد أن كان الشيخ لتوه ينافح عن دينه ويؤكد أنه هو وحده الدين الصحيح؟ وها هما ذانِ سؤال الراهب وإجابة الشيخ عليه: "قال الراهب: صدقتَ في قولك إن كلّ ذي دين يحقّق دينه ويحامي عنه. والأديان أربعة: صابئ ويهودي ومسلم ونصراني، فأيّ منها عندك الدين الحقّ الموضوع من الله؟ قال المسلم: ما أعلم". وكان الشيخ المسلم قبل ذلك قد أكد، كما قلت، أن الإسلام هو ذلك الدين الحق لا سواه: "قال المسلم: السما والأرض والملائكة والناس يشهدون أن ديني وكتابي هو الحق اليقين. وإن الله تعالى أنزله على نبيه محمّد المصطفى نورا وهدى ورحمة من ربّ العالمين". كيف يكون ذلك؟ العلم عند دبر الراهب الفواح، بما يخرج منه من جهلٍ مضمَّخ بالأرياح! ثم نصل إلى قضية المفاضلة العقلية بين الديانتين، وأنا أميل إلى تأجيل الحديث فى هذا الموضوع إلى مقال آخر لأن المقال الحالى قد طال كثيرا، ولأن تلك القضية هى من الأهمية بحيث تحتاج إلى إفرادها ببحث مستقل كان فى نيتى قبل أن أقرأ تلك الحدوتة البلهاء أن أخصص له مقالا مستقلا. لذلك أستميح القراء عذرا إلى فرصة أخرى أرجو أن أعيش حتى أدركها، وعلى الله قصد السبيل. وأخيرا فليست هذه الحدوتة هى المساجلة الوحيدة المزيفة من نوعها، فقد صنع السريان مثلا مساجلة أخرى بين شخصين وهميين هما عبد الله إسماعيل الهاشمى وعبد المسيح بن إسحاق الكندى، وزعموا أنها وقعت فى عصر المأمون (انظر د. محمد أبو شامة فى مقدمة الكتاب الذى حققه لأبى عبيدة الخزرجى باسم "بين الإسلام والمسيحية"/ مكتبة وهبة/ 43 بالهامش).
ولا يرضى الكاتب الكذاب أن تنتهى الحدوتة دون كذبة تليق بالمقام، فجاءت نهايتها على النحو التالى: "قال المسلم: لقد علم الله تعالى أنك قد أزعجت فكرنا وزعزعت لُبَّنا بما أحسنت في الخطاب وإيراد الجواب، فلم يبقَ بنا عندك سؤال. ولله درّك، فقد أفخرت أهل دينك وجملت أوطانك وزيّنت أخوانك، ولولا نحن على سفر لسألناك في المقام عندنا رغبة بقربك إلينا وصرّفناك فيما يخصنا من مال ودار.(/54)
قال الراهب: جزاك الله عنّا خيرا وإنعاما. لقد قابلتمونا بالإحسان، وإن كنّا أسأنا في الخطاب وأغلظنا في الجواب (انظروا إلى أدب المنكوح الذى نزل على استه فجأة!)، فهذا من شيمة أهل الأدب والأحساب والأنساب، فإلى أين السفر؟
قال أبو ضاهر: إلى مكة أنا والشيخ أبو سلامة نزور البيت الحرام.
قال الراهب: يوحشني بعدكم ويثقل عليَّ فراقكم، فقد كنتُ آنستُ بكم.
قال أبو ضاهر: يا ليتك أن تصحبنا فنأنس بك وتأنس بنا.
قال الراهب: إن رضيتم بصحبتي صحبتكم وساويت ذاتي بكم.
فهللا وكبّرا.
قال أبو ضاهر: وربّ الحج إن صحبتني كفيتك كلفة ما تحتاج إليه من ركوب وماء وزاد فتشرح صدرك وتطيب نفسك وتقرّ عينك وتعزّ عليك ذاتك فأفرج عنك من عيشتك القشفة وحياتك المتعبة وأريك ما لم تَرَه بنظرك من الآيات والمعجزات.
قال الراهب: فقل لي يا أبا ضاهر بحق دينك ماذا تريني بمكة من الآيات؟
قال المسلم: أنا، يا راهب، قد حجيت إلى مكة مرتين، وهذه الثالثة، ولستُ أنا جاهلا بها، بل خبير بما فيها.
قال الراهب: فقد زدتني رغبة فيك وقربا إليك، فصف لي ما هناك وما نراه أولا وأخيرا.
قال المسلم: أول ما أريك من المطربات أنني أجيزك الحجاز وأريك الحجازيات اللاتي تشوق إليهن الصفاة، وتسرّ بهنّ النفوس، ويليق بهنّ الملبوس. لطاف نظاف، ملاح ظراف، كأنهنّ حور العين، في جنّة الصالحين.
قال الراهب: فهل نجد عندهم مقاما؟
قال المسلم: مهما شئت.
قال الراهب هازئا به، وذاك لا يعلم بمراده: وماذا تريني بعد الحجازيات؟
قال المسلم: وترى، يا راهب، الحج يجتمع في مِنى في صباح ذلك اليوم، وترى فإذا الحج طوائف يسيرون ويصفقون بالكفوف ويضربون بالدفوف ويقولون: يا صباح البركات، من مِنى إلى عرفات!
قال الراهب: ومن عرفات إلى أين؟
قال المسلم: إلى مكّة.
قال الراهب: وماذا تريني بمكّة؟
قال المسلم: أريك الحجر الأسود وبثر زمزم والعروة الوثقى والكوز الأخضر والكعبة وظهر الجمل وقبر الحسن والحسين".(/55)
فانظر، أيها القارئ، مدى الضلال الذى يتصف به الجامد الوجه الذى لا يعرف الحياء ولا الصدق وأمانة القول! أهناك بالله عليك مسلم (بَلْهَ أن أن يكون ذلك المسلم عالما، بل إماما من أئمة المسلمين شديد التعصب لدينه يجادل عنه أعنف جدال، لا واحدا من عوام الناس) يقول إنه يذهب للحج كى يستمتع بمرأى النساء هناك، فضلا عن أن يشتغل قوّادا على المسلمات العفيفات لنصرانى كافر؟ وأى نصرانى؟ نصرانى يقول له إنه ليس له أَرَبٌ فى النساء، فهو راهب منفوخ، ودبره مشروخ! ومنذ متى كانت للحجازيات هذه الشهرة بين النساء؟ بل منذ متى كان الكفار يذهبون إلى مكة حتى يعرض الشيخ المسلم على الراهب اصطحابه إلى هناك؟ بل منذ متى كان المهزوم يأنس بهازمه على هذا النحو ويعمل على إكرامه وتبجيله؟ إنه نفس الكلام الذى يقوله الخُطْل فى حكاياتهم الكذابة مثلهم عن انصراف الحجاج الرجال أثناء الطواف حول الكعبة، الذى هو فى الواقع كيوم الحشر عسرا وإذهالا، إلى الاحتكاك بالنساء ومغازلتهن وأخذ المواعيد الغرامية منهن. الواقع أنه لا فرق بين منكوح متقدم منهم أو متأخر، فكلهم ذوو أدبار وعقول مدوّدة منتنة! ولا يكتفى الراهب المنفوخ ذو الدبر المشروخ بأن قد فضحه الله هذه الفضيحة المخزية، بل يضيف لها فضيحة أخرى أشد إخزاءً، إذ يزعم أن الشيخ المسلم قد وعده أيضا أن يريه فى تلك الرحلة قبر الحسن والحسين فى مكة مع الكعبة والكوز الأخضر. فهل قبرا الحسن والحسين فى مكة؟ وأين يا ترى يوجد الكوز الأخضر هذا؟ وما وظيفته؟ كذلك فالمسلمون لا يقولون: "حُور العين" ولا "بيت الحرام" كما جاء على لسان الشيخ فى الحدوتة المتخلفة تخلف عقول أصحابها، بل "الحور العين" و"البيت الحرام". ليس ذلك فقط، بل اقتضت مشيئة الله أن يزداد هذا الوثنىّ ارتكاسا فى حمأة الفضائح، فنراه يزعم على لسان الشيخ أن الحُجّاج ينطلقون من منى إلى عرفات، عاكسا بجهله الفاضح اتجاه سير الحجيج، لأن الوقوف بعرفات إنما يأتى قبل المبيت بمنى كما هو معروف. وفضلا عن ذلك فإن الحجاج لا ينطلقون من عرفات إلى منى مباشرة، بل يذهبون أولا بعد الغروب إلى المزدلفة حيث يصلّون المغرب والعشاء جَمْعًا ويبيتون، ثم يواصلون رحلتهم من هناك إلى منى. وهذا الخطأ الأبله مما لا يمكن أن يقع فيه مسلم عادى، فما بالك بشيخ من أئمة المسلمين سبق له الحج قبل هذا مرتين كما جاء فى الحدوتة؟ وعليه فالسخف الذى يقوله عن الغناء وضرب الدف والتصفيق بالكف وما إلى ذلك لا منبع له إلا من دبره المشروم شرما واسعا سمح لهذه الخزعبلات أن تمر منه إلى الخارج بسهولة وأن يقول أيضا إن الأمير العالم قد أمن على كلامه وأبدى إعجابه بردوده المفحمة ولم ير فيها شيئا ينبغى تصويبه: "أجدتَ، يا راهب، في كلامك وأحسنت في جوابك وأبلغت في خطابك وزيّنت وطنك ودينك. ومثلك يجب، والله، أن يكون إمام النصارى ومقدَّمهم ومن يخاطَب في الدين عنهم. فسَلْنا ما شئتَ، فعندنا ما تحب"! كان الكلام يدخل العقل لو أنه قال له: "سلنا ما شئت، فعندنا لدبرك المنتن غراميل على كيفك"! أمّا وإنه لم يقل له ذلك فالراهب وكاتبه كاذبان مأبونان! وفوق هذا فالحدوتة المتخلفة تزعم أن الأمير قال للأنبا: "زينت وطنك..."، وكأنه كان للأنبا وطن آخر غير المملكة الأيوبية المسلمة! أرأيت، أيها القارئ، كيف يسقط كاتب الحدوتة سقطة مخزية مدوية فى كل خطوة ينقل فيها قدمه التى تستحق البتر! ثم إن الكاتب الحقود، بعد ذلك كله، يأبى إلا أن يخِز المسلمين وخزة سامة، فيقول إن الراهب كان يسخر من أبو ظاهر وهو من بلادة عقله لا يدرى. الواقع أن البليد العقل ليس شخصا آخر سواه هو وراهبه. إنهما يحقدان على الإسلام أن أَضْرَعَهما إلى الأرض وهزم دينهما شر هزيمة، فهما ينفّسان بهذه الطريقة الرخيصة عن ضغائنهما، وليس على التنفيس عن الأحقاد والأضغان من ضريبة تُدْفَع، فلينفِّسا عن المرارة التى فى قلبهما وحلقهما ما شاء لهما التنفيس! وهذا كل ما عندهما، فلا عقل ولا منطق ولا برهان ولا حتى خفة ظل.(/56)
وبعد، فما دام الكلام قصصا وحواديت فإنى أسوق هذه القصة من كتاب "الديارات" لأبى الفرج الصفهانى، وهى قصة ممتعة، وإن كنت لا أظنها صحيحة لما فيها من بعض الحوادث التى هى إلى الأساطير أدنى منها إلى الوقائع الحقيقية. ونحن نسوقها هنا كى يرى الآخرون أننا لا نصدق كل ما نقرؤه حتى لو كان موجودا فى تراثنا، إذ إن لنا عقلا نفكر به ونزن الأمور ولا نندفع مع تيار التعصب والسلام ولا نريد لأمتنا أن تردد ما تقرأ أو تسمع كبعض الأمم الأخرى التى لا يقوم دينها إلا على الخرافات والشعبذات والخزعبلات. وقد وردت تلك القصة الممتعة أثناء كلام الأصفهانى عن "دير الأنوار": "حدث أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال خرجت من الأنبار في بعض أسفاري إلى عمّورية من بلاد الروم، فنزلت في بعض الطريق بدير يقال له دير الأنوار بقرية قريبة من عمورية فخرج إليَّ صاحب الدير المقدم على الرهبان به، وكان اسمه عبد المسيح فأدخلني الدير فوجدت فيه أربعين راهبا فأكرموني تلك الليلة بضيافة حسنة، ثم رحلت عنهم من الغدّ، وقد رأيت من كثرة اجتهادهم وعبادتهم ما لم أره قط من غيرهم، فقضيت غرضي من عمّورية ثم رجعت إلى الأنبار. فلما كان العام المقبل حججت، فبينما أنا أطوف حول البيت الشريف إذ رأيت عبد المسيح الراهب يطوف أيضا ومعه خمسة نفر من أصحابه الرهبان، فلما أثبت معرفته تقدمت إليه، وقلت له: أنت عبد المسيح الراهب؟
قال: بل أنا عبد الله، الراغب في عفو الله.
فجعلت أقبل شيبته وأبكي، ثم أخذت بيده، وملت إلى جانب الحرم. وقلت له: بحق من هداك، ألا أخبرتني عن سبب إسلامك؟
فقال: لقد كان عجبا! وذلك أن جماعة من زهاد المسلمين وعبادهم مروا بالقرية التي فيها فأرسلوا شاباً منهم يشتري لهم طعاما فرأى في السوق جارية نصرانية تبيع الخبز وهي من أحسن النساء، وأجملهن صورة، فلما نظر إليها افتتن بها وسقط لوجهه، مغشياً عليه، فلما أفاق رجع إلى أصحابه وأخبرهم بما أصابه وقال لهم:
امضوا لشأنكم، فلست بذاهب معكم. فعذلوه ووعظوه فلم يلتفت إليهم، فانصرفوا وتركوه، فدخل القرية وجلس على باب حانوت تلك المرأة، فسألته عن حاجته فأخبرها أنه عاشق لها، فأعرضت عنه، فمكث في موضعه ثلاثة أيام لم يطعم طعاما وهو شاخص إلى وجهها. فلما رأته لا ينصرف عنها ذهبت إلى أهلها وجيرانها فأخبرتهم، فأطلقوا عليه الصبيان يرجمونه بالحجارة، فرجموه حتى رضخوا رأسه وهشموا وجهه وأدموا أضلاعه، وهو مع ذلك لا ينصرف. فعزم أهل القرية على قتله فجاءني رجل منهم وأخبرني بحاله، فخرجت إليه فرأيته طريحا، فمسحت الدم عن وجهه وحملته إلى الدير وداويت جراحه، فأقام عندي أربعة عشر يوما. فلما قدر على المشي خرج من الدير وأتى باب حانوت المرأة وجلس ينظر إليها. فلما أبصرته قامت إليه وقالت له:
والله قد رحمتك، فهل لك أن تدخل في ديني حتى أتزوجك؟
فقال: معاذ الله أن أنسلخ من دين التوحيد وأدخل في دين الشرك.
فقالت: قم وادخل معي داري واقض مني أربك، وانصرف راشدا.
فقال: ما كنت بالذي أُذْهِب عبادة اثنتي عشرة سنة بشهوة لحظة واحدة!
فقال: انصرف عني حينئذ.
قال: لا يطاوعني قلبي. فأعرضت عنه بوجهها، ففطن له الصبيان فأقبلوا عليه يرجمونه بالحجارة، فسقط على وجهه وهو يقول:
إنّ وَلِيِّيَ اللهُ الذي نزَّل الكتابَ وهو يتولَّى الصالحين. فخرجتُ من الدير وأتيته فطردت عنه الصبيان ورفعت رأسه من الأرض فسمعته يقول:
اللهم اجمع بيني وبينها في الجنة. فحملته إلى الدير فمات قبل أن أصل به إليه، فخرجت به عن القرية وحفرت له قبرا ودفنته، فلما دخل الليل وذهب نصفه صرخت تلك المرأة في فراشها صرخة عظيمة، فاجتمع إليها أهل القرية وسألوها عن قصتها فقالت:(/57)
بينما أنا نائمة إذ دخل علي ذلك الرجل المسلم فأخذ بيدي، وانطلق بي إلى الجنة، فلما صار بي إلى بابها منعني خازنها من الدخول إليها، وقال إنها محرمة على الكافرين فأسلمت على يده، ودخلت معه الجنة، فرأيت فيها من القصور والأشجار ما لا أُحسن وصفه لكم. ثم إنه أخذني إلى قصر من الجوهر وقال: هذا القصر لي ولك، وأنا لا أدخله إلا بك، وإلى خمس ليال تكونين عندي فيه إن شاء الله تعالى. ثم مد يده إلى شجرة على باب القصرفقطف منها تفاحتين وقال: كلي هذه الواحدة، وأخبي الأخرى حتى يراها الرهبان. فأكلت التفاحة، فلم أر أطيب منها، ثم إنه أخذ بيدي وأخرجني حتى وصلت إلى داري. ثم إنها أخرجت التفاحة من جيبها فأشرقت في ظلمة الليل كأنها كوكب دُرِّيّ. فجاءوا بالمرأة إلينا إلى الدير ومعها التفاحة فلم نر شيئا مثلها من فواكه الجنة، فأخذت السكين وشققتها على عدد أصحابي فما رأينا ألذّ من طعمها ولا أطيب من ريحها، فقلنا: لعل شيطانا تمثل لها ليغويها عن دينها. فأخذها أهلها وانصرفوا، ثم إنها امتنعت من الأكل والشرب، فلما كانت الليلة الخامسة قامت من فراشها وخرجت من بيتها حتى أتت قبره، فألقت نفسها عليه وماتت، ولم يعلم بها أحد من أهلها. فلما كان وقت الصباح أقبل على القرية شيخان مسلمان عليهما ثياب من الشعر، ومعهما امرأتان كذلك، فقالا: إن لله عندكم ولية من أوليائه قد ماتت مسلمة، ونحن نتولاها دونكم. فطلب أهل القرية تلك المرأة فوجدوها على القبر ميتة، فقالوا:
هذه صاحبتنا ماتت على ديننا، ونحن نتولاها.
واشتد الخصام والتنازع بينهم، فقال أحد الشيخين: إن علامة إسلامها أن يُجْمَع رهبان الدير الأربعون ويجذبوها عن القبر، فإن جاءت معهم فهي نصرانية. ويتقدم منا واحد ويجذبها، فإن انجذبت معه فهي مسلمة. فرضي أهل القرية بذلك، فجُمِعَت رهبان الدير الأربعون وأتيناها لنحملها فلم نقدر على حملها، فربطنا في وسطها حبلاً غليظًا، وجذبها الرهبان الأربعون أجمعون، فانقطع الحبل، ولم تتحرك. فتقدم أهل القرية وفعلوا كذلك، فلم تتحرك من موضعها. فلما عجزنا عن حملها بكل الحِيَل قلنا لأحد الشيخين: تقدم أنت واحملها. فتقدم إليها وجذبها بردائه وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم حملها في حضنه وانصرف بها إلى غار هناك فوضعها فيه، وجاءت المرأتان فغسلتاها وكفنتاها. ثم حملها الشيخان وصليا عليها ودفناها إلى قبر ذلك الزاهد، وانصرفنا ونحن نشاهد هذا كله. فلما خلا بعضنا إلى بعض قلنا: إن الحق أحق أن يتبع، وقد وضح لنا الحق بالمشاهدة والعيان، ولا برهان على صحة دين الإسلام أوضح لنا مما رأيناه. ثم أسلمت أنا وأسلم رهبان الدير "الأربعون" وجميع أهل القرية، ثم إنّا بعثنا إلى بلد "الجزيرة" نستدعي فقيها عالما يعلمنا شرائع الإسلام وأحكام الدين، فجاءنا رجل فقيه صالح فعلَّمَنا وجه العبادة وأحكام الإسلام، ونحن اليوم على خير كثير، فلله الحمد والمنة على ذلك".
مرة أخرى أقول: هذه القصة لا تدخل عقلى رغم أنها تنحاز لدينى، ذلك أن الانحياز للإسلام ليس قيمة فى حد ذاته، بل لا بد أن يكون انحيازا عاقلا حصيفا يجرى على شروط هذا الدين القوى العظيم، وأولها شرط العقل والمنطق والعدل والاعتدال. وهذا ما يميز ديننا، فلا خرافات مضحكة ولا تشنجات غبية ولا تعصبات بالباطل، بل سعة صدر للآخر وتفهم لما يعتز به مهما كانت مخالفته لما عندنا، على ألا يتجاوز هذا الآخر حدوده فيشتمنا ويُقِلّ أدبه على ديننا ورسولنا وقرآننا وتاريخنا ويطلق الشائعات الخبيثة التى تدعى أننا غرباء عن هذا الوطن وينبغى أن نعود من حيث أتينا. وللتدليل مجددا على هذا الكلام أسوق ما قاله د. محمد سليم العوا فى حوار منشور فى بريد الياهو نقلا عن إحدى الصحف أو المجلات، فقد سئل: "بماذا تنصح النظام بحكومته وحزبه ومؤسساته في كيفية التعامل مع ملف الأقباط؟"، وكانت إجابته على النحو التالى: "أول ما ينصح به في هذا الملف هو الصراحة والصدق. نحن نتكلم في ملف الأقباط بكذب أو إخفاء الحقائق. لدينا مثلا مجلة تصدرها كنيسة في عزبة النخل بالقاهرة اسمها «الكتيبة الطِّيبيّة» وهذا الاسم له مدلول تاريخي، ففي القرون الأولي للمسيحية كانت توجد «الكتيبة الطِّيبيّة» للدفاع عن المسيحية ضد الوثنيين الذين كانوا يحاربون المسيحية، وهذه المجلة شعارها أنها تعود بالهوية المصرية إلي الهوية القبطية: «لسنا عربا ولم نأت من جزيرة العرب». وهذا بالضبط مكتوب في أعدادها، كما أن المقالات الموجودة فيها كلها سخرية بالقرآن والإسلام والمسلمين، وإهانة للوطن نفسه، فيها قصائد تحمل كل هذه المساخر. ولما تحدث مسؤولون للبابا شنودة في أمرها، كان الرد أن البابا أصبح يكتب كل شهر مقالا علي غلافها".(/58)
ولتأكيد ما قاله د. العوا أُورِد هنا ما كتبه عزت أندراوس فى موسوعته: "موسوعة تاريخ أقباط مصر" المشباكية تحت عنوان "الكتيبة القبطية" نقلا عن تحقيق منشور بمجلة روز إليوسف (فى 20/12/2005م) عنوانه: "المصريون من أصل عربى ضيوف. واللى موش عاجبه يمشى". وقد ذهب مُعِدّ التحقيق أحمد الباشا إلى رئيس تحرير المجلة المذكورة، وهو القس فيلوباتير جميل، لإجراء حوار معه بخصوص تلك المجلة، وإلى القارئ بعض أسئلة التحقيق وأجوبته:
"س: لكنكم تتحدثون عن العرب الغزاة بأنهم أصحاب الفتح الإسلامى لمصر، وهم الذين أنقذوا الأقباط من الاضطهاد الرومانى.
ج: العرب الغزاة لا علاقة لهم بالعرب المسلمين. إذا كان هناك مصريون من أصل عربى الآن فأهلا بهم فهم ضيوف علينا، ومن لم يعجبه ذلك يرجع إلى بلاده وأصوله إذا قبلوه!
س: لكنى أختلف معك، فعدد كبير من المصريين سواء مسيحيين أو مسلمين لهم أصول عربية، فكثير من المسلمين لهم أصول مصرية!
س: هذا كلام شكله حلو، لكنه غير صحيح.
ج: فهل تقنعنى أن ثمانية آلاف عربى مسلم جاءوا مع عمرو بن العاص وأحد الخلفاء بعد ذلك هم جذور 72 مليون مصرى وقاموا بخلط الأنساب، نحن نرفض أن يفرضوا علينا ذلك كما هو الحال فى اسم البلد فنحن «جمهورية مصر العربية»، من أين جاء لفظ «عربية»؟
س: قلتم أن لكم مطالب من العرب أو ممن أصولهم عربية من المصريين!
ج: نحن نطالبهم بتقديم وثيقة اعتذار فى حق المصريين لما فعلوه بنا إبان الفتح الإسلامى كما اعتذر الألمان لليهود عن «الهولوكوست»!
...
س: من هم أشهر كتاب الكتيبة الطِّيبيّة؟
ج: قداسة البابا شنودة والأنبا بيشوى والأنبا مرقص والأنبا بسنتى والقمص مرقص عزيز والقس فلوباتير جميل وغيرهم!!؟ أليس هذا دليلا على علاقتها بالكنيسة وأن هناك سقف حماية لها؟".
يقول القس ذلك، قافزا على الحقائق التاريخية التى سأستقيها من كتابٍ ألفه نصرانى شديد التعصب يدعو بذات دعوة القس، ونَشَر كتابه فى موقع القس، وطبعته له (عام 2001م) الكتيبة الطِّيبيّة التى أنشأها القس، وهو كتاب "محنة الهوية المصرية" للدكتور كمال فريد إسحاق صديق القس، إذ جاء فى الصفحة السادسة منه أن عدد المصريين عند مجىء الحملة الفرنسية كان مليونين ونصف المليون، على حين أن عدد الأقباط فى ذلك التاريخ (كما هو مذكور فى ص 28) كان مائة وخمسين ألفا. ومعنى ذلك أن نسبتهم حسب إحصاء الفرنسيين هى 6%، وهذه هى الحقيقة التى لا يمكن أن يجادل أحد فيها: أولا لأن هذا الإحصاء السكانى هو من عمل الفرنسيين النصارى لا المسلمين، وثانيا لأن هذين الرقمين قد وردا فى كتاب نشرته مجلة الكتيبة الطِّيبيّة المتعصبة تعصبا ساما، وكتبه مؤلف نصرانى لا يقل عن المجلة تعصبا، إن لم يزد. وهذه النسبة تتطابق مع تلك التى ذكرها أبو إسلام أحمد عبد الله فى مقال له بعنوان "أقباط مصر مسلمون لا نصارى، وإليكم الأدلة"، وذلك بموقعه المشباكى: "بلدى"، إذ قال إن عدد "المسلمين المؤمنين بإله واحد، وكتاب واحد، وسُنَّة نبوية واحدة" (على حد تعبيره) هو سبعة وستون مليونا، أما عدد النصارى فـ"أربعة ملايين نصرانى على أفضل تقدير، بنسبة 87, 5% تقريبا من إجمالي السكان ، وينقسمون فيما بينهم إلى ما لا يقل عن أربعين ملة عقَدية في مصر وحدها" حسب قوله! ويجرى فى هذا المجرى ما ذكره إدوارد وليم لين فى كتابه المشهور: "An Account of the Manners and Customs of the Modern Egyptians" من أن عددهم أيام صدور ذلك الكتاب فى أواخر القرن التاسع عشر هو أقل من واحد على أربعة عشر من مجموع السكان. ويعزو لين استمرار تناقصهم إلى اطراد اعتناق الكثيرين منهم للإسلام (Ward, Lock & Co., London, New York & Melbourne, 1890, P. 489)، وهو الأمر الذى لم يتوقف يومًا، بل ما فتئ مستمرا حتى الآن كما هو معلوم للجميع. ومع ذلك كله فنحن نفتح قلوبنا لمن يحترمنا، بل نحترمه أكثر مما يحترمنا. نقولها صدقا لا نفاقا لأن هذه هى مبادئ ديننا التى تعلمناها فى المدارس وفى البيوت وفى الكتب، أما من يتجاوز حجمه فليس له عندنا إلا ما يعرفه القمص المنكوح. إن ديننا غال جدا جدا علينا، ونحن نعرف عبقرية هذا الدين وعبقرية الرسول العظيم الذى اختاره الله لحمل رسالته العالمية الأبدية ونقدّرها التقدير الذى تستحقه، وهو تقدير ضخم هائل، ولايمكن أبدا أن نتسامح مع من يسىء إلى النبى عليه الصلاة والسلام. ولا يَغُرَّنّ هؤلاء الضعفُ الطارئ الذى ألم بالمسلمين، فدوام الحال من المحال. وتوتة توتة، فرغت الحدوتة!(/59)
هكذا يعلم الربانيون
*مع التابعي عبيد بن عمير رحمه الله (1)
ـ 1 ـ
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
هو واحد من كرام التابعين اشتهر ـ مع علمه وصلته بالقرآن ـ بعبادته وتقواه ونظراته الثاقبة التي تنم عن كثير من الحصافة واستنارة البصيرة ، وعندما كان يذكر ابن عباس رضي الله عنه في إمامته في فقه الدين وهي دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك ، كان يذكر عبيد بن عمير بأنه قارئ القوم والقارئ يومذاك ـ ليس قارئ أيامنا وإنما هو العالم المتصل بالقرآن ، فعن داود بن سابور عن مجاهد قال : كنا نفخر بفقيهنا ، ونفخر بقارئنا . فأما فقيهنا : فابن عباس ، وأما قارئنا : فعبيد بن عمير. وتروى أيضاً ونفخر بقاضينا .. إلخ .
*ولقد كان عبيد ـ رحمه الله ـ واحداً من أولئك الصفوة الذين اتخذوا من العلم طريقاً إلى معرفة الله ، فكان جسرهم إلى العبادة والتقوى ، حتى باتوا من أهل الخشية لله تعالى .. وهذا الذي كان له في ذاته وتزكية نفسه أعطاه نوعاً من المهابة والقدرة على الموعظة البالغة التي تتسم بالنفاذ والتأثير فهي من القلب إلى القلب . قال ـ أجزل الله مثوبته ـ فيما روى عنه مجاهد :
(كان يقال ـ إذا جاء الشتاء ـ لأهل القرآن : قد طال الليل لصلاتكم ، وقصر النهار لصيامكم ، إن أعظمكم هذا الليل أن تكابدوه ، وبخلتم بالمال أن تنفقوه ، وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه ، فأكثروا من ذكر الله عز وجل).
*وفي فهمه لكتاب الله تبارك وتعالى نجد وراء التفسير لظاهر اللفظ كما تعطيه الكلمات روحاً تواقة إلى العمل بالكتاب وقلباً يحس ما وراء الكلمات .
فعن الأعمش عن أبي راشد عن عبيد بن عمير في قوله تعالى :[إنه كان للأوابين غفورا] قال :
( الأواب الذي يتذكر ذنوبه في الخلاء ـ أي خالياً ـ ثم يستغفر الله تعالى لها) .
أو لا ترى ـ يا أخي ـ إلى هذا المعنى الذي قدمه للأواب ، انتقل بنا من ظاهر اللفظ ـ كما يقتضيه معهود العرب ـ في الأوبة والرجوع ، إلى أن حقيقة الأوبة إلى الله تعالى إنما تكون بأن يتذكر المذنب ذنوبه خالياً ليس معه أحد ولا يراه أحد إلا مولاه ، ثم يطلب المغفرة من الله تعالى لذنوبه ، وهو على هذه الحال .
*وانظر إلى عبيد بن عمير وهو يقدم لنا صورة المال والأهل والعمل وأنه لا ينفع المرء يوم تنزل به نازلة الموت إلا عمله ، حيث لا يغني المال ولا الأهل والعشيرة . قال رحمه الله :
(كان لرجل ثلاثة أخلاء ، بعضهم أخص من بعض ، فنزلت به نازلة ، فلقي أخص الثلاثة به فقال : يا فلان إنه نزل بي كذا وكذا ، وإني أحب أن تعينني ، قال : ما أنا بالذي أفعل ، فانطلق بالذي يليه في الخاصة ، فقال : يا فلان إنه قد نزل بي كذا وكذا ، وأنا أحب أن تعينني ، قال : فأنطلق معك حتى تبلغ المكان الذي تريد ، فإذا بلغت رجعت وتركتك . قال : فانطلق إلى أخص الثلاثة فقال : يا فلان إنه قد نزل بي كذا وكذا فأنا أحب أن تعينني ، قال : أنا أذهب معك حيث ذهبت وأدخل معك حيث دخلت .
قال : فالأول المال ، : فإنه خلفه في أهله ولم يتبعه منه شيء .
والثاني : أهله وعشيرته ، ذهبوا معه إلى قبره ثم رجعوا وتركوه .
والثالث : هو عمله ، وهو معه حيثما ذهب ويدخل معه حيثما دخل .
*وهذا دعاء من أدعية هذا التابعي الكريم تجد فيه روح الخشية وصدق المناجاة ولوعة القلب ... عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : كان إذا دخل ابن عمير المسجد وقد غابت الشمس فسمع النداء ، قال: اللهم إني أسألك عند حضور إقبال ليلك ، وإدبار نهارك ، وقيام دعاتك ، وحضور صلاتك ، أن تغفر لي وترحمني ، وأن تجيرني من النار. وإذا أصبح قال مثل ذلك قبل أن يصلي الفجر.
رحم الله عبيداً وأعلى مقامه في الآخرين وأرجو أن يقسم لنا لقاء آخر مع وقفاته الربانية وكلماته المؤمنة الصادقة والحمد لله رب العالمين .
ـ 2 ـ
في العدد الماضي أخذنا بأطراف الحديث عن هذا التابعي رفيع القدر الذي انقضت حياته في أواخر الثلث الثاني من القرن الأول الهجري حيث توفي سنة 74 والذي أسند عن الكثيرين وروى عنه الكثيرون.
ونعود اليوم لمتابعة الحديث .. وحين نفعل ذلك نفعله أخذاً بقسط أوفر من سيرة واحد من أولئك الرجال الذين تعرف من خلال خلائقهم المنهج الرضيّ في الإسلام لما أنهم كانوا على قدم أولئك الذين تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق فيهم قول الحكيم : عرفت فالزم .(/1)
والأمة حين تتشعب بها السبل ، وتلتبس على كثير من أبنائها المعالم وتطلع الفتن بظلماتها تريد أن تسد عليها منافذ الوجود الحقيقي ... حين تقع الأمة تحت هذه الدواهي تبدو حاجتها أكثر وأكثر إلى التعرف إلى أولئك الرواد الذين اهتدوا بهدي النبوة ، ووردوا معينها العذب الزلال ، فهانت في أعينهم الدنيا وتفانوا في طلب ما عند الله .. فتراهم وقد راح الناس يتقممون الحطام تحت أقدام الطغاة .. ترتفع رؤوسهم عالية باستعلاء الإيمان ، عزيزة بعزة الحق لما أنهم عبيد لله لا سلطان على قلوبهم لغيره .. يركعون ويسجدون وبين يديه يخضعون ويتذللون .. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يفقهون .
وقد رأينا أن من هؤلاء الرواد الربانيين عبيد بن عمير- رحمه الله ـ ها هو ذا بما أخذ عن شيوخه من الصحابة يعلمنا من هو الرجل الحقيقي في ميزان الله ، وأن القيمة الحقيقية ليست بما يكون في هذه الدار من مظاهر قد تخفي وراءها حقائق تقشعر لها الأبدان ومخازي يندى لها جبين البصير قال رحمه الله يؤتى بالرجل العظيم الطويل يوم القيامة فيوضع في الميزان فلا يزن عند الله جناح بعوضة ، ثم قرأ : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) وإذن فالقيمة الحقيقية للرجل ، بما يكون له عمل يرضى عنه الله ورسوله ، وكل ما يكون من تمويه وبهارج هنا لا يغير من الحقيقة شيئاً فالله لا ينظر إلى الصور والأجساد ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال .
وإذا كان الأمر كذلك فالمفروض بالمسلم أن يعمل ليصبح في عداد أولئك الذين يكونون شيئاً في ميزان الله تبارك الله وتعالى ، ولتكون مقاييسه للرجال والأعمال منبثقة عن هذه الحقيقة ، فلا ينظر إلى الهالة المصطنعة ولكن ينظر إلى ذلك كله من خلال المدلول الواضح لقوله تعالى عن أولئك الفارغين:
[فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا] (2).
أكثر من هذا : لقد أثبت القرآن للكافرين أعمالاً ثم كشف عن أنها غير ذات قيمة عند الله يوم القيامة ولهم عليها مثوبة الدنيا هنا [وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا] (3) [والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب] (4).
أعمال بقيم .. ورجال بقيم .. والسعيد السعيد من كان وقافاً عند منهج الله فيما يقبل وفيما يرد .
قال عبيد رحمه الله في شأن العتل هو القوي الشديد ، الأكول الشروب ، يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة ، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفاً دفعة واحدة في النار).
* * *
وما أعظم ما غمر قلب هذا الرجل من النور الإلهي حتى استقام سلوكه وصحت له نظرته إلى الأعمال وجدواها عند الله .. وكان كبيراً في نفسه كل ما هو من ذكر الله ورضاه بسبيل . فالتسبيحة الصادقة النابعة من القلب أين من وزنها عند الله ملء الأرض ذهباً ، قال أجزل الله مثوبته :
(تسبيحة في صحيفة مؤمن يوم القيامة خير من أن تسير معه الجبال ذهباً)
ولمَ لا يكون الأمر كذلك فالتسبيحة له ولكن الدنيا ـ بما فيها ـ إذا لم يؤد حق الله ويراقب ويحذر ويحتاط لأمره هي عليه والعياذ بالله .
ولم يكن عجباً من العجب بعد ذلك أن تمتد هذه النظرات إلى علاقته بالناس ، فالأخ الحقيقي هو الأخ في الله الذي تجمعه وإياه عبودية لله صادقة ، وحرص لا يدانيه حرص على أن تكون كلمة الله هي العليا ، وشريعته هي المحكمة ، والآخرة التي وعد بها هي المؤثرة .. فهذا الأخ في الله هو الذي يحب ، وهو الجدير أن يستأثر بالود والعطاء والإيثار، فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : " رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه " .
ثم : إن هذه الصلة ليست لغرض قريب ولا من أجل مطمع يلهث وراءه الحمقى طلاب الدنيا . ولكنه صلة عروتها أن يكون الإخوة في الله شهداء بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا يقولون ما ليس لهم بحق ولا يسألون ما ليس لهم به علم وما أعظم وأكرم أن يكونوا كذلك ... ـ وقد سبقت لهم من الله الحسنى ـ وأن يكون نبينا المصطفى صلوات الله عليه شهيداً عليهم بالإيمان : فيسعدوا بأن يردوا عليه الحوض وأن يحظوا بشفاعته جزاه الله عن الأمة كل خير وآتاه الوسيلة والفضيلة وبعثه المقام المحمود الذي وعده إنه لا يخلف الميعاد .
حدث غيلان عن عبيد بن عمير (أنه كان إذا آخى في الله أحداً أخذ بيده واستقبل به الكعبة وقال : اللهم اجعلنا شهداء بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، واجعل محمداً صلى الله عليه وسلم شهيداً بالإيمان ، وقد سبقت لنا منك الحسنى ، غير متطاول علينا في الآمال ولا قاسية قلوبنا ، ولا قائلين ما ليس لنا بحق ، ولا سائلين ما ليس لنا علم).
* * *(/2)
مرة أخرى : رحم الله عبيداً وأعلى مقامه في الآخرين وإذا كانت القاعدة " وبضدها تتميز الأشياء " فما أشد حسرة أولئك الذين يتحابون في الشيطان ويجتمعون على دخان الضلالة ، ونتن الدنيا ، ينتعلهم الظلمة بالعرض من الفانية ويذلون لغير الله لهاثاً وراء السراب .
ـ وما أحوج الأمة ـ وهي على عتبة أن تنهض من عثار ـ لترسم خطى أولئك البررة الربانيين كيما تكون قادرة على البذل والإيثار، حيث لا ينفع إلا البذل والإيثار.. وكيما يكون أبناؤها قادرين على الصعود حيث يسقط أشباه الرجال في أول الطريق .. ولن يكون ذلك إلا بالتخلق بأخلاقهم توحيداً خالصاً ، وتوجهاً إلى الله صادقاً ، وثقة بوعد الله أيما ثقة واستعلاء على كل المعوقات ، مهما كلف ذلك صاحبه من ثمن ، لأن مرضاة الله أجل وأعلى ، والغاية المبتغاة التي يسارع إليها أهل الصفاء الصالحون المجاهدون أعز وأسمى .. بحيث يهون في سبيل ذلك كل ثمن .. بل تراهم غارقين في شكر الله تعالى أن اختارهم للجلي وارتفع بمطامحهم عن أوضار هذه الدنيا الفانية وأخذ بأيديهم إلى رياض أولئك الذين قال القرآن فيهم :
[إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر](5)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الهوامش :
* حضارة الإسلام العدد الثاني السنة 19/ 4/1398.
(1) هو عبيد الله بن عمير بن قتادة الليثي الجندعي المكي الواعظ العابد المفسر ولد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كان من ثقات التابعين وأئمتهم بمكة وكان يذكر الناس ، فيحضر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مجلسه . توفي قبل ابن عمر وقال الذهبي : وقيل توفي سنة 74 هـ.
(2) ختام الآية 105 من سورة الكهف .
(3) سورة الفرقان : 23
(4) سورة النور: 39
(5) الآيتان 54 ـ 55 من سورة القمر.(/3)
هل أخطأ القرآن في اسم والد مريم كما يزعم المتخرصون؟
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
يبدئ المستشرقون والمبشرون ويعيدون في اتهام القرآن الكريم بالخطأ في إيراد هذه المعلومة أو تلك، أو رواية هذه الواقعة التاريخية أو تلك، أو النص على أن اسم الشخص الفلانى هو هذا الاسم أو ذاك، مستندين في ذلك كله على أن الكتاب المقدس لديهم مثلا يقول بغير هذا، جاعلين كتابهم بهذه الطريقة هو الأساس الذى يحاكمون إليه القرآن، وكأن كتابهم المقدس كتاب معصوم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولسوف أجتزئ هنا بمثال واحد على هذه التخطئات التى يُقْدِم عليها القومُ بجرأة وثقة يُحْسَدون عليها، ولسوف يتبين بعدها للرائح والغادى، والقاصى والدانى، والأعمى والمفتَّح، والجاهل والعالم، وصاحب هذا الدِّين أو ذاك، أن الأمر بخلاف ما يحاول هؤلاء الناس أن يوهموا القراء به تماما. وهناك في كتبى ودراساتى كثير من هذه الأمثلة والرد عليها وتفنيدها تفنيدا علميا يترك هذه التخطئات بل الكتاب المقدس نفسه الذى يعتمدون عليه ثقوبا لا يمكن سَدُّها ولا حتى رَتْقُها!
ومن هذه التخطئات ما يرددونه دائما بملء بجاحتهم من أن القرآن الكريم حين يقول عن مريم أم عيسى عليهما السلام إنها بنت عمران وأخت هارون قد أخطأ خطأ فاحشا لا يغتفر، إذ إن عمران هو أبو موسى وهارون لا أبو مريم، التى أخطأ القرآن في إيراد نسبها فجعلها ابنة لعمران هذا، ثم أكد هذا الخطأ بقوله أيضا إنها أخت هارون، أى أنها أخت هارون وموسى معا ما داما أخوين، وبنت عمران أبيهما، مع أن مريم التى هى أخت هارون وموسى وبنت عمران ليست هى مريم أم المسيح عليه السلام، بل هى مريم النبية التى كانت أختا لهارون وموسى حقيقةً لا وهمًا، وهذه "المريم" الأخرى تسبق في الوجود مريم أم المسيح بنحو ألف وخمسمائة عام.
وإلى القارئ الكريم أربعة أمثلة على هذه التخطئة مأخوذة من ثلاثة مواقع مختلفة هى التى وجدتها على المشباك أثناء تتبعى لهذا الانتقاد: الأول لصموئيل عبد المسيح، والثانى من موقع الكلمة لزكريا بطرس، والثالث من موقع"Answering Islam" الناطق بالإنجليزية، فضلا عن كتاب صدر في النمسا عام 1994م بعنوان "هل القرآن معصوم؟" لشخص يتسمى باسم "عبد الله عبد الفادى"، وهو اسمٌ مختَرَعٌ كما هو واضح، وإن كانت الجهة التى تقف خلفه معروفة، والأحرى أن يكون اسمه: "عبد الفاضى"، أو "العبد الفاضى" كى يكون اسما على مسمى. ونبدأ بالكتاب الأخير، وقد ورد فيه السؤال التالى: "جاء في سورة "التحريم" (12): "ومريمَ ابنةَ عِمْرَان التى أَحْصَنَتْ فرجَها فنفخْنا فيه من روحنا، وصدَّقّتْ بكلمات ربها وكُتُبه، وكانت من القانتين"، وجاء في سورة "مريم" (27- 28): "فأتت به قومها تحمله، قالوا: يا مريم، لقد جئتِ شيئًا فَرِيًّا* يا أختَ هارون، ما كان أبوكِ امرأَ سَوْءٍ، وما كانت أمّكِ بغيًّا". ونحن نسأل: يقول الإنجيل إن مريم العذراء هى بنت هالى (لوقا/ 3/ 23)، فكيف يقول القرآن إنها بنت عمران أبى موسى النبى، وإنها أخت هارون، مع أن بينها وبين عمران وهارون وموسى ألف وستمائة سنة؟". أما ما جاء في المواقع المشباكية فها هو ذا:
1- "أخطاء القرآن
صموئيل عبد المسيح Samu2el@hotmail.com
مريم أخت هارون أنجبت (في الصحراء) تحت نخلة :
"فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَة.ِ قَالَتْ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا* فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي. قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا* وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا* فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا* فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ. قَالُوا: يَا مَرْيَمُ، لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا* يَا أُخْتَ هَارُون،َ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا" (مريم/ 23- 28).
أحقاً أن مريم أم المسيح هي اخت هارون وموسى ؟ ما هي الفترة الزمنية بين مريم أخت هارون وموسى ومريم أم المسيح يسوع ؟"
_____________________________________
2- "مركز الكلمة المسيحي
www.alkalema.net
- تعليقات على سورة آل عِمران
- أبو مريم:
"إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ: رَبِّ، إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا، فَتَقَبَّلْ مِنِّي. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ: رَبِّ، إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْْثَى، وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (35- 36).(/1)
خلط القرآن أبا موسى بأبي مريم، فقال إنّ عمران أبا موسى وهارون هو أبو مريم التي حملت الكلمة الإلهية. ومما يؤيّد خطأه هذا قوله في سورة مريم: " يا أخت هارون" (28)، مع أن بين موسى والمسيح نحو 1500 سنة.
ولما رأى علماء المسلمين هذا قالوا إن عمران المذكور في هذه العبارة هو غير والد موسى، ولكنهم أخطأوا، لأن الكتاب المقدس لا يذكر شيئًا عن ميلاد العذراء مريم، ولم يكن هناك مصدر يستقي منه محمد أخباره، ولكن كانت هناك بعض خرافات الغنوسيين الذين ملأوا الجزيرة العربية، وأيضا المريميين الذين كانوا يُؤلِّهون العذراء مريم ويضعون حول ميلادها وحياتها كثيرا من المعجزات كما ورد في كتابي مولد العذراء وطفولية المخلّص وإنجيل الطفولية (راجع الطبري والقرطبي والرازي في تفسير "آل عمران"/ 35، 36)".
_____________________________________
3- “Qur'an Contradiction:
Mary, Sister of Aaron & Daughter of Amram
In several Suras the Qur'an confuses Mary the mother of Jesus [Miriam in Hebrew] with Miriam the sister of Aaron and Moses, and daughter of Amram which is about 1400 years off.
At length she brought (the babe) to her people, carrying him (in her arms), They said: "O Mary! Truly a strange thing has thou brought! "O sister of Aaron, thy father was not a man of evil, nor your mother a woman unchaste!"
-- Sura 19:27-28
And Mary, the daughter of `Imran, ...
-- Sura 66:12
I am aware what Muslims claim to be a solution to this problem. Yusuf Ali for example writes in his footnote 2481 commenting on the above verse: "Aaron the brother of Moses was the first in the line of Israelite priesthood. Mary and her cousin Elisabeth (mother of Yahya) came from a priestly family, and were therefore, 'sisters of Aaron' or daughter of `Imran (who was Aaron's father)."
This is faulty reasoning. Only Aaron became a Priest of the Lord and in fact the first High Priest. And only Aaron's descendents became priests. Neither Moses nor their sister Miriam are ever understood to be in "priestly lineage." Amram is definitely not a priest. If Mary's lineage of being part of a priestly family should be stressed then necessarily she would have to be called a daughter of Aaron, since all of Israel's priests are descendants of Aaron, while his brother and sister are not counted among the priestly line.
I do agree that "father", "daughter" and "sister" might be used sometimes rather losely and only indicate a "general family relationship." Therefore we have to carefully read in each mentioning to see what is meant. And the Qur'an makes clear that the narrow, physical meaning of daughter and (hence) sister is meant in this case as I will demonstrate below. Even if there were no concern about the issue of "priestly" but only such a wider family relationship was in view, why does the Qur'an not say "daughter of Aaron" who is her most famous forefather? Even though "sister" might be used in a wider meaning than a sister within the same immediate family, isn't it the use even in Islam that "brothers and sisters" live on roughly the same generational level (like cousins) while "father and daughter" signifies a generational difference between the two persons compared? Why are the wives of Muhammad not called the "sisters of the believers" but "the mothers of the believers"? [Today's believers! - Aisha certainly was not called the mother of 'Uthman, Umar, Abu Bakr and the other believers of Muhammad's life time.] For what reason call her sister of the famous Aaron (being 1400 years older than Mary) but daughter of `Imran (Bible: Amram) of whom we know nothing at all apart from the fact that his name is mentioned in the genealogical tables in Exodus 6 and 1 Chronicles 23? This is perfectly clear if the two Miriams were indeed confused. But the attempts of harmonization don't really sound very logical.
The above points are just some "minor questions". The big problem is that the Qur'an is explicitely not talking about wider clan relationships as we see in the following verse.(/2)
Behold! wife of `Imran said: "O my Lord! I do dedicate unto Thee what is in my womb for Thy special service ... When she was delivered, she said: "O my Lord! Behold! I am delivered of a female child!" ... "... I have named her Mary ..."
-- Sura 3:35-36
Muslims are usually very particular about whose wife a woman is and it is definitely not allowed that just anybody can have sex with a woman only because he is a "wider relative of hers." If Mary is the female child that came out of the womb of the wife of `Imran, then she is the direct daughter of `Imran and there is no question that the theory of "far descendency" is contradicted by the Qur'an itself.
Yusuf Ali in his footnote 375 to Sura 3:35 even goes so far to invent (?) a second `Imran by claiming that "by tradition Mary's mother was called Hannah ... and her father was called `Imran," in order to somehow save the Qur'an from this contradiction. But the same tradition that calls Mary's mother Hanna, also gives the name of her husband as Joachim. Why would Y. Ali accept one part of this tradition (e.g. in the Proto-Evangelion of James the Lesser) and reject the other? Yusuf Ali does not give any reference for this "tradition" he refers to. Until I see any reference to that, there is no reason to accept this theory. As to my current knowledge there is no such tradition that predates Muhammad. Some Muslim commentators might have made something up later to explain this very problem, but such a late theory / "tradition" is not very credible.
And a last question: Is there any other instance in the Qur'an where a person is consistently called daughter [son] or sister [brother] of people which are only wider relatives? Even if there was to be one name in the clan so overpowering that everybody is named in his or her relationship to that one person, it is doubly improbable that anybody would be named always after two distant relatives in the place of "father" and "brother", and never be mentioned in relationship to his or her real parents' or brothers' names. If this is the only instant then the Muslim explanation is even more strained since ad hoc explanations, i.e. explanations which serve no other purpose than to explain away this one problem but are not used anywhere else are not very credible. It does appear to be such an artificial reasoning in this case. And the fact that Aaron is indeed `Imran's son and this is a direct and correct genealogical relationship, also indicates that the rest is understood as daughter and sister in the normal everyday sense.
Thomas Patrick Hughes in his "Dictionary of Islam", page 328, writes on this issue that "it is certainly a cause of some perplexity to the commentators. Al-Baidawi says she was called `sister of Aaron' because she was of Levitical race; but Husain says that the Aaron mentioned in the verse is not the same person as the brother of Moses."
As always, conflicting explanations are evidence that there is indeed a problem and no one clear and satisfactory solution is available.
Note: Moses and Aaron are called "Musa ibn `Imran" and "Harun ibn `Imran" in the Hadiths, just the same way as Mary is called "Maryam ibnat `Imran" in Sura 66:12”.(/3)
ونبدأ بكلام العبد الفاضى فنقول إن هذا الكلام لا موقع له من المنطق إلا في المرحاض. لماذا؟ لأن الإنجيل الذى كان يمكن أن يحاجّ القرآن به لو كان بين الكتابين اختلاف، وهو الإنجيل الذى أنزله الله سبحانه وتعالى على عبده ورسوله عيسى عليه السلام، هذا الإنجيل لم يعد له وجود، أما الأناجيل التى بين أيدينا الآن فلم تنزل من السماء كما هو معروف، بل هى سِيَرٌ وتواريخُ كتبها بعض النصارى بعد أن توفي الله المسيح ورفعه إليه بعشرات السنين، ويختلط فيها الحق بالباطل، ولم يُتَبَع فيها أى منهج علمى ولا روعيت في تأليفها أية ضمانات لتجنيب مؤلفيها الخطأ أو على الأقل تقليل هذا الخطإ وحَصْره في أضيق نطاق ممكن، وكثيرٌ ما هو في تلك الأناجيل لذلك السبب وغيره. فحِجَاج هذا السفيه لنا بأن الإنجيل قد قال كذا في المسألة التى نحن بصددها هو حجاج باطل. على أن هذه الملاحظة لا تصدق على الأناجيل فحسب بل تشمل الكتاب المقدس جميعه "من ساسه لراسه" حسب التعبير الشعبى المعروف. وإلى القارئ بعضا من الأخطاء- الأفاكيه الموجودة في الكتاب المقدس كى يقضى وقتا بهيجا مع ذلك الكتاب الذى يتخذه بعض المهاويس معيارا يخطئون به قرآننا:
فمن ذلك مثلا ما جاء في سِفْر "التكوين" (1) من أنه قد "1َأُكْمِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَكُلُّ جُنْدِهَا. 2وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ. فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ. 3وَبَارَكَ اللهُ الْيَوْمَ السَّابِعَ وَقَدَّسَهُ لأَنَّهُ فِيهِ اسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ اللهُ خَالِقاً... 10وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ: 11اِسْمُ الْوَاحِدِ فِيشُونُ وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحَوِيلَةِ حَيْثُ الذَّهَبُ. 12وَذَهَبُ تِلْكَ الأَرْضِ جَيِّدٌ. هُنَاكَ الْمُقْلُ وَحَجَرُ الْجَزْعِ. 13وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِي جِيحُونُ. وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ. 14وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ حِدَّاقِلُ. وَهُوَ الْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ. وَالنَّهْرُ الرَّابِعُ الْفُرَاتُ ". أرأيت أيها القارئ العزيز هذه الدُّرَر الجغرافية والجيولوجية التى يتقاصر دونها كل ما جاء في كتب الجغرافيا والجيولوجيا، فضلا عن ذلك الإله الذى يتعب فيأخذ راحة بعد المجهود الشاق الذى بذله؟ يا له من إله مسكين يحتاج إلى كوب شاى ساخن يزيل عنه وعثاء التعب، ويا حبذا لو كان مع الشاى قطعتان من البسكويت! وكُلّه بثوابه! ومن قدّم شيئا بيداه التقاه! (ملحوظة: من العرب قديما من كانوا يعربون المثنى دائما بالألف قبل شحّاذى السيدة، وكذلك قبل "شحّاذ الغرام" بأزمان وأزمان، أقول هذا قبل أن ينطّ لى أحدهم مخطئا وجود الألف في "يداه" رغم دخول حرف الجر عليها!).(/4)
كما جاء في ذات السِّفْر (6): "1وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الأَرْضِ وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ 2أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأُوا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا. 3فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ. لِزَيَغَانِهِ هُوَ بَشَرٌ وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً». 4كَانَ فِي الأَرْضِ طُغَاةٌ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ أَيْضاً إِذْ دَخَلَ بَنُو اللهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلاَداً - هَؤُلاَءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ. 5وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. 6فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ. 7فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ: الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ. لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ»". هل سمع أحد من عقلاء البشر أو حتى من مجانينهم أن لله أولادا؟ فمن أمهم يا ترى؟ ثم حين ذهب أولاد الله ليخطبوا بنات الناس، هل أخذوه معهم ليفاتح آباءهن ويتفق معهم على الشبكة والمهر والشقة والأثاث والذى منه؟ ثم أى إله هذا الذى يأسف ويندم على ما فعل؟ هذا ليس هو الله رب العالمين، بل إله من آلهة الوثنيين البدائيين بلغ من غضبه أنْ تشَوَّشَ عقله فلم يعد يستطيع أن يقوم بأتفه العمليات الحسابية، فمرة يقول لنوح: خذ من كل كائنٍ حىٍّ اثنين اثنين ذكرًا وأنثى، ثم ينسى ما قاله بعد قليل فيجعل العدد من الحيوانات الطاهرة ومن طير السماء سبعةً سبعةً ذكورًا وإناثًا، ليعود مرة أخرى إلى عدد الاثنين (تكوين/ 6/ 19- 20، و7/ 2- 3، 15- 16). ولقد مرَّ في النص السابق أنه كان هناك جبابرة كثيرون قبل الطوفان: قبل أن يتخذ أبناءُ الله بناتِ الناس، وأيضا بعد أن اتخذوهن زوجات، إلا أن كاتب هذا السفر، كعادة مؤلفي الكتاب المقدس، قد نَسِىَ هذا فقال عن نمرود (حفيد ابن نوح، الذى وُلِد بعد الطوفان بزمن طويل) إنه "أول جبّار في الأرض" (تكوين/ 10/ 8). الله يُبَرْجِل مُخَّك كما بَرْجَلْتَ مُخَّنا يا ملفِّق هذه الخزعبلات! وحتى نمرود هذا لا ندرى بالضبط مَنْ أبوه: فمرة يذكر الكاتب أبناء كوش بن حام بن نوح فلا يورد بينهم اسم نمرود، لنفاجَأ به بعد أقل من سطر يقول: "وكوش وَلَدَ نمرود"، أى أنجبه (تكوين/ 10/ 7- 8). وسلِّم لى على المترو. لا أقصد مترو اليوم، بل المترو الذى كان قبل الطوفان، وكان يستخدمه الجبابرة، كل جبار في عربةٍ وحده لا يشاركه فيها أحد، إذ هى لا تكفيه إلا بالعَنَت والمشقة وبعد أن يُدْخِلوه فيها بلبّاسة يُزَفْلِطُونها بالصابون لتسهيل عملية الدخول فلا ينحشر في حَلْق الباب وتكون حكاية! ولم لا؟ أليس جبارا؟ إن هذا يذكّرنا بحكايات أبى لمعة التى طيَّرَتْ دماغ الخواجة بيجو في حلقات "ساعة لقلبك" أيام زمان، فكان يصرخ من الدوار الذى تسببه له قائلاً: "آخ! يا النافوخ بتاع الأنا"!
ومنه أيضا أن نوحا عليه السلام (قاتل الله من يسىء إليه ويفترى عليه الأكاذيب!) قد دعا على حفيده كنعان ولعنه لا لشىء إلا لأنه هو (أى نوحا، ولا أحد غيره) قد أخذ يعبّ من الخمر حتى أصبح طينة وانطرح على الأرض وتكشفت سوأته (إِخْص!) فرآه ابنه حام (أبو كنعان) على ذلك الوضع المزرى، فلما أفاق نوح وعلم بما حدث انطلق في نوبة مسعورة يلعن كنعان "وأبا خاش كنعان" ويدعو عليه بأن يجعله الله عبدا لعبيد إخوته (تكوين/ 9/ 20- 27)، مع أنه لا ذنب كما ترى لحام، فضلا عن كنعان المسكين الذى لا ناقة له في المسألة ولا جمل، ولكن يبدو أن جدّه السِّكِّير لم يكن قد أفاق تماما من الخمر فلم يكن يدرى ماذا يقول ولا ماذا يفعل، ولا على من يدعو ولا من يلعن! وعلى رأى المثل، ولكن بالمقلوب: "يعملها الكبار، ويقع فيها الصغار"! طبعا، أليست مجتمعاتنا مجتمعات "بطرياركية" كما يقول الأفاكون الأفاقون الملاعين الذين يتفيهقون ويتحذلقون بترديد المصطلحات والأفكار الأجنبية، وأنتم تعرفون من أقصد!(/5)
وفي سِفْر "الخروج" نقرأ أن أم موسى عليه السلام، بعد ثلاثة أشهر من ولادته وبعد أن لم تعد تستطيع أن تخبئه خوفا من بطش فرعون به أطول من ذلك ، أخذت سَفَطًا من البَرْدِى وطلَتْه بالحُمَر والزفت ووضعت فيه الرضيع ثم وضعت السَّفَط بين الحَلْفَاء على حافة النهر، فيما وقفت أخته ترقب من بعيد ماذا سيحدث، وأن ابنة فرعون قد نزلت النهر لتستحم في الوقت الذى كانت فيه جواريها يمشين على الشط، فرأت السَّفَط بين الحَلْفَاء فأرسلت أَمَةً لها لتحضره، ولما فتحته وجدت ولدا يبكى، فقالت إنه من أولاد العبرانيين...إلخ. والذى أود الإشارة إليه هو أن أم موسى قد طلت السَّفَط بالحُمَر والزفت، وهذه العملية إنما يقوم بها صنّاع القوارب والمراكب منعًا من تسرب الماء إليها حتى لا تغرق. فلماذا فعلت أم موسى ذلك إذا كان قصدها مجرد وضع السَّفَط على شاطئ النهر كما جاء في رواية العهد القديم لا في النهر نفسه كما قال القرآن؟ ألا يدل هذا على أن رواية القرآن الكريم للحادثة هى الرواية الصحيحة، إذ جاء فيها أن أم موسى بعد أن وضعت رضيعها في التابوت قد قذفت به في اليم؟ إن كاتب قصة العهد القديم قد فضحته هذه التفصيلة الدالة، مثلما فضحه قوله هو نفسه على لسان ابنة فرعون حين ذكرت أنها قد سمَّتْ الرضبع: "مُوسَى" لأنها قد انتشلته من الماء. أى أنه كان في الماء لا على الشط بين الحلفاء كما قال المؤلف السكران قبل أسطر (قارن بين سفر "الخروج"/ 2/ 2- 10، وسورة "طه"/ 38- 39 وسورة "القَصَص"/ 7- 8).
وبالمثل نقرأ في الإصحاح الثانى والثلاثين من سفر "الخروج ما يلى: "1وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: «قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا لأَنَّ هَذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ». 2فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: «انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَأْتُونِي بِهَا». 3فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِهِمْ وَأَتُوا بِهَا إِلَى هَارُونَ. 4فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالإزْمِيلِ وَصَنَعَهُ عِجْلاً مَسْبُوكاً. فَقَالُوا: «هَذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ!» 5فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ بَنَى مَذْبَحاً أَمَامَهُ وَنَادَى هَارُونُ وَقَالَ: «غَداً عِيدٌ لِلرَّبِّ». 6فَبَكَّرُوا فِي الْغَدِ وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَقَدَّمُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ. وَجَلَسَ الشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ. 7فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اذْهَبِ انْزِلْ! لأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ الَّذِي أَصْعَدْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. 8زَاغُوا سَرِيعاً عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْصَيْتُهُمْ بِهِ. صَنَعُوا لَهُمْ عِجْلاً مَسْبُوكاً وَسَجَدُوا لَهُ وَذَبَحُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ». 9وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «رَأَيْتُ هَذَا الشَّعْبَ وَإِذَا هُوَ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ. 10فَالآنَ اتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ وَأُفْنِيَهُمْ فَأُصَيِّرَكَ شَعْباً عَظِيماً». 11فَتَضَرَّعَ مُوسَى أَمَامَ الرَّبِّ إِلَهِهِ وَقَالَ: «لِمَاذَا يَا رَبُّ يَحْمَى غَضَبُكَ عَلَى شَعْبِكَ الَّذِي أَخْرَجْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ وَيَدٍ شَدِيدَةٍ؟ 12لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ الْمِصْرِيُّونَ قَائِلِينَ: أَخْرَجَهُمْ بِخُبْثٍ لِيَقْتُلَهُمْ فِي الْجِبَالِ وَيُفْنِيَهُمْ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ؟ ارْجِعْ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ وَانْدَمْ عَلَى الشَّرِّ بِشَعْبِكَ. 13اُذْكُرْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ عَبِيدَكَ الَّذِينَ حَلَفْتَ لَهُمْ بِنَفْسِكَ وَقُلْتَ لَهُمْ: أُكَثِّرُ نَسْلَكُمْ كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَأُعْطِي نَسْلَكُمْ كُلَّ هَذِهِ الأَرْضِ الَّتِي تَكَلَّمْتُ عَنْهَا فَيَمْلِكُونَهَا إِلَى الأَبَدِ». 14فَنَدِمَ الرَّبُّ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ يَفْعَلُهُ بِشَعْبِهِ". وواضح ما في النص من إساءة فاحشة إلى نبى الله هارون، الذى ينسب إليه الكتاب المقدس ومزوروه أنه هو الذى صنع العجل بيده وساعد قومه على الارتداد إلى الوثنية وهيأ لهم كل دواعى الكفر والفحش والفجور، وكذلك ما فيه من إساءة إلى الله نفسه حيث يصوره الكاتب بصورة إله وثنى يندم ويتراجع عما كان قرره، مما لا يمكن أن يكون وحيا سماويا إلا إذا كان الوحى السماوى قد أصابه الهزال حتى بانت كُلاَه وسَامَه كلُّ مفلس أقرع العقل والوجدان والإيمان مثل كاتب هذا الكلام.(/6)
ثم هناك الأفكوهة التالية التى تفطِّس من الضحك والتى لا يمكن أن تقع ولا في الأحلام. ذلك أن سِنّ الابن في "الحدّوتة" (أو إذا أحببتَ فَقُلِ: "الأُحْدُوثة") التى نوشك أن نسمعها أكبر من سنّ أبيه بعامين (الله أكبر!): "16 وَأَهَاجَ الرَّبُّ عَلَى يَهُورَامَ رُوحَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ وَالْعَرَبَ الَّذِينَ بِجَانِبِ الْكُوشِيِّينَ 17فَصَعِدُوا إِلَى يَهُوذَا وَافْتَتَحُوهَا وَسَبُوا كُلَّ الأَمْوَالِ الْمَوْجُودَةِ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ مَعَ بَنِيهِ وَنِسَائِهِ أَيْضاً وَلَمْ يَبْقَ لَهُ ابْنٌ إِلاَّ يَهُوآحَازُ أَصْغَرَ بَنِيهِ. 18وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ ضَرَبَهُ الرَّبُّ فِي أَمْعَائِهِ بِمَرَضٍ لَيْسَ لَهُ شِفَاءٌ. 19وَكَانَ مِنْ يَوْمٍ إِلَى يَوْمٍ وَحَسَبَ ذِهَابِ الْمُدَّةِ عِنْدَ نَهَايَةِ سَنَتَيْنِ أَنَّ أَمْعَاءَهُ خَرَجَتْ بِسَبَبِ مَرَضِهِ فَمَاتَ بِأَمْرَاضٍ رَدِيئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْ لَهُ شَعْبُهُ حَرِيقَةً كَحَرِيقَةِ آبَائِهِ. 20كَانَ ابْنَ اثْنَتَيْنِ وَثَلاَثِينَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ وَمَلَكَ ثَمَانِيَ سِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ وَذَهَبَ غَيْرَ مَأْسُوفٍ عَلَيْهِ وَدَفَنُوهُ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ وَلَكِنْ لَيْسَ فِي قُبُورِ الْمُلُوك" (أخبار الأيام الثانى/ 21)،ِ "1وَمَلَّكَ سُكَّانُ أُورُشَلِيمَ أَخَزْيَا ابْنَهُ الأَصْغَرَ عِوَضاً عَنْهُ لأَنَّ جَمِيعَ الأَوَّلِينَ قَتَلَهُمُ الْغُزَاةُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَ الْعَرَبِ إِلَى الْمَحَلَّةِ. فَمَلَكَ أَخَزْيَا بْنُ يَهُورَامَ مَلِكِ يَهُوذَا. 2كَانَ أَخَزْيَا ابْنَ اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ" (أخبار الأيام الثانى/ 22). لاحظ أيها القارئ الكريم أن الأب قد مات وعنده من العمر أربعون، إذ كانت سنّه حين تولى المُلْك اثنين وثلاثين عاما ثم مَلَك ثمانية أعوام، ثم تولى ابنه الحُكْم بعده مباشرة وكان عمره وقتها اثنين وأربعين. طيب، وماذا في هذا؟ إن الفرق كله يا أخى "شوَيّة" أعوام لا راحت ولا جاءت، فلم تقيم الدنيا وتقعدها من أجل حفنة سنوات؟ بالضبط كما في الفلم المشهور: "من أجل حفنة دولارات". وهأنتذا ترى أن الأمر كله تمثيل في تمثيل، فلا تكن حنبليا هكذا!
ونختم هذه الأفاكيه بالمثال التالى، وهو عبارة عن سلسلتَىْ نسب للسيد المسيح أترك القارئ الكريم يقارن بينهما بنفسه ليكتشف التناقضات العجيبة والفجوات السحيقة في أهم موضوعات العهد الجديد على الإطلاق كى يحكم بنفسه على أولئك الناس الذين لا يستحون ويريدون أن يحاكموا القرآن الكريم إلى كتابهم هذا على ما فيه من عُرَر. والنصان التاليان مأخوذان من إنجيل متى وإنجيل لوقا على التوالى: (متى/ 1): "1كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ. 2إِبْراهِيمُ وَلَدَ إِسْحاقَ. وَإِسْحاقُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يَهُوذَا وَإِخْوَتَهُ. 3وَيَهُوذَا وَلَدَ فَارِصَ وَزَارَحَ مِنْ ثَامَارَ. وَفَارِصُ وَلَدَ حَصْرُونَ. وَحَصْرُونُ وَلَدَ أَرَامَ. 4وَأَرَامُ وَلَدَ عَمِّينَادَابَ. وَعَمِّينَادَابُ وَلَدَ نَحْشُونَ. وَنَحْشُونُ وَلَدَ سَلْمُونَ. 5وَسَلْمُونُ وَلَدَ بُوعَزَ مِنْ رَاحَابَ. وَبُوعَزُ وَلَدَ عُوبِيدَ مِنْ رَاعُوثَ. وَعُوبِيدُ وَلَدَ يَسَّى. 6وَيَسَّى وَلَدَ دَاوُدَ الْمَلِكَ. وَدَاوُدُ الْمَلِكُ وَلَدَ سُلَيْمَانَ مِنَ الَّتِي لأُورِيَّا. 7وَسُلَيْمَانُ وَلَدَ رَحَبْعَامَ. وَرَحَبْعَامُ وَلَدَ أَبِيَّا. وَأَبِيَّا وَلَدَ آسَا. 8وَآسَا وَلَدَ يَهُوشَافَاطَ. وَيَهُوشَافَاطُ وَلَدَ يُورَامَ. وَيُورَامُ وَلَدَ عُزِّيَّا. 9وَعُزِّيَّا وَلَدَ يُوثَامَ. وَيُوثَامُ وَلَدَ أَحَازَ. وَأَحَازُ وَلَدَ حَزَقِيَّا. 10وَحَزَقِيَّا وَلَدَ مَنَسَّى. وَمَنَسَّى وَلَدَ آمُونَ. وَآمُونُ وَلَدَ يُوشِيَّا. 11وَيُوشِيَّا وَلَدَ يَكُنْيَا وَإِخْوَتَهُ عِنْدَ سَبْيِ بَابِلَ. 12وَبَعْدَ سَبْيِ بَابِلَ يَكُنْيَا وَلَدَ شَأَلْتِئِيلَ. وَشَأَلْتِئِيلُ وَلَدَ زَرُبَّابِلَ. 13وَزَرُبَّابِلُ وَلَدَ أَبِيهُودَ. وَأَبِيهُودُ وَلَدَ أَلِيَاقِيمَ. وَأَلِيَاقِيمُ وَلَدَ عَازُورَ. 14وَعَازُورُ وَلَدَ صَادُوقَ. وَصَادُوقُ وَلَدَ أَخِيمَ. وَأَخِيمُ وَلَدَ أَلِيُودَ. 15وَأَلِيُودُ وَلَدَ أَلِيعَازَرَ. وَأَلِيعَازَرُ وَلَدَ مَتَّانَ. وَمَتَّانُ وَلَدَ يَعْقُوبَ. 16وَيَعْقُوبُ وَلَدَ يُوسُفَ رَجُلَ مَرْيَمَ الَّتِي وُلِدَ مِنْهَا يَسُوعُ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ".(/7)
(لوقا/ 3): "23وَلَمَّا ابْتَدَأَ يَسُوعُ كَانَ لَهُ نَحْوُ ثَلاَثِينَ سَنَةً وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ يُظَنُّ ابْنَ يُوسُفَ بْنِ هَالِي 24بْنِ مَتْثَاتَ بْنِ لاَوِي بْنِ مَلْكِي بْنِ يَنَّا بْنِ يُوسُفَ 25بْنِ مَتَّاثِيَا بْنِ عَامُوصَ بْنِ نَاحُومَ بْنِ حَسْلِي بْنِ نَجَّايِ 26بْنِ مَآثَ بْنِ مَتَّاثِيَا بْنِ شِمْعِي بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَهُوذَا 27بْنِ يُوحَنَّا بْنِ رِيسَا بْنِ زَرُبَّابِلَ بْنِ شَأَلْتِئِيلَ بْنِ نِيرِي 28بْنِ مَلْكِي بْنِ أَدِّي بْنِ قُصَمَ بْنِ أَلْمُودَامَ بْنِ عِيرِ 29بْنِ يُوسِي بْنِ أَلِيعَازَرَ بْنِ يُورِيمَ بْنِ مَتْثَاتَ بْنِ لاَوِي 30بْنِ شِمْعُونَ بْنِ يَهُوذَا بْنِ يُوسُفَ بْنِ يُونَانَ بْنِ أَلِيَاقِيمَ 31بْنِ مَلَيَا بْنِ مَيْنَانَ بْنِ مَتَّاثَا بْنِ نَاثَانَ بْنِ دَاوُدَ 32بْنِ يَسَّى بْنِ عُوبِيدَ بْنِ بُوعَزَ بْنِ سَلْمُونَ بْنِ نَحْشُونَ 33بْنِ عَمِّينَادَابَ بْنِ آرَامَ بْنِ حَصْرُونَ بْنِ فَارِصَ بْنِ يَهُوذَا 34بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ تَارَحَ بْنِ نَاحُورَ 35بْنِ سَرُوجَ بْنِ رَعُو بْنِ فَالَجَ بْنِ عَابِرَ بْنِ شَالَحَ 36بْنِ قِينَانَ بْنِ أَرْفَكْشَادَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لاَمَكَ 37بْنِ مَتُوشَالَحَ بْنِ أَخْنُوخَ بْنِ يَارِدَ بْنِ مَهْلَلْئِيلَ بْنِ قِينَانَ 38بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيتِ بْنِ آدَمَ ابْنِ اللهِ".
ونحب مع ذلك أن نؤكد بكل ثقة وتحدٍّ أن ما سقناه هنا من الأخطاء والانحرافات الموجودة في الكتاب المقدس لا يعدو أن يكون عينة تافهة لا تُذْكَر مما يعج به هذا الكتاب، فأنت في كل خطوة تخطوها فيه إنما تضع قدمك على لغم، وهو ما لم يَعُدْ أحد ينفيه من علمائهم الذين يفهمون ولا يستطيعون أن يمضوا في الدجل القديم حول عصمة ذلك الكتاب، بل لجأوا إلى اختراع نظرية تسوّغ وجود هذه الأخطاء في كتاب مثل هذا يزعمون رغم ذلك أنه موحى به من الله. ومؤدَّى هذه النظرية أنه لا بد من التفرقة بين الوحى من ناحية الشكل وبينه من ناحية المضمون: فمن الناحية الأولى نجدهم يقولون إنه ليس إلا إبداعًا أدبيًّا للكاتب، أما من الناحية الثانية فيؤكدون أنه صادر عن الله. ذلك أن الوحى بناء على هذه النظرية لا يلغى شخصية الكاتب، بل تتدخل ظروفه في الصياغة، ويمكن أن يقع تحريف في النص، ومن ثم فلا بد من عملية النقد والتمحيص (انظر مادة "Inspiration" من "The New Bible Dictionary"/ لندن/ 1972م/ تحرير J. D. Douglas/ ص565- 566)، وهو نفسه ما يقوله معجم "Hook’s Church Dictionary" (لندن/ 1887م)، الذى يرى أن الأنبياء وكتبة الكتاب المقدس قد أدَّوْا ما تلَقَّوْه من الوحى كما هو بدون أدنى خطإ من الناحية اللاهوتية، لكن هذا لا يصدق على الناحية اللغوية والعلمية (ص403، 964). وقد سمى المستشرق البريطانى مرجليوث المعروف بحقده الملتهب على الإسلام ونبيه هذه النظرية بـ"Colouring by the Medium"، ومعناها أن الوحى إنما ينزل على النبى أو الرسول أو الكاتب كفكرة، ثم يقوم الوسيط بصياغة هذه الفكرة بأسلوبه هو، ومن ثم فالأخطاء التى تقع في الكتاب المقدس مبعثها هذا الوسيط لا السماء. أى أن الوسيط هو بمثابة كوب الشراب الذى يضفي على السائل لون زجاجه (D. S. Margoliouth, Mohammedanism, London, 1921, P. 63)! وهو كلام أشبه بألاعيب الحواة والبهلوانات كما هو ظاهرٌ بَيِّن. على أننا لا نريد أن نمضى مع تلك النظرية أبعد من هذا فنؤكد أن الكتاب المقدس لا يساوى شيئا ذا بال ولا حتى من الناحية اللاهوتية كما برهنّا قبل قليل من خلال بعض الأمثلة الصارخة في هذا المجال، بل حسبنا اعتراف القوم بأن الكتاب المقدس لا يؤبه به من الناحية التاريخية والعلمية والحسابية والجغرافية وما إلى ذلك. وهذا كل ما نريده للرد على المتنطعين الذين يحاولون أن يتخذوا من هذا الكتاب معيارا للحكم على القرآن في مسألة تاريخية مثل الاسم الخاص بوالد السيدة مريم عليها السلام.(/8)
وهذا كله لو كان في إنجيل لوقا (أو غيره من تلك السِّيَر التى ألَّفها بَشَرٌ لم يراعوا أى ضابط منهجى أثناء تأليفهم لها) أن مريم هى بنت هالى كما قال المسكين الذى ظن أنه يستطيع برعونته وجهله الغليظ أن يخطّئ القرآن المجيد، وهو ما لا وجود له البتة، إذ المذكور في الموضع المحدد من ذلك الإنجيل (وهو النص الذى أوردناه قبل قليل للمقارنة بينه وبين النص المأخوذ من إنجيل متى في نسب السيدة مريم) إنما هو سلسلة نسب المسيح لا مريم، وفيها أنه (على ما يظن أبناء قومه) ابن يوسف بن عالى (هالى)...حتى تصل السلسلة إلى "آدم ابن الله" كما يقول كاتب السيرة العيسوية المسماة بـ"إنجيل لوقا". لاحظ أيها القارئ الكريم هذا السخف بل الكفر في قولهم عن آدم إنه "ابن الله"! بل لاحظ التناقض مع قولهم إن المسيح هو وحده ابن الله، مع أن أولاد الله في الكتاب المقدس أكثر من الهم على القلب كما يعرف هذا كل من له دراية بذلك الكتاب الظريف. بل لاحظ كيف لم يستطع الكاتب المسكين (أخزاه الله) إلا أن يثبت في حق المسيح، عليه وعلى أمه الطاهرة الشريفة العفيفة السلام، ما كان يقوله في حقها وحقه الأوغاد من يهود! المهم أنه لا ذكر لهالى في هذه السلسلة النَّسَبِيّة لمريم بتاتا. فعلام يدل هذا؟ على واحدة من ثلاث: أن الأبعد جاهل أو كذاب أو أحمق مجنون! وليختر لنفسه الصفة التى يحب، فلن نقف حائلين بينه وبين ما يختار. وبالمناسبة فقد أخطأ هذا الحمار في عبارة "مع أن بينها وبين عمران وهارون وموسى ألف وستمائة سنة" خطأ أبلق، إذ لم ينصب كلمة "أَلْف"، رغم أنها اسم "أنّ"، فكان يجب أن تكون منصوبة. أقول هذا لأن ذلك الغبى قد أفرد لما سماه "أخطاء نحوية في القرآن" عشرات الصفحات، مع أنه لا يستطيع أن يحسن كتابة أى شىء دون أغلاط نحوية وصرفية مضحكة تبرهن بأجلى برهان أن الأبعد جاهل يَهْرِف بما لا يعرف، وأن الذين كلفوه بأن يكتب ما كتب قد ظلموه، إذ أسندوا إلى حمار (حمارٍ بذَنَبٍ وأذنين طويلتين ومشفرين غليظين وحوافر صلبة ووجه مستطيل مستدقّ يمشى مُكِبًّا عليه) مهمةً لا يصح أن يقوم بها إلا عالم ضليع يضع نصب عينيه الوصول إلى الحق لا حمار ينهق كلما رأى البرسيم، وكَفي! وقد فَنَّدْتُها كلها في كتابى: "عصمة القرآن الكريم وجهالات المبشرين" وبينتُ أن كل ما قاله سخف لا معنى له وأنه إنما يردد كلاما وضعوه في فمه كما تفعل الببغاوات دون أن يفقه منه شيئا!(/9)
وفضلا عن ذلك فليس القرآن المجيد هو القائل إن مريم هى أخت هارون، سواء كان المقصود هارون أخا موسى أو هارونًا آخر، بل الذين قالوا هذا هم قومها أنفسهم، أما القرآن فمجرد حاكٍ لما قالوه. وقد سمع القرآنَ على عهد النبى كثيرٌ من اليهود والنصارى، فلماذا يا ترى لم يكذبوه؟ بل لماذا دخل دينَ محمد، عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات، وآمن بقرآنه الملايينُ المُمَلْيَنَةُ من أهل الكتاب دون أن يمنعهم ذلك أو يستوقفهم مجرد استيقاف، وفيهم الحاخامات والقساوسة والعلماء والفلاسفة والمفكرون والأدباء والفنانون والساسة والمؤرخون من كل جنس ولون، ومن كل العصور والبيئات؟ وحتى يستطيع القارئ أن يقدِّر مدى مصداقية ما يقوله القوم عن مريم أُمّ إلههم أذكر هنا أنهم لا يعرفون شيئا يُذْكَر عنها عليها السلام بعد أن توفي الله ابنها، بل لا يعرفون كم من الأعوام لبثت بعده على قيد الحياة، إذ يختلفون في هذه النقطة ما بين ثلاث سنوات وخمس عشرة، فتأمل! (انظر مادة "Mary" في "Wikinfo, an internet encyclopedia"). بل إنهم لا يعرفون بالضبط من يكون إخوة عيسى (أو كما يقولون: إخوة الإله) الذين جاء ذكرهم في العهد الجديد: أهم إخوته فعلا من أمه بما يفيد أنها قد تزوجت بعد ولادته من يوسف؟ أم هل هم مجرد أقارب له من جهة تلك الأم؟ أم هل هم أبناء يوسف من امرأة أخرى غير مريم؟ (انظر الجزء الخاص بمريم العذراء من مادة "Mary" في "International Standard Bible Encyclopedia "). ودعنا مما أورده كاتبو سِيَر المسيح المسماة بـ"الأناجيل" من الكلام القارص الذى قالوا إن المسيح عليه السلام قد وبخ به أمه، وكذلك الكلام الذى قاله في حقها هى وإخوته عندما كان يعظ بعض أتباعه وأرادت الأم والإخوة أن يخرج إليهم ليحدثوه في أمر ما، وهو كلام يفيد أنه لم يكن يَعُدّهم ضمن المؤمنين به. ولنقرأ النصين التاليين: "1وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَانَ عُرْسٌ فِي قَانَا الْجَلِيلِ وَكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاكَ. 2وَدُعِيَ أَيْضاً يَسُوعُ وَتلاَمِيذُهُ إِلَى الْعُرْسِ. 3وَلَمَّا فَرَغَتِ الْخَمْرُ قَالَتْ أُمُّ يَسُوعَ لَهُ: «لَيْسَ لَهُمْ خَمْرٌ». 4قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «مَا لِي وَلَكِ يَا امْرَأَةُ! لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ»" (يوحنا/2)، "46وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. 47فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَ ذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوك. 48فَأَجَابَ وَقَالَ لِلْقَائِلِ لَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟ 49ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي. 50لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي" (متى/ 12). فإذا كان الأمر كذلك يا إلهى، فلم إذن البجاحة مع القرآن الكريم؟ إن الذى بيته من زجاج، بل من قشر بيض، لا ينبغى أن يقذف الجبال الرواسى الشمّاء بحجارة صغيرة تافهة مثله، متصورا أنه سوف يهدم الجبال بهذا العبث الصبيانى!(/10)
والآن إلى ما جاء في موقع "الكلمة" الذى يديره زكريا بطرس، وهو موقع يشعر من يدخله بأنه في مولد، وصاحبه غائب، فهو مملوء بلافتات بكل لون وحجم وكأننا في سيرك الفيل أبو زلومة، وتطالعك من كل زاويةٍ أسماء كتب لا حصر لها ولا عدد تهاجم القرآن والرسول والتوحيد وكل ما أتى به الإسلام من عقائد شريفة وأخلاق نبيلة وتدافع عن التثليث البدائى الدموى والوثنيات المتهالكة التى يريد بطرس أفندى أن يعيد المصريين إليها بعد أن أنعم الله عليهم بالتوحيد المحمدى الكريم. وعلى رأس هذه الكتب ما يحمل أسماء سعيد العشماوى وسيد القمنى وخليل عبد الكريم، وكأن لكلام هؤلاء وأمثالهم قيمة علمية عند أهل التحقيق والتدقيق! ولقد كنتُ كتبتُ كتابا أناقش فيه ما جاء في عدد من الكتب المنقوش عليها اسم خليل عبد الكريم وفضحتُ تهافت ما في تلك الكتب من أفكار وأبرزتُ سخف ما يظنه المتنطعون الجهلة منطقا علميا لا يخرّ منه الماء، وظل الرجل يطاردنى برُسُله يريد الحصول على نسخة من كتابى لأنه (كما يقول) لم يقرأه، فكنت أضحك من هذا الكلام لأن الرسول كان يخبرنى بأننى قد قلت في حق الرجل كذا وكذا وكذا وأنه متألم لهذا الكلام، مما يدل على أنه قد حصل على الكتاب وقرأه جيدا على عكس ما يدَّعى. ثم فوجئت منذ سنتين تقريبا بأحد طلابى يرسل لى بصورة مقال لخليل عبد الكريم في مجلة "أدب ونقد" يعرض فيه لكتابى المذكور ويدلّس تدليسا مكشوفا أكد لى أن رأيى فيه وفيما يحمل اسمَه من كُتُب هو رأىٌ في محله تماما. ومع ذلك لم يستطع أن يتعرض لأى نقد وجهته إلى تلك الكتب، بل أخذ يلف ويدور قائلا إنه يسامحنى فيما قلته في حقه تأسِّيًا بحبيبه المصطفي صلى الله عليه وسلم. طبعًا "حبيبه المصطفي" الذى تطاول عليه واتهمه أشنع الاتهامات، وشكك في صدقه ودوافعه وأخلاقه، ونفي عنه النبوة وجعله مجرد سارق لأفكار الحنفاء وعادات الجاهليين وتقاليدهم، وزَنَّ أصحابه وزوجاتهم بالشَّبَق الجنسى وعدم القدرة على التماسك أمام فاحشة الزنا، واتهمه صلى الله عليه وسلم بأنه كان يَعْلَم ذلك منهم لكنه كان يغض الطّرْف حتى لا ينفضّوا عنه فلا يستطيع أن يقيم دولته الهاشمية التى كانوا يمثلون ذراعها العسكرى الضارب. يا سلام على الحب! ثم صدر كتاب آخر يحمل اسمه قيل فيه عن الرسول عليه الصلاة والسلام إن ورقة بن نوفل وخديجة بنت خويلد هما اللذان صنّعاه تصنيعا وجعلاه نبيا، وإن خديجة قد "صَنْفَرَتْه وقَلْوَظَتْه": هكذا بلغة الحشّاشين والمساطيل والعربجية والبُرْمَجِيّة! بل بلغة المآبين ممن يصنفرهم المستشرقون والمبشرون ويقلوظونهم من تحت بعد أن يُخْصُوهم ويقضوا على رجولتهم. كما وُصِف عليه السلام في الكتاب بـ"آكل الشعير" (ومفهومٌ ماذا يريد الأوغاد الأوساخ أن يقولوا)، وقيل عن أمهات المؤمنين: "نسوان صاحب النعلين"، وزُعِم أنه عليه السلام قد تزوج خديجة رضى الله عنها على مذهب النصارى، وأن هذا هو السبب في أنه لم يتزوج عليها امرأة أخرى، وأن الذى قام بمراسم الزواج هو القسيس ورقة، وإن لم يذكر لنا في أية كاتدرائية بالضبط تمّ ذلك: كاتدرائية كانتربرى أم كاتدرائية سان جرمان أم الكاتدرائية المرقسية؟ أرأيتم مثل هذا التخريف الذى يطنطن به مع ذلك واضع تلك الكتب مؤكدًا أنه كلام علمى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ طيب: " لا يأتيه من بين يديه" ماشٍ، أما أنه لا يأتيه من خلفه ومن خلف صاحبه أيضا فكلام غير علمى. وقد رددت بدورى على قلة الأدب هذه في كتاب منذ أربع سنوات، وأعلنت عن اطمئنانى الذى يقرب من اليقين إلى أن عبد الكريم ليس هو مؤلف الكتب التى تحمل اسمه، وبخاصة ذلك الكتاب الأخير، وأغلب الظن أنه قد قرأ هذا الرد قبل أن يهلكه الله!(/11)
نعود إلى سيرك زكريا أفندى والغاغة التى يحدثها بهلوانات زكريا أفندى وحُوَاة زكريا أفندى وبلياتشوهات زكريا أفندى وراقصات زكريا أفندى وطبّالو زكريا أفندى وزمّارو زكريا أفندى وبلطجية زكريا أفندى ولاعبو الثلاث ورقات الذين يُسَرّحهم في الموالد وعلى النواصى زكريا أفندى وسارقو الكحل من العين الذين يشتغلون بنسبة "فِيفْتِى فِيفْتِى" عند زكريا أفندى، وكذلك فيل زكريا (ولأنى مللت من التكرار فسأقول هذه المرة: "زكريا" حاف من غير "أفندى") أبو/ أبى زلّومة الذى يعجب الأطفال، فنقول: لقد كذب المسكين زاعما أن "القرآن خلط أبا موسى بأبي مريم، فقال إنّ عمران أبا موسى وهارون هو أبو مريم التي حملت الكلمة الإلهية". ثم أضاف قائلا: "ومما يؤيِّد خطأه هذا قوله في سورة مريم: يا أخت هارون (28)، مع أن بين موسى والمسيح نحو 1500 سنة". وهأنذا أورد أوّلاً النصين القرآنيين اللذين اعتمد عليهما في التدليل على ما تخرّص وزعم: "إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ: رَبِّ، إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا، فَتَقَبَّلْ مِنِّي. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ: رَبِّ، إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ، وَلَيْسَ الذَّكَرُ كالأنثى. وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ، وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (آل عمران/ 35- 36)، "(فأتت به قومها تحمله. قالوا: يا مريم، لقد جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا)* يا أختَ هارون، (ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ، وما كانت أمك بغيًّا)..." (مريم/27- 28). ثم نثنّى بسؤال المعلم زكريا صاحب السيرك التبشيرى براقصاته وحواته وبهلواناته وبلياتشوهاته ولصوصه الذين يسرقون الكحل من العين، ويسلبون ما في جيوب الفلاحين المساكين من خلال لعبة "الثلاث ورقات"، ولا ننس الفيل أبا زلومة حتى لا يغضب الأطفال، والأطفال كما نعرف هم أحباب الله، فلا يصح أن ندخل الحزن على قلوبهم: أين، يا معلمنا الذى لا يكذب أبدا ولا يخرج من فمه إلا كل صدق، أين قول القرآن هنا أو في أى مكان آخر منه "إنّ عمران أبا موسى وهارون هو أبو مريم التي حملت الكلمة الإلهية"؟ يا معلم، إن هذا الذى تعمله عيب! ألأن القرآن الكريم وضع يده على الجرح وبَيّن أصل التثليث في قوله: "يضاهئون قول الذين كفروا من قبل"، وفضحك أنت وأمثالك فضيحة الأبد فقال: "إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبَشِّرْهم بعذاب أليم"، يركبك الجن والعفاريت وتلجأ إلى الكذب المفضوح على هذا النحو المقزِّز؟ لقد قال القرآن إن مريم ابنة عمران، هذا صحيح لا جدال فيه، لكنه لم يقل قطّ إن عمران هذا هو عمران أبو موسى وهارون. كما أنه لم يقل قط إنها أخت هارون، بل الذى قال ذلك هم قومها، وإلا أفنقول أيضا إنه هو الذى اتهم مريم بالزنا وقال لها: "ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيا"؟ ذلك أن الذى قال إنها أخت هارون هو نفسه الذى تهكم بها وشنّع عليها ورماها بالفاحشة؟ أجب أيها الفيل أبا زلومة! أما إن فسّر أحدٌ "عمران" هنا بأنه عمران أبو موسى، فإنه يكون أباها عندئذ بالمعنى المجازى، ثم إنه يبقى مع هذا تفسيرا مجرد تفسير وليس كلاما قرآنيا، إذ لم يقله القرآن، بل هو مجرد اجتهاد من صاحبه قد يصيب فيه، وقد يخطئ.(/12)
أما قولك إن "علماء المسلمين لما رأَوْا هذا قالوا إن عمران المذكور في هذه العبارة هو غير والد موسى، ولكنهم أخطأوا، لأن الكتاب المقدس لا يذكر شيئاً عن ميلاد العذراء مريم، ولم يكن هناك مصدر يستقي منه محمد أخباره، ولكن كانت هناك بعض خرافات الغنوسيين الذين ملأوا الجزيرة العربية، وأيضاً المريميين الذين كانوا يُؤلِّهون العذراء مريم ويضعون حول ميلادها وحياتها كثيرًا من المعجزات كما ورد في كتابي مولد العذراء وطفولية المخلّص و إنجيل الطفولية (راجع الطبري والقرطبي والرازي في تفسير "آل عمران"/ 35- 36)"، أما قولك هذا فلا معنى له بعد أن بيَّنّا للقراء القيمة العلمية لتلك السِّيَر العِيسَوِيّة التى كتبها بعض الأشخاص بعد انتقال عيسى عليه السلام إلى ربه بعشرات السنين دون تمحيص، بل حسبما كان يخطر لهم وتسعفهم به ذاكرتهم وتمليه عليهم أهواؤهم. وقد رأيناهم يضطربون في سلسة نسب المسيح اضطرابا شنيعا مضحكا، فكيف تريدنا أن نجعل معتمدنا على مثل تلك الكتابات فنجيز ما تقول ونضرب صفحا عما لم تقل؟ إننا إذا كنا نسمى مثل تلك الكتابات وأمثالها بـ"الكتاب المقدس" فذلك على سبيل الحكاية لا غير، وإلا فهى غير مقدسة عندنا بالمرة، لا لأننا مسلمون فقط بل لما ثبت قبل ذلك وبعد ذلك من أنها ليست أهلا لثقة العقل أو المنطق أو العلم أو التاريخ. ثم أليست مهزلةً أن يسكت الكتاب المقدس (الكتاب "المقدس" عندكم لا عندنا حتى تستريح ويهدأ بالك، لا أهدأ الله لك بالا)، أليست مهزلةً أن يسكت مؤلفو (أو بالأحرى ملفقو) الكتاب المقدس ("المقدس" على سبيل الحكاية) عن ميلاد السيدة مريم وعن أبيها وأمها ونسبها مع أنها أم الإله عندكم؟ وما دام قد سكت، فكيف عَرَفْتَ أن ما قاله القرآن عن هذا الميلاد وعن نسبها واسم أبيها غير صحيح؟ أم تراك تقول إنها هى أيضا قد وُلِدَتْ من غير أب وأم ما دام كتابكم المقدس ("المقدس" على سبيل الحكاية حتى تفهم) لم يتحدث عن أبيها ولا عن أمها؟ ألا ترى أن هذه لكاعة منك ونطاعة؟ أم أن المقصود هو تخطئة القرآن، والسلام؟
وما دمنا نتحدث عن مريم وإهمال الأناجيل والكتابات النصرانية المبكرة لمعظم أخبارها أرى من المستحسن أن أسوق هنا ما قاله المرحوم جلال كشك في كتابه: "خَواطِر مُسْلِم في المَسْألة الجِنْسِيّة"، الذى يعرضه زكريا بطرس على عربة اليد المسمّاة بـ"موقع الكلمة" والتى يدور بها في شوارع التبشير ينادى بصوته النشاز على ما لديه من بضاعة تافهة رخيصة مغشوشة كمعظم الباعة السّرّيحة، فوفَّر لى بذلك فرصةَ قراءة الكتاب دون أن أدفع فيه شيئا ودون أن أتعب في البحث عنه، فلا جزاه الله خيرا لأن نيته شيطانية رغم أنها قد انقلبت عليه. أقول إنه من المستحسن أن نورد هنا ما قاله الأستاذ كشك من "أنَّ أيّة مقارنة بين الإنجيل وأعمال الرسل وتراث الكنيسة في القرون الأولى وبين القرآن حول مريم تؤكّد أنَّه لا وجود "لمريم" في الفكر المسيحي الأوّل، أو أنَّها (كما تقول المؤرّخة راي تناهيل) ظلّت إلى القرن الثالث عشر: "مُجرّد قدّيسة عادية"، أمّا في الإسلام فقد أُعْلِنَتْ منذ القرن السابع: "سيدة نساء العالمين"، فهي التي اصطفاها الله على نساء العالمين، هي "البتول" التي أحصنت فرجها. ليس لها في الأناجيل الأربعة سِفْر، ولها في القرآن سورة كاملة. وجاء اسمها في القرآن 34 مرة، وفي 14 سورة. وذُكِرَ "عيسى" في القرآن 25 مرة منها 15 منسوبًا إلى أمّه: "عيسى بن مريم"، وورد لقب المسيح في القرآن 11 مرة منها ثماني مرات: "المسيح ابن مريم". ولم يَرِدْ ذلك ولا مرة في الأناجيل. ولكي لا يُقال إنَّ ذلك طبيعي لحرص الأناجيل على تأكيد أنّه ابن الله، نقول إنَّه حتى عندما أراد كتّاب الأناجيل إثبات نسب المسيح الآدمي لتأكيد أنَّه "ابن داود" نسبوه ليوسف النجار وليس لمريم!" (مُحَمّد جَلال كِشْك/ خَواطِر مُسْلِم في المَسْألة الجِنْسِيّة/ الطبعة الثالثة/ مكتبة التراث الإسلامي/ القاهرة/ رجب 1412هـ- يناير 1992م/ 50).(/13)
أما إشارة أبى زلومة في آخر كلامه إلى مولد العذراء وطفولية المخلّص وإنجيل الطفولية فستكون نقطة انطلاقنا نحو مناقشة ما ورد في الموقع الإنجليزى، إذ ذكرت بعض الأناجيل غير المشهورة أن والد مريم هو يواقيم. ولكنّ للحكاية أصلاً لا بد أن أحكيه للقراء، إذ كنت قد رجعت منذ عدة سنوات إلى معجم أوكسفورد لأسماء الأشخاص بحثا عن شىء يضىء لى الطريق فيما يتعلق باسم "يواقيم"، الذى يقول النصارى إنه أبو مريم، فوجدته يذكر أن عندهم رواية بأن مريم هى ابنة يواقيم، لكنه أضاف أن هذه الرواية لا تحظى بثقتهم (Elizabeth Gidley Withy Combe, The Oxford Dictionary of English Christian Names, 1948, P. 78 ). ثم قرأت في مراجع أخرى أن الرواية المقصودة هنا هى ما تقوله بعض الأناجيل التى لا تعتمدها الكنيسة. وقد اطلعت على الرواية فعلا في "إنجيل يعقوب: The Gospel of James" و"إنجيل ميلاد مريم: The Gospel of the Nativity of Mary"، وكذلك "إنجيل متى المزيف (هكذا يسمّونه رغم أنه لا يفترق عن إنجيل متى الذى يعترفون به في أن كليهما تأليف بشرى لا يخضع للضبط العلمى): The Gospel of Psewdo-Matthew". وهى كلها أناجيل لا تعترف بها الكنيسة، ومن ثم لا يحق لها أن تحاجّ المسلمين بها، إذ لا يعقل أن آتى بشاهد فأحتج بشهادته إثباتًا لحقٍّ أدَّعيه، على حين أنى أعلن في كل مناسبة أنه شاهِدُ زورٍ، وأنى أنا نفسى لا أثق في شهادته طرفة عين. ألا إن هذا لَقِمّةُ التناقض! إنهم بهذه الطريقة "يُحِلّونه عامًا، ويُحَرِّمونه عامًا" كما قال القرآن الكريم عن المشركين بسبب خضوعهم القبيح للأهواء وتلاعبهم الأرعن بالأنظمة التشريعية! أليس هذا بالضبط هو ما يفعله هؤلاء المبشِّرون البُعَداء؟ ثم إنهم من بجاحتهم وبجاستهم يخطِّئون القرآن الكريم رغم ذلك كله لأنه يسمِّى أبا مريم اسمًا آخر لم تذكره هذه الأناجيل!
ونصل للموقع الإنجليزى، فماذا يقول؟ إنه يردد ما يقوله موقع "الكلمة" كحَذْوِكَ النَّعْل بالنَّعْل (فالحكاية كلها نِعَالٌ في نِعَالٍ لا أدمغةٌ وعقول!)، وهذا نَصّ كلامه: "إن القرآن يخلط بين مريم أم المسيح ومريم بنت عمران، أخت موسى وهارون التى كانت قبل نحو 1400 عام". ثم بعد أن يورد الآيات التى يزعم أنها تخلط هذا الخلط، وهى آيتا "آل عمران" اللتان مَرَّتَا علينا من قبل، وقوله تعالى في الآية 12 من سورة "التحريم": "ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها...". وقد سبق أن بيّنّا للذين يفهمون، ولهم عقول في رؤوسهم لا نعال وقباقيب، أنه لا يوجد شىء من ذلك في هذه الآيات أو غيرها، وأن الذى يقول بغير ذلك هو كذّاب أفّاك أشر. والآن نخطو خطوة أخرى فنقول إنه من غير الممكن أن يخلط القرآن بين المَرْيَمَيْن حتى لو قلنا مع الخرّاصين الأفّاكين إن الرسول هو مؤلف هذا القرآن. لماذا؟ لأن القرآن يفرّق بين موسى وعيسى تفرقة واضحة في العصر والظرف والرسالة بحيث لا يمكن الزعم بأنه كان يخلط بينهما كما يتضح من النصوص التالية:(/14)
"يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُم الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُم الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا {153 وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا {154 فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِم فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً {155 وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَم بُهْتَانًا عَظِيمًا {156 وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَم رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِين اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا {157 بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا{158 " (سورة "النساء"). فالإشارة إلى قتل اليهو د للأنبياء بعد نقضهم الميثاق الذى أخذه الله عليهم في حياة موسى يدل دلالة لا تقبل الشك على أنه قد مر زمن طويل بين موسى وعيسى بما لا يمكن أن يكون هذا ابن أخت ذاك. وهو ما نجده أكثر تفصيلا في الآية 70 من سورة "المائدة": "لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ"، فهناك (حسبما تقول الآية) رسل قد تتابعوا بعد موسى وقابلهم بنو إسرائيل تارة بالتكذيب، وتارة بالتقتيل، مما يحتاج وقوعه إلى أزمان طويلة.وممن جاء بعد موسى من الأنبياء على وجه التحديد سليمان، الذى ذكر القرآنُ أن الشياطين قد افتروا عليه الأكاذيب حسبما جاء في الآية 102 من سورة "البقرة"، وهناك أيضا أبوه داود، الذى لُعِن الكفار من بنى إسرائيل على يديه، أو بالحَرَى: على لسانه، قبل أن يلعنهم عيسى بدوره. وهناك عُزَيْر، الذى زعمت اليهود أنه ابن الله كما تقول الآية 30 من سورة "التوبة". ولا ننس أن القرآن قد دان اليهودَ بأنهم حرَّفو الكَلِم عن مواضعه ونَسُوا حظًّا آخر مما أتاهم به موسى عليه السلام مما أشارت إليه الآية 13 من سورة "المائدة". وهذا كله يستدعى مرور الزمان الطويل، إذ لا يُعْقَل أن يتم ذلك في نفس الجيل الذى جاءهم فيه موسى بالتوراة. وبالمثل لا يمكن أن ينزِّل الله كتابا آخر على عيسى عليه السلام، ولم يكن قد جفّ الحبر الذى كُتِبَتْ به التوراة بعد.(/15)
كذلك فسُورَة "آل عمران" تتحدث عن زكريا أبى يحيى بوصفه كافل مريم، وأين زكريا ويحيى من موسى وهارون؟ كذلك أين في مصر المحراب الذى كان تعبد اللهَ فيه مريمُ عليها السلام على راحتها دون أن يزعجها أحد، على حين أن بنى إسرائيل آنذاك كانوا مضطَهَدين ومستعْبَدين ولا يستطيعون أن يمارسوا دينهم؟ وهذا إن كانت لهم محاريبُ أصلاً في ذلك الوقت! فالمعروف أنه حتى بعد أن جاء موسى إلى قومه برسالة السماء وأنجاهم الله على يديه من بطش فرعون وخرجوا إلى سيناء ظلوا لا يعرفون المعابد ولا المحاريب، إذ ضاعوا في الصحراء أربعين سنة لا يعرفون الاستقرار في القرى والمدن حيث تقام المعابد وتوجد المحاريب. ثم هل يُعْقَل أن يخلط القرآن بين المَرْيَمَيْن ثم لا يربط بين الخالين (موسى وهارون) و ابن الأخت (عيسى) ربطًا أُسْريًّا ولو مرة واحدة يتيمة أثناء حديثه عنهم، وما أكثر ما تحدث عنهم، مثلما ربط بين أمه عليها السلام وبين زكريا ويحيى؟ بل كيف تكون مريم وحيدة أبويها على حسب ما هو واضح من القصة القرآنية، على حين أنهما رُزِقا من الأولاد اثنين آخرين هما موسى وهارون، وأصبحا بعد ذلك نبيين؟ بل كيف يسكت القرآن عن ذلك فلا يشير إليه ولا يربط بين مريم وأخويها هذين بأى حال؟ ذلك أن أخت موسى وهارون، التى يزعم الأفاكون أن القرآن يخلط بينها وبين مريم أم عيسى، لم يأت ذكرها في القرآن إلا في سياق مراقبتها من بعيد لموسى بعد أن وضعته أمه في التابوت ثم قذفته في النهر، ولم يورد القرآن اسمها في الحالتين (طه/40، والقصص/11- 12). أمن الممكن أن يسمّيها القرآن حين لا يربط بينها وبين موسى، ويضرب صفحا عن اسمها حين يربط بينهما ذاكرًا بصريح القول أنها أخته؟ ثم أكان القرآن يسكت فلا يشير إلى موقف الأخوين من معاناتها بسبب الحمل والولادة غير الطبيعية وتعرضها للاتهام في شرفها وسخرية قومها منها في قولهم: "يا أخت هارون، ما كان أبوك امرأ سَوْءٍ، وما كانت أمك بغيًّا"؟ أهذه مسألة تحتمل أن يغيب عنها موسى وهارون؟ من الواضح أن "مريمنا" هذه لم يكن لها أخ ولا أخت ولا أب ولا أم لأنها كانت وحيدة أبويها اللذين كانا قد ماتا، فلم يبق لها أحد! كذلك كيف يسكت القرآن فلا يشير إلى موقفها من الأحداث الرهيبة التى وقعت لأخويها في مصر وعند انفلاق البحر وفي التِّيه؟ بل أين كان عيسى عند ذاك فلم يبرز لنصرة خالَيْه في مواجهة فرعون أو ضد شغب بنى إسرائيل عليهما في الصحراء؟ إذن فافتراض خلط القرآن بين المَرْيَمَيْن مستحيل. لكن الدور والباقى على الكِتَاب المقدَّس ("المقدَّس" على سبيل الحكاية ليس إلا كما قلنا وكَرَّرْنا) الذى يجعل الابن أكبر من أبيه بعامين، والذى يورد لعيسى سلسلتى نسب متعارضتين تعارضا بشعا بحيث يستحيل التوفيق بينهما ولو بالطبل البلدى ومزّيكة حَسَب الله (حتى لو كان "حَسَب الله السابع عشر"، الذى دَلَقَتْ زينات صدقى على رأسه حَلّة الملوخية بدلا من أن تطعمه إياها. منها لله!)، والذى ينسب إلى الأنبياء وأولادهم الزنا بالمحارم، والذى يَدَّعِى على نوح شرب الخمر حتى يسكر ويفقد عقله على النحو الفاحش الذى رأيناه، والذى يجعل من داود زانيًا وقاتلا (وزانيًا بمن؟ بأم سليمان عليه السلام!)، ويجعل من هارون صانعا للعجل كى يعبده بنو إسرائيل، ثم يقول عنه فوق ذلك إنه كان نبيًّا لموسى وإن موسى كان إلها له، والذى يتهم خليل الله بالدياثة على زوجته لقاء قطيع من المواشى (يا لها من صفقة كريمة تليق بأبى الأنبياء!)، والذى يقول إن مدينةَ "القيروان" كانت موجودة في عصر المسيح، ناسبًا إليها "سمعان القيروانى"، على حين أنها لم تُبْنَ إلا في الإسلام بعد ذلك بقرون (بالضبط في سنة 762م) على يد عقبة بن نافع رضى الله عنه! ترى أيكفي هذا أم أستمر؟ إننى على استعداد للمضىّ في سرد هذه المخازى للصبح، لا صبح هذه الليلة، بل صبح الليلة الحادية بعد الألف عندما يؤذِّن الديك: كو كو كوو كو، ولا تسكت شهرزاد مع ذلك عن الكلام المباح، ففي الجَعْبَة الكثير والكثير والكثير والكثير والكثير والكثير والكثير والكثير والكثيييييييييييييييييييييييييير والكثيييييييييييييييييييييييييير والكثيييييييييييييييييييييييييير! والكتاب المسمَّى بـ"المقدَّس" هو، كما سبق القول، كتابٌ ظريفٌ مُسَلٍّ لا تَنْفََد عجائبه من الخرافات والأساطير! ثم يأتى مُهَرِّجو السيرك فيجدون في نفوسهم النجسة الجرأة على مهاجمة القرآن. والله عال!(/16)
أما كلام صاحب الرد الإنجليزى (على قول عبد الله يوسف على في ترجمته للقرآن إن "أخت هارون" هنا إنما تعنى أنها من سلالة هارون الذين كانوا يتولَّوْن الكهانة في بنى إسرائيل) بأن القرآن لو كان يريد بـ"يا أخت هارون" الإشارة إلى أن مريم تنتمى إلى أسرة يهودية كهنوتية لا أنها هى أخته فعلا لكان ينبغى أن يقول: "يا بنت هارون" بدلا من "يا أخت هارون"، فالرد عليه سهل جدا كما قلنا قبلا، فالقرآن ليس هو الذى سماها كذلك، بل هو مجرد حاكٍ لما قاله اليهود لمريم حين أتتهم بصبىٍّ أنجبتْه دون زواج. فإذا كان هناك اعتراض فليوجَّه إلى قومها الذين قالوا لها هذا، إذ القرآن مجرد حاكٍ لكلامهم. ولو كان القرآن قد أسند إلى قومها ما لم يقولوه لما سكت اليهود ولا النصارى العرب على الرسول، ولكانت هذه فرصة للدخول معه في جدال يحرجه ويفضحه هو والقرآن جميعا، فلماذا لم يفعلوا يا ترى، وهم الحريصون على هزيمته بكل سبيل، ولم يكونوا يتورعون ولا طرفة عين عن التوسل بالألاعيب والأباطيل في حربهم ضده؟
وبالنسبة لتسميتها "مريم ابنة عمران" يردّ صاحب التخطئة أيضا على عبد الله يوسف على قائلا: لو كان القرآن يريد بذلك أنها تنتمى من بعيد إلى عمران أبى موسى فلتأتِ لى بمثال آخر من القرآن ينسب الشخص إلى جده البعيد لتعضيد تفسيرك هذا حتى أقتنع. ولأن عبد الله يوسف على قد مات فلْيسمح لى السيّد المخطِّئ بأن أسوق إليه هذه الشواهد القرآنية، مع معرفتى من الآن أنه لن يقتنع ولو على جثته، اللهم إلا إذا أراد الله به خيرا: فقد جاء في كلام أبناء يعقوب في ردّهم على أبيهم وهو على فراش الموت: "نعبد إلهَك وإلهَ آبائك: إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ" (البقرة/ 133)، فجعلوا كُلاًّ من إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أبا ليعقوب، رغم أنه لم يكن له بطبيعة الحال إلا أب واحد هو إسحاق، أما إبراهيم فهو جدّه، وأما إسماعيل فهو عمّه. أم لكم رأى آخر؟ ذلك أن الإنسان لا يمكن أن يكون له إلا أب واحد وأم واحدة على رأى أهل الفكاهة من المصريين الذين يقول لك الواحد منهم للتدليل على أنه مسكين إنه ليس له إلا أب واحد وأم واحدة، وكأن الآخرين عندهم أكثر من أب وأكثر من أم! وبالمثل نسمع يعقوب يقول ليوسف عليهما السلام: "وكذلك يجتبيك ربُّك ويعلمّك من تأويل الأحاديث، ويُتِمّ نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبلُ: إبراهيمَ وإسحاقَ " (يوسف/ 6)، ولست في حاجة إلى القول بأن إبراهيم وإسحاق لم يكونا أبوين ليوسف، بل الجد البعيد والجد المباشر على الترتيب. وفي الآية 38 من سورة "يوسف" أيضا يعلن هذا النبى الكريم وهو في السجن عن عقيدته قائلا: "واتبعتُ ملّة آبائى: إبراهيم وإسحاق ويعقوب". بل إن الأمر في هذه الآيات أعقد، إذ يستحيل (كما قلنا) أن يكون هناك أكثر من أب لشحص واحد، لكنها اللغة! كذلك فالقرآن الكريم يقول عن آدم وحواء إنهما أبوان للبشر أجمعين، والبشر من الناحية الأخرى هم "بنو آدم"، مع أن آدم وحواء لم يكونا أبوين إلا لقابيل وهابيل ومن يمكن أن يكونا قد أنجباه من الأبناء سواهما. ونحن الآن مثلا بيننا وبين هذين الأبوين لا يدرى إلا الله كم من الدهور والأحقاب، ورغم هذا فنحن "أبناء آدم وحواء"، وهما "أبوانا"! وفي الآية 78 من سورة "الحج" يخاطب الله سبحانه المسلمين واصفًا إبراهيم عليه السلام بـ"أبيكم إبراهيم"، وأين إبراهيم في الزمن من المسلمين في عصر النبى ومِنْ بعده إلى يوم القيامة؟ وفي الآية 61 من سورة "آل عمران" يُؤْمَر الرسول عليه السلام بأن يقول لوفد النصارى الذين وفدوا عليه في المدينة: "تَعَالَوْا نَدْعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نَبْتَهِلْ فنَجْعَلْ لعنة الله على الظالمين"، ولم يكن للرسول حينذاك إلا فاطمة رضى الله عنها، لكن المقصود فاطمة وابناها الحسن والحسين، وهما لم يكونا ابنين للرسول بل حفيدين. ومرة أخرى أنا لا أتوقع أن يقتنع السيّد المخطّئ رغم هذه الشواهد المفحمة، اللهم إلا إذا أراد الله به خيرا!(/17)
وأما قوله إنه إذا كان القرآن يريد أن مريم تنتسب إلى هارون انتسابا روحيًّا لا جسديًّا لقال: "يا ابنة هارون" لأنه لا يعقل أن يُنْسَب شخص إلى شخص لا معاصرة بينهما بنسب الأخوة، فرغم أنى قد أجبت بأن الذى قال هذا ليس القرآن، بل قوم مريم، وأن القرآن هو مجرد حاكٍ لما قالوه، فإنى أسوق إليه الآية 38 من سورة "الأعراف" التى تتحدث عن تتابع الأمم الكافرة على النار واحدة بعد واحدة: "كلما دخلت أمةٌ لعنت أختها"، فقد جعلت الآية النسب بين هذه الأمم التى لم تكن متعاصرة هو نسب الأخوة لا البنوة. فما رأيه في هذا؟ وما رأيه في قول الرسول عليه السلام يصف العلاقة التى تربط بين الأنبياء جيمعا: "الأنبياءُ أولادُ عَلاَّتٍ"، أى إخوةٌ أبوهم واحد، وأمهاتهم شتى؟ ومعروف أن الأنبياء تفصل بينهم أمداءٌ متناوحةٌ على صفحات التاريخ. وهناك أيضا هذا الحديث الذى يخاطب فيه موسى وهارونُ محمدًا عليه السلام حين التقَوْا ثلاثتهم في السماء ليلة المعراج بقولهما: "مرحبًا بالأخ الصالح والنبى الصالح "، فسمياه "أخا" رغم المدى الزمنى الطويل الذى يفصل بينهما وبينه.
وهناك نقطة أثارها كاتب التخطئة الذى نناقش كلامه هنا، وهى أن التفسيرات المتضاربة التى يقدّمها علماء المسلمين حول تسمية القرآن لمريم: "ابنة عمران" هى دليل على أن ثمة مشكلة لا يتوفر لها حل مقنع. وأنا معه في أن المفسرين المسلمين قد يقدمون تفسيرات متناقضة أو مختلفة لهذه المسألة، بيد أن هذا لا يعنى أن القرآن مخطئ. لقد رأينا أن النصارى ليس لديهم رواية موثوقة بأن اسم أبى مريم هو يواقيم، بل كل ما هنالك أن هذا الاسم قد ورد في بعض الأناجيل التى يؤكدون أنها أناجيل مزيفة. إذن فهم من الناحية التاريخية لا يستطيعون أن يثبتوا أن القرآن قد أخطأ في القول بأن أباها هو عمران. بل حتى لو افترضنا أن رواية الأناجيل المذكورة هى رواية صحيحة فإن هذا لا يعنى بالضرورة أن رواية القرآن خطأ، إذ من الممكن جدا جدا أن يكون للرجل أكثر من اسم: وأستطيع أن أذكر الآن عددا من أقاربى وأبناء جيراننا في القرية ممن يحمل الواحد منهم أكثر من اسم، كالشوادفي العداوى الذى كان يسمى أيضا: "إبراهيم الصاوى"، وقطب الصهرجتى الذى يسمى أيضا: "حنكوش"، والسيد أبو صيرة الذى كنا نناديه قى صغرنا: "خيشة"، والسيد أبو صيرة الآخر (ابن عمه) الذى يسمى كذلك: "قطب"، ومحمد العزلة ابن خالى الذى لا أناديه أنا وكثير ممن يعرفونه عن قرب إلا بـ"رمضان"، وإحدى قريباتى التى لا يناديها أهلها إلا بـ"عبلة"، على حين لا يناديها زوجها وأولادها وزملاؤها وزميلاتها في الكلية وجيرانها في بيت زوجها إلا بـ"فاطمة"...وهلم جرا. وفي الكتاب المقدس أشخاص يجمعون بين اسمين وأكثر، مثل أبرام وإفرائيم وإبراهيم، وحَمِى موسى الذى يسمى في ذات الوقت: "يثرون" و"رعوئيل (بن يثرون)" (خروج/ 3/ 1، و4/ 18)، فضلا عن اسم ثالث سماه به التلمود هو "حوباب" حسبما ذكر أبو الأعلى المودودى في تفسيره للقرآن الكريم (S. A. A. Maududi, The Meaning of the Qur’an, Lahore, 1978, Vol. IX, P. 87). وطبعا لا بد ان يكون القارئ قد لاحظ التخبط في النظر إلى حَمِى موسى على أنه هو هو، وأنه هو ابنه في نفس الوقت، إذ هو مرة: "يثرون"، ومرة: "ابن يثرون"! وهناك يعقوب وإسرائيل، وهناك يسوع والمسيح وعمانوئيل...إلخ. وعندنا أبو بكر والصِّدّيق وعَتِيق، وكذلك عمر والفاروق، وأبو جهل وعمرو، وأبو لهب وعبد العُزَّى. وقبل هؤلاء جميعا رسولنا الكريم، الذى له من الأسماء محمد وأحمد والمصطفي، إلى جانب طه وياسين في الأوساط الشعبية. وكما يرى القارئ قد تكون بعض الأسماء في الأصل ألقابًا أو كُنًى اشتهر بها أصحابها حتى ظُنَّ أنها أسماؤهم الرسمية.(/18)
كذلك كثيرا ما يقابلنا في الكتاب المقدس ("المقدس" عندهم لا عندنا) عدة أشخاص يتَسَمَّوْن بنفس الاسم رغم تباعد الديار والأزمنة، ولن نذهب في ذلك بعيدا، فـ"يواقيم" مثلا يُطْلَق في ذلك الكتاب على ستة أشخاص طبقا لما ذكرته "The International Standard Bible Encyclopedia"، ومنهم يواقيم بن يشوع، الذى يُسَمَّى خطأ بـ"يواقيم بن زربّابل" كما تقول هذه الموسوعة ذاتها. فما وجه الغرابة إذن في أن يكون هناك عِمْرانان: عِمْران أبو موسى وهارون، وعِمْران أبو مريم؟ وسواء بعد ذلك أ كان اسم هذا الأخير هو "عِمْران" فقط أو كان له اسم آخر هو "يواقيم". وبالمناسبة فعِمْران أبو موسى الذى يرفض إخواننا السذَّج أن يكون هناك عِمْران غيره، هذا العِمْران قد ورد ذكره في الكتاب المقدس (عندهم لا عندنا) على أنه ابن قهات بن لاوى، بيد أن كاتِبَىْ مادة "عِمْران" في "The International Standard Bible Encyclopedia" و"دائرة المعارف الكتابية" يشكان في هذا كثيرا قَائِلَيْنِ إنه لا يمكن أن يكون ابنا مباشرا لقهات، بل أغلب الظن أنه من نسله فقط، لأن المسافة الزمنية التى تفصل بين الاثنين، والتى تمتد لعدة أجيال، لا تسمح بأن يكونا أبا وابنا بالمعنى الحرفي. وهذا ما جاء في "دائرة المعارف الكتابية" نصًّا، ويكاد أن يكون ترجمة حرفية لما ورد في "The International Standard Bible Encyclopedia"، وإن زاد عليه أن يوكابد زوجة عمران لا يمكن أن تكون ابنة لاوى حرفيًّا، بل من نسله فحسب:
"عمرام بن قهات بن لاوي ، وأبو هرون وموسى ومريم (خر 6: 18، عد 3: 19، 26: 59، 1 أخ 6: 3، 23: 13). واسم امرأته يوكابد بنت لاوي (حر 6: 20، عد 26: 59). وليس من السهل الجزم بأنه كان ابنًا مباشرًا لقهات، بل لعله كان من نسل قهات، حيث أن هناك عشرة أجيال بين يوسف ويشوع (1 أخ 7: 20- 27)، بينما لا تذكر سوى أربعة أجيال بين لاوى وموسى في نفس المدة تقريبا. كما أن عدد القهاتيين في زمن الخروج كان 8.600 (عد 3: 28)، وهو أمر مستبعد، إن لم يكن مستحيلاً، أن يحدث في خلال أربعة أجيال. ولذلك فالأرجح أن عمرام لم يكن ابنًا مباشرًا لقهات، بل كان من نسله. وكذلك كانت يوكابد ابنة للاوي بنفس هذا المعنى".
وبالمناسبة فكلمة "عِمْران" لا تعنى "الشعب تعالى أو تعظم" فقط كما نقرأ في هذه المادة، بل لها معان أخرى حسبما ورد في موقع "Behind the Name" هى: "their sheaves, handfuls of corn, their slime". وهكذا يتضح لكل ذى عينين وبصيرة أن مسألة "عمران" هى مسألة يحيط بها الشك من كل جانب، فكيف تواتى القومَ هذه الجرأةُ المتناهية في الاندفاع إلى تخطئة القرآن؟
والآن ما رأى إخواننا الأفاضل الذين يملأون الدنيا صياحا ونواحا لأن القرآن قال: "مريم ابنة عمران"؟ أى أنه حتى لو ثبت أن "عمران" هنا هو عمران أبو موسى وهارون فلن تكون هناك أية مشكلة طبقا لتقاليدكم في التسميات وما ورد في كتابكم نفسه في هذا المجال، ومنه "يوسف (النجار) بن داود" (متى/)، و"يسوع بن داود" (متى/ 1/ 16- 20)، و"ابنة إبراهيم (حسبما نادى المسيح عليه السلام المرأة المنحنية الظهر التى قابلته في الطريق)" (لوقا/ 13/ 16)، علاوة على "ابن الله" التى أُطْلِقَتْ في الكتاب المقدس (عندهم) على عدة اشخاص مثل "آدم"، وقد مرّ من قبل، و"إفرائيم" (إرميا/ 31/ 9)، و"إسرائيل" (خروج/ 24/ 22- 32)، و"داود" (مزامير/ 89/ 26- 27).(/19)
إذن فمن الناحية التاريخية المحضة (في حدود علمى) لا يوجد بين أيدينا دليل على أن أبا مريم كان يدعى: "يواقيم" أو "عمران" أو أى اسم آخر، ومن ثم كان من التنطع المسارعة بتخطئة القرآن. أقول إن هذا هو الموقف من الناحية التاريخية المحضة، بيد أن هذا الموقف لا يقفه إلا من يتناول المسألة تناولا باردا كأنه آلة من الآلات التى لا تستطيع أن تفكر من تلقاء نفسها، وليس عنده طريق آخر يسلكه. وفي حالتى أنا وأمثالى ممن يؤمنون بصدق القرآن وعصمته، لا بناءً على إيمان موروث بل استنادًا إلى بحثٍ استغرق سنواتٍ وسنواتٍ سعيتُ فيها حثيثًا وراء معرفة مصدره، وتحليل مضمونه وجوّه الروحى، والمقارنة بين لغته ولغة الحديث النبوى، وكذلك المقارنة بينه وبين الكتاب المقدس في الموضوعات المشتركة بينهما لمعرفة أيهما المصيب وأيهما المخطئ في حالة وجود اختلاف لا يمكن التوفيق بينهما فيه، والنظر في كل اتهام أو تشنيع وُجِّه إليه من قِبَل من لا يؤمنون به، بل ودراسة "دائرة المعارف الإسلامية" التى وضعها المستشرقون وبثوا فيها كل أفكارهم وآرائهم ونظرياتهم في القرآن والرسول والإسلام بوجه عام وتأليف كتاب كامل تناولتُ فيه كل ما قالوه في تلك الموسوعة وتوصلتُ إلى أنه كله كلام فارغ لا أساس له...إلخ، وهو ما خرجتُ منه بأن القرآن هو كلام الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو رسول من عنده سبحانه وتعالى، فهو لم يكن كاذبا مدَّعيا ولا واهما مخدوعا ولا مصابا بأى مرض نفسى مما يتهمه به الأفاكون المضللون. وقد سجلتُ كل ذلك في عدد من كتبى ودراساتى ليطّلع عليه القراء ويشاركونى رحلتى في هذا البحث. وعلى هذا فإنى موقن بأن ما قاله القرآن الكريم من أن "مريم" هى ابنة "عمران" هو حق لا يمكن التشكيك فيه. وهذا ما انتهى إليه فكرى وعقلى وسعيى الحثيث الدؤوب بعد أنْ لم آلُ جهدا في هذا السبيل، ثم يوم القيامة نمثل كلنا أمام الدَّيّان ليحاسبنا على مدى اجتهادنا وإخلاصنا. وأملنا في كرمه ورحمته واسع كبير يكافئ عظمته وبِرّه ومقدرته، والله من وراء القصد، وهو الهادى إلى سواء الصراط!
وبعد، فقد كان هذا تحليلا علميا متأنيا لإحدى الدعاوى التى يطنطن المبشِّرون ويُجْلِبون بها على العامّة وأشباههم يحاولون أن يوهموهم أن في القرآن أخطاء، ومن ثم فلا هو معصوم ولا هو من عند الله. ولا شك أن القارئ الكريم قد تبين له الآن أن الأمر ليس بالسذاجة التى يظن هؤلاء المتاعيس المناحيس أنها يمكن أن تُغْنِىَ عن العلم الصحيح، ولاحظ كيف أن التنقيب والتفتيش قد انتهيا بنا إلى أن كل ما قالوه وأَجْلَبوا به لا يزيد على أن يكون رصاصة من ذلك الرصاص الفِشِنْك الذى يَخُضّون به الأطفال. وهذه كل بضاعتهم التى لا يستطيعون أن يجدوا غيرها مستغلين المآسى الاقتصادية التى تمر ببعض البلاد الإسلامية فيتخذها هؤلاء الشياطين فرصة لبث سمومهم الوثنية والضحك على العامّة وأشباههم بمثل تلك المزاعم التى لا يستطيع العَوَامّ أن يعرفوا وجه الحق فيها. وهدفهم من وراء ذلك هو تشكيك عوام المسلمين على الأقل إن لم يستطيعوا أن يَخْتِلُوهم عن دينهم! وقد أرسل إلىّ مشكورًا الصَّدِيقُ المغربىُّ الأستاذ حسن السرّات (الذى عرفته بالمصادفة عن طريق المشباك منذ أسابيع) مقالا بالفرنسية عن التنصير في الجزائر، لافتًا نظرى إلى الأخطار التى تهدد هذا البلد العربى المسلم من جرّاء ذلك. وقد قرأت المقال فور وصوله، فوجدت أن ما يحدث في الجزائر هو هو نفسه ما يحدث في المغرب مما تناوله مقال آخر بالفرنسية كان قد بعث به إلىّ أيضا الأستاذ السرّات من قبل وقمتُ بترجمته ونشرتُه في بعض المواقع المشباكية: فالدجل التبشيرى هنا هو الدجل التبشيرى هناك، والمزاعم المضحكة عن صلاح أخلاق المسلم بعد تنصره هنا هى نفسها هناك، وتحويل بعض المنازل في السر إلى كنائس هنا هو نفسه هناك، واستغلال الجهل والفقر هنا هو نفسه هناك، والغاية التى يتغياها المبشرون هنا هى نفسها هناك، ألا وهى تحويل المغرب العربى إلى النصرانية مرة أخرى بعد أن أنعم الله على شعوبه بنعمة التوحيد الطاهر الكريم. والأمر الآن إلى الشعوب العربية المسلمة حكاما ومحكومين: فهل ترضى تلك الشعوب بهذا الذى يجرى وتترك هؤلاء اللصوص يسرقون عقائد عوامّها وفقرائها في الظلام مستغلين فقرهم وجهلهم، أم هل تنظر في هذا الخطر الماحق فتضع له الخطط التى تكفل وقفه والقضاء عليه قبل أن يستفحل ويتحول إلى سرطان يلتهم عقيدة الأمة وروحها وضميرها(/20)
هل أظلنا زمن الملاحم
بسم الله نبدأ , و على هدي نبيه صلى الله عليه وسلم نسير , أما بعد ...
أضحى الحديث عن الفتن حديث الساعة بين جميع طوائف المسلمين , فالعامي يتحدث وطالب العلم كذلك , رجل الشارع يريد أن يعرف والشيخ الجليل يريد أن يبلغ وينصف , ولكن هناك تساؤل : إذا كان هذا الزمن قد أظلنا فماذا على المسلم أن يفعل وكيف له أن يستعد ؟
مع اقتراب الزمان وظهور معظم العلامات الصغرى للساعة , بل ومع بداية احتمال ما يدل على الكبرى في سماء الدنيا , من كثرة الهرج ( القتل ) والحروب التي يتوقع الجميع بأنها بوابة الفتنة الكبرى والحروب العظمى التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم , فإنه ينبغي على المسلم أن يرسخ في ذهنه بعض المفاهيم , وكذا يجب عليه أن يستعد ويسلح ويلبس لأمة المؤمن التي يجب ألا تنفك عنه وينفك عنها لحظة, ومنها وبالله وحده التوفيق بعض إشارات من نور العلم عسى أن تضيء لنا جميعاً الطريق .
أولا : أن الحروب القادمة حروب اعتقادية فلا بد من سلاح العقيدة :
اعلم أيها الحبيب , وفقني الله وإياك للسداد والرشاد القريب , أن مسلم بغير عقيدة صحيحة كأعمى في معامع قتال بلا سلاح ولا يعرف من يسديه النصيحة , فلا ينج مثل هذا إلا إذا رزق من الله النور, وإلا كان في الحرب كالذبيحة , وكذلك المسلم لا ينج من معامع الفتن إلا بنور العلم الرباني وإلا فلصوص الإيمان وسرقة العقيدة يتربصون به الدوائر ويكيدون له في كل صبيحة .
فأعداء اليوم يبنون حروبهم على أسس اعتقاد راسخ مستمد من تلمود وتوراة وإنجيل محرف , فكيف بالمسلم يحارب كل هذا بسلاح العقل الفارغ والمنطق غير السائغ , بلا هدى ولا نور يستضيء به ويحتمي , وفي أحضان أعدائه يرتمي , بل ويقدم لهم عقيدته ودينه على أطباق فضائياتهم اللعينة .
إذا أردنا الخروج من الفتن والمحن فعلينا بتوحيد الله والالتفاف حول شريعته الغراء والتحاكم لقانون الله عز وجل , الذي لا يصلح غيره ولا سواه مصباحاً به يستضاء ,ثم تخليص القلوب والأعمال من كل ما يعبد من دون الملك العليم الفتاح , وخلع كل ما يعبد من دونه من ولي ولا نبي ولا شجر ولا حجر , فلا تمسح بالأعتاب ولا التوسل لكل باب , ولا اتخاذ الكهنة والعرافين أرباب , يدعون العلم بالغيب ويضاهون بأنفسهم رب السماوات والأرض ومسبب الأسباب.
ثم النجاة النجاة من كل داع من دعاة جهنم من تبعه ألقاه فيها , ممن باع دينه بدنياه , أو ممن اتخذ إلهه هواه , فهذا يقول لك تعال فما وجدنا غير البعث ديناً , وذاك يشير لك بنجواه ما رأينا مثل الديموقراطية فينا , وهذا بالعلمانية ورابع بالحداثة , وما هو إلا الكفر يأت به هذا وهذا وقد اتخذ كل منهم غير الإسلام دينا وملة { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه }
ويدخل تحت الإصلاح العقائدي للأمة نبذ البدع وأهلها , وبلا مجاملة نقصد بالبدع جميع أنواعها , فمنها بدع مكفرة كبدعة الرافضة , وبدع عباد القبور والأضرحة , ومنها الهدم للسنة كبدع الموالد والاحتفالات بغير هدي ولا سنة, بل قد يحتفل المرء بأعياد أهل غير هذه الملة .
ومما دخل على الأمة وأتاها في صميم الفؤاد ما غاب عن كثير من أهلها بأن الولاء لا يكون إلا لرب الأرباب , والبراء واجب من كل كافر متكبر مرتاب , فبالعقيدة الصافية وحدها يعلم المسلم من يتولى وممن يتبرأ , ومن معه في فسطاط الإيمان وحديقة العقيدة , ومن ضده ممن اتخذ مع الله آلهة عديدة , وسبحان الله فمن عجائب التاريخ أن منقذ القدس وقاهر الصليبيين الناصر صلاح الدين , بدأ بوحدة الصف وتنظيفه من البدع والأهواء وأهلها , وكان مما بدأ به الحرب على الباطنية الضالة المضلة , فهذا الطريق , طريق محمد صلى الله عليه وسلم _ وحد ربك ثم وحد صفك – وكلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة , حتى نجد لنا على الخير أعوان وحتى تكون الأيدي الحاملة للأمانة أيدي طاهرة متطهرة ظاهراً وباطناً.
فاليد المؤمنة لها من المقدار ما لا يعلمه إلا مقدر الأقدار , فحامل العقيدة الصحيحة كمصباح قوي لا يقارن نوره بنور غيره من ضعفة المصابيح ,فهذا ابن مسعود لما صعد يجتني الأراك , تعجب بعض الصحابة من دقة ساقيه , فأخبرهم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بأنهما عند الله اثقل من جبل أحد , وقطعت في يدي خالد بن الوليد يوم مؤته تسعة أسياف ولم تصمد معه إلا صفيحة يمانية , فهل السر في اليد أم في هذا الاعتقاد الراسخ والبناء السليم , الذي أساسه الإذعان والتسليم , حتى استحق خالد ان ينال اللقب الأشرف في تاريخ القادة العسكريين , وممن أخذه , لقد استحقه من الله والرسول " سيف الله المسلول " , رحم الله قاهر التتار قطز وشيخه المغوار العز بن عبد السلام سلطان الأئمة الأعلام..
ثانياً : التسلح بالعلم وخاصة ما يناسب ظروف الساعة :(/1)
فالعلم فرض عين على الأمة فرضه الله على عباده كي يصلوا لطريق الحق وأمر من لم يستطع التحصيل أن يسأل أهل الحق والتنزيل فقال عز من قائل { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } , فعلى المسلم أن يعرف كل ما يقوم به دينه من كيفية أداء ما فرض عليه وقبل ذلك تعلم ما يصلح به معتقده حتى يكون راسخاً شامخاً بلا شرك ولا بدعة , ثم التسلح بما يناسب الظرف فمثلا من أراد التجارة ففرض عليه علم البيوع وإلا وقع في الربا عياذاً بالله , كذا من ظن أنه على أبواب الملاحم والجهاد فعليه بالعلم والاجتهاد ومدارسة كتب الجهاد, ليفهم من خلالها أحكامه وليقرع أبواب الوغى كالليوث الحداد , كذا علينا أن نعود عوداً حميداً إلى ماورد في السنة الصحيحة عن أبواب الفتن والملاحم حتى نستضيء بنور الحق ومشكاة النبوة فيها , بلا تسرع وبلا تنزيل بعضها على الواقع إلا بنور من الله ورسوله , حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود وعسى أن يكون قريباً بإذن الله فجر الإسلام الجديد , يوم يرفع الله دينه ليسود .
ثالثاً : على الأمة أن تعد الرجال والقوة مع إعداد القلوب :
قال تعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم }
وهذه سنة الله في عباده , فإذا راجعنا كيف كان الأمر بالإعداد مع الإيمان المطلق بأن الله تعالى لو أراد نصر عباده بأمر كن لكان , ولكن سننه الكونية سبحانه وتعالى شرعها لعباده لحكمة حكيم مقدر , فمن رفض الحكمة وتواكل فقد ضل عن سنة الله وأمره .
أرسل الله تعالى أحد أنبياءه في زمن من أزمان استضعاف بني اسرائيل ليأمرهم بالاستعداد للقتال فقال تعالى { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله . قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين }
لذا فإعداد العدة مع إعداد القلوب متلازمين متلاحقين حتى لا نكون ممن يفر يوم الزحف , أو ممن يخذل الإسلام , وليعلم كل منا أن قضيته فردية بحتة فهو يستعد ويجاهد لينجو عند الله يوم القيامة , وليس ليكون شجاعاً أو يقال عنه كذا وكذا وإنما لينجو بنفسه يوم يقف الخلائق بين يدي الملك العلام سبحانه وتعالى وجل شأنه , فعلى كل منا أن يستعد بدنيا وعقديا , أما بدنيا فبتقوية البدن وأما عقدياً فبما سبق ذكره , حتى إذا ما نادى منادي الجهاد العام ونفر المسلمون ووثبوا لربهم كان من المسارعين في الخيرات , ومن المقبلين على الجنات .
رابعاً الفرق بين الفتن والملاحم :
الفتن هي ما يقع في الأمة من بلايا ومحن بين أبناءها بعضهم البعض , ومنها ما يكون من الفتن في الدين نفسه كظهور الدجاجلة والدعاة المغرضين , وكوجود السحرة والمشعوذين , وسبحان الله فإن فتن هذا العصر تناسب تقدمه العفن , فنجد الدجال في صورة قائد أو غيره يدعو لدين جديد يصرف الناس به عن دينهم الحق وما يكون دينه إلا مغلفاً بغطاء الإسلام , فهذه الديموقراطية في الإسلام وما تكون ديموقراطيته إلا تغييب شريعة العلام, وهذا يدعي اشتراكية الإسلام , وغير ذلك , ثم تجد سحرة العصر ترتدي رداء ً أنيقاً اسمه رداء الإعلام , الذي يظهر الحق للناس على أنه باطلاً والباطل على أنه حقاً , فقادة الأمة وصالحوها هم عندها لاعبوا الكرة والداعرين من أهل الفن وغيرهم , ومفكري الأمة من أرباب الأقلام المسمومة في صحافتها النجسة وإنا لله وإنا إليه راجعون , ولتراجع إن شئت " قصة أصحاب الأخدود للدكتور ياسر برهاني"
أما الملاحم : فهي حروب الأمة مع غيرها من الأمم الكافرة , منها ما تحقق كقتالنا مع التتر , ومنه ما لم يتحقق بعد كملاحم الروم في آخر الزمان والتي جاءت بها السنة الصحيحة .
وقد بوب الإمام أبو داود باباً في سننه يفرق بين الفتن والملاحم فقال" باب ارتفاع الفتنة في الملاحم ثم أخرج بسنده عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لن يجمع الله على هذه الأمة سيفين : سيفاً منها , وسيفاً من عدوها "
فقصد بالفتنة السيف الذي منها والملاحم السيف الذي من عدوها
وأخيراً : هلا اجتمعنا :
{ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }
اعلم وفقني الله وإياك أن أهل العلم لما شرحوا أحاديث تفرق الأمة , ذكروا أن هناك تفرق عن السبيل وهو المذكور كافتراق الطوائف المبتدعة من الرافضة والجهمية والخوارج والبابية والبهائية والقديانية والصوفية بأنواعها وغيرهم , فهؤلاء ظاهرون .(/2)
أما والله ما يفت في العضد ويحرق الفؤاد هو ما ذكروه من انواع التفرق على الصراط , وهو تفرق أهل الصراط المستقيم إلى مسميات عدة ما انزل اله بها من سلطان , وولاء كل منهم لمسماه اكثر من مسمى الإسلام قال تعالى { هو سماكم المسلمين من قبل } , واعلم رحمك الله أن التفرق الآن من اللعب غير المباح فالطالب إذا لعب في أثناء العام الدراسي قد لا يعاتب مثلما يعاتب وقت الامتحان, فلنجتمع حتى لا نلام ولا نهان , وكيف بنا ونحن بين يدي الله تعالى وقد حولنا ديننا فرقاً وشيعاً .
على كل منا أن يعذر الآخر وأن يتعاون معه فيما يجب , وأن يعذره فيما يختلف , ولنمد الأيدي وكفانا بعداً واحتراقاً فإن إبليس يئس أن يعبد في جزيرة العرب ونجح في التحريش
أترككم في رعاية الله وأمنه
أخوكم أبو الهيثم(/3)
هل أنا موسوَس؟
لا يمكنني رؤيتك فهل باستطاعتي مقاومتك؟
لئن كانت مواجهة العدو المعروف لنا موقعه وعدته وإمكانياته تحتاج إلى الكثير من الجهد والتخطيط والتيقظ المستمر لما يمكنه أن يقوم به من استغلال الفرص للهجوم والتوثب فإن العدو الخفي يسبب لنا قدرًا أكبر من المعاناة قد يعتبر معه العدو الظاهر المعروف نزهة بحرية بالنسبة له وهذه هي حقيقة المعاناة التي يعانيها مريض الأفكار والأفعال الوسواسية إنه لا يستطيع الإمساك بما يسبب له هذه الحالة وهذه الأوضاع المؤذية له نفسيًّا وجسديًّا, ويكون هذا من أعظم ما يبعث على الإحباط, ولذا ينبغي على العبد المسلم استيضاح الرؤى والتوثق من الحقائق, إننا في النهاية لا نريد أن نكون كمن يصعدون سلمًا مرتفعًا ويجهدون أنفسهم في ذلك وعندما يصلون إلى نهايته يكتشفون أن السلم مسنود إلى الجدار الخطأ وبالأحرى والأوكد لا نريد أن نكون أسوأ من ذلك, أي من المتقاعسين الناديين حظهم والناحين باللائمة على القدر والظروف فيصدق علينا قول الشاعر:
أفنيت يا مسكين عمرك
وقعدت مكتوف اليدين
ما لم تقم بالعبء أنت بالتأوه والحزن
تقول حاربني الزمن
فمن يقوم به إذن
يلزمنا هنا فهم دقيق واضح لما أصابنا أو ما يعرفه الأطباء بالتشخيص السليم الناجح ثم يلزمنا أطنان من الأمل والثقة الكاملة التامة بالله تعالى حتى نجتاز المحنة ونعبر البلاء ونقف فيه كما الموقف الذي يحبه الله تعالى من عباده بالصبر والثبات واليقين والأخذ بالأسباب والرضا بعد ذلك كله بفضل الله تعالى ورحمته.
سنتعرض للحديث عن أعراض الإصابة بالوسواس القهري الذي نؤكد دومًا على أنه مرض وليس شيطانًا أو جنًّا وما شابه ذلك وقبل الحديث عن جملة هذه الأعراض.
دعنا عزيزي القارئ الشاب ننبه إلى مجموعة من الملاحظات الضرورية سواء للمريض نفسه أو للمعالج وكذا للأسرة بالمقام الأول كي تستوعب الوضع المحيط استيعابًا تامًا:
[1] البعض من الناس قد يعاني من أفكار وسواسية فقط دون المعاناة من تحولها إلى أفعال قهرية.
[2] الوساوس القهرية تظهر بصور متعددة إلا أن الأعراض المهمة والمعروفة تتمثل دومًا في صورة المراجعة والتدقيق المتكرر والقهري أي بالإجبار رغمًا عن إرادة الشخص نفسه لأفعال مختلفة من أمثلتها الغسيل والتنظيف المتكرر والحرص على التنسيق والتوازن للأشياء أو العد لأشياء مختلفة بشكل قهري أو توارد أفكار شهوانية عدوانية غير مرغوبة أو الحرص على الاحتفاظ بكل شيء قديم وتخزينه وغيرها مما سيأتي بيانه لاحقًا.
[3] من الممكن أن يبدأ الوسواس القهري بالأفكار الوسواسية ثم يتحول بعد ذلك إلى فعل قهري فلا بد لمريض الوسواس القهري أن يتنبه إلى الوساوس التي ترد عليه وتتحول إلى أفعال حيث إن مقاومة الفكرة أسهل بكثير من مقاومة الفعل خاصة مع الاستمرار عليه لفترة طويلة فيحتاج بالإضافة إلى العلاج المعرفي للعلاج السلوكي.
[4] كلما اتجه المريض بالوسواس القهري مبكرًا للعلاج مع بداية ظهر أعراض المرض كلما كانت نسبة النجاح أعلى بكثير وكلما كان الجهد المطلوب بذله أقل بكثير مما لو ترك المرض ليثبت أقدامه.
[5] لا حل إلا التقدم هكذا ينبغي أن يتعامل مريض الوسواس القهري مع مرضه فإن الله تعالى يمتحن المصابين بهذا النوع من المرض بالذات في إيمانهم به سبحانه وثقتهم بمقامه ويقينهم برحمته لذا فالفائز حقًّا من صبر وثابر, فلا حل له إلا التقدم كما قال الشاعر:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة إلا أن أتقدما
[6] مرض الوسواس القهري هو مرض له بداية واضحة يجب أن يحرص المريض على استرجاعها وتذكرها لتعينه على المقاومة مع العلم أن الشخصية الوسواسية بطبيعتها لا تتضح فيها هذه البداية لكون الطبيعة الوسواسية تنمو مع الشخصية الوسواسية من البداية وتدعمها النفس بتأكيد سلوكياتها, وهذا لا يكون الحال عليه هنا مع مريض الوسواس القهري, فالشخصية الوسواسية لا تعاني كما يعاني مريض الوسواس.
[7] الناس المصابون بمرض الوسواس القهري يتفاوتون تفاوتًا كبيرًا في المظاهر والأعراض, فالبعض منهم يعانون من عرض وسواسي واحد طوال عمرهم وتسير باقي شؤون حياتهم بصورة طبيعية والبعض الآخر يعاني من عدة أعراض متعددة مستمرة والبعض الآخر لا يثبت على عرض واحد بل يتنقل من عرض لآخر مع التنبيه هنا أن مغادرة الوسواس لعرض معين لا يعني عدم احتمال العودة إليه ثانية ويكون الانتقال من عرض لآخر إما بأن يقل أحدهما ويزيد الآخر أو يتوقف أحدهما تمامًا ويبدأ الآخر بالزيادة.
[8] ليست المشكلة في وجود العرض من عدمه إنما لكي نصف أن هناك إصابة بمرض الوسواس القهري, فإن مقياس ذلك سيكون عبر بيان مدى تأثير هذه الأعراض على حياة الفرد الاجتماعية والفردية والدراسية والمهنية, وبقدر هذا التأثير تكون الحاجة ملحة للتوجه للعلاج والإسراع فيه ويتمثل التأثير في مدى الإعاقة التي تحدثها هذه الوساوس لحياة الإنسان.(/1)
* وفيما يلي قائمة ببيان أكثر الأعراض شيوعًا للإصابة بالوسواس القهري ولا بد لنا من التنبيه ألا يكون الشخص موسوسًا في تطبيق هذه الأعراض عليه إنما نتحدث عن المبالغة في فعل هذه الأمور من باب الجبر النفسي المرضي المحتاج إلى علاج لا من باب تضييع الوقت أو خلافه وإن كنا نوجه من يفعل ذلك إلى عدم الاستمرار فيه أو الحرص عليه, فلا داعي للوسوسة بالإصابة بالوسواس.
[1] وساوس القذارة والتلوث: ولها مظاهر منها:
1. الاشمئزاز الشديد من المواد الدهنية واللزجة والزيتية أو ما يلتقطه الآخرون من الطريق.
2. الخوف الشديد من التعرض سواء الشخص نفسه أو الأهل أو الأحباب للإصابة بمرض شديد نتيجة للتعرض للقاذورات أو الميكروبات أو الجراثيم أو غيرها.
3. الاشمئزاز المبالغ فيه من الفضلات [مخاط ـ بصاق ـ بول ـ براز ـ عرق].
4. الخوف من لمس أي مريض وإن كان المرض غير معد وإتباع كل ذلك بعمليات غسيل واستحمام متكرر.
[2] وساوس الترتيب والنظام والدقة والتماثل ومن مظاهرها:
1. الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة والانفعال بعنف عند إحداث أي خلل فيها.
2. العناية المبالغ فيها بالهندام في الملبس والمظهر الشخصي لدرجة التفقد له كل دقيقة أو أكثر بصورة مرضية لمن حوله.
3. الحرص الشديد على وضع كل شيء صغير أو كبير في نظام لا يقبل التغيير ومكان محدد بشكل محدد والتعامل مع عنصر النظافة بالذات بصورة مرضية.
[3] وساوس التخزين والاحتفاظ بكل شيء وعدم التخلص من الخردة وله مظاهر منها:
1.' قد أحتاج إليها يومًا ما' بمثل هذا النداء الداخلي يستقر الإلحاح داخل نفس الموسوس أنه لا يمكنه الاستغناء عن أي شيء استعمله أو اشتراه في يوم من الأيام حتى لو لم يكن صالحًا للاستعمال ولتأكيد ذلك يسعى لتكوين علاقة عاطفية شديدة تتعلق بالشيء المذكور حتى يصعب الاستغناء عنه لما يمثله من قيمة عاطفية.
2. الفزع من فقد شيء أو التخلص منه بطريق الخطأ مما قد يدفع الموسوس إلى تفقد الأشياء المخزنة بصورة دورية ومبالغ فيها.
3. تفحص القمامة والمخلفات المنزلية للتأكد من عدم فقد شيء فيها بطريق الخطأ.
4. الاحتفاظ بكل ما لا قيمة له ولكن تم استعماله في يوم ما أو وجد في الطريق.
[4] وساوس جنسية وهذا النوع عقلي فقط ولا يتحول إلى أفعال ولها مظاهر منها:
1. الخوف من الاعتداء الجنسي على من يحب الشخص الموسوس ذكرًا كان أو أنثى.
2. الخوف من ممارسة الشذوذ الجنسي بغير رغبة وبدافع الوسواس.
3. تصورات جنسية تلاحق الشخص في كل تصرف له أو لغيره ممن حوله تغلف حياته.
[5] وسواس التكرار ومن مظاهره:
1. المبالغة في الرغبة في عد الأشياء المختلفة بشكل إجبار للنفس.
2. طرح الأسئلة بصورة متكررة وكثيرة ليس بعلة عدم الفهم والرغبة في الاستيعاب بل لشيء آخر غير واضح للشخص نفسه بل هو يظن أنه بدعوى الاستفهام وليس كذلك.
3. الإلحاح المستمر والشديد بقول وتكرار أسماء أو كلمات أو ألحان موسيقية معينة.
[6] وساوس الشك والتردد والحيرة ولها مظاهر منها:
1. الشك الدائم فيما يراه الآخرون من الثوابت سواء الدينية أو الأخلاقية أو العلمية ويرى الموسوس نفسه في هذا المقام بمثابة الباحث عن الحق الذي يعتمد منهجه على إنكار كل ما هو ثابت حتى يصل إلى الحق منزهًا وهو بذلك يخطو أولى الخطوات نحو الوسواس القهري ولا يستشعر حجم المعاناة إلا بعد الوقوع في الشراك الخداعي النفسي.
[7] وساوس الاعتداء والعنف ومن مظاهرها:
1. الخوف غير المنطقي والمبالغ فيه لدى الشخص من الاعتداء على من يحب سواء بعمل الحرائق في المكان الذي يسكنه أو الاصطدام بهم بالسيارة.
2. الفزع من استخدام السكاكين أو الأسلحة النارية أو الساطور أو غيره من الأسلحة للاعتداء على من يحب.
[8] وساوس متعلقة بالطعام ومن مظاهرها:
1. الانشغال والتفكير الشديد بألوان الطعام وكمياته.
2. الوسواس المتعلق بالنحافة والخوف من البدانة الذي يدفع صاحبه إلى قيء الطعام باستمرار حتى يحدث بغير إرادته لخوفه الشديد من السمنة.
3. الخوف غير المنطقي من كون أحد المكونات داخل الطعام يضر الصحة كالكوليسترول والدهون وغيرها مما يدفع إلى الامتناع نهائيًا عن تناول هذا النوع وتحريمه على النفس وتيقن الإصابة بالمرض إذا حدث وتناوله الشخص.
4. الانشغال الشديد بحجم وشكل أجزاء الطعام الواحد كاللحم وكونها متساوية المقطع والوزن والشكل ...إلخ.
[9] وساوس الجسم وتتمثل في العناية الشديدة بمقاييس الجسم كاللون والوزن والصحة ومن مظاهرها:
1. الحرص على إجراء العديد من التحاليل بغير سبب أو مبرر وبكثرة وتكرار.
2. وزن الشخص لنفسه في اليوم أكثر من مرة وقياس الطول وغيره للتأكد من ضبطه.
[10] المخاوف غير المعقولة:
1. الاعتقاد المتبوع بتصرفات بأن أرقامًا معينة تجلب الحظ السعيد أو التعيس.
2. الربط في أفعال الغسيل مثلاً بعدد معين أنه لن يحدث ضرر محدد, كمرض الشخص أو وفاته إذا أتينا بالعدد المطلوب كما هو.(/2)
3. المشي في طريق معين أو لمس شيء معين سينتج عنه أذى وضرر لشخص ما.
[11] الوساوس المتعلقة بفقد الثقة تمامًا ومن مظاهرها:
1. الفزع من دخول امتحان بسيط مع توفر المذاكرة الكافية له.
2. الخوف من عدم القدرة على القيام بالأعمال الروتينية البسيطة.
[12] الرغبة القهرية لجعل كل شيء صحيح تمامًا ومن مظاهرها:
1. الحرص الشديد على التماثل والترتيب والتوازي للعلب والبرطمانات والملاعق والشوك والسكاكين في المطبخ.
2. تعليق الملابس بصورة معينة وترتيب محدد من الدولاب وكذا ترتيب السرير بشكل معين وقد لا ينام الشخص عليه للحفاظ على الترتيب وتخصيص ملابس معينة لمناسبات معينة وإذا لم تتوفر لم يخرج.
3. أثاث المنزل ترتيبه والحفاظ على مكانه بالسنتيمتر والحرص على موازاته للجدران وللغرفة وغيرها من صور التدقيق المبالغ فيها.
[13] وسواس التأكد من كل شيء، وهم أناس يحملون فوق كواهلهم معاناة أنهم مسؤولون عن حياة أحبابهم وأن هؤلاء معرضون لخطر شديد لذا لا بد من التأكد من كل الأعمال ومن مظاهره:
1. التأكد المستمر بدون داعي من عدم رشح حنفيات المياه وتنقيطها.
2. التأكد المستمر من غلق الأبواب والنوافذ والأقفال.
3. العودة للمنزل بعد الخروج للتأكد مما سبق بشكل مرضي والاستيقاظ ليلاً أكثر من مرة لذات التأكد.
4. الفحص المستمر عند الأطباء للتأكد المستمر من سلامة الشخص من الإصابة بالأمراض.
[14] البطء الوسواسي المرضي ومن مظاهره:
1. البطء الشديد في الأعمال الروتينية اليومية العادية سواء الأكل و الشرب وكذا الوضوء والاستحمام وغيرها من أمور الحياة المختلفة البسيطة بدعوى أنه لابد من البطء للتأكد من إتقان الفعل.
[15] الوساوس الدينية ومن مظاهرها:
1. أفكار ووساوس مزعجة بانتهاك الحرمات والأعراض والوقوع في الكفر.
2. أفكار مفزعة عن الذات الإلهية والأنبياء لا تندفع.
3. ضغط عصبي شديد بسب الدين والله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم مع العجز عن وقف هذا السباب.
4. تكرار العبادات خشية القيام بها بصورة خاطئة وكذا تكرار الأذكار.
5. استعادة الحديث الذي تم إجراؤه مع الناس للتأكد من عدم الكذب فيه أو مخالفة الحقيقة.
ولها صور لدى مرضى المسلمين خاصة ومنها:
1. الشك في النية في العبادات كالوضوء والصلاة.
2. الشك في عدم طهارة الماء المتوضأ به ونجاسته.
3. عدم التيقن من نزول الماء على كل مكان في العضو بنفس قوة جريانه على باقي الأعضاء.
4. الوسوسة الشديدة في انتقاص الوضوء سواء بخروج ريح أو نزول نقطة مذي أو بول أو لمس القدم للأرض أو طرطشة الماء.
5. الشك المستمر في نجاسة الملابس والمياه المكشوفة.
6. الوسوسة في مخارج الحروف وعدم نطق الكلمة بالصورة الصحيحة والتكلف فيها بكثرة تكرارها.
7. الوسوسة في التكبير والفاتحة وغيرها من أركان الصلوات المنطوقة.
8. الوسوسة في ضبط اتجاه القبلة.
9. الوسوسة أن الذنوب لن يغفرها الله تعالى وذلك برغم عدم وقوع العبد في كبيرة.
10. الوسوسة في الطعام هل تم ذبحة بالطريقة الشرعية؟ وهل الذي ذبحه مسلم أم لا؟
[16] أفعال قهرية متفرقة ومن أمثلتها:
1. النوم في ساعة محددة وكذا الأكل وغيرها من الأفعال بدعوى طرد الشيطان.
2. عدم السير على الفروقات التي بين البلاطات في المنزل أو الطريق وضرورة نزول القدم على منتصف البلاطة.
3. الرغبة القهرية لإخبار شخص ما بأمر معين أو الاعتراف لشخص ما بأمر ما.
4. الرغبة القهرية للعد: أصابع اليد ـ درجات السلم ـ أعمدة النور ـ الأدوار للمباني ـ الأشجار ـ عد الناس أو السيارات أو البلاطات.
5. استخدام أذكار محددة وتكرارها بعدد معين بغرض جعل فكرة معينة تذهب بعيدًا.
* ولئن كنا هنا قد تعرضنا للأعراض بصورة تفصيلية للغاية إلا أن غرضنا فقط هو تحديد العرض المطلوب حتى يمكننا أن نراه لتسهل علينا مقاومته وتوجيه العلاج له فانظر أي الأعراض أقرب وابدأ في اتخاذ إجراءات العلاج له وهذه لها موضع آخر نسير فيه معًا على طريق الشفاء بإذن الله تعالى نشرح فيه طرق العلاج ومساراته المختلفة والأصل الأمل ثم الأمل ثم الأمل واليقين المستمر برحمة الله تعالى عافانا الله وإياكم من كل سوء وشر والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المراجع:
1. الوسواس القهري د. محمد شريف سالم.
2. مقالات الجمعية المصرية الإسلامية النفسية. د. ماضي أبو العزايم.
3. د. طارق الحبيب رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. [مجموعة مقالات].
4. د. محمد عبد الله الشاروش استشاري الطب النفسي ومدير مستشفى الصحة النفسية بجدة [مجموعة مقالات].
5. منهج التربية الإسلامية د. محمد قطب.
يا الله 'واحد من كل أربعين' الحمد لله!!! [1](/3)
مفكرة الإسلام : من العجيب اختلاف مواقفنا من الإحصائيات تبعًا لاختلاف مواقعنا منها، من حيث علامة هذه الإحصائيات لواقع حياتنا أو مشاكلنا من عدمه، ومنها هذه الإحصائية التي بين أيدينا والتي أن خمسة وعشرين من كل ألف، أو واحد من كل أربعين، أو ثلاثة من كل مائة من الأفراد في مجتمعاتنا يعانون من الإصابة في مرحلة من مراحل حياتهم بمرض الوسواس القهري، وهي نسبة ستظهر لغير المصابين بهذا المرض مفجعة وغير متوقعة. وليس ذلك إلا لأن كثيرًا من المصابين بمرض الوسواس القهري يعانون منه في السر ولا يبوحون به ولا يطلبون العلاج منه، والبعض منهم لا يشعر بإصابة بهذا المرض أساسًا، ويعتقد البعض الآخر أن هذه الصورة التي هو عليها صورة طبيعية، فيبدأ بإقناع نفسه أن هذا هو قدر الله ـ تعالى ـ عليه، وأنه يلزم التكيف معه وخلافه، أما بالنسبة لمرض الوسواس القهري فتبدو هذه النسبة كذلك بالنسبة لهم مفاجئة 'الحمد الله' للدلالة على مدى انتشار المرض بين أفراد المجتمع.
وبالتالي يتحدد موقفه من هذه الإحصائية بحمد الله تعالى أنه ليس وحده المصاب، فلا يصاب بالإحباط أو يفقد الأمل في العلاج.
ولكن المشكلة الحقيقية هنا ونحن نخاطب مرض الوسواس القهري هي أنه من الأمراض السرية المتكلم عليها من قبل المريض نفسه, فهو لا يكشف بسهولة عن الحجم الحقيقي لمعاناته اليومية خشية السخرية منه أو الاستهزاء به ممن حوله، ويكون ذلك من الأسباب الرئيسية في ضعف إمكانية وصول العلاج إليه، والتواصل المستمر معه لتحقيق الشفاء وهو من أسباب استفحال المرض، فالمصاب لا يبوح به إلا بعد مرور مدة طويلة على الإصابة به قد تصل إلى سنين من المعاناة والمحاربة لهذه الظواهر، مما يلزم بذل مجهود مضاعف للتخلص من آثار هذا المرض المرهق.
ـ إن حديثنا عن مرض الوسواس حديث سيستفيد من الجميع بإذن الله تعالى, فأولهم استفادة المرض بالوسواس، فإن كان يعالج عند الطبيب النفسي المتخصص فهذه المقالات ستساعده في تحقيق المزيد من فهم طبيعة هذا المرض ليكون أقدر على مقاومته، وأما إن كان ممن يرفضون العلاج النفسي، أو ينفرون منه لأي سبب من الأسباب:
ـ سواء أكان طبيعة المجتمع وتصوره عن الطبيب النفسي.
ـ أو لغيره من الأسباب.
فلا شك أنه سيستفيد في فهم ما الذي يحدث له؟ وكيفية الخلاص منه؟
وثانيًا: سيستفيد منه كذلك الأسرة والأصحاب المحيطة بمريض الوسواس القهري
حيث سنبين لهم ما دورهم الممكن تقديمه للأخذ بيد هذا القريب أو الصديق لمساعدته على تخفيف الآثار السلبية لهذا المرض، ومن ثم إعانته على الشفاء بإذن الله تعالى.
أخي القارئ:
إنني أدعوك كي ترافقني في رحلة قصيرة نضع فيها مجموعة من المبادئ المتفق عليها فيما بيننا حتى يمكننا أن نصل معًا على بر الأمان وتحقيق الشفاء من هذا المرض.
وهذه الرحلة يمكن لنا عنونتها بـ 'بيان المصطلحات وتحديد الفروق بينها'.
إنها عملية إزالة الخلط بين المسميات المختلفة واللبس الواقع عندك وعند الآخرين، لأنه سبب رئيس في تأخر العلاج وتحقيق البرء التام بإذن الله تعالى.
ومن أمثلة ما يحدث فيه الالتباس ويجب توضيح معالمه الفرق بين الوسواس الشيطاني والوسواس القهري، وكيفية المقاومة لكل واحد منها.
وما حقيقة مسئولياتنا عن هذه الوساوس؟
وهل نحاسب عليها؟
وما حقيقة دور الطبيب النفسي في هذا المرض؟
وكيف نواجه نظرة المجتمع العربي إلى الطبيب النفسي على أنه طبيب لا تستحب زيارته؟
وهل يصلح المنهج التسكيني لعلاج لهذه الوساوس؟
وما هي التعبيرات السليمة لوصف حقيقة ما يحدث؟
ولماذا نحن بالذات من أصبنا بهذا المرض؟
ما هي حقيقة توصيفه؟
أهو بلاء أم عقاب أم ماذا؟
هل من الممكن الشفاء من هذا المرض؟
وكم من الوقت يلزم لحدوث درجة من التحسن معقولة؟
وما هو مقياس التحسن من عدمه؟
كل هذه الأسئلة وغيرها تدور في العقول والأذهان، ولا بد الإجابة عليها لأنها تبنى تصوراتنا حول هذا المرض، وكيفية التعامل معه، ومن ثم استخدام ما نراه أفضل طرق العلاج، وأهم ما ينبغي لنا فهمه أننا منذ الآن سنحاول الحصول على جزء كبير من الثقافة الطبية النفسية كي يمكننا فهم هذا المرض، وسنضطر لا محالة للدخول وتفكيك بعض المصطلحات العلمية الطبية حتى نفهم ما نحن بصدد الكلام عنه.
الوسواس الشيطاني:
هذا الوسواس ذكر العلماء أن له نوعين رئيسين وكلاهما يمكن التغلب عليهما بالاستعاذة وبذل بعض الجهد هما:ـ
1ـ وساوس تدعوا النفس إلى ما تشتهيه من المحرمات وتتلذذ به وتحبه:
كالزنا ومقدماته من إطلاق البصر وغيره، وكذا السرقة والظلم بأنواعه، والاستماع المحرم، والغيبة والنميمة وخلافهما.
وقد تنشأ من خطاب النفس أو من البيئة المحيطة التي تدفع إلى توارد هذه الخواطر.(/4)
وهذه الوساوس والأفكار غالبًا ما تتنوع في أشكالها، وترتبط بالمستوى الإيماني والعبادي للشخص، ونوعية الصحبة المحيطة، ومدى انشغال النفس بهذه الأمور أو بغيرها مما يصرف الذهن عن هذه المحرمات.
ومن راودته نفسه في ذلك وطاوعها فهو عرض لسخط الله تعالى وعقوبته.
وفي مقدوره الامتناع الكامل عن الاستجابة لآثار هذه الوسوسة فهذا كل حظ الشيطان منه: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] وعلاج هذا النوع يكون بالذكر والاستعاذة وتعظيم حرمات الله تعالى والاستغفار وحسن الصحبة والانشغال بالأهداف الحقيقية لخلق المسلم.
2ـ وسواس الشك سواء في الوضوء أو الصلاة أو غيرها من العبادات بالزيادة أو النقص:
والأصل أن لا يتكرر إلا بشكل متقطع، وعلى مدد متباعدة نسبيًا، وهذا من الشيطان.
وعلاجه الاستعاذة والالتزام بالعلاج الشرعي المتمثل في البناء على اليقين، وأن اليقين لا ينفي الشك فينظر ماذا يتيقن، ففي الوضوء مثلاً إذا شك في نقضه فهو يبني على اليقين وهو الوضوء، فلا يأبه بالوسواس.
وهذا مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ورد في رواية أبي داود، قال صلى الله عليه وسلم: 'إذا أتى الشيطان أحدكم فقال له: إنك قد أحدثت فليقل له: كذبت إلا ما وجد ريحًا بأنفه أو سمع صوتًا'.
والاستجابة لهذه الوساوس بدعوى التيقن والتأكد هي مخالفة صريحة للسنة النبوية، وفتح الباب للشيطان ليدخل.
وهذا النوع قد يتحول إلى وسواس قهري بفعل تجاوب الشخص معه، وهذا الاستمرار في التفاعل الإيجابي بتنفيذ ما يشك فيه، وعدم الالتزام بالعلاج الشرعي.
ـ وماذا نعني بالوسواس القهري؟
هذا ما سنعرفه في الجزء الثاني من المقال.
إعداد :فريق الاستشارات التربوية بموقع مفكرة الإسلام(/5)
هل أنت إنسان ناجح؟
هاشم عبدالرزاق هلال
hashimhilal75@hormil.com
النجاح بذل وتضحية ورحلة طويلة وليس محطة يتوقف عندها الضعفاء والخاملون. النجاح كلمة جميلة وبراقة، والكل يرجو أن ينجح ويبدع، ولكن النجاح لا يحققه إلا من عرف كيف يدير ذاته، ولا يناله إلا من درب نفسه على مجموعة عادات، ومهارات، حتى تتشربها نفس الإنسان وتستطيع أن تضع قدميها على طريق النجاح.
وللناجح صفات وعلامات، وإن كانت هناك أمور تيسر سبل النجاح لمن يريد.
الناجحون حقاً كما أثبتت الدراسات لا يتجاوزون 5% فقط من الناس، ومن صفات الناجح، الشعور بالسكينة والطمأنينة والرضا الداخلي عن النفس، وتظهر هذه السعادة في تصرفاته وتعامله، وتدفعه إلى البعد عن التذمر والتشاؤم، وتحثه دائماً على الاستزادة والنهل من معين الإبداع والتفوق، ومن صفاته أيضاً أنه صاحب علاقات طيبة مع الناس، وعلى رأسهم من حوله من زوجة وأبناء وأهل وأصدقاء وزملاء عمل أو دراسة، وكذلك من صفاته، أن له إنجازاً وأثراً ملموساً في الحياة، يخلد ذكره كشخص كان صاحب رسالة كريمة في الحياة، عاش ومات لأجلها، وهذه الصفات تقوده إلى تحقيق النجاح الأخروي، والذي جائزته الفوز برضوان الله وجناته، وذلك هو النجاح الأكبر والأهم. وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (72) (التوبة).
وهذه الصفات لن يحققها الناجح إلا إذا عود نفسه على عادات حميدة، تكون له قاعدة للانطلاق نحو النجاح والتميز، وهذه العادات، وإن كانت متكلفة، فهي بالمداومة تصبح طبعاً وسمة في الإنسان.
هذه العادات أخرجها إلى حيز الوجود والقابلية للتطبيق، الأمريكي ستيفن كوفي، الذي درس النجاح والناجحين على مدى 25 عاماً، لم يكتب خلالها أي كتاب، بل تفرغ لاستخلاص القواسم المشتركة بين الناجحين، والتي رأى أنها مجموعة عادات، إذا أجبر الإنسان نفسه عليها وقام بها، اتخذ سبيله إلى طريق النجاح، والتحق بركب الناجحين، وهذه العادات أصبحت معروفة ومشهورة باسم العادات السبع للنجاح، وهناك دورات تقدم في هذه العادات، تهدف إلى إعطاء مرتاديها، جرعات توعوية وتثقيفية عن مفهوم هذه العادات، وأهميتها في إضفاء صبغة النجاح على مطبقيها والقائمين بها.
والعادات من الممكن أن تزرع في الإنسان عن طريق التربية، أو تكتسب عن طريق الممارسة والمداومة عليها، وفي فلسفة الحياة والتربية، أن المربي يستطيع أن يربي من حوله على القيم النبيلة والعادات الحسنة عن طريق زرع الأفكار الطيبة، والتي تؤدي بدورها إلى حصد الأفعال الطيبة، وعند زرع الأفعال الطيبة في الإنسان، يتم حصد الشخصية المثالية، وبتأهيل وتدريب الشخصية المثالية، يتم تكوين المجتمع المثالي.
1 وأولى هذه العادات، روح المبادرة والإيجابية والرغبة الملحة في العطاء والبذل والنجاح، هذه الروح تعطي الإنسان اليقين الكامل بأن حياته بيده بعد الله وأن له من القدرة القدر الكافي الذي يجعله يتغير نحو الأفضل، وأن كل المشكلات لن تحل ما لم يبادر هو بذاته إلى تغييرها إلى شيء يتمناه، وذلك بنص الآية الكريمة في قوله عز وجل: إن الله لا يغير ما بقوم حتى" يغيروا ما بأنفسهم (الرعد).
2 وثانية هذه العادات، الرؤية الواضحة للنهاية التي يرغب الإنسان في الوصول إليها، وذلك معناه أن يكون للإنسان هدف واضح بكل جزئياته وتفاصيله وأبعاده، بل أيضاً توقُّع وتحسُّب للإمكانات المحتملة والطرق البديلة لكل وسيلة تفشل في تحقيق هذا الهدف، وهذه العادة تساعد الإنسان على تذليل الصعاب وتقليل العقبات.
3 ثمَّ تأتي العادة المهمة الثالثة، وهي عادة تنظيم الوقت، ذلك الوقت الذي هو عمر الحياة، وميدان وجود الإنسان، وكما قيل: الوقت هو الحياة. ونظراً لمكانة الوقت، فقد أقسم المولى عز وجل بالزمن في مختلف أطواره في آيات كثيرة، منها والليل إذا يغشى" (1) والنهار إذا تجلى" (2) (الليل).
والليل إذ أدبر 33 والصبح إذا أسفر 34 (المدثر)، والفجر (1) وليال عشر (2) (الفجر)، والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) (العصر)، وقد كان السلف الصالح، أحرص الناس على الوقت وعلى ملئه بكل نافع ومفيد، فهم في ازدياد دائم يوماً بعد يوم، وفي ذلك قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت على شيء مثل ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي".
وقال الحسن البصري: يابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل".
والإنسان الذي لا يحسن الاستفادة من وقته، لن يكون صاحب أثر وإنجاز في ميدان الحياة، ولن يحسن الإفادة من حياته وعمره.
4 أما العادة الرابعة من عادات النجاح فهي "تحديد الأولويات"، وهي من أهم الأمور التي تساعد الإنسان على تنظيم وقته والاستفادة منه، وتقديم العمل الأهم على العمل المهم.(/1)
5 والعادة الخامسة هي: مهارة الاتصال والتواصل: أي العلاقات العامة والقدرة على كسب الناس، فهي إحدى عادات النجاح المهمة، والتي تصبغ الشخص الناجح بصبغة الدماثة وحسن الخلق، والإنسان كلما كان صاحب علاقات طيبة مع الناس، كان محبوباً، وكلما كان محبوباً كان له حظه من القدرة على التأثير في الناس بما يكفل لهم وضع أقدامهم على طريق النجاح.
6 أما العادة السادسة من عادات النجاح فهي حب الناس، فالشخص الناجح محب للناس، حريص على منفعتهم، يتمنى لهم الخير كما يتمناه لنفسه، وهو يسعى دائماً إلى أن يكون النجاح ديدن كل من حوله، لأنه يعلم أن رقي المجتمع وتطوره من رقي أفراد هذا المجتمع.
وهذه العادات مجتمعة تساعد الناجح على أن يكون محوراً يجتمع حوله الناس ونواة تدور حولها الذرات، ويستطيع هذا الناجح بما وهبه الله من قدرات أن يكوِّن فريقاً من الناس لهم القدرة أيضاً على النجاح، والناجح هو الذي يعلم أنه لن ينجح، ما لم ينتقل من طور الاعتماد على النفس إلى طور التعاون الكامل مع الآخرين عبر إنشاء فرق عمل يتعاون معها على المضي قدماً نحو إنجاز الأهداف والغايات.
7 وآخر هذه العادات: السعي الدائم إلى تجديد الطاقة حتى يعطي الناجح نفسه القدرة على مواصلة نجاحه وإبداعه في الحياة، والسعي نحو تحقيق الأهداف العليا والغايات النبيلة، والسعي من خلال إشباع طاقات الإنسان المختلفة، فطاقة البدن، الرياضة والغذاء السليم، وطاقة العاطفة، العلاقات الطيبة مع الناس، وطاقة العقل، البحث والنظر والقراءة، وطاقة الروح وهي أعظم طاقة على الإطلاق ذكر الله تبارك وتعالى.
ومع هذا المفهوم للنجاح في كونه عادات قابلة للتعلم والتطبيق، أصبح النجاح أمراً من الممكن أن يحققه أي إنسان صاحب إرادة وعزم وتصميم، وقدرة على إدارة الذات والتحكم في رغباتها وأهدافها.(/2)
هل أنت سعيد ؟
سؤال ينبغي أن تطرحه على نفسك.
· قد تكون ذا ثروة كبيرة ولاتكون سعيداً .. إذن السعادة ليست في المال.
· وقد تكون ذا شهرة كبيرة ولا تكون سعيداً .. إذن السعادة ليست في الشهرة.
· وقد تكون ذا أسرة تحبهم ويحبونك ولاتكون سعيداً .. إذن السعادة ليست في الأسرة.
· وقد تكون ذا أسفار وتجوال بين البلدان ولا تكون سعيداً .. إذن السعادة ليست في الاسفار.
· وقد تكون ذا منصب مرموق ومكانة إجتماعية رفيعة ولا تكون سعيداً ..إذن السعادة ليست في المنصب والمكانة.
· وقد تكون كثير الضحك والمزاح ولاتكون سعيداً .. إذن السعادة ليست في ذلك..
· السعادة شئ نفسي عندما نقوم بعمل نبيل ..
· السعادة قوة داخلية تشيع في النفس سكينة وطمأنينة.
· السعادة مدد إلهي يضفي على النفس بهجة واريحية.
· السعادة صفاء قلبي ونقاء وجداني وجمال روحاني .
· السعادة هبة ربانية ، ومنحة إلهية ، يهبها الله من يشاء من عبادة جزاء لهم على أعمال جليلة قابوا بها .
· السعادة شعور عميق بالرضا والقناعة.
· السعادة راحة نفسية.
· السعادة في أن تدخل السرور على قلوب الآخرين، وترسم البسمة على وجوههم ،وتشعر بالارتياح عند تقديم العون لهم وتستمتع باللذة عند الإحسان إليهم.
· السعادة في تعديل التفكير السلبي إلى تفكير إيجابي مثمر .
· السعادة في الواقعية في التعامل وعدم المثالية في النظر إلى الأشياء.
· السعادة القدرة على مواجة الضغوط والتكيف معها من خلال التحكم بالانفعالات والأعصاب والمشاعر.
· السعادة في العلم النافع والعمل الصالح.
· السعادة في ترك الغل والحسد والنظر إلى ما في أيدي الآخرين .
· السعادة في ذكر الله وشكره وحسن عبادته.
· السعادة في الفوز بالجنة والنجاة من النار والتمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم ، قال تعالى : ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خلدين فيها ما دامت السموات والأرض إلاما شاء ربك عطاء غير مجذوذ)
كلمات في السعادة
· السعيد من وعظ بغيره .. والشقي من أتعظ به غيره.
· قوام السعادة في الفضيلة.
· السعادة في ان تحب ما تعمل ، لا ان تعمل ما تحب.
· السعيد من أعتبر بأمسه ، واستظهر لنفسه، والشقي من جمع لغيره ، وبخل على نفسه بخيره.
· السعيد هو المستفيد من ماضيه ، المتحمس لحاضره، المتفائل بمستقبله.
· سعادة الانسان في حفظ اللسان.
· لا سبيل إلى السعادة في الحياة إلا إذا عاش الإنسان فيه حراً طليقاً من قيود الشهوات واسر الغرائز والهوى.
· شديد حبك للطاعة وإقبال قلبك على مولاك ، وحضورك في العبادة دليل على سبق السعادة.
· السعادة لا تشترى بالمال ولكنها تباع به.
· الإقبال على الله تعالى ، والإنابة إليه ، والرضا به وعنه ، وامتلاء القلب من محبته ، والهج بذكره ، والفرح والسرور بمعرفته ، ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البته.
· أكثر الناس يضنون السعادة فيما يتم به شقاؤهم .
· بين الشقاء والسعادة تذكر عواقب الأمور.
عنوان السعادة
· ذكر الإمام ابن القيم أن عنوان سعادة العبد ثلاثة أمور هي:
1-إذا أنعم عليه شكر. 2- إذا ابتلي صبر.
3-إذا أذنب استغفر.
قال (( فإن هذه الأمور الثلاثة هي عنوان سعادة العبد وعلامة فلاحة في دنياه وأخراه ، لاينفك عبد عنها أبداً )).
فوائد السعادة
1- السعادة تمنح الإنسان راحة نفسية وقبولاً ذاتياً.
2- السعادة تدخل على الأسرة السرور والروح والهدوء.
3- السعادة تربي الأولاد على طبيعة الحياة الإيجابية .
4- السعادة تساعد الإنسان على الأهتمام بالأهداف السامية بدلاً من الإنشغال بالنفس والجسد.
5- السعادة تمنح الجسد انسجامية رائعة . مما يجعل اجهزة الجسد المتنوعة تعمل بكفاءة .
6- السعادة تعطي الشخص الفرصة لأن يكون مبدعاً ومخترعاً .
7- السعادة تضفي على المجتمع الفرحة فينسجم وينتج.
الخطوات العملية لتحقيق السعادة
كيف تكون سعيداً؟
يستطيع كل انسان أن يصنع سعادته إذا التزم بقوانين السعادة وطبق خطواتها ، وتكون قوة سعادته بحسب إلتزامه بتلك القوانين ، وضعفها بحسب تفريطه فيها.
· اما خطوات السعادة التي تشكل قوانينها فقد تضمنتها النقاط التالية:
1- آمن بالله تعالى :
فلا سعادة بغير الإيمان بالله تعالى ، بل إن السعادة تزداد وتضعف بحسب هذا الإيمان ، ازداد القلق والاكتئاب والتفكير السلبي مما يؤدي إلى مرارة العيش أو التعاسة في الحياة .
2- آمن بقدرة الله القاهرة :
فمن استشعر هذه القدرة الإلهية العظيمة التي لا حدود لها ، لم تسيطر عليه الأوهام، ولم ترهبه المشكلات ، لان له ركناً وثيقاً يلجاً إليه عند حدوث المحن ومدلهمّات الأمور.
3-آمن بقضاء الله وقدره:
فالإيمان بالقضاء والقدر يبعث على الرضا القلبي والراحة النفسية والسكينة ، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم (( عجباً لأمر المؤمن إن امره كله خير. إن اصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وان اصابته ضراء صبر فكان خيراً له )) رواه مسلم.(/1)
ما اروع هذا الحديث ، وما أعظم دلالاته على السعادة الحقيقة .. الايمان بالقضاء والقدر وهو سبيل السعادة:
· الصبر على البلاء .
· الشكر على النعماء.
· ترك الاعتراض والتسخط على شئ من الأقدار..
كل ذلك يؤدي إلى الراحة والطمأنينة والسعادة.
4- ليكن السعداء قدوتك في الحياة :
وأعني بالسعداء الذين قدموا للبشرية خدمات جليلة مع اتصافهم بالايمان بالله تعالى ، وأول هؤلاء هو محمد بن عبدالله رسول الله صلى الله عليه وسلم فالسعادة كل السعادة في أتباع سبيله ، والشقاء كل الشقاء في مفارقة هداه وترك سنته.
5- تخلص من القلق النفسي:
· القلق يؤدي إلى الحزن والاكتئاب.
· القلق يؤدي إلى الفشل في الحياة.
· القلق يؤدي إلى الجنون.
· القلق يؤدي إلى الامراض الخطيرة.
· حاول اكتشاف أسباب القلق لديك ، ثم عالج كل سبب على حدة.
· ناقش نفسك ومن حولك بهدوء ولا تلجاً إلى الانفعال.
· استثمر قلقك في التفوق الدائم والسعي نحو الأهداف النبيلة.
· ليكن قلقك فعالاً في علاج مشكلاتك.
· كن بسيطاً ولا تلجاً إلى تعقيد الأمور.
6- أعرف طبيعة الحياة :
لا بد في الحياة من كدر ، ولا بد من منغصات ، ولا بد فيها من توتر وابتلاء ، فهذه الامور من حكم الله سبحانه في الخلق ، لينظر أينّا احسن عملاً ، فالواجب أن نعرف طبيعة الحياة ونتقبلها عل ماهي عليه، ولا يمنع ذلك من دفع الاقدار بالاقدار ، ومقاومة المكارة بما يذهبها، فإن معرفة طبيعة الحياة لايعني سيطرة روح اليأس ، بل عكس ذلك هو الصحيح.
7-غير عادتك السلبية إلى أخرى ايجابية :
يقول الدكتور احمد البراء الاميري (( إن اكتساب عادة عقلية ( ذهنية أو نفسية ) جديدة ليس أمراً صعباً ، فهو يتطلب (21) يوماً . في هذه الأيام الإحدى والعشرين علينا أن :
1- نفكر.
2- ونتحدث.
3- ونتصرف وفق ماتمليه علينا العادة الجديدة المطلوبة .
4- وأن نتصور ونتخيل بوضوح تام كيف نريد أ نكون.
اذا فكرت بنفسك وكأنك صرت بالشكل المطلوب ، فإن هذا التصور يتحول إلى حقيقة بالتدريج، وإلى هذا يشير المثل القائل : الحلم بالتحلم ، والعلم بالتعلم ، . دروس نفسية للنجاح والتفوق.
8- سعادتك في أهدافك:
إن سبب شقاء كثير من الناس هو عدم وجود أهداف يسعون إلى تحقيقها ، وقد تكون لهم أهداف ولكنها ليست نبيلة أو سامية ، ولذلك فإنهم لا يشعرون بالسعادة في تحقيقها ، أما الذي يحقق السعادة فهو الهدف النبيل ، والغاية السامية إن الأهداف العظيمة تتيح للفرد أن يتجاوز العقبات التي تعترض طريقة ، ويستطيع من خلال ذلك أن ينتج في وقت قصير ما ينتجه غيره في وقت كبير جداً ، فالمرء بلا هدف إنسان ضائع . فهل نتصور قائد طائرة يقلع وليس عنده مكان يريد الوصول إليه، ولا خارطة توصله إلى ذلك المكان؟ ربما ينفذ وقوده، وتهوى طائرته وهو يفكر إلى اين سيذهب ، وأين المخطط الذي يوصله إلى وجهته! دروس نفسية.
9- خفف ألامك:
لاشك أن الإنسان معرض للنكبات والمصائب ، ولكنه لا ينبغي أن يتصور أن ذلك هو نهاية الحياة ، وأنه الوحيد الذي ابتلى بتلك المصائب ، بل عليه أن يخففها ويهونها على نفسه عن طريق:
أ- تصور كون المصيبة أكبر مما كانت عليه وأسوأ عاقبة .
ب-تأمل حال من مصيبته أعظم وأشد.
ج- أنظر ما أنت فيه من نعم وخير حرم منه الكثيرون.
د- لا تستسلم للإحباط الذي قد يصحب المصيبة.
10- لا تنتظر الأخبار السيئة :
إذا فكرت باستمرار في البؤس ، فإن خوفك يعمل بشكل مساوٍ لرغبتك ، ويجذب إليك المصيبة ، وتصبح أسباب هذه المصيبة قريبة منك بسبب خوفك وتشاؤمك. ومن الطبيعي أن يشتد قلقك فيستدعي مصيبة جديدة ، وهكذا تدور في حلقة مفرغة من التفكير السلبي بالمصائب وتوقع الأخبار السييئة.
· إنك عندما تذكر نفسك بأن الحياة قصيرة ، وأن الأمور تتغير بسرعة فسوف تجد قدراً كبيراً من النور في حياتك.
11- انظر حولك:
إذا نظرت في نفسك فسوف تجد أشياء كثيرة تستحق الامتنان ، وكذلك إذا نظرت في الأشياء المحيطة بك.
إننا جميعاً معتادون على أن لنا بيتاً نأوي إليه ، وعملاً نزاوله، وأسرة تحيط بنا ، ولذلك لا نشعر في الغالب بالسعادة تجاهها، ولكننا إذا تذكرنا زوال هذه الأشياء وحرماننا منها ، فإن ذلك قد يكون سبباً للشعور بالسعادة بها.
12- لا تجعل الأشياء العادية تكدر عليك حياتك:
بعض الناس يتكدرون من حدوث أشياء بسيطة تحدث كل يوم ولا تستحقكل هذا العناء ، فينتابهم التوتر والحزن الشديد بسبب كوب كسر أو جهاز تعطل، أو ثوب تمزق أو غير ذلك من الأشياء العادية ، والواجب أن يتقبل الإنسان هذه الأمور العادية ولا يجعلها تصيبه بالإحباط أو تكدير الحال.
13- اعلم أن السعادة في ذاتك فلماذا تسافر في طلبها:
كل انسان يملك قوى السعادة وقوانينها ، ولكن أغلب الناس لا يرون ذلك، لأنهم لا ينظرون إلى أنفسهم ، بل ينظرون إلى الآخرين.
حكاية حقل الألماس(/2)
هي حكاية مشهورة عن مزارع ناجح عمل في مزرعته بج ونشاط إلى أن تقدم به العمر ، وذا يوم سمع هذا المزارع أن بعض الناس يسافرون بحثاً عن الألماس ، والذي يجده منهم يصبح غنياً جداً ، فتحمس للفكرة ، وباع حقله وانطلق باحثاً عن الألماس .
ظل الرجل ثلاثة عشر عاماً يبحث عن الألماس فلم يجد شيئاً حتى أدركه اليأس ولم يحقق حلمه، فما كان منه إلا أن ألقى نفسه في البحر ليكون طعاماً للأسماك.
غير أن المزاع الجديد الذي كان قد اشترى حقل صاحبنا ، بينما كان يعمل في الحقل وجد شيئاً يلمع ، ولما التقطه فإذا هو قطعه صغيرة من الألماس ، فتحمس وبدأ يحفر وينقب بجد واجتهاد ، فوجد ثانية وثالثة ، ويا للمفاجأة ! فقد كان تحت هذا الحقل منجم ألماس..
ومغزى هذه القصة ان السعادة قد تكون قريبة منك ، ومع ذلك فأنت لا تراها ، وتذهب تبحث عنها بعيداً بعيداً .
14-كن كالنحلة في نفع غيرك:
إن السعداء هم أخلق الناس بنفع الناس، فالشخص الذي افتقد السعادة يجد الرضا دائماً في إشعاره غيره من الناس بأنهم تعساء . أما الرجل السعيد المستمتع بحياته فتزداد متعته كلما شاركه فيها الناس ، وسواء كان سبب سرورك لا يكتمل حتى تنقل هذا الخب لغيرك من الناس، أو تصحب غيرك لتأمل معك المشهد الخلاب.
15-ثق بقدرتك على التخلص من المشاكل:
إن افكارنا هي التي تلد كل شئ ، وليس للحوادث من أهمية إلا في الحدود التي نسمح لها أن تغرس فينا أفكاراً سلبية مدمرة ، فثق بقدرتك.
إن الناجحين يحتفظون في الأزمات والصعوبات بأمل زاهر لا يتزعزع ، وهذا الأمل هو سبب معاودة النجاح.
تخيل عالمك الداخلي كحقل تنبت في كل فكرة من افكارك. راقب العواطف والأفكار التي تعتلج في نفسك وتساءل : ماهي الثمرة التي تعطيها هذه الفكرة ؟ فإذا كانت الثمار من النوع الذي لا تريد اقتطافه فما عليك إلا أن تنتزع البذرة الصغيرة دون خوف، وتضع مكانها بذرة صالحة .
16- تغلب على الخوف السلبي :
إن الهواجس والإخفاق والشقاء والأمراض تولد غالباً من الخوف، وإذا اردت السلامة والنجاح والسعادة والصحة ، فيجب عليك أن تكافح الخوف كمن حكى الله تعالى عنهم في قوله ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل (137) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) ال عمران :173، 174.
17- لا تعتقد أن مرضك مزمن ، وأن آلامك لا تنقطع أبداً ، فما من شئ يبقى في هذا العالم دون تجدد . إنك تستطيع بقدرة تفكيرك المبدع أن تتجدد وتحيا حياة جديدة.
18- لا تكن بائساً :
إذا اتفق الناس من حولك على أنك تحمل بلادة جدك مثلاً ، وأنك لن تنجح ، وانك لن تنجح في الحياة ، ولن تكون محبوباً فارفض هذا الزعم بشدة ، واحذر من ثقل ماضٍ ليس هو ماضيك، واغرس في نفسك الصفات المعاكسة للعيوب التي يريدون إرهاقك بها .
19- عليك ان توقف كل تفكير سلبي ، وكل تأكيد لبؤسك الحالي. أنكر الملموس وأكد الأمل ، والنجاح ، والصحة ، والسرور ، إنها هناك من وراء الباب الذي أغلقه رفضك الإيمان بها ، وهي لا تنظر سوى ندائك لتظهر نفسها.
20- احذر من تفكيرك أو كلامك ، فهو يحميك أو يعرضك للخطر:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت ، فيكتب الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة )) رواه احمد والترمذي والنسائي وصححه الالباني.
جعلنا الله واياكم من سعداء الدنيا والآخرة وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.
***(/3)
هل أنت شيطان أخرس؟
كتبه الشيخ عبد القادر الخطيب الحسني
يشكك كثير من المشتغلين بالعلم والدعوة في الإسلام فضلاً عن جمهور الناس ، في جدوى النقد العلمي وفائدته ، ويرى بعضهم أن عمل الناقد تطفّلٌ على الإبداع وميادينه بدلاً من أن يأتي بشيء جديد ينبثق عن فكر ثاقب وعلم واسع .
ويرى آخرون أن الطريق الأمثل لتصحيح الفكر مما يمكن أن يكون قد استولى عليه من الآراء الساقطة والأفكار الباطلة هو أن يدلي الناقد بدلوه في الموضوع الذي يرى ضرورة نقده وتزييف الباطل الذي بثه غيره فيه من الكتّاب والخطباء والشّعراء والمحاضرين والمدرسين عمداً كان ذلك أم سهواً من غير تعرضٍ للفكرة الباطلة وقائلها والبرهان على خطئه أو ضلاله فيها ، وذلك بناءً على أن الباطل لا يثبت أمام الحق ، وأن الصواب يرفع الخطأ على حدّ قوله تعالى : (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً) [الإسراء: 81]
ويعتقد عدد من أصحاب هذا المبدأ الفكرة القائلة بأن الناقد الذي يتعرض لتزييف الأقوال وتخطئة قائليها صراحة أو إشارة إنما يشارك في حقيقة الأمر في بث الفكرة التي ينقدها ، وتبليغها لمن لم يسمع بها عن طريق الإثارة والشهرة وهذان هما العامل الأكبر في انتشار أي رأي لدى سواد الناس ، وأحياناً عن طريق حفظ القول الباطل على مدى السنين المتعاقبة ، وربما العقود والقرون عندما تنقرض الأفكار الضالة ومعتنقوها وما خطته أقلامهم للإعراب عن حقيقة المبدأ الذي يروّجون له ، وتبقى الكتب التي تعرضت لتلك الأقوال بالنقد والتجريح مصدراً محفوظاً لها ، إذ لابد مع التعرض لنقد أيّ قول من ذكره وبيانه أولاً ، وذكر حجج قائليه وردهم على مخالفيهم ثانياً ، ومن الأمثلة على ذلك كثير من المقالات التي صرحت بها بعض الفرق الإسلامية وردّ عليها المتكلمون وفنّدوا حججها وشبهها وذكروا ذلك في كتب العقائد والكلام ، التي ما يزال كثير منها يدرس حتى الآن بعد مئات السنين من انقراض أصحاب تلك الأقوال .
وإن الناظر في كلام هذا الفريق يدرك وجه الحجة في طرف من كلامهم ، ولكننا عند التحقيق في المسألة من جميع وجوهها لا نستطيع أن نذهب معهم في إهمال أهمية النقد جملة ، والتغاضي عن فوائده الكثيرة بل ضرورته أحياناً .
ولابد للوقوف على جليِّة الموضوع من تعريف النقد وتحليله ، وبيان فوائده وما يمكن أن يترتب عليه من أضرار ، ثم معرفة أمثل السبل في استخدام النقد عند الحاجة إليه .
فالنقد في اللغة هو الاختبار والتمييز، ونقَدَ الدراهم والدنانير ميّز جيدها من رديئها .
والنقد المراد هنا : عمل فكري إبداعي الغرضُ منه تمييز صحيح الأقوال والأفكار وجيّدها من باطلها ورديئها بذكر الحجج والبراهين على كلٍّ ، مع الرد على الشبهات والإشكالات بما يجعل المتلقي ـ سامعاً كان أو قارئاً ـ يقنع بما يذكره الناقد ويطمئن إليه .
وهو ينقسم إلى قسمين نقد في الشكل والأسلوب ونقد في المعنى والموضوع . ويتضح لنا من هذا التعريف ما يلي :
1 ـ النقد عمل إبداعي وليس تطفّلاً على الإبداع وأهله ، لأنه عمل قائم على أصول لابد من مراعاتها ، وله هدف يسعى للوصول إليه بطرق معينة ، ولما كان السالكون لهذه المقاصد يتفاوتون فيها بين محسن بلغ الغاية ومقصِّر لم يجاوز العتبة ، كان النقد إبداعاً يتمايز فيه الناقدون ، وعملاً مستقلاً ومنحىً من مناحي الفكر والعلم .
2 ـ النقد المراد ليس عملاً مقصوداً لذاته ، بل هو مقصود لغيره ووسيلة لتمييز الجيد من الرديء ، والحق من الباطل .
3 ـ يجب التمييز بين النقد الفكري العلمي ـ وخاصة فيما يتعلق بعلوم الإسلام وعقائده ـ وبين النقد الأدبي القائم على التمييز بين الأعمال الأدبية لإدراك ما فيها من مكامن الجمال ورائع الخيال أو ضعف الحس الجمالي والذوق الفني .
4 ـ إن النقد ليس عبارة عن مجرد نسبة القول أو الفكرة إلى الخطأ ، بل هو عملية دقيقة من الموازنة بين القولين الراجح والمرجوح ، وذكر أدلة القول الراجح ووجه دلالتها ، وكشف شبه القول المرجوح وبيان وجه ضعفها ، مع التركيز على مواقع اللبس في الموضوع ومن أين يُخشى أن يتطرَّق الزلل إلى السامع أو القارئ على اختلاف البيئات وتنوعها مكاناً وزماناً وأحوالاً .
5 ـ إن الغاية الكبرى في النقد الإسلامي هي الهداية والإيصال إلى الحق في كل مسألة بدءاً من المنقود صاحب المقالة الباطلة وصولاً إلى جمهور الناس ممن يمكن أن تجد المسألة هوى في نفسه فيعتنقها وهو يظن أنها الحق . وبهذه المعايير للنقد في الفكر الإسلامي نفهم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : ( يحمل هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عدولُه ينفون عنه تحريف الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويل الجاهلين ) [الخطيب البغدادي بسند حسن] .
ونتوصل إلى قاعدة كليّة في العلوم الإسلامية وهي أن النقد الإسلامي هو السياج الذي يكفل حفظ العلم وسلامة الفكر في كل جيل ، وأنه كما ورد في البيان النبوي يتركز في ثلاثة محاور :(/1)
الأول : تزييف التحريف، وتحريف الكلام هو تغييره وصرفه عن معانيه، وغالباً ما يكون عمداً من المحرّف، ولذلك وصف المحرّفون في الحديث بأنهم غالون أي بعيدون في الضلال والانحراف .
الثاني: إبطال الانتحال، وانتحال القول أن يدعيه المرء لنفسه وهو لغيره، أو نسبة القول لغير قائله، وهو ضرب من الكذب في الرواية تنتج عنه نتائج خطيرة قد لا يتفطّن لها بادي الرأي.
الثالث: التبيين لتأويل الجاهلين ، والتأويل هنا هو التفسير ومعرفة المراد من النصوص، وعندما يتولاّه من لا يعلمه فلابد أن يخطئ فيه لجهله ، فإنه إن أصاب الحق اتفاقاً ـ وهذا نادر ـ نسب إلى الخطأ فكيف إذا لم يصب الحق ، وهذا الخطأ راجع إلى جهة الدلالة والفهم .
وبهذا نعلم حقاً مشروعية النقد الإسلامي وتحصينه للعلم ، بل وجوب القيام به على الكفاية في كل عصر تحقيقاً للأهداف السابقة بكل إخلاص وتجرد كما هو شأن أي عمل مقبول في الإسلام ، وأنه قد يكون نقداً لخطأ في الاجتهاد ، أو رداً على ضلالة ناتجة عن كذب أو تحريف ، وقد يسمى نقضاً إذا أريد إبطال الكلام كله أصولاً وفروعاً.
وأما ما يراه البعض من أن ذكر الحق المجرد يكفي لرفع الباطل ودفعه، ولا حاجة لتفصيل الرد على الفكرة الباطلة وقائلها ، فهذا صحيح في بعض المواقف ولكن ليس على إطلاقه ، ففي مواقف أخرى كثيرة أيضاً يكون الأمر محتاجاً لنوع خاص من العناية بتقرير الدليل ورفع الشبه المختلفة التي لبَّس بها من روّج للفكرة الباطلة ، وقد يكون هذا التلبيس شديداً بحيث يظن معتنقة أن الحق لا يتعدّاه فاحتاج إلى النقد المفصَّل لإزاحة الشبه وتخلية القلب مما علق به ، ثم بناء الفكرة الصحيحة بأدلتها وهذا يحتاج فن عالٍ من الناقد وذوق في الرد والاستدلال والنقض والبناء ، والحق في الآية عام لا يقتصر على الحق المجرد ، بل إن النقد مع الاستدلال نوع من الحق الذي لا يثبت الباطل أمامه ، بل هو الأولى أن يزهق الباطل أمامه لأنه مدعّم بالحجة والبرهان مع إزاحة الشبه ، وقد خوطب به من التبس عليه الأمر بما يناسبه من إقامة الحجة وفهمها فكان أدعى للظهور .
وأما ما ذكروه من أن النقد قد يكون سبباً لشهرة القول وبلوغه من لم يسمعه فهذا قد يكون صحيحاً أحياناً عندما يكون القول الفاسد لم ينتشر بعد ولم يسمع به السواد من الناس ، فعلى الناقد في هذه الحالة أن لا ينشر نقده لئلا ينتشر بنشره القول المردود عليه ، بل يكتفي بالرد بحسب الحاجة لخصوص من يهمهم ذلك ، أو يعلم أنهم متأثرون به ، ولكنه في أحوال كثيرة يكون القول الباطل قد انتشر وفشا ، ولا يخاف من نقده حصول انتشاره ، والقعود عن الرد والنقد ـ والحالة هذه ـ من النقائص الكبرى والمخالفات العظمى في حفظ الحق ومعالمه وأداء الأمانة للخلف عن السلف .
وإن من تلبيس الشيطان على كثير من علماء المسلمين ما انتهوا إليه من القعود عن الرد على الأقوال الباطلة التي تقرع آذان عموم الناس صباحَ مساء ، بحجة أن ذلك فيه نشر للقول وتعريف به ، ونسي أكثرهم العصر الذي يعيش فيه وما تطلع به الحضارة المادّية على الناس في كل يوم من فنون الاتصالات التي سبقت الخيال ، هذا مع ما في هذا الاتجاه من إرضاء لميول النفس من الكسل والدعة والاكتفاء بالنقد السطحي الساذج بدل التعَب والتفتيش عن الحجج والبراهين، مما استغله أهل الباطل جاعلين ذلك من جملة أدلتهم على باطلهم بأنه لم يظهر ردٌّ عليه يحاكيه ويناسبه. وكثيراً ما سمعنا ونسمع عن أشخاص تأثروا ببعض الأباطيل ولما روجعوا في ذلك قالوا: لم نجد بعد البحث والتفتيش ردّاً محكماً على ما نعتقد .
أما قضية حفظ القول من الانقراض فهو أمر من عالم الغيب لا سلطان لأحد عليه ولا تكليف ، بل نحن مكلَّفون بما يكون في عصرنا لإزاحة الشبه ورد الأباطيل ونصيحة الأمة ، وهذا لا يترك لاحتمال حفظ الأقوال ضمن كتب الردود، وقد حكى الله تعالى لنا في القرآن بعض المقالات الباطلة وردّ على قائليها ، وإن الضلالات والأباطيل تتشابه وإن اختلفت الأقوال والأشكال في العصور المختلفة ، ومن هنا نفهم ما جرى عليه علماء الأمة من الرد على جميع الضلالات واستفراغ الوسع في ذلك في جميع العلوم ، حتى حصل من كتب الردود ما لا يحصى، وما ثَمَّ شبهةٌ أو ضلالة قيلت إلا وُردَّ عليها، بل إنهم كتبوا في نقد الأقوال المرجوحة عندهم وإن لم توصف بالضلال رائدهم في ذلك قول الإمام مالك رحمه الله: ما منا إلا من ردّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم .(/2)
وفي عصرنا هذا تتأكد أهمية النقد وضرورته لكثرة الأخطاء والأباطيل المحيطة بالفكر من كل جهة ، حتى إن الناظر ليحار من أين ينهل ويستقي بعد أن تكدّرت المشارب واختلط الحابل بالنابل ، واتسع الخرق على الراقع ، وأصاب الحركة العلمية والفكرية والأدبية جمود عجيب قاتل ، فقد كان يقال: مَنْ ألّف فقد استَهْدَف ـ أي صار هدفاً للناقدين ـ واليومَ غاب النقد والبحث بل غابت القراءة والتأمل، وصرنا نرى المجلّدات العديدة تطبع وتنشر، ويعاد طبعها لتملأ رفوف الخزائن وتدرّ الأرباح على ممتهني التأليف والتحقيق والطباعة والنشر من غير خوف ولا وجل. فهل من حسبة علمية يتولاها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فما بدّلوا وما كتموا .
رجالٌ : عرفوا الحق فعرفوا أهله ، لا عصمة عندهم لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رجالٌ : لا تأخذهم في الله لومة لائم ، لأنهم يرجون ما عند الله لا ما عند الناس .
رجالٌ: لا يريد واحدهم أن يكون من الشياطين الخُرْس وما أكثرهم(/3)
هل أنت فتاة جميلة ؟
جمال الشكل والصورة هل أنت فتاة جميلة؟ ..[1]
من هي الفتاة الجميلة؟
وما معنى الجمال؟
لا شك أن قضية الجمال تحتل المقام الأول في عقل وقلب الفتاة في هذه المرحلة العمرية من حياتها, وخاصة بعدما حدث لها من طفرات وتغيرات في شكل جسمها وأيضًا في فكرها وروحها.
وكثير من الفتيات تسأل أمها هذا السؤال: هل أنا جميلة ؟ ما رأيك في شكلي ؟ أنا أجمل أم فلانة من أفراد العائلة أو الأصدقاء ؟
ونظرًا لأهمية موضوع الجمال عند الفتاة أقول: إن الجمال ليس جمال الشكل والملامح والصورة فقط, بل إن للجمال أشكالاً أخرى نطرحها في هذا الملف وهي:
1ـ جمال الشكل والصورة.
2ـ جمال العقل.
3ـ جمال التدين والأخلاق.
[1] جمال الشكل والصورة:
أنا لست جميلة
قالت إحدى الفتيات: أنا فتاة أبلغ من العمر 18 عامًا, أشكو من أنني لست جميلة ولا أمت للجمال بصلة, أعرف أنها خلقة ربي, ولكن نفسيتي سيئة, ليس اعتراضًا على قدر الله، ولكن هذا السبب لم يجعلني أعيش حياتي كما يجب, أحس أني 'ناقصة' أمام الأخريات من الفتيات، وبالرغم من أن هناك فتيات لسن جميلات لكني أرى حياتهن طبيعية، قد لا أفهم شعورهن، أو أن هناك أشياءً تعوض نقص الجمال عندهن، أفكر كثيرًا في عمليات تجميل أقوم بها، ولكن أعلم أن أهلي لن يوافقوا انتهى كلامها.
لسنا بصدد حل لهذه المشكلة في المقام الأول وإن كان هذا هو أحد أدوار نافذتنا ولكننا هنا بصدد توضيح بعض المفاهيم والأفكار الأساسية، فقد يظن البعض أن الجميلة هي ذات العيون الخضراء والشعر الأصفر والملامح الصغيرة الوسيمة والبشرة البيضاء، ومن لا تملك هذه الصفات فهي ليست جميلة.
ونحن نقول: ليست كل صاحبة وجه جميل جميلة، فالجمال لا تحكمه الملامح الخارجية للجسد فالشكل ما هو إلا إطار, أما الصورة الحقيقية فهي في أعماق ونفس وسلوك صاحبة الإطار.
لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ:
هذه الآية تشير أن للإنسان شأنًا عند الله، ووزنًا في نظام هذا الوجود، وتتجلى هذه العناية في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق, سواء في تكوينه الجسماني البالغ الدقة والتعقيد أو في تكوينه العقلي الفريد، أو في تكوينه الروحي العجيب.
وحين تتولى اليد الكريمة الإلهية هذه الصفة فأي جمال تكون عليه ؟ وأي بهاء تلبسه ؟ وأي صورة تكون عليها ؟ لقد كانت صورتك أيها الإنسان بهية كل البهاء وحسنة كل الحسن، وكانت وما زالت جميلة أيما جمال أي صورة هذه التي جعلت وجه الإنسان بهذا القبول الآسر ؟ وهذا الاتساق الباهر ؟
فالعينان مثلاً معجزة الجمال في الشكل والحجم واللون وحتى المكان أكان مقبولاً لو وضعت مكان الأنف أو الفم فهبطتا، أو مكان الجبهة أو الناصية فصعدتا, أو تدحرجتا يمنة أو يسرة.. أو تلاصقتا أو تباعدتا, أو خلق الله لك واحدة ؟ أو لم يجعل لهما حاجبين.. أو غارتا أو برزتا, أكنت مقبولاً آنئذ أم كنت خلقًا آخر؟
إنه المكان الوحيد المناسب، وإنها الهيئة الفريدة التي لا بديل لها، وقس على ذلك بقية الحواس, ثم تأمل هذا الوجه وما حفل به من تناسق محكم واتساق بديع وتأمل معي قوله تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] فكانت هذه الصورة السوية التي اختارها الله قد صنعها بيده وركبها بقدرته فكانت جميلة فاتنة، والله قصد الجمال والحسن في كل شيء خلقه وخاصة صورة الإنسان يقول تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 7].
لقد خرجت صورة الإنسان في أحسن تقويم، وهذا اللفظ معجز والمعنى عميق، فكانت الصورة في أحسن وأجمل هيئة، فليس بعد هذه الصورة الجميلة جمال، وليس بعد هذا الشكل المبدع إبداع لقد كانت الصورة في أحسن تقويم فلا تقدر قوى البشر جميعًا على تغييرها، فإن حاولت كما تحاول الآن بعمليات التجميل فتقوم بتصغير هذا العضو أو تكبير ذاك الآخر، فإن الصورة مهما بدت متناسقة ستكون ممسوخة باهتة, وستفقد تقويمها الأول, وحينها سيذهب الجمال, هذا الجمال لا تدرك كنهه أحيانًا، ولا نقدر معرفة أسراره أحايين أخرى.
جمال مزيف:
تنظر الفتاة الآن بعين مبهورة للفتاة المعروضة على الشاشة، على أنها رمز الجمال والأناقة والرشاقة وهذه هي الجميلة حقًا.. ونسيت المخدوعة المسكينة أن هذا الجمال المشاهد هو جمال مزيف مغشوش جمال تجاري مصنوع؛ فالفتاة التي تظهر على الشاشة عارضة أزياء أو ممثلة أو عارضة لمنتج تظل ساعات طويلة أمام المرآة قد تصل إلى 12 ساعة لتبدو بهذا الشكل, وماذا يفيد هذا الشكل الجميل الممسوخ إن لم يكن لجمال الروح وجمال الخلق والدين وجود ؟! يقول الشاعر:
جمال الوجه مع قبح النفوس كقنديل على قبر المجوس(/1)
ونحن لسنا ضد الجمال الشكلي, فجمال الشكل مرغوب كما ذكره لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف عند اختيار الزوجة: 'تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها, فاظفر بذات الدين تربت يداك'. متفق عليه.
ولكن أن نجعل جمال الشكل يأخذ كل اهتمامنا وننسى جمال النفس والروح والخلق والدين فهذا هو المرفوض يقول الشاعر:
ليس الجمال بأثواب تزيننا إن الجمال جمال العلم والأدب
إذن من هي الفتاة الجميلة؟
هي كل فتاة توازن بين جمال شكلها وجمال أخلاقها ودينها وروحها؟
أحيانًا الحسن تعاسة!!
فكم من فتاة جميلة لا يحبها الناس ولا يرغبون في معرفتها لأنها قد تكون مغرورة بهذا الجمال، بل قد يكون الجمال نقمة كبيرة على صاحبته، ولكم سمعنا أن هناك من طلقت وفشلت حياتها الزوجية بسبب غرورها بجمالها, وهنا نتأمل معا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: 'لا تزوجوا النساء لحسنهن, فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزجوهن لأموالهم, فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين, لأمة خرقاء ذات دين أفضل' وكلنا يعرف زوجة أبي ذر الغفاري وكانت سوداء ليست جميلة وكم كان يحبها زوجها كثيرًا لتدينها وأخلاقها وصفاتها الشخصية الرائعة.
وفي الختام نقول للفتاة:
اعتني بجمال شكلك, فإن الله جميل يحب الجمال، ولكن لا تهملي أيضًا مع جمال الشكل جمال الروح والدين, ليتكامل جمال الشكل مع جمال الروح والدين, وهذا هو الجمال الحقيقي للفتاة.
وأقول لكل فتاة عادية أو متوسطة الجمال أو قليلة الجمال الشكلي: أنت جميلة مهما كان شكلك, لأن الذي خلقك وصورك على هذه الصورة هو الله, والله تعالى يحبك، فقط ثقي بنفسك وكوني مؤمنة بالله وبقدر الله, وترنمي معي قول القائل: كم من حسن في الخُلُق, غطى عيبًا في الخَلْق.
وأقول لمن آتاها الله جمالاً في الشكل: لا تغتري بجمالك, فإن رأس الجهل الاغترار, وقولي لنفسك: لن أغتر بجمالي فهو منحة ربانية لم أصنعها بنفسي لنفسي, بل سأدعو الله أن يحسن خُلُقي كما حسن خَلْقي, وسأحافظ عليه كما أمرت حتى لا يكون نقمة عليّ.
جمال العقل .. هل أنت فتاة جميلة؟ [2]
الناظر إلى واقع الفتاة يجد أنها محصورة في جميع الأعين على أنها الفتاة الجميلة الرشيقة ذات الملبس الأنيق والعطر الفواح والشعر الملون العجيب... إلخ.
أي أن الجميع ينظر إليها كجسد فقط، فإذا ما تكلمت أو عبرت عن رأيها وجدنا العجب العجاب, جسد بلا روح، جسد بلا عقل، والإنسان جسد وعقل, يقول الشاعر:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
والمرء بأصغريه قلبه ولسانه كما يُقال، أي بعقله وتفكيره ومنطقه.
ومن هذا المنطلق نقول:
إن العقل الراجح والعلم والذكاء لدى الفتاة هي من صفات الجمال فيها.
أليست من تفشل في دراستها قبيحة وإن كانت جميلة الشكل؟
ألا يصف الناس صاحب التفكير الخاطئ أو التافه بأنه أحمق, والحمق هو القبح, والقبح عكس الجمال.
إن التفكير السليم ووضع الأمور في نصابها من الجمال وهو من الرزق الذي يسوقه الله إلى العبد، وهي الحكمة التي تجعل الإنسان يضع الأمور في نصابها الحقيقي، وقد امتن الله على أصحاب العقول وأولي الألباب، ووصف أصحاب الفهم الصحيح بأنهم أصحاب العقول والنهى، فقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}.
شبهة يجب ردها:
قد يفهم البعض من حديث رسولنا الكريم: 'ناقصات عقل ودين' أن المرأة ناقصة في العقل والإدراك والتفكير والعلم عن الجنس الآخر 'الرجل'، وهذا ليس صحيحًا.
إن هذا الخطاب موجه للنساء المسلمات, وهو يتعلق بأحكام إسلامية هي الشهادة والصلاة والصوم.
فهل يا ترى لو أن امرأة كافرة ذكية أسلمت فهل تصير ناقصة عقل بدخولها الإسلام؟
فما نقصان العقل والدين إذن؟
سؤال وجهته واحدة من النساء للرسول فكان جوابه:
أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد.
وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين.
وقد جعل الله ذلك فيما يخص المرأة لحكمة بالغة لأنه خالقها وهو أعلم بها.
أما في غير ذلك من أحكام الشرع فهي والرجل سواء، فهي مكلفة كالرجل في العمل ومتساوية معه في الأجر، فالله تعالى يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].(/2)
وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 34].
فهي مثل الرجال في الأعمال الصالحة وفي الأجور والجزاء في الدنيا والآخرة.
وفي الحديث يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: 'طلب العلم فريضة على كل مسلم'.
فهو يشمل الرجل والمرأة على السواء.
العناية بصحة عقل الفتاة:
على الوالدين الاعتناء بصحة عقل الفتاة حتى تتمتع بتفكير سليم وذاكرة قوية، وذهن صافٍ، وعقل ناضج، وذلك بتجنيبها المفاسد المنتشرة في المجتمع لما لها من تأثير على العقل والذاكرة والجسم الإنساني بشكل عام، ومن هذه المفاسد التي تؤثر على العقل والذاكرة وتخمل الذهن:
تناول الخمور والمخدرات بشتى أنواعها، التدخين، الإثارات الجنسية كمشاهدة الأفلام الخليعة والصور الفاضحة, فإنها تعطل وظيفة العقل، وتسبب شرود الذهن، وتقضي على ملكة الاستذكار والتركيز الذهني، فضلاً عن الإلهاء وإضاعة الوقت.
ومما يساعد على نمو عقل الفتاة:
1ـ التغذية السليمة.
2ـ تجنب القلق والصراع النفسي والتشتت الذهني والمشكلات العائلية والنفسية الأخرى, حيث إن هذه الأمور من العوائق الشديدة أمام فاعلية الذكاء ونشاطه وتركيزه، كما أنها من الأسباب التي تعوق نمو عقل الفتاة نموًا سليمًا، بالإضافة إلى هذا فإنها ترهق العقل، وتبدد حيويته ونشاطه.
جمال العقل عند هؤلاء:
السيدة خديجة بنت خويلد:
من قرأ السيرة ونسي من أحداثها ما نسي, فإنه لن ينسى قصة نزول الوحي الأول على الرسول صلى الله عليه وسلم, فوجد لدى السيدة خديجة ما يذهب روعه ويسكن نفسه، كلماتها المشهورة ترن في قلبي صداها: 'والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق'.
تذكره فضائله وتفتح له أبواب الأمل بالخير وتبشره، ثم تكون أول من يؤمن به على الإطلاق.
قال ابن إسحاق: 'فخفف الله بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان لا يسمع شيئًا يكرهه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس'.
وقد أمر جبريل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
لقد كانت امرأة حازمة عاقلة، لم تكن تظن أنها ستكون خير نساء الأرض، أحبها الرسول حبًا عظيمًا بالرغم من كبر سنها 'أليست هذه المرأة جميلة بالرغم من كبر سنها؟ بلى إنها جميلة بعقلها.
امرأة تحدت الجبروت:
مدح الله امرأة فرعون فكان ذكرها في القرآن إلى قيام الساعة حيث قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
ما أعقل هذه المرأة! حيث إنها طلبت جوار الرب الكريم، فقدمت الجار قبل الدار، وخرجت من طاعة المجرم الطاغية فرعون، ورفضت العيش في قصره وزخارفه، وطلبت دارًا أبقى وأحسن وأجمل في جوار رب العالمين، أليست هذه امرأة جميلة بعقلها، فكانت لها إرادة واختيار وأحسنت الاختيار.
أسماء بنت يزيد الأنصارية:
ذهبت وافدة النساء إلى الرسول تطلب مشاركة النساء مع الرجال في الأجر، حتى قال الرسول لأصحابه: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟
فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن المرأة تهتدي إلى مثل هذا.
أليست هذه امرأة جميلة عاقلة تفكر فيما يصلح به أمر دينها ودنياها.
السيدة عائشة:
إن العلم يزيد من جمال عقل الفتاة ويضفي على شخصيتها تألقًا ونموًا، ومن النساء من نبغ في العلم نبوغًا لم يسبق له مثيل كالسيدة عائشة أم المؤمنين فقد كانت المرجع الأول في الحديث والسنة المطهرة والفقيهة الأولى في الإسلام، وهي في ريعان الشباب لم يتعد عمرها التاسعة عشرة.
قال هشام عن عروة بن الزبير: 'ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة'.
درة سعيد بن المسيب
وهذه ابنة سعيد بن المسيب كانت من أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله وأعلمهم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم, عندما تزوجت عبد الله بن وداعة تلميذ أبيها نهض في الصباح يريد الخروج فقالت له زوجته: إلى أين؟
قال: إلى مجلس أبيك سعيد بن المسيب أتعلم العلم, فقالت له: اجلس أعلمك علم سعيد. فمكث شهرًا لا يحضر حلقة العلم مستعينًا بعلم هذه الصبية الحسناء.
أليست هذه فتاة جميلة عاقلة!!
جمال الخُلُق [أ].. فتاتي هل أنت جميلة؟ [3](/3)
مفكرة الإسلام : قد يختلف الكثيرون في آرائهم حول الجمال ومعاييره، ولكنه لا يختلف اثنان على أن الخلق الحسن في حد ذاته جمال يزين صاحبته.
فقد نرى فتاة جميلة الشكل والصورة والملبس, ولكنها ليست مؤدبة ومقصرة في دراستها فهل هذه توصف بالجميلة.
ليس الجمال بأثواب تزيننا إن الجمال جمال العلم والأدب
ونرى أخرى ليست جميلة الشكل والصورة ولكنها حسنة الخلق ومتفوقة في دراستها, فهي طبعًا جميلة في نظر كل من يراها, وانظري معي قول القائل:
كم من حسن في الخُلُق غطى عيبًا في الخَلْق.
وكان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: 'اللهم كما أحسنت خَلْقِي فحسّن خُلُقِي'.
• حسن الخلق من الإيمان:
ومن الجميل أن ينسب رسولنا الحبيب صفة الإيمان إلى من يتصف بحسن الخلق.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: 'أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا' [رواه الترمذي].
والفحش من صفات القبح, والقبح عكس الجمال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء'. [رواه الترمذي].
والبذيء: هو الذي يتكلم بالفحش رديء الكلام.
• حسن الخلق عبادة كالصوم والصلاة
ويؤكد ذلك ما روته السيدة عائشة عن حبيبها صلى الله عليه وسلم: 'إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم' [رواه أبو داود].
• حسن الخلق طريق إلى حب الرسول وجواره
ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: 'إن من أحبكم إلي وأقربكم مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا'.
وإذا سألتِ عزيزتي الفتاة: وماذا نعني بحسن الخلق؟
فإنا نجد الإجابة الشافية والمبسطة فيما رواه الترمذي عن عبد الله بن المبارك ـ رحمه الله ـ في تفسير حسن الخلق حيث قال: 'هو طلاقة الوجه وبذل المعروف وكف الأذى'.
ويقول الإمام ابن عيينة:
'البشاشة مصيدة المودة, والبر شيء هين: وجه طليق وكلام لين'.
فتاتي المسلمة الجميلة:
ونحن بصدد الحديث عن جمال الخلق فإن هناك من الأخلاق ما تختص بها الفتاة المسلمة دون غيرها والمرأة المسلمة عمومًا ـ وسأشير بومضات سريعة إلى هذه الأخلاق وهي من أخلاق الجمال في الفتاة المسلمة, وهي:
الحياء ـ العفة ـ الاستقامة ـ التدين
[1] الحياء: هو خلق يبعث على ترك القبيح وكل ما يغضب الله.
وعن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: 'إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت'.
ـ ولقد روى ابن ماجة في سننه وحسنه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء'.
ـ والحياء خلق يثمر سلوكًا مع الله وسلوكًا مع الخلق أيضًا، من كانت به صفة الحياء يلقى من الخلق الثناء.
ـ والحياء والإيمان مرتبطان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'الإيمان بضع وسبعون شعبة, والحياء شعبة من الإيمان'.
وأيضًا روى الحاكم في مستدركه: 'الحياء والإيمان قرناء جميعًا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر'.
وقد ورد في صحيح النسائي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: 'إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر'. وهذه إشارة إلى أنه حيث وجد الحياء وجد الستر والعفاف، وحيث تحل الجرأة على القبائح يحل معها التكشف والفضائح.
وهنا لا بد أن نقف عند قصة آدم وحواء لما أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها، وبدت لهما سوءاتهما، أخذا يجمعان من ورق الجنة ويشبكانه بعضه ببعض ويضعانه على سوءاتهما، ما يوحي بأن الإنسان يستحي من التعري بالفطرة، ولا يتعرى ولا يتكشف إلا بفساد في هذه الفطرة من إبليس وأعوانه.
وإن رؤية العري جمالاً هو فساد في الذوق الإنساني قطعًا.
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
فتاتي الجميلة تابعي معنا الخلق الثاني من أخلاق الجمال وهو [العفة] في المقال التالي زادك الله جمالاً
جمال الخُلُق [ب].. فتاتي هل أنت جميلة ؟ [4]
مفكرة الإسلام : استكمالاً لما ذكرنا من أخلاق الجمال لدى الفتاة المسلمة خلق العفة.
2ـ العفة:
هي الطهر والستر، قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31].
وهذا أمر من الله خاص للنساء بغض البصر عما حرم الله.
وأيضًا أمر هو من الله خاص 'بحفظ فروجهن' قال سعيد بن جبير: عن الفواحش وقال قتادة وسفيان: عما لا يحل لهن وقال مقاتل: عن الزنا.
والآن نقف ونتساءل: وما جزاء العفة عند الله تعالى؟
نجد الإجابة وبكل وضوح في الآية الكريمة قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ... أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35].(/4)
فتاتي المسلمة الجميلة: إن مع المتعفف عون من الله ووعد منه أيضًا بالرزق والإغناء، لقد كفل الله بإغناء الرجال والنساء إن هم اختاروا طريق العفة النظيف: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
وقال صلى الله عليه وسلم: 'ثلاثة حق على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف'.
سوداء لكنها جميلة ومن أهل الجنة
فتاتي الجميلة إليك هذه القصة العجيبة:
عن عطاء بن أبي رباح قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ' ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ فقلتُ: بلى. قال: هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وإني أتكشف فادع الله تعالى لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك فقالت: أصبر فقالت: فإني أتكشف, فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها'. [متفق عليه].
إنها اختارت الجنة, ولكن أرَّقها أنها حين تصرع تتكشف، فسألت الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء ألا تتكشف.. لماذا؟ إنه الحياء.. إنها العفة.. إنها امرأة جميلة مع أنها سوداء، إنها جميلة بخلق العفة والحياء.
فكيف بفتيات اليوم وأين ذهب حياؤهن ؟ وتلك المرأة تخشى أن تتكشف ساقها فقط وهي مريضة، والفتاة الآن قد تكشف غير ذلك وهي بكامل عقلها وصحتها بلا حياء.
إن جمال المرأة ليس في لونها أبيض أو أسود, ولكن الجمال الحقيقي في الحياء والعفة، فحياء الفتاة قوة وليس ضعفًا, وهو عنصر جمال عند الفتاة لا يقل أهمية عن لونها وشكلها.
وللمربي .. أقول:
إن تربية الفتاة على معاني العفة يستلزم التقيد بآداب الإسلام وبالوسائل المؤدية إلى تهذيب النفس وبالتدابير التي لا توصل إلى إثارة هؤلاء المراهقات، ومن هذه التدابير: غض البصر ـ التقيد بآداب الاستئذان ـ الابتعاد عن مخاطر التلفاز ـ التورع عن الوقوع فيما حرم الله.
فلا بد أن تتربى الفتاة على التسامي والعفة قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33].
وإذا سألت سائلة: فكيف يكون الاستعفاف؟
تكون الإجابة بأن الاستعفاف يكون بالصوم أو بالزواج لمن استطاع الزواج، وأيضًا بالدعاء كما كان يدعو رسولنا صلى الله عليه وسلم: 'اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى'.
3ـ الاستقامة: وهي لزوم طاعة الله، وهي من جوامع الكلم، وهي الاعتداء والمضي على المنهج دون انحراف.
فعن أبي عمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله, 'قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم'. [رواه مسلم].
استقم: أي على عمل الطاعات والانتهاء عن المخالفات.
واعلمي عزيزتي الفتاة أن المعاصي تزيل النعم وتذهب الجمال، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وزوال النعمة تكون في معصيته.
لا تعرضي عن هدي ربك ساعة عضي عليه مدى الحياة لتغنمي
ما كان ربك جائرًا في شرعه فاستمسكي بهداه حتى تسلمي
4ـ التدين: وهذا ما سنفرد له مقالاً بعنوان 'جمال التدين' فتابعينا زادك الله جمالا
جمال التدين ... فتاتي هل أنت جميلة ؟؟ [5]
تتبارى كل امرأة وفتاة حسناء وغير حسناء بما لديها من جواهر، وما عليها من ثياب لتقول إني الجميلة الحسناء، وتضع من المساحيق والألوان والعطور أذكاها وأغلاها، كي يقال عنها إنها عصرية متطورة ومتحضرة، وبعد ساعات تزول المساحيق وتلقى الجواهر ويبقى الجوهر الأصل .. القلب وما يحتويه من إيمان ودين.
وكلنا يعرف ويردد الحديث الشريف وهو منهج حياة لكل شاب عند البحث عن فتاة الأحلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك' [متفق عليه].
فقد بين صلى الله عليه وسلم صفات المرأة التي ينبغي للرجل أن يبحث عنها، ويقال إن هذا الحديث فيه جمال حسي ومعنوي، فأما الحسي فهو كمال الخلقة لأن المرأة كلما كانت جميلة المنظر عذبة المنطق قرت العين بالنظر إليها وأصغت الأذن إلى نطقها فينفتح لها القلب وينشرح لها الصدر وتسكن إليها النفس.
ثم ذيل الحديث بأفضل صفة وهي صفة الدين وهي الجمال المعنوي، فكلما كانت المرأة ذات دين وخلق كانت أحب إلى النفس وأسلم عاقبة.
يقول الغزالي: 'وليس أمره صلى الله عليه وسلم بمراعاة الدين نهيًا عن مراعاة الجمال، ولا أمرًا بالإضراب عنه، وإنما هو نهي عن مراعاته مجردًا عن الدين، فإن الجمال في غالب الأمر يرغب الجاهل في النكاح دون الالتفات إلى الدين فوقع في النهي عن هذا.
ومما قيل: المرأة الجميلة تملك القلوب لكن المرأة الفاضلة [المتدينة] تسرق العقول فالأولى ملكت ما سمى [قلبًا] لكثرة تقلباته، والثانية افتتنت كنز [الحكمة] ومركز حقيقة الإنسان.
ورب جميلة بدون دين يصونها جرت على أسرتها الويلات [أي سببت لهم المشاكل].
يقول الشاعر:
لا تركنن إلى ذي منظر فرب رائقة قد ساء مخبرها(/5)
ما كل أصفر دينار لصفرته صفر العقارب أرداها وأنكرها
ولذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الزاج من الجميلة في المنبت السوء فقال: 'إياكم وخضراء الدمن قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال المرأة الجميلة في المنبت السوء'.
معنى التدين
والتدين هو الطريق الذي اختاره لنا الله، والتزام في الحياة يجعل الإنسان يسير على أرضية صلبة ويؤدي هذا الطريق إلى الجنة.
واعلمي أختي الحبيبة أن الدين في حد ذاته جمال لأنه يجمع بين التدين والخلق وهذا يبعث بالجمال في المظهر، ورضا الله يبعث صفاءً على الوجه فتبدو الفتاة جميلة.
والفتاة المتدينة المحجبة جميلة بدينها وحجابها، لأن الحجاب يظهر جمال الفتاة، ونقصد بالجمال هنا جمال طاعة الله تعالى، ألا نقول عندما يقع العبد في معصيته أنه عمل عملاً قبيحًا، أما إذا عمل الطاعة نقول عمل عملاً جميلاً، فالحسنة توصف بالجمال والسيئة توصف بالقبح.
واعلمي أن كل خطوة في اتجاه الدين هي حب من الله لك، فإذا رزقك الله الدين فقد أحبك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من يحب' وتلمحي فجر الأجر وتذكري رضا الله والجنة.
اشكري الله على جمالك وترنمي مع قول الشاعر:
إني اتخذت من الجمال وحسنه سببًا لشكر الخالق الرحمن
الله قد خلق الجمال كآية لجليل صنع الله في الأكوان
القلب الأبيض جمال:
إني وهبت الشعر أسود فاحمًا لكن شعوري أبيض العنوان
فالقلب إن يملأ بطيب مشاعر لهو الجمال الحق ما أهناني
قيام الليل جمال:
والليل إذ يقضي بخير عبادة هو نور روحي أو مضيء جناتي
ملامح الإيمان:
وجهي إلى الرحمن متجهًا له كل الثناء وطائل الشكران
وجهي تزينه بروحي عزة بالله لا بسواه عز مكاني
وملامح الإيمان تكسو بالحيا وجهي وليست صبغة الألوان
جمال الصدق:
فمي الجميل به أسبح خالقي لا أحرم لا غيبة بلساني
أنا لست أنطق بالمعيب لأنه قبح يشوه فطرة الإنسان
أنا لست انطق غير صدق إنني وسواه دومًا ما نحن مختصمان
جمال الحجاب:
ثوبي أجهزه كثيفًا واسعًا ليكون سترًا ليس كشف عوان
ثوب الفضيلة والطهارة سعره غالٍ ونعم زيادة الأثمان
ثوب الحسان مطرز ومضيق ساءت به تفصيله الأبدان
ثوب الكرام تزين وتعفف ليس الحرير بساتر الجسمان
ثوب الوقار وشاح كل جميلة ثوب العفاف جميلة البستان
فتاتي أنت جميلة بدينك وحجابك وحيائك وعقلك ..
أنت جميلة بذكرك لله وإيمانك أنت جميلة برضا الله عنك.
هذي ملامح من جمالي إنها أصل الجمال وكسوة الإنسان
هذي عطوري يا خليلة طيبها يبقى وتلك كسوتي وكياني
ركبت من سحر الجمال حقيقة فخذي بلا عد بلا أثمان
تبقين عمرك في جمال ساحر والذكر للإنسان عمر ثانِ(/6)
هل أنتخب نائباً كافراً؟
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 16/1/1424هـ
السؤال
هل يكفر من انتخب نائباً كافراً لأجل مصلحة ما؟
الجواب
إن كان هذا المسلم انتخب ذلك الكافر نائباً عنه في (البرلمان) لما يظنه فيه من قدرة على التمثيل لمن انتخبوه، والدفاع عن حقوقهم فهذا جائز، ومباح لا سيما إذا كان المسلمون أقلية، فنصرة الكافر للمسلم جائزة ولا إثم على المسلم فيها إذا لم يكن في ذلك مساس لأصل عقيدته، فإن الكافر قد تدفعه حميته من نسب، أو قبيلة، أو بلد أو حزب إلى الدفاع عن المسلم لهذه الأسباب، أو غيرها، وقد احتمى نبي الله شعيب – عليه السلام- بقبيلته الكافرة فحمته من الأعداء قال تعالى: "وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ"، وبالمناسبة فقد علق الشيخ عبد الرحمن بن سعدي – رحمه الله- في تفسيره على هذه الآية تعليقاً لطيفاً أنقله لك: (...إن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب، على حسب القدرة والإمكان، فعلى هذا لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية، يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتهم وجعلهم عمالة وخدماً، نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو متعين، ولكن لعدم إمكان هذه الرتبة؛ فالرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة والله أعلم. أ.هـ. وإن كان انتخاب هذا النائب الكافر يحقق للمسلم مصلحة دنيوية أيضاً فهو جائز إن شاء الله، وإن كان انتخابه محبة لدينه وما هو عليه من الكفر فهذا ردة وخروج عن الإسلام يكفر بها المسلم، أعاذنا الله من ذلك، والله أعلم.(/1)
هل أهدي ابني هدية بمناسبه نجاحه؟
هل أهدي ابني هدية بمناسبه نجاحه ؟
هذا السؤال يتبادر إلى ذهن الكثير من الآباء والأمهات ،،، والكثيرين منهم يستعدون الآن لتجهيز هذه الهدايا بعد انتهاء الإمتحانات ومعرفة النتائج .
أعرف صديقة لي ،، ابنها جهز جدولا للهدايا . لكل مادة هديتها ،، ولكل مستوى يحصل عليه له هديته الخاصة . وأبويه محتارين في اختيار الهدايا له .
ماذا تظنين أختي الأم ،، وأخي الأب ؟ هل تظن أن هذه الطريقة فعالة لتشجيع ابنك على النجاح ؟؟
أرى بعضكم يقول نعم سيدرسون لينالو هذه الهدايا . صحيح ؟؟
أذكر أن والدتي كانت تستخدم هذا الأسلوب مع أخي لأن مستواه كان ضعيفا جدا .. وكان عندما ينجح ،، أول ما يصل إلى البيت يقول لأمي ،، الآن الآن نذهب لشراء الهدية،، ولكن للأسف هذه الطريقة لم تنفع معه طويلا ،، لأنه في السنوات الآتية لم يستطع النجاح وبالتالي لم يحصل على الهدايا .. وبعد أن رسب مرتين في المدرسة ،، هل ترك التعليم ؟؟ لا . شعر بالألم الشديد من فشله الدراسي ،، وعرف أنه سيتأخر في إنهائه للدارسة ،، وأن الكسل نتيجته الفشل .. فبعد ذلك ،، بدأ يدرس بهمة بدون هدايا !!
أعود لموضوع الهدايا وسأشرح أربعة أفكار :
1. أن الأبوين أوصلو لأبنائهم رسالة معناها نحن لا نحبكم !
2. أن الأبوين قتلو حب العلم عند الأبناء ،، بالهدايا !
3. أن الأبوين لا يهتمون بمصلحة أبنائهم حقا عندما يهدونهم !!
4. أن الأبوين سعو إلى فشل أو تأخر أبنائهم بسبب الهدايا !
مستغربين من النقاط .. طيب اقرأو التالي !
الفكرة الأولى : أن الأباء أوصلو لأبنائهم رسالة معناها نحن لا نحبكم !
سأعطيكم مثال بسيط ،، تخيلي أختي أن يأتي إليك زوجك ويهديك هدية ويقول لك ،، ترى هذه الهدية لك لانك صرتي تطبخين لي بمهارة . أو تخيل يا أخي أن تهديك زوجتك هدية وتقولك ، يا زوجي هذه الهدية لك لأنك صرت تهتم في العيال أكثر !!
ممكن تخبروني عن شعوركم عند أخذ الهدايا ؟؟ ألم تقل لكم الهدايا أنك تستحقها فقط للعمل الذي فعلته ولكن ليس لأننا نحبك . نفس الشيء بالنسبة لأبناء ،، نحن نوصل إليهم رسالة ،، أنتم تستحقون الهدايا نظير نجاحكم ، وليس للأننا نحبكم فقط .
الفكرة الثانية : أن الأبوين قتلو حب العلم عند الأبناء ،، بالهدايا !
سأعطيكم مثال بسيط للتوضيح . الله سبحانه وتعالى وعدنا بالجنة في مقابل أشياء كثيرة حسنة نعملها في الحياة وفي مقابل طاعته واتباع أوامره . فالعمل هو تجنب الشهوات والمحرمات والصدقات وأفعال الخير والجزاء هو الجنة ؟
ومن فيهم الأقيم ،، بالتأكيد الجنة وهذا هو الصحيح . فدائما الجزاء أثمن من العمل حتى يحفزنا لنسعى له .
نعود لموضوع الهدايا . العمل هو الدراسة والتعلم ،، والجزاء هي الهدية .. ياترى من فيهم الأقيم ؟ أكيد العلم والدراسة .. ولكننا بالهداية ،، نغرس في الأبناء ، أن العلم ليس بقيمة ،، لذلك نحفزهم للدراسة بالهدايا وكأنها هي الاقيم .
فمارأيكم الآن هل قتل الأباء حب العلم عند الأبناء بالهدايا أم لا ؟
الفكرة الثالثة : أن الأبوين لا يهتمون بمصلحة أبنائهم حقا عندما يهدونهم !!
البعض فعلا يهدي حتى يحفز ابنه للنجاح وعدم الفشل . ولكن للأسف صارت موضة الآن ،، أن الأم تحفز ابنائها للتفوق أو النجاح حتى تتفادى الإحراج أمام صديقاتها بمستوى أبنائها . إذا هي مسألة مفاخرة على حساب مصلحة الأبناء ، حتى لا نكون أمام الأخرين فاشلين في تربية أبنائنا . وكل واحدة تقول أبنائي درجاتهم كلها امتياز !!
لا يهمكم درجاتهم ،، مقبول جيد ممتاز ،، ليس مهما ،، المهم يا إخواني وأخواتي حبهم لطلب العلم وسعيهم إلى ذلك . فهذه الدرجات هي تقييم نظام التعليم لهم ولا يحتم أنهم يحبون العلم والتعلم.
الفكرة الرابعة وهي الخاتمة : أن الأبوين سعو إلى فشل أو تأخر أبنائهم بسبب الهدايا !
نعم فبعد كل ما شرحته في الأعلى ، من إظهار حبنا لأبنائنا في مقابل نجاحهم وبالتالي نهديهم ، وكذلك التقليل من شأن العلم بإهداء هدايا قيمة للتشجيع ، وحماسنا لنجاح أبنائنا للمباهاة بهم وعدم التعرض للإحراج أمام اصدقائنا من فشلهم .
أخبروني الآن ،، هل سيدرس الابن فعلا للعلم والنجاح ،، أم سيتخذ ألف عذر وعذر للتخاذل والكسل أو الغياب ،، وستجدونه يتراجع يوما بعد يوما كارها الدراسة والمدرسة ،، وللأسف الكثيرين من البذخ والدلال لم يستطيعو اكمال حتى الثانوية . وفشلو في دراستهم . لأن أبويهم سعو إلى فشلهم وتأخرهم بالهدايا أو الدلال .
إخواني وأخواتي الآباء والأمهات ، أرجو أن تراجعو أنفسكم من الآن لتعرفو أين موقعكم في تربيتكم لأبنائكم .
لا أطلب أن لا تعطونهم هدايا عند نجاحهم الآن ،، فلا تصدمونهم بذلك ... ولكن على الأقل أخبروهم أننا نعطيكم هذه الهدايا فقط للأننا نحبكم . وحتى إذا ما نجحو أعطوهم هدايا ،، لأنكم تحبونهم وهم يستحقونها أي لا رابط لها بالدراسة .(/1)
بعد ذلك ابدأو من هذا الصيف بمراجعة تربيتكم لأبنائكم ،، وارسمو خطة لتغرسوا لديهم حب العلم وليس حب الدرجات !(/2)
هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم السلم أم الحرب؟
عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل.
الحمد لله والصلاة على رسول الله .. وبعد :
فإن دين الإسلام، دين الرحمة بالناس أجمعين "هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون" [سورة الجاثية 20] ."وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" [سورة الأنبياء 107]وهو دين الخير للعالمين مؤمنهم وكافرهم، لا يجحد ذلك إلا من جهل الحقيقة "ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [سورة الروم 30] أو كان من المستكبرين "وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور" [سورة لقمان 32] .أما خيرية الإسلام للمسلمين فهي كما قال الأول :
فليس يصح في الإفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
وأما خيريته لغير المسلمين، فلأنه حفظ حقوقهم، وصان كرامتهم وعاملهم بالحسنى "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن". [ سورة العنكبوت 46 ]. ولم يتخلف هذا التعامل الراقي حتى في ساعة الانتصار، ونشوة الشعور بالعزة والغلبة .
وكانت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمرائه الذين يبعثهم على الجيوش والسرايا : اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً" (1) .
وأما خليفته الصديق رضي الله عنه فقد أوصى مبعوثه قائد جيش الشام يزيد بن أبي سفيان بقوله : إني موصيك بعشر : لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكله، ولا تحرقن نخلاً، ولا تفرقنه ولا تغلل، ولا تجبن (2) . وهذا السمو في التعامل في ساعة الحرب، هو ما امتثله المسلمون في عصورهم المختلفة، وبالأخص في العصور الزاهية الأولى.
وهو ما اعترف به عقلاء ومنصفوا أعدائهم، قال "ول ديورانت" : (لقد كان أهل الذمة المسيحيون والزردشتيون واليهود والصابئون يتمتعون في عهد الدولة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد نظيراً لها في البلاد في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم ... وكانوا يتمتعون بحكم ذاتي يخضعون فيه لعلمائهم وقضاتهم وقوانينهم) (3) .
وقال الفيلسوف المؤرخ الفرنسي"غوستاف لوبون" : (ما عرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب) (4) .
وهذه المعاملة الحسنة من المسلمين لمخالفي دينهم، ليست طارئة ولا غريبة، لأنها منبعثة من أسس دين الإسلام الذي يقوم على حفظ كرامة الإنسان لكونه إنساناً، ولهذا لما جهلت هذه الحقيقة في هذه الأيام، سمعنا أصواتاً نشازاً تتعالى في الإعلام باتهام دين الإسلام وأهله بانتهاك حقوق الإنسان، ومن هنا تأتي أهمية بحث هذه المسألة [هل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم الحرب أم السلم ؟!!] .
وقبل الخوض في غمار هذه المسألة الهامة، أشير إلى بعض الوقفات التي أرى أهميتها قبل البدء بالمقصود :
الوقفة الأولى :
حاجة البشرية الماسة لدين الإسلام ومُثُلِه وأخلاقه وتعاليمه وقيمه، إذ هو وحده الكفيل بحل أزمات وصراعات الحضارات، وهو القادر – دون غيره – على علاج مشكلات الأمم، ومعاناة الشعوب، ومستعصيات الزمن، لأنه دين يُعنى بالفرد والمجتمع، وبالروح والجسد، وهذا ما تفتقر إليه جميع المجتمعات التي تئن تحت وطأة الظلم والضياع، وتكتوي بلهيب فقده كل الأمم التي لا تعرف إلا الشقاء والضنك في الحياة، بل لقد أصبح الإسلام ضرورة من ضروريات الحياة الهانئة السعيدة، وهذا ما صرح به بعض الأوربيين الذين درسوا الإسلام أو قرأوا عنه، يقول المستشرق الفرنسي "غستاف دوكا" (5) : (للدين الإسلامي أثر كبير في تهذيب الأمم وتربية مشاعرها ووجدانها، وترقية عواطفها، فإذا قرأت تاريخ العرب قبل البعثة، وعلمت ما كانت عليه، اعتقدت أن للشريعة السمحة في تهذيب الأخلاق التأثير الأكبر، إذ ما كاد يتصل بالأمة العربية ذلك الإصلاح الروحي المدني، حتى انتشر العدل وزال النفاق والرياء والعدوان) (6) .
الوقفة الثانية :(/1)
عالمية الإسلام، وأنه دعوة إسلامية لكل الإنسانية، هو دين الله إلى الناس كافة، ورسالته عالمية بكل ما تحمله معاني العالمية ،” قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً” [سورة الأعراف 158]. ورسول هذا الدين العالمي بعث إلى كافة البشر" وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون" [سورة سبأ 28 ]، وإنما كانت دعوة هذا الدين عالمية، لأنه جاء لتحرير البشرية كلها من الانحرافات والضلالات والعبوديات لغير الله، ولم يكن الإسلام يوماً من الأيام خاصاً بقبيلة أو جنس أو طائفة، وإنما هو دين الله إلى الناس كافة. ولأنه دين مشتمل على منهج حياة متكامل في جميع مناحي الحياة، لم يكن هذا المنهج ناتجاً عن ردة فعل لسوء أوضاع بيئة معينة، كما هو شأن المناهج البشرية الوضعية، وإنما هو منهج عام شامل كامل، أراده الله ليكون للبشرية جمعاء في كافة ديارها وشتى أقطارها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (وعلى كل أحد أن يصدق محمداً صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، ويطيعه فيما أمر تصديقاً عاماً وطاعة عامة، وقد بعث الله رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- بأفضل المناهج والشرائع، وأنزل عليه أفضل الكتب، وأرسله إلى خير أمة أخرجت للناس، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة، وحرم الجنة إلا على من آمن به وبما جاء به، ولم يكن يقبل من أحد إلا الإسلام) (7) .
الوقفة الثالثة :
تتجلى عظمة الإسلام وشموليته وعالميته في جوانب كثيرة من التشريعات، منها جانب تنظيم العلاقات، سواء في علاقة المسلمين بربهم، أو علاقة بعضهم ببعض، أو علاقتهم بالآخرين ممن لم يعتنقوا دينهم على أي وجه كان، وصدق الله إذ يقول: ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين"( سورة النحل – 89)، وقد جاء تنظيم العلاقة مع الآخرين في منتهى الروعة والكمال والجلال، في كافة شؤون الحياة، وفي مختلف الظروف والأحوال سواء في حال الحرب، أو في حال السلم، وسواء كانوا أهل ذمة أو مستأمنين أو معاهدين أو حربيين أو مرتدين، نظمها تنظيماً دقيقاً راعى فيه تحقيق المصالح والعدل، وحفظ حق الدين والإنسان، ومن أتي في شئ من هذا الباب، فإنما أتي لعدم تنزيله النصوص على الأشخاص أو الأحوال على وجهٍ صحيحٍ.
الوقفة الرابعة :
تعاملات المسلمين مع الكفار – وبالأخص في هذا الزمن – لا يلزم أن تمثل منهج الإسلام في التعامل معهم، لأن نظرات الناس وتصوراتهم نحو العلاقة بالكفار متباينة، كما أن واقعهم الفعلي متفاوت بين انفتاح وانغلاق، وبين انقباض وانبساط، من المسلمين اليوم من لا يفرق بين الكافر الحربي، وبين الذمي والمستأمن، ويرى أن العلاقة معهم جميعاً، قائمة على العنف والغلظة والمباينة المطلقة في كل معاملة، حتى في العقود المالية، والبيع والشراء، ولربما استند من هذا شأنه إلى قول الله تعالى :” محمد رسول الله والذين معه، أشداء على الكفار" [سورة الفتح 29] وإلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه"(8).
ومنهم من يرى أن العلاقة بالكافر كالعلاقة بالمسلم في الجملة، وهذا الفهم يكثر عند من يعيش من المسلمين في أحضان الكفار، بسبب الانصهار في مجتمعاتهم، والاندماج في بيئاتهم .
كما يوجد هذا التمييع والتفريط عند بعض المسلمين في بلاد الإسلام بسبب الجهل أو رقة الديانة، أو الإعجاب بالكفار وا لانبهار بحضارتهم، ولذلك وجدنا من المسلمين اليوم من ينادي بالمساواة بين الأديان السماوية، وعدم التفرقة بين اليهودية والنصرانية والإسلام، والمؤمن المنصف يعرف – بداهة – تساقط هذين الرأيين، فأما الرأي الأول المتبني للغلظة والعنف مطلقاً، فهو يتنافى مع سمو الإسلام وسماحته وعالميته، ويتنافى أيضاً مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه، وعموم تعاملات النبي صلى الله عليه وسلم وتعاملات صحابته مع اليهود والمشركين تثبت تهافت هذا الرأي وسقوطه من ذلك :
1- قصة الرهط من اليهود الذين دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم، فرد" وعليكم" فقالت عائشة - رضي الله عنها -:"وعليكم السام واللعنة" فقال صلى الله عليه وسلم "مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله (9) .
2- ولما قيل له صلى الله عليه وسلم ادع على المشركين قال :” إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة" (10) .
3- ولما قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله إن دوساً عصت وأبت فادع الله عليها، فقيل : هلكت دوس قال : اللهم اهد دوساً وات بهم" وفي رواية قال : "لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً (11).
وأما حديث” لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا وجدتموهم في طريق، فاضطروهم إلى أضيقه"(12).(/2)
فهو كناية عن عزة المسلم، فلا يكون ذليلاً أمام الكافر، فإذا لقيه فلا يبدأ بالسلام، ولا يفسح له في الطريق ويذل نفسه .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : (والمراد منع ابتدائهم بالسلام المشروع، فأما لو سلم عليهم بلفظ يقتضي خروجهم عنه، كأن يقول : السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين فهو جائز، كما كتب النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل وغيره : سلام على من اتبع الهدى .. قال القرطبي في قوله :" وإذا لقيتموهم في طريق ...." معناه لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراماً لهم واحتراماً، وعلى هذا فتكون الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى طرفه حتى يضيق عليهم، لأن ذلك أذى لهم، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب) (13) . هذا ما يتعلق بالرأي الأول .
أما الرأي الثاني – الذي تبدو فيه الميوعة والتمييع لأصول الإسلام وثوابته، فهو أظهر ضعفاً، وأبين عوارا،ً ومصادمته لثوابت الشريعة لا تخفى على ذي إنصاف، إذ البراءة من الكفر وأهله، من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة قال تعالى :" وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون" [سورة الزخرف 26-28] .
والكلمة الباقية : هي لا إله إلا الله في قول كثير من المفسرين (14) .
يقول ابن كثير : (يقول تعالى مخبراً عن عبد الله ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث من بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال: "إنني براء مما تعبدون. إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه” أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، أي جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام)(15) .
وجاء تفصيل موقف إبراهيم من أبيه وقومه في سورة الممتحنةفي قوله سبحانه :” قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء" [سورة الممتحنة 4] .
والبراءة المذكورة في هذه الآية تعني الأمور الآتية :
1- إنكار الباطل والتبري منه :
والباطل وإن كان يشمل كل ما ضاد الحق مما لا يريده الله ورسوله من كفر وفسوق وعصيان، إلا أن المراد به هنا : الكفر، فلا بد من إنكاره باليد أو باللسان أو بالقلب .
هذا مع أن الإنكار القلبي هو الأساس، وهو مستقر في قلب المؤمن، وإن لم يستطع الإنكار باللسان أو باليد .
2- البغض والعداوة، وهما من أهم معالم البراءة :
وقد دلت عليهما نصوص كثيرة، كقوله تعالى في موقف إبراهيم عليه السلام من قومه: "وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده” [الممتحنة 4] .
وقوله : "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم” [المجادلة 22] .
3- عدم الموالاة مطلقاً :
قال الله عز وجل : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً" [سورة النساء 144] .
وقال : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" [ سورة المائدة 51] .
وقال : "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير" [سورة آل عمران 28] والآيات كثيرة .
أما الموالاة، فقال الراغب في مفرداته (16) : (الولاء والتولي أن يحصل شيئان فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة، ومن حيث الدين، ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد، والولاية : النصرة) أ.هـ.
فهي تشمل : الموالاة القلبية، وهي ميل القلب إلى الكافر تعظيماً وحباً أو اعتقاداً بصحة ما هو عليه، ومن ذلك التشبه به .
والموالاة العملية : وهي الميل والاقتراب من الكافر في الأمور العملية : كمعاشرته، ومداهنته، وتقريبه، وجعله بطانة، وطاعته في غير ما شرع الله ومناصرته، والإقامة بين ظهراني المشركين من غير حاجة، ومشاركتهم في الأعياد. وهذه الموالاة متفرعة من الموالاة القلبية، لأنها - أي الموالاة العملية – لا تتم في الغالب إلا بميل القلب وإصغائه .
فكل ذلك موالاة ممنوعة، وهي تتفاوت في المفسدة، ولذلك كان منها ما هو مخرج من الملة، ومنها ما هو معصية كبيرة، ومنها ما هو صغيرة(17)، ولا شك أن مقتضى البراءة عدم الموالاة مطلقاً .
الوقفة الخامسة :(/3)
يجب اعتبار حال المسلمين في القوة والضعف، وحال ظروف زمانهم، وملابسات قضاياهم، والنظر في مصالحهم الكبرى، وبذل الجهد في دفع المفاسد العظمى عنهم .
ولذلك نجد القرآن زاخراً وحاشداً بالآيات التي فصلت العلاقة بالكفار، وراعت أحوال الظروف والمواطن والزمن واتخذت المواقف المتناسقة معها، والمتأمل في ذلك يلحظ أن هذه المواقف جاءت على مرحلتين :
المرحلة الأولى : العهد المكي، وجملة الموقف منهم يتلخص في :
أ - المفاصلة الشعورية و تنافر القلوب بين المؤمنين والكافرين .
ب- الهجر الجميل، أو المقاطعة للكفار .
كما في قوله تعالى: "فاصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً" [سورة المزمل 10] .
ج- أمر المؤمنين بالصبر على الأذى .
كما في الآية السابقة، وكما في قوله تعالى : واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون" [سورة النحل 127] .
د - الأمر بالعفو والصفح .
كما في قوله تعالى: فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ سورة الزخرف 89] .
هـ- الأمر بكف اليد وعدم القتال .
كما في قوله تعالى: "ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" [سورة النساء 77](18) . الآية .
و - الاستمرار في الدعوة والنذارة، كما في قوله : "فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين" [سورة الحجر 94] .
المرحلة الثانية : العهد المدني :ويتلخص الموقف في :
أ - تمييز المسلمين واستقلالهم في إقليم، وإعلان وحدتهم، ولذلك تكاملت التشريعات والأحكام العملية مع قصر هذا العهد .
ب- المواجهة مع الكفار، بالقوة البيانية، والقوة الاجتماعية، والقوة المادية .
ج- تشريع الجهاد .
وبه تحددت العلاقة مع الكفار على اختلافهم إلا أن هذا التشريع جاء على مراتب كما ذكر ابن القيم- رحمه الله - (19) ، وقد روعي في هذه المراتب واقع حال المسلمين وظروفهم وإمكانياتهم، ثم استقر أمر الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول "براءة" على ثلاثة أقسام : محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة .
د-منع موالاة المؤمنين للكافرين مطلقاً.
الوقفة السادسة :
لا بد من معرفة أنواع الكفار من حيث علاقة المسلمين بهم وأنهم :
1- إما أهل عهد .
2- وإما من ليس له عهد .
وأهل العهد ثلاثة أصناف :
أ - أهل الذمة (20) :
وهم الذين يعطون عقداً مستمراً للبقاء في دار الإسلام إذا أعطوا الجزية والتزموا أحكام الإسلام .
ب- المستأمنون :
وهم الذين يعطون عقداً مؤقتاً للبقاء في دار الإسلام لغرض شرعي، كسماع كلام الله، أو تجارة أو سفارة .
ج- أهل الصلح والهدنة :
وهم الكفار الذين بينهم وبين دولة الإسلام عهد، إما عهد هدنة، وهو الاتفاق على إيقاف الحرب لمدة معلومة، وإما معاهدة مطلقة (21).
والذين لا عهد لهم صنفان في الجملة :
أ - إما كفار أصليون محاربون(22):
وهم الذين لا عهد لهم ولا ذمة، سواء أكانوا محاربين فعلاً أم لا، فإن من ليس له عهد لا يستبعد منه الحرب للمسلمين .
ب - وإما مرتدون عن الإسلام (23) .
هذه هي أنواع الكفار من حيث علاقة المسلمين بهم، ومسألة هل الأصل في علاقة المسلمين بالكفار السلم أو الحرب شامل لجميع هذه الأنواع السابقة .
والآن قد حان الشروع إلى المقصود وأقول مستعيناً بالله :
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول :
أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو الحرب، وبهذا قال كثير من علماء المالكية والحنفية والشافعية والحنابلة(24).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة من القرآن والسنة والمعقول .فأما الأدلة من القرآن فهي على نوعين :
النوع الأول :(/4)
آيات تأمر بقتال الكفار مطلقاً كقوله تعالى : "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير" [سورة الحج 39]، وقوله : " كتب عليكم القتال وهو كره لكم" [سورة البقرة 216]، وقوله : " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال"[سورة الأنفال 65]، وقوله :"واقتلوهم حيث ثقفتموهم" [سورة البقرة 191] ، وقوله : " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" [سورة البقرة 193]، وقوله "واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [سورة التوبة 5 ]، وهذه تسمى آية السيف، قيل إنها نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية من الآيات التي تأمر بالإعراض عن المشركين والصفح عنهم(25)، وكقوله تعالى أيضاً : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" [سورة التوبة 36] وهذه الآية من أهم أدلة أصحاب هذا القول لأن فيها الأمر – كما يرون – بالقتال الجماعي للمشركين كافة، وشبيه بها قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" [سورة التوبة 123]، وكذلك قوله عز وجل: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ..."[ سورة التوبة 29] .فهذه الآيات وما شابهها مما لم يذكر، تدل على وجوب قتال الكفار مطلقاً دون قيد أو شرط، لأن هذا الفريق يرون أن قتال الكفار هو دعوة إلى الإسلام، وحمل للمخالفين على نبذ كفرهم، واعتناق الإسلام.فإذا كان القتال دعوة إلى الدين فلا يحل تركه مع القدرة عليه بحال من الأحوال .
النوع الثاني :
الآيات التي ورد فيها النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء أو القاء المودة إليهم مطلقاً كقوله تعالى:" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" [سورة آل عمران 28]، وقوله :"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، ومن يتولهم منكم فإنه منهم" [سورة المائدة 51]، وقوله : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة" [سورة الممتحنة 1]، وقوله :"لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ..." [سورة المجادلة] .
ففي هذه الآيات دلالة على وجوب أن لا يكون للمسلمين مع الكفار محالفة أو موالاة أو مودة واطمئنان وثقة. لانطوائهم على الغدر والحقد، وتبييتهم الخيانة والنقض، وانتظار الفرصة المواتية للنيل من المسلمين .
-وأما الأدلة من السنة، فقد ورد الأمر فيها بالقتال حتى تتحقق الغاية من القتال وهي اعتناق الإسلام، ومن الأحاديث الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري"(26) ، ومعنى هذا – عند أصحاب هذا القول - أن للسيف المقام الأول في تقرير دعوة التوحيد، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... (27) .
وهذا يدل على أن الأمر بقتال الناس هو من أجل الدخول في الإسلام، فالقتال إذن هو الطريق الأول للدعوة إلى الإسلام وترك الكفر، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة بهذا المعنى .
- وأما الاستدلال بالمعقول، فتقريره : أن من دعوا إلى الإسلام على وجه صحيح لا عذر لهم في البقاء على كفرهم، لأن الله أقام الأدلة القاطعة على وجوده ووحدانيته، وأن دين الإسلام هو دين الحق الذي لا يقبل الله سواه، فلا بد من حملهم عليه قسراً امتثالاً لما ورد في النصوص التي سبق ذكرها .
القول الثاني :
أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم، وبهذا قال سفيان الثوري وسحنون من المالكية، ونسب لابن عمر – رضي الله عنه -، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ،ومن المعاصرين محمد رشيد رضا، ومصطفى السباعي .واستدل أصحاب هذا القول بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .
فأما الأدلة من كتاب الله فهي على أربعة أنواع :
النوع الأول :
الآيات التي أمر الله تعالى فيها بالسلم، وحث فيها على قبوله من الكفار حين اللجوء إليه كقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ..." [سورة البقرة 208]، وقوله : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله [سورة الأنفال 61]، وقوله : فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" [ سورة النساء 90]، وقوله :” ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا” [سورة النساء 94] .
فهذه الآيات البينات، جاء فيها الأمر بقبول السلم من الكفار إذا جنحوا إليه .
النوع الثاني :(/5)
الآيات التي قيد الله فيها الأمر بقتال الكفار في حال اعتدائهم وظلمهم للمسلمين كقوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين، واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم، والفتنة أشد من القتل، ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين، فإن انتهوا، فإن الله غفور رحيم، وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين [سورة البقرة 190-193]، وقوله : "وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالمي أهلها، واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً" [سورة النساء 75]، وقوله :"أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير، الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق، إلا أن يقولوا ربنا الله" [سورة الحج 39 – 40] .
النوع الثالث :
الآيات التي أباح الله فيها صلة وبر الكفار الذين لم يقاتلونا كقوله تعالى :” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” [سورة الممتحنة 8] .
النوع الرابع :
قوله تعالى : "لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي .." قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
(جمهور السلف على أنها ليست بمنسوخة ولا مخصوصة، وإنما النص عام فلا نكره أحداً على الدين، والقتال لمن حاربنا، فإن أسلم عصم ماله ودينه، وإذا لم يكن من أهل القتال لا نقتله، ولا يقدر أحد قط أن ينقل ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اكره أحداً على الإسلام، لا ممتنعاً ولا مقدوراً عليه، ولا فائدة في إسلام مثل هذا، لكن من اسلم قبل منه ظاهر الإسلام) (28).
أما الأدلة من السنة لأصحاب هذا القول – الذين قالوا بأن الأصل مع الكفار السلم – فكثيرة منها :
1-قول النبي صلى الله عليه وسلم :” لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا (29) . حيث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرغبة في الحرب وتمني لقاء العدو، وهذا يدل على أن حالة الحرب حالة طارئة، لا يشرع للمسلم أن يتمناها إلا إذا قامت أسبابها، وتوافرت دواعيها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بسؤال الله العافية والسلامة، فإن قدر للمسلم لقاء عدوه فالمشروع حينئذ الصبر والثبات، وكل هذا يفيد أن الأصل في العلاقة مع الكفار السلم .
2- حروب النبي صلى الله عليه وسلم التي خاضها ضد المشركين، [27 غزوة] كان المشركون فيها هم المعتدين أو المتسببين بأسباب مباشرة أو غير مباشرة، وهذا يؤكد أن الأصل مع الكفار السلم لا الحرب، ولو كان الأصل معهم الحرب لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبدؤهم بذلك والمتواتر من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه لم يبدأ أحداً بالقتال (30).
3- رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء، ودعوته لهم بالدخول إلى الإسلام (31)، يدل على أن الأصل السلم، ولو كان الأصل الحرب لما أرسل إليهم رسائل، وإنما بعث إليهم جيوشاً للمحاربة .- واستدلوا أيضاً بالإجماع، حيث نقل اتفاق المسلمين(32) عملاً بالثابت من السنة، انه لا يجوز قتل النساء والصبيان – وزاد الحنفية والمالكية والحنابلة ـ: الرهبان والشيوخ، والعميان والزمنى والعجزة والأجراء والفلاحين في حرثهم، إلا إذا قاتلوا أو شاركوا برأي أو إمداد، قالوا لوكان الأصل مع الكفار الحرب لحملهم على الإسلام، ما ساغ استثناء هؤلاء، واستثناؤهم برهان على أن القتال إنما هو لمن يقاتل دفعاً لعدوانه، قال شيخ الإسلام رحمه الله : (الصواب أنهم لا يقاتلون، لأن القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله فلا يباح قتلهم لمجرد الكفر) (33) .
- واستدلوا أيضاً بالمعقول : ووجهه : ان وسائل الإكراه والقهر لا يمكن أن تنجح لفرض الدين في النفوس، لأن الدين أساسه القناعة، وهو شيء قلبي، واعتقاد داخلي، وما كان كذلك فطريقه الحجة والبرهان والإقناع لا القوة والقهر قال تعالى :” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [سورة يونس 99] .
وقال تعالى : لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي [سورة البقرة 256] .
هذه أبرز أدلة أصحاب القولين، ولهم عليها مناقشات وردود، أغضيت عنها اختصاراً، والذي يمكن استنتاجه بعد هذا الاستعراض السريع لنصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو دعوتهم إلى دين الإسلام كمرحلة أولى لا يسبقها غيرها، بل هي البوابة لتحديد نوع العلاقة (34)، لأن الأمة مخاطبة بنشر دينها وعقيدتها، فإذا ما قامت بهذا الحمل الدعوي الكبير، ودعت أمم الكفر لدين الإسلام ففي هذه الحالة ينقسم الكفار إلى أقسام ثلاثة :
القسم الأول :(/6)
من يستجيب منهم لدعوتنا، ويعتنق ديننا، فهؤلاء اخواننا لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، قال تعالى : (( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين )) {سورة التوبة ـ 11} وقال تعالى: (( فإن تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم)) {سورة التوبة ـ 5}.
القسم الثاني :
من لا يقبل الدخول في الإسلام، لكن لا يقف في طريق دعوته، ولا يقاتل من يدعو إليه، ويلقي الينا السلم سواء كان من أهل العهد أو لم يكن فهؤلاء الأصل في حقهم المسالمة، ما لم يعتدوا بقول أو فعل، وعلى هؤلاء تحمل الآيات التي أمر الله فيها بالسلم، وأباح فيها الإحسان للكفار كقوله تعالى :"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” [سورة الممتحنة 8]، وقوله :” وإن جنحوا للسلم فاجنح لها” [سورة الأنفال 61]، وقوله: "فإن اعتزلوكم، فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم السلم، فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً" [سورة النساء 90] .
قال الشوكاني رحمه الله على هذه الآية : ( فإن اعتزلوكم ولم يتعرضوا لقتالكم وألقوا إليكم السلم أي استسلموا لكم وانقادوا، "فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً” أي طريقاً، فلا يحل لكم قتلهم ولا أسرهم ولا نهب أموالهم، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرمه)(35) .
القسم الثالث :
من يرفض الدخول في الإسلام، ويقف في طريق دعوته، أو ينقض عهداً مع المسلمين، أو يعتدي على أحد منهم بقول أو فعل، أو يخطط لذلك مستقبلاً، فهؤلاء الأصل في حقهم الحرب – وهي المرحلة التالية لدعوتهم إلى دين الإسلام – وعلى هؤلاء تحمل الآيات الواردة بقتال المشركين كقوله تعالى :"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" [سورة البقرة 193]، وقوله : "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ..." [سورة التوبة 29]، وقوله : "واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" [سورة التوبة 5]، وقوله : "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" [سورة البقرة 193] والمراد بهؤلاء الذين أمر الله بقتالهم في هاتين الآيتين كفار مكة الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وأخرجوهم منها (36)، لأنه قال بعد قوله :"واقتلوهم حيث ثقفتموهم" :"واخرجوهم من حيث أخرجوكم" فأمر الله بقتالهم أنى كانوا، لأنهم آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته – رضي الله عنهم-، و أخرجوهم من ديارهم، ووقفوا في طريق دعوتهم للإسلام .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (القتال هو لمن يقاتلنا، إذا أردنا إظهار دين الله، كما قال تعالى : "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين” [سورة البقرة 190])(37) وقال أيضا (وأما النصارى فلم يقاتل أحداً منهم حتى أرسل رسله بعد صلح الحديبية إلى جميع الملوك يدعوهم إلى الإسلام .... فدخل في الإسلام من النصارى وغيرهم من دخل فعمد النصارى بالشام فقتلوا بعض من قد أسلم، فالنصارى هم حاربوا المسلمين أولاً، وقتلوا من أسلم منهم بغياً وظلما فلما بدأ النصارى بقتل المسلمين أرسل سرية أمَّر عليها زيد بن حارثة ثم جعفر ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون للنصارى بمؤتة من أرض الشام ،واجتمع على أصحابه خلق كثير من النصارى، واستشهد الأمراء رضي الله عنهم)(38).
وقال الإمام النووي رحمه الله : (الناس صنفان فأما الذين قاتلوا أهل الإسلام أو أجلوهم عن أوطانهم أو أعانوا على شيء من ذلك فمن الظلم المنهي عنه أن يتولاهم المسلمون، ويحسنوا إليهم، ولهؤلاء وأمثالهم شرع القتال ليفسحوا للدعوة سبيلها، وأما الذين لم يفعلوا شيئاً من ذلك فلا على المسلمين في الإحسان إليهم والبذل لهم، ولو كان هؤلاء ممن أمر بقتالهم لما ساغ ذلك، فعسى أن يكون فيه قوة لهم، مع أن إضعاف العدو بكل وسيلة من أخص ما يعنى به المحاربون) (39) .
وأما قوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [سورة التوبة 36 ] فهذا من طريق المقابلة الجماعية أمام تكتل المشركين الجماعي وهو أمر لكافة المسلمين المُقاتلين بمحاربة كافة المشركين المقاتلين .
قال ابن كثير رحمه الله على هذه الآية : (كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم، فاجتمعوا أنتم أيضاً لهم إذا حاربتموهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم) (40).
وقال ابن عطية رحمه الله : (لم يعلم قط من شرع النبي صلى الله عليه وسلم، أنه ألزم الأمة جميعاً النفر، وإنما معنى الآية الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله :” كما يقاتلونكم” فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم) (41) .
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - : (قاتلوا جميعكم المشركين، فيكون فيها وجوب النفير على جميع المؤمنين، وقد نسخت على هذا الاحتمال بقوله : وما كان المؤمنون لينفروا كافة )(42).(/7)
وهذا هو رأي ابن عباس رضي الله عنهما كما ذكر ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره 6/1803 – والبيهقي في سننه (ح17938) – وروى أبو داود في سننه في الجهاد، باب في نسخ نفير العامة بالخاصة (ح2505) – والبيهقي في سننه أيضاً، في السير، باب النفير وما يستدل به على أن الجهاد فرض على الكفاية (ح17937) – من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال في قوله : "إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً "[سورة التوبة 39]، وقوله : "ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله" [سورة التوبة 120] قال نسختها الآية التي تليها : "وما كان المؤمنون لينفروا كافة" [سورة التوبة 122] .
وبهذا التفصيل السابق تجتمع الأدلة، ويتم إعمالها جميعاً، وتُنزل النصوص في محالِّها، فأما كون الأصل الأول الذي يتحدد به نوع العلاقة، دعوتهم إلى الإسلام قبل قتالهم فهذا محل اتفاق بين أهل العلم (43) لأدلة كثيرة منها :
1- قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب يوم خيبر : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" (44) .
2-كان صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال :اغزوا باسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ..."(45) .
3- قال ابن عباس رضي الله عنهما : (ما قاتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قوماً قط إلا دعاهم)(46). قال الطبري : (أجمعت الحجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -لم يقاتل أعداءه من أهل الشرك إلا بعد إظهاره الدعوة، وإقامة الحجة، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر أمراء السرايا بدعوة من لم تبلغه الدعوة)(47) . ومعنى هذا أن دعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم أمر واجب إن كانت دعوة الإسلام لم تبلغهم، ومستحبه إن تكن قد بلغتهم، هذا إذا كان المسلمون هم الذين قصدوا الكفار في ديارهم، أما إذا كان الكفار هم الذين قصدوا المسلمين ففي هذه الحالة للمسلمين أن يقاتلوهم من غير دعوة، لأنهم بذلك يدافعون عن أنفسهم وحريمهم .(48).
وإلى هنا انتهى المقصود – باقتضاب شديد – والله أعلم .
----------------------------
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 5/139، والترمذي (ح 1617)، وابن ماجه (ح2858) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه .
(2) أخرجه مالك في الموطأ، في الجهاد، النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو (ح1292) عن يحيى بن سعيد مرسلا.
(3) حقوق غير المسلمين في بلاد الإسلام، للعايد ص 6 – نقلاً عن قصة الحضارة 13/131.
(4) معاملة غير المسلمين في الإسلام 1/256 – إعداد : المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية – الأردن .
(5) مستشرق فرنسي، كان يدرس اللغات الشرقية في باريس، له العديد من المقالات عن جغرافية البلدان الإسلامية، وألف كتاباً اسمه :"تاريخ فلاسفة المسلمين وفقهائهم". انظر : الأعلام للزركلي 5/120 .
(6) ينظر : هداية المرشدين، لعلي محفوظ ص 531، ومنهج الداعية في دعوته لغير المسلمين، لأسماء الوهيبي ص 13 .
(7) الحسبة في الإسلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 13 .
(8) أخرجه مسلم في صحيحه، في السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (ح2167) – من حديث أبي هريرة .
(9) أخرجه البخاري في صحيحه في الأدب، باب 35- ومسلم في صحيحه في السلام (ح10) – من حديث عائشة .
(10) أخرجه مسلم في صحيحه في البر والصلة (ح87) – من حديث أبي هريرة .
(11) أخرجه البخاري في صحيحه، في المغازي، باب قصة دوس والطفيل بن عمرو (ح4392) ، ومسلم في صحيحه في فضائل الصحابة (ح2524) – من حديث أبي هريرة .
(12) أخرجه مسلم في صحيحه في السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام (ح2167) – من حديث أبي هريرة .
(13) فتح البارىء 11/40 .
(14) انظر : تفسير الطبري 25/63 .
(15) تفسير ابن كثير 4/136 .
(16) ص 533 .
(17) يراجع في تفاصيل ذلك : الولاء والبراء في الإسلام / للقحطاني . والموالاة والمعاداة في الشريعة الإسلامية / للجلعود . والاستعانة بغير المسلمين ص 51 – 86، وفقه الاحتساب على غير المسلمين ص 33 – 36 كلاهما للدكتور عبد الله الطريقي .
(18) ويراجع في تفسير الآية : تفسير ابن كثير 1/538 .
(19) زاد المعاد 3/158- 161 .
(20) الذمة : بمعنى العهد والأمان والضمان والحرمة والحق . ومثلها : الذمام . ( انظر : النهاية في غريب الحديث 2/168 ) .
(21) على أنه ينبغي أن يعلم بأنه لا يجوز عند الفقهاء عقد معاهدة أبدية، انظر أحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة د / إسماعيل العيساوي .(/8)
(22) يجوز عند المالكية والحنفية عقد الذمة مع جميع أصناف الكفار واستثنى الحنفية منهم عبدة الأوثان من العرب، انظر حاشية الدسوقي للدردير 2/206، شرح السير الكبير للسرخسي 5/1692، الموسوعة الفقهية – مصطلحات أهل الذمة - .
(23) ينظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 28/414، وفقه الاحتساب على غير المسلمين ص 4 – 5 – 14 – 15 .
(24) انظر : كشاف القناع 3/28، 32 – 36، فتح القدير لابن الهمام 4/277-282، البدائع للكاساني 7/100، مغني المحتاج للشربيني 4/2-9 – 219، اللباب في شرح الكتاب للميداني 4/115، معاملة غير المسلمين في الإسلام 1/249 .
(25) الناسخ والمنسوخ في القرآن لابن خزيمة ص 264، والناسخ والمنسوخ لابن حزم 2/179، والناسخ والمنسوخ للنحاس ص 264، وتفسير المنار 10/199 .
(26) أخرجه أحمد (ح5115)، وابن أبي شيبة 5/313، والبيهقي في الشعب (ح1199) – من حديث ابن عمر، وإسناده ضعيف لأنه من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان وهو ضعيف .
(27) أخرجه البخاري في صحيحه في الاعتصام بالكتاب والسنة (ح7284)، ومسلم في الإيمان (ح20 – 21) – من حديث أبي هريرة .
(28) السياسة الشرعية ص 123 – 125 .
(29) أخرجه البخاري في صحيحه، في الجهاد (ح2966)، ومسلم في صحيحه في الجهاد (ح1741) – من حديث أبي هريرة .
(30) انظر : رسالة القتال لابن تيمية ص 125 .
(31) كهرقل وكسرى والمقوقس والمنذر بن ساوى وملك عمان وصاحب اليمامة هوذة بن علي والحارث الغساني وغيرهم من ملوك وأمراء المناطق انظر : نصوص هذه الرسائل في صحيح مسلم بشرح النووي 12/103، 111 زاد المعاد3/688ـ697، وحياة الصحابة للكاندهلوي 1 / 31، 124 .
(32) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 28/ 414، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 201.
(33) السياسة الشرعية ص 123 .
(34) ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنه لا يسوغ طرح هذه المسألة على أن العلاقة مع الكفار سلم أو حرب، لأن فيه إيهاماً يؤدي إلى اللبس في شأن هذه العلاقة هل هي قبل تبليغ الدعوة ورفض الاستجابة أو بعد ذلك، لأن الفرق بينهما مختلف . انظر : أحكام المعاهدات في الفقه الإسلامي للعيساوي ص 50 – 51، والجهاد والقتال في السياسة الشرعية 1/828 – رسالة دكتوراه، د محمد خير هيكل .
(35) فتح القدير 1/742 .
(36) تفسير الطبرى 2/109، تفسير ابن عطية 8/132، تفسير البغوي 1/162 .
(37) الفتاوى 28/354 .
(38) رسالة القتال لابن تيمية ص 125 .
(39) شرح مسلم 1/98 – 99 .
(40) تفسير ابن كثير 2/469 .
(41) المحرر الوجيز 8/178 .
(42) تفسير السعدي 2/244 .
(43) انظر : المبسوط 10/3، البحر الرائق 5/81، حاشية ابن عابدين 4/128، المغني 9/172-173، كشاف القناع 3/40، مطالب أولي النهى 2/509، روضة الطالبين 9/259، الفواكه الدواني 1/396، شرح صحيح مسلم للنووي 1/197 – 12/36، سبل السلام 4/45، الموسوعة الفقهية 16/143، موسوعة الإجماع لابن تيمية ص 340 .
(44) البخاري (ح3701)، ومسلم (ح2406)، وأحمد 5/333– من حديث سهل بن سعد .
(45) أخرجه مسلم في صحيحه 5/139، والترمذي (ح1617)، وابن ماجه (ح2858) – من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه .
(46) أخرجه أحمد (ح2105)، والدارمي (ح2444)، وأبو يعلى (ح2591) – من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه عن ابن عباس، وسنده صحيح .
(47) اختلاف الفقهاء ص 2 .
(48) انظر : أحكام أهل الذمة لابن القيم 1/5 .(/9)
هل الإسلام فكر بدوىّ قَبَلىّ كما تردّد الببغاوات؟
أ.
د/إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
نسمع هذه الأيام من بين المنتسبين إلى الإسلام من يعملون على التنقص من هذا الدين العظيم من خلال اتهامه بأنه فكر قبلى بدوى متخلف ، على أساس أنه ظهر فى بلاد العرب ذات المجتمعات التى تغلب عليها القبلية والبداوة . وبعض الذين يسمعون هذا الكلام قد يصدقونه،
فليس كل الناس عندهم الوقت للتحرى والتقصى ولا النظرة الناقدة التى تمحص ما تسمعه، وبخاصة إذا كان ظاهر الأمر يمكن أن يوحى للمتعجلين بصحة ما يقال ، وعلى وجه أخص إذا جاء هذا الزعم فى مثل ظروفنا الحالية التى لا تخفى على أحد والتى وصل فيها حال المسلمين إلى درك غير مسبوق لا على المستوى العسكرى والسياسى فقط ، بل على المستوى النفسى والفكرى أيضا ، إذ لم يظهر فيهم مِنْ قَبْلُ مِثْلُ هذا العدد الكبير الذى يتبع كل ناعق من مبغضى الإسلام دون فهم أو وعى بما يدبَّر خلف الستار .
إنها عملية انتحار حضارى يجمع بين الغباء والإجرام تقوم بها فئة مارقة تريد أن تجرّ معها بقية الأمة لحساب الأعداء الذين يعملون منذ قرون على تدميرنا وتركيعنا وقطعوا فى ذلك أشواطا ، وما زالوا مستمرين فى عملية التدمير والتركيع دون كلل أوملل ودون أن يراعوا عهدا أو ذمة.
وبادئ ذى بدء نقول إن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن بدويا بأى حال من الأحوال ، إذ كان من أهل مكة ، فهو إذن حضرى لا بدوى ، وإن كان هذا لا يعنى التنقص من المجتمعات البدوية بأى معنى ، فهى طراز اجتماعى مَثَله مَثَل طراز المجتمعات الريفية وطراز مجتمعات المدينة وطراز حياة الغابة وطراز حياة الإسكيمو ... إلخ .
ولا يستطيع عاقل أن ينكر التنوع البيئى والاجتماعى الذى تعرفه الكرة الأرضية ، فهو سنة كونية لا يمكن تغييرها ، كما أنه مظهر من مظاهر الثراء الحضارى . ولكم أمدت الباديةُ التاريخَ الإنسانى بالعظيم من الأفكار والرجال، وكان لها دور لا ينكَر فى كثير من عمليات التطور الحضارى . ومن الغباء أن ننظر شزرا إلى المجتمعات البدوية فى كل الظروف والأحوال .هذه نقطة مبدئية أحببت أن أجلّيها قبل أن أدخل فى صميم الموضوع .
والآن نتساءل : إذا كان الإسلام دينا بدويا متخلفا كما تردد الببغاوات التى تقع عقولها فى آذانها لا فى رؤوسها ، فكيف يا ترى استجابت له كل هاتيك الأمم والشعوب التى دخلت ومازالت وستظل تدخل فيه بإذن الله مع اختلاف بيئاتها ونظمها الاجتماعية عن بيئة البداوة ، ومنها الأوربيون والأمريكان ، فضلا عن العراقيين والمصريين والسوريين والفرس والهنود والصينيين ،
وهؤلاء أصحاب حضارات عريقة لا كالغربيين الذين لم يعرف معظمهم طعم التحضر إلا بعدهم بأحقاب كما هو معروف لكل من لديه أدنى إلمام بالتاريخ ؟ فليفسر لنا الببغاوات إذن ، أو بالأحرى فليفسر لنا أسيادهم الذين يجرّونهم من أنوفهم كما تُجَرّ البهائم ، تلك الظاهرة !
ألا إن هذه شِنْشِنَةٌ استشراقيةٌ تبشيريةٌ معروفةٌ لكل من اطلع على شىء من القىء الذى تقذف به أفواه الحقد ضد دين رب العالمين . والمستشرقون والمبشرون يعلمون قبل غيرهم أن ما يقولونه فى هذا الصدد إنما هو إفك من الصنف التافه الرخيص ، لكنهم يعرفون أيضا أن كثرة الطنين به قد يأتى بثمرته بين ذوى العقول القرودية السخيفة والضمائر المنكوسة المهزومة الذين يظهرون بين ظَهْرانَىِ الأمم الضعيفة فى أوقات الهزيمة والتحلل ، بالضبط كما يظهر الطفح المرضى على الجلد بسبب اختفاء المناعة أو ضعفها.
وكيف يفسرون يا ترى استمساك المسلمين ، ما عدا هذه القلة المارقة الشاذة ، بدينهم رغم أن المغريات بتركه فى المرحلة الأخيرة من تاريخهم كثيرة ؟
كذلك كيف يشرحون لنا السر فى أن هذا الدين قد أنتج حضارة من أبدع وأغنى ما عرفته البشرية من حضارات ؟ ولست هنا بسبيل تعداد المنجزات الحضارية التى أبدعها الإسلام فى كل الميادين ، ولكنى أكتفى فقط بالإيماء إلى ما اقتطفته أوربا من ثمار هذه الحضارة واتخذت منه منطلقا للخروج من وهدة التخلف التى كانت مرتكسة فيها حين كان المسلمون يجسدون المثال الأعلى فى المدنية والثقافة على السواء ، ثم شرعت تضيف إليه بعد أن رسخت قدمها فى مضمار العلم والاختراع حتى صارت إلى ما هى عليه الآن ، وأخذت تعمل على ألا يعود المسلمون كما كانوا مدنية وعلما وقوة
. أهذا كله إنتاج بدوى قبلى ؟ إن كان الأمر كذلك فمعنى هذا أن القبلية والبدوية شىء عظيم لا يعاب ، اللهم إلا ممن فى قلوبهم مرض ! ويا من تتشدقون بازدراء الإسلام من ببغاواتنا المنكوسة المنحوسة ، ها أنتم أولاء تعيشون فى مجتمعات حضرية ، فما الذى يمنعكم من أن ترتقوا وتقوَوْا وتقضوا على المشاكل التى تعانى منها أممكم وتناطحوا أمم الغرب التى أذاقتكم الويل والهوان ؟(/1)
لكنكم أعجز وأضأل وأذل وأقل وأضل من أن تستطيعوا ذلك ولا عشره ولا واحدا على المائة ولا الألف ولا حتى المليون منه رغم الإمكانات الهائلة التى فى أيديكم بالمقارنة بما كان متاحا للمسلمين الأوائل مما لم يكن يتعدى الصفر ، اللهم إلا قوة العقيدة والإيمان بالله والرسول والقرآن ، هذا الإيمان الذى قلّل فى أعينهم كل شىء ومكّنهم من صنع ما يُعَدّ اليوم من قبيل المعجزات ! إننا الآن مليار ونصف ، وتحت أيدينا من الإمكانات ما يحتاج إلى كُتُبٍ وكُتُبٍ وكتبٍ وكتبٍ وكتبٍ لإحصائه ، ومع هذا فنحن فى ميدان السياسة والإنتاج والقوة الحربية والعلم صفر كبير ، أما المسلمون الأوائل الذين خرجوا من الجزيرة العربية ، وكانوا فى أغلبهم من البدو الذين يظن القرود أنهم قادرون على النيل منهم وتحقير صورتهم وإنجازاتهم الفريدة على مدى الدهر، فكانوا بضع عشرات من الألوف ليس إلا ، ومع ذلك استطاعوا أن يفرضوا صوتهم وشخصيتهم على التاريخ ويُنطِقوه بالعربية ويصبغوه بصبغة الله التى ليس مثلها من صبغة ...
إلى أن أخذت قبضتهم على عروة الدين تتراخى فحدث لهم ما حدث مما نعيش عقابيله الآن هما وغما وخوفا وذلة وتخلفا ، بالإضافة إلى السفالة التى يغادينا ويماسينا بها هؤلاء القرود الذين ينتفخون ويشمخون كأنهم سادة ، وما هم فى واقع الحال إلا عبيد أذلاء لا قيمة لهم بأى معيار من معايير الحضارة والكرامة الإنسانية .
ينبغى أن نفرق بين الإسلام ، الذى هو دين سماوى عالمى للإنسانية جمعاء ، وبين المسلمين الأوائل الذين جاء كثير منهم من البادية ثم انضم إليهم أهل الحضر من الشعوب التى دخلت بعد ذلك فى دين الله أفواجا وأحبته وخالط منها شغاف القلوب وبذلت فى سبيله المُهَج والأموال رخيصة تبتغى بذلك وجه المولى الكريم .
ثم تعالَوْا ننظر ما قدمه الغرب المتحضر غير البدوى لنا على مدار عشرات العقود من إذلالٍ واستعمارٍ ونهبٍ لثرواتنا وتدميرٍ لكل طاقاتنا وآمالنا فى الانعتاق من الضعف والتخلف ومَلْخٍ لفلسطين الغالية وتقسيمٍ لبلادنا وزرعٍ لعوامل التفرقة بيننا، كل ذلك على نحو مخطط مدروس مُمَنْهَج ، إلى جانب القصف اليومى فى هذه الأيام النحسات للعراق الحبيب وأرض الإسراء والمعراج المباركة الغالية وأفغانستان المسكينة بكل أسلحة الفتك الرهيبة وهدم البيوت والمؤسسات وقتل الأطفال والنساء والرجال والشيوخ دون أى ذنبٍ جَنَوْه سوى أنهم مسلمون رِخاص لا يستحقون أن ينعموا ببلادهم وثرواتهم ، وفى تحدٍٍّ صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية مما ضج منه الشرفاء والأحرار من كل أنحاء العالم بما فيها أوربا وأمريكا أنفسهما ولا يزالون !
هذا من ناحية الإطار ، فماذا عن المضمون ؟
لننظر فيما كان سائدا فى بلاد العرب عند ظهور الإسلام من قِيَمٍ وأوضاعٍ ونقارن بينه وبين ما جاء به الرسول الكريم لنرى أهذا الذى جاء به هو من نتاج تلك البيئة أم لا .
وبذلك نحسم هذه المسألة بدلا من الاستمرار فى الشقشقة بالكلام الذى يمكن أن يطول فيه الجدل إلى ما لا نهاية : وأول شىء نود أن نقف إزاءه هو العقيدة ، فما الذى أتى به الرسول فى هذا المضمار ؟
لقد كان العرب بوجه عام قوما وثنيين ، لكل قبيلة أو عدة قبائل صنمها الذى تعبده وتتعصب له ولا تعرف شيئا عن التوحيد ، لكن الإسلام كانت له هنا كلمة أخرى ، إذ دعا إلى الوحدانية المطلقة التى لا تشوبها شائبة ، فلا أوثان ولا ثنوية ولا تثليث ولا بنوة لله ، ولا اقتصار لربوبيته تعالى على أمة معينة يكون هو ربها من دون باقى الأمم كما هو الحال فى اليهودية حيث يُنْظَر إليه سبحانه على أنه إله بنى إسرائيل فحسب ، فلا يعرف سواهم ولا يقيم وزنا فى رحمته ولا فى تشريعاته لغيرهم مهما انحط اليهود وكفروا ، ومهما آمن غيرهم وعدل وأحسن واستقام .
فالإله فى الإسلام هو رب العالمين جميعا لا لقبيلة أو أمة بعينها ، وهو ليس منحصرا فى مكان دون مكان ، وبابه مفتوح دائما للجميع ، ورحمته وسعت كل شىء، وهى سابقة أبدا غضبه ، والحسنة عنده بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها فحسب ، هذا إن لم يمحها محوا ويسترها على صاحبها كأنه لم يرتكب شيئا .(/2)
والعبرة عنده بحسن النية والإخلاص وبذل الوسع ، وهى أمور فى متناول كل إنسان ، فلا قرابين ولا مُحْرَقات ولا إيمان بأشياء لا تدخل العقل بل تُعْنِت الضمير وتغرق الإنسان فى حيرة وبلبلة وتدفعه لمدابرة المنطق . فأين البدوية والتخلف هنا ، وما جاء به الإسلام يتفوق تمام التفوق على كل ما كان معروفا آنذاك وحتى الآن من عقائد وأديان سواء على مستوى الفكر أو الشعور أو الضمير ؟ ليس هذا فحسب ، بل إنه يترك الإنسان رغم ذلك لاختياره ، فإن شاء آمن ، وإن شاء كفر ، وحتى لو لم يؤمن فليس العقاب الأخروى بواقع عليه ضربة لازب، إذ إن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ ، وما دام الحق قد عُمّىَ عليه ولم يبزغ له نوره رغم بذله الجهد وإخلاصه فى رغبة الوصول إليه فإن رحمة الله قريب من عباده المجتهدين المخلصين .
كذلك فالعقاب الأخروى لم يكن معروفا عند العرب ، اللهم إلا نفرا قليلا لا تأثير له فى حياتهم .أما فى الإسلام فهناك حساب وثواب وعقاب وجنة ونار ، والإنسان ليس كمًّا مهملا فى الكون يأتى إلى الدنيا ويموت ثم ينتهى أمره عند هذا الحد كما تنتهى الحيوانات العجماء.
وفى المجتمعات البدوية نجد أن ولاء الفرد إنما يكون دائما لقبيلته ، كما أن مفهوم الخير والشر مفهوم قبلى ، فالشر الذى يوقعه الإنسان بواحد من غير قبيلته لا يُعَدّ شرا ، وعلى أبناء القبيلة أن يهبوا لنصرة أى منهم ظالما كان أو مظلوما . كذلك كان التفاخر بالأنساب القبلية بينهم جامحا أشد الجموح ، وكانت المنافرات جزءا من نسيجهم القِيمِىّ والاجتماعى لا يَرَوْن الدنيا إلا من خلاله ، فكأن القبيلة هى كل شىء ولا وجود لأى شىء آخر وراء حدودها .
ثم لما بزغت شمس الإسلام كانت هذه المفاهيم والقيم الغبية الضيقة من أول ما انهال عليه بمعول هدمه ، إذ نادى بأعلى صوته أن ليس لقرشى أى فضل على غير القرشى ولا للعربى على العجمى ، واسِمًا الدعوة إلى العصبيات القبلية بأنها منتنة ، ومُحِلاََّ أُخُوّة الإسلام العالمية محل الأخوة القبلية ، ورافضا أن بعتدى المسلم على غير المسلم دون وجه حق لأنهما إن كانا مختلفين فى الدين فإن رابطة الإنسانية تجمع بينهما ، علاوة على الروابط الاجتماعية التى ينبغى عليه أيضا مراعاتها فى التعامل معه بالمودة والحسنى ما دام لم يؤذه أويهدده ، وموجبا كذلك عليه أن يكف أخاه عن الظلم إذا هم به أو شرع فيه ، مفهما إياه أن هذا هو المعنى الجديد لنصرة الظالم التى كانت العقلية القبلية تفهمها على نحو مخالف تماما.
لقد انتزع الإسلامُ الإنسانَ العربىَّ من تلك الدائرة الضيقة إلى آفاق أرحب وأسمق وأهدى سبيلا . لقد نقله من القبلية إلى الإنسانية والعالمية فى خطوة واحدة سابحا بكل قوة ونبل وجسارة عكس التيار الذى كان سائدا فى بلاد العرب أوانذاك .فأين الفكر البدوى المتخلف كما تقول ببغاواتنا القصيرة العقل الطويلة اللسان ؟
والله إن كانت هذه هى البداوة فإننى أول المتبدّين ، إذ لا يُعْقَل أن أهجر كل هذا النبل والسموق الفكرى والوجدانى والأخلاقى وأجرى لأكون فى خدمة الغربى الأنانى المتحجر القلب الذى لا يرى لغير الرجل الأبيض أى حق فى الحياة الحرة الكريمة لأن الدنيا فى زعمه الشيطانى المريض إنما خُلِقَتْ له هو وحده . الحق أنه لا يفعل ذلك إلا الببغاوات التى رُكّبَت عقولها فى آذانها لا فى رؤوسها،
فهى تحصر نفسها فى الكلمات ، وتؤمن أو تكفر لا بِناءً على ما يؤديها إليه عقلها بل بناءً على ما يحمّله المغرضون للكلمات من معان لا حقيقة لها. إن هذه هى عبودية الفكر والضمير ، وهى أسوأ وأمقت من عبودية الجسد وأدل على انحطاط الجِبِلّة ، لأن الإنسان قد يكون عبدا بجسده ولكنه سيد بفكره ووجدانه ، على العكس من ببغاواتنا المتصايحة دون عقل أو كرامة!
ثم لقد كان العرب ينتفضون إلى الحرب لأتفه سبب مدمرين أنفسهم فى صراعات عبثية فى أكثر الأحوال ، فجعل الإسلام لحياتهم معنى وربطهم بالسماء وبقيم البناء والتقدم والحضارة حتى لقد أصبحوا بناة إمبراطورية فى غضون سنوات قلائل ، إمبراطورية احتلت مكان الصدارة العالمية لقرون طوال ،على حين كانت أوربا أثناءها تعيش عيشة همجية فى كل مناحى الحياة تقريبا ، أوربا التى تصدّع أدمغتنا الآن هى وأذنابها من ببغاواتنا باتهام الإسلام بالبداوة والتخلف !
والله إن هذه قلة أدب قبل أن تكون شيئا آخر !(/3)
وكانت عادة الأخذ بالثأر فاشية بين العرب فُشُوًّا فظيعا فوقف الإسلام فى وجهها ودانها وأقام بدلا من هذه الفوضى نظاما تشريعيا يأخذ فيه أولياء القتيل حقهم عن طريق الدولة لا بأيديهم مُنْشِئًا بذلك دولة المؤسسات .كما كان العرب مشغوفين بالخمر ، يتغنى بها شعراؤهم ويَرَوْن فيها إحدى المفاخر العظيمة ، فماذا فعل الإسلام هنا ؟ لقد جاء بتحريمها تحريما قاطعا لا هوادة فيه ، ونجح فى هذا السبيل نجاحا لم ينجحه أى دين أو تشريع آخر فى القديم أو الحديث . وبالمثل كان العرب يعتقدون فى العرافين والكهان والسحرة ويعملون لهم ألف حساب ، فوجّه الإسلام إلى هذه المعتقدات المتخلفة أيضا ضربة مُصْمِية !
وكان كثير منهم يبغضون خِلْفة البنات ، وبعضهم كان يئد بنته الرضيعة تخلصا من شبح الفقر والعار كما ذكر القرآن الكريم ، فوبّخهم الإسلام على هذا السلوك الوحشى وندّد بمرتكبيه وتوعدهم بأفظع ألوان العذاب فى جهنم يوم تُسْأَل المسكينة : بأى ذنب قُتِلَت ؟ وكان توفيقه هنا أيضا توفيقا هائلا . كما كان البدو ينظرون إلى المرأة نظرة دونية لأنها لا تشارك فى الحروب ، ومن ثم لم يكن لها نصيب فى الميراث ، لكن الإسلام لم يرض هذا الوضع وجعل لها حقا فى التركة كما للرجل ،
وزاد فأوصى بمعاملتها معاملة كريمة تراعى وضعها وظروفها ، ومن بين ما قاله الرسول العظيم فى هذا الصدد أنه لا يكرمها إلا كريم . حتى قيمة الكرم التى كان العرب يفاخرون بها أشد المفاخرة كان للإسلام فيها نظرة أخرى ، إذ ربطها بالنية وابتغاء وجه الله لا ابتغاء السمعة والرياء، وهو أمر لم يكن العربى يتصوره أو يدور له ببال على الإطلاق .
فكيف يمكن لعاقل أن يتهم الإسلام بالبداوة ؟ إذا لم يكن هذا هو التحضر والرقىّ بعينه وقضّه وقضيضه فما التحضر إذن ؟ أجيبونا يا ببغاواتنا الحمقى ، أو فليجب بالأحرى من يصفعونكم على أقفائكم كى تهاجموا دينكم وأنتم تظنون أن هذا الهجوم على دين رب العالمين سيجعل منكم ناسا متحضرين !
وعندنا كذلك ميدان العلم الذى لم يكن للعرب فيه باع أىّ باع ، إذ كانت معارفهم لا تزيد على كونها شذرات بدائية متفرقة لا تقدم ولا تؤخر ، بل كانت الأمية أيضا فاشية فيهم إلى حد رهيب ، وكان الورق يكاد يكون معدوما عندهم ، وكان النبى نفسه أميا ، ورغم هذا نجد القرآن والسنة النبوية يوليان العلم وطلبه والمساعدة عليه والاستزادة منه ورقىّ الدرجات المتتالية فيه اهتماما عظيما ليس له سابقة فى تاريخ الأديان والحضارات:
فالعالِم أفضل من العابد مثلما يَفْضُل القمرُ الكواكبَ فى ليلة الرابع عشر ، والرسول ذاته لم يؤمَر فى القرآن بالاستزادة من شىء إلا من العلم . بل إن العلم ليس حقا للمسلم فقط ، بل هو واجب وفريضة يأثم إن لم يقم بها .
كما أن العلماء ورثة الأنبياء ، فضلا عن أن المجتهد مأجور حتى لو أخطأ ، وهو ما ليس له ضريب فى أى دين أو فلسفة أو مذهب على مدار التاريخ ، وهذا من شأنه أن بفجر الطاقات الفكرية والابتكارية عند الفرد والأمة على السواء. وكانت النتيجة هى هذه الأعداد الرهيبة من العلماء المسلمين فى جميع ميادين المعرفة . وإن من له أى اتصال بالتراث الفكرى عند أمتنا ليذهل من الأمداء المتناوحة التى كان العقل الإسلامى يصول فيها ويجول بكل جسارة ونشوة .
وقد كان من ثمرة ذلك أيضا أن استطاع ذلك العقل أن يبلور ويقنن المنهج الشكّىّ والمنهج العلمى التجريبى اللذين نقلهما الأوربيون أيام نهضتهم فكانا بمثابة المفتاح الذى يمكن الدخول به ، وبه وحده ، إلى مخبإ كنوز على بابا ، إذ لولا هذان المنهجان اللذان وقعت عليهما أوربا غنيمة باردة جاهزة ما استطاعت أن تبلغ شيئا مما بلغته فى مضمار المعرفة والاكتشافات والاختراعات العلمية . أفهذه هى البداوة التى تتحدثون عنها أيها الببغاوات ؟
خيّبكم الله فوق خيبتكم وأخزاكم وسوّد وجوهكم أكثر مما هى مسودّة ! والله إنها لفضيحة الدهر أن يتطاول هؤلاء الأرجاس المناكيد على سيد الأنبياء والدين العظيم الذى أُوحِىَ إليه ، وهم الذين لا يجرؤ أى عُتُلٍٍّ زنيم منهم أن يمس أى دين آخر حتى ولو كان دين عُبّاد البقر فيفتح فمه المنتن بأى انتقاد له رغم أن جميع الأديان الأخرى غير الإسلام هى أديان من قوارير هشّة تنكسر لأقل لمسة! ولكن لا غرابة فى هذا ، فإن الدمى لا يمكنها أن تتصرف من تلقاء عقلها ، لأنها ببساطة ليس لديها أى عقل !
ولقد علّم النبى أتباعه كثيرا من قواعد السلوك والذوق الراقى ، سواء على المستوى الشخصى أو الاجتماعى أو الإنسانى بعد أن كانوا لا يعرفون شيئا فى هذا الصدد تقريبا :(/4)
لقد عرّفهم مثلا أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة ، وأن قضاء الحاجة فى ظل الأشجار أو فى الماء الراكد تصرف آثم ، وأن الرأفة بالحيوان مما يقرّب العبد من ربه ويُجْزَى عليه خير الجزاء ، وأنه لا يليق بالمسلم أن يترك أسنانه دون تسويك أو شعره دون تمشيط أو ملابسه دون عناية وتنظيف ، وأن عليه الاحتراز من أن يؤذى الآخرين بشىء من هذا .
ولقد بلغ الأمر فى هذا المجال أن جعل الإسلامُ النظافةَ ركنا أصيلا من أركان الإيمان مما لا نعرف له مثيلا فى غيره من الديانات . كما نبّه معتنقيه إلى أهمية احترام خصوصية الآخرين فلا يدخلون بيوتا غير بيوتهم قبل أن يستأذنوا أصحابها ويؤذَن لهم ، وأوجب على الخدم والأطفال أيضا ألا يقتحموا غرف نوم الآباء إلا بعد الاستئذان ...إلخ ... إلخ إن كان لذلك من آخر .
أترى ببغاواتنا المنخوبة العقل والكرامة والضمير ستقول إن هذه أيضا بداوة وقبلية وتخلف ؟ والله رب محمد ما متخلف إلا لَعَقَة فضلات الغرب وزُبالتِه!
وأخيرا نختصر الكلام اختصارا ونقول : أَوَ لَوْ كان الإسلام فكرا بدويا قبليا متخلفا كما تردد الببغاوات أكان العرب البدو يتحزبون ضده ويناصبونه حربا دموية لسنوات وسنوات وينفقون فى معاداته النفس والنفيس ولا بؤمنون به إلا بعد جولات وجولات من المعارك الطحون بينهم وبين النبى عليه الصلاة والسلام ؟
ألم يكن المنطقى أن يسارعوا إلى الإيمان به والدخول فيه ما دام يعبر عنهم ويؤكد ما يعتنقونه ويتمسكون به من عقائد وعادات وتقاليد؟ لقد عرضوا بالعكس من ذلك على النبى أن يبذلوا له ما يريد من مال ومنصب ورئاسة لقاء الرجوع عما جاءهم به والرضا بالأوضاع السائدة ، لكنه رفض ذلك أيما رفض وآثر أن يمضى فى طريقه مع ما يجره ذلك عليه من أذى وترويع وأخطار وفقدان للأمن واحتمال فقدان الحياة أيضا .
ترى لم وقع منه ومنهم هذا كله لو كان الذى أتاهم به ليس شيئا آخر غير الذى كان عندهم ؟ فليجب الحمقى من ببغاواتنا ، أو بالأحرى فليجب من يكلفونهم بهذه المهام القذرة التى تناسبهم ثم يَبْقَوْن فى الظلام يرقبون الموقف ويفركون أيدهم حبورا بالخيبة القوية التى جَرّوا إليها فريقا من أبناء المسلمين(/5)
هل الإسلام هو الحلّ ؟!
د.عدنان علي رضا النحوي
info@alnahwi.com
يبدو أنَّ عالمنا اليوم عالم الشعارات ، الشعارات التي تدوِّي بها وسائل الإعلام الواسعة المتنوّعة ، وتُخْفي في كثير من الأحيان مضمونها الحقيقي وجوهر رسالتها ، فتثير في الناس عاطفة هائجة ، أو تتركهم حيارى بين ظنٍّ ووهمٍ ، أو تدفعهم إلى مزالق لا يدركون خطرها إلا بعد فوات الفرصة .
ويدور الصراع بين الشعارات ، ويحتدُّ الصراع وقد تطور ، ولكل شعار رجاله أو شعوبه . فلا يعود هناك فرصة لتأمَّل وتدبّر ، ولا لدراسة وتبيّن ، ولا محاولة لدخول أعماق هذا الشعار أو ذاك ، أو حقيقة محتواه من حقٍّ أو باطل .
السؤال الذي يجب أن يقف الإنسان عنده هو : هل يريد الحقَّ أم يريد الانسياق وراء مصالح خاصة مادية أو وراء نزوات عاطفيةٍ ، أو حميّة جاهليَّة لقرابة أو قومية ، أو تبعيَّة يُخَدَّر فيها الإنسان ، ويُخدَّر كثير من الناس ؟!
إنَّ هذه الحياة الدنيا فيها حقٌّ وباطلٌ ، ولقد يسَّر الله لعباده كلَّ وسائل معرفة الحق حتى لا يعود هناك عذر لأحد في ضلالة . وجعل الله سبحانه وتعالى هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء وتمحيص ، لتقوم الحجة على كلِّ إنسان يوم القيامة أو تقوم له ، لينال كلُّ إنسان حسابه على موازين قسط في الدار الآخرة لا ظلم فيها أبداً ، فإمَّا إلى جنَّة وإمَّا إلى نار ، حيث هناك دار القرار ، دار الخلود والحياة الحقيقية .
لن تُغْنيَ الشعارات إذا أَضلّت الناس وأَخْفت الحقِّ الذي تقوم عليه السموات والأرض ، وخدَّرت الناسَ وأفقدتهم القدرة على الرؤية العادلة ، والتفكير الأمين ، والتمييز بين الحق والباطل .
لا بدَّ أن نقرّر حقائق أساسية في هذا الكون وهذه الحياة الدنيا ، حتى يستقيم تفكيرنا على نهج إيمانيّ . إنَّ لهذا الكون كلّه ربَّاً واحداً وإلهاً واحداً هو الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى كلها ، خالق كلِّ شيء ، يُدبّر الأمر كله ، وله الأمر كله ، يمضي الكون كله على سنن لله ثابتة رحمةً منه سبحانه وتعالى ، بقضاء نافذ وقدر غالب وحكمة بالغة . وقد بعث الله لعباده رسلاً مبشَّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وقد غرس الله الإيمان في الفطرة السليمة السويَّة ، وجعل آياته مبثوثة في الكون كله ، آيات بيّنات في أنفسنا ، وفي الأرض ، وفي السماء ، ليراها كلُّ ذي بصيرة وهبها الله له ، لا تُفقد البصيرة إلا فسدت الفطرة وغلبت الأهواء والشهوات والنزعات الجاهليَّة .
وبعث الله الرسل والأنبياء رحمة منه بعباده ، وهداية لهم ، وتذكيراً وبشرى ونذيراً ! فلا يُعقل أبداً أن يبعث الله رسله بديانات مختلفة يتصارع الناس عليها فيضلّون ويأثمون . فقد بعثَ الله جميع رسله وأنبيائه بدين واحد فقط هو الإسلام ، دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وجميع الرسل والأنبياء عليهم السلام الذين خُتِموا بمحمد r . نعم ! كان هناك رسالات تجتمع كلها في الدين الواحد . وتعدَّدت الرسالات رحمة الله من الله بعباده ، حيث كان يُبْعث كلُّ نبيٍّ إلى قومه خاصَّة ، فبعث الله في كلِّ أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، وجعل مع التوحيد شرائع لذلك القوم في ذلك الزمن ، وختمهم بمحمد r برسالة جامعة خاتمة :
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) [النحل : 36 ]
هذه هي الحقيقة الواضحة البيّنة التي لا بدَّ أن يؤمن بها كلُّ ذي لبٍّ ونقاء وصفاء ، بعيداً عن الأهواء والشهوات . فإذا لم تستقرَّ هذه الحقيقة المقنعة فمن العبث بعد ذلك أن يدور أيّ حوار أو بحث .
الله واحد لا شريك له ، فالدين إذاً واحداً . فلا يُعقل أن يبعث لعباده بديانات مختلفة تتصارع ، ولا يُعْقل أن يكذب الرسل على ربِّهم . ولا على الذين يبلغونهم، ولا على أحد من الناس . ولا بدَّ أن تنتهي الرسالات برسالة جامعة شاملة مصدّقة لما قبلها ومهيمنة عليها لتُخْتم بها الرسالاتُ كلُّها رحمة من الله بعباده ، رحمة وسعت كلّ شيء ، وعدلاً منه وهدى :
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ......) [ المائدة : 48 ]
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) [ البقرة : 285](/1)
هذه هي الحقيقة الثانية : " لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ " ، حقيقة مرتبطة بما قبلها أن بعث الله في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت !
وجاءت هذه الرسالة الخاتمة كاملة تامة جامعة :
( .... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلامَ دِيناً ......)
[ المائدة : 3 ]
فالدين عند الله واحد ، هو الإسلام :
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)
[ آل عمران : 19 ]
من هذه الحقائق ينطلق الحوار ، وكلّ حوار . ولكن القضيَّة لا تقف عند هذه الحقائق ، فإنَّها تمتدُّ إلى الذين يحاورون ، ومدى إيمانهم بقضيتهم ، ومدى علمهم بها وفهمهم لها ،ومدى صدق ممارستهم لها في الواقع ، حتى يرى الناس الإسلام وحياً منزلاً من عند الله ، كتاباً يُتْلى ، ويرونه أيضاً سلوكاً مطبّقاً في واقع الحياة ، فيكون العلم والممارسة في الواقع الحجّة الكبرى في الدعوة والبلاغ ، حين يرى الناس الحقَّ صدقاً يمارس وخيراً يفيض ونوراً يمتدُّ .
لقد كانت هذه القاعدة أساساً في دعوة محمد r أن رأى الناس الدعوة بياناً وممارسةً ، ممارسةً في جميع ميادين الحياة على تكامل وتناسق . لقد كان هنالك دعوة جليةٌ ، وكان الحوار دعوةً وبلاغاً ولم يكن جدلاً أو تنازلاً .
هذا الدين الإسلامي الذي جاء من عند الله حقاً كاملاً لا باطل معه أبداً ، جاء للعالمين :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) [ فصلت : 41-43 ]
من هذا التصور الذي بيّنه كتاب الله وسنَّة نبيّه r نرى بوضوح صفاءَ الإنسانيّة بأجلى معانيها ، حتى يتأكَّد الإنسان أنه لا مجال للإنسانيّة خارج هذا المنهاج الربَّاني . ويرى بجلاء سموّ العدالة في التشريع والتطبيق ، ويرى الحريّة الكريمة التي لا تعتدي على حقوق الآخرين ، ويرى حقوق الإنسان ليست شعاراً فحسب ، ولكنها معاملة وممارسة حقيقية في ميادين الحياة كلها حتى يؤمن أنه لا يمكن أن تقوم عدالة وحريّة أمينة وحريّة صادقة خارج هذا الدين .
كلُّ من يدرس منهاج الله سيرى الحقَّ وجلاءَه في آياته البينات وأحاديثه الشريفة ، وسيرى أنه منهاج حياة متكامل تام لكل عصر ولكل مكان ولكل واقع ، ولكل شعب أو أمة تريد الحياة الطاهرة الأمينة .
إنه من عند الله العزيز الحكيم ، فلا يمكن أن يرقى إليه تشريع البشر مهما حملوا من ثقافة أو علم أو مواهب . ولأنه الحقّ لا بدَّ أن يتصدَّى له المجرمون في الأرض والمفسدون الذين لا يريدون الحق ولا العدالة ، ولكن يريدون الأهواء والشهوات ، والإباحية في الجنس ليسمّوها حريّة ، حتى إذا انتشرت الأمراض بسبب الفجور الجنسي لم يردعهم ذلك عن باطلهم ، بل يمضون ويزدادون فجوراً، حتى ينزل عقاب شديد من عند الله .
واقع البشرية كلها اليوم خطير يهدّد بكوارث وفتن وأمراض . واقع المسلمين خطير كذلك ! فإذا أردنا إصلاح واقع المسلمين ، وإصلاح واقع البشرية، فليس هناك من حلٍّ عمليٍّ عادل إلا الإسلام كما أُنزل على محمد r، وكما جاء في الكتاب والسنَّة باللغة العربية بياناً ميسّراً معجزاً لا يستطيع أحد أن يبلغ مستواه.
ولا يوجد أمام البشرية كلها أي حلٍّ للإصلاح إلا الإسلام . ولكن هناك عقبات أمام ذلك . عقبات من غير المسلمين وعقبات من المسلمين . والعقبات من المسلمين أعظم خطراً .
حتى يبرز المسلمون أنَّ الإسلام هو سبيل الإصلاح للفرد والشعب والبشريّة يجب أن يُقدّموا الإسلام للناس كاملاً كما أُنْزِل على محمد r ، بيناً جلياً دون تبديل ولا تحريف . ويجب في الوقت نفسه أن يُبْرِزوا الإسلام ممارسة وتطبيقاً في واقع الحياة ، حتى يصدق البلاغ والدعوة والحجّة على الناس . يجب أن نقدِّم الإسلام بلاغاً وبيناً صادقاً صافياً ، ونقدّمه نموذجاً حيّاً في ممارسةٍ إيمانيّة، حتى يرى الناس الإسلام بياناً وعملاً .
ولما برز الإسلام بعد فتح مكة دولةً قوية تعرض الإسلام عدلاً ورحمةً وسياسةً واقتصاداً وحريّة منضبطة غير متفلتة ، وحقوقاً للناس ومسؤوليات محدّدة في شرع الله ، وقضاء وحكماً وتنفيذاً لحدود الله وشرعه كله ، ولما رأى الناسُ الدعاةَ يُبلّغون ما أُنْزِل من عند الله لا يحرّفون ولا يبدِّّلون ، أقبل الناس على الإسلام أفواجاً وأفواجاً .(/2)
(إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) [ النصر : 1-3]
يجب أن يكون البلاغ صادقاً والممارسةُ صادقةً حتى تقوم الحجّة على الناس بأنَّ الإسلام هو الحلّ . وإلا سيبقى قولنا : " الإسلام هو الحل " شعاراً كسائر الشعارات التي تدوّي في واقعنا ولا تجد لها رصيداً في الواقع .
نحن المسلمين اليوم أخطأنا في البلاغ وأخطأنا في الممارسة والنموذج . فعلينا أن نراجع أنفسنا قبل أن نحاسب غيرنا .
من حيث البلاغ لم تبلّغ الإسلام كما أُنْزِلَ على محمد r . لقد وقع تبديل وتحريف صريح غطَّى عليه ضجيج كبير . لقد حاول الكثيرون أن يعلنوا مبادئ نسبوها إلى الإسلام والإسلام منها بريء ، وكأنهم يريدون مسايرة الغرب فيما يدّعيه من ديمقراطية وحريّة متفلّتة وعدالة غير قائمة ومساواة لا تتجاوز المساواة بين الضحايا في التعذيب ، والأموات ، وقد لا تقع المساواة . إن ضغط الغرب علينا بإعلامه المدوّي وشعاراته المدويّة وأجهزته ورجاله وتابعيه خلَّف آثاراً واسعة في واقع المسلمين . الأمثلة كثيرة بتغيير النصوص والأمثلة أكثر بالاجتهادات المبنية عليها . نضرب مثلاً واضحاً لنبيّن ما نرمي إليه .
يقول الأستاذ أحمد قائد الشعيبي في كتابه : " وثيقة المدينة ـ المضمون والدلالة " . أما بالنسبة لغير المسلمين فأساس المواطنة هو " الولاء للدولة الإسلامية عن طريق العهد ، لأن حق المواطنة لا يستلزم وحدة العقيدة ولا وحدة العنصر " .
ولكن الكاتب لم يذكر أنَّ حق المواطنة في الإسلام لا يحدّد الحقوق والواجبات . فالحقوق والواجبات تتحدّد بشرع الله ونصوصه الثابتة ، شرعاً عادلاً ونصوصاً عادلة ، ولو خالفت منطق الديمقراطية والعلمانية . الناس في الإسلام متساوون أمام الشرع ، يطبّق الشرع على جميع المواطنين ، كما أُنْزِل من عند الله، ليأخذ كلٌّ حقَّه ، ويلتزم مسؤوليته ، وقد تختلف الحقوق والمسؤوليات ، وهي مختلفة حقاً .
ثمَّ يقول الكاتب ليثبت صحة رأيه : قال r : " لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم " . ويشير في الهامش إلى تخريج الحديث كما يلي : ابن حبان ، محمد بن حبان بن أحمد ، الصحيح ، تحقيق شعيب الأرناؤوط ط 2 : 13/215 ، حديث : 5895 . وعندما تفتح صحيح ابن حبان ج13 ، ص : 215 / حديث 5895 نجد ما يلي :
عن أنس بن مالك أنّ رسول الله r قال : ( أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حَرُمَت علينا دماؤهم وأموالهم ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ) .
وفي تعليق المحقق الأستاذ شعيب الأرناؤوط يقول : صحيح على شرط الشيخين ، وأخرجه النسائي 7/67، 8/109 ، وأخرجه أحمد : 3/199 ، 244 – 225 ، والبخاري 392 في الصلاة ... ، وأبو داود 2641 في الجهاد ، والترمذي 2608 في الإيمان ، وأبو نعيم في الحلية 8/173 ، والخطيب في تاريخه 10/464 ، والبيهقي 2/3 .... " !
ومع انتشار هذا الحديث الشريف الصحيح وتكراره في هذه الكتب ، لم يتردَّد المؤلّف في أن يحذف معظم الحديث ، ويقتطف آخر جملة مجزوءة ، فقلب المعنى والحكم الشرعيّ ، وبدَّل وغيَّر بصورة لا تحلُّ أبداً .
وهذه الصورة التي يعرضها الحديث الشريف بكامله تتكرر في أحاديث شريفة أخرى وفي آيات كريمة . وحسبنا أن نشير إلى الآية الكريمة ( 11 ) من سورة التوبة :
(فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )
[ التوبة : 11 ]
نعم ! جعل الإسلام لأهل الكتاب أن يقيموا في دولة الإسلام ، ولهم حقوقهم كما بيّنَّها منهاج الله ، ولهم حق ممارسة دينهم ، وحق حمايتهم ، ولكن ليس لهم ما للمسلمين ولا عليهم ما على المسلمين .
لقد فرَّق الإسلام وشرعه في الحقوق والواجبات بين المؤمن وغير المؤمن، وحدَّد بوضوح حقوق كلِّ طائفة ومسؤولياتها . وحتى في وثيقة المدينة جاء التأكيد على ذلك . ففي البند (1) : ولا يَقْتُل مؤمنٌ مؤمناً في كافر ، ولا ينصر كافراً على مؤمن . والبند (15) : وأنَّ ذمَّة الله واحدة يجير عليهم أدناهم ، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس . والبند (2) : وأنَّ المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه . والبند (23) : وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإنَّ مردَّه إلى الله عزَّ وجل وإلى محمد r .(/3)
ولا بدَّ أن نتذكّر أن هذه الوثيقة كانت تمثل مرحلة خاصة من مراحل الدعوة الإسلاميَّة ، فبعد أن نزل القرآن الكريم وتمّت السنة المطهرة ، أصبح الكتاب والسنة هما مرجع المؤمنين إلى يوم القيامة . ومع أن الوثيقة أعطت لليهود حقوقهم في ممارسة دينهم ، وأنهم يؤلفون مع المؤمنين أهل المدينة ، إلا أن الشرط الرئيس أنَّ الإسلام هو الذي يحكم . وما لبث اليهود أن غدروا وخانوا ونبذوا العهود ، فنزل في حقِّهم ما نزل في كتاب الله .
ويعيد هذه المقولة المجزوءة : " لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم " ، المستشار سالم البهنساوي في كتابه : " قواعد التعامل مع غير المسلمين " حيث يقول في ص : " 12" : " لهذا كانت القاعدة في التعامل بين المسلمين وبين غيرهم من رعايا الدولة الإسلامية هي : " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " ! ويشير في الهامش إلى المصدر " بدائع الصنائع للكاساني ج 7 ص 100 ، وأحكام أهل الذمَّة لابن القيم تحقيق د . صبحي الصالح : ص : 48 .
أعجب إذا كان الأمر كما ذكر الأستاذ البهنساوي من أنَّ القاعدة في التعامل مع غير المسلمين هي ما ذكره ، فلماذا جاءت الآيات الكريمة في كتاب الله خالية من هذا النص . ولماذا يلجأ إلى بدائع الصنائع للكاساني بدلاً من أن يلجأ إلى الكتاب والسنَّة ، ولماذا لا يذكر النصّ الكامل من تلك المراجع التي ذكرها ، حتى لا يكون هنالك خطأ كما حدث مع الأستاذ أحمد قائد الشعيبي .
ولكن الأستاذ البهنساوي يعود ويناقض نفسه في كتابه حين يذكر بعض الرسائل التي وجهها رسول الله r إلى بعض الملوك والرؤساء . ففي رسالته إلى هرقل جاء فيها : " من محمد رسول الله إلى صاحب الروم . إني أدعوك إلى الإسلام فإنْ أَسْلَمتَ فلك ما للمسلمين وعليك ما عليهم ...." ! فهنا جاء النصّ واضحاً صريحاً كما جاء في الحديث الشريف وفي صحيح ابن حبان . جاء النصّ هنا يقرّر : " فإن أسلمتَ ..." ! وهذا مطابق لجميع الأحاديث والآيات . فما هو الهدف أو المصلحة في تغيير النصوص ، ولماذا يريد بعض المسلمين اليوم أن يخالفوا أمر الله وأمر رسوله فيدَّعون أن الإسلام ساوى في الحقوق والواجبات بين المسلم وغير المسلم ؟!
والمؤسف أنه مع انتشار هذه الأفكار وتوافر دعاة لها أخذت تتردَّد على ألسنة عدد من الدعاة المسلمين في أقطار مختلفة . وقد أعلن هذه القاعدة المخالفة للكتاب والسنَّة داعية كبير في بيان عام له .
نخلص من ذلك إلى أنَّ الإسلام يفرض على كلِّ مواطن أن يخضع لحكم الإسلام إلا فيما يتعلَّق بأمور دينهم . ويبيّن الإسلام حقوق كلِّ طائفة بصورة مفصَّلة حتى لا تختلط الأمور . ويفرض على المسلمين المضيّ في تبليغ دعوة الله إلى غير المسلمين المقيمين مع المسلمين ، والذين هم خارج دار الإسلام .
ونعتقد أن هذه هي القضيَّة التي أغفلها المسلمون الذين يدرسون هذه القضايا والذين يتابعون شؤون الإسلام .
فبالإضافة إلى أن تبليغ دين الله ، الإسلام ، إلى الناس كافَّة هو أمر من عند الله ورسوله ، أمرٌ تواترت النصوص على إثباته ، إلا إنه أمر تفرضه طبيعة الإيمان والإحسان . فالمسلم يؤمن أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من أحد ديناً غير الإسلام ، فمن مات على غير دين الإسلام هالك :
( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
[ آل عمران : 85 ]
فمن واجب المؤمن إذاً أن ينقذ الناس من هلاك محقّق ، أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ، من جهنَّم إلى الجنَّة ، من الضلال إلى الهدى ، إذا لم يدخلوا في الإسلام . إنها مسؤوليّة المسلم المرتبطة مع سائر المسؤوليات التي كلَّفه الله بها .
ولكن على المسلم أن يحسن تبليغ الدعوة ويكسب القلوب إلى نور الإيمان وأن يدعو ويدعو بأطيب الأساليب ، والله يهدي من يشاء ويضلُّ من يشاء . وحتى تنجح الدعوة في تحقيق هدفها الرباني يجب أن يكون الداعية متمثَّلاً للإسلام ، واعياً له ، أميناً في البلاغ والتعهّد . عليه أن يدعو إلى الإسلام ، إلى الله ورسوله، لا إلى حزب أو جماعة ، أو آراء خاصة . عليه أن يبلّغ الإسلام كما أُنزل على محمد r ، ليكون المسلمون أمة واحدة ، تربطهم أكرم رابطة إيمانيَّة وأَعَزُّ من أي رابطة أخرى ، هي أُخوَّة الإيمان ، أخوّة الإسلام ، كما جاءت في الكتاب والسنَّة ، وليست الأخوة العائلية أو القومية أو الوطنيَّة . فقد صاغ الإسلام جميع هذه الروابط صياغة إيمانيَّة تنفي عنها العصبيات الجاهلية التي حرَّمها الإسلام ، وتجعلها روابط خير للبشرية كلها .
ونؤكد أننا لن نجد الإنسانية الصادقة ولا العدالة الأمينة ولا الحريَّة المنضبطة ، خارج الإسلام . إننا نجد خارج الإسلام عصبيات جاهلية ، وأهواء تتصارع ، ومصالح دنيوية تتصادم ، وفتناً وفساداً ، لن يستطيع الشعارات ودويُّها إخفاء فسادها وظلمها .(/4)
نعم ! الإسلام هو الحل لمشكلات الفرد والجماعة والأمة والبشرية . لا ريب في ذلك . ولكن كيف يكون هو الحلّ إذا كان الإسلام لا يُلْتَزم ، وإذا كان الإسلام يأخذ في أيدي الناس وأذهانهم عدة أشكال متضاربة ؟!
كيف يكون الإسلام هو الحلّ لمشكلات الناس إذا كان بعض المسلمين يتنازلون عن الإسلام دعوةً وشعاراً ، ويسبحون بحمد الديمقراطية الأمريكية صباح مساء ؟!
كيف يمكن أن يكون الإسلام هو الحل إذا كان بعض المسلمين يحرفون الأحاديث الشريفة ، ويؤولون الآيات على غير ما أنزلت له ؟!
ومع ذلك فالإسلام هو الحل ، الإسلام كما أُنزِلَ على محمد r دون تحريف ولا فساد تأويل ! الإسلام هو الحل ما دام هنالك جنود صادقون مع الله إيماناً وعلماً وعملاً وجهاداً في سبيل الله ! وسيظلُّ في الأرض طائفة صادقة داعية مجاهدة :
فعن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله r :
( لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقِّ لا يضرُّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك )
[رواه مسلم ](1)
(1) مسلم : 33/53/1920(/5)
هل الإنسان مسير أو مخير؟
د. نايف بن أحمد الحمد 15/7/1427
09/08/2006
- الأول: الإيمان بأن الله تعالى عالم بكل صغيرة وكبيرة جملة وتفصيلاً.
- الثاني: الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء.
- الثالث: أنه لا يكون شيء في السموات ولا في الأرض إلا بإرادة الله ومشيئته.
- الرابع: أن الله تعالى خالق كل شيء.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فهذا السؤال مما يكثر طرحه، وتسبب سوء فهمه لبعض الناس بترك العمل –العبادات مع اقترافه للمحرمات- محتجاً بالقدر، والجواب يحتاج إلى بسط وذكر لفتاوى العلماء الموضحة، لذلك فأقول مستعيناً بالله تعالى: إن التصديق بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان ولا يتم إلا بأربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى عالم بكل صغيرة وكبيرة جملة وتفصيلاً.
قال تعالى: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم" [المائدة:79]. وقال تعالى: "قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم" [الحجرات:16]. وقال تعالى: "ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلا هو رابعهم ولا خمسةٍ إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم" [المجادلة:7]. وقال تعالى: "يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور" [التغابن:4].
الثاني: الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء.
قال تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب ٍ من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" [الحديد:22] وقال تعالى: "وكل شيءٍ فعلوه في الزبر" [القمر:52]. ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة". رواه مسلم (2653).
الثالث: أنه لا يكون شيء في السموات ولا في الأرض إلا بإرادة الله ومشيئته.
الدائرة بين الرحمة والحكمة يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بحكمته، قال تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" [القمر:49].
الرابع: أن الله تعالى خالق كل شيء.
قال تعالى: "قل الله خالق كل شيءٍ وهو الواحد القهار" [الرعد:16]. وقال تعالى: "الله خالق كل شيء وهو على كل شيءٍ وكيل" [الزمر:62]. وقال تعالى: "والله خلقكم وما تعملون" [الصافات:96]. (انظر: شرح لمعة الاعتقاد لشيخنا العلامة ابن عثيمين(/51)، معارج القبول للشيخ الحكمي (2/328) السلفية شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل لابن القيم، والقضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة د. عبد الرحمن المحمود).
قال العلامة عبد الرحمن السعدي –رحمه الله تعالى- "مراتب ذلك –أي القدر- أربع لا يتم الإيمان بالقدر إلا بتكميلها: الإيمان بأنه بكل شيء عليم، وأن علمه محيط بالحوادث، دقيقها وجليلها، وأنه كتب ذلك باللوح المحفوظ، وأن جميعها واقعة بمشيئته وقدرته. ما يشاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مع ذلك مكَّن العباد من أفعالهم فيفعلونها اختياراً منهم بمشيئتهم وقدرتهم، كما قال الله تعالى: "ألم تعلم أن الله يعلم ما في السموات والأرض إن ذلك في كتاب" [الحج:70] وقال: تعالى: "لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين" [التكوير:28-29].
أ.هـ سؤال وجواب في أهم المهمات (67).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- مبيناً مذهب أهل السنة في أفعال العباد: (والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: "لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين" [التكوير:28-29] أ.هـ الواسطية مع شرح هراس (ص65).(/1)
وقال ابن قدامة –رحمه الله تعالى- (ومن صفات الله –تعالى- أنه الفعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خُط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، قال تعالى: "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" [الأنبياء:23]، وقال تعالى: "وخلق كل شيء فقدره تقديراً" [الفرقان:2]، وقال تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" [الحديد:22] وقال تعالى: "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً" [الأنعام:125]، وروى ابن عمر: أن جبريل عليه السلام قال للنبي –صلى الله عليه وسلم- ما الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) فقال جبريل: صدقت. رواه مسلم، وقال النبي –صلى الله عليه وسلم- "آمنت بالقدر خيره وشره حلوه ومره"، ومن دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر: (وقني شر ما قضيت).
ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه، بل يجب أن نؤمن بأن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثه الرسل، قال الله تعالى: "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" [النساء:165].
ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر أحداً على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعة، قال تعالى: "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" [البقرة:286]، وقال تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم" [التغابن:16]، وقال تعالى: "اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم" [غافر:17]، فدل على أن للعبد فعلاً وكسباً يُجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره" أ.هـ لمعة الاعتقاد(/194) مطبوع ضمن الجامع للمتون العلمية.(/2)
وقال الشيخ السعدي –رحمه الله تعالى- ذاكراً شبهة الجبرية ومجيباً عنها: "إن الجميع يقولون بما جاء به الكتاب والسنة، من إثبات الأصلين: (أحدهما): الاعتراف بأن جميع الأشياء كلها –أعيانها، وأوصافها، وأفعالها- بقضاء وقدر، لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته، بل: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. (والأصل الثاني): أن أفعال العباد- من الطاعات، والمعاصي، وغيرها- واقعة بإرادتهم وقدرتهم: وأنهم لم يجبروا عليها: بل هم الذين فعلوها بما خلق الله لهم: من القدرة: والإرادة، ويقولون: لا منافاة بين الأمرين: فالحوادث كلها –التي من جملتها أفعال العباد- بمشيئة الله وإرادته: والعباد هم الفاعلون لأفعالهم، المختارون لها. فهم الذين اختاروا فعل الخيرات وفعلوها، واختاروا ترك المعاصي فتركوها. والآخرون اختاروا فعل المعاصي وفعلوها، واختاروا ترك الأوامر فتركوها. فاستحق الأولون المدح والثواب، واستحق الآخرون الذم والعقاب، ولم يجبر الله أحداً منهم على خلاف مراده واختياره. فلا عذر للعاصين إذا عصوا، وقالوا: إن الله قدرها علينا، فلنا بذلك العذر. فيقال لهم: إن الله قد أعطاكم المكنة والقدرة على كل ما تريدون، وأنتم –بزيغكم وانحرافكم- أردتم الشر ففعلتموه: والله قد حذركم، وهيأ لكم كل سبب يصرف عن معاصيه: وأراكم سبيل الرشد فتركتموه، وسبيل الغي فسلكتموه، وإذا أردت زيادة إيضاح لهذا المقام: فإنه من المعلوم لكل أحد: أن كل فعل يفعله العبد، وكل كلام يتكلم به –فلابد فيه من أمرين: قدرة منه على ذلك الفعل والقول: وإرادة منه. فمتى اجتمعا: وجدت منه الأقوال والأفعال. والله تعالى هو الذي خلق قدرة العبد، وإرادة العبد: وخالق السبب التام، خالق للمسبب. فالله تعالى خالق أفعال العباد، والعباد هم الفاعلون لها حقيقة، فهذا الإيراد الذي أورده هذا المشكك، وما أشبهه-: من الإيرادات التي يحتج بها أهل المعاصي، بالقدر- يجيبونهم بهذا الجواب، المفحم، فيقولون: دلت أدلة الكتاب والسنة الكثيرة: على أن الله خالق كل شيء وعلى كل شيء قدير، وأن كل شيء بقضاء وقدر: الأعيان، والأوصاف، والأفعال. ودلت –أيضاً- أدلة الكتاب والسنة: أن العباد هم الفاعلون لفعلهم حقيقة، بقدرتهم واختيارهم، فإنه تعالى نسب إليهم، وأضاف إليهم كل ما فعلوه: من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية. وإنه تعالى مكنهم من هذا، ومن هذا. ولكنه تعالى حبب إلى المؤمنين الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان: وولى الآخرين ما تولوا لأنفسهم: حيث اختاروا الشر على الخيرة وأسباب العقاب على أسباب الثواب. وهذا –كما أنه معلوم بالضرورة من الشرع- فهو معلوم بالحس الذي لا يمكن لأحد المكابرة فيه: فإن العبد يفرق بين أفعاله التي يقسر ويجبر ويقهر عليها، وبين أفعاله التي يختارها ويريدها، ويحب حصولها" أ.هـ الدرة البهية شرح القصيدة التائية (149).
وسئل شيخنا العلامة ابن عثيمين –رحمه الله تعالى- مثل هذا السؤال: (هل الإنسان مسير أو مخير؟) فأجاب –رحمه الله تعالى- "على السائل أن يسأل نفسه هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال، وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة، وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير، ثم يسأل نفسه هل يصيبه الحادث باختياره؟ هل يصيبه المرض باختياره؟ هل يموت باختياره؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة، وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير.
والجواب: أن الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب، واسمع إلى قول الله تعالى: "فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا" [النبأ:39]، وإلى قوله تعالى: "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة" [آل عمران:152] وإلى قوله تعالى: "ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً" [الإسراء:19]، وإلى قوله تعالى: "ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" [البقرة:196]، حيث خير الفادي فيما يفدي به. ولكن العبد إذا أراد شيئاً وفعله علمنا أن الله –تعالى- قد أراده –لقوله –تعالى-: "لمن شاء منكم أن يستقيم، وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين" [التكوير:29]، فلكمال ربوبيته لا يقع شيء في السموات والأرض إلا بمشيئته تعالى، وأما الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره كالمرض والموت والحوادث فهي بمحض القدر وليس للعبد اختيار فيها ولا إرادة. والله الموفق". أ.هـ(/3)
وقال –رحمه الله تعالى- "هل الإنسان مسير أو مخير؟ وهل له إرادة أو ليس له إرادة؟ فنقول: الإنسان مخير إن شاء الله آمن وإن شاء الله كفر، بمعنى أن له الاختيار وإن كان ليس سواءً لا يستوي الكفر والإيمان، لكن له اختيار أن يختار الإيمان أو أن يختار الكفر وهذا أمرٌ مشاهدٌ معلوم فليس أحدٌ أجبر الكافر على أن يكفر، وليس أحدٌ أجبر المؤمن على أن يؤمن، بل الكافر كفر باختياره والمؤمن آمن باختياره، كما أن الإنسان يخرج من بيته باختياره ويرجع إليه باختياره، وكما أن الإنسان يدخل المدرسة الفلانية باختياره ويدخل الجامعة الفلانية باختياره وكما أن الإنسان يسافر باختياره إلى مكة أو إلى المدينة أو ما أشبه ذلك، وهذا أمر لا إشكال فيه ولا جدال فيه ولا يمكن أن يجادل فيه إلا مكابر، نعم هناك أشياء لا يمكن أن تكون باختيار الإنسان كحوادث تحدث للإنسان من انقلاب سيارة أو صدم أو سقوط بيت عليه أو احتراق أو ما أشبه هذا لا شك أن لا اختيار للإنسان فيه، بل هو قضاءٌ وقدر ممن له الأمر، ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى الكافرين على كفرهم لأنهم كفروا باختيارهم، ولو كان بغير اختيار منهم ما عوقبوا، ألا ترى أن الإنسان إذا أكره على الفعل ولو كان كفراً أو على القول ولو كان كفراً فإنه لا يعاقب عليه؛ لأنه بغير اختيار منه، ألا ترى أن النائم قد يتكلم وهو نائم بالكفر، وقد يرى نفسه ساجداً لصنم وهو نائم ولا يؤاخذ بهذا؛ لأن ذلك بغير اختياره، فالشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه لا يعاقب عليه، فإذا عاقب الله الإنسان على فعله السيئ دل ذلك على أنه عوقب بحق ٍ وعدل؛ لأنه فعل السيئ باختياره، وأما توهم بعض الناس أن الإنسان مسير لا مخير من كون الله سبحانه وتعالى قد قضى ما أراد في علمه الأزلي بأن هذا الإنسان من أهل الشقاء، وهذا الإنسان من أهل السعادة فإن هذا لا حجة فيه، وذلك لأن الإنسان ليس عنده علمٌ بما قدر الله سبحانه وتعالى، إذ إن هذا سرٌ مكتوم لا يعلمه الخلق فلا تعلم نفسٌ ماذا تكسب غداً وهو حين يقدم على المخالفة بترك الواجب أو فعل المحرم يقدم على غير أساس وعلى غير علم؛ لأنه لا يعلم ماذا كتب عليه إلا إذا وقع منه فعلاً، فالإنسان الذي يصلي لا يعلم أن الله كتب له أن يصلي إلا إذا صلى، والإنسان السارق لا يعلم أن الله كتب عليه أن يسرق إلا إذا سرق، وهو لم يجبر على السرقة ولم يجبر المصلي على الصلاة، بل صلى باختياره والسارق سرق باختياره، ولما حدث النبي –صلى الله عليه وسلم- أصحابه بأنه "ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" قالوا: يا رسول الله ألا ندع العمل ونتكل؟ قال: (لا اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له" فأمر بالعمل والعمل اختياري وليس اضطرارياً ولا إجبارياً، فإذا كان يقول –عليه الصلاة والسلام- "اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له" نقول للإنسان اعمل يا أخي صالحاً حتى يتبين أنك ميسر لعمل أهل السعادة، وكل بلا شك إن شاء عمل عملاً صالحاً، وإن شاء عمل عملاً سيئاً، ولا يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على الشرع فيعصي الله ويقول هذا أمرٌ مكتوب علي بترك الصلاة مع الجماعة، ويقول هذا أمر مكتوب علي بشرب الخمر، ويقول هذا أمر كتب علي فيطلق نظره في النساء الأجنبيات ويقول هذا أمرٌ مكتوبٌ علي، ما الذي أعلمك أنه مكتوبٌ عليك فعملته؟ أنت لم تعلم أنه كتب إلا بعد أن تعمل، لماذا لم تقدر أن الله كتبك من أهل السعادة فتعمل بعمل أهل السعادة؟ وأما قول السائل هل للإنسان إرادة؟ نقول: نعم له إرادة بلا شك، قال الله تبارك وتعالى: "منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة" [آل عمران:152]، وقال تعالى: "ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن" [الإسراء:19]، وقال تعالى: "من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب" [الشورى:20]، والآيات في هذا معروفة، وكذلك الأحاديث معروفة في أن الإنسان يعمل باختيار وإرادة، ولهذا إذا وقع العمل الذي فيه المخالفة من غير إرادة ولا اختيار عفي عنه، قال الله تعالى: "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" [البقرة:28]، فقال الله: قد فعلت. وقال تعالى: "وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به" [الأحزاب:5]، وهذا أمرٌ -ولله الحمد- ظاهر ولا إشكال فيه إلا على سبيل المنازعة والمخاصمة، والمنازعة والمخاصمة منهيٌ عنهما إذا لم يكن المقصود بذلك الوصول إلى الحق، وقد خرج النبي –صلى الله عليه وسلم- ذات يوم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فتأثر من ذلك عليه الصلاة والسلام لأن هذا النزاع لا يؤدي إلى شيء إلا إلى خصومة وتطاول كلام وغير ذلك، وإلا فالأمر واضح ولله الحمد" أ.هـ.
كما سئلت اللجنة الدائمة عن ذلك.(/4)
فأجابت اللجنة: أولاً: ثبت أن الله –تعالى- وسع كل شيء رحمةً وعلماً، وكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، وعمت مشيئته وقدرته كل شيء، بيده الأمر كله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى وهو على كل شيء قدير، وقد دل على ذلك وما في معناه نصوص من الكتاب والسنة، وهي كثيرة معروفة عند أهل العلم، ومن طلبها من القرآن ودواوين السنة وجدها، من ذلك قوله تعالى: "إن الله بكل شيء عليم" [العنكبوت:62]، وقوله "الله خالق كل شيء" [الزمر:62]، وقوله "إنا كل شيء خلقناه بقدر" [القمر:49]، وقوله: "وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً" [الإنسان:30]، وقوله "يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب" [الرعد:39]، وقوله: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" [الحديد:22]، وقوله: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" [يونس:99]، وقوله: "ولو شئنا لأتينا كل نفسٍ هداها" [السجدة:13].
ومما ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في ذلك ما حث على الذكر به عقب الصلاة من قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" البخاري (844)، ومسلم (593)، وكذا ما جاء في حديث عمر –رضي الله عنه- من سؤال جبريل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان فأجاب النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله: "الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" مسلم (8)، فهذه النصوص وما في معناها تدل على كمال علمه –تعالى- بما كان وما هو كائن وتقديره كل شؤون خلقه، وعلى عموم مشيئته وقدرته، ما شاءه –سبحانه- كان وما لم يشأ لم يكن.
ثانياً: ثبت أن الله حكيم في خلقه وتدبيره وتشريعه، رحيم بعباده، وأنه –تعالى- أرسل الرسل –عليهم الصلاة والسلام- وأنزل الكتب وشرع الشرائع وأمر كلاً منهم أن يبلغها أمته، وأنه –تعالى- لم يكلف أحداً إلا وسعه، رحمة منه وفضلاً، فلا يكلف المجنون حتى يعقل، ولا الصغير حتى يبلغ، وعذر النائم حتى يستيقظ، والناسي حتى يذكر، والعاجز حتى يستطيع، ومن لم تبلغه الدعوة حتى تبلغه، رحمة منه تعالى وإحساناً.
وثبت عقلاً وشرعاً الفرق بين حركة الصاعد على سلم مثلاً، والساقط من سطح مثلاً، فيؤمر الأول بالمضي إلى الخير، وينهى عن المضي إلى الشر والاعتداء، بخلاف الثاني فلا يليق في شرع ولا عقل أن يوجه إليه أمر أو نهي.
وثبت الفرق أيضاً بين حركة المرتعش لمرضه وحركة من ليس به مرض، فلا يليق شرعاً ولا عقلاً أن يوجه إلى الأول أمر ولا نهي فيما يتعلق في الرعشة، لكونه ملجأ مضطراً إليه، بل يرثى لحاله ويسعى في علاجه، بخلاف الثاني، فقد يحمد كما في حركات العبادات الشرعية، وقد ينهى كما في حركات العبادة غير الشرعية وحركات الظلم والاعتداء، فتكليف الله عباده ما يطيقون فقط وتفريقه في التشريع والجزاء بين من ذكروا وأمثالهم دليل على ثبوت الاختيار والقدرة والاستطاعة لمن كلفهم دون من لم يكلفهم.
ثم إن الله –تعالى- حكم عدل علي حكيم لا يظلم مثقال ذرة، جواد كريم يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات، ثبت ذلك بالفعل الصريح والنقل الصحيح، فلا يتأتى مع كمال حكمته ورحمته وواسع مغفرته أن يكلف عباده دون أن يكون لديهم إرادة واختيار لما يأتون وما يذرون وقدرة على ما يفعلون، ومحال في قضائه العادل وحكمته البالغة أن يعذبهم على ما هم إلى فعله ملجؤون وعليه مكرهون، وإذاً فقدر الله المحكم العادل وقضاؤه المبرم النافذ من عقائد الإيمان الثابتة التي يجب الإذعان لها وثبوت الاختيار للمكلفين وقدرتهم على تحقيق ما كلفوا به من القضايا التي صرح بها الشرع وقضى بها العقل، فلا مناص من التسليم بها والرضوخ لها، فإذا اتسع عقل الإنسان لإدراك السر في ذلك فليحمد الله على ذلك، وإن عجز عن ذلك فليفوض أمره لله وليتهم نفسه بالقصور في إدراك الحقائق، فذلك شأنه في كثير من الشؤون، ولا يتهم ربه في قدره وقضائه وتشريعه وجزائه فإنه –سبحانه- هو العلي القدير الحكيم الخبير، "سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين" [الصافات: 180-182].(/5)
وليكف عن الخوض في ذلك الشأن خشية الزلل والوقوع في الحيرة، وليقنع عن رضا وتسليم بجواب النبي –صلى الله عليه وسلم- لأصحابه –رضي الله عنهم- لما حاموا حول هذا الحمى، فقالوا: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أفلا نتكل؟ فقال لهم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" رواه البخاري (4949) من طرق عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- قال: كنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في بقيع الغرقد في جنازة فقال: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار"، فقالوا: يا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أفلا نتكل، فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خُلق له"، ثم قرأ قوله تعالى: "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى"، إلى قوله تعالى: "فسنيسره للعسرى"، ورواه أيضاً مسلم (2647) وأصحاب السنن الترمذي (2136)، وابن ماجة (78)، وأحمد (621). وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز [الرئيس] ... عبد الرزاق عفيفي [نائب رئيس اللجنة]
عبد الله بن قعود [عضو] ... عبد الله بن غديان [عضو]
أ.هـ والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/6)
هل الإنسان مسير أو مخير
الكاتب: الشيخ د.نايف بن أحمد الحمد
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
فهذا السؤال مما يكثر طرحه وتسبب سوء فهمه لبعض الناس بترك العمل – العبادات مع اقترافه للمحرمات - محتجا بالقدر والجواب يحتاج إلى بسط وذكر لفتاوى العلماء الموضحة لذلك فأقول مستعينا بالله تعالى : إن التصديق بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان ولا يتم إلا بأربعة أمور :
الأول : الإيمان بأن الله تعالى عالم بكل صغيرة وكبيرة جملة وتفصيلا
قال تعالى ( جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (المائدة:97) وقال تعالى ( قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (الحجرات:16) وقال تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (المجادلة:7) وقال تعالى ( يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور ِ) (التغابن:4) .
الثاني : الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء
قال تعالى ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (الحديد:22) وقال تعالى ( وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (القمر:52) ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : ( كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ) رواه مسلم (2653) .
الثالث : أنه لا يكون شيء في السموات ولا في الأرض إلا بإرادة الله ومشيئته الدائرة بين الرحمة والحكمة يهدي من يشاء برحمته ويضل من يشاء بحكمته قال تعالى ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (القمر:49) .
الرابع : أن الله تعالى خالق كل شيء قال تعالى ( قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد: 16) وقال تعالى ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) (الزمر:62) وقال تعالى ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (الصافات:96) ( أنظر : شرح لمعة الاعتقاد لشيخنا العلامة ابن عثيمين /51 معارج القبول للشيخ الحكمي 2/328 السلفية شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل لابن القيم والقضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة د. عبد الرحمن المحمود )
قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى " مراتب ذلك –أي القدر- أربع لا يتم الإيمان بالقدر إلا بتكميلها : الإيمان بأنه بكل شيء عليم , وأن علمه محيط بالحوادث , دقيقها وجليلها , وأنه كتب ذلك باللوح المحفوظ , وأن جميعها واقعة بمشيئته وقدرته . ما يشاء كان وما لم يشأ لم يكن , وأنه مع ذلك مكَّن العباد من أفعالهم فيفعلونها اختيارا منهم بمشيئتهم وقدرتهم . كما قال الله تعالى : ( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ)(الحج: 70) وقال : ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29)ا.هـ سؤال وجواب في أهم المهمات (67) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مبينا مذهب أهل السنة في أفعال العباد : ( والعباد فاعلون حقيقة ، والله خالق أفعالهم , والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم ، وللعباد قدرة على أعمالهم ، ولهم إرادة والله خالق قدرتهم وإرادتهم ، كما قال تعالى ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (التكوير:29) ا.هـ الواسطية مع شرح هراس ص 65(/1)
وقال ابن قدامة –رحمه الله تعالى- : " ومن صفات الله –تعالى- أنه الفعال لما يريد ولا يكون شيء إلا بإرادته , ولا يخرج شيء عن مشيئته , وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره , ولا يصدر إلا عن تدبيره , ولا محيد عن القدر المقدور , ولا يتجاوز ما خُط في اللوح المسطور , أراد مالعالم فاعلوه , ولو عصمهم لما خالفوه , ولو شاء أن يطيعوه جميعا لأطاعوه , خلق الخلق وأفعالهم , وقدر أرزاقهم وآجالهم ’ يهدي من يشاء برحمته , ويضل من يشاء بحكمته , قال تعالى ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (الانبياء:23) وقال تعالى ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان :2) وقال تعالى( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22) وقال تعالى ( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً )(الأنعام :125) وروى ابن عمر : أن جبريل عليه السلام قال للنبي –صلى الله عليه وسلم – ما الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ) . فقال جبريل : صدقت . رواه مسلم وقال النبي –صلى الله عليه وسلم – ( آمنت بالقدر خيره وشره حلوه ومره ) ومن دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم – الذي علمه الحسن بن علي يدعو به في قنوت الوتر ( وقني شر ما قضيت ) ولا نجعل قضاء الله وقدره حجة لنا في ترك أوامره واجتناب نواهيه بل يجب أن نؤمن بأن لله علينا الحجة بإنزال الكتب وبعثة الرسل قال الله تعالى ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )(النساء : 165) ونعلم أن الله سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك , وأنه لم يجبر أحدا على معصية , ولا اضطره إلى ترك طاعة قال تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا )(البقرة :286) وقال تعالى ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(التغابن :16) وقال تعالى ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ )(غافر :17) فدل على أن للعبد فعلا وكسبا يُجزى على حسنه بالثواب , وعلى سيئه بالعقاب , وهو واقع بقضاء الله وقدره " ا.هـ لمعة الاعتقاد /194 مطبوع ضمن الجامع للمتون العلمية .(/2)
وقال الشيخ السعدي –رحمه الله تعالى – ذاكرا شبهة الجبرية ومجيبا عنها : " إن الجميع يقولون بما جاء به الكتاب والسنة , من إثبات الأصلين : ( أحدهما ) : الاعتراف بأن جميع الأشياء كلها - أعيانها , وأوصافها , وأفعالها - بقضاء وقدر , لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته , بل : ما شاء الله كان , وما لم يشأ لم يكن . ( والأصل الثاني ) : أن أفعال العباد - من الطاعات , والمعاصي , وغيرها - واقعة بإرادتهم وقدرتهم : وأنهم لم يجبروا عليها : بل هم الذين فعلوها بما خلق الله لهم : من القدرة : والإرادة . ويقولون : لا منافاة بين الأمرين : فالحوادث كلها - التي من جملتها أفعال العباد - بمشيئة الله وإرادته : والعباد هم الفاعلون لأفعالهم , المختارون لها . فهم الذين اختاروا فعل الخيرات وفعلوها , واختاروا ترك المعاصي فتركوها . والآخرون اختاروا فعل المعاصي وفعلوها , واختاروا ترك الأوامر فتركوها . فاستحق الأولون المدح والثواب , واستحق الآخرون الذم والعقاب . ولم يجبر الله أحدا منهم على خلاف مراده واختياره . فلا عذر للعاصين إذا عصوا وقالوا : إن الله قدرها علينا , فلنا بذلك العذر . فيقال لهم : إن الله قد أعطاكم المكنة والقدرة على كل ما تريدون , وأنتم - بزيغكم وانحرافكم - أردتم الشر ففعلتموه : والله قد حذركم , وهيأ لكم كل سبب يصرف عن معاصيه : وأراكم سبيل الرشد فتركتموه , وسبيل الغي فسلكتموه . وإذا أردت زيادة إيضاح لهذا المقام : فإنه من المعلوم لكل أحد : أن كل فعل يفعله العبد , وكل كلام يتكلم به - فلا بد فيه من أمرين : قدرة منه على ذلك الفعل والقول : وإرادة منه . فمتى اجتمعا : وجدت منه الأقوال والأفعال . والله تعالى هو الذي خلق قدرة العبد , وإرادة العبد : وخالق السبب التام , خالق للمسبب . فالله تعالى خالق أفعال العباد , والعباد هم الفاعلون لها حقيقة . فهذا الإيراد الذي أورده هذا المشكك , وما أشبهه - : من الإيرادات التي يحتج بها أهل المعاصي , بالقدر - يجيبونهم بهذا الجواب , المفحم , فيقولون : دلت أدلة الكتاب والسنة الكثيرة : على أن الله خالق كل شيء وعلى كل شيء قدير وأن كل شيء بقضاء وقدر : الأعيان , والأوصاف , والأفعال . ودلت - أيضا - أدلة الكتاب والسنة : أن العباد هم الفاعلون لفعلهم حقيقة , بقدرتهم واختيارهم . فإنه تعالى نسب إليهم , وأضاف إليهم كل ما فعلوه : من إيمان وكفر , وطاعة ومعصية . وإنه تعالى مكنهم من هذا , ومن هذا . ولكنه تعالى حبب إلى المؤمنين الإيمان وزينه في قلوبهم , وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان : وولى الآخرين ما تولوا لأنفسهم : حيث اختاروا الشر على الخيرة وأسباب العقاب على أسباب الثواب . وهذا - كما أنه معلوم بالضرورة من الشرع - فهو معلوم بالحس الذي لا يمكن أحدا المكابرة فيه : فإن العبد يفرق بين أفعاله التي يقسر ويجبر ويقهر عليها , وبين أفعاله التي يختارها ويريدها , ويحب حصولها " ا.هـ الدرة البهية شرح القصيدة التائية ( 149) .
وسئل شيخنا العلامة ابن عثيمين –رحمه الله تعالى – مثل هذا السؤال ( هل الإنسان مسير أو مخير ؟ ) فأجاب –رحمه الله تعالى - " على السائل أن يسأل نفسه هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال وهل هو يختار نوع السيارة التي يقتنيها ؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير ثم يسأل نفسه هل يصيبه الحادث باختياره ؟ هل يصيبه المرض باختياره ؟ هل يموت باختياره ؟ إلى أمثال ذلك من الأسئلة وسيتبين له الجواب هل هو مسير أو مخير . والجواب : أن الأمور التي يفعلها الإنسان العاقل يفعلها باختياره بلا ريب واسمع إلى قول الله تعالى- : ( فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً )(النبأ:39)- وإلى قوله تعالى ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ )(آل عمران :152) وإلى قوله تعالى ( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الإسراء:19) وإلى قوله تعالى ( فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ )(البقرة :196) حيث خير الفادي فيما يفدي به . ولكن العبد إذا أراد شيئاً وفعله علمنا أن الله -تعالى -قد أراده -لقوله -تعالى- : ( لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير:29) فلكمال ربوبيته لا يقع شيء في السموات والأرض إلا بمشيئته تعالى ، وأما الأمور التي تقع على العبد أو منه بغير اختياره كالمرض والموت والحوادث فهي بمحض القدر وليس للعبد اختيار فيها ولا إرادة . والله الموفق ." ا.هـ(/3)
وقال –رحمه الله تعالى – " هل الإنسان مسير أو مخير ؟ وهل له إرادة أو ليس له إرادة ؟ فنقول : الإنسان مخير إن شاء آمن وإن شاء كفر بمعنى أن له الاختيار وإن كان ليس سواءً لا يستوي الكفر والإيمان لكن له اختيار أن يختار الإيمان أو أن يختار الكفر وهذا أمرٌ مشاهدٌ معلوم فليس أحدٌ أجبر الكافر على أن يكفر وليس أحدٌ أجبر المؤمن على أن يؤمن بل الكافر كفر باختياره والمؤمن آمن باختياره كما أن الإنسان يخرج من بيته باختياره ويرجع إليه باختياره وكما أن الإنسان يدخل المدرسة الفلانية باختياره ويدخل الجامعة الفلانية باختياره وكما أن الإنسان يسافر باختياره إلى مكة أو إلى المدينة أو ما أشبه ذلك وهذا أمرٌ لا إشكال فيه ولا جدال فيه ولا يمكن أن يجادل فيه إلا مكابر نعم هناك أشياء لا يمكن أن تكون باختيار الإنسان كحوادث تحدث للإنسان من انقلاب سيارة أو صدم أو سقوط بيتٍ عليه أو احتراق أو ما أشبه هذا هذا لا شك أن لا اختيار للإنسان فيه بل هو قضاءٌ وقدر ممن له الأمر ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى الكافرين على كفرهم لأنهم كفروا باختيارهم ولو كان بغير اختيارٍ منهم ما عوقبوا ألا ترى أن الإنسان إذا أكره على الفعل ولو كان كفراً أو على القول ولو كان كفراً فإنه لا يعاقب عليه لأنه بغير اختيارٍ منه ألا ترى أن النائم قد يتكلم وهو نائم بالكفر وقد يرى نفسه ساجداً لصنم وهو نائم ولا يؤاخذ بهذا لأن ذلك بغير اختياره فالشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه لا يعاقب عليه فإذا عاقب الله الإنسان على فعله السيئ دل ذلك على أنه عوقب بحقٍ وعدل لأنه فعل السيئ باختياره , وأما توهم بعض الناس أن الإنسان مسير لا مخير من كون الله سبحانه وتعالى قد قضى ما أراد في علمه الأزلي بأن هذا الإنسان من أهل الشقاء وهذا الإنسان من أهل السعادة فإن هذا لا حجة فيه وذلك لأن الإنسان ليس عنده علمٌ بما قدر الله سبحانه وتعالى إذ أن هذا سرٌ مكتوم لا يعلمه الخلق فلا تعلم نفسٌ ماذا تكسب غداً وهو حين يقدم على المخالفة بترك الواجب أو فعل المحرم يقدم على غير أساس وعلى غير علم لأنه لا يعلم ماذا كتب عليه إلا إذا وقع منه فعلاً فالإنسان الذي يصلي لا يعلم أن الله كتب له أن يصلي إلا إذا صلى والإنسان السارق لا يعلم أن الله كتب عليه أن يسرق إلا إذا سرق وهو لم يجبر على السرقة ولم يجبر المصلي على الصلاة بل صلى باختياره والسارق سرق باختياره ولما حدث النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بأنه ( ما من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ) قالوا : يا رسول الله ألا ندع العمل ونتكل ؟ قال : ( لا اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له ) فأمر بالعمل والعمل اختياري وليس اضطرارياً ولا إجبارياً فإذا كان يقول - عليه الصلاة والسلام- ( اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له ) نقول للإنسان اعمل يا أخي صالحا اعمل صالحاً حتى يتبين أنك ميسر لعمل أهل السعادة وكلٌ بلا شك إن شاء عمل عملاً صالحاً وإن شاء عمل عملاً سيئاً ولا يجوز للإنسان أن يحتج بالقدر على الشرع فيعصي الله ويقول هذا أمرٌ مكتوب علي يترك الصلاة مع الجماعة ويقول هذا أمر مكتوب علي يشرب الخمر ويقول هذا أمر كتب علي يطلق نظره في النساء الأجنبيات ويقول هذا أمرٌ مكتوبٌ علي ما الذي أعلمك أنه مكتوبٌ عليك فعملته , أنت لم تعلم أنه كتب إلا بعد أن تعمل لماذا لم تقدر أن الله كتبك من أهل السعادة فتعمل بعمل أهل السعادة , وأما قول السائل هل للإنسان إرادة ؟ نقول : نعم له إرادة بلا شك قال الله تبارك وتعالى ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ )(آل عمران : 152) وقال تعالى ( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ )(الإسراء : 19) وقال تعالى ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ) (الشورى :20) والآيات في هذا معروفة وكذلك الأحاديث معروفة في أن الإنسان يعمل باختيار وإرادة ولهذا إذا وقع العمل الذي فيه المخالفة من غير إرادة ولا اختيار عفي عنه قال الله تعالى ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )(البقرة :28) فقال الله : قد فعلت . وقال تعالى ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ ) (الأحزاب :5) وهذا أمرٌ ولله الحمد ظاهر ولا إشكال فيه إلا على سبيل المنازعة والمخاصمة , والمنازعة والمخاصمة منهيٌ عنهما إذا لم يكن المقصود بذلك الوصول على الحق وقد خرج النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ذات يوم على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فتأثر من ذلك عليه الصلاة والسلام لأن هذا النزاع لا يؤدي إلى شيء إلا إلى خصومة وتطاول كلام وغير ذلك وإلا فالأمر واضح ولله الحمد." ا.هـ
كما سئلت اللجنة الدائمة عن ذلك ؟(/4)
فأجابت اللجنة : أولاً : ثبت أن الله - تعالى - وسع كل شيء رحمة وعلماً وكتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وعمت مشيئته وقدرته كل شيء، بيده الأمر كله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى وهو على كل شيء قدير، وقد دلَّ على ذلك وما في معناه نصوص من الكتاب والسنة، وهي كثيرة معروفة عند أهل العلم، ومن طلبها من القرآن ودواوين السنة وجدها، من ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (العنكبوت:62) وقوله ) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)( الزمر:62]، وقوله: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" [القمر:49]، وقوله: "وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً" [الإنسان:30]، وقوله: "يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، وقوله:"( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير ) الحديد:22]، وقوله: " "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (يونس99) وقوله: "وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) (السجدة: 13)
ومما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم – في ذلك ما حث على الذكر به عقب الصلاة من قول: "لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" البخاري (844) ومسلم (593)، وكذا ما جاء في حديث عمر – رضي الله عنه – من سؤال جبريل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن الإيمان فأجاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: "الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" مسلم (8)، فهذه النصوص وما في معناها تدل على كمال علمه - تعالى - بما كان وما هو كائن وتقديره كل شؤون خلقه، وعلى عموم مشيئته وقدرته، ما شاءه – سبحانه - كان وما لم يشأ لم يكن.
ثانياً: ثبت أن الله حكيم في خلقه وتدبيره وتشريعه، رحيم بعباده، وأنه - تعالى - أرسل الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأنزل الكتب وشرع الشرائع وأمر كلاً منهم أن يبلغها أمته، وأنه - تعالى - لم يكلف أحداً إلاَّ وسعه، رحمة منه وفضلاً، فلا يكلف المجنون حتى يعقل، ولا الصغير حتى يبلغ، وعذر النائم حتى يستيقظ، والناسي حتى يذكر، والعاجز حتى يستطيع ومن لم تبلغه الدعوة حتى تبلغه، رحمة منه تعالى وإحساناً.
وثبت عقلاً وشرعاً الفرق بين حركة الصاعد على سلم مثلاً والساقط من سطح مثلاً، فيؤمر الأول بالمضي إلى الخير وينهى عن المضي إلى الشر والاعتداء، بخلاف الثاني فلا يليق في شرع ولا عقل أن يوجه إليه أمر أو نهي، وثبت الفرق أيضاً بين حركة المرتعش لمرضه وحركة من ليس به مرض، فلا يليق شرعاً ولا عقلاً أن يوجه إلى الأول أمر ولا نهي فيما يتعلق في الرعشة، لكونه ملجأ مضطراً إليه، بل يرثى لحاله ويسعى في علاجه، بخلاف الثاني فقد يحمد كما في حركات العبادات الشرعية، وقد ينهى كما في حركات العبادة غير الشرعية وحركات الظلم والاعتداء، فتكليف الله عباده ما يطيقون فقط وتفريقه في التشريع والجزاء بين من ذكروا وأمثالهم دليل على ثبوت الاختيار والقدرة والاستطاعة لمن كلفهم دون من لم يكلفهم.(/5)
ثم إن الله - تعالى - حكم عدل علي حكيم لا يظلم مثقال ذرة، جواد كريم يضاعف الحسنات ويعفو عن السيئات، ثبت ذلك بالفعل الصريح والنقل الصحيح فلا يتأتى مع كمال حكمته ورحمته وواسع مغفرته أن يكلف عباده دون أن يكون لديهم إرادة واختيار لما يأتون وما يذرون وقدرة على ما يفعلون، ومحال في قضائه العادل وحكمته البالغة أن يعذبهم على ما هم إلى فعله ملجؤون وعليه مكرهون، وإذاً فقدر الله المحكم العادل وقضاؤه المبرم النافذ من عقائد الإيمان الثابتة التي يجب الإذعان لها وثبوت الاختيار للمكلفين وقدرتهم على تحقيق ما كلفوا به من القضايا التي صرح بها الشرع وقضى بها العقل، فلا مناص من التسليم بها والرضوخ لها، فإذا اتسع عقل الإنسان لإدراك السر في ذلك فليحمد الله على توفيقه، وإن عجز عن ذلك فليفوض أمره لله، وليتهم نفسه بالقصور في إدراك الحقائق فذلك شأنه في كثير من الشؤون، ولا يتهم ربه في قدره وقضائه وتشريعه وجزائه فإنه - سبحانه - هو العلي القدير الحكيم الخبير، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (181) )وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات:182) وليكف عن الخوض في ذلك الشأن خشية الزلل والوقوع في الحيرة، وليقنع عن رضا وتسليم بجواب النبي – صلى الله عليه وسلم – لأصحابه – رضي الله عنهم - لما حاموا حول هذا الحمى، فقالوا: يا رسول الله ، أفلا نتكل؟ فقال لهم : "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" رواه البخاري (4949) من طرق عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – قال : كنا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في بقيع الغرقد في جنازة فقال: "ما منكم من أحد إلاَّ وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار"، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل، فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خُلق له"، ثم قرأ قوله تعالى: "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى"، إلى قوله تعالى: "فسنيسره للعسرى"، ورواه أيضاً مسلم (2647) وأصحاب السنن الترمذي (2136)، وابن ماجة (78)، وأحمد (621( .وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء : عبد الله بن قعود[عضو ] عبد الله بن غديان [عضو] عبد الرزاق عفيفي [نائب رئيس اللجنة] عبد العزيز بن عبد الله بن باز [ الرئيس ] ا.هـ والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(/6)
هل الدفاع عن عرض النبي واجب؟!
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ السيرة والتاريخ والتراجم/السيرة النبوية
التاريخ ... 12/06/1427هـ
السؤال
هل يصح أن نقول إنه واجب على المسلمين أن يدافعوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا اعتدي عليه؟
وما هو الدليل على ذلك؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فأقول: نعم، يجب على كل مسلم المدافعة عن عرض النبي –صلى الله عليه وسلم- وهذا من لازم الإيمان به رسولاً من ربه، وخاتماً للأنبياء. بدليل عموم النصوص من القرآن والسنة. بدليل قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا" [الأحزاب:57]. فإذا كان هذا لمن آذاه. والساكت على هذا مشارك للقائل، فيتعين الدفاع عنه، بل لا يكمل إيمان المرء إلا بالدفاع عنه بدليل الإجماع عند المسلمين: أنه لا يؤمن أحد به حتى يكون أحب إليه من نفسه وولده ووالديه والناس أجمعين. وقال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- يوما: "إنك يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال له عمر: فإنه الآن لأنت أحب إلي من نفسي. قال رسول الله: "الآن يا عمر". صحيح البخاري (6632). وفي الحديث الآخر: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به" أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (15)، والبغوي في شرح السنة (104)، وانظر جامع العلوم والحكم، الحديث الحادي والأربعين. ومن لم يدافع عنه -صلى الله عليه وسلم- وهو قادر على ذلك –فهواه على غير هدي الرسول؛ أي كاره له. نعوذ بالله من ذلك. وقال حسان بن ثابت في الدفاع عن عرض الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء
وأقره الرسول على ذلك وتقرير الرسول تشريع. والله أعلم.(/1)
هل الشورى ملزمة أم مُعْلِمة؟
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 12/02/1427هـ
السؤال
هل الشورى ملزمة أم معلمة لرؤساء الدول في الوقت الحاضر، مراعياً اختلاف الأوضاع في الوقت الحاضر مع زمن الخلفاء الراشدين في كثير من النواحي؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلئن قرر أكثر العلماء قديماً بأن الشورى معلمة غير ملزمة للإمام أو ولي الأمر المسؤول فإن بعضهم قرر أنها ملزمة غير معلمة، وأدلة كل قول لا يتسع المقام الآن لبسطها فهي موجودة في مظانها من كتب التفسير والسير، ولكل من القولين ما يبرره وإن تفاوتت الأدلة قوة وضعفاً. فإن ولي الأمر المعني بقوله تعالى: "وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ" [آل عمران: 159] كان ينزل عليه الوحي، وهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أو كان عالماً مجتهداً يقصد الحق حيثما كان كما في عهد الخلفاء الراشدين وبعض خلفاء بني أمية في العصر الأول؛ فإن من جاء بعدهم ضعف عنده الدين، وتغلبت عنده شهوة السلطة.
ثم صار الحكام في العصور المتأخرة يغلب عليهم الجهل بأحكام الشرع، فضلاً أن يكونوا مجتهدين فيه يعرفون الحكم بدليله من الكتاب والسنة، فكيف يقال في هؤلاء: إن الشورى في حقهم مع شعوبهم هي معلمة لا ملزمة؟
إن من يقول بمثل هذا اليوم لا يعرف من السياسة الشرعية في الإسلام شيئاً، وإنما يتعامل مع عصور ماضية ولا يتعايش مع الواقع، وأعتقد جازماً أن علماء السلف الذين سبق أن قالوا بأن الشورى معلمة غير ملزمة لو عاشوا في عصرنا، ورأوا ما نحن فيه من الاستبداد والظلم لغيروا رأيهم، وأوجبوا القول بالالتزام بها نظراً لتغير العلة والسبب، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، كيف وقد قرروا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والنيات والمقاصد.
ولهذا أرى أن الخلاف في الشورى هل هي معلمة أو ملزمة قد ارتفع في وقتنا الحاضر، وينبغي ألا ينظر إليه فإنه إضاعة للوقت والجهد، فالشورى اليوم ملزمة ملزمة ملزمة. والله أعلم.(/1)
هل القرآن يقرر ألوهية المسيح عليه السلام ؟
يعتمد النصارى - من جملة ما يعتمدون عليه - في إثبات ألوهية المسيح على قوله - تعالى -: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه} (النساء: 171) فهم يرون في هذه الآية دليلاً على أن القرآن الكريم يشهد لقضية ألوهية المسيح وبنوته. كما أنهم يرون أن القرآن الكريم يقرر عقيدة التثليث التي يعتقدونها؛ ودليلهم على ما يقولون: أن قوله عن عيسى: {وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} يشهد بأن عيسى إله مع الله، إذ هو جزء منه بنص الآية، فهو كلمة الله، وهو روح منه. قالوا: وحاشا أن تكون كلمة الله وروحه مخلوقة، إذ ليس هنالك إلا خالق أو مخلوق، فينتج عن هذا أن عيسى - عليه السلام - خالق وإله.
ثم يستطرد النصارى في توضيح عقيدة التثليث - بناءً على ما سبق من إثبات ألوهية المسيح - ويقولون: إن عيسى كلمة الله التي ألقاها إلى مريم، فعيسى هذه الكلمة، وقد ألقي إلى مريم، ولا شك أن الكلمة كانت موجودة قبل أن تلقى إلى مريم، لأنه لا يمكن الإلقاء من العدم، وهذا يعني أن وجود المسيح كان وجودًا قديمًا بقدم الله، وقبل أن تحمل به مريم، وبديهي - على حد قولهم - أن الوجود السابق للولادة ينفي أن يكون المسيح مخلوقًا، وإذا لم يكن المسيح مخلوقًا كان هذا دليلاً على أزليته؛ ثم أضافوا فقالوا: وقوله: {وروح منه} يدل على أنه جزء من الله الخالق.
إن أصل الإشكال عند النصارى في هذه الآية - وهو سبب ضلالهم - عدم فهمهم وإدراكهم لطبيعة النص القرآني. وإن شئت قل: إن سبب ضلالهم هو فهمهم النص القرآني وَفْقَ ما يروق لهم؛ واعتمادهم على منهج الانتقائية في الاستدلال بآيات القرآن الكريم كما سيظهر.
ولتفنيد هذه الشبهة، لا بد من تفصيل القول في جزئين رئيسين في الآية التي معنا، الجزء الأول قوله - تعالى -: {وكلمته ألقاها إلى مريم} والجزء الثاني قوله - تعالى -: {وروحٌ منه} ولنبدأ بالجزء الأول، فنقول أولاً:
إن (كلمة الله) مركبة من جزئين (كلمة) (الله) فهي مركبة من مضاف ومضاف إليه؛ وإذا كان الأمر كذلك، فإما أن نقول: إن كل مضاف لله - تعالى - هو صفة من صفاته، أو نقول: إن كل مضاف لله ليس صفة من صفاته. وبعبارة أخرى، إما أن نقول: إن كل مضاف لله مخلوق، أو إن كل مضاف لله غير مخلوق. وإذا قلنا: إن كل مضاف لله صفة من صفاته، وهو غير مخلوق، فإننا سنصطدم بآيات في القرآن، وكذلك بنصوص في الإنجيل، يضاف فيها الشيء إلى الله، وهو ليس صفة من صفاته، بل هو مخلوق من مخلوقاته، كما في قوله - تعالى -: {ناقة الله} (الأعراف: 73) وكما نقول: بيت الله، وأرض الله، وغير ذلك. وإذا عكسنا القضية وقلنا: إن كل مضاف لله مخلوق، فإننا كذلك سنصطدم بآيات ونصوص أخرى؛ كما نقول: علم الله، وحياة الله، وقدرة الله. إذن لا بد من التفريق بين ما يضاف إلى الله؛ فإذا كان ما يضاف إلى الله شيئًا منفصلاً قائمًا بنفسه، كالناقة والبيت والأرض فهو مخلوق، وتكون إضافته إلى الله - تعالى -من باب التشريف والتكريم؛ أما إذا كان ما يضاف إلى الله شيئًا غير منفصل، بل هو صفة من صفاته، فيكون من باب إضافة الصفة إلى الموصوف. ومن البديهي أن يكون هذا غير مخلوق، إذ الصفة تابعة للموصوف ولا تقوم إلا به، فلا تستقل بنفسها بحال.
وإذا عدنا إلى الجزء الذي معنا هنا فإننا نجد أن (كلمة الله) هي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فـ (الكلمة) هي صفة الله - تعالى -، وليست شيئًا خارجًا عن ذاته حتى يقال إن: المسيح هو الكلمة، أو يقال: إنه جوهر خالق بنفسه كما يزعم النصارى.
فخلاصة هذا الوجه أن (كلمة الله) صفة من صفاته، وكلامه كذلك، وإذا كان الكلام صفة من صفاته فليس هو شيء منفصل عنه، لما تقرر آنفًا من أن الصفة لا تقوم بنفسها، بل لا بد لها من موصوف تقوم به. وأيضًا فإن (كلمة الله) ليست هي بداهة جوهر مستقل، فضلاً عن أن تتجسد في صورة المسيح، كما يزعم النصارى.
ثانيا: إن أبى المعرضون ما سبق، وقالوا: بل المسيح هو (الكلمة) وهو الرب، وهو خالق وليس بمخلوق، إذ كيف تكون الكلمة مخلوقة؟ فالجواب: إذا سلمنا بأن المسيح هو (الكلمة) وهو الخالق، فكيف يليق بالخالق أن يُلقى؟! إن الخالق حقيقة لا يلقيه شيء، بل هو يلقي غيره، فلو كان خالقًا لَمَا أُُلقي، ولَمَا قال الله: {وكلمته ألقاها}؟.
ثالثاً: إذا ثبت بطلان دعواكم من أن المقصود من (كلمة الله) المسيح عيسى، كان لزامًا علينا أن نبين المراد بكلمة الله الواردة في الآية موضع النقاش: {وكلمته ألقاها إلى مريم} والجواب على ذلك بأن نقول: إن المراد من (كلمة الله) يشتمل على معنيين، كلاهما صحيح، ولا يعارض أحدهما الآخر:(/1)
الأول: أن قوله: {وكلمته} الكلمة هنا من باب إضافة الصفة إلى الموصوف؛ ومعنى الآية على هذا: أن كلمة الله - التي هي صفته - ألقاها إلى مريم - عليها السلام - لتحمل بعيسى - عليه السلام -، وهذه الكلمة هي الأمر الكوني الذي يخلق الله به مخلوقاته، وهي كلمة: {كن} ولهذا قال - تعالى -في خلق آدم: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران: 59) فكما أن آدم خُلِق بكلمة: {كن} فكذلك عيسى، فـ (الكلمة) التي ألقاها الله إلى مريم هي كلمة: {كن} وعيسى خُلق بهذه (الكلمة) وليس هو (الكلمة) نفسها.
المعنى الثاني: أن قوله (كلمته) هو من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فـ (الكلمة) هنا عيسى، وهو مخلوق، لأنه منفصل، وقد بينا سابقًا أن إضافة الشيء القائم بذاته إلى الله، هو من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فيكون المراد بـ (الكلمة) هنا عيسى، وأضافه الله إلى نفسه تشريفًا له وتكريمًا.فإن قلتم: كيف يسمي الله - تعالى -عيسى (كلمة) والكلمة صفة لله؟
فالجواب: أنه ليس المراد هنا الصفة، بل هذا من باب إطلاق المصدر، وإرادة المفعول نفسه، كما نقول: هذا خلق الله، ونعني هذا مخلوق الله، لأن خلق الله نفسه فعل من أفعاله، لكن المراد هنا المفعول، أي المخلوق، ومثل ما تقول أيضًا: أتى أمر الله، يعني المأمور، أي ما أمر الله به، وليس نفس الأمر، فإن الأمر فعل من الله - تعالى -.
والمعنى الثاني للآية راجع عند التحقيق إلى المعنى الأول؛ فإننا إذا قلنا: إن عيسى (كلمة الله) بمعنى أنه نتيجة (الكلمة) ومخلوق بـ (الكلمة) فهذا يدل على (الكلمة) أساسًا، وهو فعل الله، ويدل على عيسى - عليه السلام -، وهو الذي خُلق بـ (الكلمة).
فحاصل هذا الجزء من الآية أن (كلمة الله) - تعالى -ألقاها الله إلى مريم، وكانت الكلمة هي أمر التكوين، أي قوله: {كن} فكان عيسى - عليه السلام -، ومن هنا صح إطلاق الكلمة على عيسى من باب إطلاق المصدر على المفعول، وكما يسمى المعلوم علمًا، والمقدور قدرة، والمأمور أمرًا، فكذلك يسمى المخلوق بالكلمة كلمة.
هذا جواب ما يتعلق بالجزء الأول من الآية، أما الجزء الثاني، وهو قوله - تعالى -: {وروح منه} فليس فيه أيضّا دلالة على ألوهية المسيح أو بنوته، فضلاً عن أن يكون فيه أي دليل لما يدعيه النصارى عن طبيعة عيسى - عليه السلام -، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: إن قول الله - سبحانه -: {وروح منه} ليس فيه ما يدل على أن عيسى جزء من الله - تعالى -، أو أن جزءًا من الله - تعالى -قد حلَّ في عيسى؛ وغاية ما في الأمر هنا أننا أمام احتمالين لا ثالث لهما: فإما أن نقول: إن هذه (الروح) مخلوقة، وإما أن نقول: إنها غير مخلوقة؛ فإذا كانت الروح مخلوقة، فإما أن يكون خلقها الله في ذاته ثم انفصلت عنه، ولهذا قال عنها: {منه} أو خلقها الله في الخارج؛ فإذا كانت هذه الروح غير مخلوقة، فكيف يصح عقلاً أن تنفصل عن الله - تعالى -لتتجسد في شخص بشري؟ وهل هذا إلا طعن في الربوبية نفسها، لتجويز التجزء والتبعض على الخالق - جل وعلا -؛ وإذا كانت الروح مخلوقة، وخلقها الله في ذاته ثم انفصلت عنه، فهذا معناه تجويز إحداث الحوادث المخلوقة المربوبة في ذات الإله - سبحانه -، وهذا عين الإلحاد والزندقة، أما إذا كانت الروح مخلوقة وخلقها الله في الخارج، فهذا يدل على أن الله - تعالى -خلق الروح، ونفخها في مريم، ليكون بعد ذلك تمام خلق عيسى - عليه السلام - ومولده، وهذا هو عين الصواب، أما ما سوى ذلك فهو مجرد ترهات تأباها الفِطَر السليمة، فضلاً عن العقول المستقيمة.
ثانيًا: ما دمتم تقرِّون أنه ليس ثمة أحد يحمل صفات الألوهية أو البنوة لله - تعالى -إلا المسيح - عليه السلام -، وتستدلون على ذلك بقوله - تعالى -: {وروح منه} فحينئذ يلزمكم أن تقولوا: إن آدم - عليه السلام - أحق بالبنوة من عيسى، حيث قال الله في آدم: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} (الحجر: 29) ولا شك أن القول بهذا حجة عليكم لا لكم؛ فإذا كان قوله - سبحانه -: {من روحي} في حق آدم معناه الروح المخلوقة، وأن هذه الروح ليست صفة لله - عز وجل -، فهي كذلك في حق عيسى، إذ اللفظ واحد، بل إن الإعجاز في خلق آدم بلا أب ولا أم أعظم من الإعجاز في خلق عيسى بأم بلا أب، وحسب قولكم يكون آدم حينئذ أحق بالبنوة والألوهية من عيسى، - تعالى -الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
ثالثاً: لو سلمنا بأن الروح في الآية هي جزء من الإله، فهذا يقتضي أن يكون في الإله أقنومان - حسب اعتقاد النصارى - أقنوم الكلمة، وأقنوم الروح، وفي هذا تناقض في موقف النصارى، إذ إنهم لا يقولون إلا بأقنوم (الكلمة) ولا يقولون بأقنوم (الروح).(/2)
رابعاً: لو كان معنى {منه} أي: جزء من الله، لكانت السماوات والأرض وكل مخلوق من مخلوقات الله جزء من الله؛ ألم يقل الله - تعالى -: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه} (الجاثية: 13) وقال عن آدم: {ونفخت فيه من روحي} وقال - تعالى -: {وما بكم من نعمة فمن الله} (النحل: 53).
إن معنى {منه} وفق السياق القرآني، أي: منه إيجادًا وخلقًا، فـ {من} في الآية لابتداء الغاية، وليس المعنى أن تلك الروح جزء من الله - تعالى -.
وبعد ما تقدم نقول: إن القرآن الكريم في هذا الموضع وفي غيره، يقرر بشرية المسيح - عليه السلام -، وأنه عبد الله ورسوله، وأنه ليس له من صفة الألوهية شيء، وقد قال - تعالى -في نفس الآية التي معنا: {إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} فهو ابن مريم، وليس ابن الله، وهو رسول الله، وليس هو الله؛ وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم} (المائدة: 72) وقال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة} (المائدة: 73) وقال - تعالى -: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا} (النساء: 156) وقال - تعالى -: {وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} (التوبة: 30).
فهل بعد هذا الاستدلال العقلي، والبيان القرآني يبقى متمسك بشبهات أوهى من بيت العنكبوت؟!
16/09/2004
http://www.islamweb.net المصدر:(/3)
هل القرطبي المفسر هو مؤلف كتاب الإعلام بما في دين النصارى من الأوهام?
د. محمد بن إبراهيم أباالخيل أستاذ مساعد في كلية العلوم العربية والاجتماعية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم 10/11/1423
24/01/2002
منذ القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي صَعَّدَ نصارى الأندلس – بدعم من إخوانهم الأوربيين – حروبهم ضد مسلمي الأندلس ، فاشتبكوا معهم في وقائع عسكرية شرسة ، واجتاحت جيوشهم أراضي إسلامية واسعة ، ولم يكتفوا بذلك ، بل عززوا حربهم العسكرية تلك بحرب أخرى اتخذت من الكلمة والفكرة سلاحاً لها ، يصح لنا تسميتها بالحرب الفكرية ،ذاك أن مفكريهم من رجال الدين وغيرهم أخذوا – مشافهة وكتابة – يهاجمون عقيدة الإسلام وأحكامه وآدابه ، ويشككون بالقرآن الكريم ، وينالون من الرسول صلى الله عليه وسلم ،ويقللون من شأن لغة الدين – اللغة العربية – ومن أمثلة هؤلاء كاتب نصراني(1) صنف في أول القرن السابع الهجري كتابا ًسماه " تثليث الوحدانية في معرفة الله " وبعثه من طليطلة عاصمة مملكة قشتالة النصرانية إلى أهل قرطبة " معترضاً فيه لدين المسلمين نائلاً فيه من عصابة الحق الموحدين"(2)وقد سعى إلى تسويق كتابه هذا بين المسلمين ليستنزل به الأغنياء الأغمار "(3). ثم إنه تطاول أكثر على الدين الإسلامي ، وأخذ يكثر من الاعتراض عليه ، ويتبجح عند قومه النصارى أن علماء الأندلس ليس في مكنتهم مجاراته في أقواله ،ولا الرد على شبهاته.(4)ولهذا قام أحد العلماء القرطبيين بالتصدي لهذا الكاتب النصراني. فاقتفى أقواله قولاً بعد قول ، وناقشه مناقشة علمية جلى فيها فساد كلامه وتناقضه ، وذلك في كتاب وسم بـ" الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام "(5) وقد نسب هذا الكتاب إلى القرطبي المفسر المشهور ، نزيل مصر : محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجى (6) المتوفى سنة 671هـ/1273م.
ولكن هل كتاب " الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ... " من تواليف القرطبي المفسر المشهور هذا؟
فيما يلي من كلام سنناقش المسألة من أطرافها لعلنا نجيب عن الاستفهام ، ونصل إلى المؤلف الحقيقي للكتاب.
فأولاً : لا جدال أن المؤلف قرطبي ، يوحي بذلك ما جاء في مقدمة كتاب الإعلام بأنه بادر بالنظر في كتاب " تثليث الوحدانية " الوارد إلى قرطبة بصفته أحد علمائها(7)، علاوة عن أن مخطوط الإعلام قد كتب تحت عنوان أنه " للقرطبي رحمه الله "(8).
ثانياً: من الواضح أن الكتاب تم تأليفه قبل سقوط قرطبة بأيدي النصارى عام 633هـ/1236م (9)، فالمؤلف يقول عن كتاب النصراني إنه " بعث به من طليطلة أعادها الله إلى مدينة قرطبة حرسها الله (10)" فعبارة " حرسها الله " تدل على أن قرطبة ما زالت في حوزة المسلمين بعكس قوله عن طليطلة " أعادها الله " التي تعنى أنها قد خرجت من سلطان المسلمين .
ثالثاً : بل يبدو لنا أن الكتاب قد ألف قبل سقوط قرطبة بمدة ليست بالقصيرة ، فالمؤلف حين تحدث عن الإسلام وظهوره على الدين كله قال : " وهذا دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم له ست مائة سنة ونيف من الأعوام ، وهو باق إلى آخر الأيام ..."(11) وفي موضع آخر قال "وهذا دين محمد رسولنا صلى الله عليه وسلم قائم منذ ست مائة سنة ونيف" (12) . فهذا يثبت أن الكاتب صنف كتابه بعد عام ست مائة هجرية بسنوات معدودات . فنيف تفيد الزيادة القليلة على العدد ، حتى أن بعض أهل اللغة يراها بين الواحدة إلى الثلاث(13) .
رابعاً : ثم إن المتأمل في مقدمة الإعلام يحس بأن الكاتب كان من أعلام علماء قرطبة ، وليس من غمار طلبة العلم العاديين ، فهو يرى أن جواب النصراني قد تعيَّنَ عليه(14)، بل يحكي أن جماعة من إخوانه رغبوا إليه أن يرد على ذلك النصراني(15) ، مما يفيد أنه كان على قدر من العلم كبير.
خامساً : وإذا قلبنا صفحات الكتاب انكشف لنا أن صاحبه رجل غزير العلم ، واسع الثقافة ، كثير الاطلاع ، فهو عالم بأصول الدين ودقائق العقيدة ، ذو معرفة باللغة والحديث والتفسير والسيرة ولديه حظ وافر من الشعر والحكم والأمثال .
سادساً : ثم إننا إذا كررنا النظر في الكتاب استبان لنا أننا أمام كاتب عارف بطرق المجادلة ، متمرس على فنون المحاججة ، قد اطلع على كثير من أسفار النصارى وكتاباتهم (16)، وتتبع بعض ما كتبه العلماء المسلمون من ردود عليهم (17) بل إنه وعد بإفراد كتاب للرد على أحد مشاهير علماء النصارى السابقين عندما تعرض لبعض أقواله (18). وهذه الأشياء كلها تنبئ إن مؤلف الإعلام شخص متخصص في الدراسات المتصلة بالنصرانية قد صرف وقتاً من عمره للإحاطة بها .(/1)
وبناء على هذه المعطيات التي تجمعت لنا حول كتاب الإعلام ننظر الآن إلى أي حد تتوافق وأحوال القرطبي المفسر محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الذي ينسب إليه الكتاب . فنقول كان القرطبي المفسر حتى سنة 628هـ/1231 م لا يزال يقرأ العلم على مشايخ قرطبة (19)، بل إنه في السنة التي سبقتها قد تردد في مسألة علمية بين ثلاثة من علماء قرطبة ليستفتيهم في شأنها(20) الأمر الذي يفيد أن القرطبي المفسر حتى ذلك الحين لا يعدو أن يكون طالب علم في قرطبة لا يتميز عن غيره من الطلاب . وإذا تذكرنا أن كتاب الإعلام قد ثبت تأليفه قبل عام 633هـ 1236م وربما قبل ذلك بسنوات ليست قليلة – كما رجحناه- وأن مؤلفه – حسبما استنتجنا – كان من علماء قرطبة البارزين ، وأنه متخصص في الدراسات المتعلقة بالنصرانية – إذا تذكرنا هذه الأشياء جميعها وقارناها بوضع القرطبي المفسر في المدة الزمنية عينها ألفيناها بعيدة الاتفاق ، وأنه من غير المعقول أن يكون القرطبي هذا هو مؤلف الإعلام ، فهو لم يكن حينذاك من علماء قرطبة المعدودين ،ولم يبدُ عليه أي اهتمام بالدراسات النصرانية وما يرتبط بها ، وإذا ملنا إلى تأليف كتاب الإعلام في أوائل القرن السابع الهجري كان القرطبي المفسر – فيما يبدو – صبياً وقتها ليس في مقدوره تصنيف الكتاب ناهيك عن تصنيف كتاب مثل كتاب الإعلام.
وأمر آخر يضعف أن يكون كتاب الإعلام للقرطبي المفسر ، وهو أن نسبة هذا الكتاب إليه تبناها بعض المهتمين بكتب التراث من المتأخرين(21) فما تحت أيدينا من مصادر قديمة سواء كانت مغربية أو مشرقية ترجمت للقرطبي المفسر لا تذكر كتاب الإعلام في عداد مؤلفاته ، مع أنه من المفترض – لو كان قد ألفه – أن يأتي ذكره في رأس قائمة المصنفات التي كتبها بصفته أحد مؤلفاته الأولي ؛ وبخاصة عند المغاربة والأندلسيين ،إذ يلزم أن يكون القرطبي قد كتب كتاب الإعلام قبل مغادرته الأندلس ،ولو كان ذلك كذلك لما فات على هؤلاء المؤرخين المغاربة والأندلسيين معرفتهم بتأليفه له– وهم الذين حرصوا على تتبع أخباره لما استوطن مصر بعد تركه الأندلس(22).
ومما يضعف نسبة الإعلام إلى القرطبي المفسر – أيضاً – أن الذين كتبوا عنه من المعاصرين ، وعنوا بحصر مؤلفاته ، وتعقبوا أماكن وجودها ، لم يعثروا على إشارة لهذا الكتاب في تضاعيف مؤلفاته المعروفة رغم أن كتبه ترددت أسماء بعضها في بعض ، لأن منهجه في التأليف الابتعاد عن تكرار المعلومات أكثر من مرة (23)، فكثيراً ما يكتفي – إذا عرضت له مسألة من المسائل – بالإحالة من كتاب إلى آخر من كتبه ، فيذكر هذا الكتاب أو ذاك بعنوانه المعروف(24). ولا شك أن كثيراً من المسائل المتصلة بالنصارى وعقائدهم قد تطرق إليها ، وبخاصة في كتابه التفسير ، فلو كان الإعلام من مؤلفاته ليس هذا فحسب ، بل ومن أوائلها لأحال إليه وردد اسمه سواء في التفسير أو غيره.
وخلاصة ما نخرج منه بعد هذا النقاش أن القرطبي المفسر محمد بن احمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري المتوفى سنة 671هـ/1273م يبعد أن يكون هو مؤلف كتاب "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام " والأقرب أن يكون مصنفه أحد علماء قرطبة الآخرين ، وربما كان من شيوخ القرطبي المفسر .
ولقد عثرنا على إحالات لأبي العباس أحمد بن عمر القرطبي (25)( ت656 هـ/1258م وهو شيخ القرطبي المفسر (26). في شرحه لصحيح مسلم(27) يشير فيها إلى كتاب اسمه "الإعلام " ، وذلك في عدة مواضع ، الأول : حينما عرض لبركة النبي صلى الله عليه وسلم قال: وذكرنا من ذلك جملة صالحة في كتاب ( الإعلام بمعجزات النبي عليه الصلاة والسلام )(28) " الثاني : لما أشار إلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أعطي من كل نوع من أنواع معجزات الأنبياء عليهم السلام قبله عقب على ذلك بقوله" كما أوضحناه في كتابنا المسمى بـ ( الإعلام بصحة نبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام)"(29) الثالث: عندما تطرق لصفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب القديمة قال" وقد ذكرنا منه مواضع كثيرة جاءت في كتب أنبياء بني إسرائيل في كتاب (الإعلام)"(30) . الرابع : حين رد على القائلين بأن الحواريين كانوا أنبياء أُرسلوا إلى أناس بعد عيسى عليه الصلاة والسلام قال" وهو قول أكثر النصارى كما ذكرناه في كتاب (الإعلام )"(31) الخامس: لما تعرض لتأويل النصارى للختان قال: وليس هذا بأول جهالاتهم ، فكم لهم منها وكم ؟ ويكفيك من ذلك أنهم زادوا على أنبيائهم في الفهم ، وغلطوهم فيما عملوا عليه ، وقضوا به من الحكم " ثم قال " وقد أسبغنا القول في هذا في كتاب (الإعلام )"(32).
وإذا أرجعنا البصر في هذه الإحالات الخمس نلحظ ما يلي :
1-في الأولى جاء الكتاب باسم " الإعلام بمعجزات النبي عليه الصلاة والسلام "، وفي الثانية باسم "الإعلام بصحة نبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام " وفي الثلاث الباقية اكتفى فقط بالكلمة الأولى من العنوان وهي "الإعلام" .(/2)
2- موضوعات الإحالات الثلاث الأولى تتسق وموضوع كتاب الإعلام هذا الذي يشير إليه أبو العباس القرطبي بصفته أحد مؤلفاته ، فهي تمس – كما هو واضح – معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وإثبات صحة نبوته بالمعجزات أو بأوصافه في التوراة والإنجيل ، بينما الإحالتان الرابعة والخامسة يبعدان في موضوعيهما عن موضوعات الإحالات الثلاث الأولى ، فهما يختصان بالرد على النصارى ، وتبدوا الخامسة أكثر تعلقاً بموضوع الرد على النصارى. فهو – كما سبق- لما ذكر تأويلات النصارى المضلة ، وافتراءاتهم على أنبيائهم عقب بقوله " وقد أسبغنا القول في هذا في كتاب (الإعلام ) " . وبناء على هذا الاستنباط فيفترض أن يكون كتاب الإعلام هذا أكثر من واحد ، وبخاصة أن المؤلف ذكر اسمه بثلاث صيغ ، فيكون – مثلاً – واحد منها يختص بإثبات نبوته صلى الله عليه وسلم ،والثاني يعنى بالرد على النصارى . وإما أن يكون الكتاب واحداً، ولكن مؤلفه لم يلتزم بالعنوان .
3-إذا عدنا إلى الكتاب المنسوب إلى القرطبي المفسر وهو "الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن دين الإسلام وإثبات نبوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام " ألفيناه يتضمن موضوعات كل الإحالات الخمس التي سردناها قبل قليل،ففيه أمثلة عن بركة الرسول صلىالله عليه وسلم(33)،وفيه التأكيد على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي من كل نوع من أنواع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله (34) ، وفيه أمثلة كثيرة من أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل (35)، وفيه رد على القائلين بإرسال الحواريين إلى الناس بعد عيسى بصفتهم أنبياء (36) ، وفيه نقد لكثير من جهالات النصارى و ضلالاتهم (37). فهل يعني ، الكتاب الذي يعزو إليه القرطبي أبو العباس ويسميه " الإعلام " هو كتاب " الإعلام " الذي نروم معرفة مؤلفه ، وبخاصة أن الكلمة الأولى من العنوان في الكتابين واحدة ؟
إننا لا نستطيع البت في الإجابة على هذا السؤال ، لأن كتاب " الإعلام " لأبي العباس القرطبي في حكم المفقود ، فهو غير موجود بين أيدينا ،ولا نملك نصوصاً منه ـ ولو محدودةـ لنجري مقارنة بينه وبين ما جاء في كتاب " الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام .. " فلنتدبر إذن في أحوال أبي العباس القرطبي هذا ، ونقارنها بما كنا قد استخلصناه من صفات توفرت في مؤلف ذلك الكتاب لعلنا نصل إلى شيء فيما نحن بصدد التثبيت منه .
لقد ضنت المصادر علينا بأخبار عن حياة أبي العباس القرطبي في الأندلس ، فكل ما نعرفه أنه ولد في سنة 578هـ /1182م في قرطبة ، وسمع فيها الكثير(38). على أن ثمة خبراً ذكره أبو العباس عن نفسه يلقي ضوءاً على أحد الجوانب التي تهمنا معرفتها من حياته ، وفيما يلي سوف نسوق بعض هذا الخبر بالنص وبعضه الآخر بالمعنى . قال أبو العباس(39)" أني لما وصلت إلى تونس قاصداً الحج سمعت أخباراً سيئة عن البلاد المصرية من جهة العدو الذي غلب على دمياط ، فعزمت على المقام بتونس إلى أن ينجلي أمر العدو : ثم ذكر أنه رأى في المنام وكأنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يسلم عليه ، وعندئذ زال عنه الخوف وتجدد عزمه على قصد الحجاز ، ثم قال: " وسافرت إلى أن وصلت الإسكندرية عن مدة مقدارها ثلاثون يوماً .. فوجدتها والديار المصرية على أشد خوف ، وأعظم كرب ، والعدو قد استفحل أمره ، وعظمت شوكته ،فلم أُكمل في الإسكندرية عشرة أيام حتى كسر الله العدو..."(40) ، ثم ختم كلامه بقوله " ثم إن الله تعالى كمل علي إحسانه وإنعامه وأوصلني بعد حج بيته إلى قبر نبيه(41) ومسجده ، فرأيته و الله في اليقظة على النحو الذي رأيته في المنام من غير زياد ولا نقصان "(42).
يفهم من خاتمة كلام أبي العباس القرطبي أنه لم يسبق له القدوم إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هذه المرة ، وبالتالي أنه لم يسبق له حج بيت الله الحرام قبلها أيضاً ، وإذا كان قد نص على أن وصوله إلى تونس كان بقصد الحج ، فإن هذا يُلهم أنه قدم من بلده الأندلس سواء كان مباشرة أو بعد مرور بالمدن المغربية الواقعة إلى الغرب من تونس ، فكان خروجه هذا من الأندلس لأول مرة . فالأندلسيون و المغاربة كان أول شيء يحرصون على المبادرة فيه إذا خرجوا إلى المشرق هو التوجه إلى أرض الحجاز لأداء فريضة الحج وزيارة المسجد النبوي (43). وإذا علمنا كذلك أن حادثة دخول العدو النصراني ( الصليبيين ) دمياط التي أشار إليها أبو العباس قد وقعت في سنة 647 هـ /1249م (44). وأن كسر المسلمين له حدث في محرم سنة 648هـ / 1250م(45)فمعنى ذلك أن خروج أبي العباس القرطبي من الأندلس لأول مرة ووصوله إلى تونس كان في سنة 647هـ 1249م أي بعد أزيد من عشر سنوات على سقوط قرطبة الحادث في سنة 633هـ / 1236م(46) .(/3)
أما الآن وبعد أن تجمعت لدينا هذه المعلومات الآنفة الذكر الخاصة بأبي العباس القرطبي وما خالطها أيضاً من استنتاجات فلنطبقها على ما عندنا من معطيات كنا قد استخلصناها من قبل عن مؤلف كتاب " الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ... " فأبو العباس من أهل قرطبة فهو قرطبي إذن ، وترجح لدينا أنه لم يخرج إلى المشرق إلا بعد سنوات من سقوط قرطبة عام 633هـ /1236م، وليس هناك شيء يمنعنا من الجزم بأنه وقت تأليف كتاب "الإعلام" بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ... " كان أحد علماء قرطبة ، فمولده قد ثبت في عام 578هـ/ ،1182م وقد عُدَّ من مشايخ القرطبي المفسر . ولا يخامرنا شك في اهتمامه بالرد على النصارى بعد الذي نقلناه على لسانه من أقوال تنص على ذلك .
وبناء على هذا التطابق ، أو التطابق في بعض الوجوه وعدم التعارض في بعضها بين أحوال أبي العباس القرطبي وبين ما عليه مؤلف كتاب " الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام .. " فالاحتمال كبير أن يكون هذا الكتاب هو الذي عزا إليه أبو العباس عند شرحه لصحيح مسلم ، يرجح هذا الاحتمال ما وقفنا عليه من تصريح لأبي العباس برده على النصارى في كتابه " الإعلام " ، ثم إنه لم يثبت ـ أعني أبا العباس القرطبي ـ على اسم لكتابه ـ كما رأينا ، فتراه سماه " الإعلام بمعجزات التي عليه الصلاة والسلام " وكرة أطلق عليه " الإعلام بصحة نبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام " ومرات سماه " الإعلام " فقط . ثم إننا من ناحية أخرى إذا رجعنا ـ أيضاً ـ إلى كتاب " الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام ..."لا نجد في المقدمة نصاً على تسميته بهذا العنوان ، كما هي عادة معظم المصنفين ، فهل يا ترى اجتهد بعض التلاميذ أو النساخ في تسمية هذا الكتاب بهذا الاسم ليتطابق محتواه مع عنوانه ؟
((1). بعد أن نقل القرافي السؤال الحادي عشر للنصارى الذي ادعوا فيه جواز الاتحاد بين الله وغيره تعالى الله عما يقولن علواً كبيراً ، واستشهدوا على ذلك بتكليم الله لموسى عليه السلام وأشار إلى أن هذا السؤال اعتمد عليه أغشتين زعيم قسيسي طليلطلة في كتابه " مصحف العالم ( الأجوبة الفاخرة ، ص: 267- 268) قال : " ثم جاء ابن الفخار اليهودي ، تنصر ورأس عند ملوك الإفرنج بالوزارة وغيرها ... وكتب بهذا السؤال إلى علماء قرطبة ... " ( المصدر السابق ، ص 268 ) وإذا رجعنا إلى نصوص " تثليث الوحدانية " وجدنا فيها فحوى هذا الادعاء ( القرطبي " الإعلام ، جـ 1، ص 105 –106) وحين رد عليه ذلك العالم القرطبي بين أن الكاتب قد استعان في صياغة ادعائه على ما كتبه أغشتين في " مصحف العالم " ( المصدر السابق ، جـ ، ص 126 ،143 –147) فوجود فحوى ذلك الادعاء في كتاب " تثليث الوحدانية " وتأكيد القرافي أن ابن الفخار قد كتب مثل هذا الادعاء إلى علماء قرطبة يدفعنا إلى أننا نتساءل لماذا لا يكون ابن الفخار هو محرر "تثليث الوحدانية" ؟ لا سيما وأن ابن الفخار الذي اسمه إبراهيم كان سفيراً لملك قشتالة إلى حكام الموحدين ، وذُكر منهم المستنصر الموحدي ( 610هـ 1211م-620هـ 1224م) ( المقري : نفح الطيب ، جـ 3، ص 528 ) والزمن الذي عاش فيه ابن الفخار هذا هو الزمن عينه الذي ألف فيه كتاب الإعلام . كما أن أحوال ابن الفخار كمعايشته للمسلمين ومعرفته باللغة العربية والمنطق ( ابن سعيد : المغرب ، جـ 2 ، ص 23 ؛ المقري : نفح الطيب ، ج3 ، ص 527 ) هذه الأحوال تتوافق مع أحوال كاتب "تثليث الوحدانية " حسبما تظهر واضحة لمن يقرأ مناقشة القرطبي له في كتابة الإعلام.
(2) القرطبي : الإعلام ، جـ1، ص 43.
(3) المصدر السابق ، ص 43 ، 44.
(4) المصدر السابق ، ص 45.
(5) لم يأت ذكر لهذا العنوان على لسان المؤلف لا في مقدمة الكتاب ولا في غيرها.
(6)أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي القرطبي . نشأ في قرطبة ، ثم هاجر إلى المشرق ، واستوطن مصر ، كان محدثاً فقيهاً مفسراً ، متبحراً في كثير من العلوم ، عَمَرَ أوقاته بين العبادة والتصنيف ، وتوفي في منية ابن الخصيب في صعيد مصر في شوال سنة 671هـ/1273م . وقد خلف عدة مؤلفات طبع أكثرها ، ومن أشهر تلك المؤلفات كتابه في التفسير : الجامع لأحكام القرآن (ابن عبدالملك المراكشي : الذيل والتكملة ، س5 ، ق2 ، ص585 ، ابن فرحون : الديباج ، ج 2، ص308 – 309 ، المقري : نفح الطيب ، ج2 ، ص 210 – 212 ، انظر تفاصيل واسعة عن حياته وآثاره في : (القصبي محمود زلط : القرطبي ومنهجه في التفسير ، ص6 – 50 ، يوسف عبدالرحمن الفرت : القرطبي المفسر ، ص33- 99 ، مشهور حسن سلمان : الإمام القرطبي ، ص 11 – 155 ) .
(7)القرطبي : الإعلام ، جـ1، ص 43.
(8)انظر صورة الصفحة الأولى من المخطوط : القرطبي : الإعلام ، ج 1 ، ص 39.(/4)
استفاد منه بعض علماء الإسلام ، واكفوا باسم "القرطبي " دون إشارة على كنية أو اسم ( ابن تيمية : مجموعة الرسائل والمسائل م 2، ص 156 رحمة الله الهندي: إظهار الحق ج 2 ص 395.
(9)ابن الأبار : التكملة ، ج1 ، ص 120 ، 323 ، ابن عذارى : البيان ، ق. الموحدين ، ص 331.
(10)القرطبي : الإعلام ، جـ1، ص 43.
(11) المصدر السابق ، ج 2 ، ص 277 .
(12) المصدر السابق ، ج 2 ، ص 219 .
(13) الزبيدي : تاج العروس ، ج 12 ، ص 516 .
(14)القرطبي : الإعلام ،ج 1 ، ص 45 .
(15)المصدر السابق ، الصفحة نفسها .
(16) المصدر السابق ، ص 79 .
(17)المصدر السابق ، ج 2 ص 228.
(18)المصدر السابق ، ج 1 ص 84 ، 157 .
(19) القرطبي : الجامع لأحكام القرآن ، ج 3 ، ص 237 .
(20)المصدر السابق ، ج 4 ، ص 272 .
(21)البغدادي : هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين ، ج 2 ، ص 129 .
(22)ابن عبدالملك المراكشي : الذيل والتكملة ، س 5 ، ق 2 ، ص 585 .
(23) مشهور حسن سلمان : الإمام القرطبي ، ص 97 .
(24)المرجع السابق ، ص 98 ، 128 – 129 ، 135 ـ 138 ، 139 ، 146 ، 148 ، 149 ، 152 ، الفرت : القرطبي المفسر ، ص 84 ، 85 ، 90 ، 92 ، 93 ، القصبي زلط : القرطبي ، ص 49 ، 50 .
(25) أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري ، يعرف بابن المزين ، ولد بقرطبة ، وسمع فيها الكثير ، وانتقل إلى المشرق ، واستقر بمصر ، فاشتهر أمره ،وطار صيته . كان بارعاً في الفقه والعربية ، عارفاً بالحديث ،له عدة مؤلفات من أبرزها : المفهم في شرح ما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ، كشف القناع عن حكم مسائل الوجد والسماع . توفي في الإسكندرية في ذي القعدة سنة 656هـ/1258 م ( ابن عبد الملك المراكشي :الذيل والتكملة ، س 1، ق 1، ص 348؛ الصفدي : الوافي بالوفيات ، ج 7، ص 264- 265 ؛ ابن فرحون : الديباج المذهب ، جـ 1، ص 240 –242 ؛ المقري : نفح الطيب ، ج2 ص 615 ).
(26) صرح بذلك القرطبي المفسر في عدد من كتبه . انظر مثلاً : الجامع لأحكام القرآن ، ج 3 ، ص 95 ، ج 4 ، ص 13 ، ج 5 ، ص ، 44 ، ج6 ،ص 295 ، ج14،ص 229 ،التذكرة ، ص 120 ، 191 ، 236 ، 377 ، 421 ، 644....
(27) المفهم ، ج 4 ، ص 570 ، ج 6 ، ص 50 ، 148 ، 176 ، 183 .
(28) القرطبي : المفهم ، ج 4 ، ص 570 .
(29) المصدر السابق ، ج 6 ، ص 50 .
(30) المصدر السابق ، ج 6 ، ص 148 .
(31) المصدر السابق ، ج 6 ، ص 176 .
(32) المصدر السابق ، ج 6 ، ص 183 .
(33)القرطبي : الإعلام ، ج 3 ، ص 281 – 288 ، 370 – 373 .
(34)المصدر السابق ، ج 2 ، ص 240 ، ج3، ص 348 – 366 .
(35)المصدر السابق ، ج 3 ، ص 263 – 280 .
(36)المصدر السابق ، ج 2 ، ص 204 ، ج 3 ، ص 381 .
(37)انظر مثلاً : المصدر السابق ، ج 2 ، ص 188 – 213 ، ج 4 ، ص 393 – 437 .
(38)الصفدي : الوافي بالوفيات ، ج 7 ، ص 265 ، المقري : نفح الطيب ، ج 2، ص 615 .
(39)المفهم ، ج 6 ص 24 .
(40)القرطبي : المفهم ، ج 6 ، ص 24 – 25.
(41) هكذا وردت ، حيث قدم قصد قبر النبي على مسجده !! .
(42) القرطبي : المفهم ، ج 6 ، ص 25 .
(43) حسين مؤنس : تاريخ الجغرافية والجغرافيين ، ص 432 .
(44)الذهبي : العبر ، ج 3 ، ص 256 .
(45)المصدر السابق ، ص 258 – 259 .
(46)ذكر ابن فرحون عن بعضهم أن أبا العباس القرطبي " رحل مع أبيه من الأندلس في سن الصغر " ( الديباج المذهب ، ج 1، ص 241) وقد أخذ بهذه الرواية بعض الذين ترجموا له من المتأخرين ( القرطبي : المفهم ، ج 1 ، ص 31 في مقدمة المحققين ؛ الفرت :القرطبي المفسر ، ص 53 ؛ مشهور سلمان : الإمام القرطبي ، ص 72) وهؤلاء قد خلطوا بين أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي مؤلف المفهم نزيل الإسكندرية ، وبين سميه أبي العباس أحمد بن محمد بن عمر القرطبي ساكن قنا ( ت 672هـ/ 1273م) فالذي رحل مع أبيه من الأندلس في سن الصغر هو هذا الأخير وليس صاحب المفهم ( ابن عبد الملك المراكشي :الذيل والتكملة ، س 1، ق2،ص 475؛ الصفدي : الوافي بالوفيات ، ج7، ص 339 –340) ثم أن ما حكاه صاحب المفهم عن نفسه –كما في المتن – يقطع كل التباس .(/5)
هل المنطق والإعجاز العلمي من أسباب تخلف المسلمين؟
عزيز محمد أبوخلف
</TD
اعتدنا ان نلقي باللوم في تخلفنا على غيرنا، وهو ما يُعرف بنظرية المؤامرة. ولا شك في أن التآمر قد صاحب الإسلام منذ ظهوره وعلوه في الأرض، خلافاً لمن يُنكر نظرية المؤامرة ويحاول أن يقنعنا بأنها وهم. لكن بالمقابل لا يجوز إغفال دورنا في هذه المؤامرة أي العامل الداخلي أو الذاتي، أي كوننا طرفاً في الموضوع، ولو من باب القابلية لهذا الأمر على الأقل.
ونحن هنا بصدد الحديث عن التخلف الفكري والعلمي الذي حل بالأمة الإسلامية. ونقصد بالتخلف الفكري ما حل بالأمة من تدهور الإنتاج الفكري الاجتهادي، وليس المقصود أن الأمة فقيرة في أفكارها، فالقرآن والسنة معين لا ينضب من الأفكار، ولكن الإنتاج منهما يتوقف علينا نحن كأمة مفكرة، وهذا قد تأثر كثيراً بعد مرور القرون المشرقة من تاريخ الأمة. ونقصد بالتخلف العلمي أي التقصير في المجال التجريبي، وهو فهم الكون وقوانينه وتسخيرها في خدمة الإنسان والمهام المناطة به. فقد بدأ الانحطاط الفكري منذ اللحظات الأولى التي اعتمدت فيها طوائف من المسلمين، كالأشاعرة، المنطق اليوناني أساساً في التفكير الإسلامي، وجعلوه باباً ومدخلاً لأي علم آخر مهما كان نوع هذا العلم، بل قرروا أن من لم يعتمد المنطق الأرسطي فلا ثقة بعلومه، كما أفتى بذلك حجة الإسلام الغزالي. ولا يمكن لأمة أن تتقدم علمياً إذا كانت متدهورة فكرياً، وما حل بأمتنا خير شاهد على ذلك، على الرغم من محاولات التشبث بقاعدة "سبقناكم" التي يستند إليها أهل الإعجاز العلمي، الذي ربما يساهم بطريق غير مباشر في هذا التخلف.
لماذا أدى منطق اليونان إلى تخلف الأمة؟
المنطق الأرسطي اليوناني أسلوب من أساليب التفكير، بل هو أسلوب خاص جداً، وهو اصطلاح فكري غير واقعي. ذلك أن الذين وضعوه والذين تبنوه من المسلمين، لا سيما الأشاعرة، عمدوا إلى تطبيقه على أرض الواقع في مجال العقائد عنوة. وبما أنه غير واقعي فقد اصطدموا بالواقع بعنف، إذ لا يمكن ان تضع الشيء في قالب لم يُصمم له، أو تُلبس أحداً ثوباً لم يُفصل على مقاسه. ولهذا أخذ الذين تبنوا المنطق الأرسطي في التراجع شيئاً فشيئاً واجراء التعديلات عليه، بدءاً من اسمه، لينتهي بهم الأمر إلى تهذيب المنطق والتحجر على ذلك، والاكتفاء بتدعيم المنطق والدفاع عنه دفاع المستميت. وربما نجد العزاء للأشاعرة في دفاعهم المستميت واليائس في نفس الوقت عن المنطق الأرسطي، ذلك لأن عقائدهم مبنية عليه، وعقائدهم قطعية، ولو انهار المنطق الأرسطي فهذا يعني انهيار العقائد القطعية، وذوبان ثلج هذا الجبل الشامخ ليظهر أن هذه القطعيات ما هي إلا وهميات.
هذا المنطق الخاص جداً قد تعرض لنقد شديد جداً من قبل المفكرين المسلمين، ورفضوه رفضاً قاطعاً، ولولا تبني الأشاعرة له لمات ودفن في مقابر الفكر، ولم يكن له أثر يذكر، وذلك من شدة ما تعرض له من ضربات قاتلة كادت أن تودي به، لخصها وزاد عليها ابن تيمية، الذي كانت له الذراع الطولى في نسفه وتقويض أركانه. لقد كشف هؤلاء المفكرون العباقرة عن زيف هذا المنطق وهشاشته، وأن ما لديهم من قواعد تغني عنه. فقد أبانوا عن هشاشة أصوله المتمثلة في التصور وبنائه على الحد المبني على مجرد فروض ذهنية خيالية، وكذلك أظهروا زيف القياس الذي يسمونه البرهاني وأنه مجرد دور وتحصيل حاصل، وأنه لا يمكن تحصيل العلم عن طريق هذا المنطق. وهذه الانتقادات هي نفس ما توصل إليه المفكرون العلمانيون من الغرب وزعموا أنهم بدأوا من ذاتهم. والحق أن كل ما توصلوا إليه موجود في الفكر الإسلامي، لكنهم تظاهروا بأنهم تجاهلوه ولم يقفوا عليه، وأنهم إنما رجعوا إلى أصول اجدادهم اليونان. كل ذلك من أجل التنكر لهذه الأمة ومنجزاتها ومن أجل أن يتشبثوا بأصول لهم.
وطبيعة المنطق الأرسطي جامدة مثل الأصل الفيزيائي الذي قام عليه، أي علم الجوامد. وهو تصنيفي تحليلي يجمد التفكير ويحجره، ولهذا لا يرى المشتغلون به أي جديد في الدنيا، لأنه لا بد أن يضعوه في رفوف هذا المنطق. ومن الطرائف أننا عندما كتبنا عن المفهوم الصحيح لعقل المرأة في الإسلام، زعم الأشاعرة أننا لم نأت بجديد وأنهم يعلمون ذلك من قبل، لأنهم يعرّفون الإنسان بالحيوان الناطق، كما فعل معلمهم الأول ارسطو، والمرأة إنسان فهي ليست ناقصة عقل ! هذا مع أن كبار ائمتهم من القدامى والمعاصرين يصرحون بدون مواربة بنقصان عقل النساء وضعفهن في المحاججة. وهذا ما حصل بالضبط في امتنا عندما تبنت المنطق هذا، فلم تر أي جديد خارج نطاقه، ولم تنفع كل الانتقادات والضربات الشديدة من قبل عباقرة الأمة، التي لو تبنتها الأمة لسبقت الغرب قروناً في التقدم العلمي التجريبي، ولكن هيهات هيهات وكبار أئمة الأشاعرة وغيرهم قد جعلوا من المنطق صنماً فكرياً مقدساً لا محيد عنه.
الإعجاز العلمي ... تقدمٌ أم تخلف؟(/1)
الإعجاز العلمي هو بيان أن ما توصلت إليه الحضارة الغربية من أفكار علمية موجود لدينا في نصوص القرآن والسنة، على قاعدة "سبقناكم"، وهذا يدل على إعجاز القرآن والسنة وانهما من الله. فهل في هذا ما يؤدي إلى أي تقدم علمي يمكن أن تحصله الأمة الإسلامية؟ أم يا ترى أنه يمكن أن يؤدي إلى تخلفها كما حصل مع منطق اليونان ولو بشكل غير مباشر؟ ذلك أن العمل في الإعجاز العلمي يمكن أن يؤدي إلى مزيد من النوم والاسترخاء بانتظار ما يجود به علينا الوسط العلمي الغربي، وما علينا الا مجرد الانتظار والفهم والمطابقة مع النصوص.
ثمة فرق بين المتبنين للإعجاز العلمي ومن تبنى المنطق الأرسطي، في أنهم في الإعجاز العلمي يقولون بأنهم يستندون إلى الحقائق العلمية التي ينتجها الغرب. كما أنهم لم يجعلوا ذلك في صلب العقيدة وانما اعتبروه وسيلة للدعوة، لا سيما لمن يفهم لغة الإعجاز العلمي كي يدخلوا في الدين.
لقد فتح الإعجاز العلمي الباب على مصراعية لتحقيق مقولة السبق، حتى ولج فيه الكثيرون وتعرضوا لأمور نخشى أن تتحول إلى أن تكون نقمة على الدين بدلاً من أن تكون منقبة كما أريد لها. لقد اصبح المشتغلون في هذا المجال يتصيدون أية فكرة ثم يبحثون عن نص فيه شبهة منها، ثم يخرجون بفكرة السبق في هذا المجال، حتى لم تسلم منه أمور الفها الناس وعرفوها في عصر النبوة ويعلمها أهل الطب والخبراء في ذلك المجال.
إذا كان على المشتغلين بالإعجاز العلمي أن يثبتوا مصداقية ما يقولون، فعليهم أن يقلبوا المنهج الذين يشتغلون به. اننا نطالبهم أن يكتشفوا حقائق جديدة بناء على تأملاتهم في القرآن الكريم أو السنة بدلاً من الانتظار على أبواب العلم الغربي ثم مقارنته بالنصوص والإدعاء أننا سبقناهم إليه منذ قرون. فهل يا ترى سيفلحون في ذلك، وإذا أفلحوا فهل ستمر أبحاثهم دون موافقة المؤسسات العلمية الغربية على ذلك؟ قد يكون من المفيد أن نفكر في العمل على الإعجاز الفكري الذي هو اقرب لحضارة الأمة وتراثها، بدلاً من انتظار أفكار ينتجها غيرنا ثم ندعي أنها عندنا وأننا سبقناهم إليها.(/2)
هل بدأ مشوار سلخ الإسلام عن الجنوب أحمد إسماعيل*
عن الجنوب.. يأتيك بالأنباء من لم تزود
سؤال يقفز إلى ذهنك حين تسمع بالأشياء الغريبة التي يمارسها المسؤولون في حكومة الجنوب ولمّا يمض على اتفاقية السلام عام واحد!!..
فبعد إحراق متاجر الشماليين و التضييق عليهم، و فرض الرسوم و التأشيرات على دخولهم، و غيرها من الممارسات حملت الأنباء مؤخرا خبرا يقول: (إن حكومة أعالي النيل قد قامت بتعميم إخطار لجميع المساجد بمدينتي الناصر و ملكال بحظر استخدام مكبرات الصوت في الآذان لصلاة الصبح حتى لا يتسبب ذلك في إزعاج المواطنين)!!..
ليس هذا فحسب؛ بل قامت حكومة تلك الولاية بإغلاق مركز تعليم القرآن بمدينة الناصر، و طلبت من كل المعاهد استئجار و تشييد مباني خاصة بها، كما تم إخلاء المبنى الحكومي الذي كانت تشغله (جامعة القرآن الكريم و العلوم الإسلامية).. و قد برر وزير التعليم العالي بالولاية تلك الخطوة بأنها موافقة للدستور الذي يقر فصل الدين عن الدولة)!!..
هذه الأنباء و التصريحات لم تنقلها مصادر شمالية حتى يقال عنها إنها متحاملة!!.. بل أوردتها صحيفة جنوبية جدا و هي صحيفة (سيتزن)!!.
لقد قال لنا الساسة حين وقّعوا على صكوك (نيفاشا): إن الاتفاقية لا تعني بالضرورة (فصل الجنوب)؛ لأن الطرفين سيعملان من أجل جعل الوحدة (خيارا جاذبا)!!.. و لكن هذا الوعد كذبته الحوادث منذ مقتل قرنق.. بل وقبله.. بل وحتى هذا الخبر الأخير أيضا كذبه!!.. بل و يكفي أي واحد منا ليتأكد من هذه الكذبة زيارة واحدة إلى الجنوب - بعد نيفاشا - يتجول خلالها في شوارع أيٍّ من مدنه الكبرى.. عندها ستنبئه البارات المنتشرة، و أحاديث المجالس و الشوارع أن (القول ما قالت حزام)!!..
تقول ربيكا قرنق: إن أمريكا شريك أساسي في اتفاقية السلام، و إن الشركاء الغربين هم بمثابة الأب للاتفاقية، بينما تمثل دول الإيقاد (الداية)!!.. و ليس ببعيد إعلان أمريكا رفع تمثيلها الدبلوماسي في الجنوب إلى درجة القنصلية، بينما لمّا تزال درجة التمثيل الدبلوماسي في الحكومة الاتحادية قابعة في خانة (القائم بالأعمال)!!..
و ولايات الجنوب تفرض الرسوم و التأشيرات على التجار الشماليين، بينما تفتح أبوابها دون قيود للتجار القادمين من كينيا و يوغندا (أبناء الداية)!!..
و وزاراء الحركة في حكومة الوحدة الوطنية يتحدثون عن (الحكومة) التي لم تطبق الاتفاقية؛ وكأنهم ليسوا طرفا فيها!!.. و يلوكون الكلام عن غمط حقوقهم في النفط - والتي ثبت أنهم قد استلموها بالكامل - و يمضون في عقد الاتفاقات غير القانونية مع الشركات الغربية التي يشارك بعضهم في مجالس إدارتها!!..
هل مازال هناك من خالجة شك حتى الآن في أن صفقة نيفاشا كانت خاسرة بكل المقاييس!!..
نعم كانت هناك حرب مشؤومة.. و لكن لم يكن هناك عشرة آلاف من الجنود الدوليين!!.. و لم تكن هناك لجنة خبراء تنتزع أبيي من جذرها الشمالي!!.. و لم تكن في النيل الأزرق حكومة يتحدث وزراؤها عن الانضمام إلى الجنوب!!.. كما لم يكن مسلمو الجنوب يعانون ما يعانونه الآن من منع الشعائر الدينية، و إغلاق المؤسسات، و المحاربة في الأرزاق!!.(/1)
هل بلغت التراقي وهل من راق؟
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
هل تشعر الدولة العراقية بقرب أجلها، بسبب ما دلت عليه القرائن من أن المحتلين مضطرون لسحب قواتهم المعتدية التي رتبت الأمور لتنصيب الحكومة الحالية، بعد أن تحالفت مع قادتها، و أفسدت في أرض العراق، بقتل سكانه وهدم مدنه وقراه وإحراق الأخضر واليابس فيه؟
واتخذت جميع الوسائل التي أتيحت لها لتثبيت الحكومة المصطنعة، بما في ذلك الانتخابات الحرة! تحت المقاتلات التي ملأت سماء المدن العراقية، والدبابات التي ملأت شوارعها، حماية للمنتخبين من هجمات المجاهدين الرافضين للاحتلال، وللتنصيب الجبري من خارج الشعب، وكانت تلك العُدَد في نفس الوقت تحرق المدن الرافضة للاحتلال، وكل ما بني عليه من ترتيبات ظالمة.
ولكن زعماء تلك الجيوش المحتلة رأت مصارع جنودها المستمرة على أيد المجاهدين الذين يحبون الموت في سبيل الله أشد من حب المحتلين للحياة في سبيل الشيطان، فبدأت تسرب ما هي مقدمةٌ عليه من سحب جيوشها وما قامت به من التفاوض مع بعض الفئات في العراق وقد تكون من غير المجاهدين الذين علموها بأن العراق لأهله الذين لا يمكن أن يدبر أمره الأجانب المحتلين مع من يرفضهم ممن لم يدخلوه إلا على ظهور دباباتهم الذين شعروا الآن بالخطر، على أنفسهم، وأنهم لا يمكن أن يبقوا على كراسي حكم العراق في عاصمة الرشيد، إلا تحت حماية الطاغي المحتل، الذي لم يدخل العراق من أجلهم، وإنما دخله لتحقيق أهدافه وأهداف اليهود الوجلين من جيش العراق الشجاع الذي دبر لإسقاطه بليل منذ الحربين السابقتين في الخليج: مع إيران والكويت، وكذلك سكان العراق الأحرار الذين يأبون أن يناموا على ضيم، مهما ظاهر بعض أعدائهم بعضا، من داخل العراق أو خارجه، قريبين منه أو بعيدين.
ونحن على يقين أن زعماء الاحتلال لا يسحبون قواتهم الظالمة إلا بعد أن يخططوا تخطيطا لحرق العراق بعد رحيلهم، على ضوء ما يسمى بـ"اللبننة و الأفغنة و البلقنة!"
والمؤسف أن المعتدين، من الصليبيين أو اليهود، إذا أعيتهم الحيل فلم يستطيعوا أن يحققوا أهدافهم مباشرة وجدوا سماسرة ينفذون لهم ما أرادوا.
ولهذا أخذ قادة الحكومة يشكون ويصيحون خائفين من المأزق الذي وقعوا فيه وقد يوقعهم المحتل في مآزق أخطر تكون وبالا عليهم، بعد انسحاب الجيوش الأجنبية من العراق، لأن انتخاباتهم لو كانت طبيعية لحماهم الشعب الذي انتخبهم، فتلفتوا شرقا وغربا ولسان حالهم يقول: هل مغيث أو راق ؟!
وهنا يبرز سؤال مهم، وهو: هل ستجد الحكومة -التي يبدو أن فرائصها ترتعد- من يغيثها، أو يرقيها فيَخلُف قواتِ المحتل إذا انسحبت، هل سيكون لزعماء الاحتلال دور فيه؟ وهل له من مقابل؟ ومن هو هذا المغيث وما هو هذا المقابل؟ وهل من رابط يجمع بين الحكومة وهذا المغيث وما هو؟ وهل له من تأثير في منطقة الخليج؟
هي أسئلة يفرضها الجو الذي اختلطت فيه الأوراق كما يقال، ولعل المحللين السياسيين و الذين لهم خبرة في غوص بحار السياسة وجداولها وشوارعها وأزقتها وألاعيبها يستطيعون أن يسعفوا الجاهلين بالإجابة عنها، وإلا فسيكون الجواب في الواقع المنتظر، وليس المهدي القائم ولا المنتظر، وهو عنوان لمقال قرأته في بعض المنتديات لبعض الدعاة لا يقصد ظاهره بل له فيه مآرب أخرى، كما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام وعصاه(/1)
هل تتمنى أن تكون من العلماء؟
عبد العليم صديق*
كلٌ منا يتمنى أن يكون عالماً عاملاً, وخطيباً مفوهاً, وقدوة حسنة, وإماماً في كل خير؛ وحُق للعبد ـ تلك الأماني السامية ـ عندما يطرق سمعه قول الله تعالى: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين)[سورة فصلت أية 33], وتزداد تلك الرغبة عندما يتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) وقوله: (لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خيرا لك من حمر النعم) [رواه مسلم], وتبلغ تلك الأمينة أقصاها عندما يبلغه قول المصطفى الهادي بإذن ربه إلى صراط مستقيم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)[رواه مسلم].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره:(ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله): "أي دعا عباد الله إليه. (وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين): أي هو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشر ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى وهذه عامة في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتد, ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك" [تفسير القرآن العظيم 4/126].
والعبد إذ يتمنى ذلك ليس هدفه أن يُشار إليه بالبنان, ولا ليستجديَ العطف والإحسان, بل هي الرغبة الصادقة في الآخرة, وابتغاء وجه الله عز وجل مستصحباً معه قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ـ متوعداًً المرائيين ومحذراًً الذين يريدون بعلمهم الدنيا ـ :(أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة ـ وذكر منهم ـ رجلا تعلم العلم ليقال عالم وقارئ فيؤمر به فيسحب على وجهه إلى النار) [أخرجه الترمذي],(من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة ـ يعني ريحها ـ يوم القيامة) [رواه أحمد].
لقد مدح الله تعالى العلم والعلماء وأثنى عليهم ثناءً ينفض عن الكسالى غبار الكسل, ويطمع الزاهدين فيه لتحصيله, ويحث العلماء على طلب المزيد منه (وقل رب زدني علما) والنصوص في ذلك كثيرة حسبنا منها قول الله عز وجل:(إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) قال السعدي رحمه الله: ـ عند هذه الآية ـ "فكل مَنْ كان بالله أعلم، كان أكثر له خشية. وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء مَنْ يخشاه. وهذا دليل على فضيلة العلم, فإنه داع إلى خشية الله, وأهل خشيته هم أهل كرامته كما قال تعالى: (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه)" فالعلماء هم أهل خشية الله تعالى وكفى بالخشية خصلة فقد أخبر الله عز وجل عن الملائكة بأنهم:(يخشون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) وقال في وصف الأنبياء والمرسلين والمتقين: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا) [سورة الأنبياء: 90] (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) [سورة المؤمنون: 57], وبالجملة فالخشية هي التي تدفع العبد لفعل الطاعات وتزجره عن المعاصي والسيئات وتورثه ـ بإذن الله ـ أعلى الجنات.
فمن رغب ـ بعد سماع النصوص المرغبة في العلم ـ عنه فليبكِ على نفسه وينوح عليها وليرفع يديه إلى مولاه قائلاً :(اللهم إني أسألك علماً نافعاً) ]رواه ابن السني] كما كان يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن شغلك طلب الرزق, وألهتك معايشك عن تحصيل العلم؛ رغم نيتك الصادقة في أن تلحق بركب العلماء فتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ مسلياً نفسك ـ وهو يخبر عن رجل عالم وآخر يتمنى أن يكون له مثل علمه فقال صلى الله عليه وسلم: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها فيقول ياليت لي مثل علمه لعملت مثله قال: فهم في الأجر سوا) فانظر كيف كانوا في الأجر سواء لأن الأمر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات), وهذا فضل الكريم الواسع ذو الفضل العظيم الذي لو أعطى عباده كلهم سؤلهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً, إنما هي نية صادقة من قلب سليم مخلص.
وهذه النية لا تغنيك عن طلب العلم بل سعيك في طلب العلم هو تصديق لتلك النية, عسى الله أن يفتح علينا من علمه ويفيض علينا من بركاته.
تنبيه مهم:
على العبد أن يعلم أنه لا بد له من تعلم الفقه الذي هو فرض عين وهو "معرفة معنى الشهادتين, ومقتضاهما, وما يناقضهما, ومعرفة أصول العقيدة الإسلامية؛ إذ العقيدة هي الفقه الأكبر، ومعرفة ما تصح به عبادة المرء من أحكام الطهارة والصلاة إجمالا, وأحكام الزكاة إن كان عنده ما يزكيه, ومعرفة أحكام المعاملات ما يحل منها وما يحرم إن كان له تجارة حتى لا يقع في الحرام, لقوله عليه الصلاة والسلام (طلب العلم فريضة على كل مسلم)[رواه الطبراني في الأوسط والكبير]" (نقلاً عن كتاب الثقافة الإسلامية القسم الأول ص:124)(/1)
وإن قعدت بنا ذنوبنا عن تحصيل العلم لأن :(العبد يحرم الرزق بالذنب يصبه) فكيف بالعلم الذي هو سبب حياة القلب في الدنيا وسلامته الآخرة؛ فلنتب إلى الله عز وجل وإن لم نكن علماء فلنكن متعلمين, وليسلم إخواننا وعلماءنا من ألسنتنا كما قال أحد السلف: "كن عالماً أو متعلماً ولا تكن الثالث فتهلك".
إنّ دلالة الناس على الخير الذي من أعظمه العلم ـ بل هو الخير كله ـ، هذه الدلالة على العلم من أفضل القربات وأعظم الطاعات وأسهل سبيل لتحصيل الحسنات من عدة جهات في وقت واحد: فيأتيك أجر صائم وقائم ومتصدق وعابد كنت أنت السبب في دلالتهم على الخير وهدايتهم إليه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)[رواه مسلم]. فلعلك ترشد عبداً من عباد الله إلى عالم ليصحبه أو لدرس شيخ، أو تحثه على طلب العلم بأي وسيلة فيصبح عالماً صالحاً يأتي عمله هو ومن تبعه في ميزان حسناتك من غير أي نقص في أجورهم . وأمثلة الدلالة على الخير كثيرة تتعجب منها، ولعل قصة الإمام الذهبي ـ العالم المشهور ـ من تلكم الأعاجيب: أنّ أحد مشايخه رأى خطه فقال له: إنّ خطك يشبه خط المحدثين, قال: فوقع حب الحديث في قلبي. وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: (وإن الرجل ليتكلم من رضوان الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة) [أخرجه أحمد](/2)
هل تتمنى نصرة الإسلام؟
لما فتح المسلمون جزر البحر المتوسط كان الجيش كله في فرح إلا أبا الدرداء جلس يبكي فمر به صحابي فقال له: أتبكي يوم النصر ياأبا الدرداء؟
قال: نعم
قال له: فلما البكاء؟
قال: أبكي لحال هؤلاء الناس لما عصوا الله مكننا الله من رقابهم فإنتصرنا عليهم وأخشى أن يأتي اليوم الذي نعصى الله فيه فيمكنهم الله من رقابنا.
أردت أن أبدأ بهذه القصة لموضوع أراه أنه في غاية الأهمية
يجب أن نعي ونحن المسلمون أننا لن ننتصر إلا إذا نصرنا الإسلام ولن ننصر الإسلام إلا إذا نصرنا الله ولن ننصر الله إلا إذا عبدناه حق عبادته
أنظروا إلى أبا الدرداء هذا الصحابي الجليل كيف فقه الأمور وكيف وعى في نفسه أن ما إنتصر المسلمون إلا عندما أطاعوا الله جل جلاله
وما إنهزم الكفار إلا عندما عصوا الله
لم يرتبط الإنتصار لا بمال ولا بقوة ولا بعتاد ولا بكثرة ولكن بقوة إيمان
ولم ينتصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا صحبه الأخيار إلا بقوة الإيمان
قال الله تعالى :
قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }البقرة
وقال عز من قائل: {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين }الأنفال
وهذا دليل أن عدد المسلمين لم يكن ولن يكون سببا لنصر
وحاضرنا خير دليل فنحن مليار مسلم اليوم ولا خير في عددنا كأنه الواحد والستة أصفار
قال عمر الفاروق رضي الله عنه :
إذا عصينا الله تساوينا مع العدو في المعصية وزاد العدو علينا في العدد والعُدَدِ فهزمنا
ويقول أيضا رضي الله عنه :
أنا لا أخشى على الجيش من أعدائه إنما أخشى على الجيش من ذنوبه
ولذلك روى أحد الصالحين أنه رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام بعد أن أنهزموا وقال: يارسول الله أيرضيك مانحن فيه ؟
فقال الحبيب: عصاة يحاربون عصاة
فكيف بالله ننتصر؟؟
فبقوة ايماننا نصبح أقوى رغم قلة العدد وقلة العتاد وهذا لسبب واحد وهو في قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }الأنفال
فوالذي ننفسي بيده لو جمعنا اليوم مليار مسلم في صعيد واحد ونحن عاصون الله نحارب العدو لن ننتصر لأننا أقل من العدو في القوة المادية وليس لدينا عليها بديل
ولكن لو كنا أقل منهم عددا وعتادا وكنا أولياء الله لغلبنا لأننا نملك يومها أقوى سلاح
ولذلك أنظروا إلى عزة المسلمين
أرسل خالد بن الوليد انذارا حربيا لكسرى ملك الفرس يقول فيه : ياكسرة أسلم تسلم وإلا فقد جئتك بقوم يحرصون على الموت كما تحرصون عن الحياة
ولما وقع الإنذار في يدي كسرى بعث لحاكم الصين يطلب منه العون والمدد
فرد عليه حاكم الصين : ياكسرى ليس لي طاقة على قوم لو أرادوا خلع الجبال لخلعوها
الله أكبر...الله أكبر ولله العزة وللمسلمين
سبحان الله لا عزة لنا إلا بالإسلام والإسلام ليس دين نرثه بالوراثة ولكن عقيدة نؤمن بها وعبادات نأديها
ولذلك الله لا ينصر إلا من نصره وذلك حتى يعينه في مهمته التي خلق من أجلها
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات
فيا من يرى أن أسباب النصر في الهتافات وفي المظاهرات وفي رفع الشعارات فوالله لا يوجد أسهل من الكلام ومن تنظيم الأبيات
و يرى في المقابل أن الحديث عن الصلاة والصيام وذكر الموت الذي قال فيه الحبيب" اكثروا من ذكر هادم اللذات" كلام غير هام ومعروف عند الجميع ولن ينفع الامة
أقول له
" يامن نصر الإسلام بالدموع هلا نصرته بترك الذنوب"
والله لبئس الأمر أولى علينا أن نجاهد الشيطان الذي يغلبنا وفي بحر المعاصي يغرقنا وهو الذي قال الله في كيده : إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً
فكيف نستطيع أن نهزم الكفار في حرب ونحن لا نقدر على هزم الشيطان في أنفسنا
ولذلك ذكر أن أسباب النصروالهزيمة ثلاث:
فأسباب النصر : - عقيدة راسخة - معنويات مرتفعة - معرفة بفنون القتال
و أسباب الهزيمة : - ضعف الوازع الديني - تفسخ أخلاقي -انحلال اجتماعي
فيا من يبكيه مايحدث اليوم للإسلام والمسلمين و يغار عن الحبيب المصطفى الذي في بلاد الكفر يوهان أنصر الله وإنصر رسوله وأخدم الإسلام يترك ذنوبك أولا ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأن نثأر لحبيبنا بإتباع سنته و من أن نبلغ عنه ولو بآية كما وصانا عله يكون على يدينا هداية شخص وإخراجه من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة
فكلما أطعنا الله قلت الذنوب وكلما قلت الذنوب رفع الله غضبه عنا وكلما رفع غضبه عنا نصرنا الله نصرة عزيز مقتدر.(/1)
لذلك أقول لكل مسلم يتهاون ولا يولي أهمية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذه صفات أمتنا وما كنا خير أمة إلا بهذا
أن كلمة منك تدعوا فيها لله حتى لو كانت بسيطة فلا تحتقرها فكل شخصا كانت بدايته مع الله بكلمة دخلت قلبه ففهم معناها.
سؤال أخير قبل أن أضع نقطة النهاية
هل تتمنى نصرة الإسلام؟
الكل سيقول نعم ورب السماوات والأرض
فلماذا أنت تخدله بمعاصيك؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وأوصيكم وأوصي نفسي العاصية قبلكم أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب على مسؤولية هذا الدين الذي كرمنا الله به وجعلنا خير الأمم.
اتمنى أن تكون رسالتي وصلت
الله لقد بلغت(/2)
هل تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً؟ عبد العليم صديق*
عندما تريد أن تعرف محبة شخص ما في نفسك فانظر إلى قلبك وتصرفك حين يُنتقَص من قدره أو يقع أحد في عرضه. إيمان العبد لا يكمل حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كل أحد، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده) وقوله صلى الله عليه وسلم:( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) [رواهما البخاري].
وكيف لا يُحَب أفضل خلق الله من اصطفاه من بين الناس أجمعين، وفضله على المرسلين، وجعله خاتم للنبيين، وأنزل عليه الكتاب المبين الذي أخبر فيه الله عز وجل أنّ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحمة للعالمين وأنه على خلق عظيم, بل هو:"أعظم الرجال قدرا، وأعلاهم فخرا، وأكملهم عقلا، وأغزرهم علما، وأجلهم رأيا وعزما وحزما، وأكملهم خلقا، وأوسعهم رحمة، وأشدهم شفقة، وأهداهم وأتقاهم .
وهو قطب دائرة الكمال، وإليه المنتهى في أوصاف الرجال، ألا وهو رجل العالم على الإطلاق، يعرف ذلك أولياؤه وأعداؤه.... وهو: " خاتم الرسل وسيد ولد آدم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن الذين كفروا لا يعقلون" . [تفسير السعدي: سورة الزخرف 31].
عندما يعجز أعداء الله في مدافعة دعوة الرسل ودفع محجتهم يلجأون إلى الاستهزاء والسخرية: فلما حاجّ موسى عليه الصلاة والسلام فرعون لعنه الله ـ بعد أن سأله تعنتاً عن رب العالمين ـ فأجابه موسى عليه الصلاة والسلام بما أفحمه به فلم يدر جواباً قال فرعون عندها (إني لأظنك يا موسى مسحوراً) [سورة الإسراء] وهكذا يعامل الكافرون رسل الله منذ نوح عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: الذي كان قبل أن يُبعَث الصادق الأمين وبعد أن بُعث كان كاذبا وساحرا وكاهنا وشاعرا كما حكى القرآن قول الكافرين: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا كما أُرسل الأولون) [سورة الأنبياء] كبرت كلمة تخرح من أفواههم إن يقولون إلا خلاف ما يعتقدون كما أخبرنا ـ من يعلم ما في الصدور ـ (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنه لا يكذبونك ولكن الظالمين بآت الله يجحدون) [سورة الأنعام].
الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم ومحاولة النيل منه قديم منذ بعثته فهو ـ عليه الصلاة والسلام ـ يأخبرأنّ: (أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) [رواه الترمذي وغيره] وهو خير الأنبياء بأبي هو وأمي.
وإنّ ما ينشر هنا وهناك من حين لآخر لمحاولة تفريغ حسد متأصل في نفوس الكافرين؛ لم ولن يضير رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بل: (لا يحيق المرء السئ إلا بأهله), وقد أخبر الله عز وجل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أنه ـ سبحانه وتعالى ـ سيكفيه المستهزئين حيث قال: (إناكفيناك المستهزئين ) قال السعدي رحمه الله تعالى:" بك وبما جئت به، وهذا وعد من الله لرسوله، أن لا يضره المستهزئون، وأن يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة . وقد فعل تعالى فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة .( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ) : لك من التكذيب والاستهزاء، فنحن قادرون على استئصالهم بالعذاب، والتعجيل لهم بما يستحقون، ولكن الله يمهلهم ولا يهملهم ".
ولكن حبنا واتباعنا لنبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وإيماننا يحتم علينا أن ننكر هذا الفعل الذي هو من أعظم المنكرات بل هو الكفر ـ إن صدر من مسلم ـ ولا خلاف في ذلك بين عامة العلماء حيث يقررن: "أنّ من استهزأ بشئ من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم كفر إجماعاً" فكيف بمن يسخر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إنّ الانتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ منذ سماع مثل هذه المنكرات بالغيرة على عرض خير الورى صلى الله عليه وسلم فتتأجج في القلب نيران الغضب, وتغلي في العروق الدماء, ويتكدر صفو العيش, ثم لا بد من عمل شيء ولو باللسان بل حتى ولو بالقلب فذلك أضعف الإيمان. ألم تسمع قول النبي الحبيب الكريم صلى الله عليه وسلم: (من رد عن عرض أخيه المسلم كان حقا على الله عز وجل أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة) [رواه أحمد]. فلعل الله أن يكتب لمن غضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الفوز العظيم يوم القيامة.
وإنما لم تحرك ـ هذه الأفعال القبيحة من هؤلاء الكفرة ـ مشاعر بعض المسلمين لأنهم حُجبوا بالشهوات كما قال النووي رحمه تعالى :" فيه تلميح ـ أي حديث حب النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم ـ إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فإنّ من رجّح جانب المطمئنة كان حبه للنبي - صلى الله عليه وسلم راجحا، ومن رجّح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس" . [نقله الحافظ ابن حجر في الفتح](/1)
إنّ من أعظم الجرائم التي يرتكبها من يدعي ـ حقوق الإنسان واحترام الأديان ـ أن يؤذي المسلمين في نبيهم بل يؤذي الله عز وجل قبل ذلك لأنّ: "من آذاه بشيء ـ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فقد آذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله"[تفسير ابن كثير]
والله عز وجل يقول: (إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) قال الشيخ عبد الرحمن السعدي:"وهذا يشمل كل أذية، قولية أو فعلية، من سبٍ وشتمٍ، أو تنقصٍ له، أو لدينه، أو ما يعود إليه بالأذى (لعنهم الله في الدنيا والآخرة) أي : أبعدهم وطردهم، ومن لعنهم في الدنيا أنه يحتم قتل من شتم الرسول، وآذاه ".
إنّ الإنسان مفطور على محبة نفسه بل محبته لغيره إنما هو ناتج عن وجود رغبة وسعادة يشعر بها تتحقق له من ذلك الحب، فإذا كان ذلك كذلك فانظر وأقرأ بقلبك الكلام النفيس الذي سطره ابن حجر في فتح الباري حيث يقول ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ "فإذا تأمل ـ العبد ـ النفع الحاصل له من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم – الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه؛ البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أنّ نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوفر من غيره، لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه" .
اللهم اجعلنا من أنصار دينك الذابّين عن عرض أوليائك الزادين عن حرماتك المتبعين لشرعك, اللهم اجمعنا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى(/2)
هل تذكر المرأة التي سرقت صيغتها ؟ ...
قصتنا لهذا اليوم تتعلق بلص محترف اسمه – امريط ولد جليط – ولصاحبنا هذا الكثير من الجرائم التي تقشعر منها الجلود ، فهو فوق أنه لص محترف ، فهو مجرم عنيد ، ورجل بغيض ، ومتهور شريد ، وجشع عتيد ، وقاتل عربيد ،لا يوجد له صاحب ولا مريد ، وكان امريط ولد جليط يعيش في قرية صغيرة ، يستعيذ أهلها بالله من شره ، فهم مستاءون من أمره .
ومن كثرة ما وقع فيه امريط من الجرائم البشعة ، والأعمال الشنعة ، والأطماع الشجعة ، لم يعد أهل القرية يرغبون بوجوده ، وأصبحوا يتجهمونه ، ومن كل وجهة يطردونه ، فقد تعددت جرائمه حتى وصلت كل بيت من بيوت القرية ، وقد أصبحت حياة امريط في القرية أمراً صعباً ، بل مستحيل ، فأخذ امريط يفكر بطريقة يصلح وضعه مع الناس وإن كان لا ينوي التوبة فهو مصر على جرمه ، ولكنه يريد أن يخفي أمره ، فعزم امريط على الرحيل ليتجه إلى قرية أخرى ، ولكن لا يريد أن يفضح أمره حتى يستطيع العيش بسلام ، فماذا فعل ؟ لم يجد امريط طريقة أفضل من أن يتخفى بمظهر شيخ تقي نقي ، مبعداً عن الرذيلة ، عاملاً بالفضيلة ، متخلقاً بالأخلاق الجميلة ، فأعفى امريط لحيته ، وقصر ثوبه ، وعمم رأسه ، وحمل بيده مسبحته ، وكان امريط يتجه إلى المسجد لأداء الصلاة في الجماعة ، مستهماً على الصف الأول خلف إمامه .
وكان امريط حين تنام العيون ، ويعم السكون ، يخرج ليتابع جرائمه فيعيث في الأرض فساداً ، ويسعى لذلك جهاده .
إلا أن عيون السلطان كانت ترقب أخا الطغيان ، فظنوا أنه مصلح ، وبالإيمان متسلح ، فأسرعوا إلى ريسهم ينقلون له الأخبار ، وإن كانت كلها وهم الأفكار .
قالوا يا سيدنا : أننا نراه رجلاً خطيراً ، يخفي وراءه أموراً كثيرة ، فهو يصلى الفجر في جماعة ، فهل بعد ذلك شناعة ؟ بل يحمل بيده مسبحة ، وهذا دليل على أنه صاحب مذبحة ، ودوماً يقرأ القرآن ،وهذا دليل العصيان ، ولا يشارك في الغي الرجال ، ولا يخوض في الجدال ، فهو دوماً وحيد، وعن المخالطة بعيد ، فهل فوق تلك الأدلة دليل ؟ فانظر إلى تورطه الطويل ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
الريس يقول : أتوني به في الحال ، قبل أن ينوي الترحال ، فهو خطير لعين ، يظننا نعتقد أنه مسكين !
امريط ولد جليط يقف أمام الريس ، وهو مكبل الأيدي حيران ، ماذا فعلت للسلطان ؟
الريس يقول : لا أهلاً ولا مرحباً ، فإني أراك مُتعباً ، وللسؤال متأهباً ، لكن لا غرابة فهكذا كل العصابة .
امريط مستغرباً : ماذا فعلت سيدي ؟
الريس : بدأت تُظهر الحماقة ، أم تسوق الكذب سياقة ، فإن لك بالمخربين علاقة ، فأنت الذي للجريمة النكراء خططت ، وأنت الذي لها نفذت .
امريط : أي جريمة تريد ؟
الريس : ضرب الأهداف الغريبة ،بالإضافة إلى جرائم عديدة ، وقد زرعت في المؤسسات الألغام ، وأفسدت على السلطان الأنام ، وتهجمت على بطانته بأقسى الكلام ، وكنت لأصحابك خير إمام .
امريط ولد اجليط : ويلي ماذا دهاني ؟ أي فكر أتاني ؟
الريس : هيا اعترف ، فأنت خارجي محترف .
امريط يقول متلعثماً : سيدي : أني رجل مسكين ، ولمولانا السلطان أمين .
الريس : خسئت يا كذوب ، فأنت رجل لعوب .
امريط : سيدي الريس ، أنا مظلوم ، أنا مظلوم .
الريس : هيا تكلم ، فكل شيء لدينا مكشوف ، وإن كنت تعتقد أنه مظروف .
امريط في نفسه ، إني في ورطة ، أكاد أصاب بجلطة .
الريس قاطعاً حبل أفكار امريط ، وقد دق رأسه بالحيط : هيا تكلم قبل أن أمرطك مرطاً ، وأجلطك جلطاً ، وإن اقتضى الأمر سأزلطك زلطاً .
امريط : سيدي –يحلف امريط بشرف الريس – فهو لا يعلم شيئاً عن الشرك ، امريط بعد القسم : إني بريء ، أني بريء .
الريس في نفسه : هل ارتد امريط ؟ لكنه يستدرك صارخاً : هيا اعترف قبل أن يلف حول رقبتك حبل المشنقة ، أو يأخذ بك إلى المحرقة .
امريط المتعوس أصيب حتما بكابوس ، فبعد أن أدرك الهلاك ،وقال لنفسه الموت أتاك ، أخذ يفكر بالنجاة وكيف توهب له الحياة ؟
الريس وقد عيل صبره ، وعزم أمره ، ينادي على السجان ، خذ هذا الجبان ،والقي به في مكان ،لا يدخله إنس ولا جان .
امريط يسمع كلام الريس ويقول له :
سيدي الريس :هل تذكر المرأة التي سرقت صيغتها ؟
وتلك العجوز التي ذبحت بالموس ؟
وذاك التاجر الذي قتله ذلك المغامر ؟
و ... و ... و... و...
الريس بدهشة : نعم ولكن ما شأنك أنت ؟؟؟
امريط ولد اجليط : أنا ذلك اللص الشريد ، والقاتل العنيد .
امريط يقول صارخاً مردداً : أنا اللص المشؤوم ، أنا اللص المشؤوم !!!!!!!!!!!!!!(/1)
هل تريد معرفة صورة الجنِّ ؟!
الحمد لله الذي خلق الجن والإنس لعبادته ، وأرسل إليهم الرسول ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ بدينه وشريعته ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فلا شك أن أغلب الناس يتمنون معرفة صورة الجن ، كيف خلقوا ؟ وما صورتهم ؟ وما شكل أبدانهم ؟ وكيف يتحركون ؟ ويتكلمون ؟ وغير ذلك مما هو مجهول عند الناس ، لأن الجن يبصروننا من حيث لا نراهم ، وأكبر دليل على حرص الناس على تلك المعرفة ، وجودك في هذا المكان ، وقراءتك لهذا العنوان !!!
ولا بأس عليك ، فهذا قاسم مشترك بين الكثير من الناس ، وإليك ما وعدتك به ، مما وقع مع أحد أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أحد الجن ، فقد رآه بعينه ، وتكلم معه بلسانه ، وثمة فائدة مهمة في الحديث لن أخبرك بها الآن ، فأنت في شوق للقصة ، ولن أحول بينك وبينها .. فها هي :
فعن ابن أُبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ أن أباه أخبره : أنه كانَ لهم جَرينٌ ـ وهو موضع تجفيف التمر وغيره ـ فيه تمر ، وكان مما يتعاهده ، فيجده ينقصُ ، فحَرَسهُ ذات ليلية ؛ فإذا هو بدابة كهيئة الغلام المحتلم ، قال : فسلّمتُ ، فردَّ السلام ، فقلت : ما أنت ، جنّ أم إنس ؟! قال : جن ،فقلت : نا ولني يدَكَ ؛ فإذا يدُ كلبٍ وشعرُ كلبٍ ، فقلت : هكذا خلق الجن ؟ فقال : لقد علمت الجنّ أنَّهُ ما فيهم من هو أشدُّ مني ، فقلتُ : ما يحملك على ما صنعت ؟ فقال : بلغني أنَّك تحبُّ الصدقة ، فأحببتُ أن أُصيبَ من طعامك ، قلت : ما الذي يُحرِزنا منكم ؟ فقال : هذه الآيةُ ؛ آيةُ الكرسي ، قال : فتركته ، وغدا أبي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره ! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" صدق الخبيث "
(السلسلة الصحيحة (3245) وصحيح موارد الظمآن (2/169) (1440) .)
وفي رواية ، قال له : فما ينجينا منكم ؟ قال : هذه الآية التي في سورة البقرة :[ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ] من قالها حين يُمسي ؛ أُجير منا حتى يُصبحَ ، ومن قالها حين يُصبحُ أُجيرَ منا حتى يُمسي .
( رواه النسائي والطبراني بسند صحيح (
ولا يخفاك ـ رزقك الله هداك ـ أن الجن يتصورون في أشكال مختلفة وصور متباينة كصورة الكلاب أو القطط السوداء أو الحيات والعقارب أو غيرها من الهيئات الغريبة التي لا يمكننا رؤيتها على حقيقتها ، وليس ذلك ـ في الحقيقة ـ ما يهمنا من هذه القضية ، وإنما المهم الذي لا بُدَّ أن نخرج به منها ؛ تلك الثمرة العظيمة لتلك الآية الكريمة من كتاب الله تعالى ، وهي آية الكرسي [ رقم من سورة البقرة ] فإنها أعظم آية في كتاب الله ، فعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت : يا رسول الله ! فأيّما أُنزل عليك أعظم ؟ قال :" آية الكرسي " .
) رواه مسلم في صحيحه . (
وفي حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في قصته مع الشيطان الذي تفلت ثلاث ليال على مال الصدقة ، قال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم :" ... إذا أويت إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسي ، من أوَّلها حتى تختم الآية [ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ] ، وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربُك الشيطان حتى تُصبح "
) رواه البخاري في صحيحه وغيره كأبي خزيمة (
ومن قرأ بآية الكرسي دبر الصلوات المفروضة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت ، فلا يفوت عليك هذا الفضل ، واستعذ بالله من شياطين الجن والإنس ، فإن بعض شياطين الإنس أعظم فتنة من شياطين الجن ، فإلى الله المفزع ، وفيه المطمع ، أن يجيرنا منهم جميعاً ، ومن توهيمهم ووسوستهم وتلبيسهم وتدليسهم وسوئهم ، والله على كل شيء قدير(/1)
هل تريد منزلة الملائكة المقربين ؟
كلنا نعلم أن تحولاً هائلاً قد وقع في الكون بنزول القرآن الكريم ، حيث سارت معه قافلة الحياة ، على هدى ونور من خالقها ومبدعها ، ونشطت مع فجره نفوس لبت نداء ربها فأحياها وجعل لها نوراً تمشي به في الناس. وبقي القرآن بقاء النور في الكون ، لا يتوقف مدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولم نر شيئاً تفجرت به ينابيع الحكمة وامتدت منه أنهار المعرفة في غير انقطاع كما تم للقرآن الكريم { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب } (ص 29 ) .
لقد شغل الناس جميعاً من آمن به وصدقه ومن أعرض عنه وكذبه. وأثر في هذا وذاك ، مطاوعة ومكابرة ، وتأييداً ومعارضة ، ونجاة وهلاكاً ، ورفعاً ووضعاً ، وحرباً وسلماً ، وهزيمة ونصراً ، وظل القرآن في جميع الأحوال وسيظل عزيزاً شامخاً أبياً ، ولو تكسرت من حوله السيوف ، أو ضعفت في الأقبال عليه النفوس { وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } (فصلت 41) .
لقد نزل القرآن الكريم وبنزوله طويت الكتب ، وختمت الرسالات ، وحفظت للناس أسباب الحياة ، ولقد بين الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه أن الذين يداومون على تلاوته ، ويعملون بأحكامه ، ويحذرون مخالفته ، أولئك يوفيهم الله ما يستحقونه من الثواب العظيم ، ويضاعف لهم الأجر الكريم { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانيةً يرجون تجارة لن تبور ، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور } (فاطر : 29-30 ) ولقد صان الله كتابه عن التحريف والتبديل : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } (الحجر: 9) .
ومضى القرآن في الحياة يعلن الرسالة : رسالة جميع الأنبياء كما جاءت من عند الله ، ويقيم الحجة على الناس جميعاً ، ويدعوهم إلى كلمة سواء .
يدعو الناس في كل زمان ، ويتلى عليهم في كل مكان ، ويهديهم في كل شأن للتي هي أقوم . وبالقرآن وبيانه نستطيع أن نزن الأمور كلها بالميزان الصحيح ، ميزان الله الذي أنزله وحفظه وأبقاه : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } (الحديد : 25 ) . لقد نزل هذا الكتاب المبين في شهر رمضان الكريم ، في بلد الله الأمين على سيد ولد آدم أجمعين ، فاجتمع الشرف من جميع جوانبه ، شرف الزمان وشرف المكان وشرف الإنسان :
نور الكتاب أضاء فيمن قبلنا <><> فمحى الشكوك وبدد الأوهاما
صاغ الجنود على هدي من شرعه <><> قمماً تضئ وترتفع الأعلاما
فتحوا البلاد ليملؤها عزة <><> كسوا الوجود محبة وسلاما
من فوق مئذنة الحضارة أذنوا <><> للحق لحناً أيقظ النواما
الله أكبر ، رددوها للورى <><> فصحا الجميع وحققوا الأحلاما
إن القرآن العظيم رسالة ربانية المنهج ، متكاملة المعالم والأغراض ، واضحة المعاني والأهداف ، سهلة الفهم والتطبيق ، ومع ذلك فالناس في الغالب نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا . إن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أن خير الناس وأفضلهم الذي يتعلم القرآن الكريم ويعلمه ، وذلك فيما ثبت عن عثمان رضي الله عنه تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" رواه البخاري .
كما بين صلوات الله وسلامه عليه أنه من جوّد القرآن وأحسن قراءته ، وصار متقناً له ماهراً به عاملاً بأحكامه فإنه في مرتبة الملائكة المقربين ، وذلك فيما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ومثل الذي يقرأه وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران" رواه البخاري .
ولقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بما أعده الله سبحانه وتعالى لقارئ القرآن من أجر كبير وثواب عظيم ، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترمذي ، فكيف نغفل عن هذا الأجر العظيم والثواب الجزيل ؟!
وأعظم من هذا كله أن القرآن يشفع لصاحبه عند الله يوم العرض الأكبر ، فهل بعد هذا الفضل من فضل ؟!
فعن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" رواه مسلم .(/1)
كما يوضح لنا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، أن قراءة القرآن يطيب بها المظهر والمخبر ، فيكون المؤمن القارئ للقرآن طيب الباطن والظاهر ، إن خبرت باطنه وجدته صافياً نقياً ، وإن شاهدت سلوكه وجدته حسناً طيباً ، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر" متفق عليه .
ويكفينا فخراً أن نتوج والدينا تاجين من حلي الجنة بقراءة القرآن وتدبره وحفظه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ القرآن وعمل بما فيه ألبس والداه تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا" رواه أبوداود .
فيا أيها القارئ به متمسكاً <><> مجلاً له في كل حال مبجلاً
هنيئاً مريئاً والداك عليهما <><> ملابس أنوار من التاج والحلا
فما ظنكم بالنجل عند جزائه <><> أولئك أهل الله والصفوة العلا
وعلاوة على ذلك ، فإن الإنسان بقدر ما يحفظ من آي القرآن وسوره بقدر ما يرتقي في درج الجنان ، وذلك فيما يرويه عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها " رواه أبو داود .
ثم إن صاحب القرآن قلبه عامر به يتدبر آيات الله ، ويتفكر في دلائل قدرته وعظمته ، وبذلك تصفو نفسه ، وتجمل أخلاقه ، وترق أحاسيسه ، والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأن حافظ القرآن هم أصفياء الله وخاصته ، وأولياؤه وأنصاره ، وذلك فيما رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لله أهلين من الناس قالوا يا رسول الله من هم ؟ قال هم أهل القرآن أهل الله وخاصته" رواه ابن ماجه .
وفقني الله وإياك إلى تلاوة كتابه حق تلاوته والعمل بأحكامه وأوامره، واجتناب نواهيه وزواجره.
الشيخ إبراهيم الفارس(/2)
هل تساوي حياتك ثمن بقائها
مفكرة الإسلام : 'وقف عماد يتأمل المناظر الطبيعية الخلابة التي تظهر له من على ظهر السفينة الضخمة التي يستقلها مدعوًّا لرحلة ترفيهية مع صديقه المقرب كريم، وبينما هو مستند على حاجز السفينة وقد بهرته روعة تلك المشاهد الخلابة التي تنطق بعظمة الخالق المبدع سبحانه وتعالى، أغراه جمال المنظر أن يميل بجسده أكثر إلى الأمام ليتمكن من رؤية السفينة وهي تمخر عباب البحر.
وفجأة جاءت موجة عنيفة اهتزت معها السفينة اهتزازًا شديدًا فاختل توازن عماد … وحدثت المصيبة… سقط عماد في قلب المحيط، وتعاظمت المصيبة فعماد لا يحسن السباحة، صرخ عماد طالبًا النجدة حتى بُحَّ صوتُه، وظل يصارع الموج بدون جدوى، فرآه رجل كبير في الخمسين من عمره كان مسافرًا معه على ظهر تلك السفينة، وعلى الفور أشعل الرجل جهاز الإنذار ثم رمى بنفسه في الماء لإنقاذ عماد.
وبسرعة دبت الحركة في جميع أركان السفينة، هرول المسئولون وتجمع المسافرون على ظهر السفينة يرقبون المشهد ويبادرون بالمعونة والمساعدة، ألقوا بقوارب نجاة إلى المياه، وتعاونت فرقة الإنقاذ مع الرجل الشهم على الصعود بعماد إلى ظهر السفينة، وتمت عملية الإنقاذ بعون الله تعالى، ونجا عماد من موت محقق، وتلقفه صديقه كريم معتنقًا إياه، ثم انطلق يبحث حوله عن ذلك الرجل الشجاع الذي جعله الله تعالى سببًا في إنقاذ حياته، فوجده واقفًا في ركن من أركان السفينة يجفف نفسه، فأسرع إليه عماد واعتنقه وقال: لا أدري كيف يمكنني أن أشكرك على جميلك معي، لقد أنقذت حياتي. فابتسم الرجل إليه ابتسامة هادئة ونظر إلى الأفق متأملاً، ثم التفت إلى عماد وخاطبه قائلاً: 'يا بني، حمدًا لله على سلامتك، ولكن أرجو أن تساوي حياتك ثمن بقائها'.
كانت هذه الكلمات بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل الإرادة والتحدي في نفس عماد، استقرت الكلمة في عقله ووجدانه بعمق، وأصبح همه في الحياة أن يجعل لها قيمة عالية حتى تساوي ثمن إنقاذها، ومضى عماد يحقق الآمال تلو الآمال والنجاح يعقبه النجاح، وكلما مرت به الصعوبات وقابلته التحديات تذكر كلمات الرجل: 'أرجو أن تساوي حياتك ثمن بقائها' فتشحذه الكلمة بالإرادة والعزيمة فيتغلب عليها بإذن الله تعالى وعونه، حتى قارب عماد على الستين من عمره وقد حقق لنفسه وأهله ودينه وأمته إنجازات عظيمة'.
زهرة ماذا لو كنت مكان ذلك الشاب عماد وسألناك ذات السؤال، هل حقًّا حياتك تساوي ثمن بقائها؟
إن الله تعالى كرم الإنسان عمومًا، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء : 70]
فما أعظم قيمة حياتك عند خالقها: فهو الذي سوَّاك ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وطرد من أجلك إبليس من الجنة، وسخر لك الأرض بما عليها، وكل هذا وأنت ما زلت في صلب أبيك آدم، فإذا كانت حياتك بهذه القيمة العظيمة فاعلمي أن بإمكانك أن تحافظي على هذه القيمة، وأن تستطيعين السعي لرفع سعرها باستمرار،
زهرة ..ترى ما الذي يرفع قيمة حياتك؟ وما الذي يرخص من قيمتها؟
إذا نظرت إلى خيرية هذه الأمة المباركة، تجديها ارتبطت:
1- الإيمان بالله تعالى والفاعلية العالية ...
والتي من أبرز صورها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلما حقق الإنسان من الإيمان والفاعلية ارتفعت قيمة حياته لتنال السعادة والنجاح ورضا الله في الدنيا وسكنى الجنان في الآخرة، والعكس صحيح أيضًا ... فكلما قل نصيب الإنسان من الإيمان والفاعلية ضاعت قيمة حياته فعاش تعيسًا فاشلاً في الدنيا وباء بالخسران في الآخرة.
نحن أمة الفاعلية أوجب الله تعالى على أفراد هذه الأمة أن يكونوا على قمة هرم الإنجاز والفاعلية حتى تستطيع الأمة أن تقوم بعبء هذه الأمانة الثقيلة.
ولعل ذلك هو سر حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يزرع في صحابته حب الإنجاز والعمل، وكراهية العجز والبطالة والكسل، فكان صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن يقولوا في كل صباح ومساء: 'اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل' رواه البخاري.
ومنهج الإسلام يحوي في ثناياه كل عوامل الإنجاز والفاعلية في تفرد ليس له نظير بين المناهج الأرضية، يقول بريغولت في أحد كتبه الشهيرة، وهو كتاب [بناء الإنسانية Making of Humanity ]: 'إن ما يدين به علمنا للعرب ليس فيما قدموه إلينا من كشوف مدهشة لنظريات مبتكرة، بل ندين لهم بوجوده نفسه، فالعالم القديم لم يكن للعلم فيه وجود، وقد نظم اليونان المذاهب، وعمموا الأحكام ووضعوا النظريات، ولكن أساليب البحث في دأب وأناة، وجمع المعلومات الإيجابية وتركيزها والمناهج التفصيلية للعلم، والملاحظة الدقيقة المستمرة، والبحث التجريبي، كل ذلك كان غريبًا تمامًا على المزاج اليوناني'.(/1)
وها هو الرازي يشتهر بعلوم الطب والكيمياء ويجمع بينهما، وتحقق من أثر العوامل النفسية في العلاج؛ حيث أكد قائلاً: 'إن مزاج الجسم تابع لأخلاق النفس'.
ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدودٌ خالدونا
وسطرنا صحائف بيضاء فما نسى الزمان ولا نسينا
مصابيح على درب الفاعلية:
الرسالة البخارية:
يقول الإمام البخاري رحمه الله: كنت عند إسحاق بن راهويه فقال بعض أصحابنا: 'لو جمعتم كتابًا مختصرًا لسنن النبي صلى الله عليه وسلم، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع ذلك الكتاب'.
خدمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم رسالة نذر البخاري نفسه لها منذ العاشرة من عمره، ومن ثم فقد رزقه الله تعالى برؤيته في هذا المجلس المبارك، رؤية انطلق يحققها على بساط الحياة يجوب الأرض منطلقًا من مسقط رأسه بخارى، يجمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رحل إلى بلخ ثم مرو ثم نيسابور ثم قدم العراق وتنقل بين مدنها، ثم انطلق إلى مكة فالمدينة ثم أكمل رحلته فعرج على مصر ثم الشام.
يقول رحمه الله: 'صنفت الصحيح في ست عشرة سنة'، ويقول: 'أخرجت هذا الكتاب من زهاء ستمائة ألف حديث'.
وكان رحمه الله آية في قوة الحفظ والذكاء يقول عن نفسه: 'أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح'.
نفرة بلا قعود:
أبو الخيرات محمد الفاتح: 'عن قريب سيكون لي في القسطنطينية قبر أو يكون لي فيها عرش'
بهذه الكلمات اختتم السلطان العثماني أبو الخيرات محمد بن مراد الفاتح مفاوضاته التي انتهت إلى طريق مسدود مع الإمبراطور قسطنطين لتسليم القسطنطينية.
شابٌّ في الثانية والعشرين من عمره يمتلك هذا الإصرار وذاك الثبات، تُرى من أين نشأ ذلك؟
هيا معنا إلى الوراء قليلاً: الشاب ذاته في السابعة من عمره يوقفه شيخه 'آق شمس الدين' على الساحل المطل على أسوار القسطنطينية ثم يشير بيده وهو يقترب بفيه من أذنه فيلقي على سمعه بهذه الكلمات النبوية الجليلة: 'لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش' ويتكرر ذلك المشهد حتى يترسخ في عقل وقلب الأمير الشاب هذا الأمر، حلم القسطنطينية فيبدأ في إعداد العدة العسكرية عبر جمع الأسلحة اللازمة، وبناء المدافع الكبيرة، ثم الاهتمام بالأسطول حتى بلغ عدد سفنه 400 سفينة.
وعلى صعيد آخر عقد المعاهدات مع جيران القسطنطينية من أعدائه ليأمنهم عند الحرب ـ وإن كانوا قد قاموا بنقض العهد حين بدأ القتال ـ ثم كان الهجوم على القسطنطينية الذي سخر له كل الطاقات والإمكانات، فيفتح الله القسطنطينية على يديه وتتحقق النبوءة النبوية فيه.
ويستمر في السعي لتحقيق أهدافه، فلما بلغ من العمر خمسًا وعشرين سنة كان قد فتح بلجراد، وفي سن السابعة والعشرين أتم فتح أثينا وبلاد اليونان، وفي سن الثامنة والعشرين أكمل السيطرة على شبه جزيرة المورة، ولما أتم الحادية والثلاثين ضم رومانيا إلى الإمبراطورية العثمانية، ثم أتبعها بالبوسنة في السنة التالية.
كوني فنانة لا فرشاة وألوانًا
بعد أن سمعنا سويًا هذه السيرة العطرة عن هؤلاء العظماء مصابيح الفاعلية والإيجابية لما لا تكوني على دربهم وتسيري في طريقهم. فتصبحين فعالة وتصبح لحياتك قيمة وتصنعين نفسك بنفسك.
كوني أنت الفنانة وارسمي شكلك وشخصيتك ولا تكوني مجرد فرشاة وألوانًا تستخدم في رسم شخصيتك.
ألم تسمعي قول النبي صلى الله عليه وسلم 'المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف'
فلا تسمحين لنفسك بالضعف وكوني قوية نافعة لنفسك وأهلك ودينك.
دعوة إلى رحلة .. فهل تقبلين.
في هذه الرحلة تصنعك طائرة التغير والتي تمر بخط طول البناء وخط عرض الفاعلية للوصول إلى زهرة المؤمنة الفعالة صاحبة البصمات الواضحة في أسرتها في عائلتها في مدرستها في أولادها في الأمة بأثرها.
لكن ... للاشتراك شروط:
1- قناعة في التغير: فلابد يا أخيتي أن تشعرين بحاجتك إلى التغير ومدى السعادة والرضا التي تعود عليك في الدنيا والآخرة من الفاعلية والإيجابية.
2- همة عالية: لابد أن تجمعين همتك وتحفزين نفسك فإن الهمة تصعد بك إلى القمة، والكسل لا يجلب إلى العجز والفشل.
3- كوني واثقة بنفسك فإن لديك قدرات هائلة وإمكانيات رائعة تجعلك فعالة ونشطة.
تابعينا في هذه السلسلة من خلال المقالات التالية والتي من خلالها نساعدك لتكوني فعالة وإيجابية هي باسم 'العادات السبع للزهرات الأكثر فعالية' فلا تتخلفي.(/2)
هل تطورت العقيدة عبر الزمان ؟ (5/10)
د. علي محمد الصلابي 9/6/1426
15/07/2005
يرى كثير من الباحثين الغربيين أن الإنسان لم يعرف العقيدة كما يعرفها اليوم مرة واحدة، ولكنها ترقّت وتطوّرت في فترات وقرون متعاقبة.
ولا عجب أن يكون هذا أفق التفكير عند من لم يمنحهم الله كتابه الذي بيّن فيه تاريخ العقيدة بوضوح لا لبس في.
إلا أن الغريب أن يسلك هذا المذهب رجال يعدون أنفسهم، ويعدّهم غيرهم باحثين مسلمين.
ومن أمثال أؤلئك عباس محمود العقاد الذي يرى في كتابه (الله) – وهو كتاب يبحث في نشأت العقيدة الإلهيّة – أن الإنسان ترقّى في العقائد، ويرى أن ترقِّي الإنسان في العقائد موافق تماماً لترقّيه في العلوم.
ويقول: "كانت عقائد الإنسان الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته؛ فليست أوائل العلم والضاعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى".
بل يرى أن تطوّر العقيدة لدى الإنسان كان أشقّ من تطوّر العلوم والصناعات ويقول:
"وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعات؛ لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلباً وأطول طريقاً من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى، ويرى أن الحقيقة الإلهيّة لم تتجلّ للناس مرة واحدة.
يقول: " فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان تديّن، ولا على أنها تبحث عن محال، كلّ ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد.
ثم أخذ يستعرض آراء الباحثين في تأريخ العقيدة, فمنهم من يرى السبب في نشأة العقيدة هو ضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعدائه من قوى الطبيعة والأحياء. وبعضهم يرى أن العقيدة الدينيّة عبادة (الطوطم) ، كأن تتخذ بعض القبائل حيواناً (طوطمياً)، تزعمه أباً لها، وقد يكون شجراً أو حجراً يقدّسونه. إلى آخر تلك الفروض التي قامت في أذهان الباحثين الغربيين.
ومع الأسف فقد سرت هذه النظريّة إلى بعض الكتاب, مثل مصطفى محمود في كتاب (الله)، واعتنقها عدد من الدارسين، والذي أوقع هؤلاء في هذا الخطأ عدة أمور:
الأول: أنهم ظنوا أن الإنسان اهتدى إلى العقيدة بدون معلم يعلمه ومرشد يوضح له؛ فما دام الأمر كذلك فلا بد أن يترقّى في معرفته بالله كما ترقّى في العلوم والصناعات.
ثانياً: أنهم قدّروا أن الإنسان الأول خُلق خلقاً ناقصاً غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى كاملة. بل إن تصوّراتهم عن الإنسان الأول تجعله أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان.
ثالثاً: أنهم عندما بحثوا في الأديان ليتبيّنوا تاريخها لم يجدوا أمامهم إلا تلك الأديان المحرّفة أو الضالّة فجعلوها ميدان بحثهم، فأخضعوها للدراسة والتمحيص، وأنّى لهم أن يعرفوا الحقيقة من تلك الأديان التي تمثّل انحراف الإنسان في فهم العقيدة (1).
القرآن وحده يوضّح تاريخ العقيدة
ليس هناك كتاب في الأرض يوضّح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله -سبحانه وتعالى- ففيه علم غزير في هذا الموضوع، وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً لأسباب:
الأول: أن ما نعرفه عن التاريخ الإنساني قبل خمسة آلاف عام قليل، أما ما نعرفه قبل عشرة آلاف عام فهو أقل من القليل، وما قبل ذلك يعتبر مجاهيل لا يدري علم التاريخ من شأنها شيئاً. لذا فإن كثيراً من الحقيقة ضاع بضياع التاريخ الإنساني.
الثاني: أن الحقائق التي ورثها الإنسان اختلطت بباطل كثير، بل قد ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف. ومما يدل على ذلك أن كتابة تاريخ حقيقي لشخصيّة أو جماعة ما في العصر الحديث تُعدّ من أشق الأمور، فكيف بتاريخ يمتدّ إلى فجر البشريّة؟
الثالث: أن قسماً من التاريخ المتلبس بالعقيدة لم يقع في الأرض، بل في السماء(2)).
لذا كان الذي يستطيع أن يمدّنا بتاريخ حقيقي لا لبس فيه هو الله – سبحانه وتعالى – (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)(3)
تاريخ العقيدة كما يرويه القرآن الكريم(/1)
أعلمنا الله سبحانه أنه خلق آدم خلقاً مستقلاً سوياً متكاملاً، ثم نفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، وأباح له أن يأكل هو وزوجه منها كيف يشاء إلا شجرة واحدة، فأغراه عدوّه إبليس بالأكل منها؛ فأطاع عدوه، وعصى ربه, فأهبطه الله من الجنة إلى الأرض، وقبل الهبوط وعده الله سبحانه بأن يُنزل عليه وعلى ذريته هداه؛ كي يُعرّف الإنسان بربه ومنهجه وتشريعه, ووعد المستجيبين له بالهداية في الدنيا, والسعادة في الأخرى، وتوعّد الله المستكبرين بالمعيشة الضنك في الدنيا وبالشقاء في الآخرة :(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (4)).
وفي سورة طه يقول: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (5)
الجيل الأول كان على التوحيد
هبط آدم إلى الأرض، وأنشأ الله من ذريته أمة كانت على التوحيد الخالص كما قال الله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) أي على التوحيد والدين الحق، فاختلفوا (...فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ...) (6)
وفي حديث أبي إمامة أن رجلاً سأل الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال : (نعم ، مكلم) قال: فكم بينه وبين نوح؟ قال: (عشرة قرون) وذكر ابن عباس رضي الله عنه: إنه (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) (7) ومقدار القرن مائة سنة وعلى ذلك يكون آدم ونوح ألف سنة، وقد تكون المدة أكثر من ذلك إذ قيّد ابن عباس هذه القرون العشرة بأنها كانت على الإسلام، فلا ينفي أن يكون بينها قرون أخرى على غير الإسلام وقد يكون المراد بالقرن الجيل من الناس قال تعالى :(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ... )(8) وقوله: ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) (9))
|1|2|3|4|5|
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
1- العقيدة في الله ص ( 245،244)
2- العقيدة في الله ص (245)
3- سورة آل عمران الآية (5)
4- سورة البقرة الآية (39،38)
5- سورة طه آية ( 126،123)
6- سورة البقرة (213)
7- تفسير الطبري ( ج2/336،335)
8- سورة الإسراء آية (17)
9- سورة المؤمنون آية (31)(/2)
هل تعرف كم وزنك ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
كم وزنك ؟؟50
كجم
90
كجم
لا .. لا ... لا
أنا لا أقصد هذا الوزن ...
إنني أقصد الوزن الحقيقي ...
الوزن الذي ذكره الله تعالى في قوله
:" والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون *
ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون " ..
أعرفت ما أقصد ؟؟؟وزنك الحقيقي ... وزنك في ميزان العدل ... وزنك يوم تنصب الموازين ...
وزنك من الحسنات التي تثقل الميزان ... والسيئات التي تخفف الميزان ...
كم نصيبك من حسن الخلق ؟؟؟...حسن الخلق الذي قال عنه – صلى الله عليه وسلم –
:" ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق , وإن الله يبغض الفاحش البذيء " – رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح –
يا له من عمل يسير على النفس لمن يسره الله له ...
كم نصيبك من الدعوة إلى الخير والدلالة عليه ...ألم نردد قوله – صلى الله عليه وسلم - :" من دل على خير فله مثل أجر فاعله " – رواه مسلم –
ألم يداعب أذاننا قوله – عليه الصلاة والسلام –
:" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً " – رواه مسلم –
كم نصيبك من قراءة القرآن ... القرآن الذي يأتي شفيعاً لأصحابه ...
ألم نسمع قوله – صلى الله عليه وسلم - :"
من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها , لا أقول { ألم } حرف , ولكن : ألف حرف , ولام حرف , وميم حرف " – رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح –
عشر حسنات لكل حرف ... والله يضاعف لمن يشاء ...
كم نصيبك من ذكر الله ؟؟؟ ...
كم نصيبك من سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ... ؟؟؟
كم نصيبك من سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ؟؟؟
كم نصيبك من الأجور المضاعفة ..؟؟؟
كم نصيبك من الاستغفار ؟؟؟
والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات ؟؟؟
أليس لنا بكل مؤمن حسنة ؟؟؟؟
ألم نحفظ جمعياً قوله – صلى الله عليه وسلم –
:" كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن :
سبحان وبحمده سبحان الله العظيم " – متفق عليه –
ألم يردنا عنه - صلى الله عليه وسلم – قوله :" يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة : فكل تسبيحة صدقة , وكل تحميدة صدقة , وكل تكبيرة صدقة , وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزيء ذلك ركعتان يركعهما من الضحى " – رواه مسلم –
والأمر واسع واسع ...
ويكفي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - :" سبق المفردون " .. قالوا :وما المفردون يا رسول الله ؟ .. قال :" الذاكرون الله كثيراً والذاكرات " – رواه مسلم –
ولكن
فلنحذر ... آكلات الحسنات
من الظلم والبغي والحسد والغيبة والنميمة والخصام والشتام وووووو ...
ألم يقل – صلى الله عليه وسلم - :"
إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار " – رواه مسلم –
فلا تبعثر الحسنات
واستغفر من السيئات وترك الصالحات ...
فماذا ننتظر؟؟؟؟؟
* قال - صلى الله عليه وسلم - : "بادروا بالأعمال سبعاً، هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر "[رواه الترمذي].
هيا لنثقل الميزان ... بالصالحات من الأعمال
فالحسنات يذهبن السيئات
ونسأل الله القبول والإخلاص في القول والعمل(/1)
هل تعلم!!
* هل تعلم أخي الحبيب أن هناك أكثر من 9555 نوعًا مختلفًا من الطيور على مستوى العالم, وأن كل نوع به الملايين من الأفراد, ولكل نوع عادات وتقاليد وأسلوب مختلف في الحياة والصيد والتزاوج, بل وحتى أسلوب مختلف في الطيران.. 'سبحان الله'...
* هل تعلم أخي الحبيب.. أن الثعلب حين يشعر بالخطر, ويظن أن لا سبيل للنجاة, فإنه ينام على الأرض, وينفخ بطنه, ويرفع رجليه, ويفتح عينيه, فيبدو وكأنه ميت, وإذا اقترب منه عدوه يخرج رائحة كريهة ليؤكد أنه مات منذ زمن وتعفن، فإذا زال الخطر فرّ هاربًا.. 'سبحان الله'..
* هل تعلم أن الطائر المسمى بنقار الخشب - والذي يستخدم منقاره في ثقب أخشاب الأشجار بسرعة كبيرة - يوجد بين منقاره وجمجمته نسيج ثخين يعمل على امتصاص الصدمات الناتجة عن الاهتزازات الكبيرة التي تنتج عن نقر الخشب.. 'سبحان الله'..
* هل تعلم أخي الحبيب أن الجمل ذلك الحيوان الذي يعيش في الصحراء قد زوّده الله بصفين من الرموش فوق عينيه وهي طويلة لتحميه من الزفير, فهو الكائن الحي الوحيد الذي يستعيد الماء الموجود في الهواء الذي يتنفّسه لكي يعمل على ترطيب جسده في حرارة الجو.. 'سبحان الله'..
* هل تعلم أخي أن الدولفين هو الكائن الحي الوحيد الذي يتنفس إراديًا؛ لذلك لا يستطيع أن ينام تمامًا؛ فمخه ينقسم إلى قسمين يتبادل كل منهما النوم كل عشر دقائق؛ ولذلك يستخدم في بعض القواعد البحرية للحراسة.. 'سبحان الله'..
* هل تعلم أنه من أجل أن تقوم النحلة بإطعامنا كيلوجرامًا واحدًا من العسل أنها تقوم بما يقرب من 600 ألف إلى 800 ألف طلعة, وتقف على مليون زهرة, وتقطع مسافة تزيد عن 10 أضعاف مساحة الكرة الأرضية رغم الرياح والأنواء.
* هل تعلم أخي الحبيب أن جسدك به العديد من المعجزات والآيات التي تحتاج إلى ساعات طويلة لوصفها وسردها.
أخي الحبيب بعد كل هذه الحقائق السابقة, هل علمت من هو إلهك الذي تعبده وتصلي له كل يوم؟! هل أنت على يقين من أنه لا إله إلا الله؟!
* اكتشف العلماء أنه لابد لبعوضة Culex pipiens أن ترفرف بأجنحتها حوالي 500 مرة في الثانية الواحدة كي تطير بسرعة متواضعة مقدارها ثلاثة أميال في الساعة.
* إن البعوضة لها قابلية الحس بالكائنات الحية بواسطة حرارتهم, فإن البعوضة تستطيع أن تلتقط حرارة الأجسام بشكل ألوان, ولكن هذا الحس للحرارة لا يعتمد على أشعة الشمس أي على الضوء، فإن مقدار الحس البصري لديها يعادل 1/1000 درجة بالنسبة للحس الحراري. إن البعوضة تملك حوالي 100 عين, وهذه العيون موجودة في الرأس على شكل يشبه قرص العسل تقوم عين البعوض باستلام هذه الإشارات وتنقلها إلى الدماغ.
أخي الكريم.. آيات الله عز وجل تملأ الآفاق, ولا تزال هناك الكثير من الآيات التي سيرينا إياها الله عز وجل؛ يقول تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53], ولكن ما الفائدة المرجوة من تدبّر آيات الله في مخلوقاته, وحرص القرآن على تكرار ذلك المعنى كثيرًا؟!
أهم فائدة أخي الحبيب هو أن يمتلئ قلبك باليقين من أن الله عز وجل هو الوحيد المستحق للعبادة في هذا الكون.
فحينما يمتلئ قلبك يقينًا بوحدانية الله عز وجل, وأنه الوحيد المستحق للعبادة تصبح حياتك كلها عبارة عن وسائل إرضاء لهذا الإله العظيم, الذي لا نقدّره حق قدره عز وجل, وعندما لا تخاف على رزقك ولا على مستقبلك ولا على أموالك فهذه كلها بيد الله عز وجل وليس لمخلوق حق التحكم فيها.
وعندها أيضًا تكون المعاصي أشد قبحًا في عينيك, فبقدر تعظيم الله في قلبك يكون بغضك للمعاصي والذنوب، فأنت حينها لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن إلى عظمة من عصيت.
وعندها أيضًا يمتلئ قلبك غيرة على دين الله عز وجل وعلى حرماته التي تنتهك في كل مكان وتحاول أن تنقذ الناس مما هم فيه من الضياع؛ لأنهم لا يعرفون قدر هذا الإله العظيم الذي يبارزونه بالمعاصي ليلاً ونهارًا, وهو قادر عز وجل على أن يخسف بهم الأرض.. ولكنه غفورٌ رحيم.
وعندها أيضًا ستحاول جاهدًا أن تجعل حياتك كلها تستثمر في طاعة الله عز وجل, فهذا هو أفضل ما تستثمر فيه الأعمال وتستغل فيه الأوقات، هل علمت أخي الكريم الآن لماذا كان اليقين من أهم الشروط التي يجب أن تحققها حتى تتحقق فيك الشهادتان كاملتين وتنال ثوابها؟!
نرجو ذلك..(/1)
هل تقتضي الشورى المحاسبة؟
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ أصول الفقه /السياسة الشرعية
التاريخ ... 20/2/1425هـ
السؤال
هل يوجد في الشورى محاسبة الرئيس، أو أعضاء مجلس الشورى في حالة ما ارتكبوا خطأ ما؟ ومن يقوم بمحاسبة المذنب؟ بمعنى وجود مجلس للحكم والقضاء كهيئات منفصلة عن بعضها البعض في الحكم؟ هل يجوز لمجلس الشورى أن يقبل ببعض القوانين الوضعية، حتى لو كانت متشابهة مع القوانين الإسلامية؟.
الجواب
قبل الجواب، أحب أن أحدد بعض معاني الشورى في الإسلام باختصار غير مخل لأهمية الموضوع، فأقول: لقد عنى الإسلام بالشورى عناية عظيمة، دعوةً وتعليماً، وتطبيقاً، فسُميت واحدة من سور القرآن الكريم باسم (الشورى)، وسواء كانت تسمية السور توقيفية أو اجتهاداً، تبقى تسمية هذه السورة دالة على أهمية الشورى بين المسلمين وسوطاً مسلطاً على الاستبداد بالرأي في كل مجال من مجالات الحياة، وقد ذُكِرت قضية الشورى في القرآن الكريم مجملة لمبدأين أساسيين الأول لفظ الشورى المرتبط بأصل وجود السلطة وشرعيتها، وتداولها، والثاني: لفظ "وشاورهم" المرتبطة بأداء السلطة وإدارتها وتسييرها جاء المبدأ الأول في سورة الشورى مخاطب به عامة المسلمين، قال –تعالى-: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون" [الشورى:38].
وجاء المبدأ الثاني في سورة آل عمران: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين" [آل عمران:159]، ويلاحظ في آية الشورى حكمة التشريع في الربط بين الصلاة والنفقة، وبين الشورى، حيث جاءت الشورى بينها، وذلك أن أداء الصلاة استجابة لله- سبحانه- توجب اتحاد الأبدان والأفعال بين المصلين، فالشورى كذلك استجابة لله، توجب الاتحاد في الأقوال بين المسلمين وعبَّر عن الصلاة بالجملة الفعلية "وأقاموا الصلاة" الدالة على الحدوث والتجدد؛ لتكرارها في اليوم والليلة خمس مرات أو أكثر، وعبر عن الشورى بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام؛ نظراً لأن الشورى لا تدخل إلا في الأمور الاجتهادية، أما الأمور النصية القطعية فلا مجال للشورى فيها، وإذا كان إنفاق المال من الواجدين – الأغنياء- على المعدومين الفقراء أمراً مستحباً حيناً ومتعيناً حيناً آخر فإن الشورى بين المسلمين متعينة في كل الأحوال والأزمان، وتوسط الشورى بين الصلاة والنفقة ويشير إلى أن إقامة الصلاة، يستوجب من فاعلها المشاورة لغيره، وعدم الاستبداد بالرأي، كما أخبر الله – سبحانه وتعالى-عن الصلاة بقوله: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" [العنكبوت:45]، وإذا كان لدى المسلم رأي يفيد به إخوانه أو يدفع عنهم به سوءً ،يتعين عليه نشره واطلاعهم عليه، ومناقشتهم في مدى نتائجه وجدواه وهذا لا يفي عن النفقة المادية على حد قول الشاعر:
لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليشهد النطق إن لم تسعد الحال(/1)
وإن النطق بالرأي السديد أعظم من بذل المال، حيث هو نفقة وصدقة جارية؛ استجابة لله، "وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خيرٍ يوف إليكم وأنتم لا تظلمون" [البقرة:272]، ولفظ: أمر، في آية الشورى اسم جنس مثل كلمة شيء فهي عامة وإضافته إلى الضمير تفيد تأكيد العموم، ومعنى الآية على هذا أن جميع أمور المسلمين التشاور فيها مستقر عندهم، ولفظ (بينهم) صفة للشورى، والتشاور لا يكون عادة إلا بين طرفين فردين أو جماعتين، وفي إضافة الظرف إلى الضمير إشارة إلى أن الشورى سر بين المتشاورين لا يجوز إفشاؤها، أما آية آل عمران: "....وشاورهم في الأمر" فالأمر فيها للوجوب عند المالكية والحنفية، وللندب عند الشافعية والحنابلة، والجميع متفقون على أن الخطاب للرسول – صلى الله عليه وسلم- وليس من خصائصه، فإذا كان واجباً على الرسول – صلى الله عليه وسلم- مشاورة أصحابه – رضي الله عنهم- مع أنه ليس بحاجة لهم؛ لأنه يتلقى الوحي من السماء ، فالمشاورة من غيره وعلى غيره أوجب؛ لحاجة الجميع إليها، وإذا كانت مندوبة في حق الرسول –صلى الله عليه وسلم- فهي في حق غيره أشد ندباً، بل قد يرقى إلى الوجوب بأدلة أخرى؛ كقوله –تعالى-: "مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" [الحشر:7]، وقوله – صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" رواه الترمذي (2676) وأبو داود (4607)، وابن ماجة (42) من حديث العرباض بن سارية – رضي الله عنه - وعلى هذا فالشورى عند المسلمين قضية أساسية تتعلق في كل شأن من شؤون حياتهم، تبدأ من الأسرة في حق الطفل الرضيع إذا اختلف الأبوان في إرضاعه: "فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"،ومروراً بمصالح المجتمع، وضروراته، وانتهاءً بالتشاور باختيار رئيس الدولة ودستور البلاد، فلقد شاور رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أناساً في أمر عائلي: "قصة عائشة – رضي الله عنهما- في حادثة الإفك"،وشاور في أمر طائفي، يخص الأنصار- عندما شاورهم في التنازل عن نصف ثمرة تمر المدينة؛ ليدفع عنهم العدو فأبوا، فنزل على رأيهم، وشاور في أمور عامة للأمة في شأن السلم والحرب.(/2)
إن مبدأ الشورى راسخ ومتجذر في فطرة الإنسان منذ قرر الله خلق آدم أبي البشر- عليه السلام - وقد حكى الله لنا هذا التشاور مع ملائكته – سبحانه- في سورة البقرة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ"[البقرة:30-33]، فالله – سبحانه وتعالى- أعلم بخلقه، وهو غني عنهم، ولكنه عرض على الملائكة مراده في خلق آدم – عليه السلام- ليكون التشاور سنة في البشر، فالشورى مقارنة للإنسان في وجوده، ومقارنة الشيء بالشيء توجب الألفة بينهما، فالإنسان يألف الشورى، ويأنس بها بطبعه، ويحب من يوافقه على رأيه، ففرعون استشار قومه في شأن نبي الله موسى – عليه السلام- "قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ"[الشعراء:34-37]،واستشارت بلقيس ملكة سبأ قومها: "قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ"[النمل:32]، وفي حياة الناس اليوم انشغلوا أو شغلوا عن معرفة الشورى والعمل بها؛ حباً للاستبداد وكراهية سماع ما يخالف الهوى، وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة، وإنما يهرع المستبد إلى الشورى عندما تضيق عليه الأمور، وقد طبقت الشورى في العهد الراشدي أحسن تطبيق، فكانت عاقبتها حميدة للأمة، فقد تشاور أبو بكر الصديق مع الصحابة –رضي الله عنهم- في قتال المرتدين، وفي بعث جيش أسامة – رضي الله عنه -وجاء بعده عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - فجعل الأمر من بعده شورى بين ستة من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- رضي عنهم، وجعل خمسين من الأنصار – رضي الله عنهم- يراقبونه، وكان كثيراً ما يكتب لعماله يأمرهم بالتشاور مع الناس في أمورهم، وقضية الشورى في الإسلام تعم الرجال والنساء؛ لأن أوامر الشرع ونواهيه هي للجنسين جميعاً إلا ما نهى عنه الشارع في تخصيص أحدهما كاختلاف في الميراث والشهادة، والقوامة للرجل خاصة ونحوها، والشورى ليست من هذه المستثنيات فقد استشار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- زوجته زينب في شأن عائشة – رضي الله عنهما- في قصة الإفك، فأثنت عليها خيراً، انظر ما رواه مسلم (2770) من حديث عائشة – رضي الله عنها- واستشار زوجته أم سلمة –رضي الله عنها- في موقف الصحابة – رضي الله عنهم- من التحلل في صلح الحديبية، فقد جاء في الحديث أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه – رضي الله عنهم- انحروا ثم احلقوا، وكانوا أحرموا بالعمرة، ولم يرضوا عن شروط الصلح مع قريش، فرد عليهم الرسول – صلى الله عليه وسلم- أمره لهم ثلاثاً، فوالله ما قام منهم رجل ، فلما لم يقم منهم أحد دخل على زوجته أم سلمة –رضي الله عنها- مغضباً، فسألته عن حاله، فذكر لها ما لقي من الناس، وعدم امتثالهم له، فقالت: يا نبي الله، أتحب أن يفعلوا ذلك؟ قال: نعم، فقالت: أخرج لا تكلم منهم أحداً بكلمة؛ حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك، فيحلقك فخرج فلم يكلم منهم أحداً حتى فعل ذلك، فلما رأوا الصحابة – رضي الله عنهم- منه ذلك، قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، يقول الراوي: حتى كاد أن يقتل بضعهم بعضاً بالموسى من الغضب انظر ما رواه البخاري (2734) من حديث المسور بن مخرمة – رضي الله عنه - .
وإذا كانت الحال في الشورى من الخطورة والأهمية، فإن محاسبة الرئيس وأعضاء مجلس الشورى سائغة شرعاً، حيث المحاسبة هي المساءلة لكل من قصر، أو ظُن تقصيره في عمله على وجه الاستطاعة أو الاستنكار.(/3)
والمحاسبة من النصيحة التي هي الدين كله كما في الحديث: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة..." رواه مسلم (55) من حديث تميم الداري – رضي الله عنه - كما هي داخلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كقوله – صلى الله عليه وسلم- "لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ..." الحديث رواه أبو داود (4336)، والترمذي (3047)، وابن ماجة (4006) من حديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - وكل ما لحق بالعالم الإسلامي اليوم من تخلف إنما مرجعه إلى استبداد المستبد برأيه وإطراحه للشورى، وعدم النصيحة من الناس والإنكار عليه،.
ومن دقائق فوائد آية آل عمران أن الاستشارة ليست خاصة بالمؤمنين الملتزمين بل هي حتى للعصاة المذنبين، كما يدل عليه سياق الآية وسبب نزولها، وفي استشارة هؤلاء وغيرهم تطييب لنفوس الناس خاصة المذنبين والعصاة منهم، مما يدل على صفاء قلب ولي الأمر نحوهم، وفي استشارتهم استظهار لرأيهم عن سبب معصيتهم، ومخالفتهم له، وفي هذا تحذير للناس أن يقعوا فيما وقع فيه إخوانهم من قبل، وقد أطلق الله حكم الاستشارة في الآية ليعم التشاور كل مناحي الحياة في السلم والحرب، وقد بوب البخاري من صحيحه باباً قال فيه: "كانت الأئمة بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة؛ ليأخذوا بأسهلها" وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما- ذات يوم: "لو اجتمعتما في مشورةٍ ما خالفتكما" رواه أحمد (17533) وتوفي رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، ولم يجعل للشورى صفة أو قاعدة معينة لعلمه باختلاف السياسات وتجدد الأوضاع واختلاف الأحوال بعده، فما يصلح لعصر قد لا يصلح لغيره لا سيما مع توسع رقعة الإسلام واتصال الناس بعضهم ببعض كافرهم ومسلمهم حتى أصبح العالم وكأنه في قرية واحدة.
إن محاسبة المقصر في عمله أو الرقابة عليه، لهي من صحيح الشورى على كل أفراد الشعب أو هيئاته، ومجالسه، وهي على العلماء، وأهل الرأي ألزم وأوجب؛ لحديث: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه - والإنكار بالقلب يعني البراءة من الموافقة الفكرية للمنكر ولو نظرياً اعتقاداً أو مجاملة.
وإذا كانت القوانين الوضعية موافقة للشرع فمجلس الشورى إذا عمل بها إنما يأخذها على أنها من الشرع إبتداءً، وأما إذا أخذها بغير هذا القصد فحرام لا يجوز، قال –تعالى-: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم" [الأحزاب:36] وقال –تعالى-: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً" [النساء:65]. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(/4)
هل توحيد الحاكمية من أقسام التوحيد؟ ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أرجو أن توضح لي معنى توحيد الحاكمية وهل هو جزء من توحيد الألوهية؟
سمعت بأن محمد إبراهيم يقول بأن الشيخ ابن باز رحمه الله كان علَّم توحيد الحاكمية ولكن بعد ذلك رفض من قبل السلفيين السعوديين واعتبروه من البدع، هل هذا صحيح؟
هل هناك كتب أو مقالا بالعربية أو الإنجليزية حول هذا الموضوع؟ أرجو أن ترشدني إلى ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
توحيد الحاكمية هو جزء من توحيد الإلهية الذي هو توحيد القصد والطلب، هذا من جهة كون العبد مقرا له ملتزما به، وهو من توحيد الربوبية الذي هو توحيد المعرفة والإثبات، وهذا من جهة كون الرب يفعله أي أن الله هو الحاكم والشارع لعباده الشعائر والشرائع.
وهذا أمر لا ينكره مسلم كموضوع، لكن خالف فيه من خالف كمصطلح من جهات هي:
زعموا أن هذا النوع من التوحيد لم يقل به السلف؛ إنما الذي لهم تقسيمان؛ إما تقسيم ثنائي: وهما توحيد الإثبات والمعرفة وتوحيد القصد والطلب، وإما تقسيم ثلاثي وهي توحيد الألوهية (أو الإلهية) وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، والرد عليهم سهل واضح وهو أن هذا التقسيم دليله الاستقراء وهو أمر اجتهادي لا نصي حتى يقال إن الزيادة عليه بدعة ثم يقال لهم: ما الحاجة إلى ذكر توحيد الأسماء والصفات وهو من توحيد الربوبية؟
فإن قالوا ضرورة التفصيل للحاجة والرد على المخالف في هذا الباب، يقال لهم: وكذلك يذكر توحيد الحاكمية، فإنه ما ذكر إلا لهذا السبب.
ولهم سبب آخر لرده وهو قولهم: إن هذه الصيغة ؛ وهي الفاعلية لم ترد في باب الأسماء والصفات فليس من أسمائه الحاكم. يقال لهم: لا مشاحة في الاصطلاح ما دام يدل على معنى صحيح، ثم إن باب الإخبار أوسع من باب الإثبات.
ولهم دليل آخر لرد هذا النوع: وهو قولهم بوجود مراتب لهذا التوحيد وليس كل مرتبة تخالفه تنقض التوحيد. يقال لهم: وكذلك مرتبة كل ما يخالف باب توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية لا ينقض أصل التوحيد، فالرياء مثلا هو مخالف لتوحيد الألوهية وهو مع ذلك لا ينقض أصل التوحيد. القصد أن هذا النوع من التوحيد جاءت به الشريعة والقرآن والسنة دالان عليه دلالة صريحة لا ينكر موضوعه إلا كافر أو جاهل، لكن من أنكر تسميته مع إقراره بمعناه وموضوعه فهو مخطئ غير مصيب.
أما موضوعه ومعناه فهو إثبات خاصية الحكم والتشريع لله رب العالمين ونزع ذلك الحق عمن سواه.
هذا ما يحتمله المقام، ولي مجاضرة مطولة في هذا الموضوع أرجو من الله أن ييسر نشرها في هذا المنبر
والله الموفق.(/1)
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
الإحسان دليل على النبل، واعتراف بالفضل، وعرفان للجميل، وقيام بالواجب، واحترام للمنعم، ينبئ عن الصفاء، وينطق بالوفاء، ويترجم عن السخاء؛ بالإحسان يشُترى الحب، ويُخطب الودّ، وتكسب النفوس، ويُهيمن على القلوب، وتستعبد الأفئدة. الإحسان عطاء بلا حدود، وبذل بلا تردد، وإنعام دونما منّ، وإكرام لا يلحقه أذى، والله تعالى أي إحسان إلا إحسانه، وأي إنعام إلا إنعامه، وأي كرم إلا كرمه، وأي جود إلا جوده، وأي فضل إلا فضله، وأي لطف إلا لطفه، وأي عطاء إلا عطاؤه، وأي بِرٍّ إلا بره.
خلق الإنسان في أحسن تقويم وصوره فأحسن صورته، وامتد إليه إحسانه وهو نطفة في ظلمات ثلاث، وعَمَّه بإحسانه طفلاً، وأنبته نباتاً حسناً، ورباه بنعمه وأحسن مثواه؟، وأحسن إليه شاباً يافعاً وعاقلاً راشداً، وشيخاً مسناً ووصى الإنسان بوالديه إحساناً، وأمره الله تعالى بالإحسان مع كل شيء وإلى كل شيء، وفي كل شيء، ورتب عليه عظيم الأجر، وبديع القدر، ووافر الإكرام { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا } ... [إبراهيم:34].
دعاك إلى الإحسان لأنه أحسن إليك: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } ... [القصص:77].
{ هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } ... [الرحمن:60].
الأولى أن يقابل الإحسان بالإحسان رغم أن البون شاسع، والفرق كبير بين إحسان وإحسان، فماذا تساوي قطرة من إحسان منك مع بحور الفضل وأنهار الإحسان وقنوات العطاء منه جل وعلا، بل وإن إحسانك ما هو إلا من إحسانه إليك ولطفه بك أن هداك لذاك فهو المحسن الغفور الودود.
إلهي إذا ما عشتُ في الأرض محسناً فليس بفيض من ذكائي ولا فضلي
فأنت الذي يسرتني وهديتني إلى الخير والإحسان يا واسع البذل
الإحسان من أفضل منازل العبودية، بل هو حقيقتها ولبها وروحها وأساسها، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فهو لب الإيمان، وروح الإسلام، وكمال الشريعة، وهو يدخل في سائر الأقوال والأفعال والأحوال، وأعظم درجات الإحسان هي الإحسان مع الله جل وعلا، ثم إحسان المرء مع نفسه وأهله وسائر المخلوقين، حتى يشمل البهائم والعجماوات، يقول ـ صلى الله عليه وسلم: ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ).
وقد ورد في الحديث الصحيح: ( أن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يُطيف ببئرٍ، قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها ).
وكل أصول وفروع المعاشرة وآدابها، وكل قوانين التعامل ترجع إلى الإحسان، فهو يشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقته بالجماعة، وعلاقته بالبشرية جميعاً، بل وعلاقته بسائر المخلوقات.
والمحسن محبوب من المخلوقين، ومحبوب من الخالق، ولذلك كانت منزلة المحسنين عند الله تعالى عظيمة، ومرتبتهم كبيرة، ودرجاتهم عالية، قال تعالى: { هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } ... [الرحمن:60]. أي ليس من جزاء لإنعامي عليكم بالإيمان والتوحيد إلا الجنة، ويبين تعالى أنه مع المحسنين بتوفيقه وحفظه وتأييده، فقال: { إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } ... [النحل:128].
وأعلن جل وعلا محبته للمحسنين في أكثر من آية فقال: { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ... [آل عمران: 134]، وأخبر تعالى أن رحمته قريبة من المحسنين، فقال: { إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } ... [الأعراف:56]. وطمأن المحسنين بأن إحسانهم محفوظ، وعملهم مشكور، وفعلهم مبرور، فقال تعالى: { فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } ... [هود:115]، بل أدخل السرور عليهم، وأعلن البشارة لهم، فقال في آيات كثيرة: { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } ....[الحج:37].
بل لقد أعطى على الإحسان ما لم يعط على غيره فقال تعالى: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ... [يونس:26].
فهو تعالى يخبر أن من أحسن في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله الله الحسنى في الدار الآخرة، وأسكنه الجنة وأعطاه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وزاده مقابل إحسانه زيادة عظمى أكمل مما مضى، وأجمل مما ذكر، وهي النظر على وجهه الكريم جل وعلا، وتأمل هذا الجزاء البديع والمنزلة الرفيعة التي استحقها المحسن لأنه عاش عمره، وقضى حياته وهو يعبد الله كأنه يراه، ويرقبه في كل حركة وسكنة وكأنه ماثل أمامه يستحيي منه، ويخاف بطشه ويخشى عقابه، ويقدره حق قدره فحقق الله له الرؤية، وأنعم عليه بان كشف له الحجاب لينظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم.(/1)
قرأ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الآية: { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وقال: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقّل موازيننا، ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقرّ لأعينهم )، { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ { 22 } إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ... [القيامة: 22 ، 23].
والثواب العظيم في جنة المولى وفيها يكون الرضى والخلودُ
كل نفسٍ تحظى بما تشتهيهه حورُ عين فيها وطلعٌ نضيد
لبن سائغٌ وشهْدٌ مصفّى ولدى ربك الكريم المزيد
ناصر بن مسفر الزهراني(/2)
هل دية المرأة على النصف من دية الرجل
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ فقه الأسرة/مسائل متفرقة
التاريخ ... 30/11/1425هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مشايخنا الفضلاء هل صحيح ما ذكره الدكتور / يوسف القرضاوي من أن دية المرأة المسلمة في القتل الخطأ ليست على النصف من الرجل وهي مسالة اجتهادية وينبغي أن تكون كدية الرجل تماما وهذا هو الذي يتفق مع تكريم المرأة
نرجو التوضيح وجزاكم الله خيرا.
الجواب
ما نفاه فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي في حديثه عن دية المرأة المسلمة في الخطأ، وأنها ليست على النصف من الرجل، مسألة مستندها جملة (دية المرأة نصف دية الرجل) تنسب إلى حديث عمرو بن حزم الأنصاري في كتاب كتبه له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لما بعثه إلى نجران – والحديث في أسانيده كلها نظر- قال الحافظ ابن كثير في التفسير: (وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره، ولا ينبغي الأخذ بها، وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص وفي إسناد كل منها نظر)، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير على جملة (دية المرأة نصف دية الرجل) (هذه الجملة ليست في حديث عمرو بن حزم الطويل، وإنما أخرجها البيهقي في السنن الكبرى من حديث معاذ بن جبل، وقال إسناده لا يثبت مثله)، وقد تتبعت طرق وأسانيد حديث عمرو بن حزم المشار إليه في كتب السنة، ولم أجده مسندًا مرفوعًا إلى رسول الله بطريق صحيح، فضلاً عن أن الجملة المذكورة لا توجد في الحديث، مع أن (الوجادة) أضعف طرق تحمل الرواية عند المحدثين. والغريب أن ابن قدامة في كتابه (المغني) حكى عن ابن المنذر وابن عبد البر الإجماع على أن دية المرأة على النصف من الرجل، واستند إلى هذه الجملة التي لا توجد في حديث عمرو بن حزم، في حين رد على بعض المخالفين في تنصيف الدية، ووصف رأيهم بالشذوذ مع استدلالهم بجملة في حديث عمرو بن حزم موجودة في كل رواياته تقريبًا وهي (في ا لنفس المؤمنة مائة من الإبل) فقد استدل لرأيه من الحديث بجملة مفقودة وحكم بشذوذ رأي مخالفيه باستدلالهم بجملة من الحديث موجودة، مع أن الحديث في صحة ثبوته نظر فضلاً عن الجملة موضع الخلاف حيث لا توجد في الحديث أصلاً، وما حكاه ابن المنذر وابن عبد البر من الإجماع عن النصف في دية المرأة إجماع لا يحتج به؛ لأنه إجماع في المذهب الواحد، وقد نبّه شيخ الإسلام ابن تيمية عن إجماعات ابن المنذر وابن عبد البر والنووي، حيث يذكرون الإجماع ثم يعقبونه بذكر الخلاف مما يدل على أنهم إنما يقصدون الإجماع داخل المذهب لا غير. والقرآن الكريم ليس فيه دليل على تنصيف الدية بين الرجل والمرأة، ولم يثبت في ذلك حديث صحيح، وكل ما فيه حديث عمرو بن حزم.
أما ثبوت أصل الدية -وأنها مائة من الإبل مختلفة الأسنان، وتقوّم أثمانها بالنقد والأعيان من زمن إلى آخر- فلا شك في هذا، بل إن جملة (في النفس المؤمنة مائة من الإبل) في حديث عمرو بن حزم ما يوصي بمساواة دية المرأة بدية الرجل؛ لأن كلاً منها نفس مؤمنة، وأيضًا ثبوت القصاص بين الرجل والمرأة دليل قوي بالمساواة بالدية عند عدم القصاص كقتل الخطأ وشبه العمد، وقياس الجمهور دية المرأة على تنصيف الميراث مع الرجل قياس مع الفارق والعبادات والمقدرات لا يدخلها القياس. ومع هذا فإن ظواهر الأدلة مع ما يقوله الشيخ يوسف القرضاوي، ولكن حقيقة الأمر والصواب فيما يظهر لي -والله أعلم- مع القول بأن دية المرأة المسلمة في قتل الخطأ على النصف من الرجل لأمور منها:
1- إجماع الصحابة على هذا الأمر –أي التنصيف- حيث لم ينقل عن أحد منهم قال بخلافه، ثم اتفاق الأئمة الأربعة على هذا بمثابة الإجماع أيضًا، والإجماع عند العلماء أقوى من النص، فهو ينسخ ولا يُنسخ؛ لأنه لا يكون إجماعًا إلا وهو مستند على نص شرعي، سواء علمنا هذا النص أو جهلناه.
2- يوجد بعض أحاديث لم تصح نسبتها إلى الرسول، بل لم يوجد لها إسناد أصلاً، وقد اعتمدها العلماء كحديث (لا وصية لوارث) مع أنه لا يوجد له إسناد، ومع ذلك قالوا: إنه نسخ آية "كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ" [البقرة:180]. فحديث عمرو بن حزم وإن ضعف إسناده فقد تلقاه العلماء بالقبول فيجب الأخذ به –سواء وجدت هذه الجملة أو لم توجد- (دية المرأة نصف دية الرجل) وربما يوجد كتاب عمرو بن حزم كاملاً في المستقبل وفيه هذه الجملة موضوع البحث فيرتفع الخلاف حينئذ.(/1)
3- قال العلماء المحققون كابن تيمية والسبكي وابن عبد السلام (إن شهرة الحديث تغني عن إسناده) فاخذوا بأحاديث في أسانيدها نظر، كحديث (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)، وحديث (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن)، وحديث (اختلاف أمتي رحمة) ولا يوجد له إسناد البتة، وحديث معاذ لما أرسله الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيًا (بم تحكم قال بكتاب الله... الحديث) بل جعله العلماء دليلاً ومستندًا (للقياس) أحد أركان التشريع الأربعة مع ضعف إسناده.
4- إذا كان الناس عملوا بعمل -زمنا أو أزماناً- وهذا العمل لا يخالف نصًا صريحًا من القرآن أو السنة فإن نقلهم عنه أو الإنكار عليهم لا يجوز، وهذا يسمى عند العلماء (عمل الناس) والمراد بالناس العلماء، حيث هم قادة الأمة، ولهذا كثيراً ما يقول العلماء في كتبهم مثل هذا، فالإمام الترمذي مثلاً يذكر الحديث في سنته ويبين ضعفه أحياناً ثم يقول:"ولكن عمل الناس عليه". وقال في كتابه (العلل) كل ما في كتابي (السنن) ثابت يعمل به ما عدا أربعة أحاديث وذكرها. والمالكية جعلوا (عمل أهل المدينة) أصلاً من أصول التشريع بعد القرآن والسنة وقدموه على الإجماع والقياس.
والخلاصة في الأمر أن ظواهر الأدلة مع الشيخ يوسف القرضاوي ومن وافقه ولكن لا أرى مصلحة في إثارتها في الوقت الحاضر، وعدم الخروج على ما أجمعت عليه الأمة عملياً منذ قرون خير من رأي يشوش على الناس ويهدم ولا يبني، والله أعلم.(/2)
هل ذقت طعم الايمان؟
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ... أما بعد ،،،
فان حاجة القلوب لسماع القرآن والذكر أعظم من حاجة الأرض لنزول الغيث ، وكما أن الأرض اذا انحبس عنها الغيث اقحلت .. وأقفرت .. وانعدم خيرها ، وكذلك القلوب اذا امتنع عنها الغيث الايماني والعلم الرباني فانها تقسو وينعدم خيرها ويكثر شرها. ولأهمية ذلك الغيث الايماني وجب علينا معرفة ماهو الايمان ، ومدى أهميته في دنيا الانسان وآخرته . وسبل تقوية الايمان ولنبدأ بتعريف الايمان.
ماهو الايمان؟ : الايمان عند أهل السنة والجماعة يشتمل على ثلاث حقائق وهي :ـ
واحد ـ حقيقة لفظيه : وهي الاعلان والاظهار لكلمة التوحيد .. شهادة ( ألا اله الا الله وأن محمدا رسول الله ) وهي أول واجب وآخر واجب ، ولو عمل أي عمل من أعمال الاسلام قبل ان يشهر الشهادة لن يقبل منه ذلك . وهي بمنزلة العقد الذي يوقعه العبد مع ربه بأن لا يعبد الا هو سبحانه ولا يتبع في العبادة الا محمد صلى الله عليه وسلم . فاذا وقعها العبد لزمه أن ينفذ بنودها وهي بقية شرائع الاسلام ، فاذا نفذها وقام بها خير قيام ألهمه الله وثبته عليها عند الموت وقال عندما يموت ( لا اله الا الله ) وهذه علامة حسن الخاتمة . وكما جاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : ( من كان آخر كلامه من الدنيا .. لا اله الا الله دخل الجنة )ـ
اثنين ـ حقيقة قلبية : وهي أن يعتقد ويؤمن ويجزم بقلبه ما نطق به لسانه . فان لم يتفق لسان الانسان وقلبه كان ذلك نفاقا والعياذ بالله ولم تنفعه قول ( لا اله الا الله ) فقد قالها المنافقون بألسنتهم ولكن لم يعتقدوها بقلوبهم فأثبت الله كفرهم كما قال تعالى : (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وماهم بمؤمنين @ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون الا أنفسهم وما يشعرون @ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون )ـ
ثلاثةـ حقيقة عملية : وهي عمل الجوارح ، وتأتي هذه لتصديق مانطق به اللسان واعتقده القلب . فان كان اللسان صادقا والقلب معتقدا ظهر أثر ذلك على الجوارح فتنقاد جوراح المرء للعمل. ولهذا عرف أهل السنة والجماعة الايمان بأنه : ( الايمان قول باللسان ، واعتقاد بالقلب ، وعمل بالجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية )
والايمان مجموعة من الشعب ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( الايمان بضع وستون شعبه ) في رواية البخاري( بضع وسبعون شعبه ) في رواية مسلم ثم ذكر صلى الله عليه وسلم ( أعلاها شهادة ألا اله الا الله وأدناها اماطة الاذى عن الطريق ثم قال والحياء شعبة من الايمان ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم . وهذه الشعب لم يرد حصرها ولكن اجتهد العلماء في ايضاحها من الكتاب والسنة وقد ذكر الامام ابن حجر في تفسير هذا الحديث أنها 7 شعب باللسان و 24 بالقلب و 36 بالجوارح . فمن أتى بهذه الشعب كاملة فقد أتى بالايمان كاملا. ومن نقص منها شيئا ، نظر الى الناقص فان كان مما يكفر به صاحبه فقد كفر ... مثل ترك الصلاة .. فمن تركها فقد كفر ولم يعد مؤمنا. وأما ان كان الناقص من الكبائر ... أو الذنوب ... أو المعاصي مما لا يكفر به صاحبه فانه لا يسلبه مسمى الايمان ولكن يصبح مؤمنا بايمانه فاسقا بمعصيته تحت مشيئة الله بالدار الآخره .. ان شاء غفر له وان شاء عذبه.
أهمية الايمان للانسان:ـ
اعلم اخي المسلم واختي المسلمة أن لا حياة للانسان ولا سعادة ولا فلاح في الدنيا والآخره الا بالايمان. فانظرو رحمكم الله لفوائد الايمان : ـ
( حياة طيبة ) قال تعالى : ( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبه ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) . فالله قد أقسم وأكد بأنه سيحييه حياة طيبة بكلمة فلنحيينه فاللام هي لام القسم والنون هي نون التوكيد المثّقله الشديدة وهذه مؤكدات ضخمه من الله تعالى ـ
اطمئنان القلب ) قال تعالى : ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله . الا بذكر الله تطمئن القلوب )ـ ) .
( الهداية ) قال تعالى : ( وان الله لهاد الذين آمنوا الى صراط مستقيم ) .
( تولي الله للمؤمن ) قال تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات الى النور ) .
( النصر ) قال تعالى : ( وكان حقا علينا نصر المؤمنين ) .
( العزة ) قال تعالى : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) .
أهم عوامل تقوية الايمان :ـ
أولا ـ القرآن الكريم : هو أساس الايمان فيجب الاعتصام والتمسك به . قال عز وجل : ( فاستمسك بالذي أوحي اليك )ـ
والاستمساك بالقرآن الكريم لا بد أن يكون عبر ثلاث مراحل :ـ
أ) تلاوته - قال تعالى : ( ورتل القرآن ترتيلا ) والترتيل فيه معنى أكثر من القراءة ، فلا يسمى تلاوة بدون العمل فاذا قرئته وعملت به فأنت تالي له .(/1)
ب) التدبر له - لأنه رسالة الله وخطابات الله للناس فالقرآن كله نداءات للبشر . فاما أن يكون نداءا عاما ( يا أيها الناس) أو نداءا خاصا بالمؤمنين ( يا أيها الذين آمنوا ) أو نداءا خاصا بالكفار ( يا أيها الذين كفروا ) أو نداءا خاصا لليهود والنصارى ( يا أهل الكتاب ) .. فأي تكريم للانسان من أن يخاطبه الله من فوق سبع سموات ، فيجب تدبر ماذا خاطبنا الله به ، وقد أحتوى القرآن الكريم على ثلاثة أشياء أمر ، ونهي ، وخبر فمهمة المسلم أن أن يمتثل للأمر وأن ينزجر عن النهي وتصديق الخبر وهذا مافقد للأسف في الأمة هذا الزمان ، فالناس يقرئون القرآن لا يجاوز حناجرهم بدون تدبر لما يقرئون وهي من أعظم المصائب التي ابتليت بها الأمة حيث أنهم معزولون عن القرآن وهم يقرئونه والسبب هو وجود الأقفال .. يقول الله تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) وهي أقفال الشهوات والشبهات والغفلات والتساهل والاهمال وعدم الاهتمام بكلام الله تبارك وتعالى . ولذا لم يكن السلف الصالح رحمهم الله يتعاملون بأسلوب هذا الزمان ... يقول ابن مسعود : ( ماكنا نتجاوز العشر آيات من القرآن حتى نعيهن ونعمل بهن ) . أما ابن عمر رضي الله فقد قرأ سورة البقرة في ثمان سنوات ... ونحن نقرأ سورة البقرة في نصف ساعة .. والسبب أنهم كانوا يقفون عند حدودها ويحركون به القلوب وهذا هو التعامل الشرعي الصحيح مع القرآن الكريم.
ج) الحفظ - وهذا من الضروريات للمسلم لأن من علامات أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم يحفظون القرآن . يقول الله عز وجل : ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتو العلم ) .. فالله عز وجل أثنى على حفظة الكتاب بأنهم أهل العلم. فاحرصو رحمكم الله على حفظ كتاب الله وان عجزتم عن حفظه كله ، فلا أقل من حفظ بعضه خاصة السور التي ورد فيها فضل مثل سورة البقرة . قال صلى الله عليه وسلم : ( ان سورة البقرة اخذها بركة ، وتركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة ) أي السحرة . وأن البيت الذي تتلا فيه سورة البقرة يفر الشيطان منه كما جاء في الحديث الشريف: ( ان الشيطان لا يدخل بيتا تقرأ فيه سورة البقرة ) ومن استطاع أن يضم اليها سورة آل عمران فذلك خير عظيم كما قال صلى الله عليه وسلم : ( ان سورتي البقرة وآل عمران تأتيان يوم القيامة تظلان صاحبهما ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام . ومن السور التي ورد فيها فضل المفصل من السور من سورة ( ق ) الى الناس وايضا سورة الكهف و ( يس ) ولمعرفة المزيد من السور وفضل كل سورة وآية فعليه بكتاب ( فضائل القرآن ) لابن كثير . فبادرو رحمكم الله لحفظ كتاب الله عز وجل ولو بربع صفحة في كل يوم وستجدون أنفسكم بنهاية العام قد حفظتم شيئا كثيرا من القرآن الكريم ـ
ثانيا ـ السنة : لأنها الوحي الثاني والموضحه لما أبهم القرآن والمقيدة لما أطلق القرآن والمطلقة لما قيد. قال عليه الصلاة والسلام : ( أوتيت القرآن ومثله معه ) فالواجب أن يخصص المسلم من وقته شيئا لدراسة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتبدأو رحمكم الله بالاربعين النووية في كتاب ( جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ) وكتاب ( اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ) فتصبح ثقافتكم الدينيه والحديثيه باذن الله ثقافة اصيله موثوق فيها ـ
ثالثا ـ معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العلى عز وجل : لأنك لا يتقوى ايمانك بالشيء الا اذا عرفته ، فكلما ازدادت معرفتك بالله عز وجل كلما ازداد ايمانك به . فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف والله تعالى يقول : ( انما يخشى اللهَ من عبادهِ العلماء ) وكما جاء بالحديث الشريف : ( ان لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة ) ومعنى أحصاها أي من آمن بها وعمل بمقتضاها وانعكست مفاهيمها في حياته وليس بأن يسردها ويعددها. فاذا آمنت بأن الله هو الرزاق فذلك يعني أن تعمل بمقتضى ذلك فلا تطلب الرزق الا منه عن طريق الأعمال المشروعة باكتساب الرزق ، أما من طلب الرزق ببيع ما حرم الله أو بتعامل بالربا او بأي شكل من المحرمات فهو لم يؤمن بأن الله هو الرزاق. وذلك يسري على بقية أسماء الله الحسنى ـ
رابعا ـ دراسة السيرة النبوية الشريفة : دراسة أحوال رسول الله وشمائله وأخلاقه بدأ بمولده ونشأته وبعثته ودعوته وهجرته وجهاده حتى أسلوب معيشته ببيته وتعامله مع زوجاته وخادمه وصحابته فهو الانسان الذي تمثلت فيه جميع الكمالات الانسانيه فالله سبحانه جعله على خلق عظيم وشهد له حيث قال تعالى : ( وانك لعلى خلق عظيم ) وهو الترجمة العملية للقرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلقه قالت : ( كان خلقه القرآن ) صلوات الله وسلامه عليه . ومن أفضل ما كتب في السيرة كتاب ( السيرة النبوية وفق المصادر الأصيله ) للدكتور أحمد مهدي ـ(/2)
خامسا ـ النظر والتأمل في مخلوقات الله بالكون : فان الله تعالى عرّف خلقه عليه بما بثه في الكون من آياته ومن قدرته سبحانه وتعالى . قال عز وجل : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )ـ
سادسا ـ ذكر الله عز وجل : وهو أعظم شيء لأن ذكر الله يدل على قوة ايمانك به . لأن من أحب شيئا أكثر من ذكره . فكيف والمحبوب هنا هو الخالق سبحانه وتعالى فالواجب أن يكون لسان المرء رطبا بذكر الله تبارك وتعالى بكل الاوقات ـ
سابعا ـ فعل أوامر الله : والاستجابة لها والمسارعة الى تنفيذها بدءأ بالمعتقد ثم أداء الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة ـ
ثامنا ـ ترك المعاصي والذنوب : فكما أن الايمان يزيد بالطاعه فانه ينقص بالمعاصي والذنوب . فاحفظو رحمكم الله جوارحكم من المعاصي فلا تنظروا الى ماحرم الله ولا تسمعوا الا ما حرم الله وكذلك بالنسبة لجميع جوراحكم .فاحفظوا جوارحكم مما حرم الله يحفظ الله ايمانكم ـ
تاسعا ـ الصحبة الصالحة : حيث أن طريق الانسان طويل وشائك وصعب ولا يمكن عبوره وحدك فلابد من التعرف على اخوة في الله تربطكم ببعض علاقة في الله وتتعاونون على الطاعة وتذكرون الله وتتعلمون العلم سوية وتجتمعون على الله وتفترقون عليه كما جاء في الحديث عن السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل الا ظله ( ورجلين تحابا في الله ، اجتمعا عليه وافترقا عليه ) ـ
عاشرا ـ البعد عن رفقة السوء : اجتنبوا رفيق السوء فأنه قاطع طريق بينكم وبين الله ـ .
اسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يزيدنا ايمانا ويقينا وتقوى وأن يحفظ لنا ديننا ويغيثنا غيث الايمان في قلوبنا انه ولي ذلك والقادر عليه ، انه جواد كريم ـ
وصلي اللهم على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ـ
* للشيخ سعيد بن مسفر(/3)
هل رسوم الجمارك مكوس؟!
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 10/04/1427هـ
السؤال
هل الجمارك التي تأخذها الدولة هي المكوس التي يذكرها الفقهاء في كتبهم؟ وما حكم فتح محل للتخليص الجمركي؟ وهل ما يؤخذ منه حلال؟
الجواب
الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالمكس هو ما يأخذه الظلمة وأعوانهم من عموم الناس من النقود وغيرها –بغير حق، ومعنى ذلك أنه لابد أن يتحقق في المكس أمران:
1- أن يؤخذ من صاحبه بغير رضاه.
2- أن يأخذه الآخذ لمصلحته الخاصة، لا لمصلحة المسلمين العامة، ومتى اختل أحد هذين الشرطين لم يكن مكساً.
والمكس المحرم كان معروفاً منتشرًا عند العرب، ويعرف أحياناً بالإتاوة، ويؤخذ قسراً عند البيع والشراء.
فيه يقول الشاعر:
وفي كل أسواق العراق إتاوة *** وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
والمكس هو الذي عناه الرسول –صلى الله عليه وسلم- في قوله عن الغامدية –رضي الله عنها-، لما رجمت بعد زناها: "لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له" أخرجه مسلم (1695). أي إن المكس المحرم مثل الزنا أو أشد.
أما الجمارك اليوم فهي ضرائب مالية توضع على بضائع تدخل لبلاد المسلمين تقررها الدولة لصالح تشجيع البضائع والمنتجات المحلية لصالح المواطن والمستهلك، وما يجمع من هذه الضرائب يدخل خزينة الدولة لصالح الأمة عامة.
وعلى هذا فالجمارك ليست هي المكوس السابق ذكرها، لتخلف الشرطين المشار إليهما سابقاً.
وإنما شرعت الجمارك في الدولة الحديثة –وفي الإسلام خاصة- وفق المصلحة المرسلة في الشريعة، كما هو مقرر عند أهل العلم.
وبناء على هذا فلا حرج عليك في فتح محل للتخليص الجمركي، وما يصل إليك من هذا المحل حلال -إن شاء الله-.
أسأل الله للجميع التوفيق والسداد. آمين.(/1)
هل ستنسحب أمريكا من العراق أو تبقى طويلاً
مُتَغَاضِيَةً عن الإخفاقات والخسائر ؟
لقد ثبت بدلائل قاطعة ، نشرتها وسائل الإعلام بأنواعها أكثر من مرة ، أنّ بوش كان قد قَرَّرَ غزو كل من أفغانستان والعراق قبل أحداث وتفجيرات 11/سبتمبر 2001م بوقت كاف . وكذلك من القول المعاد المكرور أن نقول : إنّ تفجيرات 9/11 كانت "القاعدة" التي لم يعرفها العالم إلاّ بتشهير أمريكا بها كانت بريئةً منها براءةَ الذئب من دم ابن يعقوب – عليهما السلام – فقد نشرت "Focus News" في إحدى نشراتها تصريحاً لأحد المسؤولين الأمريكيين بأنّه قد تمّ التوصّل إلى دلائل قاطعة أن تفجيرات 9/11 لم يقم بها عرب مسلمون ، وإنما قام بها 200 من رجال الاستخبارات الإسرائيلية . وأكّدت كل من C. N. N. و Arwilizing أن اليهود العاملين في مركز التجارة العالمي المُفَجَّر تلقوا تحذيرًا مؤكدًا قبل البدء في تفجيره بساعتين . وكان قد تم القبض على عدد من رجال الاستخبارات الإسرائيلية ؛ ولكنّ هذه الشواهد كلها تُعُمِّدَ التجاهل بها وغضّ النظر عنها ؛ لأن اللوبي الصهيوني المسيطر على الاقتصاد والتجارة والإعلام هو الذي يتحكّم في دفتي الحكم والإدارة في كل من أمريكا وإسرائيل ، فلا تسير الأمور إلاّ مُوَجَّهَةً من قبله .
وكذلك يكون من القول المعاد المكرور أن نقول : إنّ مبعث الغزو الأمريكيّ لكل من أفغانستان والعراق ، كان تحقيق أهداف صليبية صهيونية مشتركة ؛ فكانت الحرب المفروضة على البلدين صليبية صهيونية بكل الاعتبارات ومن جميع الوجوه وبالشكل والمعنى معًا . ومن يشكّ في هذه الحقيقة يشكّ في حقيقة كونيّة صارخة ؛ لأن الأهداف المنشودة والوسائل المُسْتَخْدَمة لتحقيقها ، تصرخ بأن "الحرب على الإرهاب" بأسرها صليبية صهيونية ، ناهيك أن الرئيس الأمريكي الابن – متولي كبر مباشرة الحرب – صَرَّحَ بأن حربه على "محاور الشر": أفغانستان والعراق وغيرهما ، حرب صليبية ، وأن الربّ هو الذي أملاها عليه وأمره بشنه إيّاها في البلدين وأنه ينتظر الآن أمره بشنه إيّاها في غيرهما لتحقيق العدل ومحو الظلم !! ولكن شاء الله القدير أن تلقى أمريكا إخفاقات إثر إخفاقات في تحقيق الأهداف المنشودة من الحرب .
فالأهداف كان منها :
* - إحداث تغيير شامل في المنطقة الإسلامية العربية المحدّدة المُطْلَق عليها من قبل الغرب نفسه مصطلحُ "منطقة الشرق الأوسط" . وذلك لإرغام العالم العربي على ترك مناصرة الفلسطينيين ، والرضوخ لفكرة قبول إسرائيل على ماتشاء الصهاينة ، وتصفية الصراع العربي الإسرائيلي في استسلام عربي كامل أمام إسرائيل المهيبة ومُرَبِّيَاتها ، والقضاء على الأنظمة المعارضة لذلك كله وإحلال أنظمة أخرى محلّها تتظاهر بإطلاق الحريات الشعبية المزعومة وبتحقيق رخاء اقتصادي بمساعدة أمريكية ممنوحة مقابل التضحية برأس المال : فلسطين والفلسطينيين ومصالحهم المصيريّة .
لكن العالم رأى بأمّ عينيه أن أحلام أمريكا في هذا الشأن قد تبخّرت ، وأنه حدث عكسُ ما تمنّته ، وحصل مالم يكن بحسبانها ؛ حيث إن الكون لاتديره هي ، وأن السنن الطبيعية لاتتصرف فيها هي كما تزعم عن حماقة شقيت بها حين كفرت بأنعم الله ورفضت توحيد الله ، وأصرّت على عصيانه ، متحديّةً عظمته وكبرياءه.
فكثرت الموانع في طريقها المرسوم ، ومسارها المخطّط ، ولم تجر الرياح بما تشتهيه سفنها . والمؤشراتُ كلُّها تدلّ أن هدفها الصليبي الصهيوني هذا لن يتحقق في الوقت القياسي الذي حدّدته . وكان أجلى عناوين الأشواك والمتاريس التي تراكمت في طريقها إلى تحقيق الهدف انتصارُ "حماس" بأغلبية ساحقة ، ووصولُها إلى الحكم على كره منها شديد ، وثبات "حماس" لحدّ اليوم رغم حصارها الشامل لها ومقاطعتها إيّاها اقتصاديًّا ومعنويًّا ، ومباشرتها لسد الطرق جميعها في وجهها ، حتى تتخلى عن الحكم لصالح "فتح" العلمانية الموالية منذ اليوم الأول لمصالح أمريكا والغرب أكثر من مصالح الفلسطينيين .
* - وكان هدفها الثاني – الذي كان فرعًا للهدف الأول – تسهيلُ هيمنة إسرائيل على العالم العربي كلّه . وذلك بسلوك طرق مباشرة ظنتها – أمريكا – مُعَبَّدَة بالكامل ، ومُمَهَّدَة كل التمهيد . منها إعمال تغيير المناهج التعليمية ، والأنظمة التربوية ، والمفاهيم الثقافيّة ؛ وتفريغُها من كل مضمون يدعو لكراهية إسرائيل وبالتالي لمناهضتها ؛ وإغراقُ العالم العربي بمنظومة إعلامية إذاعية تلفزيونية ، تباشر بشكل مثمر الغروَ الفكريَّ وغسيلَ مخّ الشباب العربي ، وتتغنّى بفضيلة الاستسلام لإسرائيل وبمكاسب الرضوخ لها . هذا في جانب . وفي جانب آخر تُشَكِّلُ منافسًا للنظم الإعلامية المعادية لأمريكا وإسرائيل .(/1)
وذلك أمر نجحت فيه – كما يرى عدد من المحللين والمراقبين – أمريكا بشكل جزئيّ ، يكاد لايسمن ولايغني من جوع ؛ لكنها تنوي مواصلة هذه الحرب الفكرية الشاملة ، مُتَوَقِّعَةً تحقيق انتصارات باهرة في المستقبل ، مُعْتَقِدَةً أنّ الأمة الإسلامية العربيّة صعبٌ تجريدُها من ثقافتها وتقاليدها بالسهولة وفي الوقت القليل ؛ بل يحتاج ذلك إلى اعتماد الصبر وإنفاق قدر مطلوب من الوقت ، حتى تتحقق النتائج على المستوى المرجوّ.
أنشأت أمريكا بنفقات باهظة محطات إذاعية وتلفزيونية تبثّ كل آن السمومَ ، وتدمِّر الأخلاق والقيم الإسلامية العربية ، وتهيئ ذهن الشباب للرضوخ لإملاءات أمريكا وإسرائيل ، وللارتياح للتخلّي عن الحقوق العربية التي صمدت من أجل استعادتها الأجيالُ الغيورةُ على دينها وعقيدتها ؛ حيث ترى – أمريكا – أن صورتها تشوّهت في ذهن الإنسان العربي من سوء فهمه وخطأ تفكيره نحونا نحن المتنوّرين المتحضرين . ولم تدرِ – أمريكا – جوهرَ الحقيقة: أن كراهية العرب والمسلمين لها لاترجع إلى سوء الفهم ، وإنما ترجع أولاً وأخيرًا إلى تعاملها معهم بالظلم واللاعدل والكيل بغير الذي تكيل به لإسرائيل ولغيرهم من أبناء الديانات الأخرى التي تتفاهم معها في توزيع "المنافع والأرباح" وتقاسم "الحقوق والواجبات" ولكن الإسلام الواثق بنفسه ، الشامخ مستقلاًّ لايرضى بهذا التفاهم معها بشكل أو بآخر ؛ من هنا ترى هي – أمريكا – وغيرها من ذوات الديانات الباطلة أن الإسلام هو العدو اللدود المارد الذي يبدو لا يُقْهَر ولا يُغَالَب ، ولا يقبل تراجعًا ولاتفاوضًا ، ولايعرف بشأن التنازل عن أي من حقوقه إلاّ اللاءات المتصلةَ التي لاتكاد تعرف النهاية ؛ ولكنها – أمريكا – بدلاً من أن تتلقى الدرس الإيجابي ، وتصحِّح سمعتها لدى المسلمين والعرب ، بالرجوع إلى تبنّي العدل ، والتخلّى عن إعمال لغة القوة والاحتلال ، والضرب والحرب ، ودوس القيم الإسلامية ، إلى إعمال لغة التفاهم والتسالم ، والاحترام المتبادل ، تصرّ على التمسّك باستخدام القوة ، وممارسة الظلم ، واحتلال الأراضي الإسلامية ، وإذلال الإنسان المسلم ، واغتصاب الحرمات العربية والإسلامية . وفي الوقت نفسه تتساءل متجاهلةً : لماذا تكرهنا المجتمعات الإسلامية ، ويثور ضدنا الشباب العربي المسلم ، ويكاد ينقضّ علينا في طول الدنيا وعرضها . وتتوصّل في حساب خاطئ تمامًا أن السبب في سخطه عليها وثورته ضدها إنما هو سوء الفهم وخطأ التقدير، فلابدّ من تصحيح الصورة وتبييض السمعة ، بتسخير وسائل الإعلام، وإنشاء المحطات الإذاعيّة والتلفزيونية التي تسهر على بث البرامج المخلة بالأخلاق والقيم ، التي هي صورة عن حضارتها المتقدمة والتي هي قادرة على النحت من الإنسان الشرقي الخام البدوي إنسانًا متحضًرا مثل الإنسان الغربي الأمريكي !!.
* - زرع نظام ديموقراطيّ غربي أمريكي في العراق ، يُمَثِّل مثلاً أعلى لأسلوب الحكم وممارسة السلطة ، وستتحلّب له أفواه الشعوب المجاورة إعجابًا وتقديرًا ، وستتطلع إليه مُتَلَمِّظَةً له شفاهُها ، وستسعى للتوصّل إلى مثله في بلادها، طالبةً لتحقيقه العونَ والتدخّلَ منّا نحن الأمريكان الذين هم مُطَالَبُون من قبل الربّ – كما يتفوّه بذلك من حين لآخر بوش الابن – بإقامة الديموقراطية الغربية الأمريكية في كل دولة تتسمّى بإسلامية أو عربية !.
وذلك ما فشلت فيه أمريكا فشلاً ذريعًا ؛ فرغم إقامتها هيكلاً منهارًا مهزوزًا منذ البداية من الحكم الذي يتولاّه عملاؤها من الشيعة وأذيالهم من السنّة الذين باعوا دينهم وعرضهم بثمن بخس دراهم معدودة ؛ حيث توصّلوا إلى كراسيهم المكسورة القوائم ، بدلالتهم على أمكنة تواجد رموز المقاومة الباسلة الذين أكّدوا لأمريكا أن الشعب العراقي قوة لاتُقْهَر بالنار والحديد؛ لأنه يعرف من أين تؤكل الكتف ، ويعرف الحرب والضرب منذ التأريخ القديم ، وأكثر من ذلك يعرف معنى الصمود والمواجهة والثبات ، مهما اشتدت الأحوال وتفاقمت الأهوال .. رغم ذلك صار العراق اليوم تحت الاحتلال الأمريكي صورة بشعة غير مسبوقة للخراب والدمار واللا استقرار ، والقتل والفتك ، والنهب والسلب ، والاغتصاب وهتك الحرمات، والاغتيال والتفجير ، والجوع والعطش ،وفقدان وسائل الحياة بأنواعها ، وممارسة الظلم والوحشية التي تقوم بها القوات الأمريكية البريطانية المحتلة التي جاءت تنشر العدل ، وتروّج الفضل ، وتقيم الديموقراطية ، التي عاد الشعب العراقي – والشعوب العربية المسلمة كلها التي شاهدت نتائجها المرة في العراق – يخاف شبحها مخافة الأطفال للسعالي والأغوال ، وبدأ يقول ويعتقد أن حجيم النظام الصدّامي الاستبدادي – الذي شنّعت عليه أمريكا كثيرًا وشَهَّرت به طويلاً مُوْجِدَةً مبررًا غَير شرعيّ لغزوه للعراق – كان أنعم بكثير من جنّة الديموقراطية الأمريكية التي هذه بداياتُها فكيف بنهايتها ؟!.(/2)
ولكي تعرف بشاعة وجه الديموقراطية الأمريكية المزمع إقامتُها في العراق – أو المُنفَّذ حاليًّا تحت الرعاية الأمريكية – أن واحدًا من أعضاء مجلس الشيوخ الديموقراطي الأمريكي "جون مورتا" John Murtha وأحد قدامى المحاربين في "فيتنام" وأحد المؤيدين المتحمسين لبوش في شنه الحربَ الظالمةَ على العراق وأحد المعارضين الأشداء للتواجد العسكري الأمريكي في العراق بعدما عرف كذب بوش وخداعه للعالم والأمريكان والخسائر التي ذاقتها أمريكا مع العراقيين في الأرواح والوسائل والممتلكات . . جمع إحصائيات خطيرة تشف عن بعض معاناة العراقيين التي تعرّي بوش مرة أخرى كآلاف المرات السابقة واللاحقة في أساليبه الخداعيّة التي لازال يمارسها دونما استحياء . يقول "جون مورتا" في إحصائيته :
"يفتقر العراقيّون اليوم إلى الكهرباء ؛ فهم لايحصلون إلاّ على عشر ساعات يوميًّا تقريبًا من التغذية الكهربائية عبر الشبكة الحكومية ؛ وإن 30? من الشعب العراقي فقط يحصل على مياه صالحة للشرب؛ وإن إنتاج العراق النفطي تراجع عن مستويات ماقبل الاحتلال ، فيما ارتفعت إنتاجية باقي الدول الأخرى ؛ وإن نسبة البطالة بين الشباب العراقي تصل في بعض المناطق إلى 90? ، بينما هي في أفضل الإحصائيات حوالي 55? بشكل عامّ على المستوى العراقي . وإن المزيد من الشباب العراقي بدأ في الانخراط في المليشيات الطائفية المتناحرة . وقدرُ عددهم الإجمالي 25000 تقريبًا ، جلُّهم من المُسَرَّحِين من الجيش العراقي السابق الذي حلّته إمريكا إثر احتلالها العراق ؛ وإن 60? من العراقيين يعتقدون أن الخطوة الأولى في طريق تحسين الحياة هي رحيل قوات الاحتلال الأمريكي البريطاني عن آجرها من العراق".
على أنّ عمليّة تحقيق أمريكا ديموقراطيتها في العراق حطّمت الشَيء الكثير من أعصابها ؛ حيث إنها لاقت المصاعب والمتاعب التي ربما لم تكن بحسبانها في سبيل التوصّل إلى حلفاء ومأجورين يتولَّون عنها القيادة والحكم في العراق، ولا يكونون خَوَنَة فيما يتعلق بمصالحها ومصالح إسرائيل ، ويقدرون على تنحية القوى السنية عن مواقع القيادة والمسؤولية . وذلك علمًا منها – أمريكا – أنهم أصلب عودًا في عدم الخضوع لأي تخويف أو ترغيب أمريكي يُصْدَرُ للخيانة بمصالح الشعب العراقي فضلاً عن مصالح الأمة الإسلاميّة ، وانتقامًا منهم لأنهم الشريحة التي ينتمي إليها الرئيس العراقي المخلوع البعثيّ صدام حسين . ورغم تكوين برلمان مزعوم وتعيين وزراء ورئيس وزراء ، لم تتيسر لأمريكا فرصة ترتاح فيها إلى صيغة لإدارة السلطة في العراق على ما تهواه . والفشل الذريع في هذا الجانب هو الآخر جعل أمريكا تتخبط في العراق خبط عشواء ، وتنتقم من العراقيين بالقصف العشوائي، والتقتيل الجماعي ؛ فقد تستهدف قرية بكاملها أوبلدة بمن فيها وتمطرها بالصواريخ والقنابل ، وتسوّيها بالأرض ، وتبيد كل من فيها من نسمة بشريّة . ولاسيّما إذا كان أهلها سنّة ، ولم يكن شيعة يسهل عليها شراء ذممهم بأي ثمن تافه.
* - أمطرت أمريكا العراقَ بالحديد والنار، ودَمَّرته عن آخره بحجج رئيسة عديدة ، كان من بينها أنه ينتج أسلحة ذات دمار شامل ، وأنه اليوم بؤرة الإرهاب الذي تتولاه "القاعدة" المزعومة ؛ فإذا تمكنت من تحطيم الإرهاب فيه ، تحطّم على المستوى العالمي ، وأمنت هي وأمنت دول العالم !!.
ولكن كذبتها هي تعرّت بشكل فاضح ؛ فلم تجد في العراق ولاعصا "دمار شامل". وأمّا مشكلة الإرهاب فإنّها شبت بشكل كاد يبتلع العالم ويحرق أمريكا التي صارت اليوم مُحَاصَرة بالخوف واللا أمن والتهديدات المتنوعة على قدر ما مارسته من الشر والخبث ، والإفساد والظلم ، وتقتيل الأبرياء في العالم ، ولاسيّما في العالمين العربي والإسلامي ، اللذين جعلتهما عدوين لدودين متعطشين لدمائها تعطّشًا قد لا يتروّى إلاّ بمثل الدماء التي أراقتها هي في كل من أفغانستان والعراق والمناطق الأخرى من العالم .(/3)
إنّ العراق تَحَوَّلَ اليوم نقطة جذب رئيسة لكل من يحاول أن يتعلم فنَّ الانتقام من أمريكا الصليبية المتصهينة والقوى الصهيونية التي حرَّضت أمريكا على شن الحرب على الإسلام والمسلمين باسم "الحرب على الإرهاب". وقد علم العالم أن القاعدة – التي لم يكن لها أي وجود في العراق فيما قبل حرب أمريكا له – قد رسخت اليوم فيه أقدامُها باعتراف الأمريكان أنفسهم ، الذين يقدِّرون أن عدد أعضائها فيه اليوم أكثر من ألف مقاتل بارع من شتى الدول ، بجانب المقاومة العراقية الداخلية التي تجاوز أعضاؤها ثلاثين ألفًا ، يستعدّون كل وقت للتفدية والتضحية بالأرواح في سبيل تحرير العراق من الأمريكان وعملائهم العراقيين . وقد أكّد المحللون أن تشاغل أمريكا في العراق أتاح للقاعدة والمنظمات المتعاونة معها فرصة لالتقاط الأنفاس ورصّ الصفّ وإعادة الترتيبات لشن هجوم مثمر على قوات التحالف في أفغانستان والمناطق الملاصقة لها من باكستان ؛ وأنها – أمريكا – تَلَهَّتْ عن مطاردة البطل الحقيقي لـ "الإرهاب" : أسامة بن لادن .
أمريكا اليوم تورَّطت بين فكي أفغانستان والعراق وخلقت أعداء أكثر مما نهضت تطارده بحجة هجومهم على مركز التجارة العالمي بـ"نيويورك" يوم 11/سبتمبر 2001م . وإذا كانت تتصور ذاك اليوم أن الأعداء هم أعضاء القاعدة فإنها اليوم أمام أعداء يحاصرونها في كل مكان في معظم أقطار الدنيا ينتمون إلى مجموعة الشباب المسلم من كل لون وجنس الذي يرى في أمريكا عدوّاً مكشرًا أنيابه لابتلاع الإسلام وحضارته، والعروبة وثقافتها، والدين ومقوماته.
ولم يكن فوز "حماس" في فلسطين إلاّ تعبيرًا عن الكبرياء العربي الإسلامي الجريح ، وعن الغيرة الإسلاميّة التي ثارت لدى الشعب العربي الفلسطيني تجاه التصرف الأمريكي المزدوج . وإذا وضعتَ في الاعتبار أن أمريكا تعتبر "حماس" حركة إرهابية رقم واحد ، فإنك ستعلم مدى الإيلام الذي أصاب أمريكا بفوز حماس ، ومدى إيذاء الصفعة التي وقعت بذلك على خديّها .
يصحّ أن يقال : إن أمريكا راحت تدوس النمل فولدت بذلك عقارب تلسع ، وأفاعي تلدغ ، وثعبانًا تَقْعَصُ كلَّ أمريكي تصيبه بسمّها يقظة أو منامًا .
* - بحثًا عن الأمن الذي فقدته أمريكا يومَ 11/ سبتمبر 2001م شنّت الحرب الاستباقية على ما أسمته بالإرهاب ، ثم سمّته بالإرهاب الإسلامي ، وبدأت بأفغانستان باعتبارها منتجة له ومصدرة إياه!، وثنّت بالعراق باعتباره ذا علاقة برموز القاعدة والإرهاب!. وقالت : إنّها مهدَّدة في عقر دارها ، فلابدّ أن تبادر إلى استئصال أوكار الإرهاب في كلّ من دول العالم الإسلامي!. فهل أمنت بعد هذه الفترة الطويلة التي أنفقتها في الحرب ، وبعد هذه الخسائر الفادحة التي لحقتها من أجلها في كل من الاقتصاد والجيش والمعدّات.
فأما الخسائر الاقتصادية ، فقد أفادت التقارير أن تكاليف القوات الأمريكية في العراق وحده – فضلاً عن تكاليفها في أفغانستان – بلغت حتى كانون الأول 2005م (251) مليار دولار، وزادت الكلفة الشهرية لنفقات الحرب في العراق على حوالي 6 مليارات دولار، واضطرت الإدارة الأمريكية إلى طلب ميزانيات إضافية من الكونجرس لتغطية النفقات المتزايدة . وهذه التكاليف تزيد عن المتوسط الشهري للتكاليف العسكرية في "فيتنام" حسبما أكّد كل من "معهد دراسات السياسة" و "مركز السياسة الخارجية" – وهما منظمتان ليبراليتان مناوئتان للحرب – اللذين أصدرا تقريرًا بهذا الشأن بعنوان "المستنقع العراقي". وعلى ذلك بلغت الكلفة اليوميّة للحرب 186 مليون دولار . وأقر الكونجرس الأمريكي 4 مشاريع قوانين للإنفاق في العراق حتى الآن باعتمادات تصل إلى 204,4 مليار دولار . ومن المُتَوَقَّع أن يقر في وقت قريب مبلغ 45,3 مليار دولار. وقال التقرير: إذا ما تمّ تقسيم هذا المبلغ على سكّان الولايات المتحدة تبلغ التكلفة حتى الآن 727 دولارًا للفرد . مما يجعل حرب العراق – لايزال التعليق جزءًا من التقرير – أكثر الجهود العسكريّة تكلفة خلال الـ 60 عامًا الماضية . وكانت التكلفة الكلية لحرب "فيتنام" بأسعار اليوم 600 مليار دولار. والخبراء يؤكدون أن تكلفة حرب العراق ستتجاوز هذا المبلغ في النهاية .(/4)
أمّا الورقة التي أعدّتها بهذا الشأن كل من خبيرة الميزانيات في جامعة "هارفارد" (ليندا بيلمز) والاقتصادي الفائز بجائزة "نوبل" من جامعة "كولومبيا" (جوزف ستايلتز) فهي تشير إلى أن تكاليف الحرب الحقيقية ستصل إلى تريليوني دولار، وليس 173 بليونًا كما تدّعي إدارة بوش. وقد فَنَّدا تفاصيل ذلك في تقريرهما الذي أثار ضجّة كبيرة عند تداوله في مطلع هذا العام. هذا إضافة إلى ما ينشر في الصحف الأمريكية تباعًا من أخبار فضائح الاختلاس وإهدار المال وتسهيل استيلاء الشركات المتعاقدة مع البنتاغون عليه بالتزوير والإهمال . مما جعل الأوساط الاقتصادية الأمريكية تدرك أن فساد الذمة الماليّة في هذه الإدارة وصل إلى مستويات غير مسبوقة.
وأمّا الخسائر العسكرية ، فقد بلغ عدد القتلى من الجيش الأمريكي حتى الآن (2400)، وبلغ عدد الجرحى حوالي (18000) وأكثر من نصف هؤلاء حسب تقارير وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) لايستطيعون العودة إلى الجيش بعد معالجتهم . وإن هناك تقارير أمريكية غير رسمية تفيد بأن عدد الجرحى أكثر بالتأكيد من العدد المُعْلَن عنه رسميًّا وأنه قد يتجاوز الخمسين ألفًا (50000) .
وتقدر التقارير الأمريكية الأخيرة أنّ حوالي (8000) من أفراد الجيش الأمريكي قد هربوا من الجيش وأداء الخدمة العسكرية ، وأن حوالي النصف منهم قد هربوا إلى كندا ، وطلبوا اللجوء السياسي . إلى جانب زيادة حالات الأمراض العصبية وحالات الانتحار لدى القوات الأمريكية في العراق ، كما أشارت إلى ذلك التقارير ، وإلى جانب الصعوبات المتزايدة في تحديد مدة التطوع وتجنيد متطوعين جدد ؛ حيث يواجه الجيش الأمريكي نقصًا في عدد المتطوعين المطلوبين ، رغم تسهيل الشروط المطلوبة في المتطوعين ورغم تمديد سنّ التطوع .
وتشير إحصائيات (البنتاغون) إلى أن حالات الطلاق بين منسوبي القوات العاملة في الخارج ولاسيّما في العراق وأفغانستان تزايدت بشكل غير مسبوق في عامي 2004 – 2005م إذ بلغت في 2004م (10477) حالة وفي عام 2005م (8376) حالة . مما جعل وزارة الدفاع تخصّص 3,5 مليون دولار للإنفاق على برنامجين للحفاظ على تماسك أسر العسكريين من الانهيار. ناهيك عن الـ (16000) مصاب الذين فقدوا معظم أطرافهم في حرب لم تكن أمريكا مضطرة لخوضها بل اختارت الإدارة شنّها استنادًا إلى ذرائع زائفة تمامًا .
وذلك إضافةً إلى حالات الهزيمة النفسية المتزايدة بين المجندين الأمريكيين . وقد كان الأمريكان المسؤولون يظنون أن جيشهم يقوم بنزهة في بلدان العالم الثالث ولاسيما دول العالم الإسلامي، وأن الأمر لايعدو كونه تمرينًا طالما تمرّسوا عليه، وأن التكنولوجيا والقوة البريّة والبحريّة والجويّة إلى جانبهم ؛ فلا داعي للمخافة ولا مبرر للذعر ولامبعث على تصوّر مسبق للخسائر ، وإذ بهم يتفاجأون بأنّ إنسانًا عاديًّا لايرتدي سوى ثوب ممزق ، ويحمل كلاشنكوف لايتعدّى ثمنه 10 دولارات قادر على قتل عدد من الجنود الأمريكيين ، وكان قد كلّف كل واحد منهم نحو 30 ألف دولار في كل من التجهيز والتسليح والتدريب والحماية . مما أدّى إلى تفشّي الهزيمة النفسية لديهم . وتلك هي إحدى المشاكل المعقدة المقلقة التي تصيب الجيش الأمريكي . وقد سمّت وزارة الدفاع (البنتاغون) هذه الحالة بـ"مرض اضطرابات ما بعد صدمة الضغوط".
ومما يزيد الجيش الأمريكي العامل في العراق يأسًا وإحباطاً ، عدم إيمانه بعدالة القضية .. الاعتقاد الذي قد رسخ لديه أخيرًا رسوخًا لن يقبل استئصالاً ؛ حيث يرى كثير من الجنود أنهم دُفِعُوا إلى حرب ظالمة غير عادلة ؛ ولذلك ما إن انتهى عقدهم حتى رفضوا العودة للخدمة من جديد ، رغم جميع الإغراءات الماديّة الباهظة . وأكّدت التقارير أن 30? من الجنود الجدد يتركون الخدمة خلال ستة شهور فقط .
ويؤكّد الطب النفسيّ في تقاريره أن الفضائح الأخلاقية والقانونية والاعتداءات الوحشية والتعذيبات الجسدية التي تتناول بها الجنود الأمريكيون العراقيين في السجون والمعتقلات ترجع أصلاً إلى الحالة النفسية المردية التي تعانيها هي من شدّة الضغط النفسي والشعور الزائد باللاهدف الذي تُدَفْع هي إليه دفعًا وتُرْغَم للتوصّل إليه على كره منها . كما أن كثيرًا من هذه الفضائح اُرْتُكِبت بتعمد وتخطيط من المسؤولين رفيعي المستوى ، كما أكدت الجهات والأفراد الذين عبروا محيطَ التحقيقات الطويلة بهذا الشأن.(/5)
والذعر النفسي الدافع للهروب من الخدمة لم يَتَفَشَّ بين الجنود الأمريكان وحدهم ، بل أخذ بتلابيب الجنود البريطانيين أيضًا ؛ فقد أكدت هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية فرار أكثر من ألف عسكري بريطاني منذ بدء الحرب على العراق . ومن بينهم 377 جنديًّا فروا من الخدمة خلال عام 2005م ومازالوا متغيبين بينما تغيب منذ مطلع 2006م حتى الآن 189 جنديًّا . وقتل من الجيش البريطاني منذ بدء الحرب 111 جنديًّا من أصل 7200 جندي منشورين في العراق يَتَمَرْكَزُون أصلاً في البصرة .
أمّا الخسائر في المُعَدَّات الحربية ، فقد بلغت حدًّا هائلاً . فقدت (60) طائرة هيلوكوبتر من أنواع مختلفة ، إلى جانب عدد غير قليل من طائرات استطلاع أسقطتها المقاومة العراقية . وأكثر من (1000) آليّة بأنواعها ، وعربات مصفحة ، وسيارات شحن ، وغيرها دمّرتها المقاومة العراقية . وهذا ما اعترفت به "البنتاغون" أما التقارير غير الرسميّة ، فإنّها تشير إلى عدد أكبر من هذا العدد في كل نوع من أنواع المعدات والأسلحة .
هذا إلى جانب ما فقدته أمريكا من ذهاب ريحها ،وضياع اعتبارها ، وماء وجهها – إن كان في وجهها ماء – حيث أثار ما مارسته قواتها من الإذلال والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية مع السجناء العراقيين في سجون أبي غريب والسجون السريّة خارج الولايات المتحدة و"جوانتانامو" استياءً عالميًّا ضد أمريكا واستياءً لدى القطاع العريض من الأمريكيين ذوي الضمائر الحيّة . وهو أمر جعل سجل الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان سجلاًّ منافسًا لسجلات أسوأ الدكتاتوريّات في العالم ، حتى ما وَسِعَ الرئيسَ الأمريكي السابق "جيمي كارتر" إلاّ أن فضح هذه التجاوزات الأمريكية في مقال بعنوان "ليست هذه أمريكا التي أعرفها" .
وها هي ذه استطلاعات الرأي العام في أمريكا تشير باستمرار إلى تدهور شعبية "بوش" الابن وحزبه . حتى عادت بعض الصحف والمجلات الأمريكية والبريطانية تتساءل : هل بدأت أمريكا "مرحلة الأفول" كقوة عظمى . وتقول مجلة "الإيكونوميست" في مقال تحت عنوان "محور الضعفاء" : إن الإخفاق في العراق والمشاكل الداخلية في أمريكا وبريطانيا حوّلت بوش وتوني بلير من صقرين محلِّقَين إلى بطتين عرجاوين . وتراجعت شعبية بوش إلى 31? بينما كانت لدى احتلال بغداد 80? ويقول المحللون : إن مفهوم "القوة التي لاتُقْهَرُ" لم يعد قائمًا ، وإن أمريكا تشعر بحق اليوم أن العالم أصبح حروناً ولم يعد يستجيب لرغباتها ، وأن قدرتها على تشكيل العالم حسب هواها مجرد وهم.
على كل فأمريكا اليوم بعد كل هذه الخسائر التي لحقتها – وما سيلحقها منها لن يقل عنها – لم تحقق أمنًا لنفسها فضلاً عن غيرها . إنّها جعلت العالم كلَّه محورًا للأخطار ومجالاً للصراعات ، ومكانًا للمخاوف التي لايدري مداها إلاّ الله ، و وَرَّطَت العالم على الرغم منه في معركة كانت هي وهو في غنى عنها ؛ ولكنها تلاعبت بالتهويل ، ولَوَّحَت بالتخويف ، وكبّرت الأخطار الوهميّة ، وخلقت المبررات لخوض حرب ضدّ عدوّ غير مرئي ، ولتحقيق هدف غير واضح، وبوسائل جهنميّة، ونفقات باهظة كَلَّفت الخزانة الحكومية وجيوبَ الشعب الأمريكيّ الكثيرَ الكثيرَ الذي لو وُفِّر لساعدها على تحقيق تقدّم أكثر ، وإنجازِ خير أكبر، وتوفير أمن أوسع ، وصناعة رخاء أشمل ، وكسب صداقة أمتن مع العالمين الإسلامي والعربيّ ، وإيجاد فرص أكثر لإقامة علاقات أوثق تجاريّة واقتصاديّة مع الدول المالكة لموارد النفط والثروات الطبيعيّة ، ولتحويل معظم أعدائها أصدقاء ، في إطار الأهداف المشتركة ، والقضايا الثنائيّة .
إنّ أمريكا وعملاءها في العراق من المعتلين كراسيَّ الحكم المتكسرة منذ اليوم الأول والمنتمين إلى قطاع الشيعة يرقصون اليوم بمقتل أبي مصعب الزرقاوي يوم 7/ يونيو 2006م (الأربعاء : 10/ جمادى الأولى 1427هـ) كأنهم حقّقوا الانتصار النهائي ، وصَفَّوْا المقاومة، واستأصلوا كل جذر من جذور المعارضة ، وكسبوا العراق كلَّه لصالحهم . مثلما رقصوا لدى سقوط بغداد ؛ حيث بالوا على تمثال صدام حسين وعلّقواعليه الأحذيةَ ، وكأنهم دخلوا الجنّةَ ونعموا بنعيمها ؛ ولكن سرعان ما اكتشفوا أنهم استسمنوا ذا ورم ، ونفخوا في غير ضرم ، وأنهم حسبوا السراب ماءً .
وكذلك في قضية الزرقاوي علموا عاجلاً أن المقاومة لم تضعف ، وأن الشعب العراقي الغيور لن يرضى بأقل من تحرير العراق كله وطرد الكلاب الأمريكية من دياره عن آخرها، وأن مصيبة أمريكا لا تنحصر في فرد أو جماعة وإنما المصيبة كامنة في الشعب العراقي جلّه إن لم تكن في كله ، فهل تبيده أمريكا بأسره ؟ شيء لاتقدر عليه بقوة الحديد والنار ، كما لم تقدر عليه أيُّ قوة غاشمة في التأريخ البشري .(/6)
هذه الخسائر وغيرها ، الماديّة والمعنوية ، الموقتة والدائمة ، هل كانت أمريكا تحتسبها كقوة متقدمة لا تخطو خطوة إلاّ عن تخطيط مسبق ، أم كانت لاتحتسبها ، وإنما كانت تحتسب أنها مقبلة على رحلة نزهة ؟ في كلتا الحالتين تُعَدُّ سفيهةً ولاتُعَدُّ حازمةً ؛ فهي كما قال الشاعر :
فَإِنْ كُنْتَ لاَتَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيْبَةٌ
وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالْمُصِيْبَةُ أَعْظَم
إنّ كثيرًا من المحللين والخبراء السياسيين يرون أنّ "بوش" كان جاهلاً بالأمر الواقع جهلاً مطبقًا ، وأنّه كان لايعرف حقيقةَ الحال فيما يتعلق بتفجيرات 11/9/2001م ، وأنه كان يجزم بأن القاعدة هي التي نفّذتها وأن اليهود لايد لهم فيها ، وأنه دُفِعَ إلى الحرب في أفغانستان والعراق دفعًا من قبل اليهود ، وأن اللوبي الصهيوني في الإدارة الأمريكية هو الذي دفعه بقوة واستماتة في اتجاه الحرب . وقائلُ ذلك المفكر الأمريكي "مايكل كولينز بايبر" وهذا الرأي هو الذي أيّده عدد من المفكرين وأساتذة التأريخ في أمريكا ؛ فيقول البروفيسور "شرويدر" أستاذ التأريخ بجامعة إلينوي: "بالتأكيد تم دفع خطة غزو العراق بقوة على أيدي عدد من ذوي النفوذ المؤيدين لإسرائيل من شاكلة الصقور الجدد داخل الإدارة وخارجها" وبنفس الكلمات أيّد الرأي كل من "ريتشارد بيرل" و "بول وولفويتز" و "وليم كريستول" وآخرون . وأيّدت الرأيَ دراسةٌ جماعية مشتركة موثقة أصدرها خبيران أكاديميان بارزان في جامعتي "هارفارد" و "شيكاغو" فقالت : "إن أمريكيين موالين لإسرائيل هم الذين وَرَّطُوا أمريكا في مستنقع العراق ... إن سياسة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ، تخدم إسرائيل ولاتخدم المصالح الأمريكية لاعلى المدى القريب ولا على المدى البعيد" . (رسالة الإخوان ، العدد 464: الجمعة 12/5/1427هـ = 9/6/2006م) .
وعندما يؤيّد كاتبُ هذه السطور الرأيَ بأن اليهود كانت لهم يد في تهيئة أمريكا وبالذات بوش وزمرته المجرمة في إدارته لشنّ الحرب على العراق ، فإني لا أؤيّد أن بوش كان جاهلاً بحقيقة الأمر؛ لأني أعلم في ضوء الوثائق والمستندات أنّ بوش بدوره ممن يُصَنَّفُون ضمن "اللوبي الصهيوني" رغم أنه معروف بأنّه مسيحيّ ؛ حيث أكدت المصادر أن بوش يؤمن بأن قيام دولة إسرائيل الكبرى هو الذي يُعَجِّل نشأة المسيح عليه السلام الثانية وقيامه بدوره الجديد نحو مسؤولياته النبويّة ، مما يمهد السبيل لسيادة المسيحيين في العالم وتغلّبهم ووصايتهم على الأمم ؛ فأعتقد جازمًا أنه كان على علم بتفجيرات 9/11/2001م وإن لم يكن على علم بها ، فإنّه علم بها فيما بعد عاجلاً ؛ ولكنه لم يتخذ إجراءً جديًّا لمؤاخذة اللوبي اليهودي ، ثم إنه ظلّ يذعن لتوجيهاته اللاحقة فيما يتعلق بكل الحماقات أو الويلات التي مارسها ضدّ الإسلام والمسلمين . كما أني أعتقد جازمًا أن شن الحرب ضد كل من أفغانستان والعراق كان ضمن مخطط بوش من ذي قبل التفجيرات ؛ ولكنها – تفجيرات 9/11/ – استعجلته شنَّ الحرب ، وربّما كانت لتتأخر قليلاً أو كثيرًا إذا لم تقع . على أنّ بوش كان بدوره مُتَعَجِّلاً بشأن ضرب العراق والإطاحة بصدام حسين ؛ لأنّه كان مُتَطَلِّعًا للغاية إلى تصفية الحساب وأخذ الثأر من صدام وعائلته كلها ؛ لأنها كانت قد حاولت اغتيال والده (جورج بوش الأب) أثناء زيارته للعراق ؛ ولأن صدام حسين جعل من صوره – بوش الأب – مماسح أحذية في مداخل عدد من الفنادق والمباني الحكومية الرئيسة شفاءً لأذاه النفسي الذي ناله منه عندما ألّب العالم ضدّه وأرغمه على الخروج من الكويت التي كان قد احتلّها وأصرّ على ضمها إلى العراق كمحافظة من محافظاته .
فكلُّ الخسائر التي تلحق أمريكا لاتهمّه – بوش – فضلاً عن أن تهمه الخسائر الكثيرة الفظيعة التي يذوقها المسلمون والعرب في الأرواح والممتلكات والمعدات ، والحرث والنسل، والحضارة والتأريخ ، وموارد الرزق ، ووسائل الحياة . أَضِفْ إلى ذلك ماقاله بوش إثر التفجيرات من أنه رائح إلى خوض "حرب صليبية" . أي حرب تمهد لقيام إسرائيل الكبرى فقيام دولة المسيحيين التي يرعاها السيد المسيح عليه السلام. وذلك لا يتأتى كما يعتقد وكما تعتقد اليهود إلاّ بتدمير العرب والمسلمين والدول التي تضمّهم في المناطق المتلاصقة وتؤيدهم في المناطق المتباعدة ، وابتلاع الأراضي الإسلامية العربية ، وإقامة دولة إسرائيل العظمى من النيل إلى الفرات .(/7)
يُضَافُ إلى ذلك – لكي تتصل الحلقات وتتكامل السلسلة في شأن ما نحن بصدد إبانته من أن بوش صليبي وصهيوني في وقت واحد وأنّه ألعوبة في أيدي اليهود عن رضا منه وطواعية ، وعن وعي كامل وشعور لا مزيدَ عليه – أن بوش قد زعم ، حسبما نشرته وسائل الإعلام ، وقد كتب عنه كاتبُ هذه السطور في هذه الزاوية ، في هذه الصفحات نفسها ، في العدد 11 من السنة 29 الصادر في ذي القعدة 1426هـ الموافق ديسمبر 2005م ، بعنوان "ساعة مع القديس بوش" .. زعم في حزيران 2003م في مكتبه بالبيت الأبيض أمام مسؤولَين فلسطينيَّين كبيرَين هما : محمود عباس ونبيل شعث أن الرب طلب منه – بوش – اجتياح كل من أفغانستان والعراق . أتحرّك بموجب رسالة من الرب .. يقول لي الرب : جورج ! ضَعْ حدًّا للتسلط في العراق وأفغانستان .. وهذا ما فعلتُه .. والآن مُجَدَّدًا أشعر برسالة الربّ : جورج ! وَفِّر للفلسطينيين دولةً ، وللإسرائيليين أمنًا ، وأَقِمِ السلامَ في الشرق الأوسط .. وسأفعل ذلك".
إنّ هذا الهذيانَ البوشيّ يؤكّد أن بوش عازم على إقامة دولة إسرائيل الكبرى ، وخادم وفيّ لمصالحها ، وأنه صانع في سبيل ذلك كل ما يعنّ له ، من ظلم وبطش ، وإهلاك للحرث والنسل، وإبادة لمن يراه يعترض سبيلَه هذا . وقد جعلته اليهود يعتقد جازمًا أن المسلمين إرهابيّون ، ودينهم مصدر الإرهاب ، وتعاليمهم تلقِّن الإرهاب ، وقرآنهم وحديثهم لاينتجان إلاّ الإرهابيين ، وأن نبيهم كان أوّلَ معلم للإرهاب. وأنّ الإرهاب معناه معاداةُ اليهود الظَّلَمة والصليبيّين المتكبّرين .
من هنا ، إنّه لم يدخل أفغانستان ليخرج منها عاجلاً وبالسهولة التي يظنّها بعض السذّج، ولم يحتلّ العراقَ لكي يتخلّى عنه لصالح العراقيين دون أن يمكث فيه لمدة طويلة يحقق خلالها جميع الأغراض الصليبية الصهيونية ، ويتشبّع تدميرًا له على جميع الأصعدة ومن كل الوجوه ، ويقتّل من الإنسان العراقي العددَ الذي يراه قد أرضى شهوته الصليبية ، وهواه الصهيوني ، ويقيم فيه حكومةً تظل عميلةً وفيّةً له وفاءَ الكلب لسيده الذي ألقى إليه كسرةَ خبز بائتة عادت غير قابلة للأكل ، وعظمًا منهوشًا منه كلُّ شيء عليه من اللحم الذي قد تَسَنَّهَ !، ويقوم فيه باتخاذ ترتيبات ثابتة لنهب خيراته ، وسلب ثرواته ، والسيطرة على نفطه تسعيرًا وتسويقا ، وتحديدًا للسقف الإنتاجي ، وتعيينًا للزبائن ، وما إلى ذلك من الأغراض الكثيرة والأهداف الخبيثة التي أملاها عليه اليهود ، وحَلَتْ لديه هو .
وتجلّى من ذلك كلّه أن بوش لايعير للخسائر وزنًا ، حتى ولو لحقت أمريكا نفسها ، إلاّ أن يأتي الوقت الذي يقوم فيه شعبه ضدّه ، ويقول له : رُحْ وتخلّ عن هذا المنصب الرئاسي الذي دَنَّسْتَ عفّته بتصرفاتك الخرقاء التي تكاد تطال بشرّها المستطير ليس أمريكا فقط ولكن العالم كله .
فكيف به أن يقيم وزنًا للخسائر التي تلحق العراق والشعب العراقي ، ويمتد لهيبها للعالم الإسلامي والمناطق كلها والدنيا بأسرها ؛ إلاّ يقوم العالم – إذا كان لديه ضمير يقظ – ويقول له : اِنْتَهِ من اللعب بالنار التي تكاد تحرق بلادك وشعبك ودول العالم وتترك الدنيا خرابًا يبابًا . انْتَه من الوحشية التي سئمناها ، والتعذيب البشري الذي نكاد لانتحمله ، والتقتيل العشوائي للإنسان ، الذي لن نصبر عليه ونحن نُوْصَفُ بالإنسان ، والإذلال غير المسبوق لأفراد بني آدم دونما ذنب إلاّ أنه طالب بممارسة العدل والتعامل بالمساواة ؛ و انْتَهِ من ودوس كرامة الإنسان واغتصاب حقوقه علنًا وجهرًا دونما ذنب إلاّ أنه طالب بحقوقه المشروعية .
ولكنّنا نرى أن الإنسانية كادت تموت لدى معظم أفراد الجنس البشري في هذا العالم الذي يدّعي التنوّر ، وأن الضمير فقد كل شيء اسمه الحياة . من هنا نرى العالم كأنه صامت صمتَ المقبرة ، فلا نرى يحتج ضدّ هذا الكذوب المخادع المحتال الوقح الذي لايندم على هذا المسلسل المملّ من فعلاته الشنعاء ، ولايقول له رجالٌ من ذوي الضمائر الحيّة اختفِ ؛ فلا نودّ أن نرى وجهك الكالح القبيح الذي تراكمت عليه اللعنات ، وعلته الظلمات .
(تحريرًا في الساعة 9:30 من الليلة المتخللة بين الأربعاء والخميس 24-25 من جمادى الأولى 1427هـ الموافق 21-22/ يونيو 2006م)
نور عالم خليل الأميني(/8)
هل صحيح أن القرآن لم يأت بجديد
من الشبهة التي ترددها بعض الألسنة - قديماً وحديثاً - تقول: إن القرآن لم يأتِ بجديد عما جاء في الكتب السابقة!! وهذه الشبهة - كما سيتضح - ذات صلة وثيقة بشبهة سابقة، تقول: إن القرآن ليس إلا تلفيقًا وتجميعًا من الكتب السابقة!! فما حقيقة الأمر في هذه الشبهة، وما خَطْبها ورصيدها من الصحة والواقع؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في هذا المقال.
ولكن...قبل الدخول في تفاصيل ذلك، نود أن نلفت انتباه القارئ الكريم إلى ملاحظتين مهمتين في هذا السياق، حاصل أولهما: أن أصل التوراة والإنجيل حق لا ريب فيه؛ لأنهما من عند الله - سبحانه -، ومن ثَمَّ فلا يمكن لتلك الكتب أن يناقض بعضها بعضًا، بل هي مكملة ومتممة لبعضها البعض؛ بيد أن التوراة والإنجيل - وهذا أيضًا حق وواقع لا يمكن نكرانه بحال - طرأ عليهما الكثير من التحريف والتبديل.فإذا تبين هذا، فإن حديثنا هنا يتعلق بما في التوراة والإنجيل المحرَّفين، واللذين بقيا بين أيدي الناس.
أما الملاحظة الثانية فمفادها أنه مما لا شك فيه أن القرآن جاء مصدقًا ومهيمنًا على ما سبقه من الكتب السماوية؛ ومن معاني الهيمنة أن يكون في القرآن ما ليس في غيره من الكتب. وبناءً على هاتين الملاحظتين، نشرع في الرد على هذه الشبهة، فنقول:
إن الناظر والمتأمل فيما جاء في التوراة والإنجيل، وما جاء في القرآن الكريم، لا يعجزه أن يقف على بطلان هذه الشبهة من أساسها، ويتبين له - مقارنة بما جاء في التوراة والإنجيل - عناصر الجدة التي تضمنها القرآن الكريم، والتي اشتملت على جوانب عدة، كالعقيدة والتشريع والعبادات والمعاملات.
ففي جانب العقيدة - وهو الجانب الأهم والأبرز - نجد أن القرآن الكريم قد جاء بعقيدة التوحيد الصحيحة، إذ أفرد الله - سبحانه - بالعبودية، وبيَّن أنه الخالق والمدبر لكل أمر في هذا الكون من مبتداه إلى منتهاه، وأن مقاليد الكون كلها بيده - سبحانه -، وهذا واضح لكل قارئ لكتاب الله، وضوح الشمس في كبد السماء؛ بينما تقوم عقيدة اليهود المحرَّفة على وصف الخالق بصفات بشرية لا تليق بجلاله - سبحانه -، وفي أحسن أحوالها، تقول بوجود إله حق، إلا أن مفهوم الإله في تلك العقيدة أنه إله قومي، خاص بشعب إسرائيل فحسب.
وكذلك فإن عقيدة النصارى المحرفة تقوم على أكثر من تصور بخصوص الذات الإلهية، ويأتي في مقدمة تلك التصورات عقيدة التثليث، وعقيدة حلول الذات الإلهية في شخص عيسى - عليه السلام -، - تعالى -الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
ثم في مجال العقيدة أيضًا، لا توجد كلمة واحدة في جميع أدبيات الكتب المقدسة - كما يذكر عبد الأحد داود في كتابه "محمد في الكتاب المقدس" - حول قيامة الأجساد، أو حول الجنة والنار؛ بينما نجد القرآن الكريم حافلاً بهذه المسائل، بل جعل الإيمان بها من أهم مرتكزات الإيمان الصحيح.
أما في مجال التشريع، فقد جاء القرآن الكريم بشريعة واقعية، راعت مصالح الدنيا والآخرة معًا، ولبَّت مطالب الجسد والروح في آنٍ؛ ففي حين دعت الشريعة المسيحية إلى الرهبانية، التي تعني اعتزال الحياة وتحقير الدنيا - وكان هذا الموقف من الشريعة المسيحية رد فعل على العبودية اليهودية للحياة الدنيا ومتاعها - رأينا القرآن يذمُّ موقف النصارى من الرهبنة، وينعى عليهم هذا الموقف السلبي من الحياة، فيقول: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} (الحديد: 27) فالشريعة الإسلامية - كما نزلت في القرآن - ترى في الرهبانية موقفًا لا يتفق بحال مع ما جاءت به من الوسطية والتوازن بين حاجات الروح ومتطلبات الجسد.
وهذه الوسطية الإسلامية أمر مطرد وجارٍ في جميع أحكام الشريعة الإسلامية، يقف عليها كل من تتبع أمرها، وعرف حقيقتها، وهذا ما لم يكن في الشرائع السابقة البتة.
وبعبارة أخرى يمكن القول: لقد جاءت شريعة الإسلام بتشريع يواكب الحاضر والمستقبل جميعًا، باعتبارها الرسالة الأخيرة التي أكمل الله بها الدين، وختم بها الرسالات، ونقلها من المحيط المحدَّد إلى المحيط الأوسع، ومن دائرة القوم إلى دائرة العالمية والإنسانية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} (سبأ: 28).
أما في مجال العبادات، فلم يحصر القرآن مفهوم العبادة في نطاق ضيق، ولا ضمن شكليات محددة وطقوس جامدة، بل وسَّع مفهوم العبادة غاية الوسع، وجعل القصد من الخلق والحياة العبادة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) وأيضاً لم يقيِّد أداء العبادة في مكان محدد، بل جعل الأرض كلها مكانًا لذلك {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 115) ولا يخفى أن الأمر في الشرائع السابقة لم يكن على ما جاء به القرآن.(/1)
أما في مجال المعاملات، فنقف على بعض الأمثلة التي توضح جديد القرآن:
- في محيط الأسرة: نظرت التوراة إلى المرأة باعتبارها مصدر كل شر، أما الإسلام فقد رفع مكانة المرأة، ولم يفرق بينها وبين الرجل إلا في مواضع اقتضتها طبيعة الأشياء والأمور، قال - تعالى -موضحًا هذه الحقيقة: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228).
- وفي مجال الحرية واحترام كرامة الإنسان: نجد التعاليم المسيحية تعتبر طاعة الطبقة الحاكمة كطاعة المسيح، ونقرأ في تلك التعاليم مثلاً: أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة. أما في الإسلام، فلا يخضع الإنسان إلا لخالفه وحده، ويقرر القرآن الحرية للإنسان من لحظة ميلاده، قال - تعالى -: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70).
- أما في السلم والحرب: فقد اعتبر القرآن السلام هو الأصل في الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كافة.. } (البقرة: 208) وجعل الحرب ضرورة تقتضيها سَنَن العمران والدفع الحضاري، من الخير للشر، ومن الحق للباطل؛ هذا فضلاً عن آداب القتال التي شرعها الإسلام. وكل هذا لا نقف عليه في الشريعتين اليهودية والنصرانية.
- أما في شؤون المال والاقتصاد: فقد كان الربا وما يزال قوام الاقتصاد بين أهل الكتاب... وكان المال وما زال عند أهل الكتاب المعبود والغاية التي يجب الوصول إليها بأية وسيلة كانت... في حين جاء الإسلام بتحريم كل تعامل ربوي، وآذن القرآن الكريم بحرب من الله لكل من يتعامل به... وبين الموقف الصحيح من المال، وأن الأصل فيه أنه لله، وأن الإنسان في هذه الحياة مستخلف عليه ومحاسب عليه، كسباً وإنفاقاً، قال - تعالى -: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فيه} (الحديد: 7).
والأمثلة على ما تقدم، أكثر من أن يحصرها مقال كهذا، وفيما ذكرنا غنية لما أردنا بيانه. والحمد لله الذي {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى والأَخرة وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص: 70) وصلى الله على خاتم المرسلين.
15/04/2004
http://www.islamweb.net المصدر:(/2)
هل صحيح أنَّ الترابي يحفظ القرآن؟!
الترابي و زواج الكفار للمسلمات د. يوسف الكودة*
أيُّ قراءات سبع تلك التي يحفظ بها أو يقرأ عليها حسن الترابي القرآن، ألم يقف على قوله تعالى في سورة الممتحنة «لا هنَّ حلٌّ لهم ولا هم يحلون لهنَّ»، والتي نزلت بعد صلح الحديبية ناسخةً ما كان من جواز وحل لغير المسلم زواجه من المسلمة ولتقرر حكماً جديداً وهو أن لا يجوز بتاتاً أن يتزوَّج الكافر المسلمة.
قال ابن كثير وغيره من المفسرين ج/4/ص499: «هذه الآية «لا هنَّ حلٌّ لهم ولا هم يحلون لهنَّ» هي التي حرَّمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوَّج المشرك المؤمنة، ولهذا كان ابو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها قد كانت مسلمة وهو على دين قومه فلمَّا وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب رضي الله عنها في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رقة شديدة وقال للمسلمين: «إن رأيتم تطلقوا لها أسيرها فافعلوا» ففعلوا فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه فوفى بذلك وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد واقعة بدر، وكانت سنة اثنتين إلى أن اسلم زوجها ابو العاص بن الربيع سنة ثمانٍ فردها عليه بالنكاح الأول ولم يحدث لها صداقاً». أ.هـ. كلام ابن كثير في تفسيره.
انظر أيها القارئ الكريم إلى قصة زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم وزوجها ابو العاص بن الربيع وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يردها إليه عندما كان مشركاً سنة اثنتين ولم يعدها إليه كزوجة مرة أخرى إلا سنة ثمانٍ وبعد أن أسلم.. ثم يأتي بعد ذلك الترابي ليقل إن زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تتزوج مشركاً مما يدل أن المشرك أو الكافر عموماً يجوز له أن يتزوج المسلمة.. وحقيقة انني كنت أظن أن الترابي يقصد بجوازه هذا اهل الكتاب ولا يُدخل فيه المشركين، ولكن لمَّا استدل الترابي بقصة زينب التي كانت تتزوج من مشرك وليس من اهل الكتاب علمت أن الترابي يجيز زواج الجميع أي جميع الكفار من المسلمات مع أن المنع يشمل جميع الكفار مشركين واهل كتاب، وذلك لما جاء في تفسير التحرير والتنوير ج/1/ص 62 يقول: «وقوله «ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا» تحريم لتزويج المسلمة من المشرك، فإن كان المشرك محمولاً على ظاهره في لسان الشرع، فالآية لم تتعرض لحكم تزويج المسلمة من الكافر الكتابي فيكون دليل تحريم ذلك الاجماع، وهو إما مستند الى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم، وإما مستند الى تضافر الادلة الشرعية كقوله تعالى «فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حِلٌّ لهم ولا هم يحلون لهنَّ»، فعلق النهي بالكفر وهو أعم من الشرك، وقوله «حتى يؤمنوا» غاية للنهي وأخذ منه أن الكافر إذا أسلمت زوجته يفسخ النكاح بينهما ثم إذا أسلم هو كان أحق بها ما دامت في العدة. أ.هـ.
وإليك ما قاله المفسرون في ذلك حتى يعلم الجميع أن ما قاله الدكتور حسن لم يسبقه عليه من يعتد بكلامه.
* تفسير ابن كثير ج/4/ص499
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله تعالى «لا هنَّ حِلٌّ لهم ولا هم يحلون لهنَّ» يقول: «هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين وقد كان جائزاً في ابتداء الاسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان ابو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها قد كانت مسلمة وهو على دين قومه». أ.هـ
ومعلوم انه بعد ذلك طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ابي العاص بن الربيع مفارقة ابنته زينب، وقد فارقها بالفعل سنة اثنتين ثم ردها اليه عام ثمانٍ بعد أن أسلم بالنكاح الأول ولم يحدث لها صداقاً وهذا مصداقاً لقوله تعالى «فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هنَّ حلٌّ لهم ولا هم يحلون لهنَّ».
* تفسير فتح القدير للشوكاني ج/5/ص 301
ويقول الشوكاني في تفسيره فتح القدير في قوله تعالى «فلا ترجعوهن إلى الكفار» يقول: «أي إلى أزواجهن الكافرين».. وجملة «لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن» تعليل للنهي عن إرجاعهن وفيه دليل على أن المؤمنة لا تحل لكافر وأن اسلام المرأة يوجب فرقتها عن زوجها لا مجرَّد هجرتها، والتكرير لتأكيد الحرمة والاول لبيان زوال النكاح والثاني لامتناع النكاح الجديد.
* تفسير البغوي ج/1/ص96-99:(/1)
ويقول البغوي في تفسيره: «قال ابن عباس: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه إليه، وكتبوا بذلك كتاباً وختموا عليه، فجاءت سُبيعة بنت الحارث الاسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب فأقبل زوجها -مسافراً من بني مخزوم وقال مقاتلاً-، صيفي بن الراهب في طلبها وكان كافراً فقال: يا محمد رد عليَّ امرأتي فإنك قد شرطت ان ترد علينا من اتاك منا وهذه طينة الكتاب لم تجف فأنزل الله عز وجل «يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات» يعني من دار الكفر الى دار الاسلام»، وقوله تعالى: «فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن»، يعني ما احل الله مؤمنة لكافر ثم يقول رحمه الله «وأباح الله نكاحهن للمسلمين وإن كان لهن ازواج في دار الكفر لان الاسلام فرق بينهن وبين ازواجهن الكفار».
ويقول قال الشعبي: «وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأقام ابو العاص بمكة مشركاً ثم أتى المدينة فأسلم فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم». أ.هـ
* تفسير البيضاوي ج/1/ص328
وقد جاء في تفسير البيضاوي «فلا ترجعوهن إلى الكفار»: أي الى ازواجهن الكفرة لقوله تعالى «لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن» والتكرير للمطابقة والمبالغة، والأولى لحصول الفرقة، والثانية للمنع عن الاستئناف»، ثم يقول: «وكان بعد الحديبية إذ جاءته سُبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة فأقبل زوجها مسافر طالباً لها فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت فأعطى زوجها ما انفق وتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه»، ويقول رحمه الله في تفسيره في قوله تعالى «ولا جناح عليكم ان تنكحوهن» فان الاسلام حال بينهن وبين ازواجهن الكفار».
أ.هـ كلام البيضاوي في تفسيره.
* تفسير الوجيز للواحدي ج/1/ض109
ويقول صاحب الوجيز في قوله تعالى «فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن الى الكفار»، ويقول: «لان المسلمة لا تحل للكافر»، وقوله «ولا جناح عليكم ان تنكحوهن إذا آتيتموهن اجورهن»، يقول: «وإن كان لهن أزواج كفار في دار الاسلام لان الاسلام أبطل تلك الزوجية».
* تفسير أبي السعود ج/2/ص 163
وقد تحدث ابو السعود في تفسيره حديثاً مطولاً خلص منه بالتحريم بقوله: «فلأن تنقطع ما بين المهاجرة وزوجها احق وأولى كما يفصح عنه قوله عز وجل «فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن الى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن».
* تفسير الدر المنثور ج/8/ص 132
يقول صاحب الدر المنثور: «واخرج عبد بن حميد عن عكرمة رضي الله عنه قال: «خرجت امرأة مهاجرة الى المدينة فقيل لها: ما اخرجك بغضك لزوجك، إم إردت الله ورسوله؟ قالت: بل الله ورسوله فأنزل الله «فان علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن الى الكفار» فان تزوجها رجل من المسلمين فليرد الى زوجها الاول ما انفق عليها» أ.هـ
* تفسير النسفي ج/4/ص 239
يقول صاحب التفسير: «فان علمتموهن مؤمنات العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بظهور الامارات فلا ترجعوهن إلى الكفار فلا تردوهن الى أزواجهن المشركين لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن: أي لا حل بين المؤمنة والمشرك لوقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة». أ.هـ
* تفسير روح المعاني ج/28/ص 75
ويقول صاحب روح المعاني «فلا ترجعوهن الى الكفار اى الى ازواجهن الكفرة لقوله تعالى «لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن» فانه تعليل للنهي عن رجوعهن اليهم والجملة الاولى لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الاول، والثانية لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل من النكاح ويشعر بذلك التعبير بالاسم في الاولى والفعل في الثانية ثم يقول صاحب التفسير: «وأسند الفعل إلى ضمير الكفار ايذاناً بان ذلك الحكم مستمر الامتناع في الازمنة المستقبلة لكنه قابل للتغير باستبدال الهدى بالضلال». أ.هـ. كلام روح المعاني.
فتأمل ايها القاريء ولاسيما عند قوله «لكنه قابل للتغير باستبدال الهدى بالضلال».
* تفسير زاد المسير ج/8/ص 237
ويقول صاحب زاد المسير: «وهذه الآية نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن ابي معيط وهي اول من هاجر من النساء الى المدينة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت المدينة في هدنة الحديبية فخرج في إثرها اخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة فقالا: يا محمد أوف لنا بشرطنا وقالت أم كلثوم: يا رسول الله انا امرأة وحال النساء الى الضعف ما قد علمت فتردني الى الكفار يفتنوني عن ديني ولا صبر لي» فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتحن النساء بعدها فلم يردهن الى اهليهن وقد اختلف العلماء في المرأة التي كانت سبباً لنزول هذه الآية على ثلاثة أقوال.
* تفسير الطبري ج/12/ص 64(/2)
ويقول الطبري رحمه الله تعالى في قوله تعالى «ولا جناح عليكم ان تنكحوهن اذا اتيتموهن اجورهن» يقول «ولا حرج عليكم ايها المؤمنون ان تنكحوا هؤلاء المهاجرات اللاتي لحقن بكم من دار الحرب مفارقات لازواجهن وإن كان لهن ازواج في دار الحرب اذا علمتموهن مؤمنات»، ويقول الطبري رحمه الله «لانه فرق بينهما الاسلام».
* تفسير الكشاف للزمخشري ج/1/ص1247
ويقول الزمخشري في تفسيره الكشاف في قوله تعالى «فلا ترجعوهن الى الكفار» فلا تردوهن الى ازواجهن المشركين لانه «لا حل بين المؤمنة والمشرك».
* تفسير التحرير والتنوير ج/1/ص 620
ويقول صاحب التحرير والتنوير في قوله تعالى «ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا» تحريم لتزويج المسلمة من المشرك فان كان المشرك محمولاً على ظاهره في لسان الشرع فالآية لم تتعرض لحكم تزويج المسلمة من الكافر الكتابي فيكون دليل تحريم ذلك الاجماع وهو اما مستند الى دليل تلقاه الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم وتواتر بينهم واما مستند الى تضافر الادلة الشرعية كقوله تعالى «فلا ترجعوهن الى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن» فعلق النهي بالكفر وهو أعم من الشرك وان كان المراد حينئذ المشركين، ثم يقول صاحب التحرير والتنوير: «والتفصيل للنهي في قوله تعالى «فلا ترجعوهن الى الكفار» تحقيقاً لوجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر» أهـ.
* تفسير تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص 952
يقول الشيخ السعدي في تفسيره: «وان امتحنوهن فوجدن صادقات او علموا من ذلك منهن من غير امتحان فلا يرجعوهن الى الكفار «لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن»، وهذه مفسدة كبيرة راعاها الشارع وراعى إيضاً الوفاء بالشرط بأن يعطوا الكفار أزواجهن ما انفقوا عليهن من المهر وتوابعه عوضاً عنهن ولا جناح حينئذ على المسلمين ان ينكحوهن ولو كان لهن ازواج في دار الشرك، ولكن بشرط انه يؤتوهن اجورهن من المهر والنفقة ثم يقول الشيخ رحمه الله:
«وكما أن المسلمة لا تحل للكافر فكذلك الكافرة لا تحل للمسلم ما دامت على كفرها غير أهل الكتاب ولهذا قال تعالى «ولا تمسكوا بعصم الكوافر». أ.هـ.
* ختام:
هذا ما ورد في كتب التفاسير من علماء هذه الامة نجد فيه الاجماع واضحاً من جميعهم خلافاً لما يذكر الترابي ويذهب، واذا كان التحريم كله انحصر في النهي عن ارجاعهن للكفار بعد اسلامهن فلأن يحرم العقد ابتداءً ولا يحل أوضح وأظهر، أي لا يجوز بحال أن يعقد كافر على مسلمة.
والله المستعان.
------
نشر المقال في جريدة الصحافة العدد رقم: 4614 2006-04-13(/3)
هل عاد هولاكو وابن العلقمي !(1)
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
ما لي أَرى في سَاحِكِ اليَومَ اللصو ... ... صَ تناثروا نهباً لكلِّ مكانِ
أبَنوكِ يا بغدادُ أضحوا فِتَنةً ... ... نَهبوا روائعَ مجدِهمْ ومغاني
نهبوا جمالك ! دنّسوه ! وأَنتِ في ... ... بَلْوى وحَوْمةِ مَعْركٍ وطِعانِ
هذا يبيع بلاده بِدُرَيْهمٍ ... ... وسِواه يلْهث للرخيص الفاني
" دار الكتاب " غدت هنالك نُهْبَةً ... ... للمجْرمينَ وطُعْمَةَ النيرانِ
حملتْ ذخائرَ أُمّة وتراثَها ... ... فتبَدَّدت في لحْظة وثوَانِ
" والمتحفُ الوطنيّ " ! أيُّ جَريَمةٍ ... ... دَهمتْهُ مِن جَهْلٍ ومن كُفْرانِ ؟!
مَنْ كانَ يدفع هؤلاءِ لنَهْبِهِ ... ... من فَتّح الأَبَوابَ للْهيَجانِ ؟!
مَنْ باتَ ينظُرَ للّصوص كأنّهُ ... ... لاهٍ ! فمن باغٍ ومن جَذلانِ ؟!
مَنْ أَطْلَقَ الفَوْضى لَينْشُرَ فِتْنَةً ... ... فِيْهِمْ فَمِنْ صُمٍّ ومِنْ عُمْيانِ ؟!
فَهُمُ العتاةُ المجرمون سَطَوْا على ... ... تلك الكنوز وثَرْوَةٍ ومَغَانِ
سَرَقُوا الدِّيار جميعها يا ويْلَهم ... ... مِن كِبْر إِجرامٍ ومن بُهتَانِ
كذبوا على الدُّنيا وسَار خِداعُهُم ... ... في الناس فِرْيةُ مُجْرِمٍ فتّان
فَهُمُ اللصوص المُفسِدُون الأرضَ بال ... ... إجْرام في شَرَهٍ وفي إمعانِ
الناشِرون لشَرِّ كلّ رذيلة ... ... المانعون فَضَائِل الإِحسانِ
إِنْ أقْبَلوا فَلِفِتْنَةٍ أو أَدْبَروا ... ... فلِفِتْنَةٍ تطغَى وشَرِّ أَمانِ
كَمْ عُصَبةٍ مِنْهم تنازَعُ بالهَوى ... ... شَرّاً على طَمَعٍ وسُوء تفانِ
فإذا تَلاقَوْا يا لِشَرِّ مُصِيبَةٍ ... ... نَزَلَتْ على الدُّنيا وشَرٍّ دَانِ
وإِذا تنازَعَتِ النّفوسُ غنيمةً ... ... فمخالبٌ وثبَتْ ونَابٌ قانِ
كم عصبة بالأمس كانت تدّعي ... ... شَرَفاً وتُنْكِر سَوْءَة العُدْوان
ومضى يُصرُّ على الجريمة ظالمٌ ... ... وهَوىً من الأَتباع والأعوان
حتى إِذا قَنصُوا الخِيانَة بينَنَا ... ... ومَضَوا إلى غَلَبٍ وخِدْعةِ شانِ
عادت مَخالِبُهُمْ جَميعاً تَلتَقي ... ... فوق الفريسة في خداع بيانِ
فإِذا جَميعُهُمُ ذئِابٌ أْطبَقتْ ... ... تَعْوي وتنهش نهشة الذئبان
* * * ... ... * * *
هل عاد "هُولاكُو" مع "ابْن العَلْقمي" ... ... والحِقدُ في لَهَبٍ وفي جَيَشانِ
لَهْفي على بَغْدادَ ! كَمْ مِنْ مجْرِمٍ ... ... أفْضى إلَيْكِ بِفتْنَة الطغيانِ
للعلقميِّ اليومَ أَبْنَاءٌ أتوا ... ... شَقّوا " لهولاكو " دروبَ أمانِ
عصفوا بمجدك والثراثِ وأقبلوا ... ... فِرَقاً تنازعُ شهوةَ السلطانِ
* * * ... ... * * *
وتلفّتت بغداد تسأل أين من ... ... غضبوا ومن ثاروا وأين الجاني ؟!
أين العروبة إن دَعَوتُمْ حَبْلها ... ... ما عاد حبلٌ للعروبة دانِ
أين التقاة المسلمون وعهدهم ... ... وعُراً موثَّقَةٌ وحَبْل أمانِ
أرضُ العراق لأُمَّة الإسلام ليـ ... ... ـسَتْ للغزاة ولا لِمَطْمعِ جَانِ
مازال يَهْتِفُ في الرُّبُوع مُؤَذّنو ... ... ن مُكَبِّرون ويهتِفُ الحَرَمانِ
" الله أكْبَر " لم تَزلْ صَفْوَ الندا ... ... ءِ لأَكْبُدٍ ولأضْلعٍ ولسانِ
ولأُمّةٍ ممتدَّة لا تنثني ... ... أبَداً تشق معامع الحدثانِ
* * * ... ... * * *
وتلفّتت بَغْدادُ تَنْظر في الدِّيا ... ... رِ ! فهلْ تُمَدُّ من الدّيار يدانِ
فإذا ربا الأقصى دموعٌ فُجِّرتْ ... ... لِتَقولَ يا بَغدادُ شانُك شاني
وإذا دمشقُ أسى يضجّ ولهفةٌ ... ... ومدامعٌ وعواصفُ الأشجانِ
والنيلُ كلُّ مياهِهِ شَكْوى تضـ ... ... ـجُّ ولوعةٌ وتزاحمُ الأحزانِ
كلُّ الدّيار كأنها فُجِعَتْ بنا ... ... زلةٍ وحُرْقةِ أَضلعٍ وجَنانِ
وتلفّتتْ كلُّ الديار إليكِ يا ... ... بغداد في دمْعٍ لها هتّانِ
كفّوا دموعَكم فحسبي أدمعي ... ... إن الذي أبكُاكمُ أبكاني
ما عادَ ينفعنا البكاءُ ولا العويـ ... ... ـلُ ولا الضجيجُ ولا شكاةُ لسانِ
قوموا إلى عَهْدٍ وصدق رسالةٍ ... ... صفّاً يَسَدُ مسارب الشيطانِ
قوموا إلى نَهْجِ الكتاب وسُنَّةٍ ... ... سَدّاً يردُّ الزحفَ من طوفانِ
* * * ... ... * * *
صبراً وأنتِ مع الزمان عجائبٌ ... ... كم دار فيك عجائبُ الأزمانِ
بُشْرى تَظَلُّ تُطِلُّ مِنْ آفاقِنا ... ... أمَلَ القُلوبِ وفرْحةَ الأزمانِ
قَدَرٌ هنالِكَ غالبٌ وقضاؤه ... ... حقٌّ وحكِمتُه أجَلُّ بيانِ
ليُمَحِّصَ الله العبادَ فيَنْجَلي ... ... ما كان يُخفى جهرةً لِعيانِ
شَتَّانَ بينَ الحقِّ هبَّ جُنودُه ... ... عَزْماً وبين جَحافل الشيطانِ
شتان بين طوائفٍ عصف الهوى ... ... فيها وصفٍّ ثَابتِ الأرْكَانِ
إن لم تقم في الأرض أمّة أحْمدٍ ... ... سنظلُّ في وَهنٍ وفي خُسرانِ
* * * ... ... * * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جزء من ملحمة لهفي على بغداد .(/1)
هل عيسى عليه السلام متهم بِـ(اللا ساميّة)؟!
د. أميمة بنت أحمد الجلاهمة 18/2/1426
28/03/2005
أبناء إبليس..أولاد الأفاعي ..قتلة الأنبياء ..رجمة المرسلين..قساة القلوب..اللصوص.. وصف جُمع بين دفتي (العهد الجديد) الكتاب الذي أجلّه المسيحيون وقدّسوه..!!
إن حديثي اليوم لا ينطبق على موقفي الإيماني من(العهد الجديد) بل من موقف أتباعه المسيحيين من مؤسّسي الصهيونية، الذين احتلوا أرضنا، واغتصبوا حقّنا، ونالوا ممن تمسّكوا بالعهد الجديد الدعم المعنوي والسياسي؛ فبغض النظر عن كوني مسلمة لا ينال العهد الجديد مني التقديس الذي يناله من أهله، إلا أني أعجب من هذه الازدواجية بين إيمان أولئك وعملهم، فبينما يصر العهد الجديد فيما يُنسب للمسيح (عيسى عليه السلام) ويوحنا المعمداني، على اتصافهم بتلك الصفات نجد المؤمنين به، يبذلون الغالي والنفيس في سبيل الدفاع المستميت عن هؤلاء، فهم مع ما تصوّره لنا الحياة اليومية للإنسان الفلسطيني على أرضه المحتلة، من وضع مأساوي ظالم بل ووحشي وهمجي، نسمع من يقول: إنهم أبرياء براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام!!
وحتى تكتمل الصورة في أذهان القارئ أضع بين يديه نصوصاً من العهد الجديد تدعيماً لما أنا بصدده؛ فقد ذكر إنجيل يوحنا أن عيسى عليه السلام قال لليهود: ( أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا )* [يوحنا : 8/ 44] ،كما ذكر أنه قال عندما أخرج الصرافين وباعة الحمام اليهود من المعبد: ( مكتوب بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص) [متى: 21/13].
كما ذُكر أنه عليه السلام خاطب من على جبل الزيتون جموعاً من اليهود بقوله: ( يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء، وراجمة المرسلين إليها، كم مرّة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها ولم تريدوا، هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً) [متى: 23/38].كما قال لهم : ( يا قساة القلوب .. كما كان آباؤكم كذلك أنتم. أيُّ الأنبياء لم يضطهده آباؤكم) [أعمال الرسل : 7/51-53]، أما يوحنا المعمداني فقد خاطبهم بقوله: (يا أولاد الأفاعي، من أراكم تهربوا من الغضب الآتي) [متى : 3/8]
ثم بعد هذا أتساءل: هل ينطبق اتهام العداء للسامية الرائج هذه الأيام على كُتاب هذه الأناجيل؟ أو لنقل هل ينطبق هذا الاتهام على المؤمنين به بحكم تعبّدهم بالعهد الجديد وإيمانهم المطلق بمضامينه؟! ثم هل بوش وبلير ورايس وتشيني وأمثالهم لا يجدون غضاضة في اتهام كتاب العهد الجديد بالعداء للسامية؟!
وأخيراً هل عيسى عليه السلام (المسيح) كان متهما بالعداء للسامية استناداً لما نُسب إليه من أقوال إنجيلية تصف اليهود بأنهم أبناء إبليس وقتلة الأنبياء ورجمة المرسلين وقساة القلوب واللصوص..؟! وإن كان متهماً باللاّ سامية فليضعه حكام الولايات المتحدة وأعوانهم من صهاينة وغيرهم في قفص الاتهام، وليحاكموه محاكمة علنية، فهو دون شك عدو للسامية بكل المقاييس المعوّلة عندهم لإطلاق هذا الاتهام ..!! أم أن كتابهم (العهد الجديد) محرّف، وما ورد هنا لم يثبت عن عيسى عليه السلام..؟!
وفي حال أن أجابوا أنها النصوص إنجيلية محرفة، فيلزمهم جوابهم هذا -وبطبيعة الحال - الإقرار بعدم وجود استناد شرعيّ لمحتويات العهد الجديد بالجملة..!! فما حُرّف بعضه حُرّف كله ..(/1)
هل غابت معاني القرآن في أحداث العراق؟
د.عبدالعزيز آل عبداللطيف 17/1/1424
20/03/2003
عندما قال شيخ الإسلام ابن تيمية عبارته المتينة : (الناس تغيب عنهم معاني القرآن عند الحوادث فإذا ذكروا بها عرفوها) (مجموع الفتاوى27/363) فإن كان مدركاً لذلك من خلال وقائع وأحداث، حيث كان فقيهاً في قضايا عصره والحكم عليها، فقد حفلت سيرته بنوازل شائكة متعددة ، وأزمات عويصة مشكلة، ومع ذلك فكان –رحمه الله- دقيقاً في توصيفها، ومصيباً في الحكم عليها، وفتواه –مثلاً- في شأن التتار مثال ظاهر على ذلك.
والناظر إلى حال أهل الإسلام تجاه نازلة العراق يرى انحسارا وذهولاً عن معاني القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) "المائدة، آية 51" فمظاهرة الكفار على أهل الإسلام ردة وخروج عن الملة، والمقصود بالمظاهرة أن يكون أولئك أنصاراً وظهوراً وأعواناً للكفار ضد المسلمين.
يقول شيخ المفسرين ابن جرير- رحمه الله- في تفسير هذه الآية: (من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحداً إلا وهوبه وبدينه وما هو عليه راضٍ، وإذا رضيه ورضي دينه، فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه). "تفسير الطبري 6/160".
وها هو شيخ الإسلام ابن تيمية –مع سعة علمه ورحابة صدره يقرر ذلك بكل صرامة قائلاً: (فمن قفز منهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار، فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي فمن وجوه متعددة). "مجموع الفتاوى 28/534".
مع أن الحكم على التتار –في حد ذاته- مشكل على بعض أهل العمل، لكن الإمام ابن تيمية يقطع بكفرهم، وكفر من لحق بهم وظاهرهم، فما بالك بالقتال مع الأمريكان الصليبيين المقطوع بكفرهم وظلمهم واستبدادهم؟!
ويقول ابن القيم "إنه سبحانه قد حكم ـ ولا أحسن من حكمه ـ أن من تولى اليهود والنصارى فهو منهم"، (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم" (أحكام أهل الذمة 3/67).
وقد عني أئمة الدعوة السلفية في الجزيرة العربية بهذه النازلة ابتداءً من الشيخ محمد بن عبدالوهاب –رحمه الله- وإلى سماحة العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز –رحمه الله- حيث قال: (وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم عليهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم، كما قال سبحانه (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم) "المائدة، آية 51". (فتاوى ابن باز 1/274).
ولم يقتصر علماء الدعوة السلفية على مجرد تنظير هذه المسألة، بل نّزلوا هذا الحكم الشرعي على ما يلائم من الوقائع وبكل رسوخ وتحقيق، والناظر إلى رسالتيّ "الدلائل" للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبدالوهاب، و(النجاة والفكاك من مولاة المرتدين وأهل الإشراك) للشيخ حمد بن عتيق، ومناسبة تأليفهما يدرك جلياً صرامة هؤلاء الأعلام تجاه هذه القضية وتنزيل حكم الله على من تلبّس بهذه الردة.
كما أفتى علماء من المالكية أن من حمل السلاح مع العدو الكافر ضد المسلمين ويحاربهم يكون حكمه كحكم الكافر في نفسه وماله ،(أنظر كتبا الفتاوى الفقهية في أهم القضايا لحسن اليوبي 229-234).
وأخيراً فإن في العراق أهل إسلام وسنة، كما أن فيها مستضعفين مظلومين ملهوفين فحق علينا نصرهم بالدعاء لهم، والدعاء على كفرة أهل الكتاب، والسعي إلى إغاثتهم ودعمهم من أجل دفع هذا العدو الصليبي الصائل عنهم، فلا ينبغي أن يكون كفار مكة خيراً منا حيث اجتمعوا في حلف الفضول على التعاون مع العدل ونصرة المظلوم، وكما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم (إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيفُ حقه من القوي وهو غير متعتع ) أخرجه البيهقي، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير ج(1853).(/1)
هل غير الدكتور طه حسين آراءه في سنواته الأخيرة - 23
الأستاذ أنور الجندي
كان السؤال المطروح هو: هل حقيقة أن الدكتور طه حسين غير آراءه في سنواته الأخيرة؟ وكانت الإجابة على الوجه الآتي:
إن الدفاع عن طه حسين من بعض عارفيه ومريديه وكل من كان له عليهم فضل أو لهم به صلة، هو من حقهم.. ولكن المعادلة الصعبة هي أن المسئولية الأخلاقية أمام الأجيال هي اكبر بكثير من العاطفة الفردية والهوى الشخصي.
إن هؤلاء القوم ما كادوا يرون هذه الصورة التي كشفت حقيقة طه حسين تنشر على الناس حتى بادروا إلى الدفاع عنه بالقول:
لقد غير الدكتور طه حسين آرائه في آخر حياته.
لقد تراجع الدكتور طه حسين عن أخطر آرائه.
والقصة تسمعها من الكثيرين.. ولكن هل هي صحيحة حقاً؟.
الواقع أن هناك ما يمكن أن يقوله هؤلاء: أن الدكتور طه كتب "على هامش السيرة" وبه كفر عن "الشعر الجاهلي"، وكتب كتابه "الشيخان" عن أبي بكر وعمر.. وبه كفر عن "مستقبل الثقافة".
وذلك كله خداع وباطل.. فإن الدكتور طه لم يغير آرائه مطلقاً.. لأنه كما يقول الدكتور محمد نجيب البهبيتي: كان له حارس وديدبان يحول بينه وبين ذلك.. هذا الحارس مقيم في بيته يلفت نظره دائماً إلى الخط المتفق عليه.. ولكن الدكتور طه حسين غير أساليبه ووسائله في سبيل أن يصل إلى قلب القارئ المسلم. وبعد أن كانت أساليبه هي الهجوم على الإسلام أصبحت تقوم على ترضي الإسلام داخلياً ودس السم على مراحل خلال البحث، ولا يقل السم المدسوس في كتاب "الشيخان" عن السم المدسوس في "هامش السيرة" أو في "الشعر الجاهلي" ولكن القوم لا يعلمون وسائل إخفاء الشبهات.
إن الذي يتردد على الألسنة هو: أن كثيراً من أصدقاء طه حسين واجهوه برأيهم في "الشعر الجاهلي" أو "هامش السيرة" أو "مستقبل الثقافة" فقال لهم: "لو استقبلت من أمري استدبرت ما كتبت الشعر الجاهلي" أو قوله: "اكتم عني" أو قوله للسفير المسلم أحمد رمزي عن كتاب مستقبل الثقافة: "إنني متفق معك على أن في الكتاب أخطاء كثيرة" ذلك هو أسلوب طه حسين المرن الماكر الخادع الذي لا يواجه بالمعارضة أو الهجوم، ولكنه يلين حيث يرى أن صاحبه واع لسمومه، فإذا وجد من يجهل لم يمتنع عن خداعه. وقصته مع اللواء محمود شيت خطاب معروفة. فقد قال في آخر أيامه أن القرآن كان غير منقوط فكان يقرأ على قراءات مختلفة ففي آية: "يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" كانت تقرأ فتثبتوا" فرده محمود شيت خطاب وقال له: هذا كلام أعداء الإسلام..
أما القول بالتراجع فإن هناك من الأدلة الكثير الذي يكذبه:
أولاً: أن أسلوب التراجع معروف.. وهو أن يعلن الكاتب أنه كان يقول بكذا ثم تبين له سوى ذلك، وأن يوقف على الفور ما له من مؤلفات في هذا الصدد.
ثانياً: أن يعلن أنه اتخذ هذا الأسلوب كوسيلة للعمل ثم تبين له أنه لا ينتج وأنه تحول عنه.
ومثل الحالة الأولى الإمام الأشعري، ومثل الحالة الثانية الدكتور محمد حسين هيكل.. فهل تراجع طه حسين حقاً، عن رأي من آرائه وهو حي، وأعلن ذلك.. ذلك ما لم يحدث.. وهل يكفي أن يتراجع طه حسين عن رأي أو آخر في مساره خاصة مع صديق، دون أن يوقف هذا الرأي عن الذيوع والانتشار.. إن ذلك لا يكفي، بل إن هذا يؤكد إصرار الدكتور طه على الرأي وحرصه على أن يذيعه في الناس فيفسد به مزيداً من العقول والقلوب.. ولقد أشار كثيرون إلى وقائع الدكتور أحمد الحوفي والسيد محمد بهجت الأثري، وسعيد الأفغاني، ولكت هل توقف طه حسين عن آرائه، هل حدث تلاميذه بشيء من هذا التراجع، إنذ ذلك الأمر ظل قاصراً على مسمع عدد قليل من أصدقائه.
هذا شيء.. وهناك شيء آخر.. إن بعض مقالات الدكتور طه التي نشرها في أول الشباب وفيها آراؤه الجارحة قد عاد فجمعها في مؤلفات صدرت في آخر حياته.. وهذا يعني إصراره على تلك الآراء وأنه لم يتنازل عنها.
أما القول بأن كتبه على "هامش السيرة" أو "الفتنة الكبرى" أو "الشيخان" هي تراجع عن آرائه السابقة وتحول إلى الإسلام فذلك قول سائج وقد فندنا ذلك في كتابنا عن طه حسين.. ونضيف بأنه كانت هناك مؤامرة وفشلت.. هذه المؤامرة ترمي إلى تنصيب الدكتور طه (إماماً للإسلام) وقد غضب القوم عندما هاجم الإسلام بعنف في المرحلة الأولى وطلبوا إليه أن يدخل الإسلام من باب آخر حتى يمكن أن تكون آراؤه حجة على المسلمين من بعد في فتوى ضالة على النحو الذي حاول أن يتحدث به في مؤتمر الحوار بين الإسلام والمسيحية.. وهو حوار مشبوه، ولكن آراء طه حسين التي قدمها في هذا المؤتمر لم تلبث أن أصبحت حجة من بعد ووصفت بأنها مبادرة طيبة ومقدمة لما قام به البعض بعد ذلك في طريق محفوف بالمخاطر والشبهات.(/1)
وكانت الخطة أن يعود طه حسين إلى الإسلام في ضجة ضخمة، واختاروا لها وسيلة وخطة: أما الوسيلة فهي كتابه على هامش السيرة، أما الخطة فهي الانضواء تحت لواء حزب الأغلبية (الوفد) لتكون قدرة طه ونفوذه أقوى في تحقيق الأهداف المرسومة.. ولقد خدع كتاب هامش السيرة كثيرين وظنوا أنها دعوة حارة إلى الدين، وخفى عليهم جانب السخرية والتهكم الواضح فيه والذي كشفه الرافعي منذ اللحظة الأولى.
أما "الفتنة الكبرى" فإنه محاولة جريئة لتبرئة اليهود من فتنة (عبد الله بن سبأ) وهي فتنة جذور عميقة في تاريخ الإسلام فأراد طه حسين أن يخدم اليهودية العالمية بعمل آخر مضاف إلى قولته في إبراهيم وإسماعيل، وفي كتابته عن قضية اليهود في ألمانيا وأوروبا، ويتصل ذلك بإصدار مجلة الكاتب المصري ومحاضراته في الدور الإسرائيلية في القاهرة والإسكندرية.
وهناك الوثيقة التي تدحض كل الشبهات وهي حديثه مع مجلة الاثنين التي كانت تصدرها دار الهلال. والاتهام موجه فيها صراحة إلى الدكتور.
وإذا كانت هناك محاولة لتبرئة الدكتور من آرائه القديمة فإننا نقبل بأي نص صحيح يكون فيه الدكتور طه قد تراجع عن رأي من هذه الآراء الخطيرة التي قدمها خلال حياته ومن خلال كتبه وآثاره.
وفي هذا رد على محاولة البعض بالقول بأن طه حسين صحيح العقيدة.
وهذه هي الوثائق:
رأيه في الدين:
إن الدين حيث يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء ويأخذ الناس بالإيمان بهما يثبت أمرين لم يستطع العلم أن يثبتهما.. فالعلم لم يصل بعد إلى إثبات وجود الله ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الانبياء.
إن العلم ينظر إلى الدين كما ننظر إلى اللغة وكما ينظر إلى الفقه وكما ينظر إلى اللباس من حيث أن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة وتتبع الجماعة في تطورها بما تتأثر بما تتأثر به الجماعة.
إذن فالدين في نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر، لم ينزل من السماء ولم يهبط به الوحي وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها.
"وهذه آراء الفيلسوف اليهودي دوركايم.
رأيه في القرآن:
لاشك أن الباحث الناقد والمفكر الحر الذي لا يفرق في نقده بين القرآن وبين أي كاتب ديني آخر يلاحظ أن في القرآن أسلوبين متعارضين لا يربط الأول بالثاني صلة ولا علاقة مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن هذا الكتاب قد خضع لظروف مختلفة وتأثير بيئات متباينة.. فمثلاً نرى القسم المكي فيه يمتاز بكل ميزات الأوساط المنحطة، كما نشاهد أن القسم المدني اليثربي تلوح عليه إمارات الثقافة والاستنارة.. وإذا دققتم النظر وجدتم القسم المكي ينفرد بالعنف والقسوة والحدة والغضب والسباب والوعيد والتهديد، ويمتاز كذلك بتقطيع الفكرة واقتضاب المعاني وقصر الآيات والخلو التام من التشريع والقوانين، كما يكثر فيه القسم بالشمس والقمر والنجوم إلى آخر ما هو جدير بالبيئات الجاهلية الساذجة التي تشبه بيئة مكة تأخراً وانحطاطاً، أما القسم المدني فهو وديع لين مسالم يقابل السوء بالحسنى ويناقش الخصوم بالحجة الهادئة والبرهان الساكن الرزين، كما أن هذا القسم ينفرد بالتشريعات الإسلامية كالمواريث والوصايا والزواج والطلاق والبيوع وسائر المعاملات، ولاشك أن هذا أثر واضح من آثار التوراة والبيئة اليهودية التي ثقفت المهاجرين إلى يثرب ثقافة واضحة يشهد بها هذا التغيير الفجائي الذي ظهر على أسلوب القرآن.
"وهذه آراء الفيلسوف اليهودي جولدزيهر".
رأيه في الرسول صلى الله عليه وسلم:
ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه من قريش فلأمر ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون من صفوة بني هاشم وأن تكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصى، وأن تكون قصى صفوة قريش، وقريش صفوة مصر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية.
"وهذه آراء الفيلسوف اليهودي مرجليوث".
هذه هي آراء طه حسين موجزة في الإسلام والقرآن والنبي، فهل غيرها".
الواقع أنه ليس هناك دليل من كتاباته الأخيرة أو آثاره من نص يمكن أن يدل على تغير هذه النظرة، بل إن كل الكتابات توحي بأنها أساس لفكرته عن الإسلام ومفهومه له.
حادث السطو التاريخي:(/2)
عاد السؤال الملح الحائر حول الدكتور طه حسين مرة أخرى.. بعد أن عادت الصحف إلى إعادة تقييمه ومحاولة رد اعتباره بكتابات ساذجة لا تخدع أحداً.. وكان أولى أن يوضع طه حسين في قائمة كتاب السياسة الحزبية المتصارعة قبل عام 1952 م بكل ما صنعت من توسيد لمفاهيم الهجاء والكلمة الجارحة التي امتد أثرها إلى مجالات الكتابة الأدبية والاجتماعية.. وقد كان طه حسين أحد الهجائيين الكبار.. فضلاً عن ولائه للقصر، وإدعائه من بعد أنه كان مبعداً أو مغضوباً عليه.. وهو الذي ترقى من أستاذ في الجامعة إلى عميد إلى مدير إلى وزير التعليم.. ولم تكن عبارته الصارخة في مدع الملكين فؤاد وفاروق إلا رمزاً لتلك العبودية، وذلك الذل والخضوع.. وقد كان أولى أن يسقط طه حسين من ذلم الركام الذي مضى وانتهى.. ولكنع أعيد لما يحمل من مفاهيم مسمومة يراد لها أن تنتشر وتشير أبحاث خصوم العرب والإسلام إلى دعمها وحمايتها.
ولقد كان كتاب (طه حسين.. حياته وفكره في ميزان الإسلام) خنجراً في صدور الكثيرين حتى جرت محاولاتهم لرد اعتبار طه حسين.. وسافر مستشرقون إلى البلاد العربية للحديث والمحاضرة عنه، والاعتذار عن أخطائه.. وجرت تلك القلة المضللة بأنه تخلى عن أفكاره المسمومة.. ولكن الله تبارك وتعالى الذي يريد أن يظهر الحق ويؤكده شاء أن تصدر في الفترة الأخيرة ثلاثة مؤلفات هامة وضخمة لرجال ثلاثة هم:
الأستاذ محمود محمد شاكر.
الدكتور نجيب البهبيتي.
الدكتور عبد المجيد المحتسب.
وهذه الكتب الثلاثة كشفت مزيداً من الحقائق، ودحضت كثيراً من أهواء القوم.. فهذان رجلان تتلمذا على عميد الأدب في الجامعة، وقد شاء الله لهما أن يكشفا هذه الصفحة الخطيرة: صفحة السطو والمراوغة والمكر التي أخفاها وراء مظهره الأنيق وكلماته البراقة.
فيكتب الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه "المتنبي" فصلاً مطولاً في 160 صفحة عن هذه العلاقة بين الأستاذ والتلميذ على نحو يكشف عن المرارة الشديدة التي دفعت الطالب الصغير إلى أن يترك كلية الآداب نهائياً تقززاً وكراهية لذلك الأسلوب المسموم الذي يصطنعه عميد الأدب العربي فيقول فيما يقول:
الأمر وما فيه هو أن الدكتور طه حسين أراد أن يثيرنا نحن طلبة الجامعة يومئذ بمسألة غريبة هي مسألة "الشعر الجاهلي".. هذه المسألة من حيث أن الشعر الجاهلي منحول موضوع، وأنه شعر إسلامي صنعه الرواة في الإسلام مسألة كنت أعرفها قبل أن أدخل الجامعة، وقبل أن يلقي علينا الدكتور ما ألقى.. لأني كنت قرأتها في مقالة الأعجمي "مرجليوث" ثم جاء الدكتور طه حسين يردد أقوال مرجليوث وآراءه وحججه.. بجوهرها ونصها.. فلم يزد الأمر عندي على أن يكون ما استمع عليه "حاشية" على متن من المتون.. ولكنها حاشية من نوع مبتكر.. هي حاشية الدكتور طه.. على متن مرجليوث (وهي المعروفة عند الناس باسم كتاب في الشعر الجاهلي).(/3)
تتابعت المحاضرات وكل يوم يزداد وضوح السطو العريان على مقالة مرجليوث وهي مسألة فارغة.. بذرتها ثرثرة، وشجرتها ثرثرة، وثمرتها ثرثرة أنشأت عندي قضية هي قضية السطو على أقوال الناس وآرائهم وأعمالهم، ثم إدعاء تملكها بملك عزيز مقتدر، ثم الاستعلاء بهذا الملك المغصوب، والاستطالة به على الناس.. وأبشع من ذلك أن ينكشف أمر هذا الغصب والسطو ويتسامع به الناس، ويدل الكتاب والعلماء على الأصل المغصوب كتابة موثقة منشورة، فلا يبالي الساطي بشيء من ذلك كله.. بل يزداد جرأة وتيها، وإدعاء واستعلاء واستطالة.. وكأن الذي قيل عن سطوه لم يقل، وكأن ظهور سطوه فضيلة ترفع من قدره، وتنوه به في المجامع.. أما أنا فلم أزل أعد هذا المسلك احتقاراً للناس أي احتقار، وازدراء بهم وبعقولهم، وإنزالاً لهم منزلة من لا يبصر ولا يسمع ولا يعقل ولا يحسن.. هذه هي القضية التي لم تزل حية في نفسي منذ خمسين عاماً. وكل يوم أقول لنفسي عسى ولعل.. وأتوقع أن يذكر الدكتور طه اسم مرجليوث مرة وينسب إلى الرجل رأيه في السعر الجاهلي مجرد إشارة.. يا لحيرتي وعجبي.. لو مرة واحدة ذكر الدكتور طه اسم مرجليوث لنجوت من هذه "الغول" التي كانت تفزعني وتتشبث بي جارة لي في قاعة المحاضرات وخارج القاعة.. وتفاقم أمر قضية السطو في نفسي واستبدت بي جارتي الغول حتى لم تدع يوماً بعد يوم قعقعة معنى الجامعة في نفسي وهو يتقوض يريد أن ينقض.. وفي خلال ذلك كان مني ما كان يوم وقفت أجادل الدكتور طه في "المنهج" و "الشك" حتى انتهرني، ثم استدعائي فدخلت عليه فعاتبني وأنا صامت لا أستطيع أن أرد.. لم أستطع أن أكاشفه بأن محاضراته التي نسمعها مسلوخة كلها من مقالة مرجليوث.. لأنها مكاشفة جارحة من صغير إلى كبير.. ولكني كنت على يقين من أن يعلم أني أعلم من خلال ما أسمع من حديثه.. ولكني لم أكتمها في حديثي مع الدكتور طه.. وهي انه سطا سطواً كريهاً على مقالة المستشرق الأعجمي.. صارحت بذلك "نلينو" و "جويدي" من المستشرقين وكانا يعرفان.. ولكنهما يداوران.. وطال الصراع غير المتكافئ بيني وبين الدكتور طه زماناً إلى أن جاء اليوم الذي عزمت فيه على أن أفارق مصر كلها لا الجامعة وحدها".
تلك هي كلمات قليلة مما كتب الأستاذ محمود شاكر عن الدكتور طه أستاذه في الجامعة تكشف في وضوح خلفية طه حسين الذي يتشدقون بعظمته وفضله، ونبل خلقه وعلمه.. ولكن مهلاً.. فإليكم صورة أشد قوة يقدمها الدكتور محمد نجيب البهبيتي في مقدمة كتاب ضخم بلغت صفحاته 660 صفحة من القطع الكبير أخلصه كاملاً للرد على سموم طه حسين وهذه هي الصورة التي رسمها بعلاقته به في الجامعة.
أولاً: فتح لطفي السيد باب الجامعة القديمة أمام هذه (المستشرقة) فأتاح لها في ظل الشرعية العلمية فرصة العمل على تنفيذ برنامجها المخطط.. وطه حسين تكفل بالدعاية لها وبالمناداة على ما عندها.. وكان دخول هذه الموجة التبشيرية الجديدة في زفة العروس العامل الأول الذي غطى حقيقتها.
ثانياً: هذه المؤسسة التي سميت تجاوزاً وطموحاً بـ "الجامعة المصرية القديمة"، ما كانت إلا مؤسسة ثقافية عامة يدب إليها من شاء دون شروط أو قيود.. فالتفت فيها المتباينات، وأصبحت مورداً مباحاً للطموحات غير المتوازنة.. فدخلها طه حسين وهو الرساب بالجهل المركب في (عالمية العميان) بالأزهر ولعل الدكتوراه لم توجد ابتداء في هذه المؤسسة المتواضعة إلا لانتشاله من الهوة التي ألقى به إهماله فيها وهو طالب في الأزهر.. فلقد كان المشرفون على هذه الجامعة الإسمية يستأجرونه لحسابهم في النيل المزرى بخصومهم.. ودخل طه حسين الجامعة في حماية لطفي السيد وحزبه.. وكان معروف الاسم بما شتم الشتم الذريع لألمع شخصيات ذلك العصر.. ولم يكن بعد غريباً أن يسحبه (سانتيلاتا) إلى مجالس الأزهريين ليحرج بالوحي المستنزل عليه أساتذته الأزهريين.. ومن هذه الهالة الجامعية بدأت أعمال التخريب للحياة الإسلامية وكبدها وقلبها الحياة العربية.
ثالثاً: كانت سياستهم بالقياس إلى بناء طه حسين تتلخص في نقاط أربع:
تكبيره بالشهادة المصنوعة وبالدعاية.(/4)
نلقه نقلاً تاماً إلى معسكرهم عن طريق إيداعه داراً وإعطائه حياة يصبحان القالب الدائم الملازم له في أيامه، قالب من حرير لكنه صفيق لا يلين ولا يتبدل.. ومن هنا كانت المرأة الوفية جداً التي تزوجها في باريس بواسطة قسيس ذكروا أنه توسط في إقناع أهلها على الموافقة بعد رفض.. وقصة الرفض هذه لم تكن واردة قط.. فالفتاة فقيرة.. ولعل الشقة التي أنزل فيها طه حسين في باريس كانت هي مصدر العيش الذي كانت الأم تعيش منه مع راتب ابنتها مع عملها على صندوق محل حلاقة في الحي الجامعي في باريس.. وقد ظلت الأم تؤجر غرف هذه الشقة لمن تشاء حتى أيام كان الدكتور محمد القصاص في باريس نزل عندها وظلت طوال الليل تحدثه عن ابنتها.. وقضى ليلة واحدة نجا بعدها بجلده خوفاً من أن يبلغ خبره طه حسين فيمسخه قرداً.. فالأم وحيدة.. ولم يظهر في الأفق المعروف لزيارات طه حسين لباريس أي عرض يشير إلى أقرباء للزوجة أو خالات أو أعمام أو جد للأولاد أو صهر للرجل.. وطه حسين لو جد أهلاً يصلحون للحديث ما وفره (ص 20 مقدمة كتاب الدكتور البهبيتي).
السفر كان كل صيف إلى باريس.. ونفقاته تدبر من هنا في مصر ومن هناك.
حكى لي الأستاذ إبراهيم مصطفى قال: إن طه كسب كثيراً.. ولكن إسراف إمرأته لا يبقي على شيء.. كنت أودعه على الباخرة الحاملة له إلى أوروبا كل صيف فأجد رجلاً من أصحاب دار المعارف في وداعه معي فإذا لقيه سلمه صكاً بألف جنيه على مصرف فر فرنسا ليغطي بعض نفقاتهم هناك.. أما في فرنسا فقد كان طه حسين ابن فرنسا البار الوفي يلقى بما يلقى به الأوفياء وما عاد طه حسين إلا ومعه كتاب كتبه هناك لاشك يلخص النتائج التي انتهى إليها الاستشراق إلى إخراجها في تكتيك العمل المتصل على تنفيذ الخطة المرسومة.
البيت الذي ينزله في مصر لابد أن يكون قطعة تتم الصياغة التي عاد بها من أوروبا، ومن فرنسا خاصة.. ولم يكن ينقصه إلا السكرتير فكان (جزويت القاهرة) يتولون توفير هذه اللمسة الأخيرة.. وفريد شحاته كان إحدى هباتهم له.. كان هبة كاملة لا ينقصها شيء: أعطى له عبداً لا يملك لنفسه شيئاً.. فهو رهن أمره في الليل وفي النهار وهو عكازته التي يتوكأ عليها حيثما ذهب.. عمل معه منذ نعومة أأظافره لا يكاد يتم السادسة عشرة وطرد بلا رحمة وقد أشرف على الهرم.. وعاش فريد مملوكاً لطه حسين ما يقارب نصف قرن.. وهكذا قضى طه حسين عمره الطويل الذي جاوز فيما أعتقد التسعين في هذا القالب الحديدي.. بين إمرأة نصرانية وسكرتير مسيحي منتدب من قبل الجوزيت لا يغيب طه حسين عن عينه وهي عين الجزويت وولدين كلود ومرجريت لا يناديهما الأب أو الأم أو السكرتيرة أو الخادم إلا بهذين الاسمين.. كلود ومرجريت.
رابعاً: الدكتوراه التي يحملها طه حسين ليست دكتوراه الدولة.. لأنه لم يكن حصل على الشهادة الثانوية.. وقد امتحن في غير مادة الشهادة التي منحت له اسماً.. ثم عاد إلى منصر ليدرس التاريخ الروماني في ظل شهادة اسمية.. والواقع الذي أعرفه عن طريق ابتلائي بالرجل أنه لم يكن يعرف اللاتينية التي طالما ملأ شدقيه بالقول أنه درسها فضلاً عن جهله الكامل للغة اليونانية.
خامساً: ما كدت أقترب منه حتى فجعت في الصورة الخيالية التي كانت تقوم له في ذهني.. كان يقع وراء أسوار الجامعة كياناً طرياً جداً، كما تقوم القوقعة تحت الصدفة لا تكاد تمد يدك إلى ما وراء الصدفة حتى تصادف كياناً هالكاً.. فقد كان ذهناً هشاً، ومنهجاً مراوغاً زواغاً هراباً إلى السكوت عند احتدام الصراع وكان دائم التكرير لنفسه ما يقوله في هذا العام هو نفسه في العام المقبل".
وبعد.. فما قاله الدكتور البهبيتي في كتابه الضخم: "المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين" كثير ويمكن تقديمه للسادة المغرورين في "عظمة" عميد الأدب ونحن على استعداد لأن نهدي لهم هذا كله – بالإضافة إلى ما قدمناه لهم في كتابنا "طه حسين.. حياته وفكره في ميزان الإسلام" نقدمه لرجاء النقاش وعبد المنعم شميس والآخرين".
أما الدكتور المحتسب فقد كان كتابه: "طه حسين مفكراً" عملاً جديراً بالتقدير.. فهو رسالة جاكعية قدمت لكلية الآداب في الأردن.. وكاتبها لم يقرأ إلا أعمال طه حسين، ولم يتصل بالبيئة التي شاهدت عمل هذا الرجل ووجوده.. فكانت كلمته رمزاً على الحق الخالص.
يقول: "أربعون عاماً ينفقها طه حسين في الدعوة للفكر الرأسمالي، والثقافة الفرنسية الفرعونية.. ثم ينقلب ويتحول إلى الدعوة القومية العربية.. وطه حسين من بناة الفرعونية طيلة أربعين عاماً.. فكيف يصير واحداً في بلاد المسلمين مع الأفكار الغربية الرأسمالية وقد وظف طه حسين نفسه للترويج والدعوة – التي لا تعرف الملل أو الكلال – إلى الفرعونية والدعوة إلى القومية بضاعة أوروبية رأسمالية في العصر الحديث.
وإذا كان طه حسين يروج للفكر الرأسمالي والحضارة الغربية فلا غرابة في دعوته وترويجه "للثقافة اليونانية والثقافة الفرنسية".(/5)
وقد وجد كتاب الدكتور المحتسب من أولياء التغريب خصومة شديدة.. فمنهم من حاربه كعمل جامعي، ومنهم من حاربه كعمل أدبي.. وما كان الرجل طامحاً إلا إلى أنر واحد أن يصدع بكلمة الحق ويكشف زيف هذا الطاغوت الواسع الشهرة.
ولا ريب أن هذه الكتابات الخالصة لوجه الله والحق تكشف فساد تلك الحملات الواسعة التي تجرى لرد الاعتبار لعميد الأدب بمحاضرات يلقيها المستشرقون في الدول العربية أو فيلم سينمائي ساقط أو ربط طه حسين بالسيرة النبوية فما يستطيع ذلك كله بعد اليوم أن يحجب حقيقة طه حسين.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة * * * وأن خالها تخفي على الناس تعلم
مهرجان طه حسين:
كانت أكثر أسئلة الندوة منصبة على "مهرجان طه حسين" الذي عقد بهدف إعادة الثقة في طه حسين وفكره ومفاهيمه بعد أن اهتزت في العام الأخير (1978 م) اهتزازاً شديداً بظهور عدد من الكتب والأبحاث تكشف كثيراً من الأسرار.. وبالرغم من الجهد الذي بذله المستشرقون في المهرجان للدفاع عن وجودهم من خلال الدفاع عن طه حسين.. فإن الأحداث نفسها أرادت أن تؤكد الحقائق الصحيحة، وتكشف الزيف المصنوع.. وكان من أبرز هذه العوامل فشل فيلم "قاهر الظلام" بعد أن عدل أكثر من مرة.. لأنه لم يستطع أن يقدم للناس إلا صورة رجل محمول على أكتاف الفرنسيين، وحياته كلها كراهية للإسلام وهجاء للأزهر فهم عند ذلك أنه هجاء للإسلام نفسه غير أنه مغلف بهجاء العلماء.. وقد حمل أكثر من خطيب في المساجد يوم الجمعة على حلقات الأيام التي عنى بإذاعتها استكمالاً لحملة إعادة الثقة إلى الجثمان الهامد.
وكان أخطر أحداث هذه الساعات هو الخبر الذي نشرته مجلة أكتوبر والذي تسرب مرة من أن الدكتور طه حسين زار اليهود وأم الجامعة العبرية بالقدس عام 1944 م حسب رواية الدكتور حسين فوزي.. وكان إذ ذاك مديراً للجامعة المصرية بالنيابة.. وقد تكتم الدكتور طه وأصحابه هذا الخبر طويلاً وإن كان صمت طه حسين عن مسألة فلسطين خلال أربعين عاماً يوحي بما يوحى فقد عرف أنه لم يكتب كلمة واحدة عن فلسطين حياته كلها.. وقد كان هذا اللقاء في تل أبيب مقدمة لإنشاء مجلة الكاتب المصري التي مولها اليهود والتي يلفت النظر فيها مقاله في العطف على مهاجري اليهود الذين نزلوا في ميناء حيفا وهو مسافر بالباخرة إلى بيروت.
كذلك فقد كانت كلمة الأستاذ الكبير أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة، والمؤرخ الكبير الذي عايش الأحداث في مجلة وزارة الثقافة إبان الاحتفال بطه حسين هي قنبلة الموسم.. فقد أشار إلى ما كان قد كتبه الأستاذ فريد شحاته سكرتير الدكتور طه حسين
لأربعين سنة في مجلة الإذاعة المصرية قبيل وفاة العميد بأن العميد اعتنق النصرانية في فرنسا، وأقيمت الطقوس المؤدية إلى ذلك في كنيسة قروية بفرنسا.. وأشار الأستاذ أحمد حسين إلى أن طه حسين "يمثل الفترة المرفوضة في تاريخ مصر" ومن ذلك ما ذكره من أن طه حسين كان يكتب في صحيفتين متعاديتين في وقت واحد.. كل منهما كان يعتبر الآخر كافراً.. ومع ذلك فقد كانت كلتا الجريدتين تفسح صدرها لهذا الطالب الأزهري الكفيف.. وإن كانت هذه الواقعة تقطع بذكاء طه حسين فإنها تقطع بثورته على القيم السائدة.
وقال: ومن ذلك مقالاته في الهجوم على الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي.. نرى أنه كان شعاراً لغره ممن يريدون النكاية بالمنفلوطي دون أن يجدوا في أنفسهم الشجاعة.. فاستخدموا هذا الفتى الضرير الذي لم تنقصه الشجاعة في تحدي الجماهير، وكان يحصى عليه الألفاظ والتراكيب.. وغني عن البيان أنه ما كان لشاب مبتدئ فوق كونه كفيفاً أن يخوض مثل هذا المعركة إزاء شيخ من فحولها.. وقيل أن الأستاذ محمد صادق عنبر هو الذي كان يزود طه حسين بمادة مقالاته (مع ملاحظة أننا ذكرنا هذه الواقعة بالتفصيل في كتابنا) "طه حسين.. حياته وفكره في ميزان الإسلام".
ويقول الأستاذ أحمد حسين:
"ونراه على سبيل المثال قطباًَ من أقطاب الأحرار الدستوريين.. ثم نراه يتحول إلى قطب من أقطاب الوفد.. وهو وضع انفرد به طه حسين.. وقد شاهدت مصر أقطاباً يخرجون من الوفد ليصبحوا من معارضيه.. ولكنا لم نجد أبداً مع الوفد إنساناً عارض الوفد ثم أصبح من أقطابه حتى ليدخل الوزارة.. ولكن طه حسين كان هذا الإنسان الفذ الذي خاصم الوفد أشد الخصام عندما كان الوفد هو القوة الساحقة الشعبية في مصر، ثم أصبح من أقطابه دون أن يرى في ذلك أي حرج!!.
ثم قال الأستاذ أحمد حسين:(/6)
إن ذلك يقطع بأنه لا يحترم المبادئ، ولا يقيم وزناً للقيم التي تعارف عليها البشر، وأن كل ما يعنيه هو إثبات ذاته من خلال الخروج عن المألوف وما تواضع عليه المجتمع.. لنتصور أنه منذ سبعين سنة تقريباً حيث كانت فرنسا حامية المسيحية قد تزوجت فتاة فرنسية مسيحية من أسرة ممعنة في المسيحية شاباً مصرياً فقيراً كفيفاً مسلماً.. وتم ذلك بماركة الأسرة كلها بما في ذلك القسيس قريبها.. أقول إن تصديق هذه الصورة لا يكون إلا بإلغاء عقولنا وتكون رواية الأستاذ فريد شحاته أقرب الناس إلى طه حسين أربعين سنة هي الرواية الوحيدة التي تفسر لنا هذا الذي حدث.. فلابد أن يكون أشخاص ذوو نفوذ قد أشرفوا على العملية كلها ومولوها، وتحدثوا عن الدور الخطير الذي سوف يقوم به هذا الشاب الذي وإن كان ضريراً فهو مقتدر.. وسوف يعهد له بدور خطير في حياته، وبغير هذا الضمان والتمويل المالي بمبالغ باهظة مع الوعد بتقديم مبالغ أكثر وأن يعتنق طه النصرانية كتأكيد لذلك كله هو الذي يفسر لنا لماذا تم الزواج بموافقة الأسرة كلها.. ولماذا وافقوا على أن تسافر الزوجة إلى المجهول.. إلى أفريقيا، مع شاب فقير ضرير.. إنها قصة لو لم تكن حدثت بالفعل لما صدقها إنسان، ولا تعليل لها إلا أنها من نوع قصص المبشرين الذين قصدوا مجاهل أفريقيا".
هذا الذي ذكره رجل جليل الشأن، وزعيم بارز.. هو الأستاذ أحمد حسين إنما يمثل صوت الحق الذي أطلقه الله تبارك وتعالى في احتفالات تكريم طه حسين ليكون تأكيداً لما قررناه وقرره محمود محمد شاكر، ومحمد نجيب البهبيتي، وعبد الحميد المحتسب وكثيرون.. وقد عرضنا لهذه النقاط في كتابنا. ولكنا لم نتوقف عند نقطة اعتناق المسيحية وتركناها ليجليها الزمن، والمعاصرون للواقعة وغيرها.. وعندنا أن ما فعله طه حسين هو أكبر من هذا الحدث لأنه كان ولاء للقوى العالمية الكبرى التي كان عليها أن تحارب الإسلام في قيمه وتاريخه، وقرآنه ورسوله ولغته.. وهو ما فعله طه حسين.. ولقد حاول كثير من خطباء المهرجان الدفاع عن طه حسين على طريقة من الطرق.. ومن يقرأ كلام الأستاذ أحمد حسين علي يجد فيه الرق المفحم على ما نشره "كمال قلته" في مجلة الجديد حين قال: "إن طه حسين يتسم بالشموخ".. ولست أدري.. أي شموخ هذا.. هل في استسلامه للمستشرقين، أم لرجال الأحزاب، أم للملك، أم لكل حاكم؟!! إن أصح ما يوصف به موقف طه حسين هو "الذلة" التي ما بعدها ذلة والتبعية التي وصلت إلى أبعد حدود العبودية!!.
وفي خضم هذه الأحداث وصلت مجلة الأزمنة العربية التي تصدر بدولة الإمارات، وفيها مقال للأستاذ محمد راشد شبيطة عنوانه: "سبعة دكتوراه ضد العروبة والإسلام" وهو فيه يتساءل لماذا أعطت هذه الدول الأوروبية للدكتور طه حسين هذه (الدكتوراهات) أليس ذلك أمراً مثيراً للدهشة.. وهو يدل على شدة اهتمام الغرب بطه حسين، وغرس أفكاره في نفوس الناس لأنها ضد الإسلام.. وكذلك أشار إلى الظاهرة الخطيرة التي دعت إلى إرسال مستشرق إلى أبو ظبي وغيرها من البلدان للمحاضرة عن طه حسين.. ولماذا لم يحاضر مثلاً عن ابن خلدون.. ويقول: أنه لم يأت ليتأكد أننا ما زلنا نقدس طه حسين.. وإذا كنا فعلاً كذلك فإنه سيعود إلى أوروبا مطمئن النفس إلى كوننا ما زلنا في سبات عميق وإن لم نكن كذلك فسيتكفل بغرس أفكاره في نفوسنا وعقولنا.
وفي مجلة الثقافة على عددين متتاليين (أبريل 79، مايو 79) كشف فيها الكتاب حقائق مذهلة عن طه حسين.. فالأستاذ محمد عبد الغني حسن عضو المجمع اللغوي يتحدث فسي ست صفحات مطولة عن جريمة طه حسين في حق الشاعر محمود أبو الوفا حين يكتب مقالاً حمل فيه على محمود أبو الوفا عام 1934 م قال:
"إن نقد طه حسين لأبي الوفا وشعره لم يصدر عن براءة وتنزه وحيدة.. ولكن أصدرته نفس فيها موجدة كثيرة على (أبو الوفا) وما أكثر ما كان الدكتور طه حسين يخضع نقده لاعتبارات خاصة وعوامل شخصية بعيدة عن نزاهة الرأي.. وذنب الشاعر أبو الوفا عند طه حسين أنه لم يكن من شيعته ولا من حزبه وبطانته".
ويكفينا هذا من الأستاذ محمد عبد الغني حسن.
أما الموضوع الثاني فهو تعليق الأستاذ أحمد حسين الطماوي على كتاب فتحي رضوان (أفكار الكبار) فأشار إلى هجوم طه حسين على صوم رمضان في أشعاره القديمة وقوله:
لو أن لي في الناس حكماً نافذاً * * * ألزمت بالإفطار كل الناس
وقد أورد في مقاله الذي هاجم فيه الصوم (مجلة مصر الفتاة 15/9/1909) حيث قال: "نبغض الصوم ونمله" واستشهد في ذلك بشعر لأبى نواس قال فيه، إذا مضى من رمضان النصف حل لنا اللهو والقصف، وشعر لابن الرومي وصف فيه شهر رمضان بأنه شهر ثقيل بطيء الظل والحركة.(/7)
وهكذا تنكشف خبيئية طه حسين قبل سفره إلى أوروبا وهو ما أشار إليه الأستاذ أحمد حسين من أنه لا يحترم المبادئ، ولا يقيم وزناً للقيم التي تعارف عليها الناس، وأنه منذ اتصل بالمستشرقين في الجامعة المصرية القديمة فقد أعد نفسه لحياة معينة.. وأشار الكاتب إلى مغالاة طه حسين في مدى تأثير الثقافة اليونانية على المصريين عل نحو ما نقرأ في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" غلواً شديداً أخرجه عن دائرة الصواب في كثير مما قاله.
وردد الكاتب ما ذكره فتحي رضوان في دراسته عن طه حسين ليوضح لنا أثر الثقافة الغربية ويمهد لهذا بقوله:
"وقد كانت نفس طه حسين كالمكان الفارغ.. فإنه لم يحصل من العلم الأجنبي قبل وفوده إلى مونبيليه وباريس إلا قليلاً، ومن هنا كان يفرح بكل ما يصل إليه من كتب فرنسا وأساتذتها وعلمائها، ويعجب به ويتأثر به ظاهراً وباطناً، ويراه المثل الأعلى".
ومن بين ما تعلمه طه حسين في فرنسا (علمانية الدولة) و (نزع قداسة الدين من النفوس) وراح يفصل ويبين أثره في تكوين أفكار طه حسين وبالأخص الآراء التي أثبتها في كتابه (في الشعر الجاهلي) وردود رجال الدين والفكر عليها.
ولكن لماذا تأثر طه حسين بالثقافة الغربية، وجنح إلى التطرف والغلواء وخاصة فيما يتعلق بالعقيدة. إن من يراجع مقالات طه حسين وقصائده المبكرة التي كان يكتبها في الجرائد قبل اتصاله بفرنسا عام 1914 م يقف على حقيقة مرة.. وهي أن هناك أفكاراً غربية تكشف عن طبيعة عقديته الدينية، وإن هذه الكتبابات تدعونا إلى القول بأن نفسية طه حسين كانت مهيأة ابتداء لتلقي الآراء والأقكار التي ألقيت عليه في السربون والتجاوب معها.. وإلا فبماذا نفسر عدم اعتناق الدكتور محمد صبري السربوني لمثل هذه الآراء المتطرفة، بل إن صبري رد على ما كتبه طه حسين عن الشعر الجاهلي مع الأخذ في الاعتبار
أن زوجته كانت أوروبية أيضاً واسمها سوزان أيضاً".
كل هذا الذي نشر عن طه حسين مفرقاً وحول المهرجان الذي حشد فيه المستشرقون الذين كانوا يدافعون عن فكرهم ووجودهم في العالم الإسلامي وأثرهم فيه.. وكذلك التغريبيون من خلال طه حسين وإحساساً بأن هدم طه حسين هو أكبر معول في مؤامراتهم الخطيرة على الإسلام واللغة العربية والتاريخ والرسول صلى الله عليه وسلم.. كل هذا هو صوت الحق الذي شاء الله تعالى أن ينشر ليحق كلمة خالصة، من خلال رجال أعلام: أمثال أحمد حسين وفتحي رضوان.. ولا ريب أن هذه الخيوط تكمل ما ذهبنا إليه، وما نشره تلاميذ العميد وأقرب المقربين إليه.
ومن حسن الحظ أن هذا كله نشر في مجلة وزارة الثقافة كما نشر بها مقال محمود محمد شاكر الذي يسجل فساد الاتجاه الأدبي في الجامعة وكلية الآداب بفضل طه حسين ويأتي في نفس الوقت الحديث عن مؤامرة طه حسين في "الانتماء المصري للعروبة والإسلام" وهو الموضوع الذي أثاره (عبد الحميد الكاتب) والذي يكشف بوضوح عن جريمة طه حسين في تجريد المصريين من طابعهم كعرب وكمسلمين، وربطهم بالفرعونية قديماً وبالبحر الأبيض والغرب والحضارة اليونانية على نحو ذلك الأسلوب المضلل الذي ساقه في كتابه "مستقبل الثقافة" والذي جاراه فيه بعض التغريبيين، والذي أثبتت الدراسات والأحداث فساده وكذبه، وهزمته الحقائق التي تكشف عنها وجه مصر العربي الإسلامي الذي شكل مصر أساساً، وتكشف معه ضلال فكرة السبعة آلاف عام.. فقد أجمع المؤرخون المنصفون على أن هناك "انقطاع حضاري" بين عصر الإسلام وما قبله، وأن الإسلام قد غير هذه البلاد جميعاً، وعزلها عن اللغات والعقائد والتقاليد، والأساطير والوثنيات القديمة التي عاش فيها خلال ألف سنة من حكم اليونان والرومان، وفتح صفحة جديدة من التوحيد الخالص عن طريق القرآن واللغة العربية والإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كل المحاولات الباطلة والزائفة لإعادة الفرعونية أو الفينيقية أو غيرها من الدعوات لم تنجح.. لأنه لا يوجد لها تراث أو ولا ثقافة لها أصول يمكن الارتباط بها، وهذه الدعاوي من أمثال ما كتبه محمد حسين هيكل وغيره.. وكذلك من ناحية أخرى فشلت دعوى المتوسطية والفكر اليوناني التي دعا إليها طه حسين ومحمود عزمي وأولياء النفوذ الفرنسي السياسي في الثلاثينيات والأربعينيات وتبين أن مصر تتجه إلى قبلة الكعبة وإلى مصدر النور والرسالة الفكرية الثقافية والعقائدية.. الإسلام الذي جاء خاتماً للأديان وجاء كتابه مهيمناً على الكتب وجاء كما قال الحق تبارك وتعالى: "ليظهره على الدين كله".(/8)
هل في التيسير جناية على الشريعة؟!
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ أصول الفقه /الفتوى والإفتاء
التاريخ ... 1/05/1425هـ
السؤال
أحس -يا فضيلة الشيخ- بأن هناك فهماً خاطئاً – مجرد إحساس وخواطر وليس جزماً – من بعض المشايخ، وطلبة العلم، والدعاة، لحقيقة يسر الدين وسماحته, وخطأً في فهم بعض القواعد والأصول –،أرى ميل بعضهم إلى أقوال مرجوحة، أو ضعيفة؛ بحجة التخفيف والتيسير, وأزعم بأن خوف بعضهم من اتهام الدين بالشدة – من المنافقين والعلمانيين – يحملهم على الميل إلى الأسهل، وإلى محاولة التقريب بين الدين وبين أقوال بعض أعدائه، كما نسمع عن الشيخ محمد عبده -رحمه الله- بأنه كان جسراً لدعاة تحرير المرأة من غير أن يشعر, وبعضهم يحمله ضعف الناس عن قبول الحق والعمل به إلى أيسر الأقوال، وأضعفها.
إني أخشى – حقاً يا فضيلة الشيخ – أن يكونوا قد أخطأوا – وبحسن نية – في بعض فهمهم وآرائهم، هناك قاعدة مشهورة : ( قاعدة سد الذرائع )، وكما تشدد فيها قوم, أرى مؤخراً تساهلا بها والقول بأن (منع الناس سيؤدي إلى ارتكابهم المحظور فلنتساهل ولا نضيق على الناس!)
إني أظن أنك تراني متشائماً، ولست كذلك، ولكن هذا ما يدور برأسي من خواطر أحببت سماع رأيكم فيها، والله يحفظكم ويوفقنا وإياكم لكل خير.
الجواب(/1)
لقد صدقت مع نفسك حين وصفت ما بدا لك بأنه خواطر -جمع خاطرة- دارت في ذهنك، إذ مادة (خطر)، بجميع اشتقاقاتها، وتصريفها تدور على الوهم، والظن، والتردد، وعدم الجزم، وما دار في ذهنك عن بعض الدعاة، والصالحين في هذا العصر من كونهم إنما ركبوا موجة التسامح، والتيسير من أجل التقريب بين الدين، وبين أقوال أعدائه، ضرب من الوهم والتجني على معظم الدعاة والوسطية في أسلوب دعوتهم، وكأنك تميل إلى الشدة وتحبذ التعسير على الناس في الفتوى، وكيف يكون هذا والإسلام دين اليسر، والسماحة والرخصة، والإباحة؛ قال –تعالى-: "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، وقال: "وما جعل عليكم في الدين من حرج"[الحج: 78]، ويقول الرسول – صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق" رواه أحمد(27318) من حديث أنس –رضي الله عنه-، ويقول: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه" رواه مسلم(1828) من حديث عائشة-رضي الله عنها-، ويقول أيضاً – صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته" رواه أحمد(5832) من حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-، وقاعدة: (سد الذرائع)، لا يعمل بها في كل حال، كما قرر العلماء كابن القيم الجوزية في كتابه:(أعلام الموقعين) حيث يقول: إن الذرائع كما يجب سدها حيناً يتعين فتحها، في أحيان أخرى، والفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، والأحوال، والنيات، ويقول بعض العلماء: إن إعمال قاعدة (سد الذرائع) يتعين في جانب العقيدة دون سائر الأحكام الفرعية، وإفتاء العالم الناس بالرخصة والتيسير هو عين الصواب، وضد ذلك التشدد والتعسير في الدين، في الحديث قصة النفر الذين جاءوا إلى بيت النبوة يسألون عن عبادته – صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: فأقوم الليل ولا أرقد، وقال الثالث: لا آكل اللحم، ولا أتزوج النساء، فبلغ النبي – صلى الله عليه وسلم- مقالهم فجمع الناس، وخطبهم، فقال: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أما إني والله لأتقاكم لله، وأعلمكم به، وإني أصلي، وأرقد، وأصوم، وأفطر، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" رواه البخاري(5063)، ومسلم(1401) من حديث أنس –رضي الله عنه-، ثم إن الناس يتفاوتون في تدينهم، كما يتفاوتون في إيمانهم زيادة ونقصاً، وقوة وضعفاً، فالمفتي والعالم يعطي كلاً من هؤلاء ما يناسبهم، كما كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يفعل مع صحابته –رضي الله عنهم-، حيث يعطي الإمارة البعض ويمنعها عن البعض الآخر، كما منعها أبا ذر الغفاري – رضي الله عنه-، فالفتاوى بالرخصة والتيسير هي الفقه الذي أمر الله به، قال سفيان الثوري: (العلم أن تسمع الرخصة من ثقة، أما التشديد فكل يحسنه)، وبناء على ما سبق فإن الظن ببعض الدعاة والمصلحين اليوم بأنهم إنما ييسرون لقصد موافقة الأعداء من الظن السوء المنهي عنه، وأما رفع الدعوة والمناداة بفقه التيسير والتسامح وتجديد الخطاب الديني بما يناسب العصر، مع التمسك بالثوابت والمسلمات فهو عين الصواب الذي هو فقه الواقع الذي يدخل إلى القلوب بلا استئذان، كما يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله-: (بل هو اليسر والتوسط في كل الأمور بين إفراط المتحللين، وتفريط المتشددين)، ومقولة: (هم رجال ونحن رجال)، صحيحة إذا كان القائل لها معه دليل صحيح وفهم صريح، حيث الرجال يعرفون بالحق، ولا يعرف الحق بالرجال، فكل يؤخذ منه ويرد غير النبي – صلى الله عليه وسلم - المعصوم فيما يبلغه عن ربه -صلوات الله وسلامه عليه- ولا يجوز في الدين تقليد الرجال ابتداءً إلا من لم يعرف أدلة أولئك الرجال. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، آمين.(/2)
هل في الزواج مكان للصداقة؟!
إبراهيم الزعيم 27/8/1426
01/10/2005
العلاقة الزوجية أساس متين من أسس الحياة أرسى قواعده الإسلام العظيم؛ فقد جعل المودة والرحمة عنواناً لهذه العلاقة التي تميزت عن غيرها من العلاقات التي قد تنشأ بين أي طرفين، ولكن السؤال الذي أحببنا إثارته هو: إلى أي مدى يمكن أن يعد كل من الزوجين زوجه صديقاً له؟
حول هذه القضية كان لنا في شبكة (الإسلام اليوم) هذا التحقيق.
أساسها تقوى الله وطاعته
نادر شبلاق (48 عاماً) قال: إن الحياة الزوجية قائمة على المودة والرحمة؛ فالزوجة سكن لزوجها والزوج سكن لزوجته، فإذا ما عد كلا الزوجين الآخر شريك حياته في حلوها ومرها فإن العلاقة الزوجية تتطور إلى أرقى مستوياتها، وتذوب معها كل الخلافات التي قد تعكر صفو الحياة.
ويضيف شبلاق " إذا بنى الزوجان حياتهما على تقوى الله - سبحانه وتعالى- وطاعته، فإن الصداقة والشراكة ستكون عنوان حياتهما، الأمر الذي سيمنحهما السعادة والطمأنينة؛ لذلك أدعو الأزواج إلى تطبيق هذا الأساس العظيم؛ لأنه ركن مهم في صداقة أي اثنين، وخاصة إذا كان هؤلاء الصديقان هما الزوجين".
وأكد أن المصارحة بين الزوجين تُعد بداية لصداقة وشراكة بين الأزواج؛ إذ إنها تقرب القلوب من بعضها، مضيفاً " إذا كانت البداية كذلك فإن الفوارق النفسية والفكرية بينهما ستزول، وترفرف عليهما السعادة والطمأنينة والراحة النفسية".
اعتبار كل من الزوجين زوجه صديقاً له يعد عاملاً رئيساً من عوامل استمرار الحياة الزوجية، فهو يساعدهما على الاقتراب من بعضهما أكثر فأكثر، بحيث تزول كل الحواجز التي كانت بينهما في السابق، بهذه الكلمات بدأ محمد الأستاذ (22 عاماً) حديثه معنا، مضيفاً " إنني أعد زوجتي صديقة لي وشريكة حياتي، لذلك أصارحها في كل مايخصنا، وأسعى دائماً لاستشارتها".
ليس في كل الأحوال
أما محمد (27 عاماً) فقد خالف رأيه رأي سابقيه؛ إذ يرى أنه لا يمكن اعتبار الزوجة صديقاً في كل الأحوال، ويفسر محمد -الذي تزوج منذ عامين- رأيه هذا فيقول: " الكذب هو سر نجاح الزوجين؛ لأن النساء عندهن حساسية من تصديق الصدق، فطالما أن الزوج صادق فيجب أن يكذبوه، الزوج حتى ينجح في حياته، وخاصة بعد مرور سنوات على الزواج يحتاج إلى نفاق زوجي أحياناً، فأحياناً يكون غير راغب في الجلوس مع زوجته ويضطر أن يحدثها قليلاً حتى تتركه وشأنه" .
أم عبد الله (32 عاماً) ترى أن اعتبار كل من الزوجين الآخر صديقه أمر يقزم العلاقة الزوجية، مشيرة الى أن الصداقة لاتنطبق على العلاقة الزوجية؛ إذ إنها تُعدّ أعم من هذا الوصف، إلا أنها استدركت قائلة: " إذا عددنا المصارحة والمشورة صداقة فقد يكونان صديقين، إلا أن العلاقة في المجمل لايمكن حصرها في هذه الكلمة" .
في الحياة العامة
أم أحمد (20 عاماً) قالت لنا: إنه من الممكن أن يكون الزوجان صديقين، إلا أنها بينت أن ذلك ليس حالة عامة؛ إذ إن هناك أموراً لا يمكن أن يكون فيها الزوجان أصدقاء.
وبينت لنا ذلك بقولها: " في الحياة العامة من الممكن أن يكونوا أصدقاء من خلال نقاشهم في القضايا التي تهم المجتمع بشكل عام، أما في القضايا التي تتعلق بحياتهما الخاصة فإن الصداقة ستكون جزءاً بسيطاً من حياتهما".
أما زوجها أبو أحمد (26 عاماً) فقال: إن الزواج نعمة من الله - سبحانه وتعالى- وهذه النعمة تُعدّ مثلاً يحتذى في العلاقة، فهي جامعة لكل الأوصاف الحسنة التي قد تجمع اثنين.
ويضيف أبو أحمد -الذي أبدى إعجابه بهذا الموضوع الذي تناقشه شبكة (الإسلام اليوم) على بساط البحث- أن الصداقة حب وإخلاص ومودة ورحمة، مؤكداً أن هذا مايفتقده الكثير من الأزواج في هذه الحياة.
مكمّل للآخر
الشيخ علي غراب - الداعية الإسلامي – قال: إن المشاركة بين الزوجين يجب أن تكون من الناحية النفسية والإنسانية التي أمر بها الشارع الحكيم؛ إذ قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21]. فهذه الرحمة لا تتم إلا عبر تآلف الزوجين، بحيث يشعر كل منهما أنه مكمل للآخر، فلا يكون الزوج متسلطاً على زوجته، ظاناً أن له اليد الطولى في الإنفاق والقوامة، فالأمور لاتتم على هذا النحو، ولكن وفق منظومة إسلامية أمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم – بقوله: "رفقاً بالقوارير".
وأضاف الداعية الإسلامي أن الإسلام اعتنى عناية فائقة بالعلاقة الزوجية، وغلفها بغلاف الرحمة والرأفة والمودة، مؤكداً أن الغرب الذي يتشدق بحرية المرأة ويزايد على الإسلام لم يصل إلى ما وصل إليه الإسلام في احترامه وتقديره لهذه العلاقة.(/1)
ويوضح أنه من خلال هذه العلاقة التي تربط الزوجين ببعضهما تنبع أهمية مشاركة كل منهما الآخر في تطلعاته وهمومه، وهو الأمر الذي لربما لايوجد بين اثنين آخرين، فالحب والرحمة والصداقة لابد أن يدفع كلاً منهما إلى إفشاء أسراره للآخر، ليس من باب الفضيحة، وإنما من باب النصيحة، حتى تُبنى الأسرة على لبنة متينة، بحيث يُعرف من خلالها مواطن الضعف فتقوى، ومواطن القوة فتصبح أشد قوة.
شراكة لا تنتج سلعاً
أما محمد السويركي - باحث فلسطيني ومهتم بشؤون التنمية البشرية – فقال: إن العلاقة الزوجية من الأمور التي حيّرت الكثيرين، فهي وعلى الرغم من كونها في ظاهرها علاقة شراكة إلا أن طبيعتها مختلفة، فهي من ناحية علاقة بين طرفين، وفق شروط معينة تخص مصالح الطرفين يمثلها عقد الزواج، لكنها من الناحية الأخرى (وعلى العكس من الشراكات العادية) يمكن أن تختل، بل ويمكن أن تستمر في حالة الخلل دون احتجاج من الطرف الآخر (المرأة في الغالب الأعم)، ذلك أن ما ينتج عن هذه الشراكة شيء مختلف عما تنتجه الشراكة العادية، فهي شراكة لا تنتج سلعاً، أو تحقق أرباحاً يمكن اقتسامها، بل تكون نتيجتها أسرة وأبناء لا يمكن اقتسامهم، أو إعطاؤهم لفريق دون الآخر؛ لأن البناء الأسري ساعتها سيختل من أساسه، موضحاً أنه من هنا يجب رؤية الأمر من خلال نظرة صحيحة، وهي أن الزواج مؤسسة قائمة على الشراكة، لكن شراكة مرنة من نوع خاص، ومرونة هذه الشراكة تنبع بشكل أساس من الطبيعة اللطيفة للمرأة، ومن الحرص الذي ميزها الله به على المحافظة على بنيان الأسرة.
ويضيف الباحث الفلسطيني متسائلاً: " فما هي طبيعة هذه العلاقة؟ وما هي الأشكال التي يمكن أن تتخذها؟ ". ويجيب قائلاً: " العلاقة الزوجية- وبلا مبالغة- يمكن أن تبين لنا نوعية المجتمع الذي نحن بصدد دراسته، فكلما اختلت العلاقة بين الرجل والمرأة نمّ ذلك عن اختلال في القيم المجتمعية، لذا لن نجد مجتمعاً يحترم نفسه يقبل على نفسه أن يظلم المرأة، ونحن في منطقتنا العربية نجد هذا الأمر واضحاً؛ ففي الوقت الذي اختلت فيه موازين المجتمع؛ إذ ابتعد الناس عن دينهم، وجدناهم - والرجال تحديداً- يصبحون أكثر جرأة على اقتراف الظلم بحق المرأة، والعكس صحيح، فكلما لمسنا آثار عودة الشباب إلى دينهم وإلى ربهم وجدنا أن تلك العلاقة تعود إلى شكلها الصحيح الذي أراده الله لنا، ولا ننسى أن ننوه إلى ما للعلم وانتشار التعليم من أثر إيجابي في زيادة ثقة الرجل بنفسه، مما يمكنه من أن يكون طرفاً فاعلاً في علاقة زوجية سليمة.
وحول وصف العلاقة الزوجية بالصداقة أشار إلى أن كلمة "صداقة" هي كلمة جميلة، لكن العلاقة الزوجية يمكن أن تكون أجمل، فبينما نتعامل مع الأصدقاء على قاعدة الندية، فإن علاقة الرجل بالمرأة يجب أن تكون أكثر رقياً، بحيث يمكن للرجل أن يكون أكثر استيعاباً لزوجته، وللمرأة أن تكون أكثر انحيازاً لزوجها دون أن ترى فيه خصماً كما يحاول البعض أن يقنعنا، وقد وصف الله -عز وجل- الحياة الزوجية بأنها بنيان قائم على أساس من "المودة" و "الرحمة" (وجعل بينكم مودة ورحمة)، والمودة والرحمة هما أجمل وأرق وألطف المشاعر الإنسانية التي يمكن أن تقوم عليها شراكة، مضيفاً أن علاقة الزوج بزوجته يمكن أن تقترب من شكل الصداقة إذا ما توفر بين الطرفين مجموعة من الأخلاق ومنها: الاحترام المتبادل، حصر الخلافات الزوجية في أضيق نطاق، الفخر بالطرف الآخر أمام الآخرين، حسن الإنصات للآخر، الشكر الدائم كل للآخر على ما يقدمه من جهد. وهي أخلاق إذا ما تم التعامل وفقها، فإنها تفرض على الزوجين احترام كل منهما للآخر، وهو الأساس الطبيعي لعلاقة زوجية سليمة.
مفاهيم مغلوطة(/2)
د حمدان الصوفي -أستاذ مساعد في قسم أصول التربية بالجامعة الإسلامية – قال: لو قلنا إن الزواج في الإسلام يُعدّ صداقة وشراكة لكانت التسمية دقيقة جداً، والسبب في ذلك أنها تشبه الشراكة من ناحية المصالح المشتركة والضريبة المطلوبة من كل طرف؛ إذ يتصف الزواج بعدة أوصاف وهي أنه حقوق وواجبات، ورعاية ومسؤولية، فعلى كل من الزوجين أن يقدم الرعاية للحياة الزوجية، والنبي - صلى الله عليه وسلم – يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها" ، بالإضافة إلى أنه يتطلب تحمل الأذى والصبر عليه، فالصداقة لا يمكن أن تتم بدون صبر وتحمل، والله يقول: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا...)[طه: من الآية132]، كما أن الخطاب موجه إلى المرأة في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "لو كنت آمر أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، موضحاً أن النصوص القرآنية توضح هذا المعنى بشكل كبير، وذلك من خلال قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]. فهذه الآية توضح أن هذه النفس مشتركة - وهي نفس آدم عليه السلام - وخلق الزوجين منها، مضيفاً أن التسمية ذاتها (الزوجان) توضح مدى حقيقة الشراكة والصداقة الزوجية.
وحول طبيعة الرابطة بين الزوجين يقول د. الصوفي: إن الله - سبحانه وتعالى- وضح هذه العلاقة من خلال العديد من الآيات، منها قوله تعالى: (...وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً) [النساء: من الآية21]، فطبيعة العلاقة قوية، والإسلام أضفى عليها نوعاً من القدسية والاحترام، مشيراً إلى أنه إذا كانت طبيعة الرابطة بهذه القوة فإن طبيعة العلاقة كذلك تتجاوز حد الصداقة، فإذا قلنا: إنه صداقة، فإنه من خلال وجه من وجوهه صداقة، لكنه أعمق من الصداقة والشراكة؛ إذ إن الصداقة والشراكة والتكافل كل واحدة منها تعدّ وجهاً من وجوه العلاقة الزوجية"، كما يتضح ذلك من قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21]. فطبيعة العلاقة الزوجية تشمل السكن والطمأنينة والمحبة والرحمة التي تظهر على الجوارح، كما يقول سبحانه وتعالى: (...هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ...) [البقرة: من الآية187]، وهذه الكلمة فيها معاني تربوية كثيرة، فكلمة اللباس توحي بمعاني كثيرة وهي: الستر؛ فالزوجان كل منهما ستر للآخر: ستر مادي ومعنوي. والزينة؛ فالزواج زينة. والحماية؛ فالزواج يحمي الزوجين من الوقوع في المهالك. والقرب والالتصاق؛ فالزوجان كل منهما قريب من الآخر نفسياً وعقلياً. والإمتاع؛ فالحياة الزوجية فيها متعة عقلية وجسمية ووجدانية.
وأضاف أن الحديث عن الصداقة والشراكة لا يلغي شخصية أحد الزوجين؛ إذ إن هناك استقلالاً كاملاً لكل منهما، كما أن العلاقة بين الزوجين ليست قائمة على التنافس وتنازع الأدوار، مضيفاً أن الزواج قائم على تكامل الأدوار والوظائف.
وأشار الى أن هناك الكثير من المفاهيم المغلوطة حول العلاقة الزوجية، مثل الخلط بين الاستبداد والتحكم والقوامة؛ إذ يحرم الزوجة من إبداء الرأي والتصرف بحجة أن له القوامة، وبين المشاورة والرضوخ؛ إذ إن البعض يعتقد أن من يشاور زوجته يُعدّ محكوماً لزوجته أو راضخاً لها، و من المفاهيم المغلوطة الخلط بين العنف والرجولة؛ إذ يعد بعض الأزواج أن الرجل هو "العنيف" مع زوجته وأبنائه، والليّن هو الضعيف(/3)
هل في السياسة أخلاق ؟!!
د.عدنان علي رضا النحوي
سؤال يسأله بعضهم ، وسؤال يُفكِّر به الكثيرون ، وسؤال تثيره الأوضاع السياسية المشاهدة في الواقع !
إن التناقض الواضح بين ما يدرسه المسلم في كتاب الله وسنَّة رسوله وبين ما يشاهده في الواقع سبب رئيس لإثارة هذا السؤال .
الإسلام يدعو إلى الأخلاق . والأخلاق في الإسلام ليست قضيّة مستقلة تُدْرس وحدها وتُمارسُ وحدَها . إنها قضية داخليّة في صميم نسيج الإسلام ، فهي مع كلِّ حركة وكلِّ نشاط وكلِّ ميدان . وهي عطاء الإيمان والتوحيد ، وعطاء الشهادتين والشعائر ، وهي عطاء كلّ ممارسة إيمانية في أيِّ ميدان من ميادين الحياة !
الأخلاق إذا خلت من أيّ عطاء أو ممارسة فإنَّ العطاء والممارسة لا يعودان من الإسلام .
الأخلاق تتمسك بكل خير وحق وفضيلة ، وتدعو إلى كلِّ برٍّ وعدلٍ ورحمةٍ، وإلى نبذ الكذب والغش والخداع ، والظلم والعدوان ، والسرقة والافتراء، والخيانة ، والزنا وسائر الفواحش ، والخمر والمخدرات ، والعجز والكسل ، والنفاق ، وكثير غير ذلك ، مما أتت به الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة .
كيف يمكن أن تقوم الحياة ، أو يسودها العدل والبرُّ والرحمة إذا خلت الحياة من هذه الأخلاق . أيُعقل أن يسود العدل والمساواة والقسط إذا كان الذين يديرون الأمور مخمورين ، سكارى ، كذَّابين ، منافقين ، يعبدون الأهواء والشهوات ؟!
وإذا نظرنا إلى واقع البشريّة اليوم وما نرى فيها من حروب ومجازر ، ومظالم وعدوان ، وفساد وشر ، وإذا تساءلنا ما سبب ذلك ، لكان الجواب المباشر الأول هو فقدان الأخلاق !
لقد امتدَّ الكذب والخداع ، والتآمر ونجوى الكواليس ، وانتشرت ألوان وألوان من الفساد والجرائم تحت شعارات مزخرفة وزينة وفتنة .
وعندما تدرَّس السياسة في الجامعات هل تدرّس معها مكارم الأخلاق ، أم تدرَّس أساليب الخداع والكذب والمناورات ، والتنافس على الدنيا في جميع ميادينها .
لا ننسى مدرسة نيقولو ميكافيلي ( 1469 – 1527م ) الفيلسوف السياسي الإيطالي الذي دعا في كتابه : " الأمير " الذي قدَّم فيه نصائح عملية لرئيس أيّ دولة إذا أراد أن ينجح . وكان محور نصيحته تلك أنه يجب على الرئيس أن يتجاهل الاعتبارات الخلقية كليّة ، ويعتمد على القوة والدهاء ، والكذب والغش ، واستعمال القوة دون أيّ شفقة أو رحمة . ويستطرد في نصيحته للأمير : " بأن لا يعتمد على الاحتفاظ بإيمانه ودينه إذا كان ذلك يتعارض مع مصلحته ..." !
من هنا ينكشف التناقض في الفكر والنفسية حين يقول : " ... إذا كان ذلك يتعارض مع مصلحته ..." ! فما هي المصلحة التي تتعارض مع الإيمان والدين . إنها مصلحة الدنيا وأهوائها وزهوتها وشهواتها ! وهنا تكمن المفارقة والمفاصلة والحسم .
ولقد امتدَّ تأثير هذه الفلسفة المضللة إلى عدد غير قليل من زعماء العالم وقادته الذين ارتكبوا خلال حكمهم أبشع الجرائم ، مثل نابليون بونابرت ، وهتلر ، وموسوليني ، وستالين ، وغيرهم !
محور فكر " ميكافيلي " وأساس التصوّر وميزان المصلحة عنده هي الدنيا:
(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ) [ إبراهيم : 3 ]
وفي التصوّر الإيماني ، كما يقرره الكتاب والسنَّة فإن الميزان ميزان آخر. فالهدف الأكبر هو الدار الآخرة ، الحياة الحقيقية الدائمة ، وما الحياة الدنيا إلا دار ابتلاء وتمحيص ، يأخذ المؤمن الصادق منها ما يعينه على بلوغ الدار الآخرة والفوز بالجنَّة !
( ..... وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ ) [ يوسف : 109 ]
نهجان مختلفان ومصيران مختلفان :
(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [يونس : 7-8]
هذا نهج الدنيا ونهج ميكافيلي ، وهناك النهج الآخر :
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) [ يونس : 9-10]
نهج الضلال ونهج الحقِّ والرشدِ ... ... نهجان قد ميّز الرحمن بينهما
نهج الفساد ولا صدقاً على فَنَدِ ... ... لا يجمع الله نهج المؤمنين على
من هنا يتضح بشكل حاسم أن السياسة في ميزان الإسلام أخلاق ، ووفاء وصدق ، كما فصَّل ذلك منهاج الله . إنه صدق يقوم على الإيمان والتقوى والعلم، ووفاء يقوم على الوفاء الأول بعهد الله ، وموالاة تقوم على أساس الولاء الأول لله، ومحبَّة تنبع من الحبِّ الأكبر لله ولرسوله وترتبط به وتسير معه .(/1)
ولكن السياسة ، وهي تحمل هذه الأخلاق كلها ، موهبة وطاقة وقدرة ، تقوم على أساس : الإيمان والتوحيد ، العلم الصادق بمنهاج الله قرآناً وسنةً ولغة عربيّة ، وفهم الواقع بردِّه إلى منهاج الله ردَّاً أميناً ، والتزوّد بكلِّ علم صادق يفيد في فهم الواقع من خلال منهاج الله ، لا من خلال البحث عن تسويغات لفساد الواقع وضلاله والخضوع له .
فالسياسة في الإسلام : صفاء إيمان وصدق توحيد ، وصدق علم بمنهاج الله، وفهم الواقع ووعيه ، وموهبة قادرة على صفاء الاجتهاد والممارسة الإيمانية الصادقة التي تحمل معها ميزان المؤمن لتزن به الناس والأحداث ، فتبرز الأخلاق بروزاً كريماً ، وتشرق إشراقتها الغنية !
ليست مهمة المسلمين في الحياة الدنيا الخضوع للواقع واختراع المسوِّغات لهذا الهبوط . إنما مهمة المسلمين أن يدفعوا برسالتهم الربَّانيَّة إلى قلب الواقع ليغيّروا الباطل وينشروا الإصلاح !
ولقد طبّق رسول الله السياسة في أعظم أشكالها وميادينها ، لتكون جزءاً من الرسالة الربَّانيَّة وممارستها في واقع الحياة . فما كذب صلى الله عليه وسلم ولا خدع ولا غشّ ولا خان ، ولا ضعف ولا استكان ، وإنما كان خُلقه القرآن كما قالت عائشة رضي الله عنها .
ولقد أثنى الله على رسوله محمد ثناءً عظيماً ممتدّاً في القرآن الكريم ، ولعلَّ أعلى ثناء كان قوله سبحانه وتعالى :
( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [القلم : 4 ]
وحسْبُكَ حديث رسول الله يرويه عنه أبو هريرة رضي الله عنه :
( إنما بُعثْتُ لأتمّم صالح الأخلاق )
وكذلك مارس أصحاب رسول الله السياسة في صدقها الإسلامي وعدلها الإيماني ، كما نرى ذلك في الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم . وإذا أخلَّ أحد بأخلاق السياسة في الإسلام ، فذلك ذنبه وعمله الذي لا يمثّل الإسلام .
وقد يهبط بعض الناس في مسيرة التاريخ في ممارستهم السياسة ، وقد يكذبون ويخدعون ، فما ذلك من الإسلام مهما قيل في صلاحهم .
وإن ممارسة السياسة النظيفة ، سياسة الإسلام ، لتحتاج إلى وعي المسلمين والمجتمع الإسلاميّ كله . فالأمر لا يتوقف على " السياسي " وحده . وإنما يعتمد الأمر على الأمة كلها وتماسكها واستقامتها على رسالة الإسلام .
ومهما ساءت الظروف فلا يحلّ للمسلمين أن يخالفوا منهاج الله ، ولا أن يحلّوا لأنفسهم ما حرَّم الله ، ولا أن يخضعوا لضغط الواقع الذي يقدَّره الله سبحانه وتعالى ابتلاء منه لعباده المؤمنين ، حتى يميز الخبيث من الطيب ، ويعرف الصادق من الكاذب ، والأمين من الخائن ، ولتقوم المواقف كلها حجةً للإنسان يوم القيامة أو حجةً عليه .
وأمْرُ الله لرسوله ولعباده المؤمنين جليٌّ حاسمٌ فاصل :
(وَإِنَّ كُلاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [ هود : 112-113 ]
إنَّ المسلمين اليوم ، وهم في حالة من الوهن بأمسِّ الحاجة إلى المفاصلة والحسم ، والاستقامة على أمر الله . وإنه واجب العلماء والدعاة وكلِّ مسلم صادق واع ، أن ينصحوا جميعهم بوجوب الاستقامة على أمر الله ، والمفاصلة بين الرشاد والفساد ، والهدى والضلال ، والإسلام وغير الإسلام !
إن هذه الاستقامة والمفاصلة هي التي تمدُّهم بالعزيمة والقوّة ، وهي التي تفتح لهم أبواب الرحمة من عند الله ، فينزل الله نصره على المؤمنين الصادقين في ظاهرهم وباطنهم ، فيما يعلنون وما يكتمون .
إن اللجوء الصادق إلى الله ليفتح أبواب القوة وسبيل النصر ، ويوفّر المدد والعون ، والعدَّة والعدد :
" اللهم لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك "(1)
فالله هو القوي العزيز ، هو الذي ينزل النصر على من يشاء على ميزان عدل وسنن ماضية وقدر غالب وحكمة بالغة .
إن الله سبحانه وتعالى لا يَخذُل من يلجأ صادقاً إليه ، إنه هو البرُّ الرحيم ، وهو الغفور الودود ، وهو على كلِّ شيء قدير . فماذا تريدون أيها المسلمون من ملجأ خير من ملجأ عند الله ، ومنجا خير من منجا عند الله :
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )
[ الحشر : 22-24 ]
فماذا تريدون أيها المسلمون من قوة وسند وعون وملجأ وحماية أكبر من هذا كله . وإن الله قد وعد عباده المؤمنين بالنصر إذا هم أوفوا بعهدهم مع الله ، استقاموا كما أمر :
( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ )
[ غافر : 51 ]
وكذلك :(/2)
(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) [ يونس : 103 ]
وكذلك :
(أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) [ محمد : 7 ]
فنصر الله للمؤمنين حق ويقين إذا هم أوفوا بما عاهدوا عليه الله :
( ..... وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ) [ النساء : 122 ]
وكذلك :
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )
[ التوبة : 111 ]
وكذلك :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ) [ النساء : 122 ]
(فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [ التوبة : 11 ]
نعم ! إنه الحق ! : " .... وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ....."
كلما صدق المؤمنون مع الله استبشروا بنصر الله الحق . فالقضيّة إذن بيد المؤمنين ، بيد المسلمين ، ليصدُقوا هم الله ، وليجاهدوا من أجل ذلك في سبيل الله:
(وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) [ الروم : 6 ]
إنَّ كثيراً من جهود المسلمين اليوم تتّجه لمحاولة الانفتاح على عالم غير مسلم ، وعلى أفكار مخالفة للإسلام ، وعلى محاولة تزيين ذلك بمختلف أنواع الزخرف والزينة ، ولو أدى ذلك إلى تحريف بعض الأحاديث النبوية أو تأويل بعض الآيات، أو إلى تزاحم الاجتهادات والفتاوى المتناقضة ، حتى يبدو أن الكثيرين يريدون إرضاءَ الغربِ وتجنُّبَ غضبِه !
الأولى والحق أن نسعى إلى إرضاء الله سبحانه وتعالى بكل وسائل الطاعة والاستقامة والإنابة والخشوع ، وأن نتجنَّب غضبه بكل وسائل التوبة والعمل الصالح والاستجابة لأمره .
المسلمون حملة رسالة ربّانيّة ، ومحور عهدهم مع الله هو تبليغ رسالته إلى الناس كافة كما أُنزلت على محمد وتعهّدهم عليها .وعلى هذا الأساس يقوم تعاون المسلمين مع شعوب الأرض ، تعاوناً نبلِّغ فيه الرسالة وننصح للناس ، ونحمل الإسلام في كلمتنا ودعوتنا ، وفي سلوكنا وممارستنا ، حتى يروا الإسلام ديناً وتطبيقاً ، رسالة وممارسة .
إنها مسؤوليتنا اليوم ! فهل نقوى على النهوض إليها والوفاء بها . إنها تتطلّب منَّا أن ننطلق بدعوة الله بلاغاً وبياناً وتعّهداً ، إلى الناس كافّة ، دعوةً واحدةً ونهجاً واحداً ، وأهدافاً ربَّانيَّة واحدةً ، واضحةً جليّةً ، لا نُخْفي من دين الله شيئاً ، كما أُنزل على محمد، ولا نبدّلُ ولا نغيّر !
إنَّ مسؤوليتنا أن ندعو ونبلّغ ونتعّهد ، وأن نمضي بذلك على نهج مدروس، وخطة واعيةٍ ، نابعةٍ ، من منهاج الله والواقع الذي نردّه إلى منهاج الله ، والله يهدي من يشاء ، ويضلُّ من يشاء ، على حكمة بالغة لله .
إننا بذلك ننال رضا الله ، ونستمدُّ قوّتنا منه ، وعزيمتنا منه سبحانه وتعالى، إذا علم أنَّ نيَّتنا خالصة ٌ لوجهه الكريم ، نيّةٌ خالصة صادقة ، نيّة واعية ، تعرف الهدف وتعرف الدرب الذي يوصل إلى الهدف ، والوسائل والأساليب ، والعدّة الضرورية والزاد الضروري .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [ الأنفال : 24-25 ]
(1) البخاري مع الفتح : 11/113 ، مسلم : 4/2081 .(/3)
هل في تعدد القراءات القرآنية ما يقدح بصحة القرآن
ما برح أعداء الإسلام - قديمًا وحديثًا - يتربصون بهذا الدين الدوائر، ويحاولون - ما وسعهم - الطعن به، والتشكيك فيه. وقد دأب علماء هذه الأمة - المتقدمين منهم والمتأخرين - على التصدي لهذه المحاولات التشكيكية، والرد عليها، والكشف عن زيفها وزيغها، والإبانة عن حقيقتها وغايتها، مستهدين في ذلك بقوله - سبحانه وتعالى -: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (التوبة: 32).
ولعل القراءات القرآنية كانت من أكثر المجالات وأخصبها للطاعنين بهذا الدين، والمشككين بأمره، وكانت من جملة المداخل التي حاول أعداء هذا الدين الولوج منها، لتحقيق مآربهم، وتنفيذ أغراضهم.
وكان من جملة الشبه التي أثيرت حول القراءات القرآنية - وهي من الشبه القديمة الحديثة - شبهة تقول: إن اختلاف القراءات القرآنية يدل على اضطراب في النص القرآني، ويخالف أيضًا ما نص عليه القرآن من عدم وجود اختلاف فيه، كقوله - تعالى -: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) وقوله كذلك: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42).
وقد عبَّر ابن قتيبة - قديمًا - عن هذه الشبهة، فقال - رحمه الله -: "..وكان مما بلغنا عنهم أنهم يحتجون بقوله - عز وجل -: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} وبقوله: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} وقالوا: وجدنا الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم يختلفون في الحرف... والقراء يختلفون؛ فهذا يرفع ما ينصبه ذاك، وذاك يخفض ما يرفعه هذا، وأنتم تزعمون أن هذا كله كلام رب العالمين، فأي شيء بعد هذا الاختلاف تريدون، وأي باطل بعد هذا الخطأ واللحن تبتغون؟!!.
وظاهر مما تقدم أن هذه الشبهة ذات شقين، الأول: يعتبر اختلاف القراءات اضطراب في نص القرآن، والثاني: يرى أن اختلاف القراءات يخالف ما أخبر الله به عن كتابه الحكيم، من نفي وجود الاختلاف فيه.
وفي الرد على الشق الأول من هذه الشبهة، نقول: إن معنى الاضطراب في النص: هو وروده على صور مختلفة أو متضاربة، لا يُعرف الصحيح الثابت منها، أما وروده على صور كلها صحيح، فليس في ذلك شيء من الاضطراب.
ثم إن قراءات القرآن المعتمدة، وإن اختلفت في النص الواحد قراءة، غير أنها كلها مقطوع بثبوتها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا ثبتت القراءة سنداً ونقلاً، فلا مجال لردها أو إنكارها.
كما أن فيما أخبر به - عليه الصلاة والسلام - من أن (القرآن نزل على سبعة أحرف) والإذن بقراءته حسب ما تيسر من ذلك، ما يُثبت مشروعية القراءات القرآنية، وعدم الالتفات إلى قول من قال بخلاف ذلك.
وقد ردَّ ابن حزم - رحمه الله - على هذه الشبهة، بقوله: "... فليس هذا اختلافًا، بل هو اتفاق منا صحيح؛ لأن تلك الحروف وتلك القراءات كلها مبلَّغ بنقل الكوافِّ إلى رسول الله صلى الله وسلم أنها نزلت كلها عليه، فأي تلك القراءات قرآنًا فهي صحيحة، وهي محصورة كلها مضبوطة معلومة، لا زيادة فيها ولا نقص ".
فحاصل الرد هنا: أن اختلاف القراءات ليس من قبيل الاضطراب وعدم الثبات، كما يدعي ذلك الذين في قلوبهم زيغ، والذين يريدون أن يصدوا عن السبيل، بل جميع ذلك حق ويقين ثابت، أعلمنا به الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما الرد على الشق الثاني من هذه الشبهة، فجوابه ما أسلفنا من إخباره - صلى الله عليه وسلم - (أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ، فاقرؤوا ما تيسر) وهذا المعنى بلغ مبلغ التواتر في هذه الأمة؛ ووجه دلالته: أن القرآن نزل على سبع لغات من لغات العرب، رحمة ورأفة بهم، إذ لو كلِّفوا بقراءته على لغة واحدة لشق الأمر عليهم، ولَدَخَلَهم من العنت ما جاء الشرع الحكيم لرفعه عنهم؛ ولأجل هذا سأل - صلى الله عليه وسلم - ربه التخفيف في ذلك فأجابه إليه.
ثم يقال أيضًا: إن الاختلاف - كما يقول أهل العلم - نوعان، اختلاف تغاير وتنوع، واختلاف تباين وتضاد؛ فأما اختلاف التضاد فلا يجوز في القرآن بحال، وهو غير موجود فيه عند التحقيق والتدقيق. وأما اختلاف التغاير والتنوع فهو جائز وواقع، واختلاف القراءات من هذا الباب. ففيه القراءة بالإمالة والتفخيم، والقراءة بالمد أو القصر، والقراءة بالهمز أو التسهيل، ونحو ذلك من القراءات الثابتة نقلاً متواترًا، لا شك في صحة ثبوتها. يقول ابن تيمية - رحمه الله - في هذا المعنى: " ولا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناها متفقاً أو متقارباً، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إنما هو كقول أحدكم: أقبل، وهلمَّ، وتعال.. ".(/1)
وبناء على ما تقرر آنفًا، نقول: إن القراءات القرآنية الثابتة، ولو تغايرت في المعنى واللفظ، فكلها حق باتفاق المسلمين، ويجب الإيمان بها كلها، والعمل على وفقها؛ أما الاختلاف الذي نفاه الله - تعالى -عن القرآن فهو اختلاف التضاد والتناقض، وشتان ما هما... والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.
09/10/2003
http://www.islamweb.net المصدر:(/2)
هل في تعليم الفيزياء أجر؟
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ العلم/مسائل متفرقة
التاريخ ... 1/3/1423
السؤال
أنا رجل مسلم أعيش في إحدى الدول الغربية، وأنا -ولله الحمد- من الفيزيائيين المتفوقين في هذه الدولة، ولكن هناك سؤال يؤرقني ويقض مضجعي ويبكيني، وهو: هل سأستفيد في الدار الآخرة من إفناء عمري في تعلم وتعليم علم الفيزياء النووية؟ علماً أن علم الفيزياء له دور أساسي في إقامة الحضارات ومحوها، وهل سيكون لي حظ يوم القيامة بعملي هذا، أم سأكون من المحرومين؟ كما أنني ألقي المحاضرات للطلاب بالمجان، فهل أنا مأجور على ذلك؟
الجواب
نعم لك أجر عظيم –إن شاء الله- على تعلمك وتعليمك الفيزياء للآخرين إذا أخلصت النية لله رب العالمين، وتعلم العلوم منه ما هو فرض عين على كل مسلم ومسلمة ومنه ما هو فرض كفائي إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن باقي الأمة، والعمل الذي هو فرض عين ما يتوقف عليه صحة اعتقاد الإنسان وأداء شعائر دينه كالعلم بأركان الإسلام وأركان الإيمان والعمل بمقتضاها، ففي الصلاة مثلاً يجب تعلم فروض الوضوء، ونواقضه، وأركان الصلاة وواجباتها، دون معرفة السنن والنوافل والآداب، ويجب على المسلم إذا اشتغل بالتجارة أن يعرف أحكام البيع والشراء الأساسية دون التفاصيل الجزئية لأحكامه، فمن الضروري فيه أن يجتنب الربا والغش والتدليس، حتى العلوم التجريبية من طب، وهندسة، وكيمياء، وفيزياء، وزراعة، ومحاسبة، واقتصاد...إلخ، قد يكون تعلمها وتعليمها فرض عين أو فرض كفاية.
تكون فرض عين على أشخاص أو نخبة متخصصين بأعيانهم لا يوجد غيرهم في المجتمع والأمة بحاجة ماسة إلى علمهم، وقد يكون فرض كفاية على الأمة إذا تصدى لهذا العلم من يكفي حاجة المسلمين فيسقط الإثم في التقصير في طلبه عن العامة لقيام فئة به نيابة عنهم.
وعلم الفيزياء في هذا العصر من أهم علوم الحياة وأخطرها –كما هو مسطور في السؤال-، فإذا علّمت أيها السائل مسلماً وأنت تريد بذلك وجه الله فلك أجره وأجر من علم وعمل بعلمه من المسلمين إلى يوم القيامة؛ لأنك حينئذٍ دللته على الخير فيما ينفعه في دينه ودنياه، والدال على الخير كفاعله، وسيبارك الله لك في علمك وعملك، فإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
وتعلم هذا العلم وتعليمه لأفراد المسلمين أو عامتهم لإعداد العدة للعدو المأمور بها:" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم" [الأنفال:60].
أراه داخلاً في الآية وفي الحديث الصحيح الذي يرويه أصحاب السنن عن النبي –صلى الله عليه وسلم-:" إن الله –عز وجل- يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به ومنبله" رواه أبو داود (2513) والنسائي (3146) وأصله عند مسلم (1919) من حديث عقبة بن عامر –رضي الله عنه- وانظر (مصابيح السنة للبغوي: 2925)، فالصانع في الحديث يقابله المعلم، والمتعلم يقابله الرامي، والدال على هذا العلم والمساعد عليه بأي نوع من المساعدة هو المنبل.
والخلاصة في الجواب: أن أجرك مضاعف –إن شاء الله- مرتين الأولى: لتخصصك وتفوقك في هذا الفن –الفيزياء-لا سيما إذا علمته للمسلمين، والثانية: لما تقوم به من تدريس وتعليم لإخوانك من تفسير القرآن وبيان أحكام الدين، فهنيئاً لك يا أخي ما أنت عليه، فعض على ذلك بالنواجذ، وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه، وثبتنا على الحق حيثما كنا، آمين.(/1)
هل في هذا تشبه بالكفار؟
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ العقائد والمذاهب الفكرية/الولاء والبراء
التاريخ ... 26/07/1426هـ
السؤال
في حفلة تخرج لطالبات الثانوية العامة، تم وضع زي موحد للتخرج عبارة عن عباءة طويلة توضع على الكتف، لونها أسود مزينه بأقمشة ملونه وبعض الورود، فهل في ذلك تشبه بالكفار؟ علماً بأن زيهم يكون عبارة عن عباءة سوداء قصيرة إلى الركبة واسعة الأكمام مع قبعة سوداء (طربوش) وقطعة قماش بلون معين على الكتف.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
التشبه بالكفار المنهي عنه شرعاً في اللباس هو أن تكون هيئة اللبس أو شكله خاصاً بهم لا يشاركهم غيرهم فيه. وما دام لباس التخرج عند الكفار هو عباءة قصيرة سوداء تصل الركبة، وأكمامها واسعة مع قبعة سوداء على الرأس، فلباس التخرج عند المسلمات المسؤول عنه يختلف عن هذه الصفة، فهي طويلة وأكمامها ضيقة ومزينة بأقمشة ملونة وبعض الورود، فالصفة في اللبس مختلفة عن لبس الكفار في مثل هذه الاحتفالات، فلا أرى أن هذا الفعل من التشبه المنهي عنه. والله أعلم.(/1)
هل في هذه الآيات ما يبيح الثناء على النفس؟
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 28/02/1427هـ
السؤال
في سورة النبأ، وتحديداً في تعداد الله تعالى لنعمه، وبيان قدرته، كما في الآيات التالية: "أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا، وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا" استنبط أحد طلاب العلم فائدة من هذا المعنى، فقال: للداعية أن يزكي نفسه في موطن من المواطن إذا احتاج إلى ذلك، وقال: إذا كان الله –تعالى- مع جلالة قدره، ورفعة شأنه، احتاج أن يبين عن نفسه في هذا الموطن، فالداعية إلى الله تعالى من باب أولى. فهل تستقيم له هذه الفائدة من هذه الآيات بالذات؟ وما صحة قول من يقول: لا تتشبه بأفعال الله تعالى، ويستدل على ذلك بقول الله تعالى: (ليس كمثله شيء)؟
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالاستدلال بآية سورة النبأ غير صحيح؛ فكل ما ذكر فيها من خصائصه سبحانه وحده. ولكن لو قيل -دون الاستدلال بالآية-: إن الله يثني على نفسه ليعلم خلقه كيف يثنون وكيف يثني بعضهم على بعض لكان حسنًا، وثناء المرء على نفسه بالحق عند الحاجة جائز دلت عليه نصوص أخرى، لقوله –تعالى- حكاية عن يوسف: "قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ" [يوسف: 55]، وقول ابنة شعيب: "قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ" [القصص: 26]، وقول كل نبي لقومه: "أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ" [الدخان: 18].
أما الاستشهاد بآية " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ" [الشورى: 11] على منع التشبه بأفعال الله فصحيح، فإن أسماء الله وصفاته -ومنها أفعاله سبحانه- لا تشبه صفات وأفعال المخلوقين. وكون الله موصوفاً بالعلم والحكمة والرحمة ونحوها، والمخلوق يوصف بهذه الأوصاف، فقد تعني التشبه بأفعال الله –سبحانه- فكل من الخالق والمخلوق يتَّصف بهذه الصفات، ولكن لكل من الرب والعبد ما يناسبه منها. والله أعلم.(/1)
هل كتاب تنوِيرِ المقباس ... من كلام ابن عباس ؟
الحمدُ للهِ وبعدُ؛
إن من الأمور المهمة لطالب العلم التحقق من نسبة كثيرٍ من الأقوال والأحداث والقصص والكتب إلى أصحابها، ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إلى أهل العلم المحققين.
ومما نسب إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - " تنوير المقباس من تفسير ابن عباس " وهو كتاب منسوبٌ إليه - رضي الله عنهما - كذبا وزورا كما قرر ذلك عدد غير قليل من أهل العلم المحققين.
اسمُ الكتابِ:
ذكر حاجي خليفة صاحب كتاب " كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون " اسمه فقال: تنوير المقباس في تفسير ابن عباس لأبي طاهر محمد بن يعقوب الفيروزبادي الشافعي المتوفى سنة سبع عشرة وثمان مئة، وهو أربع مجلدات. ا. هـ.
فكما يظهر من كلام حاجي خليفة أن الكتاب من جمع الفيروز أبادي وليس من تأليف ابن عباس - رضي الله عنهما -.
رأيُ أهلِ العلمِ المحققينَ في نسبةِ الكتابِ إلى ابنِ عباس - رضي الله عنهما -:
لقد أجمع أهل العلم من المحققين على عدم صحة نسبة الكتاب إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - وإليك - أخي المسلم - بعضا من أقوالهم:
1 - قال الدكتور محمد حسين الذهبي صاحب كتاب " التفسير والمفسرون " (1/56):
التفسير المنسوب إلى ابن عباس وقيمته:
هذا وقد نُسب إلى ابن عباس - رضي الله عنه - جزء كبير في التفسير وطبع في مصر مرارا باسم " تنوير المقباس من تفسير ابن عباس " جمعه أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزابادي الشافعي صاحب القاموس المحيط وقد اطلعت على هذا التفسير فوجدت جامعه يسوق عند الكلام عن البسملة الرواية إلى ابن عباس بهذا السند " أخبرنا عبد الله الثقة بن المأمون الهروي قال: أخبرنا علي بن إسحاق السمرقندي عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعند تفسير سورة البقرة يسوق الكلام بإسناده إلى عبد الله بن المبارك قال: حدثنا علي بن إسحاق السمرقندي عن محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
وفي مبدأ كل سورة يقول: وبإسناده عن ابن عباس.... وهكذا يظهر لنا جليا أن جميع ما روي عن ابن عباس في هذا الكتاب يدور على محمد بن مروان السدي الصغير عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس... وحسبنا في التعقب على هذا ما روي من طريق ابن عبد الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمئة حديث.
وهذا الخبر - إن صح عن الشافعي - يدلنا على مقدار ما كان عليه الوضاعون من الجرأة على اختلاق هذه الكثرة من التفسير المنسوبة إلى ابن عباس وليس أدل على ذلك من أنك تلمس التناقض ظاهرا بين أقوال في التفسير نسبت إلى ابن عباس ورويت عنه... أن هذا التفسير المنسوب إلى ابن عباس لم يفقد شيئا من قيمته العلمية في الغالب وإنما الشيء الذي لا قيمة له فيه هو نسبته إلى ابن عباس. ا. هـ.
وسلسلة السند التي ذكرها الدكتور الذهبي وهي محمد بن مروان السدي الصغير عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح تعرف بـ " سلسلة الكذب " كما أن هناك سلسلة يقال " سلسلة الذهب " وهي الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر.
قال السيوطي في الإتقان (2/189): فإذا انضم إلى ذلك - أي طريق الكلبي - رواية محمد بن مروان السدي الصغير فهي سلسلة الكذب. ا. هـ.
والكلام في رجال هذه السلسة معروف في كتب الجرح والتعديل.
2 - وقال الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة في كتاب " الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير (ص62):
وأما التفسير المنسوب إليه - أي ابن عباس - ففي صحة نسبته إليه شك غير قليل. ا. هـ.
3 - وقال مشهور حسن في كتاب " كتب حذر منها العلماء " (2/259) نقلا عن " تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة ":
طبع كتاب منسوب لابن عباس - رضي الله عنه - وهو من طريق محمد بن مروان السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس كما ذُكِر إسناده في أول الكتاب وفي مواضع منه وقد جمعه الفيروز أبادي " صاحب القاموس " من كتب التفسير التي أدخل أصحابها هذا الطريق في تفاسيرهم كالثعلبي والواحدي ‚ فهذا التفسير لا يعتمد عليه ولا تصح نسبته إلى ابن عباس.
قلت (مشهور): كل ما أخرجه محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (وقد أخرج تفسيرا كثيرا) كذبٌ وافتراءٌ. قال سفيان الثوري: قال لي الكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب. وقال الإمام البخاري: أبو النضر الكلبي تركه يحيى بن مهدي. وقال أبو حاتم: الناس مجمعون على ترك حديثه وهو ذاهب الحديث لا يشتغل به. ا. هـ.
4 - وقال الشوكاني في " الفوائد المجموعة " (ص316):
ومن جملة التفاسير التي لا يوثق بها " تفسير ابن عباس " فإنه مروي من طريق الكذابين كالكلبي والسدي ومقاتل ذكر معنى ذلك السيوطي وقد سبقه إلى معناه ابن تيمية. ا. هـ.
سببُ كثرةِ الوضعِ على ابنِ عباس - رضي الله عنهما - في التفسيرِ:
لقد أشار الدكتور الذهبي في " التفسير والمفسرون " (1/56) إلى ذلك بقوله:(/1)
ويبدو أن السر في كثرة الوضع على ابن عباس هو أنه كان في بيت النبوة والوضع عليه يُكسب الموضوع ثقة وقوة أكثر مما وضع على غيره أضف إلى ذلك أن ابن عباس كان من نسله الخلفاء العباسيون وكان من الناس من يتزلف إليهم ويتقرب منهم بما يرويه لهم عن جدهم. ا. هـ.
ولكن كما قال الدكتور أبو شهبة في الكتاب الآنف الذكر (1/62):
وقد نقد أئمة الحديث وصيارفته العارفون بالرجال جرحا وتعديلا وبالعلل المرويات عنه وطرقها عنه وبينوا الغث من السمين والمقبول من المردود. ا. هـ.
وصدق - رحمه الله -.
http://saaid.net المصدر:(/2)
هل للتأليف الشرعي حق مالي؟
معالي فضيلة الشيخ / صالح الحصين الرئيس العام لشؤون الحرمين 1/6/1423
10/08/2002
مقدمة:
1-إن التأثير الطاغي للحضارة الغربية – فلسفتها وقيمها وأنماط عيشها – على العالم تأثير شامل وعميق ، شامل من حيث تناوله مختلف مجالات الحياة وعميق من حيث وصوله إلى أعماق النفس البشرية ، بحيث يزاحم أو يطرد جزئيا أو كلياً القيم الثقافية الأخرى ليحل محلها .
والعالم الإسلامي لا يستثنى من الخضوع لهذا لتأثير ، وتأثير الحضارة الغربية على المسلمين لا يقتصر على أنماط العيش من المأكل والمسكن والمركب والمظاهر المادية الأخرى ، بل يمتد إلى العلاقات في المجتمع ويهمنا منها هنا المعاملات المالية ، فعندما تستحضر في الذهن شيوع التعامل بالنقد الورقي ، واستخدام الأوراق التجارية كالشيك والكمبيالة ومرور كل المستوردات من خلال عقد فتح الاعتماد ، ومن خلال أحد العقود البحرية : سيف أو فوب أو غيرهما ، ووجود الشركات المساهمة وذات المسؤولية المحدودة وغيرها من الشركات المشمولة بنظام الشركات ، والتعامل في الأسهم والسندات والتعامل بالعقود الإدارية في قائمة طويلة لا تكاد تنتهي ... عندما نستحضر هذا في الذهن لا نجافي الحقيقة عندما نقول : إن غالب معاملاتنا المالية- في الوقت الحاضر – مصدرها التاريخي القوانين الغربية وليس الفقه الإسلامي.
هذا لا يعني أن هذه المعاملات لا تتفق مع قواعد الشريعة ، ولا يعني الدعوة لإحلال بدائل مصدرها الفقه الإسلامي محلها ، لأن ذلك وإن كان مرغوباً – فهو غير ممكن ، وإنما الممكن والمطلوب هو الفحص الفقهي لهذه المعاملات ، والنظر في مدى توافقها مع القواعد الشرعية ، وتحويرها – عند الاقتضاء – لتتفق مع هذه القواعد.
2-على أن القيام بهذا الممكن والمطلوب ليس أمراً يسيراً وليس الطريق إليه خالياً من العقبات والمزالق وعند مناقشة إحدى الأطروحات في المعهد العالي للقضاء نبَّه أحد المناقشين إلى خمسة مزالق تواجه الفقه عند ما يقوم بهذه المهمة ، يهمنا منها بالنسبة لموضوع البحث مزلقان :
الأول : الانخداع بالمصطلحات ، فعلى سبيل المثال:
كتب مرة عالم فاضل كبير من علماء الأزهر مقالاً في مجلة ( العربي ) الكويتية يبيح فيه القرض بفائدة الذي تمارسه البنوك الربوية وبنى رأيه على أن الحجة في تحريم القرض بفائدة حديث" كل قرض جرّ نفعاً فهو رباً " وبما أن هذا الحديث معلول ، وأن مسألة تحريم القرض الذي يجرّ نفعاً محل خلاف بين الفقهاء فإن تحريم القرض بفائدة حينئذ يكون حسب رأيه مؤسساً على أساس ضعيف .
لقد انخدع العالم الفاضل بالاصطلاح فلم ينتبه إلى أن القرض في اصطلاح الفقه الإسلامي هو غير المعاملة التي تسميها البنوك العربية القرض بفائدة وتسميها البنوك الأجنبية والبنوك العربية عند ما تستعمل لغة غير العربية " القرض بربا" Interest فبين المعامليتن – بالرغم من التماثل في التسمية – اختلاف جذري في الطبيعة والأحكام ، فالقرض في الفقه الإسلامي عقد إرفاق وتبرع ، ليس الأجل عنصراً فيه ، وأما ما تسميه البنوك الربوية العربية القرض بفائدة فهو عقد معاوضة ، الأجل هو العنصر الأهم فيه ، وهو حقيقة العقد
الربوي الأساسي ، ومحل بحثه في الفقه الإسلامي باب ( الربا والصرف) وليس باب ( القرض)
الثاني : عدم الانتباه إلى خصائص المعاملة :طبيعتها ونشأتها وتطورها .
وهذا الانتباه ضروري بعد معرفة أن كل المعاملات التي استوردها العالم الإسلامي من الغرب نبتت في تربة النظام الرأسمالي ،وهذه التربة مخصبة بالقمار والربا والفردية وحضور الشح والتغالب ، ولا محل فيها لمعاني الإخلاص والتقوى والاحتساب و"في سبيل الله"
فلابد – قبل حكم الفقيه على المعاملة _ أن يقوم بتحليلها ويتعرف على خصائصها ويقدر مدى تأثرها بمخصبات التربة التي نشأت فيها.
لقد نبه المناقش ( المنوه عنه) على هذا المزلق وأمثاله تعليقاً على ما ذكره كاتب الأطروحة حيث نسب إلى ثلاثة من علماء المملكة العربية السعودية الأجلاّء إباحتهم لخصم الكمبيالة لدى المدين الأول تخريجاً على حديث "ضع وتعجل".
فلم ينتبهوا إلى أنّ خصم الكمبيالة يعتبر العقد الربوي الأغلب في المعاملات ، ولذا يعبر عن سعر الربا بسعر الخصم ، ولم ينتبهوا إلى الفرق في الطبيعة بين خصم الكمبيالة ، والوضع والتعجل ، حيث في الثاني التعجل هو الغاية ، والوضع وسيلة ، وفي الأول الربا هو الغاية والوضع وسيلة.
3-في بحثنا لقضية حقوق التأليف ومدى إمكانية حضانتها وتبنيها في الفقه الإسلامي ، لا بد من الانتباه للملزقين المشار إليهما ، وأخذهما في الاعتبار .
4-عندما يؤلف شخص مؤلفاً تنشأ ثلاثة أنواع من العلاقات بينه وبين مؤلفه تجاه الكافة:(/1)
أ- علاقة ملكيته لمؤلفه ، بما هو جسم مادي قابل للحيازة وإن كانت قيمته المعنوية والمالية ليست فقط في المادة التي سجلت عليها أفكار المؤلف (الورق مثلاً) وإنما في الأفكار المعبر عنها بالكلمات المسجلة على المادة بل وإن كانت هذه الأفكار والتعبير عنها هي العنصر الأهم في القيمة المعنوية والمالية للمؤلف.
ب- علاقة شخصية بحتة تتمثل في حق المؤلف في نسبة مؤلفه إليه والاعتراض على كل تشويه أو تحريف أو تعديل فيه أو مساس بذات المؤلف يكون ضاراً بشرفه وسمعته ، وحقه في إدخال ما يراه من تعديل في مؤلفه وسحبه من التداول ويسمى هذا " الحق المعنوي أو الأدبي"،
وهذا الحق ليس قابلاً للتصرف ولا للتنازل عنه كالحق الأول حق الملكية .
وهذان النوعان ("أ" و"ب") من علاقة المؤلف بمؤلف لا يدخلان في هذا البحث ،فينبغي التنبه لذلك.
ج- علاقة مالية تتمثل في مكنة المؤلف من أخذ العوض ممن ينتفع تجارياً بمؤلفه والتصرف في هذه المكنة ، تسمى هذه العلاقة " الحق المالي للتأليف " وهي موضوع بحثنا.
5- بما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، فلتصوّرِ الحق المالي للتأليف ، لا بدّ بادئ ذي بدأ من معرفة أن هذا الحق مصدره القانون لا الشرع ، هذا لا يعني بالضرورة أن هذا الحق لا تقرّه قواعد الشرع وإنما المراد أن الذي أوجد هذا الحق ويوجده القانون ، توضح ذلك الفقرة التالية.
6-لم يكن الحق المالي للتأليف معروفاً قبل أن يصبح استغلال المؤلفات تجارة واسعة رابحة بها دور ظاهر في الاستثمار ، وذلك بوجود المسارح ودور التمثيل ووجود المطابع ودور النشر التي نتج عنها الثورة الصناعية والتجارية في نشر المؤلفات.
ويقال عادة: ( إن أول قانون صدر بحماية هذا النوع من الحقوق ، القانون الفرنسي الصادر في عام 1791م وقد اقتصر على حماية الحق المالي للمؤلفات المسرحية ثم صدر القانون الفرنسي في عام 1792م يمدّ تلك الحماية إلى جميع المصنفات الأدبية والفنية ، ثم تتابعت القوانين الأخرى في البلدان المختلفة ) ( الوسيط 8/283).
ووجدت بعد ذلك الاتفاقيات الدولية الثنائية والجماعية لحماية الحق المالي للتأليف.
ويلاحظ أن القوانين كلها والاتفاقيات الدولية لا تحمي الحق المالي للتأليف على الإطلاق ، بل تصنف المؤلفات إلى نوع يحميه القانون ونوع مباح للكافة .
فمثال الصنف الأول ما تشمله المواد : الثالثة والرابعة والخامسة من نظام حماية حقوق المؤلف في المملكة العربية السعودية.
ومثال الصنف الثاني ما تشمله المادة السادسة من النظام نفسه.
وفي حماية النظام للصنف الأول توجد استثنائات مثالها في النظام السعودي ما تشمله الفقرات 1 ، 2، 3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9 من المادة الثامنة من النظام .
والحماية التي يقررها القانون للحق المالي للتأليف ليست مطلقة من حيث الزمان وإنما هي مؤقتة بأجل معين إذا انتهى انتهت الحماية.
وليست مطلقة من حيث المكان إذ أن القانون نفسه محدد في سلطانه من حيث المكان فلا يتجاوز سلطانه حدود سيادة الدولة التي أصدرته ، والوسيلة إلى تجاوزه هذه الحدود الاتفاقيات الدولية .
وبما أن هذا الحق من خلق القانون وإيجاده فإن القانون سواء ظهر في شكل قانون وطني أو في شكل اتفاق دولي يمكن له دائما أن يحدد هذا الحق ويعدل فيه بل ويلغيه.
لعلّ ما ذكر كافٍٍ لإيضاح أنه يوجد فارق أساسي بين هذا الحق الذي يوجده القانون ولا يوجد إلاّ به ، والحقوق الأخرى للإنسان المقررة بالشرع في الإسلام ، وفي الغرب بما يسمى القانون الطبيعي مثل حق الملكية ، ومن الخطأ مع هذا الفارق الجوهري قياس الفقيه المسلم هذا الحق الذي لا يوجد إلاّ بالقانون وبالقدر الذي يفصله القانون بالحقوق الأخرى المقررة بالشرع أو على الأقل إجراء هذا القياس دون اعتبار لهذا الفارق الجوهري.
7-بعد أن عرفنا أن هذا الحق من إيجاد القانون ، وأن القانون هو الذي يحد نطاقه فيوسع فيه ما شاء أو يضيق ، ويسلبه من بعض المؤلفات ، ويعيد منحه لها ، فإنه للتعرف على طبيعة هذا الحق القانوني ووزن أحكامه ينبغي معرفة البيئة التي وجد فيها والمؤثرات والدوافع والأهداف في صياغة أحكامه.(/2)
إن القوانين المنظمة لهذا الحق في العالم الإسلامي انتسخت من القوانين الغربية ،وهذه الأخيرة وجدت في بيئة النظام الرأسمالي ، وفي هذه البيئة تلعب المنفعة المادية والقيمة المحسوبة مالياً الدور الهام، وفي ضوء هذا المعنى تفسر مقاصد وأهداف وسلوك البشر المحكومين بمقتضيات ومؤثرات تلك البيئة ، وفي هذه البيئة لا يدخل في الحساب والاعتبار أن مؤلفاً يبذل جهده في التأليف لا يبتغي إلاّ وجه الله ، ويطلب الجزاء الإلهي لقاء نفع الخلق ويؤدي واجب الجهاد باللسان والقلم ويستجيب لله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويعتقد أنه لأن يهدي الله به رجلاً واحداً خيراً له من حمر النعم ،وأن العلم النافع صدقة جارية إلى يوم القيامة وأن ما عند الله خير وأبقى وأجل من أن يستعيض عنه ثمناً بخساً دراهم معدودة ، ويعتقد أن ما عند الله إنما ينال بإخلاص النية ونفي أن يشاب بحظوظ النفس الفانية وإن تعاظم حجم العمل وتأثيره في نفوس المتلقين إنما يكون بقدر ما يضع الله فيه من البركة وله من القبول وذلك إنما يكون بالإخلاص الذي لاحظ للنفس فيه ولذلك كان أشق شيء على النفس كما قال الإمام الجنيد رحمه الله .
على أنّ كل ما سبق لا يعني أن مشترع تلك القوانين لا يلقي في كل حال بالاً للاعتبارات الأخلاقية ومن أهمها العدل ورعاية المصلحة العامة ، بل هو يفعل ذلك.
فإذا كان دافعه لتقرير حق المؤلف وحمايته اكتشافه أن القيمة الأدبية للتأليف تمثل عنصراً مهماً وربما العنصر الأهم في القيمة المالية لعمل الناشر أو منظم المسرح ، أي أن عمل المؤلف ساهم في ربحهما وتكوين ثروتهما ، ولذا رأى أن العدل يوجب أن يشرك المؤلف الناشر ومنظم المسرح في الربح الذي ساهم تأليفه في تحقيقه وذلك أوجب في تقديره أن يحمى حق المؤلف بإعطائه سلطة احتكار تأليفه بحيث يحجب استغلاله تجارياً إلاّ بمقابل .
إذا كان دافعه ما ذكر فقد لاحظ أن دوافع أخرى توجب كسر هذا الاحتكار ، ومن هذه الدوافع : العدل ورعاية المصلحة العامة.
يوضح هذا المعنى السنهوري بقوله :" الإنسانية شريكة له ( أي للمؤلف) من وجهين :
-وجه تقضي به المصلحة العامة : إذا لا تتقدم الإنسانية إلاّ بفضل انتشار الفكر (والاحتكار يحدد انتشاره).
-ووجه أخر يرجع إلى أن صاحب الفكر ( المؤلف) مدين للإنسانية إذ فكره ليس إلاّ حلقة في سلسلة تسبقها حلقات وتتلوها حلقات ، وإذا كان قد أعان من لحقه فقد استعان بمن سبقه ومقتضى ذلك أن لا يكون (حق المؤلف) حقاً مؤبداً. (الوسيط8/281)
كما رأينا هذا النص يوضح كيف أن اعتبار المصلحة العامة والعدل أوجبا أن لا يمنح القانون المؤلف حقاً مطلقاً .
8-اختلف فقهاء القانون في الغرب في تكييف الحق المالي للمؤلف ، وكالعادة وجد طرفان متباينان في النظر :
أحدهما : يغلو في تأكيد حق المؤلف مراعياً الحاجة إلى الكفاح – ضد الأفكار السائدة – لتقرير هذا الحق ، والآخر : يمانع في التسليم بهذا الحق .
وكان من نتيجة ذلك أن الطرف الأول جنح إلى تكييف هذا الحق بأنه ( حق ملكية) بما يعنيه من استئثار وقدرة على الاستغلال والتصرف فسمي هذا الحق ( الملكية الأدبية والفنية).
يقول الدكتور السنهوري : ( إذا كان المقصود بعبارة " الملكية الأدبية والفنية" هو تأكيد أن حق المؤلف يستحق الحماية كما يستحقها المالك ، وهذا هو المعنى الذي قصد إليه أولاً عندما استعملت العبارة للدعاية والكفاح في سبيل حماية حق المؤلف فهذا صحيح ، وأما إذا كان المقصود أن حق المؤلف هو حق ملكية حقيقي فهذا أمر يحتاج إلى إمعان النظر ، ذلك أنّ الشيء غير المادي هو شيء لا يدخل في عالم الحس ، ولا يدرك إلا بالفكر المجرد فهو حتماً يختلف في طبيعته عن الشيء المادي الذي يدرك بالحس وله جسم يتمثل فيه ، فإذا تصورنا أن الشيء غير المادي وهو الفكرة من خلق الذهن وابتكاره أدركنا المدى الواسع الذي يفصل بين عالم الفكر وعالم المادة ، فالمادة تؤتي ثمارها بالاستحواذ عليها والاستئثار بها ، وأما الفكر فيؤتي ثماره بالانتشار لا بالاستئثار...
وتتنافى طبيعة الملكية مع طبيعة الفكر من جهتين:
الناحية الأولى: أن الفكر لصيق بالشخصية بل هو جزء منها ومن ثَمَّ فقد وجب تقييد الفكر بهذا الاعتبار الأساسي ، فيوجد بجانب الحق المالي للمؤلف الحق الأدبي وهذا الحق من شأنه أن يمكن المؤلف حتى بعد أن يبيع حقه للناشر أن يعيد النظر في فكره وقد يبدو له أن يسترد من التداول ما سبق نشره ، بل وله أن يتلفه ، بعد أن يعوض الناشر ، وبذلك يستطيع أن يرجع
بإرادته المنفردة فيما سبق له إجراؤه من تصرف ، وأما من يتصرف في شيء مادي تصرفاً ثابتاً فليس له بإرادته وحده أن يرجع في هذا التصرف ولو في مقابل عوض.
الناحية الثانية:أن الفكر حياته في انتشاره لا في الاستئثار به ، فالإنسانية شريكة له من وجهين :-(/3)
وجه تقضي به المصلحة العامة.. ووجه آخر يرجع إلى أن صاحب الفكر مدين ( بفكره ) للإنسانية...(الوسيط:8/278-281).
قد انخدع بعض الفقهاء المسلمين المعاصرين باصطلاح ( الملكية الأدبية أو الفنية ) وباصطلاح (حق المؤلف) فحاولوا أن يخرجوا هذا الحق القانوني على أحد الحقوق المقررة في الشريعة الإسلامية وبالغ بعضهم في ذلك حتى حاول تخريج الأحكام التفصيلية لهذا الحق القانوني على الأحكام الفقهية ، فإذا كانت القوانين مثلاً تجعل مدة محددة لاستغلال الورثة حق المؤلف فقد رأى هذا الفقيه أن ( أقصى مدة لاستغلال الورثة لحق الإنتاج العلمي المبتكر ستون عاماً من تاريخ وفاة المؤلف مورثهم اعتباراً بأقصى مدة للانتفاع عرفها الفقه الإسلامي في حق الحكر ) (" حق الابتكار في الفقه الإسلامي المقارن" للدكتور فتحي الدريني:ص121).
كما أن بعضهم لم يلاحظ طبيعة البيئة التي صدرت فيها القوانين الغربية المنشئة لهذا الحق القانوني ، ولا مدى تأثر هذه القوانين بالدوافع والاعتبارات والقيم السائدة في تلك البيئة.
9-إذا تذكرنا أن هذا الحق أنشأه القانون وأنه قبل أن يصدر القانون الذي يقرره وينظم حمايته لاوجود له ، وإذا تذكرنا أن القانون إذا منح حماية الحق لنوع من المؤلفات ثم سلبها هذه الحماية فإن حق المؤلف ينعدم في هذه الحالة بالنسبة لهذا النوع من المؤلفات ، إذا تذكرنا ذلك عرفنا مدى الشطط في تخريج الحق القانوني للمؤلف على أنه حق ملكية أو حق انتفاع بما يملك أو أيّ حق آخر قررته الشريعة الغراء من الحقوق الباقية الدائمة والتي لا يملك القانون إلغائها أو سلبها الحماية.
10-وإذا كانت طبيعة الحق القانوني المالي للمؤلف كما وصفنا فلعلّ أسلم تكييف لهذا الحق هو تكييف محكمة النقض الفرنسية حيث كيفته بأنه ( حق امتياز احتكاري) أو كما عبر أحد فقهاء القانون أنه ( احتكار استغلال المؤلف لمدة مؤقتة).
على أن كلمة الحق – وإن كانت قد استعملت على الدوام – قد تعطي إيحاءات غير مقصودة وقد تكون مضللة فلذلك ربما كان الأسلم في نظر كاتب هذه المقالة أن تبدل بكلمة ( سلطة أو مكنة ) لأن غاية ما أعطى القانون المؤلف سلطة في احتكار استغلال مؤلفه لمدة مؤقتة هي مدة حياته وسنوات محدودة بعد وفاته.
وإذا روعي هذا المعنى فإنه يصلح تفسيراً لعدم تقيد التقنين المصري بأحكام الشريعة بالنسبة للوصية بهذا الحق القانوني ، وربما كان هذا في ذهن كاتب التقنين وشارحه الدكتور / السنهوري حين كتب ( والسبب أن المشرع قرر هذا الحكم دون أن يتقيد فيه بأحكام الشرع الإسلامي أن حق المؤلف في الاستغلال المالي لمصنفاته هو حق معنوي يقع على شيء غير مادي فهو إذن ليس من قبيل الأموال التي تقع على الأشياء المادية والتي ينظر الشرع إليها وحدها في تقرير أحكام الميراث والوصية ، ولما كان المصنف هو نتاج فكر المؤلف فهو ألصق به من أمواله التي تقع على أشياء مادية ، ولذلك كان أكثر حرية في التصرف فيه بالوصية فقد يرى أن شخصاً معيناً أولى بأن ينتقل إليه حقه المالي في استغلال مصنفه) ( الوسيط: 8/297).
معنى الكلام أن الحق المالي للمؤلف لو كان حقاً كسائر الحقوق المقومة بالمال التي قررتها الشريعة الإسلامية لاحتسب في الثلث الذي يجوز له أن يوصي به ، ولما جاز أن يختص به أحد الورثة.
11-يتخلص من كل ما سبق الحقائق الآتية:
أ- أن القانون هو الذي ينشئ الحق المالي القانوني للمؤلف وهو الذي بيده بقاء هذا الحق أو فناؤه ، وهو الذي يحدد نطاقه سواء بالنسبة للزمان أو للمكان أو نوع المؤلف أو نوع الانتفاع به .
ب- أن غاية منح القانون هذا الحق منح سلطة الاحتكار للمؤلف أو خلقه في استغلال المؤلف لمدة محدودة .
ج- القانون يتأثر في وضعه وفي تفسيره وفي حدود تطبيقه بالبيئة التي نشأ فيها ، فالقانون الذي ينشأ في بيئة النظام الرأسمالي ليس حتماً مثل القانون الذي ينشأ في بيئة النظام الإسلامي، والقانون الذي يصدر عن سلطة علمانية (لادينية) يختلف قطعاً عن القانون الذي يصدر عن سلطة مقيدة بمبادئ الدين وقواعده وأحكامه.
د- نتيجة ما سبق أن القانون في حالة الدولة العلمانية لا يجوز أن يفسر أو ينفذ بما يخالف روح الثقافة السائد، أو ما يعارض مبادئ القانون الطبيعي ، أو القواعد الدستورية ( النظام الأساسي) في الدولة التي أصدرته.
وبالمثل فإنه في حالة الدولة المقيدة بالدين لا يجوز أن يفهم القانون الصادر عنها أو يفسر أو ينفذ بما يعارض روح الدين ( الإسلام فيما يتعلق بالبحث ) أو قيمه العامة أو قواعده أو أحكامه ، ولا يجوز أن يغفل أيّ من هذه الحقائق عندما يقصد التعرف على أحكام الحق المالي للمؤلف.
هل للمؤلفات الشرعية حق مالي؟(/4)
1-يقصد بالمؤلفات الشرعية في هذا المقال وحيثما وردت فيه الأعمال الفكرية والجمالية الصادرة عن المسلم لبيان القرآن والسنة لحمل الناس على اتباع هداهما ، والترغيب في هذا الأتباع والتحذير عن الانحراف عنه ، فيدخل في ذلك المؤلفات في التفسير والحديث والفقه والسيرة النبوية وسير الصالحين والخطب المنبرية والمواعظ الدينية وترتيل القرآن ، وسواء في ذلك أن تظهر هذه الأعمال في شكل كتب أو شريط مسموع أو مرئي . ولا يدخل في ذلك ما يصدر عن غير المسلم وإن كان علماً نافعاً معيناً على فهم القرآن والسنة كفهارس القرآن والحديث التي صدرت عن غير المسلمين ، ولا يدخل في ذلك ما يصدر عن المسلم من الأعمال الفكرية والجمالية الدنيوية ،ولو اعتبرت من فروض الكفاية على المسلمين مثل المؤلفات في علوم الفيزياء أو الأحياء ,أو الرياضيات ومثل الأعمال الأدبية والفنية.
ويتحدد مجال البحث بالتعرف على الحكم القانوني في موضوع البحث في بلد تتقيد سلطاته التشريعية والقضائية والتنفيذية بالإسلام وبالتحديد في المملكة العربية السعودية.
2-حينما عدد النظام السعودي المنظم لحق المؤلف في المادة الثالثة منه المصنفات المشمولة بوجه خاص بالحماية أسقط عمداً ذكر بعض المصنفات التي نصت عليها القوانين التي نقل عنها فأسقط مثلاً ( المسرحيات الموسيقية ، والمصنفات الموسيقية ، سواء كانت مرقمة أم لم تكن ، وسواء كانت مصحوبة بكلمات أو لم تكن و..مصنفات تصميم الرقصات والتمثيل الإيمائي ) ، قد لا يعني هذا الإسقاط أن المصنفات المذكورة ليست مشمولة بالحكم العامل المنصوص عليه في المادة الثالثة ، ولكن إسقاطها يدل على قصد واضع النظام الالتزام بملاءمة النظام للبيئة التي يطبق فيها ، وهذا يعني أنه عند تفسير النظام لا بد أن تراعي ملاءمة النظام لتلك البيئة ولا بد أن يتم التفسير في ضوء هذا الاعتبار .
3-عندما ذكر النظام في المصنفات المحمية ( المصنفات التي تلقى شفوياً كالمحاضرات والخطب والمواعظ أسقط عمداً ما ورد في النص المقتبس منه من وصف المواعظ ( بالدينية) فإسقاط وصف ( الدينية ) من عبارة ( المواعظ الدينية ) عمداً يدل على أن واضع النظام لم يستسغ أن تكون المواعظ الدينية مشمولة بالحماية ،ـ وأن تكون محلاً لينصرف الواعظ فيها بالبيع أو تنازله لغيره عن سلطة احتكارها تجارياً أو على الأقل لم يستسغ النص أن تكون مشمولة بالحماية بالوجه الخاص.
4- بما أن القانون الأعلى والحاكم على كل القوانين في المملكة العربية السعودية هو الشريعة الإسلامية فإنه يجب أن تفسر الأنظمة الصادرة فيها بما يتفق مع الشريعة الإسلامية ( روحها ومقاصدها وقواعدها ) .
5- من المؤلفات الشرعية مؤلفات ليس لها حق مالي أصلا وذلك بنص النظام فلا تسري عليها الحماية المقررة في النظام وذلك يشمل المؤلفات الداخلة ضمن المؤلفات المنصوص عليها في المادة السادسة من النظام حيث تنص على أنه ( لا تشمل الحماية المقررة بمقتضى هذا النظام : 1- الأنظمة والأحكام القضائية وقرارات الهيئات الإدارية والاتفاقات الدولية وسائر الوثائق الرسمية ... إلخ ).
فبموجب هذا النص لا يكون حق مالي لأحكام الجهات القضائية ، ولا قرارات هيئة كبار العلماء ولا فتاوى اللجنة الدائمة ولا فتاوى المفتين الرسميين سواء كانت في شكل إجابة عن استفتاء ، أو إيضاحاً لمعان شرعية ، فكل هذه المؤلفات ليس لها حق مالي ولا تشملها الحماية المقررة لحق المؤلف المالي القانوني أصلاً وليس لأحد حق أو سلطة امتياز أو احتكار عليها .
ومثل هذا الحكم تأخذ به أيضا القوانين الأخرى والاتفاقات الدولية ، يقول السنهوري : ( وهناك مصنفات يقوم بها موظفو الدولة بحكم وظائفهم كمشروعات القوانين وكالأحكام القضائية وكالتقارير الاقتصادية والمالية والعلمية والتعليمية والإحصاءات وما إلى ذلك من الوثائق الرسمية فهذه كلها تقع في الملك العام ولا يكون للدولة ولا لمن وضعوها ولا لأي أحد آخر حق المؤلف عليها ، إذ يراد بهذه الوثائق أن تكون في يد كل فرد ) ( الوسيط : 8/303 ) ، ويقول في موضع آخر ( فهذه الوثائق هي حق سائغ للجميع إذ يراد بها أن تكون في متناول كل فرد) ( الوسيط 8/ 303 ) .
6- ولكن ما شأن المؤلفات الشرعية التي لا تقع ضمن المصنفات المنصوص عليها في المادة السادسة من النظام أنه ليس لها حق مالي فهل لها حق مالي ، وهل تسري عليها في ما يتعلق بهذا الحق الحماية المنصوص عليها في المادة الثالثة ؟
للإجابة على السؤال لا بد من أخذ الأمور الآتية في الاعتبار :(/5)
أ- أن التوقيع عن الله ببيان الحلال والحرام وبذل العلم بالله والعلم بما يحب ويرضى وما يكره ويسخط ، والدعوة إلى الله – وهي أحسن القول وسبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن تبعه – والجهاد باللسان والقلم هي مضمون التعريف الذي قدمناه لما نقصده بعبارة المؤلفات الشرعية ، وهي من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه ويتعبد به ، وأساس العبادة ولبها إخلاصها لله وتنزيهها عن شوائب الشرك بحظوظ النفس .
والأصل أن كل مسلم ينبغي أن يظن به الظن الحسن ، وأن يفترض فيه مراعاته
لهذا الأمر العظيم وقصده إياه ( قل الله أعبد مخلصاً له ديني ).
ب- واجب كل مسلم الغيرة على قيم الإسلام التي تميز المسلم الذي يرجو لقاء الله ويرى الحياة الدنيا مجرد مرحلة للتزود للآخرة ومتاعها متاع الغرور ويكون أمله في الباقيات الصالحات ، تميزه عن الكافر الذي يرى الحياة الدنيا هي الغاية والمنتهى ، ومقتضى تلك الغيرة على قيم الإسلام الانتباه والتيقظ لما يمكن أن يقدح فيها أو يضعفها .
ولا حرب على القيم في أي مجتمع أشد وأنكي من أن تدب إليها مظاهر من السلوك وتتكرر من أفراد المجتمع حتى تصبح عادة ومعروفاً لا ينكر ولا يستنكر ، وأسمى القيم في المجتمع المسلم شيوع روح الاحتساب وتوقي الشح والاستعداد للبذل لله وفي سبيله .
وإن تشجيع الأثرة والأنانية واستشراف أي مؤلف لمصنف شرعي لأن ينال ثمن عمله في مصنفه من متاع الدنيا بدلاً من أجر الآخرة وإن التمكين لوجود قاعدة عامة وعرف سائد ، أن ينال مصنف المؤلف الشرعي ثمن جهده فيه ثمناً بخساً دراهم معدودة ، وإن شيوع أن الاحتساب وابتغاء وجه الله هو الاستثناء من القاعدة العامة ، كل ما سبق عوامل إضعاف بل هدم للقيم السامية التي أتم الله بها نعمته على المسلم ورضي له .
وهذا كله يعني أنه لغرض الموازنة بين المصالح والمفاسد عند الاجتهاد في الحكم على النوازل والواقعات يجب الانتباه إلى أن المحافظة على قيم الإسلام وحياطتها من عوامل الضعف والإضعاف مصلحة عظمى ، توزن بوزنها الحقيقي عند الترجيح بينها وبين المصالح الأخرى التي يبرر بها المؤلفون وغيرهم أخذ المقابل المالي عن التأليف.
جـ - أول ما صدر من القوانين المنظمة للحق المالي للمؤلف صدر عن حكومة الثورة
الفرنسية ، وهذه الثورة قامت أساساً لإعلاء كلمة العلمانية ( اللادينية ) وعزل الدين عن السلطة الزمنية ، ومع ذلك لم تستطع هذه القوانين إغفال الاعتبارات الأدبية ورعاية المصلحة العامة وحقوق الإنسانية باعتبارها شريكة حقيقية للمؤلف في إنتاجه ، بل إن مساهمة الإنسانية تمثل العنصر الغالب والأهم في الإنتاج ، فالمؤلف إنما قام بالتعبير عن أفكاره بواسطة اللغة ، واللغة عمل للإنسانية سابق للمؤلف ، وقد توسل بالكتابة ولم يكن هو الذي ابتكرها ، وأغلب عناصر التفكير في المؤلف استقاها من مؤلفين سابقين ، لذلك لم تعتبر تلك القوانين الحق المالي للمؤلف – بعد أن قررته – حقاً مطلقاً لا من حيث الزمن ولا من حيث نوع المؤلف ولا من حيث وجه الانتفاع به.
وفي البيئة الإسلامية توجد معان أخرى بالإضافة إلى ما ذكر آنفاً ، وقد أشير إليها في موضع آخر من هذه المقالة تمنع أن يقدر حق المؤلف فوق قدره وفي خصوص المؤلفات الشرعية توجد حقوق الله فوق حقوق الإنسانية لا مندوحة عن أن تراعى، وأن يعتد بها عند بحث حق المؤلف .
وقد أشير في الفقرتين السابقتين 3،2 إلى أن النظام السعودي تنبه لخصائص البيئة التي يطبق فيها النظام ، وظهر ذلك في صياغته الأمر الذي يوجب أن يأخذ هذا في الاعتبار عند تفسير النظام أو تنفيذه.
د- الأصل – كما تقدم - إحسان الظن بالمسلم ولا سيما من أهل العلم بالله ، وذلك يقتضي الافتراض دائماً أن مؤلف المؤلف الشرعي إنما ألفه ابتغاء وجه الله ، فما لم يصرح المؤلف عن إرادته بان قصده من تأليفه الحصول على العوض المالي عن حق التأليف أو أنه أشرك مع قصده وجه الله الحصول على العوض المالي عن المؤلف فيجب في رأي كاتب المقال أن يعتبر أن عمله واقع في الملك العام ، أي في ملك الله كالصدقة والوقف.(/6)
وإذا كانت القوانين عندما تعتبر أن المؤلف واقع في الملك العام لا تسحب عليه الحماية للحق المالي للمؤلف ، وإذا كانت هذه القوانين لا تقرر هذه الحماية تجاه وجوه من الانتفاع – كما نصت عليه الفقرات العشر من المادة الثامنة من النظام السعودي – لعلم واضعي تلك القوانين أن مد الحماية إلى تلك الوجوه من الانتفاع المستثناة من الحماية معوق للتقدم والتطور الدنيوي النافع للمجتمع ، إذا كان الأمر كذلك فأولى أن لا تمتد هذه الحماية إلى المؤلفات الشرعية الواقعة منذ عزم مؤلفها على إنتاجها في ملك الله ، والتي قصد منها هداية الخلق ، وإظهار العلم المحرم كتمانه ، وإذا كان لا يجوز للمتصدق العود في صدقته ولا للواقف الرجوع عن وقفه فإن المجهود الذهني الذي بذل لله أولى بأن لا يجوز لباذله الرجوع فيه فضلا عن أن يكون ذلك لغيره وارثاً أو غير وارث .
هـ - في ضوء الفقرات السابقة فإن كاتب المقال يرى أنه من الناحية القانونية ( وهي التي تتصل باختصاصه ) ينبغي أن يقال : إن النظام السعودي المقرر لحماية حقوق المؤلف لا يسري على المؤلفات التي اختار مؤلفوها أن لا يسري عليها ، وأنه يفترض – حتى يثبت العكس – أن مؤلفي المؤلفات الشرعية من علماء الإسلام قد اختاروا أن تخرج مؤلفاتهم عن نطاق الحماية للحق المالي للمؤلف التي يقررها النظام ، واختاروا أن لا تشوه بسلطة احتكارها ، وحجرها عن الانتفاع بها إلا بمقابل.
ومن ثم فإنه يجوز لكل أحد أن ينشر ويوزع المؤلفات الشرعية لعلماء المملكة العربية السعودية في حياتهم وبعد وفاتهم حتى ولو لم يمض على وفاتهم خمسون سنة ، على أن هذا لا يعني جواز الافتئات على حق المؤلف المعنوي في أن يختار أن لا ينشر مؤلفه إلا بعد أن يرضاه للنشر وهذا يعني وجوب أخذ إذن المؤلف الحي في نشر مؤلفه الذي لم ينشر من قبل ، أو الذي نشر ولكنه عبر عن إرادته في أن لا يعاد نشره إلا بإذنه ، ولكن لا يجوز له في كل الأحوال أن يأخذ عوضاً مالياً عن الإذن المشار إليه ولا حق لأحد سواءً كان وارثاً أو غير وارث في احتكار استغلال المؤلف الشرعي بعد وفاة المؤلف إذ أن غاية ما منح النظام الوارث أن ينتقل إليه حق مورثه ،وهذا الحق المالي لم يوجد حتى ينتقل .
و- وبعد فماذا عن المؤلفات الشرعية التي عبر مؤلفوها صراحة عن إرادتهم من تأليفها أنها ألفت بغرض أن تتمتع بالحماية التي يقررها النظام للمؤلفات الأخرى وبالحق المالي الذي تنسحب عليه تلك الحماية ؟
في رأي كاتب المقالة أنه من الناحية القانونية ، يسري على هذا النوع من المؤلفات نظام حماية حق المؤلف ، بالحماية التي يقررها ، وأما من الناحية الشرعية فإن كاتب المقال يكل العلم إلى عالمه ويترك الحكم على جواز هذا القصد ونتيجته من حيث أنه يرتب حقاً مالياً محترماً شرعاً أوْ لا ، لعلماء الشريعة وفقهائها.
تنبيهات ومناقشات :
1- كاتب المقال يجد واجباً عليه أن يدعو أهل العلم والصلاح من المصنفين للمؤلفات الشرعية أن لا يغفلوا عن واجب الغيرة على قيم الإسلام ومقاصده ، وأن ينتبهوا إلى أنه لا أخطر على هذه القيم والمقاصد من أن يسمح – فضلا عن أن يشجع – تنامي مظاهر السلوك المنافية لها أو غير المنسجمة معها لأن مثل هذا التسامح يمكن لهذه المظاهر أن تكون عادات وأعرافاً فتتحول إلى قيم مضادة لقيم الإخلاص والاحتساب والإيثار والتقوى فيتحول المجتمع من مجتمع إسلامي إلى مجتمع رأسمالي لا يختلف عن المجتمعات الرأسمالية الأخرى إلا بالاسم .
أقول هذا إجابة لما يقوله بعض الأخيار – وهم صادقون – إنهم إنما يختارون
خضوع مؤلفاتهم المكتوبة أو المسموعة لنظام حماية حقوق المؤلف بغرض أن ينفق العوض المالي الذي يحصلون عليه في سبيل الله ، إن هذه المصلحة مهما بلغ حجمها ووزنها لا يمكن أن ترجح على مصلحة قيمة من أهم قيم الإسلام وما يجب من حمايتها وإبعاد عوامل الضعف عنها .
يقول هؤلاء الأخيار – أحيانا – إن في احتكار استغلال المؤلف الشرعي حفزاً للناشر والموزع بان يبذل كثيراً من الجهد والمال في الإعلان والدعاية للمؤلف فيساعد على انتشاره وإذا لم يحتكر الناشر أو الموزع حق المؤلف بحيث يضمن من بيعه عائداً مجدياً يعوض ما بذله في سبيل نشره من كلفة الإعلان والدعاية بالإضافة إلى ربح مجز لم ينشط للبذل في سبيل الدعاية والإعلان عن المؤلف وبالتالي فيتحدد مجال انتشاره وانتفاع الناس به.
ويتكرر في كلام كثير من الكتاب المسلمين الاحتجاج بأن أخذ المؤلف عوضاً مالياً عن حق التأليف ( فيه تشجيع للبحث والعلم وشحذ همم العلماء لنشر أفكارهم وهذا من أهم وسائل تقدم الأمة وتصحيح منهجها ) أو أن ( الناشر زبون كاسر يحقق مكاسب مادية ودعائية من نشر المؤلف فهل نقول مع هذا بحرمان المؤلف الذي كد فكره وأجهد نفسه و أفنى وقته في مؤلفه من عوض مالي لقاءه ، وأن يكون غنيمة بإرادة لدار النشر ).(/7)
إن هذه الحجج هي نفسها الحجج الرأسمالية التي كانت الدافع لصدور القوانين الغربية التي خلقت الحق المالي للمؤلف وقررت حمايته ، ولكن في حساب المسلم وتقديره هل يعتبر مصنف المؤلف الشرعي مغبوناً ومحروماً إن اختار ما وعد الله وما يرجوه منه على دراهم معدودة يأخذها من الناشر وقد يكون الله أغناه عنها بما أنعم عليه من كفاية ؟!
وإذا كانت النائحة الثكلى ليست كالنائحة المأجورة وإذا كان انبعاث الهمة للبحث وتدوين العلم الشرعي بقصد نفع الخلق ورضا الخالق أحرى بالبركة والقبول وبالتالي الانتشار والنفع ، وإذا كان المسلم يضع هذا الأمر في حسابه ووزنه وقياسه عندما يكتفي الكافر بالحسابات المادية فهل يستقيم أن نقول إن هذا الأمر ليس أحرى بان يكون ( الوسيلة الأهم لتقدم الأمة وتصحيح منهجها)؟!
2- كانت الأمة المسلمة في كل عصورها تعي الفرق بين جزاء المؤلف وجزاء من يتكسب بالمؤلفات وعندما ألف الإمام النووي رحمه الله كتاب رياض الصالحين ( أوسع الكتب انتشاراً لدى المسلمين بعد القرآن ) ربما خطر في باله أن سيتكسب بهذا المؤلف ويرتزق به فئام من الوراقين والنساخين والغالب أنه لم ير في ذلك شذوذا عن الطبيعة أو الشريعة ولكني أجزم أنه لم يكن ليخطر في باله أن له نفسه حقا ماليا ً يتمثل في العوض عن احتكار استغلال هذا الكتاب المبارك ، وهل يظن أحد أن المؤلفين من علماء الأمة في كل عصورها لم يكونوا على هذا المنوال ؟
من المقبول – لدى القلب المطمأن – أن يقول مسلم لا أترك السعي لكسب لقمة العيش وأحبس نفسي لتعليم القرآن للصبيان إلا بمقابل مالي ، ولكن ليس مما يطمئن إليه القلب أن يصنف مصنف في تفسير القرآن ثم يقول لا أسمح لغيري بالانتفاع به إلا بمقابل مالي.
هناك فرق بين الأمرين إن غاب عن الذهن فإنما يغيب بسبب شيوع ثقافة المعاوضة والمشاحة ، واختفاء فكر الإيثار فمن يقيس مصنف المؤلف الشرعي على الناشر التاجر أو يقيس العوض عن احتكاره استغلال المؤلف الشرعي على العوض الذي يأخذه معلم القرآن يغيب عنه هذا الفارق .
3- يلاحظ الغلو في تصور الحق المالي للمؤلف الشرعي من بعض رجال العلم والمؤلفين والمعينين من جهات التنفيذ فكان من رجال العلم من تصور أن سلطة الاحتكار التي منحها القانون للمؤلف حق ملكية تنطبق عليها أحكام المال المملوك فأحرجوا أعداداً من الطلبة الورعين الذين يدرسون في الغرب واستفتوهم في مسائل متعلقة بحقوق التأليف فأفتوهم دون تصور لطبيعة هذا الحق ، و لا معرفة بالقوانين التي تحكمه .
وأما المؤلفون فليس نادراً أن نرى مؤلفاً سعودياً يهتم بأن يسجل على كتابه أنه ( لا يجوز أخذ جزء منه أو اقتباسه أو استنساخه أو... أو ... إلا بإذن المؤلف ) وظاهر أن هذا تجاوز لأحكام النظام السعودي الذي أجاز في الفقرات العشر من المادة الثامنة من النظام أنواعاً من وجوه استخدام المؤلفات ، ونص على أن هذه الوجوه مشروعة دون الحصول على إذن المؤلف.
من يسمع شكاوى الناس ويصدقهم يعتقد أن موظفي الأجهزة التنفيذية في متابعتهم لتنفيذ النظام يتخذون من الإجراءات لحماية مصالح رعايا الدول الأجنبية ليس فقط أشد وأبلغ من الإجراءات التي يفترض أن تتخذها الأجهزة التنفيذية في الدولة الأجنبية لمصالح مواطنيها السعوديين بل أشد وأبلغ من الإجراءات التي تتخذها تلك الدولة الأجنبية لحماية مصالح مواطنيها أنفسهم.
لي صديق من الأئمة رزقه الله صوتاً حسناً ورزقه كما أحسب والله حسيبه – ورعاً وصلاحاً وعندما عاتبته على إعطائه أحد الناشرين حق احتكار استغلال تسجيل قراءته في صلاة التراويح اعتذر بأن الجهة التنفيذية ( وزارة الإعلام ) توجب ذلك ولا تسمح بالنشر إلا بهذا الإجراء .
قد يكون إجراء الجهة التنفيذية صحيحاً لو كانت الحالة حالة مغنٍ سجل أغنية أو أداها في مسرح ، وأما قراءة الإمام في صلاة التراويح فلا تنتج من الناحية القانونية للإمام حقاً احتكارياً باستغلالها ، وإن كان الناشر التاجر عندما يسجل هذه القراءة ويهيئ التسجيل للبيع يكون له الحق في أن يمنع ناشراً آخر أن ينسخ تسجيله ويقوم بنشره ، ولكن لهذا الناشر الآخر أن يقوم هو نفسه بتسجيل القراءة وينشر ما سجله ، وظاهر أن حق الناشر في مثل هذا يختلف عن حق المؤلف.
4- فإذا قيل إن المؤلف الشرعي لا حق له مالياً يحميه النظام فهذا لا يعني بالضرورة أن عمل الناشر مباح تقليده ، وإعادة نشره من قبل شخص آخر .(/8)
علاقة إسرائيل بالولاية المتحدة أبلغ من علاقة الصديق بل الحليف الإستراتيجي ، ومع ذلك ربما لا تنتهك الحقوق الفكرية الأمريكية في بلد كما تنتهك في إسرائيل ، وذلك أن إسرائيل كأي دولة معاصرة تبني علاقتها بالدول الأخرى حتى الصديقة أو الحليفة أو الشريكة في الأهداف والمصالح ، على أساس المصلحة القومية والقوة فلا تنشط أجهزتها التنفيذية للتضحية بمصالحها الوطنية لحساب مصالح مواطني دولة أجنبية ، لا لسبب إلا التزامها القانوني تجاه الدولة الأجنبية .
ليس لنا مثل السوء فلا يظن أني سوف أوصي بأن تسلك الأجهزة التنفيذية في المملكة العربية السعودية سلوك الأجهزة التنفيذية الإسرائيلية لأن المملكة العربية السعودية وهي مقيدة بمبادئ الإسلام لا خيار لها في أن تنتهك اتفاقية دولية أبرمتها ، ولو كان تنفيذ تلك الاتفاقية ضد مصالحها .
و لكني أوصي بأن لا يلتزم رجال السلطة التنفيذية بما لا يلزم فيغلوا في تنفيذ قواعد ما يسمى الملكية الفكرية سواء كانت في شكل نظام وطني أو اتفاقية دولية.
الخلاصة :
1- إن الحق المالي للمؤلف مصدره القانون ، القانون يوجده ، والقانون يلغيه ، والقانون يحدد نطاقه من حيث الزمان والمكان والنوع ووجوه الانتفاع .
2- القانون الذي أوجد هذا الحق لأول مرة نشأ في تربة النظام الرأسمالي العلماني المخصبة بالفردية والمشاحة والمغالبة وسيادة معيار المنفعة المادية .
3- نظام حماية حقوق المؤلف السعودي مصدره التاريخي القوانين الغربية والاتفاقيات الدولية ، ومع ذلك فلا يلزم بالضرورة أن يرجع في تفسيره إلى مصدره التاريخي بل يجب من الناحية القانونية عند تفسيره أو تنفيذه مراعاة انسجامه مع القانون الأعلى للمملكة ( شريعة الإسلام ) بروحها ومقاصدها وقواعدها ، ومراعاة انسجامه مع البيئة التي يطبق فيها .
والبيئة في المجتمع المسلم كمجتمع المملكة العربية السعودية من المفترض أن تسود فيها قيم الإخلاص لله ، وروح الاحتساب ، ورجاء لقاء الله ، والأمل في الباقيات الصالحات وذلك على خلاف بيئة المجتمع الرأسمالي
4- التوقيع عن الله ببيان الحلال والحرام وزيادة المعرفة بالله وما يحبه و يرضاه وما يكرهه ويسخطه ، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله باللسان والقلم .. هذه المعاني وما يجري مجراها هي مضمون ما يعنيه المقال بعبارة ( المؤلفات الشرعية) وأداء الأعمال المذكورة من أفضل القرب والعبادات ولب العبادة وأساسها إخلاصها لله وتنزيهها عن شوائب الشرك بحظوظ النفس ، وإحسان الظن بالمسلم ( وهو واجب بالأصل ) يقتضي افتراض أن مؤلف المؤلف الشرعي قد تمحضت إرادته لأن يكون عمله لله ، وقد قصد أن يقع في ملك الله فمثله مثل المتصدق الذي بذل صدقته والواقف الذي أنجز وقفه ، وهذا بالتالي يقتضي افتراض أن المؤلف الشرعي قد اختار أن لا يدخل تأليفه في نطاق النظام من حيث الاستشراف لثمرات ونتائج الحق المالي للمؤلف.
وإذا كانت القوانين عند ما تفترض أن المؤلف وقع في الملك العام مثل الحالات المنصوص عليها في المادة السادسة من النظام السعودي لا تسحب عليه الحماية لحق المؤلف المالي فأولى بالنظام السعودي أن لا يسحب حمايته على المؤلف الذي وقع في ملك الله .
5- موجب الفقرات السابقة أن المؤلف الشرعي الذي لا يعبر مؤلفه صراحة عن إرادته أن يخضع لنظام حماية المؤلف المالي لا تنسحب عليه الحماية المقررة للحق المالي للمؤلف بموجب النظام .
وبناء على ذلك يجوز لكل أحد أن ينشر المؤلفات الشرعية لعلماء المملكة العربية السعودية حتى ولو لم يمض على وفاتهم خمسون عاماً .
على أنه لا يجوز الافتئات على حق من لا يزال حياً منهم في اختيار أن لا ينشر مؤلفه إلا بعد أن يرضاه للنشر .
6-أما المؤلف الشرعي الذي يصرح مؤلفه بإرادته أن يخضع لنظام حماية حق المؤلف ، فإنه يثبت له الحق المالي وتنسحب عليه الحماية المقررة بالنظام ، هذا من الناحية القانونية ، وأما من الناحية الشرعية فإن كاتب المقال يكل العلم فيه إلى عالمه ويترك الحكم بجواز العمل أو عدم جوازه وترتب الحق المالي أو عدم ترتبه للمختصين من أهل العلم الشرعي .
7-على أن هناك نوعاً من المؤلفات الشرعية لا تخضع أصلاً لنظام حماية حق المؤلف ، ولا حق مالياً لها ، وهي المنصوص عليها في المادة السادسة من النظام ، وما هو مثلها وتشمل هذه المؤلفات الأحكام القضائية وقرارات هيئة كبار العلماء ، وفتاوى اللجنة الدائمة وفتاوى المفتين الرسميين فهذه كلها تقع في الملك العام ولا يكون لأحد حق المؤلف عليها كما تشمل في رأي كاتب المقال خطب الجمعة وكل المواعظ الدينية وترتيل الأئمة للقرآن في الصلاة .
وحتى بالنسبة للمؤلفات المحمية بالنظام يجوز بدون إذن المؤلف الانتفاع بها بوجه من وجوه المنصوص عليها في المادة الثامنة من النظام .(/9)
8-بما أن المجتمع يتميز بقيمه وأن من أسمى القيم التي يجب أن يتميز بها المجتمع المسلم الإخلاص لله ، والاحتساب ، وتوقي الشح طريقاً للفلاح ، والتخلي عن متاع الغرور أملاً في الباقيات الصالحات ، وبما أنه لا أشد خطراً على القيم الاجتماعية من نشوء وتنامي قيم منافية ومنافسة ، والقيم تنشأ وتتنامى عندما ترسخ مظاهر السلوك عادات ثم عرفاً ومعروفاً لا ينكر ، وهذه الحقيقة تنبه الغيوريين على ما يغار الله عليه من الإخلاص والذين يهمهم حماية القيم الأساسية الإسلامية التي يتميز بها المجتمع المسلم عن المجتمع الكافر تنبههم إلى الحذر من التسامح تجاه عوامل إضعاف القيم السامية أو تدميرها وأن يعتبروا هذه المصلحة مصلحة عليا عند الموازنة بين المصالح مصلحة ترجح كل المصالح التي اعتاد المؤلفون الشرعيون أن يبرروا بها اختيارهم أن يظهروا بمظهر من يريد بالعبادة حظ الدنيا فيتتابع الناس على الاقتداء بهم حتى يصبح المعروف منكراً.
إن كاتب المقالة يناشد علماء الأمة أن يعوا مسئوليتهم ويعملوا مكافحة الخطر المحدق من أخطار الغزو الفكري والثقافي الداهم وأن يحرصوا وهم على ثغرات الإسلام أن لا يؤتى الإسلام من قبلهم .
وبالله التوفيق والله المستعان ،،،(/10)
هل للخاطب أن يسترد الشبكة عند فسخ الخطبة؟
إن لي أختا شقيقة تقدم أحد الأشخاص لخطبتها ودفع مبلغ 5000 جنيها لحساب الشبكة، وخلال فترة الخطوبة قام الخاطب بفسخ الخطبة من جانبه دون سبب من قبل السائل، ولم تتم باقي الإجراءات .
فهل من حق الخاطب استرداد المبلغ المدفوع منه لحساب الشبكة أم لا؟
بسم الله ، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:-
ذلك يتوقف على تكييف الشبكة هل هي مهر أم مجرد هدية ، فإذا كانت الشبكة من المهر عرفا أو اتفاقا فللخاطب استرداد ما دفعه لأن الزواج لم يتم، والمخطوبة لا تستحق المهر إلا بالعقد، وإذا كانت الشبكة مجرد هدية عرفا أو اتفاقا فالذي يقضي به قانون الأحوال الشخصية في مصر أن من حق المهدي أن يسترد هديته متى كانت قائمة لم تهلك أو تستهلك.
يقول الشيخ جاد الحق – شيخ الأزهر الأسبق- في جوابه على هذا السؤال:-
الخطبة وقراءة الفاتحة وقبض المهر والشبكة وقبول الهدايا من مقدمات الزواج ومن قبيل الوعد به مادام عقد الزواج لم يتم بأركانه وشروطه الشرعية والمقرر شرعا أن المهر يثبت في ذمة الزوج بعقد الزواج الصحيح فإذا لم يتم عقد الزواج فلا تستحق المخطوبة منه شيئا وللخاطب استرداده .
أما الشبكة التي تقدم للمخطوبة فإذا كان قد اتفق عليها مع المهر أو جرى العرف باعتبارها منه فإنها تكون من المهر وتأخذ حكمه السابق ذكره، بمعنى أن تسترد بذاتها إن كانت قائمة أو مثلها أو قيمتها إن كانت هالكة .
أما إذا لم تدخل في المهر بهذا الاعتبار فإنها تأخذ مع الهدايا حكم الهبة في فقه المذهب الحنفي الجاري عليه القضاء بالمحاكم بنص المادة 280 من لائحة ترتيب المحاكم الشرعية، والهبة شرعا يجوز الرجوع فيها واستردادها إذا كانت قائمة بذاتها ووصفها ،أما إذا كانت هالكة فلا تسترد بذاتها أو قيمتها لأن الهلاك أو الاستهلاك من موانع الرجوع في الهبة شرعا .
وهذا والظاهر من السؤال أن المبلغ المدفوع من الخاطب لشراء الشبكة كان بالاتفاق، وعلى هذا فإن المبلغ المسئول عنه يعتبر من المهر وللخاطب استرداده سواء كان الفسخ من قبله أو من قبل المخطوبة وفقا لنصوص فقه المذهب الحنفي الجاري عليه القضاء، إذ لم يجر العرف بين المخطوبين بإهداء النقود إلا في المناسبات كالأعياد لاسيما والمدفوع نقود من جنس المهر .
والله أعلم .(/1)
هل لنا أن نحتفل بالمولد النبوي ؟ ...
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين, وبعد :
فلا يخفى ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر باتباع شرع الله ورسوله, والنهي عن الابتداع في الدين , قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } [آل عمران/31] , وقال تعالى : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } [الأعراف/3] , وقال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } [الأنعام/ 153 ] , وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن أصدق الحديث كتاب الله , وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها ) . وقال صلى الله عليه وسلم : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ). [رواه البخاري رقم 2697, ومسلم رقم 1718] . وفي رواية لمسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) .
وإن من جملة ما أحدثه الناس من البدع المنكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول , وهم في هذا الاحتفال على أنواع :
فمنهم من يجعله مجرد اجتماع تُقرأ فيه قصة المولد , أو تقدم فيه خطب وقصائد في هذه المناسبة .
ومنهم من يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك , ويقدمه لمن حضر.
ومنهم من يقيمه في المساجد , ومنهم من يقيمه في البيوت .
ومنهم من لا يقتصر على ما ذكر , فيجعل هذا الاجتماع مشتملاً على محرمات ومنكرات من اختلاط الرجال بالنساء والرقص والغناء , أو أعمال شركية كالاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وندائه والاستنصار به على الأعداء وغير ذلك.
وهو بجميع أنواعه واختلاف أشكاله واختلاف مقاصد فاعليه لا شك ولا ريب أنه بدعة محرمة محدثة أحدثها الشيعة الفاطميون بعد القرون الثلاثة المفضلة لإفساد دين المسلمين . وأول من أظهره بعدهم الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع الهجري , كما ذكره المؤرخون كابن خلكان وغيرهما.
وقال أبو شامة : وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا أحد الصالحين المشهورين , وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره.
قال الحافظ ابن كثير في (البدية والنهاية : 13/137) في ترجمة أبي سعيد كزكبوري : " وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً .. إلى أن قال : قال البسط : حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي , وعشرة آلاف دجاجة , ومائة ألف زبدية , وثلاثين صحن حلوى .. إلى أن قال : ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم" .
وقال ابن خلكان في (وفيات الأعيان : 3/274 ): " فإذا كان أول صفر زينوا تلك القباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة , وقعد في كل قبة جوق من الأغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي , ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات (طبقات القباب) حتى رتبوا فيها جوقاً . وتبطل معايش الناس في تلك المدة ، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم ... " إلى أن قال : " فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً عن الوصف ، وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي ، حتى يأتي بها إلى الميدان ... " إلى أن قال : " فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة ".
فهذا مبدأ حدوث الاحتفال وإحيائه بمناسبة ذكرى المولد ، حدث متأخراً ومقترناً باللهو والسرف وإضاعة الأموال والأوقات وراء بدعة ما أنزل الله بها من سلطان .
والذي يليق بالمسلم إنما هو إحياء السنن وإماتة البدع ، وألا يقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه .
*****
حكم الاحتفال بذكرى المولد النبوي :
الاحتفال بمناسبة مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ممنوع ومردود من عدة وجوه :
أولاً : أنه لم يكن من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من سنة خلفائه . وما كان كذلك فهو من البدع الممنوعة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ) [ أخرجه أحمد 4/126 ، والترمذي برقم 2676 ].
والاحتفال بالمولد محدث أحدثه الشيعة الفاطميون بعد القرون المفضلة لإفساد دين المسلمين . ومن فعل شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به ، ولم يفعله خلفاؤه من بعده ، فقد تضمن فعلُه اتهامَ الرسول بأنه لم يبين للناس دينهم ، وتكذيب قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [المائدة/3] لأنه جاء بزيادة يزعم أنها من الدين ولم يأت بها الرسول صلى الله عليه وسلم .(/1)
ثانياً : في الاحتفال بذكرى المولد تشبه بالنصارى ، لأنهم يحتفلون بذكرى مولد المسيح عليه السلام والتشبه بهم محرم أشد التحريم ، ففي الحديث النهي عن التشبه بالكفار ، والأمر بمخالفتهم ، ففد قال صلى الله عليه وسلم : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) [أخرجه أحمد 2/50 ، وأبو داود 4/314] ، وقال : ( خالفوا المشركين ) [أخرجه مسلم 1/222 رقم 259 ]، ولا سيما فيما هو من شعائر دينهم .
ثالثاً : أن الاحتفال بذكرى مولد الرسول مع كونه بدعة وتشبهاً بالنصارى وكل منهما محرم فهو كذلك وسيلة إلى الغلو والمبالغة في تعظيمه حتى يفضي إلى دعائه والاستعانة به من دون الله ، كما هو الواقع الآن من كثير ممن يحيون بدعة المولد ، من دعاء الرسول من دون الله ، وطلب المدد منه ، وإنشاد القصائد الشركية في مدحه كقصيدة البردة وغيرها ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن الغلو في مدحه فقال : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبده ، فقولوا عبد الله ورسوله ) [أخرجه البخاري 4/142 رقم 3445 ، الفتح 6/551 ] ، أي لا تغلوا في مدحي وتعظيمي كما غلت النصارى في مدح المسيح وتعظيمه حتى عبدوه من دون الله ، وقد نهاهم الله عن ذلك بقوله : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } [النساء/171] .
ونهانا نبينا صلى الله عليه وسلم عن الغلو خشية أن يصيبنا ما أصابهم ، فقال : ( إياكم والغلو ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ) [أخرجه النسائي 5/268 ، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي رقم 2863 ].
رابعاً : إن إحياء بدعة المولد يفتح الباب للبدع الأخرى والاشتغال بها عن السنن ، ولهذا تجد المبتدعة ينشطون في إحياء البدع ويكسلون عن السنن ويبغضونها ويعادون أهلها ، حتى صار دينهم كله ذكريات بدعية وموالد ، وانقسموا إلى فرق كل فرقة تحيي ذكرى موالد أئمتها ، كمولد البدوي وابن عربي والدسوقي والشاذلي ، وهكذا لا يفرغون من مولد إلا يشتغلون بآخر ، ونتج عن ذلك الغلو بهؤلاء الموتى وبغيرهم ودعائهم من دون الله ، واعتقادهم أنهم ينفعون ويضرون حتى انسلخوا من دين الله وعادوا إلى دين أهل الجاهلية الذين قال الله فيهم : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [يونس/18] ، وقال تعالى : { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [الزمر/3 ]
*****
مناقشة شبه مقيمي المولد :
هذا ، وقد يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بشبه أوهى من بيوت العنكبوت ، ويمكن حصر هذه الشبه فيما يلي :
1- دعواهم أن في ذلك تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم :
والجواب عن ذلك أن نقول : إنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته صلى الله عليه وسلم ، وليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي ، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم لأنه معصية ، وأشد الناس تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة رضي الله عنهم ، كما قال عروة بن مسعود لقريش : ( أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداًُ صلى الله عليه وسلم ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدّون النظر إليه تعظيماً له ) [البخاري 3/178 رقم 2731 ، 2732 ، الفتح : 5/388] ، ومع هذا التعظيم فإنهم -رضي الله عنهم- لم جعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً ، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه .
2- الاحتجاج بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان :
والجواب عن ذلك أن نقول : الحجة بما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، والثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن البدع عموماً ، وهذا منها ، وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحجة وإن كثروا : { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } [الأنعام/116] ، مع أنه لا يزال بحمد الله في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها ، فلا حجة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق .(/2)
فممن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم " ، والإمام الشاطبي في " الاعتصام " ، وابن الحاج في " المدخل " ، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي ألّف في إنكاره كتاباً مستقلاً ، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه " صيانة الإنسان " ، والسيد محمد رشيد رضا ألف فيه رسالة مستقلة ، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ألف فيه رسالة مستقلة ، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات الجرائد والمجلات ، في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة .
3- يقولون : إن في إقامة المولد إحياءً لذكرى النبي صلى الله عليه وسلم .
والجواب عن ذلك أن نقول : إن ذكرى الرسول صلى الله عليه وسلم تتجدد مع المسلم ، ويرتبط بها المسلم كلما ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم في الأذان والإقامة والخطب ، وكلما ردد المسلم الشهادتين بعد الوضوء وفي الصلوات ، وكلما صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في صلواته وعند ذكره ، وكلما عمل المسلم عملاً صالحاً واجباً أو مستحباً مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه بذلك يتذكره ويصل إليه في الأجر مثل أجر العامل .. وهكذا المسلم دائماً يحيي ذكرى الرسول ويرتبط به في الليل والنهار طوال عمره بما شرعه الله ، لا في يوم المولد فقط وبما هو بدعة ومخالفة لسنته ، فإن ذلك يبعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويتبرأ منه .
والرسول صلى الله عليه وسلم غني عن هذا الاحتفال البدعي بما شرعه الله له من تعظيمه وتوقيره كما في قوله تعالى : { ورفعنا لك ذكرك } [الشرح/4] ، فلا يذكر الله عز وجل في أذان ولا إقامة ولا خطبة وإلا يذكر بعده الرسول صلى الله عليه وسلم وكفى بذلك تعظيماً ومحبة وتجديداً لذكراه وحثاً على اتباعه.
والله سبحانه وتعالى لم ينوه في القرآن بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما نوه ببعثته ، فقال : { لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [آل عمران/124] ، وقال : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم } [الجمعة/2 ]
4- وقد يقولون : الاحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه ملك عادل عالم ، قصد به التقرب إلى الله !
والجواب عن ذلك أن نقول : البدعة لا تُقبل من أي أحد كان ، وحُسن القصد لا يُسوغ العمل السيئ ، وكونه عالماً وعادلاً لا يقتضي عصمته .
5- قولهم : إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم !
ويجاب عن ذلك بأن يقال : ليس في البدع شيء حسن ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) [أخرجه البخاري 3/167 رقم 2697 ، الفتح 5/355] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( فإن كل بدعة ضلالة ) [أخرجه أحمد 4/126 ، والترمذي رقم 2676 ]، فحكم على البدع كلها بأنها ضلالة ، وهذا يقول : ليس كل بدعة ضلالة ، بل هناك بدعة حسنة .
قال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين : " فقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل بدعة ضلالة ) من جوامع الكلم ، لا يخرج عنه شيء ، وهو أصل عظيم من أصول الدين ، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) [أخرجه البخاري 3/167 رقم 2697 ، الفتح 5/355 ]، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة " انتهى [من كتاب جامع العلوم والحكم ، ص 233 ]
وليس لهؤلاء حجة على أن هناك بدعة حسنة إلا قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح : ( نعمت البدعة هذه ) [صحيح البخاري 2/252 رقم 2010 معلقاً ، الفتح 4/294 ]
وقالوا أيضاً : أنها أُحدثت أشياء لم يستنكرها السلف ، مثل : جمع القرآن في كتاب واحد ، وكتابة الحديث وتدوينه .
والجواب عن ذلك أن هذه الأمور لها أصل في الشرع فليست محدثة .
وقول عمر : ( نعمت البدعة ) يريد : البدعة اللغوية لا الشرعية ، فما كان له أصل في الشرع يرجع إليه ، إذا قيل : إنه بدعة ، فهو بدعة لغة لا شرعاً ، لأن البدعة شرعاً ما ليس له أصل في الشرع يرجع إليه .
وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن لكن كان مكتوباً متفرقاً ، فجمعه الصحابة في كتاب واحد حفظاً له .
والتروايح قد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليالي وتخلف عنهم في الأخير خشية أن تُفرض عليهم ، واستمر الصحابة رضي الله عنهم يصلونها أوزاعاً متفرقين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ، إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلق إمام واحد كما كانوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس هذا بدعة في الدين .(/3)
وكتابة الحديث أيضاً لها أصل في الشرع ، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه لما طلب منه ذلك ، وكان المحذور من كتابته بصفة عامة في عهده صلى الله عليه وسلم خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه ، فلما توفي صلى الله عليه وسلم انتفى هذا المحذور ، لأن القرآن قد تكامل وضبط قبل وفاته صلى الله عليه وسلم ، فدوّن المسلمون السنة بعد ذلك حفظاً لها من الضياع ، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً ، حيث حفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم من الضياع وعبث العابثين .
ويقال أيضاً : لماذا تأخر القيام بهذا الشكر على زعمكم فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ، وهم أشد محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر ، فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكراُ لله عز وجل ؟ حاشا وكلا .
6- قد يقولون : إن الاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم ينبئ عن محبته فهو مظهر من مظاهرها ، وإظهار محبته صلى الله عليه وسلم مشروع !
والجواب أن نقول : لا شك أن محبته صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين - بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه - ولكن ليس معنى ذلك أن تبتدع في ذلك شيئاً لم يشرعه لنا ، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه ، فإن ذلك من أعظم مظاهر محبته ، كما قيل :
لو كان حبك صادقاً لأطعته***** إن المحبّ لمن يحب مطيع
فمحبته صلى الله عليه وسلم تقتضي إحياء سنته ، والعض عليها بالنواجذ ، ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال ، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة ، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع ، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين ، فإن الدين مبني على أصلين : الإخلاص والمتابعة ، قال تعالى : { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [البقرة / 112 ] ، فإسلام الوجه لله الإخلاص لله ، والإحسان هو التابعة للرسول وإصابة السنة .
7- ومن شبههم : أنهم يقولون : إن في إحياء ذكرى المولد وقراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المناسبة حثاً على الاقتداء والتأسي به !
فنقول لهم : إن قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به مطلوبان من المسلم دائماً طوال السنة وطوال الحياة ، أما تخصيص يوم معين لذلك بدون دليل على التخصيص فإنه يكون بدعة ( وكل بدعة ضلالة) [أخرجه أحمد 4/164 ، والترمذي 2676 ] ، والبدعة لا تثمر إلا شراً وبعداً عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وخلاصة القول : أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي بأنواعه واختلاف أشكاله بدعة منكرة يجب على المسلين منعها ومنع غيرها من البدع ، والاشتغال بإحياء السنن والتمسك بها ، ولا يُغتر بمن يروّج هذه البدعة ويدافع عنها ، فإن هذا الصنف يكون اهتمامهم بإحياء البدع أكثر من اهتمامهم بإحياء السنن ، بل ربما لا يهتمون بالسنن أصلاً ، ومن كان هذا شأنه فلا يجوز تقليده و الاقتداء به ، وإن كان هذا الصنف هم أكثر الناس ، وإنما يقتدي بمن سار على نهج السنة من السلف الصالح وأتباعهم وإن كانوا قليلاً ، فالحق لا يُعرف بالرجال ، وإنما يُعرف الرجال بالحق .
قال صلى الله عليه وسلم : ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ) [أخرجه أحمد 4/126 ، والترمذي رقم 2676] ، فبين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف بمن نقتدي عند الاختلاف ، كما بين أن كل ما خالف السنة من الأقوال والأفعال فهو بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
وإذا عرضنا الاحتفال بالمولد النبوي لم نجد له أصلاً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا في سنة خلفائه الراشدين ، إذن فهو من محدثات الأمور ومن البدع المضلة ، وهذا الأصل الذي تضمّنه هذا الحديث وقد دل عليه قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاًُ } [النساء /59 ]
والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم ، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرجوع إلى سنته بعد وفاته ، فالكتاب والسنة هما المرجع عند التنازل ، فأين في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي ؟ فالواجب على من يفعل ذلك أو يستحسنه أن يتوب إلى الله تعالى منه ومن غيره من البدع ، فهذا هو شأن المؤمن الذي ينشد الحق ، وأما من عاند وكابر بعد قيام الحجة فإنما حسابه عند ربه .
هذا ونسأل الله أن يرزقنا التمسك بكتابه وسنة رسوله إلى يوم نلقاه وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه .
..................................................................................(/4)
من كتاب : حقوق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال ص 139 للشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان - عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية .(/5)
هل له أن يصلي الصلاة النصرانية؛ لُيخفَّف عنه مدة السجن
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 23/3/1425هـ
السؤال
شيخنا الفاضل: -أثابكم الله- نحن مجموعة من الأسرى المسلمين في أمريكا، هناك نظام في السجن يحدد مدة السجن بحد أدنى وحد أعلى مثل من 10 -20 سنة من 15 - 30 سنة وهكذا، والذي يريد أن ينال الحد الأدنى لا بد أن يوافق على الانخراط في برامج السجن الإصلاحية ومنها الحديث عن تجربة الشخص السابقة بالتفصيل، والتي قادته لدخول السجن مثل المخدرات أو الكحول ... إلخ، ثم يؤدي الجميع صلاة جماعية نصرانية ويطلبون من كل شخص أن ينوي الصلاة لربه، ولكن الجميع ينطقون نفس الكلمات الذي يرفض هذا البرنامج يتأخر خروجه من السجن إلى الحد الأقصى للمحكومية، نرجو جواباً توضيحياً مفصلاً، ماذا نفعل لحماية مصلحتنا والمحافظة على ديننا؟ أرجو التكرم بتوضيح كل مسألة على حدة، وإثم الصلاة الجماعية مع الكفار ولكي يصبح الأمر واضحاً تماماً لنا.
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله، وبعد:
فندعو الله أن يفرج أسركم، ويعظم أجركم، ويثبتكم على الحق وجميع إخوانكم المأسورين والمضطهدين، وعن سؤالكم أقول:
1- إن كان بكم قوة، ولديكم عزيمة تقدرون بها على تحمل الشدائد، ورغبتم ذلك، فاثبتوا ولا تستجيبوا لمطالب أعدائكم، وإن ضوعفت عليكم مدة السجن، وسيضاعف الله لكم الأجر، وربما يسر الله لكم الفرج من حيث لم تحتسبوا أو تلقوا ربكم على أطيب حال وأحسن خاتمة، ولكم من سلف الأمة من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- والدعاة المصلحين أسوة وقدوة؛ كما حصل لرسول رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من مسيلمة الكذاب عندما سأله مسيلمة: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، وقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أشهد أنك كذاب، فقتله وقطعه إرباً إربا، وما حصل لبلال بن رباح – رضي الله عنه- مع المشركين وقد أصرّ على أن يسمعهم ما يكرهون: "أحد.. أحد.."، وما حصل لعبد الله بن حذافة – رضي الله عنه- مع ملك الروم، وما حصل للإمام أحمد بن حنبل مع الخليفة المأمون والواثق، وما حصل لسيد قطب مع جمال عبد الناصر.
2- وإن كنتم أو أحدكم لا تجدون في أنفسكم قوة وجلداً وتحملاً فقد جعل الله لكم رخصة تخرجون بها مما أنتم فيه، وهذه الحال أقل من سابقتها إلا أن الله أجازها في كتابه وعلى لسان رسوله – صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم" [النحل:106] نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر – رضي الله عنه- لما فتنه المشركون وعذبوه، ولم يتركوه حتى سمعوا منه ما يرضيهم في ذات الرسول – صلى الله عليه وسلم- (فجاء عمار شاكياً للرسول – صلى الله عليه وسلم- حاله، فقال له صلى الله عليه وسلم: "كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، فقال له: إن عادوا فعد")، وعلى هذا أجمع العلماء ، فمن تلفظ بكلمة الكفر مكرهاً لا يكفر؛ لأن الإكراه قرينة ظاهرة على أن كفره تقية ومصانعة محمودة يدفع بها الأذى عن نفسه، وهذه رخصة من الله لعباده رفقاً ورحمة بمن لا يقوى على الأخذ بالعزيمة والصبر على البلاء، وجمهور العلماء يجيز للمكره قول الكفر بلسانه أو فعله كالسجود للصنم، وقال بعض العلماء: إن فعل الكفر لا يجوز بالإكراه مطلقاً وإنما يجوز بالتلفظ باللسان فقط، وقول الجمهور أظهر وأرجح؛ لأن الآية لم تتعرض لغير حق الله تعالى، وهو حق محض، - أعني قول الشرك وفعله مكرهاً- وحقوق الله مبنية على التسامح عكس حقوق العباد حيث هي مبنية على المشاحة، وإذا كان الإكراه موجباً للرخصة في إظهار الكفر القولي أو العملي فما دونه من المعاصي أولى كشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، ونحوهما، أما الإكراه على ذكر السوابق إن كانت محرمة فبالإمكان أن تذكر بنية أن الإنسان قد تاب منها، ومثلها الصلاة الجماعية على الطريقة النصرانية فليست بأعظم من النطق بكلمة الكفر أو السجود للصنم ما دام القلب مطمئناً بالإيمان، وكونهم يطلبون من كل شخص في هذه الصلاة الجماعية النصرانية أن ينوي الصلاة لربه، هذا أخف مما سبق.
والخلاصة: يجوز لكم الأخذ بالرخصة التي رخص الله لكم بشرط أساسي وهو أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان بخلاف ما تنطق به الجوارح، على أني أظن أنكم لو طالبتم إدارة السجن بأن تحتسب لكم الصلاة التي تصلونها وهي الصلوات الخمس المفروضة وبينتم لهم أنكم على دين يعظم الصلاة لله وأن هذه الصلاة لها صفتها وأثرها وأنها هي الصلاة الحقيقية التي تعتقدونها فإني أرجو أن يستجيبوا لكم ويتحقق لكم بذلك خير الدنيا والآخرة. ثبتكم الله وأعانكم، وفرج كربتكم. آمين.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(/1)
هل لهم الحق في أخذ حق نهاية الخدمة؟
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الهبة والعطية
التاريخ ... 21/07/1425هـ
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
أحد إخواني -الله يرحمه ويتغمده برحمته إن شاء الله- قد عرض عليه أحد أبناء عمي أن يوظفه بوظيفة بإحدى المؤسسات، وقد اتفقوا على أن يأخذ أخي -الله يرحمه- مبلغ وقدره 3500 ريال شهرياً، ولا يأتي لدوام ولا يأتي ليستلم المبلغ، بل يحول إليه عن طريق البنك أو مع الشخص السابق الذكر، على أن يقوم أخي -رحمه الله- بإعطائهم صورة بطاقته ويسجلونه بمكتب العمل والعمال على أنهم موظفون سعوديون، وقد مضى له ستة أشهر بالوظيفة، الآن وقد انتقل أخي إلى -رحمة الله- فقد عرض علي ابن عمي -الشخص الذي وظف أخي بالمؤسسة- أن نعطيه الأوراق التي تثبت وفاة أخي؛ على أن يصرفون لأولاده وزوجته مبلغاً وقدره 1500 ريال شهرياً، ومبلغًا آخر قدره 10000 آلاف ريال كنهاية خدمة، مع العلم أن ذلك (التوظيف والمطالبة بنهاية الخدمة) تم بموافقة المسؤول المباشر عن التوظيف، وقد عرضت الأمر على زوجته، وقالت أسأل أحد المشايخ هل يجوز أن آخذ المبلغ أم لا؟. حفظكم الله ورعاكم.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
هذا العمل من الشركة والمسؤولين فيها أشبه ما يكون هبة منها؛ لتحصل على نسبة السعوديين المحددة لها لدى وزارة العمل، فالشركة لا تريد من أخيك العمل فيها، وإن كان هذا تحايل فهو من الشركة لا من أخيك؛ إذ لو طلبت منه الحضور أو العمل مقابل ما منحته من راتب لاستجاب، والذي يظهر لي جواز أخذ الراتب التقاعدي ومكافأة نهاية الخدمة وتكييف ذلك شرعاً، أن أخاك تعاقدت معه الشركة على استخدام اسمه فيها مقابل مبلغ معين، وهذا مثل من يبيع رقم طلبه في صندوق التنمية العقاري أو غيره إذا كان رقم طلبه حالاً أو متقدماً، والعلماء في هذا مختلفون بين مجيز ومانع، والذي يظهر لي جواز مثل هذا. والله أعلم.(/1)
هل مشقّة الحجّ تجلب التيسير الفقهيّ؟
د.مسفر بن علي القحطاني * 7/12/1425
18/01/2005
اقترب موعد الحج لهذا العام، واقتربت معه الكثير من الملفات التي لا تُفتح إلا في الحج، ولا يتمّ مناقشتها إلا أثناء الموسم، ولعل من أهمها ما يتعلق ببعض الفتاوى، و مستجدّات الحج ونوازله الفقهية كأحكام الرمي قبل الزوال، وبعض محظورات الإحرام المعاصرة، والتقديم والتأخير في ترتيب بعض المناسك وغيرها من المسائل التي تزداد مع تطور الوسائل وتشابك الحياة المعاصرة.
وكما نلحظ التطوّر الكبير في خدمة الحجيج، واليُسر في بلوغ الحج والوصول إليه مهما بعُدت الشُقَّة. نلحظ كذلك التزايد المطّرد لأعداد الحجيج، وما ينجم عنه من تزاحم عنيف ومضايقة شديدة أثناء تأدية المناسك. مما أدّى إلى تغيّر اجتهاد كثير من العلماء والمفتين في كثير من المسائل، ومخالفة المشهور من المذاهب تخفيفاً على الناس من الضيق والحرج، والعمل بفقه التيسير في أحكام الحج ونوازله المستجدّة.
وكم سيحصل للناس من شدّه وكرب، وربما موت وهلاك لو تمسّك أولئك الفقهاء بأقوال أئمتهم، أو أفتَوْا بها دون اعتبار لتغير الأحوال والظروف واختلاف الأزمنة والمجتمعات.
فرَمْي الجمار في أيام التشريق يبدأ من زوال الشمس حتى الغروب، وعلى رأي الجمهور من الفقهاء لا يجزئ الرمي بعد الغروب.. ومع ذلك اختار كثير من المحققين وجِهات الافتاء، جواز الرمي ليلاً مراعاة للسّعة والتيسير على الحجاج من الشدّة والزحام.
ولعل الداعي يتأكد لمعاودة النظر في حكم الرمي قبل الزوال وخصوصاً للمتعجّل في اليوم الثاني من أيام التشريق؛ لما ترتب على الرمي بعد الزوال في السنوات الماضية من ضيق وحرج شديدين.
ولا يخفى أن القاعدة في أعمال الحج كما أنها قائمة على العمل بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في "خذوا عني مناسككم"، فإنها قائمة أيضاً على رفع الحرج واليسر كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "افعل ولا حرج"، وقد أفتى بالجواز في هذه المسالة بعض الأئمة من التابعين، وهو مذهب الأحناف وقول بعض الفقهاء المعاصرين.
إن فقه التيسير لا يعني المروق من الدين، أو الانحلال والتفريط في العمل بأحكام الشرع الحنيف، بل هو منهج علمٍ، ومدرسة فقهٍ، وطريق فُتيا وحياةٍ أمثل للمسلمين.
فالتيسير ورفع الحرج عن المكلفين إذا لم يُصادم نصاً صريحاً أو إجماعاً معتَبَراً، وكان متفقاً مع أصول الشرع الكلية، ومقاصده العامة مراعياً تبدّل الأزمان والأماكن وتغيّر الظروف والأحوال؛ فهذا مما ينبغي العمل به، وجريان الفُتْيا عليه، فأزمان المحن والشدائد ليست كأزمان السعة والاستقرار، وأحوال الخائفين ليست كأحوال الآمنين، ومن وقع في ضرورةٍ أو حاجةٍ ليس حاله كحال من هو في السّعة والطمأنينة.
وهذا ما كان معروفاً من هديه -صلى الله عليه وسلم- ووصيته المتكررة لأصحابه:" يسّرا ولا تُعَسّرا وبشّرا ولا تُنفّرا": لهذا جاء في وصفه كما قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) يقول عمر بن إسحاق: " لمَنْ أدركت من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر لمن سبقني منهم فما رأيت قوماً أيسر سيرة ولا أقل تشدّداً منهم" وقال سفيان بن عيينة عن معمر: "إنما العلم أن تسمع بالرخصة من الثقة فأما التشديد فيحسنه كلّ أحد". والقاعدة الكبرى في الباب تنص على أن المشقة تجلب التيسير .. فهل مشقة الحج المعاصر تجلب التيسير في فقهنا المعاصر؟!
__
*رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن(/1)
هل نحن مغفلون
الكاتب: الشيخ د.جميل بن حبيب اللويحق
لقد كان عنوان هذا المقال أكثر حدة مما وضع أعلاه , والسبب في ذلك أن المرء قد ضاق ذرعا بما يسمعه يوما بعد يوم من وقائع تنضح بسطحية وسذاجة بل وغفلة عدد ليس بالقليل من شعبنا الكريم , لقد كانت بطاقات سوا هي نجمة البداية المخجلة لغياب الوعي الجماهيري حين تفتقت الأرض عن مجموعات متنوعة من (الهوامير) المصطلح الأبرز على الساحة المحلية لاحقا, يجمعون الأموال الطائلة وبأدنى صور التوثيق, ليحركوها كما يزعمون في المتاجرة ببطاقات سوا, ولقد كان المنطق وحده كافيا لرد هذه الادعاءات من هؤلاء النصابين وكشف كذبها, في مدينتنا ولمجرد التمثيل كان أحدهم يزعم خلال ترويجه لنفسه أنه سيبيع وفي شهر واحد بطاقات من سوا بعشرات الملايين لتأتي الأرباح سريعا , في حين ان سوق هذه السلعة لم يكن يتجاوز ولازال بضع عشرات من الآلاف من الريالات , وفي زاوية أخرى من المدينة كان الناس يصطفون أمام استراحة هامور آخر ويبذلون الشفاعات لعله أن يقبل بهم في جملة المساهمين لديه , وبعد مدة بدا لنا كيف كانت المسألة تدار , وكيف كان العقل يغيب , حين تحمل الملايين من أموال الناس , والتي جمعوها بشق الأنفس أو بالديون لتحمل في الكراتين , وفي الحقائب الخلفية للسيارات لتنقل من مكان لآخر , يقول أحدهم أنه أراد الانسحاب بعد استلامه لدفعة أو دفعتين من ما يسمى بالأرباح فذهب إلى رئيس المجموعة فوجده في مكانه مع مجموعة وأخبرهم برغبته في الانسحاب , فقال له خذ من هذا الكرتون رأس مالك وانصرف ....هكذا بكل بساطة .
وتتابع الوقوع وازداد العدد حتى كان لدى أحدهم أكثر من ثلاثين ألف مساهم , فلما انجلى الصبح لم نجد سوا ولا البيض ولا المكيفات .. وبطبيعة الحال لم نجد رأس المال ولا الأرباح , بل انكشف الغطاء عن عمليات احتيال وتدوير للمال وبصور ساذجة في الحبكة مما أدى إلى خسائر وخراب بيوت من الصعب حصر آثاره. ولست ألوم هؤلاء المحتالين بالدرجة الأولى فهم قد سلكوا هذا الطريق عن إرادة وقصد وغياب للنصح والصدق , ولكني أتعجب من هؤلاء الناس الذين وبرغم كل ما ظهر وانكشف لازالوا على عمايتهم بل لازالوا يدفعون أموالهم لمن لم يسقط بعد من هؤلاء المحتالين , وفي هذه الأيام وبعد كل ما جرى يخرج هامور جديد فيما نسمع في ينبع ليتتابع إليه فئام من الناس من جديد , والمضحك المبكي أن من يقعون في المساهمات الوهمية وبرغم النصح والعبرة الظاهرة في غيرهم يرجعون بعد ذلك باللوم على الدولة مطالبين باعادة أموالهم التي حملوها بأيديهم إلى هؤلاء! ومثل هذا واعجب منه أنك ترى وتقرأ المرة تلو المرة كيف يذهب بعض الناس إلى ساحر أو دجال ليحول لهم الآلاف إلى ملايين، فيتجرد أحدهم من دينه ومن عقله أيضا , وفي النهاية يضرب ويقيد ويؤخذ ماله، ويخرج على الناس بعد ذلك في صورة المغدور المظلوم , والحال أنه يجب أن يؤدب هو أولا وأن يحجر عليه , وأن يمنع من التصرف في ماله لعدم رشده وأهليته. أي سخف هذا الذي يحدث؟ ويتواصل المسلسل لتجتمع مجموعة من الوافدين لتمثيل دور رئيس دولة افريقية - رئيس دولة دفعة واحدة - ولتنطلي هذه الحيلة الكبيرة على بعض المواطنين وليستولي هذا الزعيم الموهوم على مليون ريال من آخر ضحاياه بحسب إحدى الصحف المحلية ... ولا عزاء للمغفلين. فهل يحق لنا ان نتساءل بعد هذا وبمرارة هل نحن شعب مغفّل؟(/1)
هل نحن نستهلك بعقلانية
د.نهى قاطرجي
إن من أولى وأهم الأسباب التي أضعفت الأمة الإسلامية والعربية ومكنت الدول الغربية من إحكام سيطرتها عليها، هو كونها أمة تستهلك أكثر مما تنتج ، وهي في الغالب تستهلك المواد المستوردة من الدول الغربية، مما سمح لتلك الدول أن تفرض عليها شروطها، وتلوح من وقت لآخر بسلاح العقوبات الاقتصادية، من أجل إذلال تلك الدول وإخضاعها لتنفيذ سياساتها وأهدافها .
من هنا فإننا عندما نتحدث عن ترشيد الاستهلاك، فإننا نهدف بذلك على الصعيد الخاص إلى " توجيه الأنماط والعادات الاستهلاكية الغذائية، بحيث يتسم السلوك الاستهلاكي للفرد أو الأسرة بالتعقل، الاتزان، الحكمة، الرشادة، الموضوعية والمنطقية، وبحيث يكون استغلال الفرد من الأغذية حسب احتياجات جسمه وبالكميات والنوعية التي تحقق له اتزان الفائدة الغذائية، والتي تفي بكافة احتياجاته من السعرات الحرارية اليومية دون زيادة أو نقصان، مما يزيد نشاط وحيوية الفرد، وينعكس بدوره على إنتاجية الفرد واستهلاك الأسرة، ومن ثم على استهلاك المجتمع وحيويته " .
ونهدف على الصعيد العام إلى " تحسين نمط حياة السكان، والعمل على رفع مستوى معيشتهم، وتطوير الاقتصاد من خلال تنمية مختلف القطاعات، وبالأخص التطبيق المنظم والشامل لسياسات الغذاء والزراعة والمناطق الريفية، والتي تشارك فيها الحكومة والسلطات المحلية، إضافة إلى توفير الكمية المناسبة من الأغذية ذات النوعية الجيدة والمأمونة صحياً وذات الأسعار المناسبة".
والجدير بالذكر أن هذه الدعوة إلى ترشيد الاستهلاك لا يقصد بها الحرمان من التمتع بملذات الدنيا، بقدر ما يقصد بها العمل على تربية النفس حتى يتمكن المسلم من القيام بدوره في النهوض بواجبه الاستخلافي في الأرض وفقاً لقول الله عز وجل: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ " .
كما يقصد منها الدعوة إلى التوسط وعدم الاسراف في الاستفادة من نعم الله عز وجل، والتي حث عليها الله سبحانه وتعالى في كثير من الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى : " كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لايحب المسرفين ". وقوله سبحانه : " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا" .
لذا فإن هذه الدعوة إلى ترشيد الاستهلاك لا تنطلق من فراغ وإنما ترتبط بحسن عبادة المؤمن لربه ، وذلك في مجالات عدة :
1- دور المسلم في حماية الأرض والبيئة وتأمين الحياة السليمة للأجيال التي تأتي بعده، ذلك أن العبادة بمعناها الشامل لا تقتصر فقط على أداء الشعائر الدينية فقط، إذ إن "حسن استغلال البيئة عبادة، والمحافظة عليها وصيانتها لتستمر الى ما شاء الله تنتفع بها البشرية كافة حتى يرث الله الأرض ومن عليها عبادة ، وإماطة الأذى عن الطريق عبادة، وعدم تلويث الماء والهواء عبادة ، وحسن استعمال المرافق العامة والخاصة من طرق ومياه وكهرباء ومؤسسات مختلفة ( مدارس ـ مستشفيات ـ مصانع وغيرها ) بأسلوب راشد عاقل عبادة، هذه السلوكيات الإسلامية البناءة فى التعامل مع مكونات البيئة الطبيعية والمشيدة، أمرالله سبحانه وتعالى عباده بها بقوله: "وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد فى الأرض إن الله لايحب المفسدين" .
وليس ثمة شك أن حسن استغلال مكونات البيئة الطبيعية والمشيدة وصيانتها فيه نفع كبير للبشرية كافة، وأن سوء استغلالها والعمل على سرعة استنزاف مواردها أمر فيه ضرر بالغ للبشرية جمعاء، وهو فى نفس الوقت كفر والعياذ بالله بأنعم الله ولاريب أن الكفر بأنعم الله مدعاة الى المآسي والكوارث والجوع والخوف يقول الحق تبارك وتعالى " ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون " .
ومن نماذج سوء الاستهلاك في البيئة الكثافة العالية في استخدام الأسمدة الكيماوية والمبيدات الحشرية مما أدى إلى تسرب كميات كبيرة منها إلى الهواء ومصادر المياه وإفسادهما ، فقد ورد في تقرير صدر عن دول مجموعة التعاون الاقتصادي الأوربي ( 1988م. ) تحذير "من تفاقم التلوث المائي الناجم عن تكثيف استخدام الأسمدة الكيماوية، ودعا التقرير إلى الحد من الاستخدام المكثف ( الإسراف ) لهذه الأسمدة الكيماوية لما لها من مخاطر كبيرة على الأحياء المائية" .
أما عن نماذج سوء الاستهلاك على الصعيد الخاص فيكمن في الاسراف في استخدام المياه في الاستعمالات اليومية، حتى أنه في إحدى التوجيهات الإعلامية لإحدى الوزارات ورد أنه إذا تم فتح صنبور المياه بشكل يدل على التسيب أو الاسراف من المباح أكثر مما يحتاجه الشيء المغسول، فإن هذا يعني هدر ملايين من الغالونات على مستوى دولة صغيرة يومياً، "أما على مستوى عالم عربي أو إسلامي تعداده ألف مليون شخص وعلى مدى عام كامل مؤلف من 360 يوماً فهذا يعني ان الرقم نستحي من ذكره ".(/1)
كما أشارت دراسة أخرى إلى أن " غسالات الملابس تستهلك 30-35 جالون (114-133 لتر ) ماء عند كل تشغيل بينما تستهلك غسالات الصحون 25 جالونا (35 لتر ) في كل تشغيل ، ويأتي الاستحمام في المرتبة الثالثة من حيث استهلاك المياه نظرا لأن معظمنا يحب استخدام المياه الساخنة عند الاستحمام كما أنه يأتي في المرتبة الثانية من حيث ارتفاع استهلاك الكهرباء في المنزل " .
ومن الأمور الملفتة للإهتمام حدوت كثير من هذه التصرفات الاستهلاكية في أوساط إسلامية حيث يستخدم الإسلام كحجة للإسراف، مثل اهدار المياه على تنظيف البيت، تحت حجة أن الإسلام يحث على النظافة والطهارة ، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الإسراف في استخدام المياه حتى أثناء الوضوء ، فقال لسعد: " لا تسرف وإن كنت على نهر جار ..." .
2- دور المسلم في تطبيق منهج الله في الوسطية وعدم الإسراف، قال سبحانه: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس "، وليس ثمة شك أن دعوة الإسلام إلى الاعتدال ونبذ الإسراف التي أعلنها الله عز وجل منذ أربعة عشر قرنا "بدأت تدركها مؤخرا المجتمعات غير الإسلامية فى الشرق والغرب، حيث بدأوا ينادون بالاستخدام العاقل أو الراشد المعتدل sound utilization ، ونبذ الاستخدام الجائر أو المفرط ( الإسراف ) over - utilization بعد أن بدأ الإسراف فى استخدام موارد البيئة يهدد البشرية بأخطار كثيرة فمثلاً أدى الإسراف فى قطع الأشجار والنباتات إلى بروز مخاطر كثيرة مثل: " جرف التربة، الفيضانات العنيفة، تدهور الدورة المائية ونظم المطر، انتشار التصحر، الاختلال فى دورة الأكسجين، ثاني أكسيد الكربون وغيرها كما يؤدي الإسراف فى استخدام المياه إلى مشاكل عديدة مثل تملح التربة وتغدقها، سرعة نضوب موارد المياه الجوفية، نقص موارد المياه وغيرها " .
هذا وتبدو الحاجة إلى التوسط على المستوى الفردي نتيجة سوء الإدارة والهدر في الأموال والأرزاق التي تبدو على تصرفات كثير من المسلمين، فعلى عكس الإنسان الغربي الذي يشتري الفاكهة بالقطعة، يعرف المسلم بكرمه وسخائه داخل أسرته، لذا لا يكتفي الرجل بشراء كيلو واحد من طعام معين، ولا يرضى بشراء نوع واحد من الفاكهة، كما لا تطبخ المرأة نوعاً واحداً من الطعام، ولا تقبل بشراء ثوب واحد في السنة، والنتيجة ماذا ؟ طعام يرمى في سلة النفايات ، وأثواب تلبس سنة واحدة ثم تنتهي موضتها فتزين الخزائن بدل أن تزين الأجساد ...
فإلى متى سيبقى المسلمون عاجزون عن تحديد الكميات المشتراة من الأغذية حسب حاجة الأفراد والأسرة الضرورية والفعلية؟ وإلى متى سيبقون عاجزون عن إدراك ان "الزيادة عن الحاجة قد تتلف أثناء التخزين الطويل وتقل قيمتها الغذائية وبالتالي تسبب خسائر مادية " ؟
3- دور المسلم في تربية نفسه، ذلك أنه إضافة إلى كره الله عز وجل للمسرفين فإن من نتائج الاسراف، خاصة في الطعام والشراب، إماته القلوب، قال صلى الله عليه وسلم :" لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء" ، وورد فِي الحكمة : " أن البطنة تذهب الفطنة "، وقال أحد الصالحين: "إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة " .
وإذا كانت هذه الحاجة إلى ترشيد الاستهلاك ضرورية في كل حين، فهي أشد ضرورة في أيامنا هذه، خاصة في هذه المرحلة التارخية الهامة التي تمر بها الأمة الأسلامية والتي تحتاج من المسلم أن يستعد للجهاد في أية لحظة، والمسلم إذا لم ينجح في جهاد نفسه وشهواتها ويتغلب عليها، فهو سيعجز عن تحمل جهاد الأعداء، من هنا أهمية التربية على ترشيد الاستهلاك بالنسبة لكل مسلم، ذلك أن الدنيا هي كل يوم على حال، وعلى المؤمن أن يستعد في أوقات الرخاء على مواجهة أوقات البلاء، قال سيدنا عمر رضي الله عنه : " اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم وإن عِبَادَ اللهِ ليسوا بالمتنعمين" ، وقال ابن خلدون في مقدمته : " فالهالكون في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعتاد السابق لا الجوع الحادث اللاحق ".
أما بالنسبة للقياديين الجهاديين فإن جهادهم للنفس أشد حاجة، ذلك لأن "صناعة التاريخ تحتاج إلى رجال قياديين خرجوا من أنفسهم تماماً، ونسوا حظوظهم تماماً، وتجاهلوا مصالحهم تماماً ، وبالتالي لديهم المقدرة على ألا يأخذوا مما يجري إليه الناس سوى ضروراتهم فقط وضرورات أبنائهم وزوجاتهم " .(/2)
أخيراً نختم بدور المسلم في النهوض بمجتمعه وتحويله من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع منتج ،ذلك أن الزيادة الكبيرة في استهلاك الأفراد، يؤدي إلى إنفاق كل الدخل الفردي والقومي لتمويل شراء السلع الإستهلاكية، والتي في معظمها قد لا تكون من السلع الضرورية، ففي دراسة ميدانية شخصية لكشوف ما تشتريه بعض العائلات قام بها عادل حسون عام 1988م. ونشرت في مجلة البلاغ وجد " أن الكماليات هي ثلثا الضروريات، ووجد أن العربة التي تملأها ربة البيت من الجمعية غالبها كماليات للأطفال وغالبها أمور يمكن الاستغناء عنها " .(/3)
هل نستفيد من التجربة الإيرانية؟
كان من خاتمة أحداث القرن الهجري الماضي قيام الثورة الإيرانية ونجاحها في إقامة دولة باسم الإسلام وتسعى إلى تطبيقه، وكان لهذا الحدث صيته وأثره على مستوى العالم أجمع.
ومما لاشك فيه أننا نختلف تماماً مع النموذج والتجربة الإيرانية، ونرى أن الرافضة لايمكن أن يمثلوا الإسلام أو يقيموا دولة تتحدث باسمه، وتاريخ الإسلام مليء بالصفحات السوداء التي سطرها هؤلاء في الخيانة والتعاون مع أعداء الإسلام، ونرى أيضاً أن مايتحدث عنه الرافضة في إطار تصدير الثورة أو نشر الإسلام إنما هو مصطلح جديد لنشر عقيدة الرفض والطعن في عقيدة الإسلام.
ولكن مع براءتنا من الرافضة وبغضنا لهم واقتناعنا بعدم إمكان الالتقاء معهم في منتصف الطريق فما مدى استفادتنا من دراسة تجربتهم؟
لقد رسم هؤلاء برنامجاً ضخماً في الدعوة لنشر مذهبهم وطريقتهم، واستطاعوا الوصول إلى ميادين جديدة ومناطق شتى فما السر وراء نجاحهم في ذلك؟
وواجهوا تحدياً جديداً في صياغة المناهج التربوية والتعليمية، فهل بقي هؤلاء على الإرث العلماني السابق؟ أم استطاعوا رسم خطوات عملية لمنهج تربوي تعليمي جديد؟ وما الصعوبات والعقبات التي واجهتهم في ذلك؟ وكيف تعاملوا معها؟
وكيف صاغوا مؤسسات وبرامج إعلام مابعد الثورة؟ وكيف سدوا الفراغ الهائل بعد النظام البائد؟
ومؤسسات الدولة كيف بنيت؟ وكيف تمت أسلمتها وتحويلها إلى مؤسسات تدعم الفكر والتوجه الرافضي؟
ولماذا نرى سفراء تلك الدولة ومؤسساتها الإعلامية -ظاهرياً على الأقل- واجهة تمثل المذهب ونساءهم يتميزن عن بقية المسلمين الدبلوماسيين بالعناية بالحجاب والالتزام به؟
وكيف استطاع هؤلاء بناء المجتمع الحديث على أسس جديدة وقد ورثوا مجتمعاً مليئاً بالتفسخ والانحلال والبعد عن أخلاق الإسلام وشرائعه؟
وكيف استطاع هؤلاء صياغة خطاب يقوم على أساس ديني ليخاطب المرأة المعاصرة والشاب والفتاة في وسط الزخم الإعلامي المادي؟
وكيف تعاملوا مع النظام الاقتصادي القائم في مؤسسات الدولة، وقطاعات المجتمع الاقتصادية الخاصة؟ وهل نجحوا في تخليصها من الربا والفساد والمعاملات المحرمة -في مذهبهم على الأقل-؟
وهل نجح هؤلاء في الحد من الظواهر المخالفة للشرع بإيجاد نظام للحسبة أم لا؟
والأمر باختصار أن هؤلاء ورثوا تركة المجتمع العلماني الفاسد ومؤسساته وصبغوه بالصبغة الدينية، فهل لذلك رصيد؟ أم أنه مجرد طلاء خارجي؟ وما الصعوبات والعقبات التي واجهتهم؟ وما مظاهر الفشل لديهم؟
إننا نفتقر لمعلومات كثيرة عن هذه التجربة ودراستها -أياً كان موقعها من النجاح والفشل- أمر كفيل بأن يختصر لنا خطوات كثيرة.
ولن ننجح في الاستفادة من هذه التجربة إلا إذا استطعنا إلغاء الربط بين دراسة تجربتهم والاستفادة من درسهم وبين الرفض لبدعتهم وإنكارها والبراءة منها.
لقد أمرنا القرآن الكريم بأن نأخذ الدرس من سير الكافرين ونعتبر بما هم عليه ومايبذلون من جهد ((ولاتهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون)).
وقال معاذ -رضي الله عنه- :"فخذ العلم أنى جاءك فإن على الحق نوراً"([1]).
وقال شيخ الإسلام:"فلايجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني -فضلاً عن الرافضي- قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لانرد إلا مافيه من الباطل دون مافيه من الحق"([2]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) رواه الحاكم في المستدرك 4/513
([2]) منهاج السنة 2/342(/1)
هل هذا التزوير مشروع؟!
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/مسائل متفرقة
التاريخ ... 22/11/1425هـ
السؤال
لسلام عليكم.
كنت أعمل في المملكة، وعند خروجي منها أنهيت كافة التزاماتي التعاقدية، وحسب العقد قدمت استقالتي قبل شهر من نهاية العقد وقُبلت استقالتي، وحصلت على تأشيرة خروج نهائي، ولكي أتمكن من العودة إلى المملكة مع شركة أخرى أحتاج خطاب إخلاء طرف من الشركة الأولى تخلي طرفي من أي مسئولية مالية، وتبيح لي العودة للعمل في شركة أخرى، لكن الشركة الأولى رفضت إعطائي إخلاء طرف، وبدون أي وجه حق، فقد كنت موظفًا مثاليًّا عندهم، والشركة كانت قد قدمت لي عقد عمل بلغتين عربي وإنجليزي، لكن كان هناك اختلافًا بين اللغتين، زوجتي غضبت من فعل الشركة وقررت تزوير خطاب إخلاء طرف، ونجحت في ذلك، وتم تصديق الخطاب بصورة رسمية، لكن في نفسي شيء من استخدام هذا الخطاب، وإذا لم أستخدمه أخسر عملًا ممتازًا جديدًا معروضًا علي، ثم يجب علي البقاء سنتين قبل التمكن من الحضور إلى السعودية للعمل. أرجو توضيحًا منكم في ما إذا كان يجوز لي استخدام هذا الخطاب.
الجواب
لحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا يجوز لك استخدام خطاب إخلاء الطرف المزوَّر، ولا يجوز اكتساب الرزق بطريقه؛ لأنه باطل، وما بني على الباطل فهو باطل، ويتعين على زوجتك أن تتوب إلى الله ولا تعود مرة أخرى. وتحرُّجك من استخدام هذا الخطاب علامة على صدق إيمانك- إن شاء الله؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ". أخرجه مسلم (2553). ولقوله: " الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ". أخرجه أحمد (18006). وعليك أن تقاضي الشركة عند الجهة المختصة عن هضم حقوقك، والخلاف بين اللغتين العربية والإنجليزية، واصبر يا أخي، واحتسب، وجاء في الأثر: مَن ترَك شيئًا للهِ عوَّضه اللهُ خيرًا مِنه. والله أعلم.(/1)
هل هذا الكلام فيه ما يخالف معتقد أهل السنة والجماعة
عبد اللَّه بن محمد زقيل
- أولا: قوله: فإن الصحابة رضوان الله عليهم يتبركون بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد مماته، ولا زال المسلمون بعدهم إلى يومنا هذا على ذلك. ا. هـ.
نعم، كان الصحابة رضي الله يتبركون بآثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد مماته، وهذا الأمر مستمر إذا ثبت أنها بقيت إلى يومنا هذا.
وقد بين الدكتور ناصر الجديع في " التبرك. أنواعه وأحكامه " (ص 256-260) إستحالة ثبوت نسبة ما يوجد الآن من هذه الآثار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل فقدان الكثير من آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - على مدى القرون والأيام بسبب الضياع، أو الحروب والفتن.
وما تدعيه بعض الدول من وجود شعرات النبي - صلى الله عليه وسلم -، والعناية بها، ووضعها في صناديق أو قوارير وتُلف بقطع من الحرير، ويحتفل بإخراجها مرة واحدة في العام فيحتاج إلى إثبات ذلك، وهذا أمر مستبعد جدا.
قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله - في " التوسل " (ص 146): ونحن نعلم أن آثاره - صلى الله عليه وسلم - من ثياب، أو شعر، أو فضلات، قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين. ا. هـ.
- ثانيا: قوله: وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قسّم شعره حين حلق في حجّة الوداع وأظفاره. ا. هـ.
أما الشعر فثابت، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى مِنًى ، فَأَتَى الْجَمْرَةَ ، فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى ، وَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ خُذْ وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ.
وفي رواية: قَالَ فَبَدَأَ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ فَوَزَّعَهُ الشَّعَرَةَ وَالشَّعَرَتَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ قَالَ بِالْأَيْسَرِ فَصَنَعَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: هَا هُنَا أَبُو طَلْحَةَ فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ . رواه مسلم.
أما الأظفار سنأتي عليه.
- ثالثا: قوله: فكانوا يتبركون به في حياته وبعد وفاته. ا. هـ.
هذا ثابت أيضا، عَنْ عِيسَى بْنُ طَهْمَانَ قَالَ : أَخْرَجَ إِلَيْنَا أَنَسٌ نَعْلَيْنِ جَرْدَاوَيْنِ لَهُمَا قِبَالَانِ فَحَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ بَعْدُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُمَا نَعْلَا النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - . رواه البخاري.
وغير ذلك من النصوص، بل كان بعض التابعين يتبركون بآثار النبي - صلى الله عليه وسلم -.
عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبِيدَةَ : عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ أَنَسٍ فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. رواه البخاري.
ولسنا هنا في مقام تتبع جميع الأخبار، وإنما نكتفي بالمثال فقط.
- رابعا: قوله: وهذا خالد بن الوليد - رضي الله عنه - كانت له قلنسوة وضع في طيّها شعرًا من ناصية رسول الله أي مقدّم رأسه لما حلق في عمرة الجعرانة، وهي أرض بعد مكة إلى جهة الطائف، فكان يلبسها يتبرك بها في غزواته. روى ذلك الحافظ ابن حجر في المطالب العالية عن خالد بن الوليد أنه قال: ”اعتمرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة اعتمرها فحلق شعره، فسبقت إلى الناصية، فاتخذت قلنسوة فجعلتها في مقدمة القلنسوة، فما وجهت في وجهة إلا فتح لي“ ا. هـ. وعزاه الحافظ لأبي يعلى. ا. هـ.
هذا خبرٌ لا يثبت ُ.
رواه الحاكم (3/299) وصححه، وتعقبه الذهبي بقوله: " منقطع " أي بين جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع وبين خالد بن الوليد، جعفر لم يدرك خالد بن الوليد - رضي الله عنه -.
ورواه الطبراني في " الكبير " (4/104 رقم 3804)، وقال الهيثمي في " المجمع " (9/349): رواه الطبراني بنحوه وأبو يعلى، ورجالهما رجال الصحيح، وجعفر سمع من جماعة من الصحابة فلا أدري سمع من خالد أم لا؟.ا.هـ.
والعجيب أن محقق " سير أعلام النبلاء " (1/375) لم ينقل إعلال الذهبي للحديث عندما خرجه في الحاشية، على الرغم من عزوه للحاكم، وإنما اكتفى بالنقل عن البوصيري بقوله: رواه أبو يعلى بسند صحيح.(/1)
وقال الشيخ سعد آل حميد في تحقيقه لـ " مختصر المستدرك " لا بن الملقن (4/ 1954): الحديث سكت عنه الحاكم، وأعله الذهبي بالانقطاع لأن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع بن سنان الأنصاري لم يسمع من خالد بن الوليد - كما يظهر من ترجمته في التهذيب (2/99 رقم 147) - فخالد بن الوليد - رضي الله عنه - توفي في خلافة عمر - رضي الله عنه - كما في ترجمته في الإصابة (2/256)، أما جعفر فلا يروي إلا عن المتأخرين من الصحابة أمثال أنس - رضي الله عنه - وصغار الصحابة أمثال محمود بن لبيد، ولذا حكم الذهبي على روايته بالانقطاع، وهو عمدة في معرفة تواريخ الرواة، ولم أجد له مخالفا. ا. هـ.
- خامسا: قوله: وأما الأظفار فأخرج الإمام أحمد في مسنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلّم أظفاره وقسّمها بين الناس. ا. هـ.
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمَنْحَرِ ، وَرَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ ، وَهُوَ يَقْسِمُ أَضَاحِيَّ فَلَمْ يُصِبْهُ مِنْهَا شَيْءٌ وَلَا صَاحِبَهُ فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ فَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى رِجَالٍ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ فَأَعْطَاهُ صَاحِبَهُ قَالَ: فَإِنَّهُ لَعِنْدَنَا مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ . يَعْنِي شَعْرَهُ.
رواه أحمد (4/42)، وابن خزيمة (2931، 2932) وقال ابن خزيمة: لم يقل أحد أن أباه حدثه غير عبد الصمد.
ولا يصح لعبد الله بن زيد إلا حديث الأذان فقط كما قرر ذلك الإمام الترمذ في " الجامع " (189) فقال: وَلاَ نَعْرِفُ لَهُ عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئاً يَصِحُّ إِلاَّ هَذَا الحَديثَ الوَاحِدَ في الأَذَانِ. ا. هـ.
وكذلك ابن عدي كما نقل الحافظ ابن حجر في " الإصابة " (4/72) فقال: وقال ابن عدي: ولا نعرف له شيئا يصح غيره. ا. هـ.
ونقل الحافظ أيضا في " التلخيص الحبير " (1/198) أنه قول البخاري أيضا.
والحافظ تعقب الترمذي فقال: وفيه نظر، فإن له عند النسائي وغيره حديثا غير هذا في الصدقة وعند أحمد آخر في قسمة النبي - صلى الله عليه وسلم - شعره وأظفاره، وإعطائه لمن لم تحصل له أضحية. ا. هـ.
وقال الحافظ في " الإصابة " (4/72): قال الترمذي: لا نعرف له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا يصح إلا هذا الحديث الواحد.
وقال بن عدي لا نعرف له شيئا يصح غيره.
وأطلق غير واحد أنه ليس له غيره، وهو خطأ فقد جاءت عنه عدة أحاديث ستة أو سبعة جمعتها في جزء مفرد.
وجزم البغوي بأن ما له غير حديث الأذان، وحديثه عند الترمذي من رواية ابنه محمد بن عبدالله، وصححه، وفي النسائي له حديث أنه تصدق على أبويه ثم توضأ.
وقد أخرج البخاري في التاريخ من طريق يحيى بن أبي كثير إن أبا سلمة حدثه أن محمد بن عبدالله بن زيد حدثه أن أباه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عند المنحر وقد قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - الضحايا فأعطاه من شعره الحديث. ا. هـ.
والذي يظهر أن كلام الأئمة البخاري، والترمذي، وابن عدي، والبغوي، مقدم على كلام الحافظ ابن حجر.
- سادساً: قوله: وعن حنظلة بن حُذَيم قال: وفدْت مع جدّي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن لي بنين ذوي لحى وغيرهم هذا أصغرهم، فأدناني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسح رأسي وقال: ”بارك الله فيك“، قال الذّيّال: فلقد رأيت حنظلة يؤتى بالرجل الوارم وجْهُه أو الشاة الوارم ضرعها فيقول: ”بسم الله على موضع كف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمسحه فيذهب الورم“ رواه الطبراني في الأوسط والكبير وأحمد في المسند، وقال الحافظ الهيثمي: ”ورجال أحمد ثقات“. ا. هـ.
الحديث أخرجه أحمد (5/67-68) بأطول مما ذُكر:(/2)
عَنْ ذَيَّالُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ سَمِعْتُ حَنْظَلَةَ بَنَ حِذْيَمٍ جَدِّي: أَنَّ جَدَّهُ حَنِيفَةَ قَالَ لِحِذْيَمٍ : اجْمَعْ لِي بَنِيَّ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُوصِيَ فَجَمَعَهُمْ فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا أُوصِي أَنَّ لِيَتِيمِي هَذَا الَّذِي فِي حِجْرِي مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ الَّتِي كُنَّا نُسَمِّيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ " الْمُطَيَّبَةَ " فَقَالَ حِذْيَمٌ: يَا أَبَتْ إِنِّي سَمِعْتُ بَنِيكَ يَقُولُونَ إِنَّمَا نُقِرُّ بِهَذَا عِنْدَ أَبِينَا فَإِذَا مَاتَ رَجَعْنَا فِيهِ قَالَ: فَبَيْنِي وَبَيْنَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ حِذْيَمٌ : رَضِينَا، فَارْتَفَعَ حِذْيَمٌ وَحَنِيفَةُ وحَنْظَلَةُ مَعَهُمْ غُلَامٌ وَهُوَ رَدِيفٌ لِحِذْيَمٍ ، فَلَمَّا أَتَوْا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَلَّمُوا عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : وَمَا رَفَعَكَ يَا أَبَا حِذْيَمٍ ؟ قَالَ: هَذَا، وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى فَخِذِ حِذْيَمٍ ، فَقَالَ: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَفْجَأَنِي الْكِبَرُ أَوْ الْمَوْتُ فَأَرَدْتُ أَنْ أُوصِيَ وَإِنِّي قُلْتُ: إِنَّ أَوَّلَ مَا أُوصِي أَنَّ لِيَتِيمِي هَذَا الَّذِي فِي حِجْرِي مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ كُنَّا نُسَمِّيهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ " الْمُطَيَّبَةَ "، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى رَأَيْنَا الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ وَكَانَ قَاعِدًا فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ: لَا، لَا، لَا، الصَّدَقَةُ خَمْسٌ، وَإِلَّا فَعَشْرٌ، وَإِلَّا فَخَمْسَ عَشْرَةَ، وَإِلَّا فَعِشْرُونَ، وَإِلَّا فَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ، وَإِلَّا فَثَلَاثُونَ، وَإِلَّا فَخَمْسٌ وَثَلَاثُونَ، فَإِنْ كَثُرَتْ فَأَرْبَعُونَ، قَالَ: فَوَدَعُوهُ وَمَعَ الْيَتِيمِ عَصًا وَهُوَ يَضْرِبُ جَمَلًا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : عَظُمَتْ هَذِهِ هِرَاوَةُ يَتِيمٍ، قَالَ حَنْظَلَةُ : فَدَنَا بِي إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إِنَّ لِي بَنِينَ ذَوِي لِحًى وَدُونَ ذَلِكَ وَإِنَّ ذَا أَصْغَرُهُمْ، فَادْعُ اللَّهَ لَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، أَوْ بُورِكَ فِيهِ .
قَالَ ذَيَّالٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ حَنْظَلَةَ يُؤْتَى بِالْإِنْسَانِ الْوَارِمِ وَجْهُهُ أَوْ الْبَهِيمَةِ الْوَارِمَةِ الضَّرْعُ فَيَتْفُلُ عَلَى يَدَيْهِ وَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُولُ عَلَى مَوْضِعِ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَيَمْسَحُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ ذَيَّالٌ : فَيَذْهَبُ الْوَرَمُ.
وأخرجه الطبراني في " الأوسط " (6/412 رقم 3911، مجمع البحرين) مختصرا، وقال الطبراني عقبه: لا يروى عن حنظلة إلا بهذا الإسناد، تفرد به أبو سعيد.
وأبو سعيد هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد البصري مولى بني هاشم، وهو شيخ الإمام أحمد في السند.
وقد تابع أبا سعيد مولى بني هاشم محمد بن عثمان القرشي عند الطبراني في " الكبير " (4/13)، وقد ضعفه الأزدي، وقال الدارقطني: مجهول.
- سابعا: قوله: وعن ثابت قال: كنت إذا أتيت أنَسًا يُخْبَرُ بمكاني فأدخل عليه فآخذ بيديه فأقبّلهما وأقول: بأبي هاتان اليدان اللتان مسّتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقبّل عينيه وأقول: بأبي هاتان العينان اللتان رأتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه أبو يعلى. ا. هـ.
أخرجه أبو يعلى (6/211 رقم 3491). وقال المحقق حسين سليم أسد: إسناده ضعيف، عبد الله بن أبي بكر المقدمي قال ابن عدي: " ضعيف "، وقال الذهبي في " الميزان ": وكان أبو يعلى كلما ذكره ضعفه، وقال في " المغني ": ضعفوه.
- ثامنا:
قوله: روى ذلك الإمام أحمد عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان (بن الحكم) يومًا فوجد رجلاً واضعًا وجهه على القبر فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه أبو أيوب فقال: نعم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم آت الحجر، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا تبكوا على الإسلام إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله ". رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط
أخرجه أحمد (5/422)، والحاكم (4/515).
وضعفه العلامة الألباني - رحمه الله - في الضعيفة (373)، وقال بعد تخريج الحديث:
وقد شاع عند المتأخرين الاستدلال بهذا الحديث على جواز التمسح بالقبر لوضع أبي أيوب وجهه على القبر، وهذا مع أنه ليس صريحاً في الدلالة على أن تمسحه كان للتبرك كما يفعل الجهال فالسند إليه بذلك ضعيف كما علمت فلا حجة فيه، وقد أنكر المحققون العلماء كالنووي وغيره التمسح بالقبور وقالوا: إنه من عمل النصارى وقد ذكرت بعض النقول في ذلك في " تحذير الساجد عن اتخاذ القبور مساجد ". ا. هـ.(/3)
هذه هي المآخذ على الكلام المنقول، وهناك قضايا أخرى تتعلق بالتبرك بالصالحين، وقد بينها كتاب " التبرك " للدكتور ناصر الجديع الآنف الذكر، فليرجع إليه. ومن كان لديه تعقيب أو تعليق فجزاه الله خيرا.
في ذي القعدة 1423 هـ
http://saaid.net المصدر:(/4)
هل هذا عذر لحلق اللحية؟!
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ اللباس والزينة/الزينة المباحة والمحرمة
التاريخ ... 18/05/1426هـ
السؤال
أنا أطيل لحيتي، لكنها تنمو بصورة غير كاملة، فلا يوجد شيء منها على الخدين، وهناك شعرات هنا وهناك بصورة غير منتظمة على جانِبَيْ الوجه. لكن من ناحية الشارب والذقن فتنمو اللحية بصفة عادية.
أنا أحبّ اتباع السنة وإطالة لحيتي، لكن مظهري يبدو غير لائق الآن أمام الناس.
فهل يجوز لي حلق لحيتي بسبب التشوُّه الحاصل، وإن لم يحلّ لي ذلك، فماذا يجوز لي أن أفعل لتحسين المنظر؟.
الجواب
لا يجوز لك حلق اللحية بدعوى أن مظهرها غير لائق أمام الناس، فإعفاؤها واجب؛ لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-" جزوا الشوارب وأرخوا اللحى "، أخرجه مسلم (260)، وجاء الحديث بروايات وألفاظ عدّة، كقوله: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى" أخرجه مسلم (259)، "وفروا" أخرجه البخاري (5892)، "أعفوا" أخرجه البخاري (5893)، ومسلم (259)، "خالفوا المشركين" أخرجه البخاري (5892)، ومسلم (259)".
وهذه التأكيدات تحرِّم الحلق ولا شك.
ثم إن خلق الله ليس فيه تشويه، بل فيه كمال الجمال والحسن، وخفَّة الشعر وقلَّته تزينه عند الناس. والله أعلم.(/1)
هل هذه السمسرة جائزة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الوكالة
التاريخ ... 8/6/1425هـ
السؤال
هناك كمية حديد لدى شخص، ولديه وكيل، وأنا أتعامل مع الوكيل، حيث أتيت بمشترٍ لهذا الحديد، وثمن الحديد خمسون مليون ريال، فالوكيل طلب شيكاً لصاحب الحديد بـ 25 مليون ريال، وله عشرة ملايين، وللسعاة الذين عددهم يتراوح بين 15 إلى عشرين شخصاً 15 مليوناً، وأنا أعتبر واحداً من هؤلاء السعاة، فهل أخذي ثمن سعيي في هذا الأمر جائز، أم علي إثم؟ أم الإثم كله يقع على الوكيل؟ وللمعلومية لا أستطيع التعامل مباشرة مع صاحب الحديد، بل يمكنني التعامل مع الوكيل فقط. أفتونا؛ مأجورين وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد:
إذا كان صاحب الحديد قد فوَّض وكيله بأن يبيع الحديد بمبلغ محدد، وما زاد فهو له فباعه الوكيل فالزيادة للوكيل جائزة حسب الشرط بينهما؛ لحديث: "المسلمون على شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً" رواه الترمذي(1352)، وابن ماجة(2353) من حديث عمرو بن عوف المزني –رضي الله عنه-، وإذا جاز للوكيل جاز للسماسرة الذين جلبوا له المشتري، أما إذا كان المالك للحديد لم يعط لوكيله ما زاد عن السعر الذي حدده له فباعه الوكيل بأكثر مما حدده له فلا يجوز له حينئذ أخذ هذه الزيادة، وإذا لم تجز للوكيل فلا تجوز للسماسرة من باب أولى؛ لتواطؤهم مع الوكيل على شرط أحل حراماً، وهو أكل مال الغير (المالك) بالباطل، وما بني على الباطل فهو باطل، والله يقول: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون"[البقرة: 188]، وفي الحديث: "لا يربو لحمٌ نبت من سحت إلا كانت النار أولى به" رواه الترمذي(614)، وغيره من حديث كعب بن عجرة-رضي الله عنه-، فلا يجوز لك أخذ مبلغ مليون ريال لعملك سمساراً للوكيل؛ لأنه إعانة على الإثم والعدوان؛ والله يقول: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب"[المائدة: 2]، والرسول – صلى الله عليه وسلم- يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" رواه الترمذي(2518)، والنسائي(5711) من حديث الحسن بن علي-رضي الله عنهما-، وقال صلى الله عليه وسلم: "والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس" رواه مسلم(2553) من حديث النواس بن سمعان-رضي الله عنه-، ولا أظن الأمر عندك إلا كذلك. والله أعلم.(/1)
هل وجه المرأة ليس بعورة هو قول الجمهور ؟
د. وليد بن عثمان الرشودي 11/3/1426
20/04/2005
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد:
لا يخفى على كل مسلم -درس شيئا من الكتاب والسنة- ما يطرأ على هذه الأمة زمن الفتن، ومن ذلك الخوض في المسائل الشرعية بلا حجة علمية ولا أمانة دينية، مصداقاً للحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
وإنه في زماننا تعدى الأمر ذلك، فأصبح العلم -أعني الشرعي- كلأً مباحاً لكل مدعٍ للكتابة، محسن لصف العبارة، غير مبال بالمراقبة الإلهية، ولا النصرة للسنة النبوية، من كتبة زادهم التصفح والنقل المبتور والادعاء المثبور، روَّجت لكتاباتهم صحافة الباطل التي تنصر المنكر وتخذل المعروف، فالله طليبهم وهو حسيبهم، ولن نحزن؛ فالله يقول: ( بلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ )
أما ما يتعلَّق بعنواني، وهو: هل وجه المرأة ليس بعورة هو قول الجمهور ؟ فالذي دعاني أليه هو ما كثر اللغط حوله في تلك الصحافة السيارة، والمنتديات العامة، والقنوات الفضائية من أناس تصدَّروا فيها، فأعلنوا عقيرتهم ورددوا أن وجه المرأة ليس بعورة هو قول الجمهور، فأثَّر ذلك في نفسي، ودعاني للبحث المتجرد والبعيد عن التعصب لأي من الفريقين، لا سيما من يعرفني يعرف قدر العلم الشامخ والإمام الفذ محمد ناصر الدين الألباني في قلبي، ومكانته العلمية والعملية والدعوية عندي -رحمه الله رحمة واسعة- وهو الذي استفدنا منه أن الحق أحب ألينا من الرجال، وذكره هنا لأن كل من خاض في هذه المسألة تعلَّق بكلام الشيخ -رحمه الله- ثم بعد ذلك يزيد من عنده ما شاء أن يزيد وهنا أذكر أن جمعي يدور حول قول الجمهور في المسألة ،وأي النسبتين أولى أن تنسب له، فلك -أيها القارئ- الاطلاع الآن على أقوال أهل العلم، لتحكم بعد ذلك أيه قول الجمهور:
أولاً: قول أئمتنا من الأحناف رحمهم الله تعالى:
يرى فقهاء الحنفية –رحمهم الله- أنَّ المرأة لا يجوز لها كشف وجهها أمام الرجال الأجانب، لا لكونه عورة، بل لأنَّ الكشف مظنة الفتنة، وبعضهم يراه عورة مطلقاً، لذلك ذكروا أنَّ المسلمين متفقون على منع النِّساء من الخروج سافرات عن وجوههنَّ، وفيما يلي بعض نصوصهم في ذلك:
قال أبو بكر الجصاص، رحمه الله: المرأة الشابَّة مأمورة بستر وجهها من الأجنبي، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الرِّيب فيها (أحكام القرآن 3/458 )، وقال شمس الأئمة السرخسي، رحمه الله: حرمة النَّظر لخوف الفتنة، وخوف الفتنة في النَّظر إلى وجهها، وعامة محاسنها في وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء (المبسوط 10/152)، وقال علاء الدين الحنفيُّ، رحمه الله: وتُمنع المرأة الشابَّة من كشف الوجه بين الرجال.
قال ابن عابدين، رحمه الله: المعنى: تُمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع الفتنة، لأنَّه مع الكشف قد يقع النَّظر إليها بشهوة.
وفسَّر الشهوة بقوله: أن يتحرك قلب الإنسان، ويميل بطبعه إلى اللَّذة. ونصَّ على أنَّ الزوج يعزر زوجته على كشف وجهها لغير محرم (حاشية ابن عابدين 3/261) وقال في كتاب الحجّ: وتستر وجهها عن الأجانب بإسدال شيءٍ متجافٍ لا يمسُّ الوجه، وحكى الإجماع عليه. (حاشية ابن عابدين 2/488).
ونقل عن علماء الحنفيّة وجوب ستر المرأة وجهها، وهي محرمة، إذا كانت بحضرة رجال أجانب (حاشية ابن عابدين 2/528)، وقال الطحطاويُّ، رحمه الله: تمنع المرأة الشابَّة من كشف الوجه بين رجال. (رد المحتار 1/272)، ونصَّ الإسبيجانيُّ والمرغينانيُّ والموصليُّ على أنَّ وجه المرأة داخل الصلاة ليس بعورة، وأنَّه عورة خارجها، ورجَّح في (شرح المنية ) أنَّ الوجه عورة مطلقاً.
وقال: أمَّا عند وجود الأجانب فالإرخاء واجب على المحرمة عند الإمكان
(حاشية إعلاء السنن للتهانوي 2/141).
ولمطالعة مزيد من أقول الفقهاء الحنفية يُنظر حاشية ابن عابدين (1/406-408)، والبحر الرائق لابن نجيم (1/284 و2/381)، وفيض الباري للكشميري (4/24و308).
وقال سماحة مفتي باكستان الشيخ محمَّد شفيع الحنفيُّ: وبالجملة فقد اتفقت مذاهب الفقهاء، وجمهور الأمَّة على أنَّه لا يجوز للنِّساء الشوابّ كشف الوجوه والأكفّ بين الأجانب، ويُستثنى منه العجائز؛ لقوله تعالى :[وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ ] (المرأة المسلمة ص 202).(/1)
وقال السهارنفوريُّ الحنفيُّ، رحمه الله: ويدلُّ على تقييد كشف الوجه بالحاجة: اتفاق المسلمين على منع النِّساء أن يخرجن سافرات الوجوه، لاسيما عند كثرة الفساد وظهوره (بذل المجهود شرح سنن أبي داود 16/431).
ثانيا: أقوال أئمتنا من المالكيّة:
يرى فقهاء المالكيّة أنَّ المرأة لا يجوز لها كشف وجهها أمام الرِّجال الأجانب، لا لكونه عورة، بل لأنَّ الكشف مظنَّة الفتنة، وبعضهم يراه عورة مطلقاً، لذلك فإنَّ النِّساء -في مذهبهم- ممنوعات من الخروج سافرات عن وجوههنَّ أمام الرجال الأجانب.
وفيما يلي بعض نصوصهم في ذلك:
قال القاضي أبو بكر بن العربيِّ، والقرطبيُّ رحمهما الله: المرأة كلُّها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عمَّا يعنّ ويعرض عندها. ( أحكام القرآن 3/1578)، والجامع لأحكام القرآن (14/277).
وقال الشيخ أبو عليٍّ المشداليُّ، رحمه الله: إنَّ من كانت له زوجة تخرج وتتصرف في حوائجها بادية الوجه والأطراف -كما جرت بذلك عادة البوادي- لا تجوز إمامته، ولا تقبل شهادته.
وسئل أحمد بن يحيى الونشريسيُّ -رحمه الله- عمن له زوجة تخرج بادية الوجه، وترعى، وتحضر الأعراس والولائم مع الرِّجال، والنِّساء يرقصن والرِّجال يكفون، هل يجرح من له زوجة تفعل هذا الفعل ؟
فأورد الفتوى السابقة، ثم قال: وقال أبو عبد الله الزواوي: إن كان قادراً على منعها ولم يفعل فما ذكر أبو عليٍّ ( المشداليّ ) صحيح.
وقال سيدي عبد الله بن محمد بن مرزوق: إن قدر على حجبها ممن يرى منها ما لا يحلّ ولم يفعل فهي جرحة في حقه، وإن لم يقدر على ذلك بوجه فلا. ومسألة هؤلاء القوم أخفض رتبة مما سألتم عنه، فإنَّه ليس فيها أزيد من خروجها وتصرفها بادية الوجه والأطراف، فإذا أفتوا فيها بجرحة الزوج، فجرحته في هذه المسؤول عنها أولى وأحرى، لضميمة ما ذُكر في السؤال من الشطح والرقص بين يدي الرجال الأجانب، ولا يخفى ما يُنْتِجُ الاختلاط في هذه المواطن الرذلة من المفاسد (المعيار المعرب للونشريسي 11/193).
وذكر الآبِّيُّ: أنَّ ابن مرزوق نصَّ على: أنَّ مشهور المذهب وجوب ستر الوجه والكفين إن خشيت فتنة من نظر أجنبي إليها (جواهر الإكليل 1/41). ولمطالعة مزيد من أقول الفقهاء المالكية في وجوب تغطية المرأة وجهها، يُنظر: المعيار المعرب للونشريسي (10/165و11/226 و229)، ومواهب الجليل للحطّاب (3/141)، والذّخيرة للقرافي (3/307)، والتسهيل لمبارك (3/932)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/55)، وكلام محمد الكافي التونسي كما في الصارم المشهور (ص 103)، وجواهر الإكليل للآبي (1/186).
ثالثًا: أقوال أئمتنا من الشافعيَّة:
يرى فقهاء الشافعية أنَّ المرأة لا يجوز لها كشف وجهها أمام الرِّجال الأجانب، سواء خُشيت الفتنة أم لا؛ لأنَّ الكشف مظنَّة الفتنة، وبعضهم يرى أنَّ الوجه عورة مطلقاً.
وفيما يلي بعض نصوصهم في ذلك:
قال إمام الحرمين الجوينيُّ، رحمه الله: اتفق المسلمون على منع النِّساء من الخروج سافرات الوجوه؛ لأنَّ النَّظر مظنَّة الفتنة، وهو محرك للشهوة، فاللائق بمحاسن الشرع سدُّ الباب فيه، والإعراض عن تفاصيل الأحوال، كالخلوة بالأجنبية.
(روضة الطالبين 7/24)، و بجيرمي على الخطيب (3/315).
ونقل ابن حجر -رحمه الله- عن الزياديّ، وأقرَّه عليه: أنَّ عورة المرأة أمام الأجنبي جميع بدنها، حتى الوجه والكفين على المعتمد.
وقال: قال صاحب النِّهاية: تَعَيَّنَ سترُ المرأة وجهها، وهي مُحْرِمَة، حيث كان طريقاً لدفع نظرٍ مُحَرَّم (تحفة المحتاج 2/112و4/165).
وقال ابن رسلان، رحمه الله: اتفق المسلمون على منع النِّساء أن يخرجن سافرات عن الوجوه، لاسيما عند كثرة الفسَّاق (عون المعبود 11/162).
وقال الشرقاويُّ، رحمه الله: وعورة الحرَّة خارج الصلاة بالنِّسبة لنظر الأجنبيِّ إليها فجميع بدنها حتَّى الوجه والكفين، ولو عند أمن الفتنة.
(حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 1/174).
وقال النَّوويُّ، رحمه الله: لا يجوز للمسلمة أن تكشف وجهها ونحوه من بدنها ليهوديَّة أو نصرانيَّة وغيرهما من الكافرات، إلاَّ أن تكون الكافرة مملوكة لها، هذا هو الصحيح في مذهب الشافعيِّ رضي الله عنه (الفتاوى ص 192).
وقال ابن حجر، رحمه الله: استمر العمل على جواز خروج النِّساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقبات؛ لئلا يراهنَّ الرِّجال.
وقال الغزَّاليُّ، رحمه الله: لم يزل الرجال على مرِّ الزمان مكشوفي الوجوه، والنِّساء يخرجن منتقبات (فتح الباري 9/337).
ولمطالعة مزيد من أقوال الفقهاء الشافعية، يُنظر إحياء علوم الدين (2/49)، وروضة الطالبين (7/24)، وحاشية الجمل على شرح المنهج (1/411)، وحاشية القليوبي على المنهاج (1/177)، وفتح العلام (2/178) للجرداني، وحاشية السقاف ( ص 297)، وشرح السنة للبغوي ( 7/240).(/2)
وقال الموزعيُّ الشافعيُّ، رحمه الله: لم يزل عمل النَّاس على هذا، قديماً وحديثاً، في جميع الأمصار والأقطار، فيتسامحون للعجوز في كشف وجهها، ولا يتسامحون للشابَّة، ويرونه عورة ومنكراً، وقد تبين لك وجه الجمع بين الآيتين، ووجه الغلط لمن أباح النَّظر إلى وجه المرأة لغير حاجة.
والسلف والأئمة كمالك والشافعيِّ وأبي حنيفة وغيرهم لم يتكلموا إلا في عورة الصلاة، فقال الشافعيُّ ومالك: ما عدا الوجه والكفين، وزاد أبو حنيفة:
القدمين، وما أظنُّ أحداً منهم يُبيح للشابَّة أن تكشف وجهها لغير حاجة، ولا يبيح للشابِّ أن ينظر إليها لغير حاجة (تيسير البيان لأحكام القرآن 2/1001).
رابعا: أقوال أئمتنا من الحنابلة:
يرى فقهاء الحنابلة أنَّ المرأة لا يجوز لها كشف وجهها أمام الرِّجال الأجانب، لكونه عورة مطلقاً.
وفيما يلي بعض نصوصهم في ذلك:
قال الإمام أحمد، رحمه الله: ظفر المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها فلا تُبِن منها شيئاً ولا خفها، فإنَّ الخفَّ يصف القدم، وأحبُّ إليَّ أن تجعل لكمها زراً عند يدها حتَّى لا يبن منها شيء (انظر الفروع 1/601).
وقال ابن تيميّة، رحمه الله: وقبل أن تنزل آية الحجاب كان النِّساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرِّجال وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تُظهر الوجه والكفين ... ثم لما أنزل الله -عز وجل- آية الحجاب بقوله: [يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ]حجب النِّساء عن الرِّجال.
وقال: وكشف النِّساء وجوههنَّ بحيث يراهنَّ الأجانب غير جائز، وعلى ولي الأمرِ الأمرُ بالمعروف والنهي عن هذا المنكر وغيره، ومن لم يرتدع فإنَّه يعاقب على ذلك بما يزجره.
وقال ابن القيِّم، رحمه الله: الشارع شرع للحرائر أن يسترن وجوههنَّ عن الأجانب، وأمَّا الإماء فلم يوجب عليهنَّ ذلك ...
والعورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النَّظر، فالحرَّة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع النَّاس كذلك.
خامسا: أقوال أئمتنا من المحققين:
قال الشوكاني رحمه الله في السيل الجرار (2/180) :"وأما تغطية وجه المرأة – يعني في الإحرام – فلما روي أن إحرام المرأة في وجهها ولكنه لم يثبت ذلك من وجه يصلح للاحتجاج به، وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث عائشة قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وآله سلم- محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزنا كشفناه "، وليس فيه ما يدل على أن الكشف لوجوههنَّ كان لأجل الإحرام، بل كنّ يكشفن وجوههن عند عدم وجوب من يجب سترها منه، ويسترنها عند وجود من يجب سترها منه.
قال العلامة بكر أبو زيد: معلوم أن العمل المتوارث المستمر من عصر الصحابة -رضي الله عنهم- فمن بعدهم حجة شرعية يجب اتباعها، وتلقيها بالقبول، وقد جرى الإجماع العملي بالعمل المستمر المتوارث بين نساء المؤمنين على لزومهن البيوت، فلا يخرجن إلا لضرورة أو حاجة، وعلى عدم خروجهن أمام الرجال إلا متحجبات غير سافرات الوجوه، ولا حاسرات عن شيء من الأبدان، ولا متبرجات بزينة، واتفق المسلمون على هذا العمل المتلاقي مع مقاصدهم في بناء صرح العفة والطهارة والاحتشام والحياء والغيرة، فمنعوا النساء من الخروج سافرات الوجوه، حاسرات عن شيء من أبدانهن أو زينتهن.
فهذان إجماعان متوارثان معلومان من صدر الإسلام، وعصور الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حكى ذلك جمع من الأئمة، منهم الحافظ ابن عبد البر، والإمام النووي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم رحمهم الله تعالى، واستمر العمل به إلى نحو منتصف القرن الرابع عشر الهجري، وقت انحلال الدولة الإسلامية إلى دول.
الأدلة من النظر:
• قال الشنقيطيُّ، رحمه الله: إنَّ المنصف يعلم أنَّه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنِّساء في الكشف عن الوجه أمام الرِّجال الأجانب، مع أنَّ الوجه هو أصل الجمال والنَّظر إليه من الشابَّة الجميلة هو أعظم مثير للغرائز البشريَّة، وداع إلى الفتنة، والوقوع فيما لا ينبغي. (أضواء البيان تفسير القرآن بالقرآن 6/602).
ويتَّضح مما سبق جلياً ظاهراً أن قول الجمهور هو القول بعورة وجه المرأة، بل حكى الإجماع على ذلك أئمة يعتمد نقلهم للإجماع وهم:
• ابن عبد البر من المالكية المغاربة.
• والنووي من الشافعية المشارقة .
• وابن تيمية من الحنابلة.
• وحكى الاتفاق السهارنفوري، والشيخ محمد شفيع الحنفي من الحنفية.
فهل يبقى بعد ذلك حجة لمدعٍ أن قول الجمهور خلاف ذلك ؟.
• تنبيهان مهمان:
• الأول: أنه لا يجوز إطلاق كلام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بجواز كشف الوجه دون تقييده بأن المستحب هو تغطية الوجه.(/3)
• ثانيًا: على كل باحث في هذه المسألة أن يتجرد في البحث، جاعلاً مراقبة الله نصب عينيه، ثم معرفة مفاتح العلم، فالبعض يلتقط أقوالاً من كتاب الصلاة، ولا يراجع كتاب الحج والنظر للمخطوبة، فيقع في الخلط والخطأ في نسبة الأقوال دون تحقيق وتمحيص.
وبعد فهذا ما تيسَّر جمعه نصرة لأئمتنا أن ينسب لهم ما لم يصح عنهم، وحماية لجناب المرجعية العلمية الأصيلة، وعدم الخلط والتشويه للعلم وأهله.
أسأل الله –تعالى- أن ينفع بما كتبت، وأن يجعله لوجهه خالصًا، ولسنة نبيه متبعاً، والحمد لله رب العالمين.
ملحوظة: اعتمدت كثيراً على الكتاب الماتع النافع الأدلة المطمئنة على أن الحجاب طهر وعز للمؤمنة، لفضيلة الشيخ أحمد بن عبد العزيز الحمدان حفظه الله تعالى.
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية المعلمين بالري(/4)
هل يجوز بناء مسجد في قطعة مجاورة لمقبرة كفار تجاه القبلة؟
الحمد لله وبعد:
أولاً: الأصل أن لا يجمع بين المسجد والقبر أو القبور، خاصة إذا كانت هذه القبور لمن يعتقد فيهم، وذلك للأدلة الآتية:
1. ما خرجه مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها".
2. وما خرجه الشيخان عن أبي هريرة يرفعه: "قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
3. ولما خرجه الشيخان عن ابن عباس وعائشة - رضي الله عنهما - قالا: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا.
قال النووي: (اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر، سواء كان الميت مشهوراً بالصلاح أو غيره لعموم الأحاديث، قال الشافعي والأصحاب: وتكره الصلاة إلى القبور سواء كان الميت صالحاً أو غيره).
ثانياً:
• إذا كان القبر سابقاً للمسجد فلا تصح الصلاة فيه أبداً إلا أن يزال القبر أو القبور.
• وإن كان المسجد سابقاً للقبر ينبش القبر ويحول، وإن لم يتمكن من ذلك نظر.
• فإن كان القبر إلى جهة القبلة لا تصح الصلاة فيه في أرجح قولي العلماء، وذهب مالك إلى جواز الصلاة فيه إن كان محاطاً بجدران.
• وإن كان لغير القبلة فأحيط بجدران جوَّز الصلاة فيه بعض أهل العلم، ومنع من ذلك بعضهم، منهم أحمد، هذا إن لم يكن هناك بديل، أما إذا كان هناك بديل لزم الذهاب إليه.
ثالثاً: أما ما يتعلق بالسؤال:
• إن كانت هناك إمكانية للحصول على قطعة أخرى أو استبدالها لزم ذلك إن لم يكن مرهقاً، فمن يتقي الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب.
• وإن لم تكن هناك إمكانية لإيجاد بديل غيرها، وكانت المقبرة مسورة، فُصل بينها وبين المسجد بفاصل، حبذا لو كان هذا الفاصل في شكل مثلث رأسه إلى جهة المسجد، هكذا:
ويمكن الاستفادة من ذلك في أي غرض من الأغراض، كما فعل بالحجرة النبوية - على صاحبها أفضل الصلاة والسلام - عندما أدخلت في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك، بعد موت الصحابة.
قال ابن القيم في نونيته:
فأجاب ربُّ العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاؤه بدعائه في عزة وحماية و صيان
وذلك لأن الضرورات تبيح المحظورات.
هذا بجانب أن مقابر الكفار لا يرجى التعلق بها.
والله أعلم، فإن أصبتُ فمن الله وله الحمد والمنة، وإن أخطأتُ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان مما قلت.
http://www.islamadvice.com المصدر:(/1)
فضيلة الشيخ سليمان بن ناصر العلوان حفظه الله
هل يختص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة ؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب : الصحيح من أقوال العلماء أن الاعتكاف يشرع في كل مسجد تقام فيه الجماعة ولا يختص بالمساجد الثلاثة .
وهذا مذهب أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين .
... قال الله تعالى { ولا تباشروهنَّ وأنت عاكفون في المساجد } ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء يقيد هذا العموم .
... وقد صح عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة مشروعية الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة .
... بينما ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى .
... وفي ذلك حديث رواه البيهقي في سننه والطحاوي في مشكل الآثار عن حذيفة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة )) .
... وهذا الخبر معلول ولا يصح رفعه والمحفوظ أنه من قول حذيفة رواه عبد الرازق في المصنف ( 4 / 348 ) .
... ويجاب عنه بأنه خلاف عموم الآية ولا يجوز تقييدها بمثل هذا .
الوجه الثاني : أن أكابر الصحابة على خلافه فقد أفتى علي بن أبي طالب وعائشة وابن عباس بالاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالف في ذلك بل كان هذا العمل مشهوراً بينهم في كل الأمصار دون نكير ،إلا ما جاء عن حذيفة رضي الله عنه والله أعلم .
قاله
سليمان بن ناصر العلوان
11 / 9 / 1421هـ snallwan@hotmail.com(/1)
هل يستويان ؟!
( قول العزيز الحميد ... وقول العبيد )
محمد جلال القصاص
</TD
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :ـ
طريقة القرآن في إثبات ألوهية الله عز وجل ـ كما أفهمها ـ .
قال الله تعالى " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " هذه الآية جملتان ؛ جملة خبرية ، وجملة تعليلية ؛ الجملة الخبرية " الله لا إله إلا هو " ، وكأنه سأل سائل أو تعجب متعجب : لماذا ؟! فأتت الجملة الثانية تعلل : " الحي القيوم . وكأنه جل شأنه يقول : لأن الله هو الحي القيوم لذلك لا يستحق العبادة إلا هو . ومثلها تماماً " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو . الرحمن الرحيم " و " ربنا رب السماوات والأرض . لن ندعو من دونه إلهاً " و " الله لا إله إلا هو . خالق كل شيء " .
وهذه هي قضية القرآن الأولى تتكرر بأسلوب لا يتكرر. وتدبر " قل أإئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً " " الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " " وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون "
ونفس الطريقة استخدمها الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله ففي سنن الترمذي (3405) من حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي : " يَا حُصَيْنُ كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهًا ؟ " قَالَ أَبِي : سَبْعَةً . سِتَّةً فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ . قَالَ : " فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ ؟ قَالَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ ".
وهي هي ذات الطريقة التي يستخدمها القرآن في نفي الألوهية عن غير الله عز وجل .
" أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون "
"إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين " "يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب...."
فالقرآن يُظهر للناس استحقاقات الله تعالى للأمر والنهي ـ أو قل الطاعة أو العبادة ـ وذلك ببيان أسمائه وصفاته وآثار ذلك في مخلوقاته ... دعى الناس إلى التدبر في هذا الأمر ليعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما وأن الله حَكَمٌ عدل ، وبالتالي يرجى وعده ويخشى وعيده ولا يُرد أمره ولا يشك في حكمته . وهذه هي العبادة جملةً .
فالتدبر والتفكر يكون في استحقاقات الأمر والنهي المستلزم للطاعة ، وهو ما اصطلح على تسميته ـ عند علماء العقيدة ـ بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات . وإن جاء شك في الحكم أو لم يتفق مع العقل يتذكرالمرء أن الله أعلم وأحكم " قل أأنتم اعلم أم الله "
هذا ما نطق به قرآن ربنا وهو يدعو الناس إلى التوحيد . وهي الطريقة التي اتخذتها الدعوة في بادئ الأمر وهي تخاطب الجاهلية يومها .وإن شاء الله وقدر أفردت لهذا مقالا .
وأريد أن أقف قليلا مع النموذج الغربي ، أعني الخطاب الكنسي في العصور الوسطى وكيف تسبب فساد هذا الخطاب في فصل الدين عن الحياة وهو ما يسمى وبالتالي بيان أنه لا يمكن قياس الخطاب الديني الإسلامي على الخطاب الكنسي الضال .
أقول : حصر الأحبارُ والرهبانُ فَهم الدين والتحدث به في أشخاصهم ثم راحوا يفرضون على الناس ـ باسم الدين ـ مسلمات لا يمكن أن يسلم بها العقلاء لوضوح كذبها ووجود أدلة تنافيها . وإليك بعض الأمثلة :
ادعوا أن هذه الدنيا ناقصة بطبيعتها وأنه لا سبيل إلى إصلاحها أو تقويم معوجها ، ولا بد من انصراف الإنسان عن هذه الحياة الدنيا والانصراف إلى الآخرة ـ وهم في ذات الوقت منغمسون فيها ـ ، وأنه بقدر ما ينصرف الإنسان عن هذا العالم والتفكير فيه ـ بالرهبانية ـ يكون أقرب إلى الصلاح ، وأقرب إلى الفوز بملكوت الرب في العالم الآخر !. ثم أرهبته كي لا يحاول الإصلاح . بل كي لا يفكر في الإصلاح .
ومما ادعوه كمسلمات باسم الدين أن المرأة هي السبب في كل ما انتشر في المجتمع من منكر ؛ وأن الزواج دنس يجب الابتعاد عنه ، وأن العذب أكرم عند الله من المتزوج، وأعلنوا أنها باب الشيطان، وأن العلاقة بالمرأة رجس ، وأن السمو لا يتحقق إلا بالبعد عن الزواج ... كل هذا . ثم تشككوا في إنسانيتها وعقدوا مؤتمراً يبحثون فيه : هل المرأة إنسان أم غير إنسان ؟! وهل لها روح أو ليس لها روح ؟! ، وإذا كانت لها روح فهل هي روح حيوانية أو إنسانية ؟، وإذا كانت روحاً إنسانية؛ فهل هي على مستوى روح الرجل أم أدنى منها ؟ ثم ًقرَّروا : إنها إنسان ولكنها خُلقت لخدمة الرجل فحسب !!(/1)
ثم اتجهوا إلى الظواهر الطبيعية يعطونها تفسيرات [ مقدسة ] ... خاطئة ... لا تقبل النقاش وفي ذات الوقت يملك عقل المُحْدثين من الباحثين في هذا الفن الأدلة على خطئها ، ككروية الأرض مثلا .
وتسلطوا على أموال الشعب باسم الدين ( صكوك الغفران ) ، بل طالت أيديهم الملوك والأمراء والشعوب واستطاعوا معاقبة من أرادوا ممن خالفهم بسلطانهم القوي المتمثل في حق الحرمان وما أنشئوه من محاكم تفتيش .
فبكذبهم على ربهم وقومهم انصرف الناس عن الحياة الدنيا ودبَّ التخلف في كل مناحي الحياة وسُلبت المرأة حقها . لذا وجد العلماء ( غير الدينيين ) مبررات للتربص بالكنيسة ومحاولة الخروج على سلطانها . ووجد بعض رجال الدين مثل " مارتن لوثر " ـ اليهودي الأصل ـ ثقبا ينفث منه سُمَّه ليُحدث شرخا في كيان الضالين .
هذا هو خطاب القرآن .. خطابُ العزيز الحميد ، وهذا هو افتراء العبيد .. الخطاب الكنسي.
فهل يستويان ؟!..
لا . لا يستويان خطاب القرآن حق لابد أن يتبع ، وخطاب الكنيسة باطل يجب هجره والخروج عليه إلى الخطاب الصحيح . .. إلى كلام العزيز الحميد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . ومن أصدق من الله قيلا . ومن أصدق من الله حديثا . وإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
محمد جلال
Mg75@islamway.net(/2)
هل يعيد التاريخ نفسه؟!
«ما أشبه الليلة بالبارحة!»
رأفت صلاح
</TD
التاريخ ليس سرداً للأحداث ولا تسجيلاً للوقائع، ولكنه عرض لذلك كله مع التفسير والتحليل، واستخراج للعبر والدروس من هذه الأحداث، هكذا ينبغي علينا أن نفهم التاريخ كما فهمه أسلافنا؛ فملكوا الدنيا وخضعت لهم العرب والعجم.
يُعرّف ابن خلدون التاريخ فيقول: «.. فإن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتشد إليها الركائب والرحال. وهو في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق؛ فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق»(1).
بين أيدينا الآن قصة وقعت أحداثها في بدايات القرن العاشر من الهجرة؛ ولها صلة وثيقة بما يحدث من أحداث في واقعنا المعاصر، هذه القصة ذكرها الأستاذ «محمود شاكر» صاحب «موسوعة التاريخ الإسلامي» في كتابه «المغالطات»، طبعة المكتب الإسلامي، وسوف نقف معها ونذكرها مثالاً لأحداث التاريخ الإسلامي، وكيف تُستخرج منها الدروس والعبر؟
يقول الأستاذ محمود شاكر - باختصار -:
«عندما احتل البرتغاليون (عدن) عام 919 هـ رفض أهل هذا البلد الاحتلال، وقاوموه بما يملكون، ولكن استطاع البرتغاليون أن يقهروا السكان بما يحوزون من أسلحة نارية حديثة، واضطر القسم الأكبر من العدنيين إلى ترك موطنهم واللجوء إلى الأراضي المجاورة؛ حيث عُرفوا هناك باسم «اللاجئون»، وأُجبر القسم الأكبر من العدنيين على الخنوع والبقاء في ديارهم تحت عصا الذل وسيف الإرهاب، وحرصت الدول المجاورة، كمصر التي يحكمها المماليك، أن تقاتل البرتغاليين ولكنها هُزمت.
- نجحت البرتغال في أن تمد قنوات بينها وبين حكام الدول المجاورة عن طريق المال والمصالح والسلاح، وكان التعاون بينهم في سرية بعيداً عن أعين السكان؛ حيث كانت الشعوب ترفض هذا التعاون رفضاً تاماً، فأظهر الحكام أنهم يعادون البرتغال وهم يلتقونهم سراً ويجتمعون معهم.
- البرتغاليون أنفسهم - من باب المغالطة - يهاجمون هذه الدول علناً؛ حتى يلبسوا على الناس أمرها.
- لم يجرؤ أحد على الدعوة إلى الرضا بالأمر الواقع أو الدعوة إلى السلام.
- كان المخطط الصليبي يقضي بأن يتقدم كل حاكم خطوة، ولكن طالت المدة وزادت على خمسة عشر عاماً.
- فهنا برزت فكرة جديدة؛ وهي أن يتولى حل المشكلة أحد أبناء عدن، ولا سيما من الذين يعيشون خارج مدينة عدن؛ ليكون بعيداً عن البرتغاليين، ولتكون له الحرية، فوقع الاختيار على شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره يُدعى «عبد الرؤوف أفندي»، فعرض عليه أحد السلاطين العملاء أن يختار معه شباباً يثق بهم؛ ليقوموا بتأسيس منظمة تعمل على طرد البرتغاليين المغتصبين، وتقوم السلطات بدعم هذه المنظمة ومدّها بما تحتاج إليه.
وتعهد السلاطين بحمايتها ومد يد العون لها، ودعوة أعوانهم للانضمام إليها؛ (فتبني أهل البلد مهمة العمل أفضل، وخاصة أمام المحافل الدولية)، ومُنح «عبد الرؤوف» وعد بأنه سيكون له شأن كبير وإمكانات مادية عالية، هذا بجانب السلطة العسكرية وإصدار الأوامر.
- وافق «عبد الرؤوف»، وحَلَّتْ منظمته محل حركة مفتي عدن، واشترطوا عليه ألا يخرج عن رأي السلاطين.. وهكذا كان.
- بدأ «عبد الرؤوف» اللعبة وأصبح اسمه «ياسين»، وادعى النسب الحسيني، وأسس منظمته، وأنشأ فصائل للقتال، وانخرط في صفوفها كثير من العدنيين المشردين، وبدأت تخوض المعارك، وتدخل إلى الأرض المحتلة وتقوم ببعض العمليات الناجحة، فارتفعت أسهمه، وأصبح في مصاف القادة ورواد الأمل في العودة لدى المشردين.
- نادى «ياسين» بحمل السلاح بوصفه الحل الوحيد لإنهاء المشكلة، واللغة الوحيدة التي يفهمها العدو، وصار لا يقبل المهادنة ولا المساومة، وبالمقابل شن عليه الأعداء حملة شعواء واتهموه ومنظمته بالتخريب و...، وتدفقت عليه أموال التبرعات والمعونات، وأصبح على مستوى السلاطين.
- شن البرتغاليون غارات على مخيمات اللاجئين، وقاموا بعدد من المذابح الرهيبة؛ وذلك لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع.
- ضغطت الدول الأوروبية على السلاطين لإنهاء المشكلة، فعقدوا اجتماعاً وقرروا الاعتراف بالوضع البرتغالي في عدن؛ على أن يتولى إعلان ذلك الزعيم العدني «ياسين».
- وانتفض العدنيون المقيمون في موطنهم؛ مما دعا الأوروبيين إلى عقد مؤتمر عالمي لإحلال السلام في المنطقة وإنهاء المشكلة.
- أنيطت القضية بالزعيم «ياسين» الذي أعلن أنه مستعد لحضور المؤتمر العالمي، وأنه يتحدى البرتغال أن تحضر! - وهي التي تتمناه -، فتمنعت تمنع الراغب لإتمام اللعبة وإخفائها عن الشعب، وتقوية موقف «ياسين» وإبرازه على أنه هو الذي يدعو وهي التي ترفض؛ أي أن الممتنع هو الموافق، والراضي هو الرافض!(/1)
- أعلن أحد السلاطين أنه تخلى عن عدن، وأن أهلها أحرار يحلون أمورهم بأنفسهم! - وهو الذي كان يعدُّ عدن جزءاً من أرضه -، فأصبحت عدن وحدها أمام البرتغاليين.
- أعلن «ياسين» أن لأهل عدن حكومة خاصة، وأنه على استعداد للاعتراف بالكيان البرتغالي، وبذلك أصبحت هناك حكومتان؛ إحداهما لأهل عدن المشردين، والأخرى للبرتغاليين ولهم الجزء الأكبر من عدن!!
- استمر هذا الوضع حتى جاء العثمانيون عام 945 هـ وطردوا البرتغاليين من المنطقة.
- وقف أهل عدن يفكرون بالدور الذي مارسه «ياسين» عليهم؛ منهم من قال بقي «ياسين» يغالط علينا حتى وصل بنا إلى ما كنا نخشاه، ووافق على كل هذه الحلول التي كنا نرفضها، أعطيناه القيادة ليبيع قضيتنا، ليبيع أرضنا، ليبيعنا. بعدها بدؤوا يبحثون عن أصله ولكن.. فات الأوان.
- أما أعوانه فيقولون: إن الطرق كلها مسدودة، والحلول التي طُرحت قد أجهضت أو أخفقت، وليس أمامنا سوى ما تم.
ما أشبه الليلة بالبارحة!!»(2).
بعد عرض أحداث هذه القصة نورد هذه التعليقات المهمة:
1- تشبه هذه القصة بأحداثها ما يحدث في واقعنا المعاصر؛ مما يدل على تشابه مخططات أعداء الإسلام عبر التاريخ في محاربة هذه الأمة، وصناعة العملاء الذين يكون لهم الدور الأهم في هذا العداء.
كما تبين القصة استمرارية هذا الصراع، وأنه لا يهدأ أبداً وإن اختلفت صوره؛ فإنهم كما قال - تعالى -: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
2- بيان حال المسلمين عند بعدهم عن دينهم الذي هو مصدر عزتهم؛ إذ يصيبهم الضعف والوهن، ويتمكن أعداؤهم منهم؛ مما يؤدي إلى تشتتهم في البلاد لاجئين، أو وقوعهم تحت عصا الذل وسيف الإرهاب في بلادهم على يد أعدائهم، هذا كله بسبب تنكبهم لطريق الهداية في كل زمان.
3- بيان حال حكام المسلمين الذين هم إما صنيعة الأعداء أو عملاء مخلصون لأسيادهم؛ بسبب عبوديتهم للمال والسلطة والمصلحة، فهم لا يهمهم مصلحة أوطانهم، ولا حماية ديار المسلمين، ولا الذود عن الإسلام؛ المهم عندهم هو كراسيهم وعروشهم حتى لو تعاونوا مع أعدائهم. وهذه صورة لما يحدث في كل زمان على يد بعض هؤلاء الحكام العملاء.
4- مدى السذاجة التي تتصف بها بعض الشعوب المسلمة؛ سواء مع حكامهم أو مع أعدائهم؛ حيث يكونون مغيبين لا وعي عندهم ولا دور لهم في الأحداث، هذا سببه في المقام الأول هو البعد عن مصدر العزة الأساسي ألا وهو الإسلام، فالمسلمون عند تمسكهم بدينهم يكون لديهم استعداد للجهر بالحق، ولا يكون للكافرين عليهم سبيلاً، أما عند بعدهم عن دينهم فهم أذل الخلق وأهونهم؛ لا يهمهم إلا إتيان الشهوات، يتلاعب بهم أعداؤهم وهم لا وعي عندهم بما يجري من أحداث.
5- لا يستطيع الزعماء والحكام والسلاطين العملاء أن يتحكموا في رقاب الناس إلا بخداعهم وغشهم، وتغييب وعي الناس عن طريق وسائل إعلامهم في كل عصر، فمن مَدْحٍ للزعيم وتضخيم لدوره، إلى شتم للأعداء أحياناً، إلى دعوة للسلام.. هذا كله لتغييب الشعوب وخداعها.
6- صناعة الزعماء: وهذا أهم هذه التعليقات، فهذه القصة توضح بجلاء كيفية صناعة الزعماء، وهذا ديدن أعداء الإسلام في كل زمان، فهم يختارون شخصية نفعية لا تحب إلا مصلحتها وتعشق السلطة والمال، ثم يحاولون صناعته عن طريق إبراز دوره وتضخيم أعماله، فيحدث التلميع لهذه الشخصيات حتى تصير زعماء، وهذا هو الدور الخطير الذي تمارسه وسائل الإعلام، وهكذا تم صناعة ياسين وغيره قديماً.
وحديثاً: عندما رحل الاحتلال عن بلاد المسلمين ترك خلفه صنائع هي من صنع يديه، وحتى يُمَكِّن لها قام بتلميعها وتضخيم دورها حتى تكون هي الزعامة.. وفقط، فهذا «الزعيم الملهم»، وذلك «القائد»، وذلك «الغازي»، وذلك «الرئيس المؤمن».. هكذا صنعوا أتاتورك، وسعد زغلول، وجمال عبد الناصر، وياسر عرفات.. وغيرهم ممن تحكموا ويتحكمون في رقاب المسلمين، هكذا استطاع أعداء الإسلام إنتاج صنائع لهم وعملاء ووكلاء يؤدون ما يُطلب منهم؛ في جميع المجالات وليس في السياسة فقط. وهذه القصة صورة مصغرة لطريقة تكوين الزعماء والأبطال والفاتحين المزورين؛ فكم من مرة حولوا الجهاد لصالحهم، وسرقوا الثورات والانتصارات؟! وكم من مرة تاجروا بقضايا المسلمين؟!
إن ما يحدث الآن في القضية الفلسطينية والدور الذي يقوم به الآن «ياسر» هو الدور نفسه الذي كان يقوم به «ياسين»، فكم من «ياسين» صنعوه، وكم من نصر سرقوه؟!
حقاً.. ما أشبه الليلة بالبارحة!
----------------------------
(1) عن كتاب: أيعيد التاريخ نفسه؟! محمد العبدة، المنتدى الإسلامي، الغلاف.
(2) المغالطات، باختصار، ص 79 - 86.(/2)
هل يفهم المخدوعون الدروس ويستفيدون من العبَر؟
بقلم : د. توفيق الواعي
مازالت القوى الاستعمارية تبحث عن أغبياء لا يعقلون، وعن عملاء لايفقهون الدروس والعِبَرِ، وعن مراكب تسرج وتمتطى وتحمل الأوزار والخطايا والخبائث، وعن حناجر نابحة لاهثة بالعواء الضال والسعار الهائج الأرعن الذي يروِّع الحياة!!
والأغبياء في الشعوب المنحوسة كثيرون، والعملاء متوافرون، والمطايا منتظرون، والحناجر الضالة جاهزة ومستعدة، وكل هؤلاء وأولئك قد فقدوا كل شيء يربطهم بأممهم وانتماءاتهم وإنسانيتهم وشرفهم ورجولتهم، ومن غريب أنك تجدهم قد وُزعوا على شرائح الأمة بعد أن كانوا في أراذلها وأسافلها.
فقد تجد غبياً برتبة رئيس وزراء، وتجد عميلاً في منصب رئيس دولة، وتعثر على مطايا من أصحاب الوجاهات والأقلام المشهورة.
وقد كانت هذه العاهات والجراثيم مستترة في الأمم ومستخفية في حواشيها ومنبوذة في جنباتها، يُبحث عنها بصعوبة، وتُكتشف بشق الأنفس، تصحبها فضائح مدوية، وتعامل كجرائم بحجم الخيانة العظمى، عقوبتها الإعدام، أو السجن المؤبد، أما اليوم، فقد طفت على السطح وأصبحت تُرفع لها الأعلام، وتتصدر المجالس، وتتبوأ المناصب، وجوائزها قيمة قد تصل إلى المؤبد في السياسة وإطلاق اليد في مصائر الناس، وإغداق الأموال والحصول على الرضا والجاه، واكتساب الحصانات، ونيل الحظوات! وكل ذلك له شروطه وسننه التي أولها:
الطاعة العمياء للقوى المستغلة، الطاعة التي تهدد الشخصية وتضحي بمقومات الأمة واستقلال القرار فيها وتصل إلى هدم رجولتها وهويتها.
ثانيها: التأمين والموافقة والمباركة لكل ما يقال ويُفعل، والعمل بمقولة: "اعصب عينيك وسر وأنت أعمى".
ثالثها: القدرة على حفظ الأمن وقهر الشعوب، وتأديب الذين لا يسبحون ولا يحمدون، ولا يصفقون للتوجهات السامية والأوامر الموفقة التي يمليها السادة.
رابعها: اختيار العناصر المهزومة لتتولى المهام الصعبة، واللبنات الملوثة لتمسك بمقومات الأمة وتلعب بمقدراتها، وتنهب ثرواتها، وتخرب اقتصادها، وتفسد مجتمعها، وتميع رجولة أبنائه.
خامسها: اتباع سياسات الإقصاء للعناصر الفاعلة في الأمة، والاعتماد على الأغبياء أصحاب المواقف الهلامية والمصالح الشخصية واعتماد المواقف الضبابية والدخانية المصاحبة للتهييج الإعلامي القائم على زخم الشعارات لإلهاء الشعوب وخداعها وتضليلها.
لكل هذا وغيره ركعت الشعوب التي أصيبت بهذا الصنف وكاد أن يُقضي عليها، لما يُفعل بها مما لا يصدقه عقل، أو يقره قانون أو شرعة أو دين، ومن غريب أن يقع ذلك في ديار المسلمين، ضد الإسلام والعاملين له بالمعروف والموعظة الحسنة، وقد أدى ذلك إلى صراع بين هذا الباطل وبين راغبي الإصلاح نتج عنه طحن لقوى الشعوب وكره لسلطانها، استطاعت قوى الاستعمار التي تقدم الحماية للجلادين استغلاله في إحكام قبضتها عليهم حتى يفرغوا مما وكل إليهم في إهلاك الأخضر واليابس، ثم تأتي هي لتتقمص دور المنقذ، وتأتي بوجه جديد قد يكون ألعن من السابق.
هذا وقد هال الجميع حال المسلمين البئيسة في بلادهم، فعقد لذلك مؤتمر بلندن هذا العام للبحث في شؤون أسرى المسلمين وتجلية أوضاعهم والاطلاع على التقارير التي ترد بشأنهم وإصدار التوصيات التي تخفف من نكبتهم، وقد أرعبني كثير من التقارير التي وردت إلى المؤتمر، أذكر منها تقريراً عن أحوال المسلمين في أوزبكستان، يقول: "نحن في أوزبكستان لم نلتق اليهود الذين يبيدون المسلمين جهاراً كما يحدث في فلسطين، ولا نلتقي الأمريكان حيث يموت الناس تحت وابل من القنابل كما كان في أفغانستان والعراق.
ولكن المتأمل في الأحداث التي تجري هنا حول المسلمين يقف على نوع خاص للحرب ضد الإسلام، فهي حرب غريبة وفريدة في بابها، قل أن يوجد لها مثيل في العالم، نتحدث عن جزء منها، عن حالات زج المسلمين في غياهب السجون، وممارسة التعذيب الهمجي تجاههم، ووضعهم في الظروف القاسية، وقتلهم عمداً هناك، حيث أصبحت أوزبكستان اليوم دياراً للمساجين والأسرى، وقد يبلغ تعداد المسجونين فيها المتهمين بالأسباب الدينية وغيرها من الأسباب الواهية زهاء 200 ألف سجين، وتدَّعي السلطات أن عددهم 65 ألفاً فقط، هذا عدا لوائح الاتهام المعدة لدى الحكومة بأسماء مائتين وخمسين ألف مسلم ممن تتهمهم بأن لهم ميولاً إرهابية تطرفية.
وعلى رأي بعض المراقبين، فإن السلطات قد خططت لاعتقال كل من يصلي وكل من تلبس الحجاب في مستقبل قريب، وأسماؤهم وعناوينهم مسجلة ومصنفة في لوائح سود، هذا وكم من الناس سُجن، وكم منهم اختطف، وكم منهم قضى نحبه في السجن، والحكومة لا تعلن المعلومات الحقيقية عنهم.(/1)
فالحياة في السجون تشيب من هولها الولدان، حيث العذاب الذي يدهش الإنسان ويذهب عقله، فالذي لا يقر بما يُطلب منه ويوقع عليه بخط يده يظل تحت العذاب حتى يفعل ذلك، ومن أنواع التعذيب التي يمارسها الجلادون، الإقعاد من الصباح إلى المساء على هيئة القرفصاء مدخلاً رأسه بين فخذيه وتقييد يديه إلى الخلف والضرب بالقضبان المطاطية والحديدية، والضرب على الأعناق حتى الإغماء والخنق بأقنعة الغاز، والتعذيب بصب الماء المغلي، واقتلاع الأظافر، وغرز الإبر تحت الأظافر، وإشعال الولاعات على الأعضاء التناسلية، وإيلاج القارورات الزجاجية والقضيب المطاطي والحديدي في الدبر، والتعذيب بالطاقة الكهربائية، والاغتصاب في الدبر، وغير ذلك من أنواع التعذيب الذي لا يطيقه بشر ولا حيوان، حتى يموت الإنسان فيرتاح، ويُتخلص من جثته فيُلقى في الأنهار والبحار أو يدس في التراب في برية لا يُعرف بها أحد!
هذا وكم في بلاد المسلمين من مآسٍ طي الكتمان ولا ندري سبباً لهذا إلا الفتن والظلم وتحريض الأعداء، فهل نتقي الله ونتعظ بأحوال الظالمين؟ وصدق الله إذ يقول: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (42) (إبراهيم)، وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال 45 وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال 46 فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو \نتقام 47 (إبراهيم)، هذا وقد انتفض الحق وسيزهق الباطل لا محالة، ويعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.(/2)
همسات للنفس ..!!
يا نفس ..إذا كانت الهداية إلى الله مصروفة ، والاستقامة على مشيئته موقوفة ، والعاقبة مغيبة ، والإرادة غير مغالبة ، فلا تعجبي بإيمانك وعملك وصلاتك وصومك وجميع قربك ، فإن ذلك وإن كان من كسبك فإنه من خلق ربك وفضله الدار عليك وخيره
فمهما افتخرت بذلك كنت كالمفتخرة بمتاع غيرها وربما سُلب عنك فعاد قلبك من الخير أخلى من جوف البعير ، فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم فأصبحت وزهرها يابس هشيم ، إذ هبت عليها الريح العقيم كذلك العبد يمسي وقلبه بطاعة الله مشرق سليم فيصبح وهو بمعصية الله مظلم سقيم ذلك فعل العزيز الحليم الخلاق العليم
يا نفس .مالك من صبر على النار ، نوم بالليل وباطل بالنهار وترجين أن تدخلي الجنة هيهات هيهات ، متى العمل فاستيقظي يا نفس ويحك ، واحذري حذرا يهيج عبرتي ونحيبي ، وتجهزي بجهاز تبلغين به شاطئ الأمان فلم ينل المطيعون ما نالوا من حلول الجنان ورضا الرحمن إلا بتعب الأبدان والقيام لله بحقه في المنشط والمكره
. يا نفس .ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى ، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى ، والمعصية بعد التقى ، كم من وجوه خاشعة وقعت على قصص أعمالها عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ، وكم من شارف مركبه ساحل النجاة فلما هم أن يُرتقي لعب به موج فغرق الخلق كلهم تحت هذا الخطر ، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، ما العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا .
يا نفس .كيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فرطا ؟ !! فبعيد من قلبه بعيد من الله تعالى ، غافل عنه متعبد لهواه أسير لشهواته ، لسانه يابس عن ذكره وجوارحه معطلة عن طاعته مشتغلة بمعصيته فبعيد عن هذا أن يوفق للخاتمة بالحسنى
. يا نفس أما الورعون فقد جدوا ، وأما الخائفون فقد استعدوا ، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا ، العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب ، فإن حرصت على الخلاص فاعلمي أنه من عزم بادر ومن هم ثابر ، ولا ينال العز والمفاخر من كان في الصف الآخر ..
يا نفس .بادري بالأوقات قبل انصرامها واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها ، فكأنك بالقبور وقد تشققت وبالأمور وقد تحققت وبوجوه المتقين وقد أشرقت وبرؤوس العصاة وقد أطرقت قال تعالى ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) السجدة 12 .
يا نفس .أما لك في الصالحين أسوة
- كان عامر بن عبد الله بن قيس التابعي قد جعل عليه كل يوم ألف ركعة فلا ينصرف منها إلا وقد انتفخت قدماه وساقاه ثم يقول لنفسه : يا نفس بهذا أمرت ولهذا خلقت يوشك أن يذهب العناء ، يا نفس إنما أريد إكرامك غدا ، والله لأعملن بك عملا حتى لا يأخذ بالحق منك نصيب ، قومى يا مأوى كل سوء فوعزة ربك لأزحفن بك زحف البعير ولئن استطعت أن لا يمس الأرض من زهمك لأفعلن ثم يتلوى كما تتلوى الحية على المقلى ثم يقوم فينادى : اللهم إن النار قد منعتني من النوم فاغفر لي .
..وكان زياد بن زياد مولى ابن عياش يخاصم نفسه في المسجد فيقول : اجلسي تريدين الخروج أين تذهبين؟ ، أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد ، انظري إلى ما فيه ، تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان ودار فلان ، ما لك من الطعام يا نفس إلا هذا الخبز والزيت ، وما لك من الثياب إلا هذين الثوبين ، وما لك من النساء إلا هذه العجوز
- وقال الجنيد : أرقت ليلة وفقدت حلاوة وردي ثم اضطجعت لأنام فتمايلت حيطان البيت وكاد السقف أن يسقط فخرجت فإذا برجل ملتف بعباءة مطروح في الطريق ، فقال إلي الساعة ، قلت موعد قال بلى سألت محرك القلوب أن يحرك قلبك ، قلت قد فعل ، قال متى يصير داء النفس دواءها ، قلت إذا خالف هواها قال : يا نفس اسمعي أجبتك به مرات فأبيت إلا أن تسمعيه من الجنيد ثم انصرف
..وقال إبراهيم التيمي : مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسمومها آكل من المثخن وأشرب من زمهريرها فقلت يا نفس إيش تشتهين قالت ارجع إلى الدنيا فاعمل عملا أنجو به من هذا العقاب ، ومثلت نفسي في الجنة مع حورها ، ألبس من سندسها وإستبرقها وحريرها قلت يا نفس إيش تشتهين ، قالت ارجع إلى الدنيا فاعمل عملا ازداد فيه من هذا الثواب ، قلت : فأنت في الدنيا وفي الأمنية فاعملي ..
.- وكان معروف الكرخي يضرب نفسه ويقول يا نفس كم تبكين أخلصي وتخلصي
- وقال عبد الرحمن بن مهدي : أدركت امرأة لا أقدم عليها رجلا ولا امرأة ممن أدركت ، كانت إذا أصبحت قالت: يا نفس هذا اليوم ساعديني يومي هذا فلعلك لا ترين بياض يوم أبدا ، وإذا أمست قالت : يا نفس هذه الليلة ساعديني ليلتي هذه فلعلك لا ترين ظلمة ليلة أبدا ، فما زالت تخدع وتدفع يومها بليلتها وليلتها بنهارها حتى ماتت على ذلك(/1)
- وعن مسمع بن عاصم المسمعي قال كانت بالبحرين امرأة عابدة يقال لها [منيفة ] فكانت إذا هجم الليل عليها قالت بخ بخ يا نفس قد جاء سرور المؤمن فتتحزم وتلبس وتقوم إلى محرابها فكأنها الجذع القائم حتى تصبح فإذا أصبحت وأمكنت الصلاة فإنما هي في صلاة حتى ينادي بالعصر فإذا صلت العصر هجعت إلى غروب الشمس فكان هذا دأبها فقيل لها لو جعلت هذه النومة في الليل كان أهدأ لبدنك فقالت لا والله لا أنام في ظلمة الليل ما دمت في الدنيا فمكثت كذلك أربعين سنة .
.وكيف تحب أن تدعى حكيما وأنت لكل ما تهوى ركوب وتضحك دائما ظهرا لبطن وتذكر ما عملت فلا تتوب
د/ خالد سعد النجار(/2)
همسة في أذن الطالبات
دار ابن خزيمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه..
أختي المسلمة: اعلمي أن العلم أنفس ما تبذل فيه الأعمار، فهو طريق العمار، وعنوان الصلاح في كافة الأزمان والأعصار.
والأخت المسلمة، أشد حاجة من ذي قبل إلى العلم والتعلم، لتوازي به ركب العصر ومجرياته، وتقاوم طغيار الغرب وتحدياته، وتكون في مستوى التكوين الثقالي والعلمي بحيث تجابه متطلبات العصر وأولوياته دون إخفاق أو فشل.
أختي المسلمة: ولما كان العلم لا يتعارض مع الدين والالتزام كان لزاما عليك أن تجعلي من طلبك للعلم وسيلة لنصرة الدين والاعتزاز به. تتعبدين الله بخروجك إلى طلب العلم، وتمرسك على التعلم والمطالعة، وتحافظين أثناء كل ذلك على العفة والحياء والطهارة والنقاء! وإليك بعض الوصايا التي لا غنى للطالبات عنها:
أختاه:
1- تذكري أن ذهابك لطلب العلم هو عبادة وتدين قال : { الدنيا ملعولة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه وعالما ومتعلما } [رواه ابن ماجه وهو حسن].
ومهما كان اختصاصك في العلوم، سواء في العلوم الشرعية أو غيرها كالفيزياء والطب والهندسة.. فأنت ملزمة في ذلك بالإخلاص لأنه يحول عاداتك إلى عبادات ويملأ صحيفتك بالثواب الجزيل على ما تتعلمين.
2- وحافظي على حجابك أثناء الخروج والدخول وفي الشارع والمدرسة والجامعة، فإن الحجاب لا ينافي العلم، بل التبرج هو الذي ينافيه وينقضه لأنه محرم شرعا ومعاب عقلا وقد دلت التجربة الميدالية في الغرب وفي كثير من الدول الأخرى على فساده، وتسببه في الأمراض والأوبئة الفتاكة ! فتأملي ! واعلمي أيضا أنه لا ينافي الجمال ولا يعيبه، بل يحفظه ويستره لئلا تنتهشه أنياب الذئاب ممن طاش عقلهم واستهوتهم الشياطين! وتذكري أيضا أن الحجاب له أوصاف معلومة لا تتجدد بتجدد الموضة والأزياء بل هي ثابتة ثبات الجبال وباقية بقاء الكتاب والسنة!
وشروطه كالآتي:
1- أن يكون سائرا لجميع البدن، لقول الله لعالى: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما [الأحزاب:59].
2- ألا يكون الحجاب زينة في نفسه: لقوله تعالى: ولا يبدين زينتهن فهي شاملة لكل أنواع الزينة، ومن هنا كاد تزيينه بأي شكل من أشكال الزينة من التبرج، وقد انطلى هذا على كثير من المسلمات فجرين وراء موضة العباءات حتى سقطن في فخ التبرج المقصود ! والله جل وعلا يقول: وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى [الأحزاب:33].
قال مجاهد كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال، فذلك تبرج الجاهلية. وقال مقاتل بن حيان: التبرج أن تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدوا ذلك كله منها وذلك التبرج.
3- ألا يكون مبخرا ولا مطيبا بأنواع العطورات، لقول الرسول : { أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية } [رواه أحمد وسنده حسن]. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة } [رواه مسلم].
4- ألا يكون ضيقا حتى لا يصف الجسد: فعن أسامة بن زيد قال: كساني رسول الله قبطية كثيفة مما أهداها إليه دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال لي رسول الله : { مرها فلتجعل تحتها غلالة إلي أخاف أن تصف حجم عظامها } [رواه أحمد بسند حسن].
5- أن يكون ثقيلا لا يشف ما تحته: قال : { صنفان من أهل النار لم أرهما قوم: معهم سياط كأذئاب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها } [رواه مسلم].
والنساء الكاسيات العاريات من الكاسيات في الحقيقة العاريات في المعنى، لأنهن يلبسن ثيابا رقاقا يظهرن البشرة أو كاسيات لباس الزينة عاريات لباس التقوى.
6- ألا يشبه لباس الرجال: وذلك سواء داخل البيت أو خارجه، فعن ابن عباس قال: { لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال } [رواه البخاري].
7- ألا يكون لباس شهرة: لقوله : { من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوبا مثله، ثم يلهب في النار } [رواه أبو داود بسند حسن]. ومن ذلك من تلبس اللباس الذي يكلف المبالغ الباهضة تلبسه تفاخرا وتطاولا!
8- ألا يشبه الكافرات: قال تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوا دون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم [المجادلة:22].
كما أن التشبه بالكفار تنكر للإسلام واستبدال لتعاليمه بغيرها وكفى به إثما عظيما.
أختي المسلمة: وأما فيما يخص ميدان التعليم فأنصحك بالآتي:
1- مذاكرة الدروس قبل الشرح وبعده.
2- تنظيم الوقت بوضع جدول يومي تخططين فيه للمطالعة وللثقافة وللزيارة وللعبادة وغيرها حتى لا تختلط عليك الأمور.
3- الاصغاء إلى الشرح داخل الفصل.(/1)
4- السؤال عن الغامض في الدروس فإن شفاء العي السؤال.
5- الجد والاجتهاد والهمة العالية في التحصيل فإن الأخت المسلمة كلما تقوت بعلم أو غيره، كلما كانت عامل قوة للأمة كلها.
6- الاستعانة بالله - جل وعلا - والدعاء، على الفهم والتعلم وفي الاختبار أيضا.
وتذكري يا أخية، أن الدمار كل الدمار، في الاقتران بقرينات السوء، فإنهن مجلبة للشر مضيعة للعمر، مغبنة مفسدة. فاحذري أن ترافقي من ترين فيهن قلة الدين والورع.
قال رسول الله: { المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل }.
واعلمي أنك تتطبعين بخلق من تعاشرين وتجالسين. قال : { مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك أما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونايخ الكير إما ان يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة } [متفق عليه].
واحرصي حفظك الله على أداء الفرائض وأهمها الصلاة، واجتنبي ما حرم الله عليك كالغناء والكذب والغيبة والنميمة وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وغيرها من المحرمات.
وكوني صالحة لنفسك، مصلحة لغيرك، داعية إلى الله- جل وعلا- وإلى صراطه المستقيم بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/2)
همسة في أذنك
أخيه : هذه همسة من اخ مشفق عليك يحب لك الخير فسلي نفسك هذه الاسئلة ثم اجيبي جواب المرأة العاقلة المتزنة :
هل تفكرتي في خلقك وانك خلقت من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم من عظام ثم كسيت العظام لحما ثم انشأك الله خلقا اخر فتبارك الله احسن الخالقين ؟
هل تعلمين بماذا تعصين ربك ؟ انك تعصينه بنعمه التي امتن عليك بها بسمعك وبصرك وجميع جوارحك وتعصينه فوق ارضه وتحت سمائه وفي ملكه وهو قريب منك مطلع على السر واخفى فخيرك الله اليك نازل وشرك اليه طالع ، سبحان الله الحليم 0
هل تعلمين انك ستسافرين سفرا بلا رجعة ؟ فهل اعددت العدة وتأهبت لسفرك ؟
هل تزودت من هذه الدنيا الفانية بالاعمال الصالحة لتؤنس وحشتك في القبر ؟
كم عمرك ؟ كم ستعيشين ؟ الا تعلمين ان لكل بداية نهاية ؟ وان النهاية جنة او نار ؟
هل تخيلت عندما تنزل ملائكة من السماء لقبض روحك وانت غافلة لاهية ؟
هل تخيلت ذلك اليوم والساعة الاخيرة في حياتك ساعة فراق الاهل والاولاد ، وفراق الاحباب والاصحاب انه الموت بسكراته وشدة نزعه وكبرباته انه الموت اختاه 000 انه الموت 0
وبعد فراق روحك ويذهب بك الى مغسلة الاموات فتغسلين وتكفنين ويذهب بك الى المسجد ليصلى عليك وبعد ذلك تحملين على اكتاف الرجال الى اين ؟ الى دارك ومسكنك الى ما قدمت في هذه الحياة الدنيا الى اين ؟
في القبر اختاه 000 الى اول منازل الاخرة الى القبر اما روضة من رياض الجنة او حفرة من حفر النار ؟
هل تعرفين القبر ؟ هل تخيلت القبر ؟ ظلمته ، وحشته ، ضيقه ، سؤال الملكين ؟
هل تخيلت اول ليلة في القبر كيف بك اذا وضعت في قبرك وحدك وتخلي عنك الاهل والاولاد ، تخلى عنك كل شيء في هذه الدنيا الا عملك ؟ هل تخيلت القيامة ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، انه و الله يوم عظيم ، يوم يشيب من هوله الوليد هل تعلمين كم مقداره انه يوم كان مقداره خمسين الف سنة ؟
هل تخيلت نشر الصحف ، نصب الصراط على متن جهنم ، نزول الملائكة عندما تحيط باهل الموقف ، ووضع الموازين للحساب والجزاء هل استعددت للوقوف بين يدي جبار السموات والارض ليسألك ويجازيك على اعمالك ان خيرا فخير وان شرا فشر ، وسيكلمك ليس بينك وبينه ترجمان ؟
والنتيجة :
الى جنة عرضها السموات والارض فيها مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، او الى شقاء وعذاب الى نار حامية 0
اذا بادري بالتوبة الصادقة وتزودي بالتقوى فانها خير زاد 0
واعلمين ان الله يفرح بتوبة عبده فماذا تنتظرين ؟
اختاه انقذي نفسك من النار 0
فتاوى ورسائل للمرأة
جمع وترتيب :
أحمد بن صالح بن فهد الخليف(/1)
همم من نوع آخر
ليس العجب من همة صادقة يصعد بها المرء إلى درجات السمو والفلاح .. وليس العجب ممن ارتقى بهمته حتى كتب صفحة جديدة في سجل التاريخ .. فهذه هي صفات العظماء والأبطال .. وهذا هو تاريخ سلفنا الصالح رضوان الله عليهم المليء بالذكريات المجيدة والهمم التي تزلزل الجبال الراسيات .. لكني أعجب – والله – أشد العجب من بعض الهمم الموجودة عند أناسٍ من شباب الصحوة .. والتي هي همم .. ولكن من نوع آخر ..
فهذا همته سيارة جديدة .. وآخر يريد جوالاً ذو كاميرا
وثالث همه أن يكون مشهوراً ومعروفاً في مجتمعه وأهله .. وهذه كلها همم .. لكن ليست كالهمم التي نريد .. وليست كهمم من قبلنا ممن فتحوا صفحات مشرقة في كتاب التاريخ ..
نحن نريد همماً تصنع التاريخ المشرق .. والمنهج الحضاري الرباني الذي تربينا عليه ..
نريد أناساً يصنعون التاريخ بهممهم وأفكارهم ..
نريد أبطالاً يخلدون أسماءهم في جبين الأمة المنير ..
من لي بذلك الشاب الذي يحمل هم العلم .. والعمل به
دلوني على ذلك الرجل الذي جعل همه وشغله في الدعوة إلى الله بين أهله وأصحابه ..
وأين أجد ذلك الرجل - ذو الهمة العالية – الذي يفكر في أحوال أمته ويبذل ما يستطيعه من أجل أن يكون من أولئك الذين سبقوه على الطريق .. وخلّد التاريخ أسماء الكثير منهم ..
أين تلك المرأة التي تحمل همّ دعوة النساء وتعليمهن ونصحهن .. فهنّ يحتجن كثيراً من هذا .. وليس لهن إلا المرأة التي تكون قريبة منهنّ ..
ومن يحمل همّ الفقراء والمحتاجين والأرامل والضعفاء
أيها الشهم من نوع آخر
ليس العجب من همة صادقة يصعد بها المرء إلى درجات السمو والفلاح .. وليس العجب ممن ارتقى بهمته حتى كتب صفحة جديدة في سجل التاريخ .. فهذه هي صفات العظماء والأبطال .. وهذا هو تاريخ سلفنا الصالح رضوان الله عليهم المليء بالذكريات المجيدة والهمم التي تزلزل الجبال الراسيات .. لكني أعجب – والله – أشد العجب من بعض الهمم الموجودة عند أناسٍ من شباب الصحوة .. والتي هي همم .. ولكن من نوع آخر ..
فهذا همته سيارة جديدة .. وآخر يريد جوالاً ذو كاميرا
وثالث همه أن يكون مشهوراً ومعروفاً في مجتمعه وأهله .. وهذه كلها همم .. لكن ليست كالهمم التي نريد .. وليست كهمم من قبلنا ممن فتحوا صفحات مشرقة في كتاب التاريخ ..
نحن نريد همماً تصنع التاريخ المشرق .. والمنهج الحضاري الرباني الذي تربينا عليه ..
نريد أناساً يصنعون التاريخ بهممهم وأفكارهم ..
نريد أبطالاً يخلدون أسماءهم في جبين الأمة المنير ..
من لي بذلك الشاب الذي يحمل هم العلم .. والعمل به
دلوني على ذلك الرجل الذي جعل همه وشغله في الدعوة إلى الله بين أهله وأصحابه ..
وأين أجد ذلك الرجل - ذو الهمة العالية – الذي يفكر في أحوال أمته ويبذل ما يستطيعه من أجل أن يكون من أولئك الذين سبقوه على الطريق .. وخلّد التاريخ أسماء الكثير منهم ..
أين تلك المرأة التي تحمل همّ دعوة النساء وتعليمهن ونصحهن .. فهنّ يحتجن كثيراً من هذا .. وليس لهن إلا المرأة التي تكون قريبة منهنّ ..
ومن يحمل همّ الفقراء والمحتاجين والأرامل والضعفاء
أيها الشباب – يا رعاكم الله - :
انفضوا النوم وهبُّوا للعلا فالعلا وقفٌ على من لم ينم
فالجد خير من الكسل .. والعمل خير من العجز والتبلد والهمة العالية الشريفة خير من الهمة الدنيئة الساقطة وهمة المؤمن أبلغ من عمله ..
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
محبكم في الله / أبو معاذ
ياشباب – يا رعاكم الله - :
انفضوا النوم وهبُّوا للعلا فالعلا وقفٌ على من لم ينم
فالجد خير من الكسل .. والعمل خير من العجز والتبلد والهمة العالية الشريفة خير من الهمة الدنيئة الساقطة وهمة المؤمن أبلغ من عمله ..
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
محبكم في الله / أبو معاذ(/1)
هند بنت عتبة ...
نساءيضرببهنالمثلنساءيضرببهنالمثل(بطلة في الجاهلية والإسلام) هند بنت عتبة بن ربيعة زوجة أبي سفيان بن حرب وأم معاوية بن أبي سفيان أخبارها قبل إسلامها مشهورة. كانت هند ذات صفات ترفع قدرها بين النساء العرب ففيها فصاحة وجرأة وثقة وحزم ورأي تقول الشعر وترسل الحكمة.
فلما بلغ أهل مكة نبأ بدر نزلت أنباء بدر على المشركين نزول الصاعقة ومشت نساء من قريش إلى هند بنت عتبة. فقلن لها: ألا تبكين على أبيك (عتبة بن ربيعة) وأخيك (الوليد بن عتبة) وعمك( شيبة بن ربيعة) وأهل بيتك (قتل حنظلة بن أبي سفيان وأسر عمرو بن أبي سفيان)؟ فقالت: والنار تشوي كبدها: خلاني لا والله حتى أثأر من محمد وأصحابه والدهن علي حرام إن دخل رأسي حتى نغزوا محمدا والله لو أعلم أن الحزن يذهب عن قلبي لبكيت ولكن لا يذهبه إلا أن أرى ثأري بعيني من قتلة الأحبة. وخرجت هند مع زوجها أبي سفيان سيد قريش يوم أحد فكانت تحرض الناس على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تقول لوحشي بن حرب العبد الحبشي: فبهذه الحرية حربتك إن قتلت حمزة فتصبح سيداً حراً . حتى قتل وحشي حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - وشاءت إرادة الله جل شأنه أن تنقلب بطلة لجاهلية إلى بطلة الإسلام. فيوم فتح مكة عاد أبو سفيان بن حرب من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما وهو يصيح: يا معشر قريش.. ألا إني قد أسلمت فأسلموا إن محمدا قد أتاكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. وفي اليوم الثاني لفتح مكة قالت هند لزوجها أبي سفيان: إنما أريد أن أتابع محمدا فخذني إليه. فقال لها: فإنك قد فعلت ما فعلت فاذهبي برجل من قومك معك فذهبت إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه-، فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها نسوة فاستأذن لها فدخلت متنقبة متنكرة فقالت: يا رسول الله الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه لتنفعني رحمك يا محمد، إني امرأة مؤمنة بالله مصدقة برسوله، ثم كشفت عن نقابها وقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحبا بك. فبايعها مع النساء. وشهدت هند بنت عتبة موقعة اليرموك هي وزوجها وكانت تحرض على قتال الروم، وماتت هند بنت عتبة- رضي الله عنها- في نهاية خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان. ...(/1)
هندسة التأثير
دعلي الحمادي
النصائح العشرون للسان الموزون
روى الإمام الترمذي في الحديث الحسن الصحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسول الله أخبرني بعمل يُدخلني الجنة، ويُباعدني من النار؟ قال: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تُشرك به شيئاً، وتُقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجُّ البيت"، ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّة، والصدقة تُطفئُ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل"، ثم تلا: تتجافى" جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ يعملون 17 (السجدة)، ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه"، قلت: بلى يا رسول الله، قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد"، ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟" قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه ثم قال: "كُفَّ عليك هذا" قلتُ: يا رسول الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمك! وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟".
نعم، مازلنا نحذر من خطر اللسان، لذا نظراً لخطورة وأهمية هذا اللسان فإليك "النصائح العشرون للسان الموزون"، والتي يمكنك بها استثمار هذه الأداة المهمة للتأثير:
1 زن الكلمة قبل أن تنطق بها، إذ:
كم في المقابر من قتيل لسانه
كانت تهاب لقاءه الشجعان
2 كن عفيف اللسان، وتجنب الكلمات السوقية والفحش من القول: "فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش" (رواه ابن خزيمة في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها).
3 تجنب تجريح الأفراد والهيئات واحذر الإساءة إلى الآخرين.
4 لا تكرر كثيراً بعض الكلمات مثل: نعم: OK، زين، يعني، في الحقيقة، في الواقع، طيب، آآ، وغيرها.
5 يمكنك استخدام بعض الكلمات والمصطلحات الأجنبية إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولكن من غير تكلف أو مبالغة، فإن المبالغة في ذلك مستهجنة، لا سيما عندما يكون المشاركون لا يحسنون هذه اللغة أو لم يعتادوا على سماعها.
6 لا تكن ثرثاراً، وإياك والإطالة، فإن ذلك مدعاة للملل والضجر، كما أن الكلام ينسي بعضه بعضاً.
7 تكلم العربية الفصحى فإنها لغة العلم، واحذر من رفع المفعول ونصب المجرور وجر الفاعل، فإن ذلك مثلبة للقول ومدعاة للسخرية.
8 استخدم الأساليب البيانية والسجع غير المتكلف، واحرص على الجمال اللفظي، فإن ذلك أدعى للانتباه واليقظة والإثارة.
9 تكلم بلغة يفهمها الجميع، واحذر التفلسف بمصطلحات غامضة، فإن ذلك سبب لفقد انتباه واهتمام الآخرين، وإذا اضطررت إلى استخدام تلك المصطلحات فاشرحها لهم ابتداء.
10 أخرج الحروف من مخارجها، وانطق الكلمات بوضوح ولا تأكل أواخرها.
11 احذر التكلف في إخراج الكلمات والحروف، والتقعر في نطقها، والتمطيط في لفظها، فإن الفطرة السوية تمج ذلك وتستهجن صاحبها.
12 تجنب الإكثار من التأتأة، أو التوقف أثناء الحديث، واحذر الكلام الهادئ الشديد البطء فإنه يبعث السأم في النفوس، والنعاس في العيون.
13 لا تجعل صوتك على وتيرة واحدة، ولكن ارفعه تارة لا سيما في موطن الشدة والحماسة، واخفضه تارة أخرى لا سيما في مواطن اللين والرحمة.
14 تكلم بصوت جهوري معتدل، فلا تصرخ فتؤذي السامع، ولا تخفض من صوتك فتحادث نفسك وترهق الآخرين.
15 غيِّر معدل سرعة صوتك أثناء الحديث.
16 كرر بعض الكلمات والعبارات المهمة للتأكيد عليها ولغرسها في الأذهان وتثبيتها في النفوس.
17 اضغط على بعض الكلمات المهمة وأخرجها بقوة لتميزها عن غيرها ولتلفت الانتباه إليها، مع ضرورة عدم المبالغة في ذلك "كماً وكيفاً".
18 اجعل لك وقفات أثناء الحديث، لا سيما قبل أو بعد العبارات المهمة أو الصعبة، واحذر الكلام السريع المتواصل.
19 اجعل الإشارة باليد وكذلك قسمات الوجه منسجمة ومتناغمة مع طبيعة الكلام.
20 اجعل الكلام متناسباً مع طبيعة الحال والزمان والمكان وكذلك مع طبيعة السامع.(/1)
هندسة الحروف والكلمات القرآنية
5 - الحمد لله ووسطية سورة الكهف :
لقد رأينا أنه بعد ?بِسْمِ اللَّهِ? وبين ?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? الأولى و?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? الثانية، جاءت في فاتحة الكتاب آية ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ?، أي أن هذه العبارة جاءت في الوسط بين عبارتي ?الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ?. ورأينا أيضًا أنه من بين السور التي ابتدئت بثناء الله تعالى على نفسه وذاته الكريمة بـ?الحمدُ لله?، فقد وقعت سورة الكهف في الوسط تمامًا، وذكرنا أيضًا أن سورة الكهف توسّطت سورتي التوبة والنمل. فهل نجد لهذه الوسطيّة دلالة معيّنة تخصّ سورة الكهف نفسها؟
ذكرنا أن السور الـ(5) التي ابتدئت بعبارة ?الحمدُ لله?، هي: الفاتحة (1)، والأنعام (6)، والكهف (18)، وسبأ (34)، وفاطر (35). وأول ما يلفت انتباهنا في ترتيب هذه السور، أن سورة الكهف قد توسّطت هذه السور الـ(5)، وذلك ليس بوسطيّة نسبية، وإنما بوسطيّة مطلقة متعمّدة ومقصودة، نجدها متحقّقة في أبعاد هذه السور الخمس عن بعضها البعض. فسورة الكهف تبعُد عن سورة الفاتحة بمقدار (18) سورة، وكذلك تبعُد سورة فاطر عن سورة الكهف بمقدار (18) سورة:
(الفاتحة) (الكهف)
01 02 03 04 05 06 07 08 09 10 11 12 13 14 15 16 17 18
18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35
(الكهف) (فاطر)
لتبقى سورة الكهف محافظة على وسطيّتها ضمن هذه السور. وعند التدبّر في هذه السورة الكريمة، نجد أنها حوت إشارات عديدة ومقصودة على وسطيّتها، يصحبها تناسق بديع في مواقع كلماتها، وإحكامًا عجيبًا في ترتيب آياتها، ودلائل يقينية على قدرة الله المطلقة سبحانه. ولا يمكننا في هذا البحث المصغّر أن نتطرّق إلى جميع هذه الأمور، لأن كل مجلّدات الكون لا تكفي لهذا. ولكننا سنعالج بعض الأمور التي منّ الله علينا بالكشف عنها بعونه وبفضله.
فأول العجب الذي يواجهنا هنا هو أن قصة "أصحاب الكهف" بدأت بآية رقمها (9)، وانتهت بآية رقمها (26)، وأن عدد الآيات التي روت لنا قصتهم يساوي (18) آية بالضبط، والذي يساوي رقم ترتيب السورة في القرآن! فانظر إلى هذا التناسق العجيب! ثم قارن هذه المعطيات بما تمّ الحصول عليه من نتائج مذهلة في البنود السابقة، وخاصّة فيما يتعلّق بالأعداد (9، 18، 26)! وقبل أن نبدأ بالبحث عن دلالة هذه الأعداد في السورة، علينا أن نكشف أولاً عن الحكمة من الوسطيّة المطلقة التي تحلّت بها السورة دون غيرها من السور، والتي نجد لها إشارة في ثلاث أحاديث عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والمتعلّقة بفضلها.
فقد أخرج الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن(1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفظ الآيات العشر الأوائل من سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال". وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم رضي الله عنهم أنه عليه أفضل الصلاة والسلام قال أيضًا: "من قرأ الآيات العشر الأواخر من سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال".
وروى الإمام الحاكم وصحّحه في مستدركه على الصحيحين والإمام البيهقي في السنن، عن أبي سعيد رضي الله عنهم جميعًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين". فما هو السرّ الكامن إذن في سورة الكهف، والذي لأجله عيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم برأسها وبذيلها وبذاتها من بين كل سور القرآن الكريم؟ ولماذا خصّها صلى الله عليه وسلم كمنجىً ومُعْتَصَمٍ من فتنة الدجال؟
نقول، والله تعالى أعلم، إن سورة الكهف قد تفرّدت بقصص عجيبة لم تتكرّر في أي موضع آخر من سور القرآن الكريم، وهي: قصّة أصحاب الكهف، وقصّة نبي الله موسى مع الخضر عليهما السلام، وقصّة الملك فاتح الآفاق ذي القرنين. فهي قصص يتيمة وردت لمرة واحدة في كل القرآن. وليس بسط هذه القصص من مقصودنا في هذا البحث، ولكنّا نريد أن نكشف بعون الله تعالى عن شيء من هذا السرّ، الذي لأجله خصّ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السورة دون غيرها من السور بهذه الميزات، والتي نراها مرتبطة بموقع السورة من جهة، وبالتحام آياتها وكلماتها من جهة أخرى.
فمن تأمّل هذه السورة وقرأها بعين اليقين، وجد أن سياقها واحد، وأن موضوعاتها على ما يبدو من اختلاف ظاهر بينها إنما تدور على محور واحد، هو محور الإعتقاد والعقيدة، وتصحيح القيم والمعايير والموازين وفق قيم هذه العقيدة. ثم إن القصص الواردة فيها تحدّثت عن كثير من العطايا الربانية التي يؤتيها الله من يشاء من عباده، نذكر منها: عطاء الإيمان متمثّلاً في قصة فتية الكهف الذين تحدّوا الجاهلية جمعاء، وخرجوا عليها غير آسفين على ما يفوتون ولا آبهين بما يلاقون، ثم آووا إلى الكهف، ?فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً?(2).(/1)
ومنها عطاء العلوم والفتوح الغيبية متمثّلاً في قصة نبي الله موسى عليه السلام وفتاه مع الخضر، الذي آتاه الله من العلوم التي لا تُحصّل بفكر ولا بإعمال نظر، وإنما مصدرها روح قدسيّة ونفس زكيّة وصلت نفسها بحبل الله تعالى، ?فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً?(3). ومنها أيضًا عطاء القوة المادية متمثّلاً في قصة ذي القرنين، الذي آتاه الله تعالى من قوة مادية استظهر بها لنصرة المستضعفين وحرب العالين المفسدين في الأرض، ?إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً?(4).
ثم إن هذه المعاني لم ترد مجرّدة، بل إن أوجه المناسبة الكامنة بينها كثيرة، والعلاقات الرابطة بينها لهي من الخوارق التي توحي إلى دلالة مباشرة على ما ورد في الأحاديث التي ذكرناها آنفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما أن هذه السورة الجليلة تفرّدت دون غيرها من السور بإيراد هذه القصص العجيبة، فهي كذلك تفرّدت أيضًا من دون سائر سور القرآن بجملة خصائص ومجموعة مزايا، على رأسها ما يشبه أن يكون كرامة قرآنية عجيبة تدلّ على عظمتها. كيف؟
عند التمعّن في موقع سورة الكهف من القرآن، نجد أولاً أنها تقارب أن تنتصف القرآن من ناحية صفحاته. ثم نلاحظ أن الجزء الخامس عشر انتهى فيها بالآية (74)، ليبتديء الجزء السادس عشر في الآية (75) من السورة نفسها، وعليه فقد انتصفت فيها أيضًا أجزاء القرآن الثلاثون. ثم نجد فيها أنه بحرف "النون" في قوله تعالى ?نُّكْراً? من الآية (74): ?فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً? قد انتصف عدد حروف القرآن، ليكون حرف الـ"الكاف" من الكلمة نفسها هو بداية النصف الثاني من حروف القرآن(5). ثم نجد أيضًا أن عدد الآيات التي روت لنا القصص اليتيمة الثلاث يساوي بالضبط (57) آية كريمة(6)، وهو ما يعادل نصف سور القرآن.
ثم نجد أن هذه السورة الكريمة توسّطت أيضًا السور الخمس التي افتتحت بثناء الله تعالى على نفسه وذاته الكريمة بقوله سبحانه: ((الحمد لله))، وهي سور: الفاتحة (1)، الأنعام (6)، الكهف (18)، سبأ (34)، وفاطر (35). ثم إن إسمها من بعد ذلك ومن قبل سورة الكهف، والكهف يقع في قلب الجبل، فحريّ بها أن تقع إذن في قلب القرآن لأنها سورة الكهف.
فهذه المناسبات الجليّة تشير إلى دلالات لطيفة، اتخذت منها سورة الكهف موضعًا يتّصف بالـ"الوسطيّة" في كثير من الجوانب العددية. والعلّة من ذلك، والله أعلم، أن الوسط بطبيعة الحال دائمًا محميّ الأطراف ومحفوظ. لأنه يشكّل المنزل الأوقى والموضع الأقوى من حيث أنه محروس ومحميّ بما حوله، فهو يمثّل الأمان والبعد عن المخاطر، في حين أن الأطراف هي التي تتعرّض عادة للخطر والفساد. وفي هذا قال الشاعر:
كانت هي الوسطَ المحميَ فاكتنفت بها الحوادث حتى أصبحت طرفًا
فالوسط يشير دائمًا إلى الأمن والإستقرار ويشكّل في الوقت نفسه مركز القوة. فأشعة الشمس مثلاً لا تكون أقوى تأثيرًا وإضاءة وحرارة إلا في وسط النهار وفي وسط قبّة السماء، ولا يكون الإنسان في أقوى حالاته إلا في شبابه وهو وسط بين ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة. والوسط يمثّل أيضًا نقطة الوحدة ومركز التلاقي، فقد تتعدّد الأطراف تعدّدًا لا يتناهى ويبقى الوسط واحدًا يمكن لكل الأطراف أن تلتقي عنده، فهو المنتصف وهو المركز. والوسطية تعني أيضًا استقامة المنهج، والبعد عن الميل والإنحراف. فالصراط المستقيم هو الطريق السويّ الواقع وسط الطرق المنحرفة عن القصد، فإذا فرضنا خطوطًا كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين فالخط المستقيم إنما هو الخط الواقع في وسط تلك الخطوط المنحنية، وهو وسطها وأقصرها إلى الهدف.
ومن ثم فإن الوسطية في الإسلام تعني الخيريّة والفضل والتميّز في الأمور المادية والمعنوية، فأفضل حبّات العقد واسطته، ورئيس القوم في الوسط والأتباع من حوله. وقال أحد الحكماء: الفضيلة وسط بين رذيلتين، وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى "وكذلك جعلناكم أمة وسطًا": الوسط هنا الخيار والأجود، كما يقال قريش أوسط العرب نسبًا، أي خيرها، وكان عليه الصلاة والسلام وسطًا في قومه أي أشرفهم نسبًا..(/2)
ولذلك نجد من المعاني التي تمّ ذكرها، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خصّ هذه السورة الكريمة بهذه المزايا والصفات الدالّة على الوسطيّة، كإشارة لطيفة إلى أن من حفظها حُفظ من الدجال، كما أنها محفوظة في وسط القرآن. ونلفت انتباه القاريء إلى أن هذه الإشارة ليست من الهوى والخيال، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى عندما تكلّم عن وسطيّة هذه الأمّة في آية البقرة بقوله عزّ وجلّ: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً?، وجدنا أن رقم هذه الآية في السورة هو (143)، مع العلم أن سورة البقرة تعدّ (286) آية كريمة. فذكر الله تعالى آية الوسط في وسط سورة البقرة.
إذن أن توضع سورة الكهف في هذا المكان أيضًا إشارة إلى ما تقدّم من معاني. واستنادًا إلى ما ذكرنا من عطايا الإيمان فيما سبق، تكون هذه السورة الكريمة بمثابة عصمة وحفظ من كل دجل الدجاجلة، وليس من دجل الدجّال الأكبر وحده. بل من كل تدجيل المدنيات والحضارات والثقافات والكذبة من رؤوس الشرّ في هذه البشرية، لأن دجل الدجاجلة جميعًا يستغلّ إما ضعف العقل أو ضعف الإيمان أو ضعف الإرادة أو الضعف المادي. أما من كان قويًا في عقله وإيمانه ومتدرّعًا في أسباب النصر، فأنّى أن يكون للدجاجلة عليه سبيل؟ فكأن القرآن عرض لنا هذه العطايا في هذه القصص لكي يدلّ على أن من تحفّظ بها، فقد عُصم وحُفظ من كل أشكال الدجل بشكل عام، ومن الدجّال الأكبر بشكل خاص.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) إلا ابن ماجة.
(2) سورة الكهف: 18/10.
(3) سورة الكهف: 18/65.
(4) سورة الكهف: 18/84.
(5) القرآن العظيم له أنصاف باعتبارات، فنصفه بالحروف "النون" من ?نُّكْراً?، والـ"الكاف" من النصف الثاني. ونصفه بالكلمات الدال من قوله ?والجلود? في سورة الحج، وقوله: ?ولهم مقامع? من النصف الثاني. ونصفه بالآيات ?يأفكون? من سورة الشعراء، وقوله ?فألقي السحرة? من النصف الثاني. ونصفه على عداد السور آخر الحديد، والمجادلة من النصف الثاني. انظر: الإتقان للسيوطي، 1/190.
(6) قصة أصحاب الكهف في (18) آية، قصة موسى والخضر عليهما السلام في (23) آية، وقصة ذي القرنين في (16) آية.
http://www.al-i3jaz.com/WordLetterMath_sd005.html(/3)
هنيئا يا ولى الله
قال النبي صلى الله عليه وسلم ' إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشئ أحب إلى مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه ولئن إستعاذني لأعيذنه ' رواه البخاري .
من المعلوم أيها الأحبة أن من أراد أن ينال إعجاب معلمه في دراسته أدى ما عليه من واجبات وذاكر المطلوب منه من دروس....ولكن لا يستوي هذا الشخص مع من يقوم بتحضير ما سيأخذه في المستقبل ويبحث عن المواضيع المتعلقة بالدرس ويقوم بقرائتها لكي يوسع مداركه فهذا بالتأكيد سوف تكون مكانته أقرب عند المعلم.
فهكذا الأمر مع الله تبارك وتعالى_ولله المثل الأعلى_ فأنت لن تنال رضا الله إلا إذا أديت ما عليك من الفرائض أولا , ولكن إذا أردت أن ترتقي في درجات العبودية من منزلة المحب لله إلى منزلة المحبوب من الله وتكون من أوليائه الصالحين فعليك بالنوافل كما أخبرك المولى عز وجل .
ولك أن تتخيل أخي الحبيب كيف سيكون حالك إذا أصبحت من أولياء الله ........
كيف سيكون حالك وقد أخذ الله العهد على نفسه أن يعادي ويحارب أعداءك .
بل كيف سيكون حالك حين تكون جوارحك كلها لله وبالله عندها لا تسمع إلا ما يحب الله أن يسمعه ولا ترى إلا كل طيب يحب الله أن يراه وكذلك لا تمشي إلا إلى مكان يحبه الله ويرضاه فهذه معية الله عز وجل لأوليائه في الدنيا قبل الأخرة .
ولذلك يقول الله تعالى: 'ولئن سألني لأعطينه ولئن إستعاذني لأعيذنه' فهذه الصلة المتينة بينك وبين الله عز وجل تجعل دعاءك يستجاب في التو واللحظة كما كان يحدث مع الصالحين ممن كانوا قبلك .منهم على سبيل المثال سعيد بن زيد حين نازعته امرأة في أرض له فادعت أنه أخذ منها أرضها فقال 'اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها واقتلها في أرضها' فعميت وبينما هي ذات ليلة تمشي في أرضها إذ وقعت في بئر فيها فماتت.
ومنهم سعد بن أبي وقاص الذي سمع رجلا يشتم عليا فدعا عليه فما برح من مكانه حتى جاء بعير فخبطه بيديه ورجليه حتى قتله
وكان رجل من الخوارج يأتي إلى مجلس الحسن البصري فيؤذيهم فلما زاد أذاه قال الحسن 'اللهم قد علمت أذاه لنا فاكفناه بما شئت' فخر الرجل من قامته فما حمل إلى أهله إلا ميتا.
والأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى ولا يتسع المقال لذكرها الآن ولكن الشاهد أن هؤلاء الرجال كان الله عز وجل يحبهم لأنهم كانوا من أوليائه نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا.
وقبل أن نختم نذكر لك أخي جملة من النوافل التي يستحب للمسلم أن يصليها في اليوم والليلة حتى يدخل تحت هذا الحديث:
1- صلاة إثنتي عشرة ركعة: وهي التي يسميها العلماء [السنن الرواتب] وهي أربع ركعات قبل الظهر واثنان بعده وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر , ولك أيضا بيت في الجنة بإذن الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم 'من صلى في يوم وليلة اثنتي عشرة ركعة بني له بهن بيت في الجنة'.
2- صلاة الضحى: يقول النبي صلى الله عليه وسلم 'يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة , فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى'.
3- صلاة الوتر: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم 'إن الله وتر يحب الوتر' وقال أيضا 'إجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا'.
وهكذا أيها الأخ الكريم جملة من النوافل في الصلاة تجعلك من أولياء الله إن واظبت عليها بإذن الله فاحرص على أن تجتهد قدر الإمكان في تحصيلها فالأجر عظيم والعاقبة للمتقين.
وإلى حين اللقاء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/1)
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق
الحمد لله الَّذي أقام في أزمنة الفترات من يكون ببيان سنن المرسلين كفيلا، واختصَّ هذه الأمَّةَ بأنَّهُ لا تزال فيها طائفةٌ على الحقِّ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتَّى يأتي أمره، ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلا، يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بنور الله أهل العمى ويحيون بكتابه الموتى.
والصَّلاةُ والسَّلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معلِّم الخير، وعلى آله وصحبهِ، متَّبعي الخير.
أمَّا بعدُ:
فقد قال الله - تعالى -في محكم التَّنزيل: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
قال ابنُ كثير (2/ 460) - رحمه الله - تعالى-: (فالهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع ودين الحق هي الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة)
وقال (4/209): (فالهدى هو العلم النافع ودين الحق هو العمل الصالح)
قال ابن حِبَّانَ - رحمه الله - تعالى- في كتابه المجروحينَ (12) عند حديث النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (يتقاربُ الزَّمانُ، وينقصُ العلمُ، وتظهرُ الفِتَنُ، ويكثرُ الهرجُ. قيل يا رسولَ الله: أَيْمَ هو؟ قال: القتلَ القتلَ)
: (في هذا الخبرِ كالدَّليلِ على أنَّ ما لم ينقصْ من العلمِ ليس بعلمِ الدِّينِ في الحقيقةِ إذ أخبرَ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنَّ العلمَ ينقصُ عند تقاربِ الزَّمانِ.
وفيه دليلٌ على أنَّ ضِدَّ العلمِ يزيدُ وكلُّ شيءٍ زاد مِمَّا لم يكنْ مَرْجِعُهُ إلى الكتاب والسُّنَّةِ؛ فهو ضِدُّ العلمِ)
قال شيخُ الإسلامِ ابن ُتيميَّةَ في الفتاوى(17/41): (لمَّا فُتِحتِ الإسكندرية وُجِدَ فيها كتبٌ كثيرةٌ من كتب الرُّومِ، كتبوا فيها إلى قال عمر-رضيَ اللهُ عنهُ- فأمر بها أن تحرقَ، وقال: حسبنا كتابُ اللهِ)
قال الغزَّاليُّ في المستصفى (3): (ثُمَّ الْعُلُومُ ثَلاثَةٌ: عَقْلِيٌّ مَحْضٌ لا يَحُثُّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ وَلا يَنْدُبُ إلَيْهِ كَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ وَالنُّجُومِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْعُلُومِ فَهِيَ بَيْنَ ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ لا ثقَةَ بِهَا، وَإِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ; وَبَيْنَ عُلُومٍ صَادِقَةٍ لا مَنْفَعَةَ لَهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَلَيْسَتْ الْمَنْفَعَةُ فِي الشَّهَوَاتِ الْحَاضِرَةِ وَالنِّعَمِ الْفَاخِرَةِ فَإِنَّهَا فَانِيَةٌ دَائِرَةٌ، بَلْ النَّفْعُ ثَوَابُ دَارِ الْآخِرَةِ)
قال شيخُ الإسلامِ ابن ُتيميَّةَ في الفتاوى(27/390): (لكن المقصود أن يُعرفَ أنَّ الصَّحابةَ خيرُ القرونِ وأفضلُ الخلقِ بعد الأنبياء؛ فما ظهر فيمن بعدهم مِمَّا يُظنُّ أنَّها فضيلةٌ للمتأخِّرينَ، ولم تكن فيهم فإنَّها من الشَّيطانِ، وهي نقيصةٌ لا فضيلةٌ، سواءٌ كانت من جنسِ العلوم أو من جنس العبادات أو من جنس الخوارق والآيات أو من جنس السِّيَاسةِ والملك؛ بل خير النَّاس بعدهم أتْبَعُهم لهم)
سبب عدم قَبُوْلِ الحقِّ:
قال ابن القيِّمِ - رحمه الله - تعالى- في إغاثَةِ اللَّهفانِ (1/55): (إنَّ العبدَ إذا اعتادَ سماعَ الباطلِ وقَبُوْلَهُ أكسبه ذلك تحريفًا للحقِّ عن مواضعِهِ، فإنَّهُ إذا قَبِلَ الباطِلَ أحبَّهُ ورَضِيَهُ؛ فإذا جاء الحقُّ بِخِلاَفِهِ ردَّهُ وكذَّبَهُ إن قَدِرَ على ذلكَ، وإلاَّ حرَّفَهُ)
وقال - رحمه الله - تعالى- في مفتاحِ دار السَّعَادةِ (2/122): (فإذا امتلأ القلب بالشُّغلِ بالمخلوق، والعلوم الَّتي لا تنفعُ لم يبقَ فيه موضعٌ للشُّغلِ بالله ومعرفةِ أسمائِهِ، وصفاتهِ، وأحكامهِ.
وسرُّ ذلكَ إن إصغاءَ القلبِ كإصغاءِ الأُذُنِ؛ فإذا أصغى إلى غيرِ حديثِ اللهِ لم يبقَ فيهِ إصغاءٌ ولا فهمٌ لحديثهِ؛ كم إذا مال لغيرِ محبَّةِ الله لم يبقَ فيه ميلٌ إلى محبَّتِهِ. )
والله أعلم، وصلَّى الله على نبينا وسلَّمَ.
29-3-1426 هـ
http://www.islamhouse.com المصدر:(/1)
هو الذي خلقكم من نفس واحدة ... ... ...
تفسير قوله تعالى : (هو الذي خلقكم من نفس واحدة...) وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية
قال تعالى :
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (لأعراف:189-190).
لقد وردت قصة تبين أن المراد بالآيات الآنفة الذكر آدم وحواء وأنهما وقعا في الشرك .
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولادا فيعبدهم لله ويسميه : عبدالله وعبيدالله ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاها إبليس وآدم فقال : إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش قال : فولدت له رجلا فسماه " عبد الحارث ففيه أنزل الله ، يقول الله : " هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ " إلى قوله : " جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَآ ءَاتَاهُمَا … إلى آخر الآية .
وهذا الأثر ورد بعدة ألفاظ وجميع هذه الآثار في أسانيدها مقال ، إلى جانب أنه مأخوذ من أهل الكتاب ، وابن عباس يروي عن أهل الكتاب كما هو معلوم .
قال ابن كثير في تفسيره (3/636) : وكأنه - والله أعلم - مأخوذ من أهل الكتاب ، فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه ابن أبي حاتم .ا.هـ.
وقال أيضا : وهذه الآثار يظهر عليها - والله أعلم - أنها من لآثار أهل الكتاب … ا.هـ.
وورد حديث عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبدالحارث فعاش . وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره .
رواه أحمد (5/11) والترمذي (5/250ح3077) والحاكم (2/545) ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عمر بن إبراهيم عن قتادة . ورواه بعضهم عن عبدالصمد ولم يرفعه عمر بن إبراهيم شيخ بصري .
وقد أعل ابن كثير في تفسيره (3/635) هذا الحديث بثلاث علل فقال :
أحدها : أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري ، وقد وثقه ابن معين ولكن قال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به . ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعا ، فالله أعلم
الثاني : أنه قد روي من قول سمرة نفسه ، ليس مرفوعا ….
الثالث : أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا ، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه . ا.هـ. إلى جانب ما ذكر الحافظ ابن كثير فإن عمر بن إبراهيم يرويه عن قتادة وروايته عن قتادة منكرة ، قال الإمام أحمد : وهو يروي عن قتادة أحاديث مناكير يخالف .
وقال ابن عدي : يروي عن قتادة أشياء لا يوافق عليها وحديث خاصة عن قتادة مضطرب .
وقد حكم الحافظ الذهبي على هذا الحديث بالنكارة كما في ترجمة عمر في الميزان (3/179) فقال : وهو حديث منكر كما ترى .
والحسن البصري قد جاء عنه بأسانيد صحيحة خلاف ما نقله عن سمرة كما ذكر ذلك ابن كثير عقب الآثار التي رواها عنه فقال : ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره ولاسيما مع تقواه وورعه ، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب ، من آمن منهم مثل : كعب أو وهب بن منبه وغيرهما … إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع .ا.هـ.
وممن أبطل الفصة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في القول المفيد شرح كتاب التوحيد (3/67) فقال - رحمه الله تعالى - :
وهذه القصة باطلة من وجوه :
الوجه الأول : أنه ليس في ذلك خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من الأخبار التي لا تتلقى إلا بالوحي ، وقد قال ابن حزم عن هذه القصة : إنها رواية خرافة مكذوبة موضوعة .
الوجه الثاني : أنه لو كانت القصة في آدم وحواء لكان حالهما إما أن يتوبا من الشرك أو يموتا عليه ، فإن قلنا ماتا عليه كان ذلك أعظم من قول الزنادقة :
إذا ما ذكرنا آدما وفعاله **** وتزويجه بنتيه بابنيه بالخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر **** وأن جميع الناس من عنصر الزنا
فمن جوز موت أحد من الأنبياء على الشرك فقد أعظم الفرية ، وإن كان تابا من الشرك فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أن يذكر خطأهما ، ولا يذكر توبتهما منه ، فيمتنع غاية الامتناع أن يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء وقد تابا ولم يذكر توبتهما ، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم منها .
الوجه الثالث : أن الأنبياء معصومون من الشرك باتفاق العلماء .
الوجه الرابع : أنه ثبت من حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة فيعتذر بأكله الشجرة وهو معصية ، ولو وقع منه الشرك لكان اعتذاره به أعظم وأولى وأحرى .(/1)
الوجه الخامس : أن في هذه القصة أن الشيطان جاء إليهما وقال : أنا صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة . وهذا لا يقوله من يريد الإغواء ، بل هذا وسيلة إلى رد كلامه ، فيأتي بشيء يقرب من قبول قوله ، فإذا قال : أنا صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة . سيعلمان علم اليقين أنه عذر لهما فلا يتقبلان منه صرفا ولا عدلا .
الوجه السادس : أن في قوله في هذه القصة : لأجعلن له قرني إيل . إما أن يصدقا أن ذلك ممكن في حقه وهذ شرك في الربوبية لأنه لا خالق إلا الله أو لا يصدقا فلا يمكن أن يقبلا قوله وهما يعلمان أن ذلك غير ممكن في حقه .
الوجه السابع : قوله تعالى : " فَتَعَالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ " بضمير الجمع ولو كان آدم وحواء لقال : عما يشركان .
فهذه الوجوه تدل على أن هذه القصة باطلة من أساسها ، وأنه لا يجوز أن يعتقد في آدم وحواء أن يقع منهما شرك بأي حال من الأحوال ، والأنبياء منزهون عن الشرك مبرؤن منه باتفاق أهل الهلم ، وعلى هذا يكون تفسير الآية كما أسلفنا أنها عائدة إلى بني آدم الذين أشركوا شركا حقيقيا فإن منهم مشركا ومنهم موحدا.ا.هـ.
فالخلاصة أن التفسير الصحيح لهذه الآية هو ما ذكره الحسن البصري والذي قال عنه ابن كثير : وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية .
وقال الشيخ محمد العثيمين رحمه الله : لكن الصحيح أن الحسن يرحمه الله قال : إن المراد بالآية غير آدم وحواء ، وأن المراد بها المشركون من بني آدم .ا.هـ.
والله أعلم . ... ...
... ...(/2)
هوس البدعة؟!
طارق الحسين ـ إسلاميات
ما أكثر البدع حسب اعتقاد المغرمين بتبديع الناس، وفي نظرهم معظم قطاعات الصحوة لا تخلو من بدعة ضلالة.
فالسبحة بدعة، والأهازيج الإسلامية بدعة، وفقه الواقع بدعة، والدعاء غير المنصوص عليه بدعة، وقفاز المرأة بدعة، ورفع اليدين بعد الصلاة بالدعاء بدعة، وهناك ما لا نهاية له من هذا الهوس، إن هذه الظاهرة ولا شك تنطلق من مرض نفسي أو سقم عقلي.
ويزداد شعورنا هذا حين نجد مثل هذه المبتدعات منصوصاً عليها في أحاديث بعضها في الصحيحين،وبعضها في السنن وأقلها درجة لا ينزل عن رتبة الحسن أو يكون غير مجمع على ضعفه.
ومما يدعو إلى الاستغراب أن هؤلاء متيّمون بالدليل العدمي، فدليلهم على التبديع في أحيان أخرى هو عدم الدليل، فإذا قال لك عن فعل من الأفعال بدعة فقل له : ما الدليل ؟ فسيقول لك : لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوه، فإذا حاججتهم بجمع القرآن ومضاعفة بعض الحدود وفتح الدواوين وصلاة التراويح، قالوا إنها سنة الخلفاء الراشدين وأمرنا باتباعها، فإذا قلت فما قولك في إنكار الصحابة لجمع القرآن في بداية الأمر؟ وإنكارهم على عمر في مسألة إبقاء أراضي الخراج عند أصحابها بدلاً عن توزيعها على الفاتحين والاستفادة من فيئها؟ وما قولك في إنكار الصحابة على عثمان إتمام الصلاة بمنى في الحج؟ هل كان الصحابة يجهلون قوله عليه الصلاة والسلام : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي)؟ ولماذا وقف جمع من الصحابة ضد علي مع معاوية وهو الخليفة المبايع؟
فإن قال هذه اجتهادات لم يبدّعوا بعضهم بعضاً من أجلها، قلنا هذا ما نريد منك الآن، فإما أن تحكم بالبدعة على الصحابة والتابعين وإما أن تقرّ بجواز الاجتهاد في فهم مقاصد الدين، وما لم يرد فيه نص، وبجواز الاجتهاد في فهم مقاصد النصوص وأسرارها فيما فيه نص.
وما ذكرته الآن من حوار مفترض يجوز على المعتدلين منهم، أما الغلاة فإنهم يرون الأذان الأول يوم الجمعة بدعة لم ترد ولا يعترفون بأن الخلفاء الراشدين هم الأربعة بل يقولون لا يوجد دليل ينص على أسمائهم، ويرون المذاهب الأربعة مبتدعة ،كما قال أحدهم: «إن كل هذه المذاهب ضلالات والحق فيما قال الله وقال الرسول». ومع الأسف فهم من المعروفين بالعلم والتدريس والتأليف، وكلمات أخرى يقولونها في أئمة الدين والمذاهب، تقشعرّ منها الجلود.
ويذكر الجميع كيف ظهر منذ مدة من يقول بأن وسائل الدعوة توقيفية، وأي وسيلة ليس عليها دليل فهي بدعة، ثم لما علموا تورّطهم في هذه المقولة، ورأوا استهزاء الناس بعقولهم خجلوا من أنفسهم.
والذين حرموا أتباع المذاهب الأربعة خاضوا في الأدلة بأنفسهم فغرقوا في بحار العلم ولما يخوضوا غمراته بعد .
ولقد كان أكثر الصحابة يتورّعون عن هذه الكلمة، ولا يطلقونها بالمعنى الدارج بيننا إلا في مواضع مخصوصة، والروايات التي تروى عنهم في هذا يجب أن تؤخذ بحذر من ناحية سندها أو من ناحية إقرار الصحابة الآخرين لها، لأن عدداً من الصحابة رأوا بدعة ما ليس ببدعة لعدم بلوغ الدليل إليهم فلما عرّفهم الصحابة بذلك رجعوا، أو من ناحية مخالفة النصوص فقد يقول الصحابي بقول يصل إلينا خلافه عن طريق صحابي آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا إذا صدر عن الصحابة، فما بالك فيما يصدر عن الأئمة والعلماء الذين جاءوا من بعدهم رضي الله عنهم.
فعندما يحكم أحد الأئمة ببدعة قول أو فعل فليس من الضروري أن يكون كلامه حقاً وصواباً فهناك عدد من الأئمة والرؤى والأقوال تتعدد في الأمر الواحد، أذكر أن بعض الأئمة والعلماء رحمهم الله في مواضع كثيرة من الفتاوى وغيرها يحكمون على أمر ببدعيته فيقولون لم يرد ذلك في السنة ولا ورد عن الصحابة وقد ورد في السنة وورد عن الصحابة في أكثر من دليل ومرة يقول أحدهم اتفق أهل العلم ولم يتفقوا، ومرة ينفي صحة شيء ويقرّه في مكان آخر ويقول به، ويحكم بالتحريم في شيء يحكم بحلّه في موضع آخر، وغيره مما يحدث من العلماء ممن يفوتهم دليل أو تخفى عليهم سنة، وهذا يدعونا إلى الحذر من الاندفاع في تبديع الخلق أو نفي الحق عنهم بأقوال لم تمرّ على التحقيق والتمحيص أو رجع عنها أصحابها.
وقد يذكّرنا ذلك بقصة الإمام البخاري حين قال: «لفظي بالقرآن مخلوق» فطرد وأوذي وقد كان الحق معه والناس يرونه على بدعة مغلّظة إن القدح في عقائد الناس وقذفهم بالبدعية أشد عند الله من رميهم بالزنى والفواحش كلها، لأن البدعة عند الله أغلظ من كبائر الذنوب.
سوف أضع ضوابط لما ليس ببدعة لنخرج بتعريف عام لكل ما هو بدعة.
1- ما ورد فيه نص صحيح أو ضعيف .(/1)
ولا غرابة أن يتعجب القارئ من هذا الضابط ويتساءل: وهل السنة إلا ما ورد فيه نص؟ وهذا صحيح ولكن حين نتأمل في المهووسين بتبديع الناس وننظر في أقوالهم نجد أنهم لا يخشون من إطلاق البدعة على من يملكون مرجعية ونصوصاً فيما ذهبوا إليه، والأدلة على ذلك كثيرة وعندي مجموعة فتاوى من هنا وهناك تحكم ببدعة عدد من الأفعال بعضها في الصحيحين وبعضها في غير الصحيحين بأسانيد صحيحة وبعد أن تأملت في الأمر وجدت أن الدافع إلى ذلك في غالبه الهوى وإن تذرعوا بكل ذريعة ووجدتهم يكيلون السنة بموازين كثيرة ومن يدعو إلى اتباع الكتاب والسنة يجب ألا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، من الأمثلة على ذلك ما هو في الصحيحين وغيرهما.
أما الحديث الضعيف فهو برغم ضعفه لا يجوز تبديع من عمل به لعدة أسباب:
أ - احتمال ثبوته بوجه من الوجوه.
ب- أن العمل بالضعيف مستحب عند بعض الأئمة احتياطاً حتى لو اشتدّ ضعفه.
ج- إثبات الأئمة هذه الأحاديث بأسانيدهم فما من كتاب إلا فيه ضعيف عدا الصحيحين والموطأ على خلاف في الموطأ.
د -دخول الضعيف في مسائل الاجتهاد وليس في المحدثات.
2- ما جاز فيه وجه من وجوه الاجتهاد إما بالفهم لما نص عليه أو بالاستنباط .
فكل دليل ظني في ثبوته أو دلالته أو ما لم يرد فيه دليل جاز الاجتهاد فيه إلا ما ورد التحريم من الخوض فيه أو التعرض إليه، ولك أن تعجب ممن يرى اجتهاده حقاً واجتهاد غيره جهلاً وضلالاً.
3-ما ثبت عن أحد الصحابة أو بعضهم فعله أو قوله .
لأن الصحابة كلهم ثقات عدول لا يجوز إطلاق البدعة على أفعالهم لاقترابهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم من الفهم ما لا تدركه مفاهيمنا، وثبت عندهم ما لم يصلنا، نعم قد يخالفه صحابة آخرون ولكن ما دام الصحابي متمسكاً برأيه ولم يرجع عنه فليس لأحد أن يعتبر فعله خارجاً عن السنة ما لم يرد فيه دليل على تخطئة صاحب هذا الفعل كحديث الفئة الباغية وحديث إسرائيل قد يكون فعل الصحابي مرجوحاً ولكن وسمه بالبدعة أو من يفعل فعله جريمة وشناعة، اشتهر بها الرافضة والخوارج.
4- أن يكون العمل منتسباً إلى أصل من الكتاب أو السنة أو متفرعاً عنهما أو نابعاً منهما أو منطلقاً من مقاصدهما.
من هذا المنطق رأينا الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ينطلقون دون حرج في ذلك وهو يقرّهم على ذلك كالصحابي الذي حمد الله بعد الرفع من الركوع بثناء جاء به من عنده منطلقاً من أصل الحمد في هذا الموضع من الصلاة فامتدح الرسول فعله وأخبره بأن الملائكة نزلت لترفعها، وكما فعل بلال رضي الله عنه يوم كان يصلي لكل وضوء ركعتين فسمع الرسول خشخشة نعليه في الجنة وأمثلة لا تحصى في هذا الباب، يكفينا فعل أبي بكر رضي الله عنه في جمع القرآن، وفعل عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح .
5- ألا يكون العمل مضافاً إلى عبادة توقيفية خاصة .
كالذي يزيد شوطاً في الطواف تعبداً أو يرمي الجمار أكثر من سبع تعبداً أو يترك السحور تعبداً أو يأتي في الصلاة بأفعال وأقوال زيادة على ما ورد وما هو توقيفي.
بعد هذا كله نستطيع أن نقول:
البدعة : هي كل عمل قلبي أو بدني أحدث على سبيل التعبد أو أضيف إلى عبادة توقيفية لا ينتسب إلى أصل من الكتاب والسنة الصحيحة أو الضعيفة أو عمل الصحابة ولم يكن له وجه جائز من وجوه الاجتهاد .
ويجب أن ننبه على كلمة عبادة لأن ما لا يدخل في العبادة لا يدخل في البدعة وهذه إشكالية عند المهووسين بالتبديع يضعون العادات في مصاف العبادات ثم يدخلونها في أبواب البدعة، ويحكمون على الخلق بالبدعة والضلال.
إن الصحوة الإسلامية في هذا العصر بحاجة ضرورية إلى تضييق معنى البدعة والاقتصار على الكتاب والسنة ومفهوم الصحابة - رضي الله عنهم - وليس التبديع بأقوال كل من هبّ ودبّ، لأن كثيراً من معالم البدعة التي نسمع عنها ونجدها ما هي إلا قضايا اجتهادية جاءت من رؤى وآراء مختلفة تستحق المراجعة والتمحيص؛ لأن العلماء الذين جاءوا بها لم يجمعوا على كثير منها، ولأن كلاً منهم ينطلق من قواعد تختلف عن الآخر، وكل عالم له تصور عن البدعة فهذا مضيق في منهج البدعة وذاك موسع وهذا متسرع متشدّد وذاك متأن معتدل وغيره بطيء متساهل.
من أجل ذلك فليس كل من حكم على اعتقاد أو عمل بالبدعة نجعله حجة على الخلق، ولا يصح أن نجعل عالماً من العلماء أو إماماً من الأئمة ميزاناً لباقي الأمة كلها.
ومن أخطاء الصحوة أن كل قطاع منها يتخذ إماماً من الأئمة ليقيس الأمة كلها عليه ومن خرج عنه فهو على خطر عظيم، فالإمام الغزالي له أتباع، والإمام ابن رشد له أتباع، والإمام ابن حزم له أتباع، والإمام الجيلاني له أتباع، والإمام ابن تيمية له أتباع، والإمام ابن حجر له أتباع، وغير هؤلاء لهم أتباع رضي الله عنهم جميعاً.(/2)
الحل الوحيد هو أن يقاس كل هؤلاء على الكتاب والسنة فإن اختلفت أفهامنا للكتاب والسنة فلنرجع إلى السواد الأعظم وما أجمعت عليه الأمة في القرون الثلاثة فإن تعذّر الإجماع والسواد الأعظم، فليس لإمام فضل على إمام ويدخل الجميع في باب الاجتهاد المغفور والمأجور.
******************(/3)
هي النجاة أدركيها أو ذريها فاغرقي !
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
(1)
يا أمّة ما برحتْ : في خدر لم تُفق
أيُّ ردىً مُحَقّقِ ... ... أيُّ جُنُونٍ مُوبقِ
أيُّ هلاكٍ مُحْدقِ ... ... أيُّ ضياعٍ تائهٍ
أيُ فتىً لم يَغرق ... ... يا ويحهم قد غَرقوا
وفتنةٍ لمْ تَرْفقِ ... ... في شهوةٍ مَحْمومةٍ
من مجرم و من شقي ... ... ونزوةٍ عارمةٍ
تسدّ وجه الأفق ... ... وظلمة زاحفةٍ
* ... * ... *
في خَدَرٍ لم تُفق ... ... يا أمَّةً ما برحتْ
في حُلُمٍ مُنَمَّق ... ... وسَكْرةٍ غَارقةٍ
في لهوها المُمزّق ... ... وغفوةٍ قاتلةٍ
ورايةٍ لم تَصدُق ... ... على شعارٍ كاذبٍ
ومُدَّع مُرتزق ... ... وتاجرٍ مُضلِّل
وخائنٍ وأحْمق ... ... وفاجرٍ وغادرٍ
كُلّ فتىً مُدقِّق ... ... يَحار في أُصولهم
على رجالٍ ترتقي ... ... وكُلُّ يوم شُبْهة
قِناعه المزَوَّق ... ... فمن يهوديٍّ على
خلْف هوىً مُفرق ... ... ومن صليبيٍّ جرى
يُنْجده في المأزق ... ... يظنّ أن الأجنبيْ
لدينه لم يَفْسُق ... ... لو كان فيه عزّة
من لهب مُحرق ... ... وما رمى في داره
* ... * ... *
مَصلحةٍ ومِرْفَق ... ... واختلط النَّاسُ على
ــن جاهلٍ أو مُتَّقي ... ... فلم تَعُدْ تَميزُ بيـ
أو دَعْوة من خُلُق ... ... لا خُلُق يَجْمعهم
موعظةٌ من مُشْفِق ... ... ولا هُدى الدِّين ولا
لعَاعةٍ أو رَمَق ... ... تزاحمَ النَّاس على
هاجت و لمَّا تُغْلق ... ... كمْ فَتَحُوا من فِتنٍ
فَتْقاً ولَمَّا يُرْتَق ... ... كمْ فَتقُوا في دارهمْ
ــبٍ واحدٍ ومَوْثِق ... ... كانوا على يَدٍ وقَلْـ
ـيان لم تُشقّق ... ... وأمّة مَرْصُوصةِ البُنْـ
ـنّة ضَمَّ المرفق ... ... يضّمها القرآنُ والسُّـ
إلى صباحٍ مُشْرِق ... ... يُنير من دُرُوبِها
(2)
يا فرقاً يميزها الشيطان دون الفرق
لَنا بشتَّى الفِرقِ
كَمْ عَصَبيّةٍ رَمَتْ
لنا بشتّى الطُّرق
وجاهليّةٍ أتَتْ
إلى هَوى مُسْتَرْزق
فمن هَوى قوميّةٍ
يهيج حقد المملق
إلى اشتراكيّ جرى
يسعى ليوم مُوْرِق
مُدّعياً بأنّه
ـرى نَصْله في العُنق
فأفقرَ النَّاس وأجـ
بفتنةٍ لم تٌغلق
وقاديانيٍّ أتّى
ــاس بشرٍّ مُغْرق
ومن بَهائيٍّ رمى النّـ
ــيطانُ دون الفِرق
يا فِرقاً يَميزُها الشّـ
خواطرٍ ومَنْطق
رمى بها الأمّة في
لأجنبيٍّ مُنْفِق
وكّلّها صنيعة
خَتَاله المُلَفِّق
فلمّها الفِرَنْجُ في
" لندن " شرّ المأزق
ما بين " واشنطن " أو
طَغَى بكبرٍ مُرْهَق
وظُلم " باريس " الذي
عدوانه المطوِّق
وكفر " موسكو " لجّ في
من طامعٍ في مشرق
وكلُّ من يَتْبعُهم
على لسانٍ ذَلِق
يَصوغ من فريته
و زُخْرفٍ مُنَمَّق
يَصُوغها من كذبٍ
نما بصدرٍ ضَيّق
يُلامس الحقد الذي
أحنائه من فرق
أو طمعٍ طَواه في
*
*
*
(3)
وغضبة من شرِّه : وصرخة من حمق
وصيحة من نزق
فكمْ ترى من رجل
وثورةً من حنق
وكمْ ترى عِصابةً
من خَمرها المعتق
تَغيب في سَكرتها
من غيّها المنطلق
تهيج في عاصفةٍ
وصرخةٍ من حُمُق
وغضبةٍ من شرِّه
ـغرب أطلّي واخفقي
تقول يا حضارة الـ
ـــرف وكلّ رونق
وأقبلي بكلّ زخـ
مع الهوى وصفّقي
و أقبلي … وغرّدي
ــل غرسة من خُلُق
واقتلعي الدين وكـ
ـأة الجنس … دفْق الشَّبق
وزيّني الظلم … وحمـ
زَهْو الشباب الرَّيق
هات لنا الفتنة في
عفّتها وانطلقي
وجرِّدي المرأة من
يا ثوبها والخرق
وجرَّديها من بقا
على ثنايا الطُّرق
وارمِ بها عاريةً
وكلّ وحشٍ مُطْبق
لكلّ ذئبٍ جائع
نسان فيها واسحقي
ثمّ اقتلي بقيّة إلا
يَلفُظُها كلّ شقي
لم يبق إلا مُضْغةٌ
لِلَهْوه المُمَزَّق
يبصقها …. وينثني
ـكبرى بثوبٍ خَلِق
وغلّفي الجريمة الـ
أو بشعارٍ شيّق
برايةٍ كاذبةٍ
ومأْتمٍ في رَوْنَق
كم عُرْسٍ في مَأْتم
*
*
*
(4)
فهذه حضارة واهية من ورق
ـئي الأرض بظلم مطبق
حضارة الكفر املـ
ـجرح العميق المرهق
بالدّمع .. بالأنّة .. بالـ
تامٍ .. بسجن ضيّق
بالجوع ..بالثكلى بأيـ
ـطيء .. بالأسى .. بالصعق
بالذل … بالموت البـ
باللهب المحلّق
بالدّم في مجزرة
بطفله الممزق
بكلّ بنيان هوى
من غُصص أو حرق
يدفن في أنقاضه
*
*
*
يُلهب حمى السبق
ما قيمة العلم الذي
ومن هوى أو شبق
يلهب من جنونه
شواهقاً في أفق
يبني ويُعلي ما بني
وفيض كنز مغذق
يُنفق فيها عمره
في لحظة من نزق
ثمّ نراه ينثني
كأنّها لم تسمق
يهدمها إلى الثّرى
واهية من ورق
فهذه حضارة
*
*
*
من مجرم لا يتقي
وأيّ فنّ يرتجي
ومنزل منسَّق
على ركوب ليِّنٍ
في حاجة ومرفق
وآلة تخدمه
بصحبة المفرّق
وهاتف يجمعه
عوالم لم تطرق
ووثبة الصاروخ في
ـيه من نعيم مورق
وكل ما قد يشتهيـ
في خدر مطوق
ونزوة تطرحه
*
*
*
(5)
رفاهة في أمة : وأمة في محق
وأمّة في مَحق
رفاهة في أمّة
من كدّه والعرق
فذاك يجني قوته
إليه فوق الطبق
وذاك يجري رزقه
هائجة لم تغلق
وكل يوم فتنة
وطعنة في عنق
رصاصة في كبد
أمنْ بذلٍّ مرهق
قد نزعت من نفسه الـ
ــشك وطول الأرق
وأورثته الخوف والـ
سوى شعار ضيق
حضارة ما حملت
كبعض ثوب خلِق(/1)
حضارة بالية
يصير نهباً لشقي
وكلّ ما تفرزه
واحدة في فرق
وملّة الكفر بها
*
*
*
ة قتل شعب معرق
أقسى جرائم العتا
إبائه المرّوق
وقتل ما في المرء من
وعزِّة من صدق
ومن كرامة الهدى
وصيحة من مُشْفق
ولا ترى من دمعة
لِ وانطوت عن مَلقِ
ماتَتْ مروءات الرجا
*
*
*
(6)
هي النجاة أدركيها : أو ذريها فاغرقي
لظالم أو أحمقِ
يا أُمّتي لا تركني
مع الهوى أو أخْرقِ
لا تركني لجاهلٍ
ـجأي لهُ واستبق
واعتصمي بالله والـ
ــلَّ في حمىً لم يُخْرقِ
من كان في حماه ظـ
دٍ ماكرٍ أو منْ شقي
ومأمن منْ كلِّ عا
ـها أو ذريها فاغرقي
هي النَّجاة أدْركيْـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(/2)
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ....
وتمكين المجتمع الحضاري من البقاء !
( في كل مجتمع يبزغ منه طائفة مؤمنة مخلصة تحمل على عاتقها مهمة الإصلاح ، ذلك الإصلاح العظيم الذي يتناول جميع جوانب الحياة العلمية والعملية ، فهناك الإصلاح الفكري ، وهناك الإصلاح الاقتصادي ، وهناك الإصلاح الأسري والاجتماعي ، وعلى رأس كل هذا الإصلاح يأتي الإصلاح الديني والأخلاقي ، ذلك الإصلاح الذي يعد الثمن الغالي لتحقيق الوعد الإلهي بالبقاء والتمكين ) .
حين يكتب الله لأمة - مسلمة أو كافرة - النهوض ، فإنها تهب عليها رياح الجد والعمل ونكران الذات ، والبعد عن الشهوات ، فإذا بدأ " العد التنازلي " ولاحت علامات التدهور ، فإن الصفات الجادة الجيدة تختفي ، لتحل مكانها صفات الكسل ، وحب الذات والأنانية المفرطة والتواكل وحب إشباع الشهوات الشخصية على حسابا انحلال المجتمع ، حتى ليصبح أداء الواجب من أصعب الأمور ، وتنطلق الشهوات ، ويطرح الإيمان والفكر في زاوية هامشية ...
هكذا يقرر علماء الاجتماع وكتّاب التاريخ ، وما المجتمع اليوناني والروماني بالأمس والغربي اليوم عنا ببعيد ، هذا وهو قد دخلوا الحضارة من أوسع أبوابها ولكن أمراض الحضارة أهلكتهم فبادوا ، فما بالكم بمجتمعات شبه متخلفة حضاريا قد سكرت حتى الثمالة بأمراض الحضارة ، دون أن تسجل توقيعا في سجل التاريخ الحضاري !!
يقول المفكر ( مالك بن نبي ) : إن النهضة تبدأ روحية قوية ، يعمل فيها الكل بدافع ذاتي ، لا يطلب مغنما ولا يطمع في أجر ، ثم يعقب هذه المرحلة مرحلة ثانية ، تفلسف المرحلة الأولى فتنتشر العلوم والمعارف أعظم انتشار ، وفي المرحلة الثالثة والأخيرة ، تهيج الغرائز ، ويصبح هم الإنسان إشباع غرائزة ، عندها تتدهور وتسقط الحضارة ؛؛؛ انتهى !
هكذا الحالة في جميع المجتمعات الإنسانية ، هناك أقطاب تتصارع من أجل كسب أرض الواقع ، قطب يمثل أنصار الإصلاح ، وقطب يمثل أنصار الشهوات ، والتاريخ يخبرنا أن أنصار الشهوات لا يترددون في استخدام أي سلاح ولو غير أخلاقي ضد خصومهم ، كما أن التاريخ أيضا يخبرنا بأن أنصار الإصلاح أحيانا يشوهون عملهم الإصلاحيّ بممارسات سيئة قد تعود على عملهم كله بالويل والخراب .
ومن العجيب أنه على مر التاريخ لم تتم فيه عملية إصلاح حقيقية وناجعة وناجحة كانت تستلهم إصلاحها من الخارج أو تستورد الإصلاح من الغرباء ، بل كانت العمليات الإصلاحية تنبع من الداخل وفي صميم ضمير الأمة وعلى أكتاف أبنائها البررة .
وفي كل مجتمع يبزغ منه طائفة مؤمنة مخلصة تحمل على عاتقها مهمة الإصلاح ، ذلك الإصلاح العظيم الذي يتناول جميع جوانب الحياة العلمية والعملية ، فهناك الإصلاح الفكري ، وهناك الإصلاح الاقتصادي ، وهناك الإصلاح الأسري والاجتماعي ، وعلى رأس كل هذا الإصلاح يأتي الإصلاح الديني والأخلاقي ، ذلك الإصلاح الذي يعد الثمن الغالي لتحقيق الوعد الإلهي بالبقاء والتمكين ، وكانت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي العلامة البارزة لذلك التحقيق ؛ قال الله تعالى : ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) .
وهذا الوعد هو في حقيقته أمر إلهي عظيم ، نزلت به السماء على قلب النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قال الحق عز وجل : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) .
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة فرضها الله عز وجل في محكم التنزيل ، لأنه بهذه الفريضة يبقى المجتمع المسلم مصونا ومحفوظا من الفواحش والمنكرات .
قال الحبيب صلى الله عليه وسلم ؛ في الحديث الصحيح : ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم ) !
( نظام الحسبة ... في ظل الدولة السعودية )
حينما مكن الله للملك عبدالعزيز - رحمه الله - فتح الرياض عام ( 1319هـ) كانت عملية الاحتساب يقوم بها رجال متطوعون احتسابا لوجه الله .
وكان أشهرهم الشيخ عبدالعزيز بن عبداللطيف آل الشيخ - رحمه الله - الذي كان يقود عملية الإصلاح الديني والاجتماعي في الرياض وما حولها .
ولقد علم الملك المؤمن عبدالعزيز آل سعود أهمية هذه الفريضة في حفظ المجتمع المسلم من الجرائم والمنكرات فأصدر أمره بتأسيس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فأمر الملك عبدالعزيز الشيخ عبدالعزيز بن عبداللطيف آل الشيخ بمتابعة أعمال الحسبة ، وزوده برجال يساعدونه في مهمته ، وبذلك انتقل عمله من مرتبة التطوع إلى مرتبة التكليف الرسميّ .
ومن تلك اللحظة المهمة أخذت البلاد ُتعنى بأمر الحسبة من قبل قادتها - وفقهم الله - حتى تطورت الهيئة والحسبة بشكل عظيم وكبير وصدرت الأوامر الملكية المتلاحقة على مر العقود في التمكين لهذا العمل النبيل .(/1)
حتى صدر المرسوم الملكي الكريم رقم ( م/37 وتاريخ 26/10/1400هـ ) المبني على قرار مجلس الوزراء رقم ( 161) وتاريخ 16/9/1400هـ بالموافقة على نظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصيغة التي لا يزال يعمل بها الآن .
ويمكن أن نلخص للقارئ العزيز بعض ما جاء في المرسوم الملكي الكريم ؛ كالتالي :
- الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جهاز مستقل يرتبط مباشرة برئيس مجلس الوزراء .
- يكون الرئيس العام للهيئة بمرتبة وزير .
- ينشأ في كل منطقة هيئة فرعية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
- للرئيس العام تشكيل لجان من الأعضاء والمحققين تتولى النظر في : المخالفات الشرعية ، والقضايا الأخلاقية ، وتحديد التهم ونوع العقوبات ، ويتولى المشرفون التأديب بموافقة الأمير .
- مادة رقم 10 : على الهيئات القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل حزم وعزم .
- مادة 11 : تقوم هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بضبط مرتكبي المحرمات أو المتهمين بذلك ، أو المتهاونين بواجبات الشريعة الإسلامية والتحقيق معهم .
- مادة 12 : للهيئة حق المشاركة في مراقبة الممنوعات مما له تأثير على العقائد أو السلوك أو الآداب العامة مع الجهات المختصة .
- مادة 17 : تزود الهيئات بعدد كاف من رجال الشرطة .
* ومن متابعة مواد المرسوم الملكي نجد أن الهيئات أعطيت سلطات مهمة لتحقيق مهمتها ومن ذلك : سلطة الضبط ، والتحقيق ، وتوقيع العقوبة ، والرقابة على الممنوعات .
وللهيئة دور مهم في الاحتساب غي مجالات عدة منها : الاحتساب في مجال العبادات ، والآداب العامة ، والعقائد .
( أهمية نظام الحسبة في المجتمعات الحضارية )
أي مجتمع حضاري فإنه بحاجة ماسة إلى أنظمة إصلاحية في كافة مجالاته ، وعلى رأس هذه الأنظمة النظام الخاص برعاية الآداب والأخلاق .
ولا يخلو مجتمع من المجتمعات من أنظمة أمنية تحميه من الأخطار ، كذلك الأنظمة الرقابية سواء كانت تجارية أو إدارية أو أخلاقية .
ومن أهم المميزات للمجتمعات الإسلامية - وخاصة مجتمعنا ولله الحمد - وجود نظام الحسبة وإقامة فريضة الاحتساب ، ورعاية الدولة الإسلامية لهذا النظام الحساس .
ولو ذهبنا نعدد الفوائد والمميزات والثمرات العظيمة لجهاز الحسبة في بلادنا الحبيبة المملكة العربية السعودية لطال بنا المقام ، وأقل ما يوصف به هذا النظام أنه " صمام الأمان " و " ضمير المجتمع " و " مرآته الصافية " .
ولأن كانت التكتلات العلمانية والليبرالية تعادي أو تظهر العداء لهذا النظام ولهذه الفريضة ، فإن من الإنصاف أن لا نعمم ذلك ، فهناك من يسميهم البعض - علمانيين - يحسون بخطورة وأهمية هذا الجهاز بعد تحسسهم للواقع وهذه - في نظري - خطوة إيجابية من هؤلاء ومنصفة لهذا الجهاز الخطير .
أما بقية من يحمل العداء والكراهية والحقد للهيئة لأسباب أخلاقية أو عقائدية أو مرضية ، فإن أقل ما يقال في حقه أنه شخص حطمت الهيئة - وفقها الله - آماله في الوصول إلى أعراض وحرمات المؤمنين فكان الحقد يغلي في قلبه تجاه نظام الحسبة .
وقد كشف أحد رموز العلمانية وأقطابها الكبار حقيقة دعاوى هؤلاء الذين يزعمون أنهم أنصار المرأة والحرية ، فشهد على نفسه وعلى حزبه بأنهم كاذبون مخادعون يتربصون بالمرأة كي ينهشوا لحمها ويمزقوا شرفها !!
يقول المفكر العلماني ( بوعلي ياسين ) :
( الرجل - العلماني - المثقف في مجتمعنا يدعو إلى المساواة ويطالب المرأة بأن تكون ندا للرجل ولكنه نادرا ما يتزوج هذه المرأة المتساوية معه أو الند له ، إنه يقبلها صديقة ورفيقة وزميلة لكنه يخافها ويبتعد عنها كزوجة ، والفتاة التي تعقد صداقة مع شاب على طريق الزواج تخاطر بأن لا يقبلها رجل حتى لو حافظت على غشاء البكارة إنه يريدها غرّة ، ولذلك تراه يركض وراء المراهقات ) !!
شهادة من الداخل ... تبين الازدواجية النكدة التي يتعامل بها الرجل العلماني مع المرأة ، والمسكينة تظن أن وراء هذا العلماني ملاكا أبيضا وقلبا طاهرا !
هذا هو صنف من يحارب ويعادي فريضة الحسبة ومن يقوم بها ، ولكن الحسبة أصبحت هي صمام الأمان الذي بدونه ستغرق سفينة المجتمع الحضاري .
يقول الأخ الفاضل رجل الأمن ؛ اللواء ( جميل الميمان ) بشهادة رائعة تجسد حقيقة ثمار الهيئة ونظام الحسبة :
( بصفتي أحد رجال الأمن في المملكة العربية السعودية ، أسجل هنا بكل صراحة كلمة حق هي أنه لولا وجود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيامها بواجبها ورسالتها السامية دون كلل أو ملل بتأييد من الحكومة ، لكانت المجتمعات السعودية في وضع مخل أخلاقيا ، ولما أمن المواطن على عرضه ، وهي بما تقوم به من أعمال جليلة هادفة إلى الخير والإصلاح ومحاربة الرذيلة بصورها المختلفة).
هذه شهادة من مسؤول أمني كبير يعرف قيمة الأمن والأعراض ، يسجل ما للهيئة من أهمية واقعية للحفاظ على أمن وسلامة وأخلاق المجتمع السعودي الحضاري .(/2)
( معوقات وعثرات في طريق الحسبة )
ومع أهمية هذا النظام الذي فرضه الله علينا ، إلا أنه يواجه بعض العقبات والعثرات التي تعيق تطوره وتقدمه وترسخه بما يجعله مواكبا للعصر وما فيه من تراجع قيميّ وأخلاقي .
ويمكن أن نوجز تلك المعوقات والعقبات والملاحظات كالتالي :
(1) أن الهيئة وفروعها بحاجة ماسة إلى كثير من الدعم المادي والمعنوي لتحقيق أهدافها على أتم وجه ، كما تحتاج إلى تزويدها بالعناصر الشبابية المؤهلة علميا وتدريبيا على أعمال الاحتساب ، لأن لدهم القدرة على فهم مشاكل العصر .
(2) حاجة رؤساء المراكز للتدريب المستمر والمكثف لتخطي عقبات ومشاكل العصر ، وتأدية أعمالهم بأسلوب يجمع الحكمة والالتزام ، الحكمة في إقناع المخالف بمخالفته ، والالتزام بأوامر الشرع ونواهيه .
(3) إن بعض أعضاء الهيئة أصيب بحالة فتور لإحساسهم بأنهم لا يجدون الاهتمام مثل غيرهم من موظفي الدولة ، من حيث الرواتب والمكافآت ، والبدلات ، وغيرها من الحوافز ، وأنهم يعانون في عملهم أكثر من غيرهم ، نظرا لاحتكاكهم بالجمهور ، وعلاقتهم بالقضايا الأمنية التي قد يدفع الإنسان نفسه في سبيلها .
(4) مهمة التحقيق في هذا العصر فن من الفنون وعلم له قواعده وطرقه نظرا لتعقد المشاكل وتمرس المجرمين في طرق الفساد ومقدرتهم على التخفيّ ، وهذا يتطلب أن يتعلم الأعضاء في الهيئة فن التحقيق المتطور .
(5) حاجة الهيئة لوسائل نقل واتصالات حديثة تمكنهم من الاتصال المباشر والسريع مع بقية الأجهزة الأمنية الأخرى مثل الشرطة والأمارة والمباحث .
(6) حالة الإحباط التي أصيب بها بعض أعضاء الهيئة بسبب ازدواجية الآداب الاجتماعية !
فحين يجد نفسه في فجوة بين القيم العالية المثالية التي يتعلمها ويعلمها وبين الواقع المرير المتناقض لما يعلمه ويتعلمه ، ولذلك اضطر كثير من أعضاء الهيئة لترك الهيئة بسبب عدم تحمل أنفسهم لحجم وكمية وكيفية الجرائم التي يشاهدها في مركزه .
كلمة أخيرة أوجها لكل عضو من أعضاء الهيئة - حفظهم الله - في بلادنا الغالية والحبيبة :
مهمة الإصلاح ليست هينة ، وتذكروا أن الله معكم ، وتذكروا أن قلوبنا معكم ، فلتسر قافلتكم الإصلاحية تقود المجتمع إلى بر الأمان، ولتبقى الأصوات النشاز تنطلق فهي عما قريب ستكون من الماضي بمشيئة الله .(/3)
هَذَيانُ مَجْنُونْ
ذهبت منذ أيام أزور المستشفى الإسلامي الكبير، الذي تعاونت على إنشائه الجمعيات الإسلامية الأربع في دمشق. فوجدت شيئاً عظيماً يرفع الرأس، بناء ضخماً يطل على الربوة من هنا ويشرف على سهل المزة من هناك، قد قام حيث كانت تقوم تلك (القلاع العادية، فكان من تمام نعمة الله علينا به أن تخير له هذا المكان، فأبدلنا بعمارات الموت، وبنايات البلاء، تلك القلاع، هذا المستشفى، بيت الصحة، ودار الشفاء) وجعل المدير، وهو شاب مسلم رضي الخلق، واسع الخبرة، يدور بي في المستشفى، ويمر بي على شعبه، حتى إذا وصلنا إلى جناح الأمراض العقلية قال لي إن هاهنا مريضاً يلح علينا أن ندعوك إليه، وهو لا يفتأ ينادي باسمك ويرجو أن يراك.
قلت : ومن هو؟ وما شأنه بي؟!
قال : هو شاب مصاب بنوع من الهستريا الجنسية، وهو يزعم أنه تلميذك، وأنه وثيق المعرفة بك.
فلم أحب أن أخيب رجاءه، وإن كنت لا أدري ما أصنع له، وانطلقت مع المدير حتى دخلت عليه، فإذا هو شاب حديث السن، شاحب اللون، بادي الضعف، شارد النظرات مسجّى، لا يبدو منه إلا وجهه، فتأملته... فإذا هو قد كان تلميذاً لي. وإذا أنا أعرفه فسلمت عليه فرد السلام. وابتدرني فقال لي أنت أستاذي، وإني أترقب مجيئك.. إن لي حاجة إليك.
قلت : مقضية إن كنت أقدر عليها.
فظهر على وجهه خيال البشر، ولاحت على شفتيه ظلال ابتسامة... وقال لقد نعشتني وبشرتني، إن الذي أريده منك هو أن تعي حديثي وتنشره في الناس ألا تقدر على ذلك.
قلت : بلى أقدر إن شاء الله.
* * * * * * * * *
قال : إنه خبر لا يكاد يصدقه أحد، ولكني أحلف لك أنه واقع، وإذا شككت فاسأل القرية، أتعرف قرية الجمالية؟
قلت : ما سمعت بها إلا الآن
قال : لقد أردت أن ابتعد عن مرابع المصطافين ومواطن الازدحام إلى بلد أطلق فيه نفسي على سجيتها، لا أقيدها بقيد عادة ولا واجب مجاملة، فأممت بحيرة العتيبة، ثم صعدت جبل عيرام، حتى بلغت هذه القرية المختبئة في كنف واد عميق لا يصل البصر إلى قرارته، يرى في بطنه نهر العامون متحدراً هائجاً يقفز من صخرة إلى صخرة، فيكون له دوي وخرير، ويعلوه الزبد فتراه من خلال الأشجار، وأنت في القرية كأنه البلور المذاب، وإذا كنت قد رأيت في زمانك بلوراً مذاباً، يحمي هذا الوادي المسحور جبلان عاليان تنطح ذراهما النجم، وقد لبست سفوحهما وحدورهما ثوباً من الشجر الأخضر، توارت خلاله هذه القرية، واتخذت فيها داراً سلخت فيها شهراً من شهور الصيف، لم أعرف السعادة إلا فيه، ولم أدر حتى عشته ما لذة العيش وما الاطمئنان، فلقد كنت أغدو مع النور فأصعد في الجبل أحيي الشمس البازغة حين تشرق على الدنيا، وأهبط الضحى إلى بطن الوادي فأتخذ لي مكاناً على صخرة عالية، أو أقعد على حافة النهر الفياض، وكنت في أكثر الأيام أضع طعامي في سلّة وأرتاد المرابع، فحيثما استطبت المكان أقمت، وكنت أحمل معي كتاباً أقرأ فيه مرة، وفي مصحف الكون أخرى، فأمتع النظر بأعجب المشاهد وأبهى المرائي، ثم أروح العشية إلى داري، وقد طفحت نفسي بصور الجمال، وفاض جسمي بالعافية… حتى جاء ذلك اليوم الذي صبّ في كأس حياتي العلقم.
* * * * * * * * *
لقد صعدت الجبل على عادتي حتى جاوزت حدود القرية وقاربت ينبوع البارة، وبلغت الغابة المهجورة التي تطيف به، فما راعني إلا الحجارة تتساقط من حولي كأنها المنجنيق، تنزل دراكاً نزول رصاص الرشاشات، فحرت لحظة ثم وليت هارباً أعدو ما أطقت العدو حتى وصلت إلى صخرة فاحتميت بها وجعلت أنظر: ما خبر الحجارة! فأسمع قهقهة مرعبة... فأحسب أن الجن تروعني... ثم أرى امرأة تخرج من بين أشجار الغابة وتسير حذرة تتلفت فلما صارت قريبة مني رأيتها وهي لا تراني فإذا هي سمراء محلولة الشعر ذات جمال يروع الناظر ويأسر القلب، لها عينان سوداوان واسعتان... إذا نظرت بهما إليك أحسست بهما في الفؤاد، وجسم ممشوق قد لوحته الشمس، وما عليها إلا أسمال بالية لا تكاد تستر إلا الأقل منها، فكأنما جسمها فيها البدر قد حجبته قطع من المزن الرقراق.
* * * * * * * * *
وقد وقفت كالغزال المذعور، لا أقولها كما يقولها الأدباء المقلدون، بل أعني ما أقول، ولا أجد صفة هي أدنى إليها وأعلق بها... وجعلت تنظر حواليها.. فلما اطمأنت ألقت حجارتها التي كانت تحملها وقعدت على الأرض، ونظرت إليها، فإذا ذلك الغضب الفاتن يسقط برقعه عن وجهها ويسدل عليه نقاب من الألم، الألم الحزين قد افتنّت فيه يدا عبقريّ وعقله... فخرجت من مكاني وسرت إليها متلصصاً أسارق الخطو حتى إذا كدت أصل إليها وأضمها، أحسّت بي فوثبت وثبة ابتعدت بها عني، ثم عدت تلقاء الغابة… وجعلت أرتاد هذا المكان كل يوم أفتش عنها وأطلبها حتى أنست بي واتصل بيننا الحديث... فسمعت لهجة فتاة ليست من بنات القرى ولا الجاهلات ولكن حديثها حديث المجانين.
* * * * * * * * *
سألتها ما شأنها وأحببت أن أعرف خبرها فكانت تجيبني بكلام لا يعقل.(/1)
قالت : إني أفتش عليه لقد دخلت المدن وولجت المدارس وبحثت في القصور وطفت الملاهي وتهت البراري وضربت الجبال وجست خلال الخرائب وسريت وحيدة حيث لا تجرؤ النسور أن تطير... كل ذلك أملا بلقائه.
قلت : بلقاء من؟!
قالت : بلقائه... إني أحس بصوته أبداً يرن في أذني وأرى حيثما سرت عينيه وألمس أبداً جلده الدافئ فأشعر كأن الكهرباء تسيل في عروقي ويطفر شيء إلى عينيّ ولكنه يحتبس فلا أستطيع أن أبكي.
قلت : منذ كم فارقته ؟ وهل مات أو سافر؟
قالت : أنت مجنون… ما فارقته قط ولا اتصلت به، هو معي إذا قمت ومعي إذا نمت، أبكي لآلامه ويبتسم هو للذيذ أحلامي، ويغضب فيخفق قلبي ويأكل فتذهب جوعتي ولكني لا أقدر أن أضمه إليّ ولا أستطيع أن ألمسه بشفتي ولو لم تكن أعمى لرأيته، إن ريّاه في عبق كل وردة، وصوته في كل أغنية، وصورته في صفحة البدر وصفاء الينبوع وخضرة الروض.
قلت : فمتى عرفته؟
قالت : مذ كان لي قلب، لقد همت به منذ وجدته في فكري، وقد ملأ عليّ نفسي، ولكني لا أدري أين يقيم، إني أراه في اليوم على ألف شكل، أرى في الرجل يمر بي عينيه، وأرى في آخر قامته، وربما استحال معنى من المعاني أحسّ به ولا أملك التعبير عنه.
قلت : فمن يدلك عليه؟
قالت : قلبي يدلني عليه خفقانه، ألا تفهم، أليس لك قلب؟ هو الجمال كله فكل ما أرى من الجمال جماله ثم سكتت وأرخت أهداب عينيها وغابت في ذهلة عميقة فدنوت منها وضممتها إليّ فاستجابت لي وتعلقت بي ووضعت قلبها في شفتيها ووضعت قلبي على شفتي ثم ذقت منها قبلة ما أظن أن إنساناً ذاق مثلها ولكنها انتفضت فجأة وألقت برأسي على صخرة فشجّته وانطلقت لا تلوي على شيء ثم لم أرها... وإن لم تغب خيالتها عن عيني.
* * * * * * * * *
ولما خرجنا من حضرة المريض قال لي مدير المستشفى لا تصدق كلمة مما قال، إنه هذيان مجنون لم يقع منه شيء.
قلت : إن آخر ما يهتم به الأديب أن يقع الحادث أو لا يقع، إني أكتب قصة لا تاريخاً، وحسبي في قصته من جمال الوصف وإن لم يكن لها مغزى، وإن كانت هذيان مجانين.
قال : شأنك... أنت أدرى به.(/2)
هَلْ لِلصُّوفِيَّةِ دَوْرٌ يُذْكَرُ فِي الجِهَادِ ضِدَّ المُسْتَعْمِرِ ؟
الحَمْدُ للهِ وَبَعْدُ ؛
يَتَشَدَّقُ الصُّوفِيَّةُ وَمِنْهُمُ الطَاغُوْتُ الجِفرِي بِأَنَّ لَهُمْ تَارِيْخاً فِي جِهَادِ أَعْدَاءِ الإِسْلاَمِ ، وَهَذِهِ دَعوَى مُجَرَّدَة عَنِ الدَّلِيْلِ ، بَلِ الدَّلِيْلُ بضِدِّها ، فَهُم كَانُوا اليَدَ اليُمْنَى لِلغَرْبِ الصَّلِيْبِي ، وَلِذَلِكَ نَرَى عُبَّادَ الصَّليبِ يُشَجِعُونَ الطُّرَقَ الصُّوفِيَّةِ لِعِلْمِهِم أَنَّهَا سَبِيْلٌ إِلَى تَخدِيرِ الأُمَّةِ ، وَقَتلِ رُوْحِ الجِهَادِ فِيْهَا .
قَدْ يَقُوْلُ البَعْضُ : " إِنَّكَ تُبالِغُ " ، فَأَقُوْلُ : " تَعَالَوْا مَعِي أُبَيِّنُ لَكُمْ بِالدَّلِيْلِ وَالبُرهَانِ " .
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الوُكَيِّل فِي " هَذِهِ هِي الصُّوفِيَّةُ " ( ص 170 - 171 ) : " وَيَزْعُمُوْنَ أَنّ الصُّوفِيَّةَ جَاهَدْتْ حَتَّى نَشَرَتْ الإِسْلاَمَ فِي بِقَاعٍ كَثِيْرَةٍ ، وَلَقَدْ عَلِمْت مَا دِيْنُ الصُّوفِيَّةِ ؟ فَمَا نَشَرُوا إِلا أَسَاطِيْرَ حَمْقاء ، وَخُرَافَاتٍ بَلْهاء ، وَبِدْعاً بَلْقاء شَوْهَاء ... " .ا.هـ.
نَأْخُذُ زَعِيمَ الصُّوفِيَّةِ أَبَا حَامِدٍ الغزَالِيَّ مِثالاً ، فَقَدْ عاصَرَ الحُرُوْبَ الصَّليبِيةَ وَلم يُشِرِ الغزَالِيُّ إِلَيْهَا ، وَلا أَظْهَرَ اهتمَاماً بِهَا .
قَالَ ابْنُ كَثِيْرٍ فِي " البِدَايَةِ والنِّهايَةِ " (12/166 - 167) وَهُو يَصِفُ مَا فَعَلَهُ الفِرَنْجُ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ فِي شَعْبَانَ ، سَنَةَ 492 هـ : " أخذت الفرنجُ - لعنهم اللهُ - بيتَ المقدسِ - شرفهُ اللهُ - ، وكانوا في نحو ألفِ ألفِ مقاتلٍ ، وقتلوا في وسطهِ أزيدَ من ستين ألفِ قتيلٍ من المسلمين ، وجاسوا خلالَ الديارِ ، وتبروا ما علوا تتبيراً .
قال ابنُ الجوزي : وأخذوا من حولِ الصخرةِ اثنين وأربعين قنديلاً من فضةٍ ، زنةُ كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم ، وأخذوا تنوراً من فضة زنته أربعون رطلاً بالشامي ، وثلاثة وعشرين قنديلاً من ذهب ، وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق ، مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان ، منهم القاضي أبو سعد الهروي ، فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا ، وقد نظم أبو سعد الهروي كلاماً قرئ في الديوان وعلى المنابر ، فارتفع بكاء الناس ، وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد ، فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئاً ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
فقال في ذلك أبو المظفر الأبيوردي شعراً :
مزجنا دمانا بالدموع السواجم * * * فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يريقه * * * إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فأيهاً بني الإسلام إن وراءكم * * * وقائع يلحقن الذرى بالمناسم
وكيف تنام العين ملء جفونها * * * على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم * * * ظهور المذاكي أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان وأنتم * * * تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الوُكَيِّل فِي " هَذِهِ هِي الصُّوفِيَّةُ " ( ص 170 - 171 ) تَعْلِيْقاً : " لقد عاش الغزاليُّ بعد ذلك ثلاثةَ عشر عاماً ، إذ مات سنة 505 هـ فما ذرف دمعةً واحدةً ، ولا استنهض همةَ مسلمٍ ، ليذوذ عن الكعبةِ الأولى ، بينما سواهُ يقولُ :
أحل الكفرُ بالإسلامِ ضيماً * * * يطولُ عليه للدينِ النحيبُ
وكم من مسجدٍ جعلوه ديراً * * * على محرابهِ نصب الصليبُ
دمُ الخنزيرِ فيه لهم خلوف * * * وتحريقُ المصاحفِ فيه طيب
أهزَّ هذا الصريخُ الموجعُ زعامة الغزالي ؟
كلا ، إذ كان عاكفاً على كتبهِ يقررُ فيها أن الجمادات تخاطب الأولياءَ ، ويتحدثُ عن الصحو والمحو ، دون أن يقاتلَ ، أو يدعو حتى غيرهُ إلى قتالٍ ! " .ا.هـ.
وَقَالَ الدكتور زكي المبارك في " الأخلاق عند الغزاليّ " ( ص 25 ) : " أتدري لماذا ذكرتُ لك هذه الكلمةَ عن الحروبِ الصليبيةِ ؟ لتعرف أنه بينما بطرسُ الناسكُ يقضي ليله ونهاره في إعدادِ الخطبِ وتحبيرِ الرسائلِ لحث أهلِ أوروبا على امتلاكِ أقطارِ المسلمين ، كان الغزاليُّ " حجةُ الإسلامِ " غارقاً في خلوتهِ ، منكباً على أورادهِ ، لا يعرفُ ما يجبُ عليه من الدعوةِ والجهادِ " .ا.هـ.(/1)
وَقَالَ الدكتور عُمرُ فروخ في " التصوف في الإسلام " ( ص 109 ) : ألا يعجبُ القارىء إذا علم أن حجةَ الإسلامِ أبا حامدٍ الغزالي شهد القدس تسقطُ في أيدي الفرنجةِ الصليبين ، وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك ولم يشر إلى هذا الحادثِ العظيمِ ، ولو أنه أهاب بسكانِ العراقِ وفارس وبلادِ التركِ لنصرةِ إخوانهم في الشامِ لنفر مئاتُ الألوفِ منهم للجهادِ في سبيلِ اللهِ ... وما غفلةُ الغزالي عن ذلك إلا لأنه كان في ذلك الحين قد انقلب صوفياً ، واقتنع على الأقل بأن الصوفيةَ سبيلٌ من سبلِ الحياةِ بل هي أسدى تلك السبلِ وأسعدها " .ا.هـ.
نَخْتِمُ بِسُؤَالٍ مُهِمٍ وَهُو : " بِمَاذَا يُعَلِّلُ الصُّوفِيَّةُ سُكُوْتَهُم وَرِضَاهُم عَنِ المَصَائِبِ الَّتِي تُصِيْبُ الأُمَّةَ ؟
يُجِيْبُ الدكتور عُمرُ فروخ بِقَوْلِهِ : " ولكن المتصوفة يعللون سكوتهم ورضاهم بما ينزلُ بقومهم من المصائبِ بأن هذه المصائب عقابٌ من الله للمذنبين من خلقهِ ، فإذا كان اللهُ قد سلط على قومٍ ظالماً فليس لأحدٍ أن يقاومَ إرادةَ اللهِ أو أن يتأففَ منها " .ا.هـ.
------------
تَعَالَوْا نَعِيْشُ مَعَ التَّارِيْخِ المُعَاصِرِ ، وَفِي فَتْرَةٍ كَانَ الاستِعمارُ جاثِماً عَلَى صَدْرِ الأُمَّةِ الإِسلاَمِيَةِ فِي كَثِيْرٍ مِنْ بِلادِها ، وَكَيْفَ تَعَامَلتِ الطُّرُقُ الصُّوفِيَّةُ مَعَ المُستَعمِرِ ؟
ذَكَرَ مُصْطَفَى كَامِل فِي كِتَابِهِ " المَسْأَلَة الشَّرْقِيَّة " قِصَّةً غَرِيْبَةً عَجِيْبَةً ، َأَوْرَدَهَا الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الوُكَيِّل فِي " هَذِهِ هِي الصُّوفِيَّةُ " ( ص 170 ) فَقَالَ : " وَمِنَ الأُمُوْرِ المَشْهُوْرَةِ عَنِ احتِلالِ فَرنسا لِلقَيْرَوَان فِي تُوْنُسَ أَنّ رَجُلاً فَرنسياً دَخَلَ الإِسْلاَمَ ، وَسَمَّى نَفْسَهُ سَيِّد أَحْمَد الهَادِي ، وَاجْتَهَدَ فِي تَحْصِيْلِ الشَّرِيْعَةِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ ، وَعُيِّنَ إِمَاماً لِمَسْجِدٍ كَبِيْرٍ فِي القَيْرَوَان .
فَلَمَّا اقْتَرَبَ الجُنُوْدُ الفَرنسِاوِيونَ مِنَ المَدِيْنَةِ اسْتَعَدَّ أَهْلُهَا لِلدِّفاعِ عَنْهَا ، وَجَاؤُوا يَسْأَلُوْنَهُ أَنْ يَسْتَشِيْرَ لَهُم ضَرِيحَ شَّيْخٍ فِي المَسْجِدِ يَعْتَقِدُوْنَ فِيْهِ ، فَدَخَلَ سَيِّد أَحْمَد الضَرِيحَ ، ثُمَّ خَرَجَ مُهَوِلاً لَهُم بِمَا سَيَنَالُهُمْ مِنْ المَصَائِبِ ، وَقَالَ لَهُم بِأَنّ الشَّيْخَ يَنْصَحُكُم بِالتَّسْلِيْمِ ، لِأَنّ وُقُوْعَ البِلاَدِ صَارَ مُحَتماً ، فَاتَّبعَ القَوْمُ البُسَطَاءُ قَوْلَهُ ، وَلَم يُدَافِعُوا عَنْ مَدِيْنَةِ القَيْرَوَان أَقَلُّ دِّفاعٍ بَل دَخَلَهَا الفَرنسِاوِيونَ آمِنِيْنَ فِي 26 أكتوبر سَنَةَ 1881 م " .ا.هـ.
وَخِدْمَةُ الصُّوفِيَّةِ لِلاستِعمَارِ الفرنسي فِي مِصْرَ مَعْرُوْفَةٌ ، وَكَذَلِكَ خَدَمْتُهُمْ لِلإنجليز - وَالكَلاَمُ عَنْ مَجَلَّةِ التَّوْحِيْدِ المِصْرِيَةِ - السَّبَبُ الحَقِيقيُّ فِي هَزِيْمَةِ عُرَابِي فِي مِصْرَ ؛ فَقَدْ شَغَلَ الصُّوفِيَّةُ الجُنُوْدَ فِي التَّلِّ الكَبِيْرِ فِي أَذْكَارٍ حَتَّى نِصْفِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ نَامَ الجُنُوْدُ ، فَدَخَلَ الإنجليزُ فِي الفَجْرِ .
---------
وَجَاءَ فِي كِتَابِ : " كُتُبٌ لَيْسَتْ مِنَ الإِسْلاَمِ " للإِستانبولي ( ص 78 ) : " إِنّ الفرنسيين إبّانَ استعمارهم لِتُوْنُس كَانُوا يَجِدُوْنَ مُعَارَضَةً شَدِيْدَةً مِنَ النَّاسِ ، فَتَفَاهَم الفرنسيون مَعَ شَّيْخِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا البِلاَدَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ الصَّبَاحُ قَعَدَ الشَّيْخُ مُطْرِقاً رَأْسَهُ وَهُو يَقُوْلُ : " لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ " ، فَلَمَّا سَأَلَهُ أَتْبَاعُهُ عَنِ الأَمْرِ الَّذِي يُقْلِقُهُ ، قَالَ لَهُمْ : " لَقَدْ رَأَيْتُ الخَضِرِ وَسَيِّدِي أَبَا العَبَّاسِ الشَّاذلِي وَهُمَا قَابِضَانِ بِحصَانِ جِنرالِ فرنسا ، ثُمّ أَوكَلا الجِنرالَ أَمرَ تُوْنُس . يَا جَمَاعَة ؛ هَذَا أَمرُ اللهِ فَمَا العَمَلُ ؟ فَقَالُوا لَهُ : " إِذَا كَانَ سَيِّدِي أَبُو العَبَّاسِ رَاضِياً ، وَنَحْنُ نُحَاربُ فِي سَبِيْلَهِ ، فَلا دَاعِي لِلْحَرْبِ ، ثُمّ دَخَلَ الجَيْشُ الفرنسي تُوْنُس دُوْنَ مُقَاومَةٍ .
قَالَ أَبُو رُقَيْبَةَ : " إِنَّنِي اطَّلَعْتُ عَلَى المِيزَانِيةِ الفرنسيةِ ، فَوَجَدْتُ فِيهَا مُخَصَّصَاتٍ ضَخْمَةً للطُّرُق الصُّوفِيَّةِ ، لأَنَّهَا تُخْدَرُ المُسْلِمِيْنَ عَنِ الجِهَادِ " .ا.هـ.
------------(/2)
بَيْنَمَا كُنْتُ أُقَلِّبُ فِي بَعْضِ الكُتُبِ الَّتِي تَكَلَّمْتَ عَنْ دَوْرِ الصُّوفِيَّةِ فِي الجِهَادِ ضِدَّ الاسْتِعْمَارِ ، وَقَعْتُ عَلَى بَحثٍ فِي كِتَابِ " الانْحِرَافَاتُ العَقَدِيةُ وَالعِلْمِيَّةُ فِي القَرْنين الثَّالِث عَشَر وَالرَّابِع عَشَر " (1/537 - 546) عُنْوانُهُ : " الصُّوفِيَّةُ وَالجِهَادُ وَمُقَاومَةُ الاسْتِعْمَارِ " أَقتَصِرُ عَلَى ذِكرِ بَعْضِ مَا فِيْهِ .
قَالَ عَلِيُّ بنُ بَخَيْتٍ الزَّهْرَانِيُّ مُؤَلِّف الكِتَابِ : " أما بالنسبةِ لموقفِ الصوفيةِ من الجهادِ ومقاومةِ الاستعمارِ ، فإنهُ موقفٌ متباينٌ ، يسودهُ التذبذبُ والاضطرابُ ، فبينما نرى طائفةً منهم أعلنتِ الجهادَ وقاومتِ الاستعمارَ ، وأقضت مضاجعَ المستعمرين ، نرى على النقيضِ الآخر طائفةً أخرى نكصت عن الجهادِ ونكلت عنِ الحربِ ، وانزوت على نفسها فَرقاً وهرباً .
وبين هاتين الطائفتين طائفتان أخريان ، الأولى منها حاربت المستعمرَ وقاومتهُ ردحاً من الزمنِ ، فلما طال أمدُ القتالِ ، ولم تفلح في طردِ المستعمر ، بل كان هو الظاهرُ عليها في كثير من الوقائعِ ، استسلمت له في نهايةِ المطافِ ، ولم تكتف بالاستسلامِ للمستعمرِ ، وإبرامِ المعاهداتِ المخزيةِ معه ، بل صارت تشنعُ على من يحاولُ رفع رايةِ الجهادِ ضده من جديدٍ ، وينقضُ ما أبرمتهُ من معاهداتٍ ، والطائفةُ الثانيةُ ، وهي شرُ طوائفِ الصوفيةِ جميعاً ، وهي الطائفةُ التي وقفت معهُ منذُ البدايةِ جنباً إلى جنبٍ ، تؤازرهُ ، وتناصرهُ ، وتقاتلُ في صفوفهِ ، وتحت رايتهِ ، وتدعو الناسَ إلى الرضوخِ له ، وتحذرُ من مغبةِ مقاومتهِ .
ومن الطائفةِ الأولى يعتبرُ أتباعُ الطريقةِ السنوسيةِ الذين جاهدوا الاستعمارَ الإيطالي في ليبيا من أوضحِ الأمثلةِ على ذلك . ويقابلهم في الناحية الأخرى كثيرٌ من المتصوفةِ الذين كانوا يعيشون في غير واقعهم ، ولا يرون الانشغال بغير الذكرِ والزهدِ .
أما الطائفةُ التي قاتلت ثم نكلت ، وجاهدت ثم نكصت ، فأوضحُ من يمثلها هو الأمير " عبد القادر الجزائري " ... أما الطائفةُ التي والتِ المستعمرَ ، وقاتلتِ المسلمين في سبيلهِ ، فكثيرٌ من زعماءِ الطريقةِ التيجانيةِ يعتبرون من أبرزِ الأمثلةِ عليها .
... فأما الأميرُ عبدُ القادرِ الجزائري فقد بايعهُ الجزائريون بعد دخولِ الفرنسيين الجزائر ، فقادهم إلى جهادِ الفرنسيين طيلةَ سبعة عشر عاماً ، ولكنه استسلم في آخرِ الأمرِ ، وسلم نفسهُ إلى الفرنسيين فنفوهُ إلى خارجِ البلادِ ، ثم أطلقوا سراحهُ ، بعد أن اشترطوا عليه أن لا يعودَ إلى الجزائرِ ، ورتبوا له مبلغاً من المالِ يأخذهُ كل عامٍ ، وزار باريس ، ثم استقر في دمشق حتى توفي بها .
وحين انهزمت فرنسا سنة 1870 م أظهر كمالَ الأسفِ ، وتزين بنيشيانها الأكبر ، وكان قد أهدي له لدى زيارته باريس سنة 1867 م ، إظهاراً لاعترافِ مصادقتها ، وتخلى عن ملاقاة الناسِ مدةً . واعتبر السنوسي ذلك من أخبارِ وفائهِ ، وكان الأولى بهِ أن يعتبرها من أخبارِ ضعفِ ولائهِ وبرائهِ .
وحين قام ابنهُ محي الدين بإعلانِ الجهادِ ضد الفرنسيين مرةً أخرى ، واتفق مع بعضِ زعماءِ القبائلِ في الجزائرِ ، تبرأ عبدُ القادر منهُ ، وكان ذلك سبباً في انفضاضِ القبائلِ عنه ، وفشل حركته " .ا.هـ.
وَقَالَ عَلِيُّ بنُ بَخَيْتٍ الزَّهْرَانِيُّ فِي كِتَابِ " الانْحِرَافَاتُ العَقَدِيةُ وَالعِلْمِيَّةُ فِي القَرْنين الثَّالِث عَشَر وَالرَّابِع عَشَر " (1/541) : " وكان شيوخُ الطرقِ الخائنون يقومون بكتابةِ عرائض بتوقيعاتهم ، وتوقيعاتِ أتباعهم ، يملؤونها بالثناءِ والشكرِ لفرنسا ، التي كانت تعتبرهم ممثلين للشعبِ ...
وفي عامِ 1870 م حمل سيدي أحمد تشكرات الجزائريين ، وبرهن على ارتباطه بفرنسا ، فتزوج " أوريلي بيكار " وبفضلها تحولت منطقةُ " كودران " من أرضٍ صحراويةٍ إلى قصرٍ منيفٍ رائعٍ ، وهو أولُ مسلمٍ تزوج بأجنبيةٍ ...
وقد كافأتها السلطاتُ الفرنسيةُ لقاء ما قدمتهُ من خدماتٍ بوسامِ جوقة الشرف ، وقالت عنها في براءةِ التوجيه : " إن هذه السيدةَ قد أدارات الزاويةَ التيجانية إدارةً حسنةً كما تحبُ فرنسا وترضى ، وساقت إلينا حنوداً مجندةً من أحبابِ هذه الطريقة ومريديها ، يجاهدون في سبيل فرنسا كأنهم بنيانٌ مرصوصٌ " .ا.هـ.
وقالَ الرئيسُ فيليب فواندس المستعمرُ الفرنسي في " الاستعمار الفرنسي في أفريقيا السوداء " ( ص 52 ) : " لقد اضطر حكامنا الإداريون وجنودنا في أفريقيا إلى تنشيطِ دعوةِ الطرقِ الدينيةِ الإسلاميةِ لأنها أطوعُ للسلطةِ الفرنسيةِ وأكثرُ تفهماً وانتظاماً من الطرقِ الوثنيةِ " .(/3)
وقال مؤلفوا كتاب ِ " تاريخِ العربِ الحديثِ والمعاصرِ " ( ص 373 ) تحت عنوانِ : " المتعاونون مع فرنسا في الجزائرِ " : " وتتألفُ هذهِ الفئةُ من بعضِ الشبابِ الذين تثقفوا في المدارسِ الفرنسيةِ ، وقضى الاستعمارُ على كلِ صلةٍ لهم بالعروبةِ يضافُ إليهم بعضُ أصحابِ الطرقِ الصوفيةِ الذين أشاعوا الخرافاتِ والبدعَ وبثوا روحَ الانهزاميةِ والسلبيةِ في النضالِ فاستعملهم الاستعمارُ كجواسيس ثم فئةٌ من الموظفين والنوابِ والعسكريين الذين شاركوا الإدارةَ الفرنسيةَ في أعمالها "
وقالَ الشيخُ طنطاوي جوهري في كتابهِ " الجواهر في تفسيرِ القرآنِ " (9/137 - 138) : " إن كثيراً من الصوفيةِ قد تنعموا وعاشوا في رغدٍ من العيشِ ، وأغدق الناسُ عليهم المالَ من كلٍ جانبٍ ، وحُببت إليهم الثمراتُ وهوت إليهم القلوبُ لما ركز في النفوسِ من قربهم إلى اللهِ فلما رأو الفرنجةَ أحاطوا بالمسلمين لم يسعهم إلا أن يسلموا لهم القيادةَ ليعيشوا في أمنٍ وسلامٍ ، وهذا هو الذي حصل في أيامنا ، وذكرهُ الفرنسيون في جرائدهم قبل الهجومِ على مراكش ، وقرأنا نحن فيها ؛ إذ صرحوا بأن المسلمين خاضعون لمشائخِ الطرقِ ، وأن الشرفاءَ القائمين في تلك البلادِ ورجالَ الصوفيةِ هم الذين يسلموننا البضاعةَ فعلى رجالِ السياسيةِ أن يغدقوا النعمَ على مشائخِ الطرقِ ، وعلى الشريفِ الذي يملكُ السلطةَ في تلك البلادِ " .
وقالوا هكذا بصريحِ العبارةِ :
" إن هؤلاءِ جميعاً متمتعون بالعيشِ الهنيء ، ورغد المعيشةِ في ظلالِ جهلِ المسلمين وغفلتهم ، فمتى أكرمناهم وأنعمنا عليهم فهم يكونون معنا ، ويشاركوننا في جر المغنمِ ، وبصريحِ العبارةِ يكونون أشبهَ بالغربانِ والنسورِ والعقبان التي تأكلُ ما فضل من فرائسِ الآسادِ والنمورِ " .ا.هـ.
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل(/4)
و إنه لتنزيل رب العالمين د. الحبر يوسف نور الدائم*
القرآن موصوف بأنه نور , وإنه لنور مبين يبدد الظلام, ويهدي الأنام, وينير السبيل قال تعالى :
( زعم الذين كفروا ألن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير . فآمنوا بالله ورسوله و النور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير. يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ).
وإنه والله لفوز عظيم أن نؤمن بهذا النور الالهي الكريم....إنه لفوز عظيم أن نؤمن به , ونعمل بمقتضاه. فوز عظيم في الدنيا وفوز عظيم في الآخرة. ولقد كان لهذا النور أثره الظاهر فيمن كان قبلنا وإنه لحري أن يؤثر فينا كما أثر فيهم إن نحن أقبلنا عليه إقبال من يبتغي الهداية و الرشد , ويعلم علم اليقين ألا هداية ثم ولا رشد هناك إلا فيه... تنزل هذا النور أول ما تنزل في بطحاء مكة فأثر تأثيراً متفاوتاً في طوائف من الناس متعددة... منهم من أدبر وصد عنه وكفر به, وأبى أن ينقاد إليه وقال في تبجح فاضح, وعناد واضح, واستنكاف عنيد (في آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) والوقر بالفتح الثقل و بالكسر الحمل تقول ( ولمن جاء به حمل بعير) ولمن جاء به وقر بعير , فأولئك قوم مستكبرون عن الحق, مستنكفون عن الإذعان له آذانهم صم, وأعينهم عمي وقلوبهم غلف.
ولكن هذا كله لم يمنع القرآن أن يقتحم عليهم ما أوصدوه من أبواب, وما أغلقوه من نوافذ سمعوه رغم أن بعضهم قد حشا في اذنيه كرسفاً فرقا من أن يسمع...سمعوه رغم أنهم تواصوا فيما بينهم, وعقدوا العزم متناصرين متظاهرين( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) ... سمعوه رغم الإدعاءات الفارغة, و المزاعم الجوفاء ( لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين) وفي أخرى ( بل قالوا أضغاث أحلام بل إفتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون ) ... سمعوه فلم يملكوا أنفسهم أن قالوا "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة, وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمورق, وإن فرعه لجناة وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو ولا يعلى عليه وإن له لسطوة ليست بسطوة مبطل" .
سمعت هذه الطائفة المحرومة القرآن فحركها و أزعجها, وأقض مضجعها, وزعزع كيانها فكانت الخلخلة, وكان الإضطراب, وكان القلق. كانوا يسمعون إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يتلو القرآن وهو لا يعلم مكانهم فإذا جمعهم الطريق أقبل بعضهم على بعض يتلاومون ويقسمون بالله جهد أيمانهم ألا يعودوا لمثلها أبدا ثم لا يملكون إلا أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فإذا بأقدامهم تسوقهم إلى محراب رسول الله سوقاً . ولقد صور القرآن الكريم تلك الحال تصويرا حياً موحياً وذلك حيث يقول سبحانه ( فما للذين كفروا قبلك مهطعين . عن اليمين وعن الشمال عزين) ومهطع مصدر من الفعل أهطع يهطع إهطاعاً فهو مهطع تقول أهطع البعير إذا مدّ عنقه وسار سيراً حثيثاً , ولقد وردت هذه اللفظة في مواضع ثلاثة من القرآن الكريم ففي سورة إبراهيم نقرأ قوله تعالى ( ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون . إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم و أفئدتهم هواء . وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) وفي سورة القمر نقرأ قوله سبحانه ( فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر . خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر . مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر) فهاتان مع تلك آيات ثلاث ورد فيها لفظ الإهطاع الذي يدل على السرعة و الجد من جهة, و الإذعان و الخضوع من جهة اخرى برغم ما يكتنف القوم من كبر و مكابرة و عناد. وقوله (عزين) يعني أنهم كانوا يتحلقون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفون به حلقاً متفرقة, وجماعات أبابيل , وهذا وحده يدلك على ما أحدثه القرآن فيهم من آثار نفسية ضخام , كانوا لا يملكون له رداً, ولا يستطيعون له دفعاً, ولو استطاعوا لفعلوا وهم يجمحون وهم كما نعلم قوم ذو أنف شديد لا يصبرون على تحدٍ أبدا فهم كما عبر أبو الطيب المتنبي :
وإني لمن قوم كأن نفوسهم بها أنف أن تسكن اللحم و العظما(/1)
لقد جاءهم القرآن بما لا قبل لهم به ... قد يحاولون ستر ما يصيبهم به من أثر ولكنهم في قرارة أنفسهم يعترفون له, ويقرون به وإلا فلماذا كانوا ينظرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك النظر الحديد الذي يكاد يزيله من مكانه ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون)... ولو كان هذا القول الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من كلام البشر كما زعم الوليد بن مغيرة المخزومي فيم كان تفكره وتدبره, وفيم كان عبوسه وبسوره ( إنه فكر وقدر . فقتل كيف قدر . ثم قتل كيف قدر . ثم نظر . ثم عبس وبسر . فقال إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر . سأصليه سقر) إنها المغالطة الجامحة و المعاندة السافرة التي ليس لها من جزاء إلا أن يلج صاحبها نارا تلظى.... لقد كان الوليد بن المغيرة راوية لكلام الناس كان عارفا بالكلام منظومه ومنثوره, هزجه ورجزه, مقبوضه ومبسوطه, مرسله ومقيده, ولقد أنكر أن يكون في القرآن من كلام الناس مشابه ولكن أبا جهل عمل كل حيلة لاستفزازه, و إخراجه عن طوره, وإبعاده عن الإنصاف وذلك إذ قال له إن قومك يتحدثون أنك إنما تأتي محمداً وصاحبه لتصيب من طعامهما وإنهم جامعون لك ما يكفيك عن التكفف, ويغنيك عن السؤال فثارت حمية الرجل, وفار غضبه وأرغى وأزبد وسأل في دهشة أو لست بسيد الوادي؟ أو لست بأكثركم مالاً؟ قال أبو جهل هو ذاك إلا أن تقول فيه قولاً يكرهه ...فطلب الوليد مهلة فيها يفكر ويعيد النظر ويقلبه فاهتدى إلى هذا القول السخيف المتهافت ( إن هذا إلا قول البشر) وإن الوليد ليعلم وإن العرب ليعلمون أن بينه وبين قول البشر بوناً لا يدرك ومندوحة لا تقطع ولكنها المغالطة و الكبرياء و الجحود ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) .(/2)