قلت: إن هذا التفسير يخالف اللغة و المشاهدة. فمعلوم أن الإغراق و الصلب و الرمي بالرصاص و الذبح و الشنق و الصعق كلها أساليب للموت و ليست الموت نفسه. فلو أنك رميت شخصاً بالرصاص على رأسه فأصبته و لم يمت لما كان لك أن تقول (لم أرمه بالرصاص و لم أقتله) لأنك فعلياً رميته بالرصاص و لم تقتله. و كذلك لو صعقته بالكهرباء أو أغرقته في الماء أو ذبحته و نجى. فلا يقبل القاضي منك أن تقول لم أغرقه و لم أصعقه و لم أذبحه. لكنه يقبل منك أن تقول (لم أقتله) و حسب.
لذلك نرى الأحكام بالإعدام (شنقاً حتى الموت) أو (رمياً بالرصاص حتى الموت) و هكذا لأن هذه أساليب للموت و ليست الموت نفسه. فكيف بالصلب الذي هو و سيلة طويلة شاقة للموت.
و لا أدري لماذا يطلب منا علي الجوهري أن ندقق في الفعل المبني للمجهول (صُلب) مع أنه لم يرد في الآية الكريمة إلا الفعل الماضي !! و لا أدري كيف يدعي أن الإغراق هو القتل مع أننا نسمع عن إغراق السفن و القوارب. فهل للسفن أرواح كما للبشر؟ فالمعلوم أن الإغراق هو الإنزال قسراً تحت الماء. فإغراق السفن و الركاب يكون بإنزالهم قسراً تحت الماء و لا بد. و قد ينتشل المنقذون تلك السفن فتجري في البحر مرة أخرى. و قد ينقذ الناس أولئك الركاب بعد أن أغرقوا فينجون. و قد ظهر تناقض الجوهري جلياً حين قال ((يجوز أن يكونوا قد شرعوا في قتله بإغراقه..)) فهو في جملته هذه يستعمل الإغراق كوسيلة للقتل فقط لا تعني الموت أو القتل نفسه. و لو كان يعني بالإغراق القتل نفسه لجاز لنا أن نسوق جملة الجوهري تلك بقولنا ((يجوز أن يكونوا شرعوا في قتله بقتله)) و هذا كلام سخيف لا يقوله عاقل. و الأمر نفسه ينطبق على جملة الجوهري التالية ((حيث أنه لم يمت تحت سطح الماء من جراء إغراقهم له)). فإن كان الإغراق يعني القتل حقاً فهل لنا أن نصوغ الجملة بقولنا ((حيث أنه لم يمت تحت سطح الماء من جراء قتلهم له))؟!!
و من الطريف أنني شاهدت فيلما و ثائقياً عن عمليات جراحة الأعصاب. حيث قام الجراح بفصل رأس قرد عن جسده و تركيب رأس قرد آخر مكانه. و عاش القرد بعدها فترة من الزمن. فهل يجوز للجراح أن يقول و قتها (لم أقطع رأسه و لم أقتله) لمجرد نجاة القرد من الموت؟ فتأمل.
و الأمثلة اللغوية على أن الصلب وسيلة للموت و ليس هو الموت نفسه كثيرة. و نكتفي هنا بكلام أفصح العرب رسول الله صلى الله عليه و سلم. ففي صحيح مسلم حديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم يحكي فيه قصة أصحاب الأخدود. و فيها أن الملك صلب الغلام ثم قام بقتله بعد ذلك. و هو ما يدل على أن الصلب وسيلة للموت و ليس هو الموت نفسه. و هذا جزء من الحديث كما ورد في صحيح مسلم:
((.. فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. قال وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس ثم قل باسم الله رب الغلام ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهما من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام. ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام ..)).
و ما دام الصلب أسلوب للموت و ليس هو الموت نفسه فإن نفي الله تعالى لوقوع عملية الصلب هو نفي لوقوع أسلوب الموت و لا بد. فهم لم يرفعوا المسيح عليه السلام على الصليب قط.
و الأناجيل نفسها التي يحتج بها أصحاب نظرية الإغماء تتعامل مع الفعل "صلَبَ" بمعنى التعليق على الصليب بغض النظر عن تحقق الموت من عدمه. و إليك ما تقوله الأناجيل الأربعة:
(1) يقول إنجيل يوحنا:
((ثم ان العسكر لما كانوا قد صلبوا يسوع اخذوا ثيابه وجعلوها اربعة اقسام لكل عسكري قسما – إنجيل يوحنا 19/23 )) ثم يقول بعد ذلك بقليل : ((فلما رأى يسوع امه والتلميذ الذي كان يحبه واقفا قال لامه يا امرأة هوذا ابنك - إنجيل يوحنا 19/26)). ثم يقول بعد ذلك (( فلما اخذ يسوع الخل قال قد اكمل .ونكس راسه واسلم الروح - إنجيل يوحنا 19/30)). فجملة (صلبوا يسوع) لم تعنِ لأحد بأنه قد فارق الحياة.
(2) يقول إنجيل متى:
((ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها – إنجيل متى 27/35)). و بعد عدة أحداث قال متى ((فصرخ يسوع ايضا بصوت عظيم واسلم الروح - إنجيل متى 27/50)). فجملة (صلبوه) لم تعنِ لأحد بأنه قد فارق الحياة.
(3) يقول إنجيل مرقس:
((ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها ماذا يأخذ كل واحد – إنجيل مرقس 15/24)). و بعد ذلك بقليل يقول مرقس ((فركض واحد وملأ اسفنجة خلا وجعلها على قصبة وسقاه قائلا اتركوا .لنر هل يأتي ايليا لينزله. فصرخ يسوع بصوت عظيم واسلم الروح - إنجيل مرقس 15/36-37 )). فجملة (صلبوه) لم تعنِ لأحد بأنه قد فارق الحياة.
(4) يقول إنجيل لوقا:(/3)
((ولما مضوا به الى الموضع الذي يدعى جمجمة صلبوه هناك مع المذنبين واحدا عن يمينه والآخر عن يساره .– إنجيل لوقا 23/33)). و بعد ذلك بقليل يقول لوقا ((واظلمت الشمس وانشقّ حجاب الهيكل من وسطه . ونادى يسوع بصوت عظيم وقال يا ابتاه في يديك استودع روحي .ولما قال هذا اسلم الروح - إنجيل لوقا 23/45-46)). فجملة (صلبوه) لم تعنِ لأحد بأنه قد فارق الحياة.
أما من تبنوا نظرية الإغماء - ممن يدعون الإيمان بالقرآن الكريم - ففهموا من الأناجيل كلها أن جملة "صلبوه" تعني "علقوه على الصليب". لكنهم فهموا من نفس الجملة "صلبوه" في القرآن أنها تعني "قتلوه". و نحن نفهم قبول القاديانيين و اللاهوريين لهذه الباطنية و التناقض فدينهم دين الطاغوت المتناقض المليء بالسخافات. لكننا نعجب ممن يدين عبيد غلام قاديان لكنه يقلدهم فيما اقترفوه من تفسير أعوج لهذه الآية الكريمة.
أما الفعل "صَلَبَ" في القرآن فلم يأت إلا بمعنى "علق على الصليب"، لكن السياق في الآيات أفاد بأن المفعول به قد مات أو أنه يجب أن يموت، و أنا أورد هنا الآيات الأخرى التي ورد فيها الفعل صلب:
((إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) المائدة 33
الآية فيها تخيير للحاكم المسلم بإقامة إحدى العقوبات المذكورة حسب حال المحارب. و الراجح أن الصلب يكون إذا جمع الشخص جريمة القتل إضافة إلى جريمة الحرابة، و الصلب يكون بعد القتل حتى لا يحال بين المصلوب و بين الصلاة. و الله أعلم.
و قد اختلف العلماء في صلب المحارب، فمنهم من رأى القتل ثم الصلب، و منهم من رأى الصلب ثم القتل، و قال بعض أهل الظاهر أن الصلب هنا يكون بدون قتل، و نفوا أن يكون الصلب هو القتل لأن المصلوب برأيهم يموت حتف أنفه، و لا يجوز إنزاله عن الصليب حياً لأن الله لم يذكر مدة محددة للصلب ((و ما كان ربك نسياً))، لكن الواجب دفن الميت في النهاية عملاً بالأوامر الأخرى الواردة في هذا الشأن.
و قد روي عن الشافعي أنه أفتى بصلب المحارب لثلاثة أيام بعد قتله ليكون عبرة لغيره. وقَال أَبو يوسف : إِذا أَخذ المال وقتل صُلبَ وَقتِلَ عَلَى الْخشبَة ; قَال اللّيث : يقتل بِالْحربة مصلوبا . وقَال أَبو حنيفة : إِذَا قَتَلَ قُتِلَ ، وإِذا أَخذ الْمال ولَم يَقتل قُطِعَت يَده ورجله من خلاف، وإِذا أَخذ المال وقَتَل فَالسلطَان مخيَّر فيه ، إِن شاء قَطَعَ يده وَرِجله وَإِنْ شَاءَ لَم يقطع وقَتَلَه وَصلَبَهُ. و روي هذا أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه. و قال الإمام الطبري رحمه الله بأنه ليس للحاكم أن يصلب المحارب حياً و يتركه على الخشبة مصلوباً حتى يموت من غير قتله، و ادعى الطبري الإجماع على هذا بينما الحقيقة أن هذا هو رأي الجمهور.
فجمهور العلماء لم يقولوا بترك المحارب ليموت على الصليب بل الحاكم مخيربقتله ثم تعليقه على الخشبة أو قتله بدون تعليقه. و هذا هو الأولى و الله أعلم. و لا ينبغي تعليق الشخص على الصليب لفترة ثم إنزاله حياً لأن الصلب و سيلة للقتل، فما دامت مذكورة للعقاب فلا ينبغي صرف الوسيلة إلى التعذيب فقط، خاصة و أن المصلوب ستفوته الصلوات إن بقي حياً على الصليب. قال الشافعي (أَكرَه أَنْ يُقْتل مَصلُوبا لِنَهيِ رَسُول اللَّه صَلّى اللَّه عَلَيه وسَلَّم عن الْمُثلَة). و من ناحية أخرى فإن الصلب يلجأ إليه إن جمع المحارب بين جريمتي القتل و الحرابة، فلا يجوز إسقاط حد القتل عن المحارب القاتل، فيجب قتله قبل أو بعد صلبه.
و من العلماء من قال بأنه لا يجوز الجمع بين عقوبتين للحرابة في وقت واحد لأن الآية تعطي الخيار للحاكم باختيار عقوبة واحدة فقط، و هذا القول صحيح، لكن الناظر إلى تطبيقات الفقهاء لا يراهم يجمعون أكثر من عقوبة للحرابة بل هم يجمعون بين عقوبة واحدة للحرابة و عقوبات أخرى للجرائم التي قد يكون المحارب قد اقترفها. فإن جمع المحارب بين جريمتي الحرابة و القتل جاز لنا قتله حداً لجريمة القتل ثم صلبه حداً لجريمة الحرابة. أما قتله على الصليب فجائز و الله أعلم إن كان بطريقة تنفيذ قصاص القتل، أما طعنه بالحربة أو ما شابه ذلك فلا ينبغي لأننا مأمورون بالإحسان في كل شيء.
((يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تستفتيان)) – سورة يوسف 41
واضح من الآية أن الرجل الذي سوف يصلب لن ينزل عن الصليب حياً، فالطير لا تأكل من رأس الحي على الصليب بل تجرؤ على ذلك بعد موته و تحلل جسده(/4)
و لو قال (و أما الآخر فيلقى في البحر فتأكل الأسماك من رأسه) لفهمنا أيضاً أنه سيقتل، مع أن الإلقاء في البحر لا يعني الموت بالضرورة.
((قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى )) – سورة طه 71
هدد فرعون السحرة الذين أسلموا بتقطيع الأعضاء من خلاف و من ثم تعليقهم على الصلبان ليتعفنوا هناك، و ذلك ظاهر من تهديده بالعذاب الشديد الباقي، فلا يتصور أنه كان ينوي إنزالهم عن الصليب أحياء و ينجوا بفعلتهم.
و لو قال لهم فرعون (و لأدقَن أجسادكم في جذوع النخل و لتعلمن أينا أشد عذاباً و أبقى) لفهمنا أيضاً أنه لن ينزلهم أحياء بعد تعليقهم، و إلا لما كان تهديده شديداً. و كذلك لو قال لهم (و لألقينّ أجسادكم في الصحراء ..) فإننا سنفهم من تهديده أنه سيتركهم هناك ليموتوا حراً و جوعاً و عطشاً، و هكذا.
إذاً فالفعل "صَلَبَ" في القرآن لم يأت بمعنى قتل، و لكن السياق أفاد بموت الضحية، و أنا أريد أن أقارن بين الفعل "صلب" و الفعل "جلد" حيث ألفت انتباه القاريء الكريم إلى الآيتين التاليتين:
(1) قال تعالى ((وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً – سورة النور: 4)) لنتفكّر قليلاً في هذه العقوبة "الجلد".
الجلد هو وسيلة للعقاب الهدف منها التعذيب أو الإيلام. و لو قام أحدهم بجلد شخص ما لكنه لم يؤلمه لما استطعنا أن ننفي ان الشخص قد جُلِد. لكن سياق الآية يبيّن الغاية من جلد الذين يقذفون المحصنات و هو التعذيب و الإيلام حيث أنّ الجلد في العادة وسيلة للتعذيب.
لذلك لا يجوز للمسلمين مثلاً أن يقوموا بتخدير القاذف قبل جلده و معالجة جروحه قبل أن يصحو من التخدير. و لو فعلوا فجلدوه و هو تحت البنج أو المخدّر لما استطاع شخص أن ينفي أنهم قد جلدوه بالفعل. لكن سياق الآية يذكر وسيلة للتعذيب فلا يجوز استخدامها هنا بدون التعذيب بلا قرينة.
(2) و قال تعالى ((إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ – سورة المائدة : 34)). لنتفكر قليلاً في هذه العقوبات "التصليب" و "تقطيع الأيدي و الأرجل".
التصليب في الآية هو وسيلة للعقاب الهدف منها هو القتل في النهاية. و لو قام أحدهم بدق جسد شخص على الصليب لكنه لم يقتله لما استطعنا أن ننفي أن الشخص قد صُلِّب. لكن سياق الآية يبين الغاية من تصليب المحاربين لله و رسوله و هو القتل بعد الصلب أو الصلب بعد القتل، حيث أن التصليب في العادة هو وسيلة للقتل أو التشهير و الإهانة ليعتبر الآخرون.
و كذلك الحال بالنسبة لتقطيع الأطراف من خلاف فهي وسيلة للتعذيب الشديد و إلحاق عاهة بالمعاقََب. و لو قام أحدهم بتخدير شخص و تقطيع يديه و رجليه من خلاف ثمّ إعادتها عن طريق عملية جراحية لما استطعنا أن ننفي أن الشخص قد قطّعت أطرافه من خلاف. لكن سياق الآية يبين الغاية من تقطيع الأطراف و هو التعذيب حيث أن تقطيع الأطراف من خلاف هو في العادة وسيلة للتعذيب.
و الناظر إلى الآية ( وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ) يدرك أن الآية تنفي أمرين اثنين عن المسيح عليه السلام هما القتل و الصلب و ليس "القتل و القتل"
إذاً فالفعل "صَلَبَ" يعني "علّق على الصليب"، و هذا المعنى اتفق عليه علماء اللغة و الفقهاء في القديم و الحديث، و لم يخالفه إلا الهندي ميرزا غلام أحمد القادياني و من قلده من بعده. و أنا أورد هنا معنى الفعل "صَلَبَ" في بعض المعاجم و القواميس العربية القديمة و الحديثة:
1. المحيط (تأليف أديب اللجمي-شحادة الخوري -البشير بن سلامة-عبد اللطيف عب- نبيلة الرزاز )
صَلَبَ يَصْلُبُ صَلْبًا:- تِ الحُمَّى: اشتدَّتْ وطالت؛ صلبته الشمس/ صلبه الحَرُّ. - اللَّحمَ: شواهَ واستخرج دسمه. - الجانيَ: علَّقه ممدودَ اليدين مشدودَ الرِّجْلين.
2. الوسيط (مجمع اللغة العربية بجمهورية مصر العربية)
صَلَبَ - [ص ل ب) . صَلَبْتُ، أَصْلِبُ، اِصْلِبْ (أَصْلُبُ، اُصْلُبْ)، مص. صَلْبٌ. "صَلَبَهُ عَلَى لَوْحٍ": شَدَّهُ، أَيْ أَوْثَقَ يَدَيْهِ مَمْدُودَتَيْنِ وَرِجْلَيْهِ مَشْدُودَتَيْنِ
3. لسان العرب (لابن منظور محمد بن مُكرَّم بن عليّ بن أحمد بن حبقة الأنصاري الإفريقي)
صلب: جعله مصلوباً
المصلوب : المعلَّق على الصليب
و لكن شبه لهم(/5)
أما قوله تعالى (و لكن شبه لهم) فوردت فيه عدة تفسيرات. و أستشهد هنا بأحد التفسيرات المهمة لهذه الآية الكريمة و هو ما أورده ابن حزم في كتابه (الفصل في الملل و الأهواء و النحل) حيث يقول رحمه الله : ((إنما عنى بذلك تعالى أن أولئك الفسّاق الذين دبروا هذا الباطل وتواطئوا عليه أنهم كذبة، وهم شبّهوا على من قلّدهم وكذبوا عليهم. فأخبروهم أنهم صلبوه و قتلوه و هم كاذبون في ذلك. عالمون أنهم كذبة. - الفصل. الجزء الأول ص 76)).
ثم يضرب ابن حزم مثالاً بحادثة حصلت معه شخصياً. حيث حضر هو و جمع غفير من الناس دفن المؤيد هشام بن الحكم المستنصر. فرأى هو و غيره شخصاً مكفناً في نعش. و صلى عليه ابن حزم مع الآلاف من الناس. لكن المؤيد ظهر بعد حوالي سبعة شهور حياً و بايعه الناس بعد ذلك على الخلافة.
و يضيف ابن حزم في شرح جملة ((شبه لهم)) قائلاً: ((إنما هو إخبار عن الذين يقولون بتقليد أسلافهم من النصارى و اليهود: أنه عليه السلام قتل و صلب. فهؤلاء شبه لهم القول. أي أدخلوا في شبهة منه. و كان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت و شرَطهم المدعون لهم أنهم قتلوه و صلبوه و هم يعلمون أنه لم يكن ذلك. و إنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه و صلبوه في استتار و منع من حضور الناس. ثم أنزلوه و دفنوه تمويهاً على العامة الذين شبه لهم الخبر- الفصل. الجزء الأول ص 77)).
و هناك تفسيرات عديدة لمسألة التشبيه على الناس في مسألة الصلب. و نلخص التفسيرات التي تستحق الدراسة و لا تعارض القرآن الكريم بما يلي:
(1) لم يصلب اليهود أحداً لكنهم ادعو ذلك ليشبهوا على من قلدهم و يكذبوا عليهم بعد أن نجى الله المسيح عليه السلام من مكرهم.
و يقوي هذا الإحتمال ما نقله إنجيل يوحنا بأن يسوع تحدى اليهود بأنهم سيطلبونه ولا يجدونه ((فقال لهم يسوع انا معكم زمانا يسيرا بعد ثم امضي الى الذي ارسلني .ستطلبونني ولا تجدونني وحيث اكون انا لا تقدرون انتم ان تأتوا - يوحنا 7/34-35 )).
و نتساءل الآن: ماذا لو عرف اليهود بأنه عليه السلام قد مات و دفن أو اختفت جثته قبل أن يقبضوا عليه؟
لا بد بأنهم سيتبجحون بأنهم هم الذين قتلوه بل بأنهم قد صلبوه ليلعنوه.
(2) صلب اليهود واحدا من الناس و ادعوا أنه هو المسيح بن مريم عليه السلام ليشبهوا الأمر على الناس بعد أن نجى الله نبيه عليه السلام. و هذا التفسير هو ما ذهب إليه ابن حزم و غيره.
و ذهب قريباً من هذا الإستنتاج النصراني ملمن في كتابه " تاريخ الديانة النصرانية " حيث يقول : (( إن تنفيذ الحكم كان وقت الغلس، وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك إمكان استبدال المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم كما اعتقد بعض الطوائف، وصدقهم القرآن )).
(3) صلب اليهود أحد تلاميذ المسيح عليه السلام الذين افتدوا نبيهم بأنفسهم. فادعى التلميذ بأنه هو المسيح عليه السلام عندما طلبه الجنود. فشبه الأمر لليهود بأن ظنوا أنهم صلبوا المسيح عليه السلام و قتلوه. و ذهب إلى هذا التفسير الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنه. و اختاره بعض المفسرين أمثال ابن كثير و غيره. و يقوي هذا التفسير ما أوردته الأناجيل نفسها عن الذين جاءوا للقبض على المسيح عليه السلام. حيث كان من الواضح أنهم لم يكونوا على علم بشكله فقد احتاجوا لعلامة من يهوذا الذي أسلمه ليعلموا من هو الشخص المطلوب. و العلامة هي أن يقبّل يهوذا اليسوع. يقول إنجيل مرقس مثلاً: ((وكان مسلمه قد اعطاهم علامة قائلا الذي اقبّله هو هو. أمسكوه وامضوا به بحرص. فجاء للوقت وتقدم اليه قائلا يا سيدي يا سيدي .وقبّله . فألقوا ايديهم عليه وامسكوه - إنجيل مرقس 14/44-45-46)). أما إنجيل يوحنا فيوضح بجلاء أن الشخص المقبوض عليه هو من ادعى أنه المسيح عليه السلام حيث لم يعلم الجنود و لا خدام اليهود شكله. يقول يوحنا: ((فأخذ يهوذا الجند وخداما من عند رؤساء الكهنة والفريسيين وجاء الى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح . فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه وقال لهم من تطلبون . اجابوه يسوع الناصري .قال لهم يسوع انا هو .وكان يهوذا مسلمه ايضا واقفا معهم - إنجيل يوحنا – 18/3-4-5))
قال بعض المفسرين بأن المصلوب هو جرجس و قال آخرون بأنه شمعون. و قال البعض بأن الله جعل اليهود يرونه على هيئة المسيح عليه السلام. و يؤيد هذه القصة ما ورد في إنجيل توما. و النسخ المكتشفة من إنجيل توما تعود إلى حوالي العام 150م كما قدر بعض خبراء المخطوطات. و يرجع المحقق كويستر هذا الإنجيل إلى منتصف القرن الأول الميلادي، وأرجعه المحقق كيسيبل إلى العام 140م. و يذكر إنجيل توما بعد أن وضّح بأن بديلاً عن المسيح عليه السلام هو من صُلب - و الكلام على لسان سيدنا عيسى عليه السلام كما يرويه توما:(/6)
((لم أخضع لهم كما أرادوا . و أنا لم أمت في الواقع بل في الظاهر لكيلا يلحقوا بي العار. لأن موتي الذي ظنوا أنهم أوقعوه بي إنما أوقعوه بأنفسهم في خطئهم و العمى. إذ مسمروا رجلهم على موتهم . لقد كان شخصاً آخر الذي شرب المر و الخل. لم يكن إياي. ضربوني بالقصب ! لقد كان شخصاً آخر هو شمعون. الذي حمل الصليب على كتفه. لقد كان شخصاً آخرالذي وضعوا على رأسه التاج و الشوك. و أنا كنت أضحك من جهلهم – كتاب The Holy Blood and The Holy Grail)).
(4) صلب اليهود أحد الذين وشوا بالمسيح عليه السلام بعد أن جعل اليهود يرونه على صورة المسيح عليه السلام. فظنه اليهود بأنه هو المسيح عليه السلام فصلبوه و قتلوه. فشبه الأمر لليهود بأن ظنوا أنهم صلبوا المسيح عليه السلام و قتلوه. و يؤيد هذه القصة ما ورد في إنجيل برنابا. فقد ادعى إنجيل برنابا أن الله ألقى شبه عيسى على يهوذا وأنه رُفع إلى السماء. و قد مهد لدعواه باعلان أن المسيح عليه السلام سوف يحيا إلى نحو منتهى العالم ، وأن جبريل قد أخبره بخيانة يهوذا. ثم أعلن يسوع أن الله سيصعده من الأرض وسيغير منظر الخائن (يهوذا) حتى يظنه كل أحد أنه يسوع (برنابا 112 :15). ثم يؤكد إنجيل برنابا القول بأن المسيح عليه السلام لم يوضع على الصليب أبداً ، بل القى الله شبهه على يهوذا الاسخريوطي فصلب بديلا عنه. و مما قاله برنابا:
((الحق أقول إن صوت يهوذا و شخصه ووجهه بلغت من الشبه بيسوع أن اعتقد تلاميذه و المؤمنون به كافة أنه يسوع - إنجيل برنابا : تحقيق سيف الله أحمد فاضل ص 292)).
أما إنجيل بطرس فيقول عن يسوع ما يلي: ((رأيته يبدو كأنهم يمسكون به، وقلت: ما هذا الذي أراه يا سيد ؟ هل هو أنت حقاً من يأخذون ؟.. أم أنهم يدقون قدميّ ويديّ شخص آخر؟.. قال لي المخلص.. من يُدخلون المسامير في يديه وقدميه هو البديل، فهم يضعون الذي بقي في شبهة في العار ! انظر إليّ، وانظر إليه )).
و يقوي هذه القصة تناقض الروايات الأخرى في نهاية يهوذا الإسخريوطي. فيقول مثلاً إنجيل متى عن يهوذا ((فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه – إنجيل متى 27/2-5)). فإنجيل متى يؤكد موت يهوذا قبيل عملية الصلب المزعومة و لم تذكر الأناجيل الثلاثة الأخرى – مرقس و يوحنا و لوقا – أي شيء عن نهاية يهوذا مع أنه شخصية هامة في تلك الأحداث. بينما يحكي سفر أعمال الرسل نهاية أخرى ليهوذا فيقول: ((وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط، فانسكبت أحشاؤه كلها، وصار ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم، حتى دعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما، أي حقل دم – أعمال الرسل 1/16-20)). إذاً فهناك غموض و تناقض واضح حول حقيقة نهاية يهوذا.
و من الملاحظ أن غلام قاديان نفسه كان قد وصف إنجيل برنابا بأنه وثيقة تاريخية هامة و بأن النصارى رفضوه بلا دليل. يقول غلام أحمد القادياني في كتابه (المسيح الناصري في الهند):
و قد أوهم القاريء هنا بأن إنجيل برنابا يؤيد ما ذكره الغلام بأن المسيح عليه السلام قد وضع على الصليب فعلاً لكنه أغمي عليه فظن اليهود بأنه مات. و أنا أرى أن الغلام نقل هذه المغالطة من نفس المكان الذي نقل منه نظريته عن إغماء المسيح عليه السلام. فيبدوا أن المنادين بهذه النظرية في الغرب لم يكونوا على اطلاع على إنجيل برنابا بل علموا أنه ينفي صلب المسيح عليه السلام فظنوا أنه ينفي موته فحسب و لم يعلموا أن إنجيل برنابا ينفي أن المسيح عليه السلام قد وضع على الصليب أصلاً.
و الناظر إلى التفسيرات الأربعة أعلاه يرى عدم تعارضها مع الآية ((و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم – سورة النساء 157)). لكن النظريتين الأخيرتين تعتمدان في الأغلب على أناجيل النصارى الذين لا نصدقهم في ادعاءاتهم. و لا نكذبهم حيث لم يخالفوا في قصتهم عن شبيه المسيح نصاً من نصوص الشريعة الإسلامية من قرآن أو حديث.
أما بالنسبة للترجيح العقلي بين التفسيرات فإن التفسيرين (3) و (4) مستبعدين في حال لم يصلب اليهود أحداً بل شبهوا على الناس بادعائهم ذلك. أما إن كانوا قد صلبوا أحداً ما و ظنوه المسيح فيكون كلا التفسيرين مقبولاً عقلاً و شرعاً لأن الله قادر على كل شيء.(/7)
أما اعتراض القاديانيين بأن ((جملة (شبه لهم) لا تعني بالضرورة إلقاء الشبه على شخص آخر في حال أن اليهود قد ظنوا المصلوب هو المسيح عليه السلام)) فهو قول مرفوض عقلاً في حال أن اليهود كانوا فعلاً قد صلبوا شخصاً ما و رأوه على هيئة المسيح. فعملية الصلب تكون بتثبيت الضحية على الصليب بالمسامير أو بغيرها لفترة طويلة. و هذه العملية لا يمكن الإشتباه بوقوعها فهي كالذبح و لا شك. أما القتل بالرمي بالرصاص فقد يصيب عائقاً على جسد الضحية فينجو. و بهذا لا يمكن (عقلياً) تأكيد نجاة شخص من وقوع عملية التعليق على الصليب أو عملية الذبح عليه بعد أن يكون قد رفع فعلاً على الصليب أو قد قطع حلقومه أو رأسه إلا بوقوع هذه العملية على شخص آخر.
و أنا هنا أسوق هذا الإفتراض التالي للتوضيح فقط:
لو كان اليهود قد ذبحوه شخصياً بقطع حلقومه أو رأسه لكنه أغمي عليه ونجى بعد ذلك. ثم قال شخص بأن اليهود (ما ذبحوه و ما قتلوه و لكن شبه لهم) لما كان كلامه صحيحا لأن الحقيقة ستكون وقتها هي أنهم (ذبحوه و لكن شبه لهم أنهم قتلوه). و إذا كان المخبر صادقا بقوله (ما ذبحوه و ما قتلوه و لكن شبه لهم) فإن أي عاقل سيعلم بأنهم إما قد ذبحوا غيره و ظنوه المسيح عليه السلام أو ادعوا أنه المسيح. أو أنهم لم يذبحوا أحداً أصلاً و ادعى البعض بأنهم ذبحوا المسيح عليه السلام. هذا الإفتراض سقته لتقريب الموضوع إلى الأذهان باستخدام وسيلة أخرى للقتل هي الذبح بدلاً من الصلب.
و هذا دليل عقلي لا يحتاج لغيره. فكيف إذا وجد مرجع تاريخي هام كإنجيل برنابا - على حد وصف الغلام نفسه - أو إنجيل توما ليؤكد بأن عيسى عليه السلام لم يوضع على الصليب قط. و أنا لا أجزم هنا بصحة قصة برنابا أو قصة توما لأن القرآن و السنةلم يحددا كيفية نجاة المسيح عليه السلام. بل نفيا أن يكون المسيح عليه السلام قد صلب أو قتل. و لكننا نستأنس بهذه الشهادة التاريخية التي نفت حدوث عملية الصلب للنبي نفسه. و إنجيل برنابا هو الإنجيل المتبقي الوحيد الذي يذكر نبينا (محمد) صلى الله عليه و سلم باسمه و بأنه (آخر الأنبياء) مما يؤكد بأن إنجيل برنابا هو أقل الأناجيل الموجودة تعرضاً للتحريف.
و كما قلت سابقاً فإن لجوءنا العقلي لهذا التفسير (أي قتل شبيه للمسيح) هو فقط في حال ثبت صحة الإدعاء بأن اليهود كانوا قد صلبوا شخصاً ما و حسبوه المسيح عليه السلام. فقد يكون الواقع شيئاً آخر. و هذا كله غيب لا نقطع به بدون خبر ثابت عن الله تعالى. لكن لنا أن نحلله حسب المعلومات المتوفرة. أما إن كان اليهود قد شبهوا للناس بأنهم قد قتلوا المسيح عليه السلام إما باختلاق القصة أو بصلب شخص آخر و الإدعاء بأنه المسيح عليه السلام – إن كان هذا هو ما حدث - فإنه أيضاً يوافق إخبار الله عنهم بأنهم ما صلبوا المسيح عليه السلام و ما قتلوه و لكن شبه لهم.
و يعترض القاديانيون مرة أخرى فيدّعون أن قصة تعليق المسيح عليه السلام على الصليب حقيقة تاريخية متواترة و لا يجوز إنكارها. لكن الناظر إلى الوثائق التاريخية لا يجد أي دليل تاريخي موثوق يؤكد قصة وضع المسيح عليه السلام على الصليب. لكنه سيجد في كتب التاريخ و كتب النصارى أنفسهم تأكيدات بأن كثيراً من الطوائف النصرانية ظلت تعتقد طوال القرون الأولى بأن المسيح عليه السلام لم يعلق على الصليب قط.
فمثلاً يقول القديس الفونسوس ماريا دي ليكوري أن من بدع القرن الأول قول فلوري: ((إن المسيح قوة غير هيولية، وكان يتشح ما شاء من الهيئات، ولذا لما أراد اليهود صلبه؛ أخذ صورة سمعان القروي، وأعطاه صورته، فصلب سمعان، بينما كان يسوع يسخر باليهود)). و يقول المفسر جون فنتون شارح إنجيل متى: ((إن إحدى الطوائف الغنوسطية التي عاشت في القرن الثاني قالت بأن سمعان القيرواني قد صلب بدلاً من يسوع)).
و قد ظهرت كثير من الفرق المسيحية - بين عهد المسيح عليه السلام و ظهور الإسلام - التي كانت تنكر حدوث عملية الصلب تلك. و من تلك الفرق: الباسيليديون والكورنثيون والكاربوكرايتون والساطرينوسية والماركيونية والبارديسيانية والسيرنثييون والبارسكاليونية والبولسية والماينسية، والتايتانيسيون والدوسيتية والمارسيونية والفلنطانيائية والهرمسيون. و من أهم الفرق المنكرة لصلب المسيح الباسيليديون؛ الذين نقل عنهم كل من "سيوس" والمفسر "جورج سايل" القول بنجاة المسيح، وأن المصلوب هو سمعان القيرواني، وسماه بعضهم سيمون السيرناي.
ومن الفرق التي قالت بصلب غير المسيح بدلاً عنه: الكورنثيون والكربوكراتيون والسيرنثيون. يقول جورج سايل ((إن السيرنثيين والكربوكراتيين، وهما من أقدم فرق النصارى، قالوا : إن المسيح نفسه لم يصلب ولم يقتل، وإنما صلب واحد من تلاميذه، يشبهه شبهاً تاماً، وهناك الباسيليديون يعتقدون أن شخصاً آخر صلب بدلاً من المسيح.))(/8)
وثمة فِرق نصرانية أخرى قالت بأن المسيح عليه السلام نجا من الصلب، وأنه رفع إلى السماء، ومنهم الروسيتية والمرسيونية والفلنطنيائية.
وقد استمر إنكار صلب المسيح لاحقاً أيضاً، فكان من المنكرين الراهب تيودورس (560م) والأسقف يوحنا ابن حاكم قبرص (610م) وغيرهم.
نائب الفاعل في الآية (و لكن شبه لهم)
في نقاشي مع بعض القاديانيين حول معنى الفعل (صلَبَ) إعترض أحدهم قائلاً: ((إسناد الفعل (شُبِّهَ) إلى الرجل الشبيه المصلوب غير جائز)).
أقول: هذا الإعتراض صحيح، لكننا لا نقول بأن نائب الفاعل هو الرجل المصلوب أو (الشبيه)، فنائب الفاعل محذوف في الجملة و يمكن تقديره بعدة تقديرات. و أرجح تقديره كالآتي (شبه لهم الأمر). فالأمر هو نائب الفاعل. و هذه الجملة تشمل كل نظريات نجاة المسيح عليه السلام.
و يمكن تقدير نائب الفاعل بالجملة المحذوفة (أنهم قتلوه و صلبوه هو). فتكون الجملة (و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم أنهم قتلوه هو و صلبوه هو).
و يمكن أيضاً تقدير نائب الفاعل بالكثير من الجمل المحذوفة. أذكر منها ما يلي:
- (و ليس المقتول و المصلوب هو المسيح و لكن شبه لهم أنه المقتول و المصلوب) أو
- (و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم أنه هو الشخص المقتول و المصلوب) أو
- (و ما قتلوا المسيح و ما صلبوا المسيح و لكن شبه لهم أنهم قتلوا المسيح و صلبوا المسيح نفسه) أو
- (و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم أنهم قتلوه و صلبوه هو). لاحظ أن الضمير (هو) هنا تكرار يمكن حذفه بدون أن يتغير المعنى. فتصبح الجملة (و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم أنهم قتلوه و صلبوه).
فالجمل أعلاه هي تكرار لمعنى الآية و هي تنفي أن يكونوا قد علقوه هو على الصليب.
كما و يمكن تقدير جملة (و لكن شبه لهم) كالتالي: (و لكن شبه لهم أنه هو المصلوب)
والمعنى من الجملة هو أن اليهود ظنوا المسيح هو المصلوب و المقتول بينما هم قد صلبوا و قتلوا غيره في الواقع.
و أرجو التدبر أكثر في قصة ابن حزم التي أوردتها في موضوعي الأصلي. فابن حزم ظن أنهم صلوا على الحاكم و دفنوه بينما الواقع كان أنهم (ما صلوا عليه و ما دفنوه و لكن شبه لهم الأمر) حيث صلوا على غيره و دفنوه ظناً منهم أنه هو. فهم إذاً (ما صلوا عليه و ما دفنوه و لكن شبه لهم أنهم صلوا عليه هو و دفنوه هو) أو (ما صلوا عليه و ما دفنوه و لكن خيل لهم أنه هو من صلوا عليه و دفنوه). و كذلك أهل الكتاب فهم (ما قتلوا المسيح و ما صلبوه و لكن شبه لهم أنهم قتلوه هو و صلبوه هو) أو (ما قتلوا المسيح و ما صلبوه و لكن شبه لهم أنه هو من قتلوا و صلبوا).
هجرة المسيح عليه السلام إلى كشمير !!
أما ادعاء ميرزا غلام أحمد القادياني بأن المسيح عليه السلام كان قد هاجر إلى الهند و عاش فيها إلى عمر 120 عاماً فهو ادعاء في غاية التداعي. و قد أورد ميرزا غلام أحمد القادياني افتراءات عديدة لدعم قصته الخرافة تلك في كتابه "المسيح الناصري في الهند". و من تلك الإفتراءات ادعاؤه بأن البوذيين كانوا قد تعلموا اعتزال النساء من المسيح عليه السلام نفسه حين عاش بينهم في الهند و اختلط بهم. و لم يعلم مؤسس الجماعة الأحمدية بأن النصارى هم الذين ابتدعوا مسألة الرهبنة و اعتزال النساء. و لم يأبه ميرزا غلام أحمد القادياني إن كانت هذه هي رسالة نبي الله عيسى عليه السلام أم أنها كانت رسالة التوحيد. و لا أدري كيف يقبل عاقل بأن المسيح عليه السلام كان يعلم بدعة اعتزال النساء للبوذيين الكفرة بينما هو إله معبود في الغرب ؟ لقد أكد ميرزا غلام أحمد القادياني نفسه أن بولس الذي مات سنة 64 ميلادية هو من أول من فتح أبواب الكفر بادعاء ألوهية المسيح عليه السلام و موته على الصليب. فكيف لا يكسر المسيح عليه السلام الصليب و لا يحاربه لمدة 90 عاماً ؟. كيف يقبل الإختباء 90 عاما دون أن ينقض التحريف الذي أحدثه الضالون و نشروه على أنه هو كلام الله. و دون أن يقوم حتى بنشر إنجيل الله الحقيقي في الشرق؟ و كيف ينشغل المسيح عليه السلام بنشر بدعة اعتزال النساء التي ابتدعها النصارى بعده ؟ إن هذا الاتهام لنبي الله عيسى عليه السلام هو البهتان العظيم.
و الناظر إلى كتاب "المسيح الناصري في الهند" الذي ألفه الميرزا غلام يستغرب من الإستنتاجات المضحكة التي ساقها الميرزا لإثبات ادعائه حتمية هجرة المسيح عليه السلام و أمه إلى كشمير. و أنا أعطيكم هنا بعض الأمثلة على استنتاجاته المتهافتة تلك:
هجرة مريم "المتزوجة" إلى كشمير !!
لا أدري كيف يقبل الأحمديون فكرة هجرة مريم عليها السلام إلى كشمير تاركة وراءها زوجها و أولادها و بناتها في فلسطين، فمع أن الميرزا يقر بولادة المسيح عليه السلام من غير أب إلا أنه يدعي بأن مريم عليها السلام تزوجت بيوسف النجار أثناء فترة حملها الإعجازي، و أنجبت منه أولاداً و بناتاً. يقول الميرزا غلام أحمد القادياني:(/9)
((كان سمو مريم بأنها أقلعت عن الزواج لمدة طويلة، لكنها و تحت الإصرار المتصاعد من وجهاء المجتمع - بسبب حملها - قررت الزواج. و قد أثار الناس اعتراضات حول زواجها أثناء فترة الحمل، فهكذا زواج يخالف تعاليم التوراة. و تساءل الناس عن سبب حنث مريم لقسَم العزوبية. و أيضاً جادل الناس حول سبب وضع مبدأ تعدد الزوجات. و بعبارة أخرى: لماذا وافقت مريم أن تتزوج بيوسف النجار رغم أن لديه زوجة أخرى؟. لكنني أقول بأن تلك الظروف كانت قاهرة. نعم كانت الظروف قاهرة، فبهذه الطريقة كانوا يتعرضون للنقد فقط بدلاً من أن تعتبر أعمالهم مثيرة للكراهية)) الخزائن الروحانية ج19 ص18
و يقول الميرزا أيضاً: ((خروج مريم مع خطيبها قبل عقد القران كان شاهداً على هذه العادة الإسرائيلية. فالخروج مع خطيب من بين النبلاء عند بعض القبائل قد تجاوز الحد إلى أن أصبح من الممكن الحمل قبل عقد القران)) الخزائن الروحانية ج14 ص300
و يقول الميرزا أيضاً: ((يسوع المسيح كان له أربعة إخوة و أختين اثنتين، كل منهم كان أخوه الحقيقي و أخته الحقيقية، أعني أنهم كانوا ذرية يوسف و مريم)) الخزائن الروحانية ج19 ص18
من الواضح أن محاولة الميرزا التقليل من أهمية معجزة ولادة المسيح عليه السلام هو ما أدى به إلى تبني هكذا آراء سقيمة، فهو يحاول أن يظهر المعجزة بمظهر الفضيحة التي حاولت مريم عليها السلام أن تتستر عليها. و هو بهذا ينفي أن الله سبحانه كان قد أنطق المسيح عليه السلام في المهد ليظهر نبوته و ولادته الإعجازية و ليبريء مريم عليها السلام من أية شبهة. فالميرزا يقول بأن نبوة المسيح عليه السلام استمرت فترة بسيطة، و هو بهذا ينفي أن يكون المسيح قد أعلن نبوته و هو في المهد. يقول الميرزا في كتابه "المسيح الناصري في الهند" ص68:
((كما أن المسيح لم تكن له قبل النبوة عظَمة تذكر حتى يحتفظ بذكراه، خاصة و إن عصر نبوته لم يتجاوز ثلاثة أعوام و نصف))
و الأحمديون لم يتساءلوا عن كيفية هجرة و اختفاء مريم عليها السلام دون أن يذكر ذلك كتبة الإنجيل أو المؤرخون عبر التاريخ ! و كيف تهاجر امرأة متزوجة و لها أولاد -حسب ادعاء الميرزا -إلى أرض بعيدة دون أن تأخذ معها أولادها و زوجها؟ و لماذا تهاجر و يهاجرون أصلاً ؟
أولاد المسيح الأفغان !!
يقول الميرزا في كتابه "المسيح الناصري في الهند" ص 76 بأنه لا يستبعد أن تكون إحدى القبائل الأفغانية هم أولاد عيسى عليه السلام نفسه، و ذلك لأن اسم القبيلة هو "عيسى خيل" !! فانظروا أي حجاج عقلي هذا بل أي استخفاف بالعقول!!
تعاليم بوذا و تعاليم المسيح
أما التشابه الذي ادعاه بين تعاليم المسيح عليه السلام و تعاليم بوذا فهو من التهافت الذي تأباه العقول. و برأيه فإن هذا التشابه دليل على هجرة المسيح عليه السلام (و ليس هجرة تعاليمه !!) إلى كشمير. و إليك هنا بعض الأمثلة التي ساقها الميرزا:
شياطين الجن عند بوذا و عند المسيح !!
أنظر مثلاً إلى قول الميرزا في كتابه كتاب "المسيح الناصري في الهند" صفحة 82: (( و كذلك تماماً يعترف علماء المسيحية بأن الشيطان الذي قابل عيسى عليه السلام لم يأته بصورة بشر مار بالطرقات و الأزقة بين أيدي اليهود، و لم يحدث المسيح كحديث الناس فيما بينهم بحيث يسمعه الآخرون أيضاً، بل كان ذلك اللقاء أيضاً صورة من الكشف رآها المسيح وحده، و كان الحوار بينهما وحياً شيطانياً ... أي أن الشيطان بحسب عادته القديمة، ألقى في قلب المسيح بشكل الوسواس، و لكن قلب المسيح لم يقبل هذه الوساوس الشيطانية، بل رفضها كما فعل بوذا))
و برأي الميرزا فإنه ما دامت قصة وسوسة الشيطان هذه مذكورة عند بوذا أيضاً فإنها تجزم بأن عيسى عليه السلام عاش في كشمير مع البوذيين فترة طويلة !! و العجيب أن القاديانيين ينفون وجود الجن الذي يوسوس للناس أصلاً و مع ذلك يرون حجة زعيمهم هذه باهرة و مقنعة!!
بوذا العاق لإبنه و المسيح العاق لأمه - حاشاه !!
أما قصة المدعو "راحولة" ابن بوذا الذي تركه بوذا و هرب فهي تشبه في نظر الميرزا قصة عقوق المسيح عليه السلام لأمه و كلامه معها بألفاظ نابية - حاشاه!!! و مع أن الميرزا ينفي صحة قصة عقوق المسيح عليه السلام لأمه و ينفي أيضاً قصة عقوق بوذا لولده إلا أنه يستدل بتشابه هذه القصة مع قصة "راحولة" على أن المسيح عليه السلام قد هاجر إلى كشمير !! أنظر ص96 من كتاب "المسيح الناصري في الهند".
تناسخ الأرواح عند بوذا و عند المسيح - حاشاه!!
يقول الميرزا في الصفحة 99 في نفس الكتاب "المسيح الناصري في الهند":
((وكان بوذا يعتقد بالتناسخ، و لكن تناسخه لا يخالف تعاليم الإنجيل، إذ التناسخ عنده على ثلاثة أقسام:
أولاً: أن عزيمة الإنسان على المزيد من الأعمال تقتضي جسماً آخر بعد الموت(/10)
ثانياً: هو ما يعتقد أهل التبت بوجوده في زعمائهم الدينيين "لامات"، و هو أن جزءاً من روح بوذا أو زعيم بوذي آخر يحا في "لاماتهم".. أي أن قوته و طبيعته و خواصه الروحية تنتقل إلى "لاما" الحالي، و روحه تؤثر فيه.
ثالثاً: أن الإنسان لا يزال يمر في حياته في الدنيا بأنواع الولادة إلى أن يصبح إنساناً حقيقياً حسب خواصه الذاتية، حيث ينعدم وجوده الأول و يكتسب وجوداً ثانياً بحسب أعمال وجوده الأول ...إلخ))
إن جعل هذه العقيدة الكفرية - و التي أقرّها الميرزا - وجهاً للتشابه بين تعاليم المسيح عليه السلام و تعاليم بوذا لهو من التهافت و الشناعة التي ترفضوها قلوب المؤمنين و تأباه عقولهم. و بالنسبة للميرزا فإن هذا التشابه في الإيمان بعقيدة التناسخ هو دليل على هجرة المسيح عليه السلام بنفسه إلى كشمير !! فانظروا هداكم الله إلى هذه المحاكمات العقلية الفارغة.
عمر المسيح عليه السلام
أما بالنسبة لعمر المسيح عليه السلام عند وفاته فقد اعتمد ميرزا غلام أحمد القادياني على حديث ضعيف غريب ذكر فيه ((إنه لم يكن نبي كان بعده نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله، وإن عيسى بن مريم عاش عشرين ومائة وإني لا أراني إلا ذاهبا على رأس الستين - المعجم الكبير للطبراني)). و هذا القول بأن كل نبي قد عاش نصف مدة النبي الذي سبقه قد ثبت خطؤه. ولو كان صحيحا لكان عمر سيدنا آدم و إبراهيم و غيرهم من الأنبياء ملايين الملايين من السنين. وأنا لا أنفي هنا موت المسيح عليه السلام بل العمر الوارد في الحديث لأن الحديث ضعيف الإسناد و متنه يخالف العقل و المشاهدة. و بهذا يتضح سقوط هذا الإستدلال.
و بالمناسبة فإنني أقول للأحمديين المصرين على إثبات هذا الحديث الضعيف : إن نبيكم المزعوم لم يمت في الثلاثين من عمره كما يشير هذا الحديث. فلا أدري مغزى تعلقكم به ؟!!.
و الأحمديون يدعون أن النبوة باقية بعد محمد صلى الله عليه و سلم. فهل يعقل أن النبي القادم - على حد زعمهم - سيموت بعمر 15 سنة !!!. و الذي بعده سيموت و عمره 7 سنوات !!! مع أن الله لا يرسل إلى البشر إلا رجالاً يوحي إليهم!! ألا يتقي هؤلاء الله في عقولهم ؟!!.
و ميرزا غلام أحمد القادياني نفسه قال بأن الله بشره بأنه سيحييه ثمانين عاماً أو أكثر عدداً. أنظر إلى ما يقوله في كتابه (مواهب الرحمن )::
لكن الله أبى إلا أن يكذبه و يزهق باطله فأهلكه قبل سنوات مما كان يأمل. ( وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ).
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(/11)
نظرية السامية مؤامرة على الحنفية الإبراهيمية
الأستاذ أنور الجندي
في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ابتكر "شلوسر" مصطلح "السامية" واعتمد في هذه التسمية على نص من التوراة، وكانت الصهيونية من وراء هذه الفكرة، ومن ثم فقد اتسع نطاق هذه المقولة الزائفة، وأقام عليها الكتاب الموالون للصهيونية والاستعمار ما أطلق عليه اسم: "عام الأجناس".
ولغياب الفكر الإسلامي في هذه المرحلة فقد اتسع نطاق الفكرة الإسرائيلية، وسيطرت على مناهج الجامعات ودراسات الثقافة جميعاً، وفي كليات الآداب بالبلاد العبربية تقررت دراسات اللغات السامية وقام على هذه الدراسات مستشرقون يهود، في مقدمتهم يوسف شاختـ وإسرائيل ولفنسون، اللذان أخذا يخدعان الشباب المسلمين والعرب بقولهم: "إن العربية ليست سوى عبرية مقلوبة، وإن العرب إنما اتخذوا اسمهم من (عربة) للصلة بين العرب واليهود من ناحية، وبإعطاء اليهود مكاناً زائفاً في مجال الآداب والعلوم.
البداية:
ومنطلق البحث: أنه قبل بروز فكرة الصهيونية في العصر الحديث "كمخطط متجدد، ومبتعث من (التوراة) التي كتبها حكماء اليهود إبان السبي البابلي، و (التلمود) الذي جاء بعد تدمير الرومان للقدس".
هذا المخطط هو (بروتوكولات صهيون) التي عرفت لأول مرة عام 1897 م، وفي خلال إعداد هذا المخطط كانت هناك محاولات جبارة تعمل على وضع مفهوم الصهيونية التلمودية في داخل كتب التاريخ والموسوعات العالمية. وإدخالها في مناهج المدارس والجامعات الغربية. وبثها عن طريق معاهد المفكرين الذين احتوتهم الصهيونية، شلوسر وبروكلمان ورينان ودور كايم ودوزي. وذلك بالإضافة إلى الاستشراق اليهودي الصهيوني: مارجليوث، جولد تسيهر، برنارد لويس.
السامية إحدى دعاوي الاستشراق اليهودي:
امتصاص الفضل:
وقد حاولت هذه الخطة تحقيق عدة أهداف:
أولاً: نشر فكر السامية التي نسبت إليها كل أمجاد التاتريخ العربي القديم، وسلبه من أصحابه الحقيقيين وخاصة إسماعيل بن إبراهيم وأبنائه وأحفاده، وأضافت هذا كله إلى مصدر غامض ليس له سند علمي، ويستمد مصدره الأساسي من "التوراة" التي كتبها اليهود بأيديهم، وليست التوراة الحقيقية المنزلة على موسى عليه السلام، وذلك بهدف إشراك اليهود مع العرب في هذه الأمجاد، بينما لا يوجد لليهود أي اتصال ببدء هذه الحضارة، ويستتبع هذا الخطر: إيجاد صلة ما بين العربية والعبرية على النحو الذي حاوله الكتاب الذين ما أسموه "تاريخ اللغات السامية" وقاموا بتدريسه في الجامعات وهم: إسرائيل ولفنسون وشاخت ثم الدكتور مراد كامل.
التشكيك في الحق:
ثانياً: محاولة التشكيك في رحلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى الحجاز وإقامة ابنه إسماعيل وزوجته هاجر في مكة، وهذا يبدو واضحاً من تجاهل التوراة "الزائفة" لهذه الواقعة التاريخية ومحاولة إثارة الشبهات حولها. وقد ردد الدكتور طه حسين هذا القول في كتابه "في الشعر الجاهلي".
ثالثاً: محاولة اعتبار التوراة "الزائفة" مرجعاً للبحث العلمي، مع أن شهادات كل علماء الغرب تؤكد أن التوراة الموجودة الآن كتبها علماء اليهود، منها ما كتب أيام المملكة الإسرائيلية، ومنها ما كتب قبل الميلاد بنحو ثلاثة قرون.
ظهور الهدف:
رابعاً: محاولة خلق تصور زائف اليهود في الجزيرة العربية وفي الأدب العربي.
خامساً: محاولة إيجاد ترابط بين العرب واليهود، والقول بأنهما أبناء عمومة، وذلك كله يستهدف التمهيد للدعوة إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
سادساً: إعلاء شأن "إسحاق" على "إسماعيل" وهما ابنا إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وأكبرهما إسماعيل الذي هاجر به وأمه إلى مكة، والذي أقام معه القواعد من البيت الحرام، والذي امتحن بذبحه وجاءه بالفداء من السماء، والهدف هو إخراج أبناء إسماعيل من حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم عليه السلام من ربه، وقصر الوعد على أبناء إسحق تحت اسم أسطورة "شعب الله المختار".
التزييف القديم:
هذه هي أهم أطراف المؤامرة الخطيرة لتزييف تاريخ الإسلام والعرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لحساب الصهيونية التلمودية، وقد جرى تطعيم دوائر المعارف وكتب التاريخ ومناهج المدارس والجامعات بهذه المفاهيم، واستكتاب عشرات الكتاب البحوث المتعددة التي تدور حول هذه الشبهات، لخلق أدلة مضللة لتثبيتها في الأذهان.
وتكاد تكون فكرة "السامية" أخطر هذه الشبهات، وهي مصطلح لم يرد مطلقاً في كتابات العرب والمسلمين على مدى التاريخ، وقد استمد أساساً من نص من نصوص التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار، في ظل تقسيم واه للأجناس البشرية مستمد من أسماء أبناء نوح حفيد آدم أبي البشر سام وحام ويأفث.
التزييف الحديث:(/1)
وقد برز هذا المعنى في ظل تقسيم مستحدث، ظهر في أوربا إبان استعلاء نزعة العنصرية الأوروبية التي قسمت العالم إلى ساميين وآريين لتضع العرب والمسلمين في قائمة موازية للجنس الآري، صانع الحضارة الذي وصف بكل أوصاف العبقرية والعظمة والاستعلاء على البشر وخضوع الأجناس الأخرى له.
وكان هذا التنظير الذي ألبس ثوب العلم، إنما يستهدف إعطاء الاستعمار "مبرراً" علمياً لسيطرته على الأمم غير الآرية أوروبية.
غير أن المحاولة التي حاولت أن تضع عبارة "السامي" والسامية بديلاً للإبراهيمية والحنيفية وللعرب وللعربية، كانت محاولة ماكرة خطيرة استهدفت أمجاد التاريخ القديم عن العرب، ونسبتها إلى اسم قديم لا يعرف التاريخ الصحيح له مصدراً واضحاً.
والغربيون يعرفون أن التوراة التي بين أيدي الناس اليوم، هي توراة مكتوبة بأيدي الأحبار، وأن صلتها بالتوراة الصحيحة مشكوك فيها، ولذلك فإن الاعتماد عليها في إقامة نظرية تعطي كل هذا القدر من التوسع والنمو والسيطرة في دوائر الثقافة والعلم والجامعات، هو أمر لا أساس له من منهج العلم الصحيح، ولقد كانت اليهودية الصهيونية من وراء هذه النظرية، في سبيل طمس التاريخ العربي السابق للإسلام، وإحياء اللغة العربية وإعطائها رصيداً زائفاً من الصلة باللغة العبرية هو أكبر بكثير من حجمها الطبيعي.
معنى السامية والأكاذيب:
وفكرة السامية تدور حول القول بأن هناك أصلاً واحداً مشتركاً للعرب واليهود، ومحاولة إعطاء العربية أثراً ومكانة غير صحيحة في حضارات الشرق القديم.
وقد كانت الصهيونية وراء هذه الفكرة في محاولة لإعطاء اليهود فضلاً زائفاً في مجالات كثيرة، ومن ذلك القول بأن اليهود هم الذين وضعوا شريعة حمورابي، إبان نفيهم في بابل. بينما وثائق التاريخ تكذب ذلك، وتثبت أن اليهود إبان النفي كانوا يبحثون في حضارات الأمم، عن خيوط يضمونها إلى نسيجهم المهلهل، ليتمكنوا من القول بأن لهم فلسفة معينة، وقد كانت فلسفتهم ومنهجهم الفكري فيما بعد جماع الفلسفة البابلية القديمة والهلينية ومدرسة الأفلاطونية المحدثة وبقايا المجوسية والغنوصية والشرقية، وذلك بعد أن فقدوا أصلهم الأصيل وهو: "توراة موسى" علية الصلاة والسلام كذلك فقد كان هدف هذه المحاولات القول بأن اليهود والعرب أبناء عمومة تربطهم أواصر الرحم والقربى، وتاريخ اليهود بعد الإسلام في المدينة يكشف عن طبيعة هذه الرحم والقربى في مؤامراتهم وغدرهم الذي امتد طوال تاريخهم.
ولقد حاول دوزي ومرجليوت إدعاء هذه الصلات واختلاق تشابه بين قبائل قريش وأسباط اليهود والقول بأن موطن اليهود هو بلاد اليمن، اعتماداً على ألفاظ ملتقطة من لغة سبأ البائدة، تشبه ألفاظاً عبرية.
ولقد استع نطاق هذه الكتابات في الفكر الغربي في هذه الفترة المبكرة، تمهيداً للفكرة الصهيونية، حتى أن بعض العلماء الغربيين لم تخدعهم هذه التلفيقات فكشفوا زيفها، أمثال جوستاف لوبون الذي قال: "لا جرم أن الشبه قليل بين العربي أيام حضارته، واليهودي الذي عرف منذ قرون بالنفاق والبخل والجبن، وأن من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي، ولا ننسى أن طرق الحياة الخاصة التي خضع اليهود لحكمها منذ قرون كثيرة، أمة تكون عرضة لمثل ما أصاب اليهود، ولا عمل لها غير التجارة والربا، وتحتقر كل مكان تنتقل إليه، تلك الغرائز المنحطة بالوراثة المتتابعة مدة عشرين قرناً، وأكثر، فتتأصل فيها وتصير إلى ما صار إليه اليهود لا محالة" أ. هـ.
الشبهات حول العربية:
ولقد كانت مؤامرة "السامية" هذه موضع نظر الباحثين العرب والمسلمين منذ وقت طويل، فلم نقتهم تلك الخطة الماكرة التي استهدفت اعتبارها منهجاً من مناهج الدراسة الجامعية، وإعطاء شبهاتها صيغة المسلمات.
وقد استخدم الدكتور طه حسين في هذا الأمر استخداماً خطيراً، فقد استغل دراسته في تجديد الأدب العربي ودراسة الشعر الجاهلي، لإقرار عدة مفاهيم تخدم وجهة النظر الصهيونية، ومنها القول بأن اللغة العربية لم تكن لغة واحدة في الجزيرة العربية، وأنه قد كانت لغة في الجنوب ولغة في الشمال., وهي محاولة مضللة استهدفت التشكيك في وحدة اللغة العربية قبل الإسلام وإثارة الشبهات حول نموها واتجاهها إلى اتخاذ مكانها الذي أهلها لتكون لغة القرآن ولسان الإسلام.
كذلك فإن الدكتور طه قد هيأ لشاب يهودي استقدمه من فرنسا لإعداد دراستين: إحداهما عن اليهود في جزيرة العرب والأخرى عن تاريخ اللغات السامية، ليحشد فيها كل تلك المخططات التي أعدتها الصهيونية لتزييف التاريخ الإسلامي، وقد قدمت إحدى هذه الدراسات على أنها أطروحة دكتوراه قدمها "إسرائيل ولفنسون" وكان ذلك مقدمة لتصبح هذه السموم "مسلمات" تدرس في الجامعات ولا تزال.
من هذا الباب دخلت الفكرة:(/2)
وبذلك استطاعت الصهيونية العالمية أن تدخل نظريتها المسمومة إلى قلب الفكر الإسلامي والأدب العربي، لتضرب به ذلك المفهوم الأصيل الذي عرفه المسلمون واستوعبته آثارهم وتراثهم.
كذلك فقد عاش الدكتور طه حسين حياته كلها يحاول إقناع المسلمين والعرب، بأن لليهود فضلاً على أدبهم وتاريخهم، فهو يعرض لليهود واليهودية كلما عرض للغة العربية وآدابها، ولقد عمل باكراً لتحقيق هذا الهدف حين أعلن بأن وجود إبراهيم وإسماعيل لا تثبته المصادر العلمية والتاريخية وأنكر أن ورود اسمهما وخبرهما في القرآن يعد سنداً صحيحاً.
ومن العجب أن تجد نظرية السامية مثل هذا الاتساع والشهرة وهي تعتمد على نص من التوراة التي كتبها أحبار اليهود، ويقرها طه حسين على ذلك، ولكنه لا يقر القرآن المنزل على وجود إبراهيم وإسماعيل، والقرآن هو النص الموثق الذي نزل من السماء والذي لم يصبه أي تحريف.
كذلك فقد تحدث الدكتور طه عما أسماه أثر اليهود في الحياة العربية والأدب العربي، ومحاضراته متعددة في هذا الصدد وأهمها محاضرته التي سجلتها له مجلة الجامعة المصرية في عددها الأول من سنتها الثالثة عام 1952 م عن أثر اليهود:
أولاً: أن اليهود أثروا في الأدب العربي أثراً كبيراً جنى على ظهوره ما كان بين العرب واليهود.
ثانياً: إن اليهود قالوا كثيراً من الشعر في الدين وهجاء العرب وقد أضاعه مؤلفو العرب.
ثالثاً: إن اليهود انتحلوا شعراً لإثبات سابقتهم في الجاهلية على لسان شعرائهم وشعراء العرب.
كشف الغطاء:
وفي مقدمة كتاب إسرائيل ولفنسون (الذي أصبح الآن يشرف على البعوث الإسرائيلية في أفريقيا) يقول الدكتور طه حسين:
"ليس من شك أن المستعمرات اليهودية قد أثرت تأثيراً قوياً على الحياة العقلية والأدبية للجاهليين من أهل الحجاز، وليس من شك في أن الخصومة كانت عنيفة أشد العنف بين الإسلام ويهودية هؤلاء اليهود وفي أنهار قد استحالت من المحاجة والمجادلة إلأى حرب بالسيف انتهت بإجلاء اليهود عن البلاد العربية.
ويعلن الدكتور طه حسين اغتباطه إلى أن إسرائيل ولفنسون (قد وفق إلى تحقيق أشياء كثيرة لم تكن قد حققت من قبل).
ولكن هذه هي الحقيقة؟؟ أن (الدكتور فؤاد حسنين علي) أكبر المتخصصين في مصر في اللغة العربية وتاريخ اليهود يقول: إن هذا البحث حلقة من حلقات كتب الدعاية الصهيونية التي كانت الشعبة الثقافية للمؤتمر الصهيوني بإشراف (مارتن برير) تدعو إلى نشرها، وما نقله إسرائيل ولفنسون في سرالته من آراء، كان القصد منه إطلاع اليهود الشرقيين وقراء العربية على ما جاء في المصادر الأجنبية، وأن هذه الرسالة التي ما زالت في أيدي المثقفين والباحثين مشحونة بالأخطاء، وهي بعيدة عن المراجع العبرية، وقد أخذ بالنتائج التي وصل إليها الباحث دون التحقق منها بعض الذين يجيدون هذا النوع من الدراسات، والأمانة العلمية كانت تقتضي غير هذا، ذلك أن البحث العلمي يجب ألا يصبغ بصبغة القومية المتعصبة، كما لا يتخذ وسيلة من وسائل الدعاية السياسية أو الكسب المادي الرخيص".
ولاريب أن هذا مقتل من مقاتل طه حسين الكثيرة التي غابت عن كثير من الباحثين.
ما هي قيمة تراثهم:
وإلى قيمة تراث اليهود وصلته بالتراث الإسلامي، يقول الدكتور فؤاد حسنين: "في مصر بزغ فجر الضمير، ومنها أخذ اليهود ما أخذوا، وفي بابل وآشور كانت شريعة حمورابي وفيها الشيء الكثير من هذا التراث الذي نقلوا معهم عن سصفر التثنية، ولما عاد اليهود من المنفى نقلوا معهم عن العرب البابليين الشيء الكثير مما نجده في كتابهم المقدس وكان عند المعينيين والسبنيين العمارة وهندسة الري والتجارة، وقصة ملكة سبأ والدور الذي تلعبه في تاريخ الإسرائيليين، وحياتهم الاقتصادية لا تخفى على أحد، ويشير الدكتور فؤاد حسنين إلى آثار اليهودية والمسيحية والإسلام: وما استتبعه ذلك من تفتق العقل البشري فأنتج أدباً وشعراً ونثراً وقصصاً وفسلفة وحكماً وأمثالاً.
وكان من نتائج هذه الثورات العربية والروحية أن رمت العروبة ببعض أبنائها شعوب العالم القديم من شرقيين وغربيين فحطموا مخلفاتهم العفنة البالية وأقاموا على أنقاضها هذه الدول الفتية التي جاءت بالمعجزات/ فالعرب لا اليونان أو اليهود هم الذين بعثوا العالم من حالة الجمود إلى حياة أفضل، مكنته من التحكم في مصائر الكون، فأطلق العربي الأفكار من عقالها وحررها من جمود رجال المعبد اليهودي والكنيسة المسيحية وظهرت طائفة من القرابين حيث أنكر هؤلاء التلمود وتعاليمه كما انكمش سلطان الكنيسة وتورات وراء جدران المعابد وقد مهد هذا التطور بدوره إلى ظهور حركة الإصلاح الديني وبعث النهضة العلمية.
تسامح الإنسانية:(/3)
وكما عاون العرب على الاضطلاع بهذه الرسالة تسامحهم ومبادؤهم الإنسانية التي أزالت الفوارق بين الشرق والغرب، كما أنهم لمن يمكنوا اللون من أن يكون عاملاً من عوامل التفرقة والتمييز العنصري والحط من القيم الإنسانية، والدين الإسلامي هو الذي ثبت مبادئ الحقوق الإنسانية ولذلك نجح العربي في تحقيق ما عجز عنه اليوناني والفلسفة اليونانية.
ومذهب الإنسانية لم يقو ولم ينتصر إلا بفض العرب، ولم تعرفه أوربا إلا في العصور الوسطى وعلى يد العرب وبعد أن تتلمذ أوربا على العرب في العصر الإسلامي.
التضليل:
ويصل الدكتور فؤاد حسنين إلى القول: بأن الحالقين على العرب والإسلام، والناسبين التراث العربي إلى اليونان واليهود، يضللون أنفسهم وغيرهم، والعكس هو الصحيح، فالمسلمون هم أصحاب الفضل على اليونان واليهود والتاريخ اليهودي يحدثنا أن العرب أحسنوا معاملة اليهود عندما كانوا يهربون من وجه الطغاة من حكامهم في فلسطين، أو فزعاً من اضطهاد اليونان والرومان، فقد نزل أولئك اليهود الجزيرة العربية فوجدوا سهلاً، وهذه القبائل اليهودية التي كانت تنزل يثرب وخيبر ووادي القرى، وفد إقرارها على العرب بعد أن أفقدتهم القرون التي مرت بهم منذ زوال دولتهعم ولغتهم المقدسة، تذوق اللغة العبرية وتجديدها حتى أصبح من المألوف لدى اليهودي أن يعبر عن أفكاره وشعوره في لغة ركيكة هي خليط من العبرية والكلدانية واليونانية، فحالت ظروفه هذه دون خلق آداب عبرية فما كان أولئك اليهود بمستطيعين قول الشعر أو إجادة النثر، فغير نزولهم بين العرب هذه الأوضاع، وبخاصة أن العربي معجب بلغته معني بها نثراً وشعراً، حريص على المحافظة عليها فصيحة نقية.
لغة غير اللغة وطباع غير الطباع:
أخذ اليهود من جيرانهم العرب فن الكلام والنطق الصحيح وفصاحة التعبير فلما رحل بنو قينقاع والنضير وقريظة ويهود خيبر ووادي القرى وغيرهم إلى العراق والشام وفلسطين كانوا يتكلمون بلغة عربية ويتأدبون بأدب عربي ويتطبعون بطباع عربية، يقولون الشعر في مختلف فنونه، ويعبرون عن خواطرهم في لغة هي لغة أهل الحجاز وقد حبب إلى اليهود ظاهرة المحافظة على عربية القرآن الكريم، فاقتفوا فيها أثر العرب، وقد فتح العرب أمام اليهود دون العلم على مصاريعها ولم يفرقوا بينهم وبين غيرهم ويحدثنا التاريخ اليهودي أن الإسلام أحسن معاملة اليهود، حتى أولئك الذين اضطر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون إلى إجلائهم عن قلب الجزيرة العربية تأميناً لرسالة الإسلام وأتباعه، فأقطعهم أمثير المؤمنين عمر بن الخطاب والإمام علي كرم الله وجهه الأراضي الواسعة بالقرب من الكوفة، وعلى ضفاف الفرات، مما دفع المؤرخ اليهودي "جريتز" إلى الإشادة بعدالة العرب وإنسانيتهم في كتابه تاريخ اليهود، قال: لقد وزع عمر أراضي اليهود على المسلمين المحاربين، وعوض اليهود المطرودين – وهذه هي العدالة – أخرى بالقرب من الكوفة على الفرات حوالي عام 640 م، حقاً رب ضارة نافعة.
يقول الدكتور حسنين: هذه بعض حسنات العرب على اليهود، فالعرب هم الذين أهدوهم العربية بعد أن كانوا يرطنون خليطاً لا شرقياً ولا غربياً، والعرب هم الذين هذبوا ذوقهم اللغوي، ورفعوا مستواهم الأدبي فمكنوهم من خلق ملكة أدبة، وثالثاً وليس أخيراً احتذى اليهود حذو المسلمين مع القرآن الكريم، فعنوا بدراسة كتابهم وشرعوا في وسع نحو لغتهم صيانة لها من اللحن والضياع. هذه هي الحقيقة العلمية أسوقها للدكتور طه حسين وتلميذه الدكتور إسرائيل ولفنسون.
سر الحقد:
نقول: هذا هو سر الحقد الشديد الذي بينته الصهيونية العالمية للعرب، واللغة العربية، فتعمل على محو ذلك التاريخ الطويل، ورفع اسم العرب عنه ونسبته إلى رمز مضلل هو "السامية"، فينقل ذلك التاريخ الزاخر من مصدره الأصيل إلى مصدر غامض، يقوم على نص من التوراة التي كتبها أحبار اليهود، التي لا ترقى إلى مستوى الحقائق الثابتة التي قدمها القرآن الكريم الذي لم يصبه أي تحريف.
إن الهدف هو طمس الرابطة بين الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرن السادس الميلادي، وبين دعوة إبراهيم التي بدأت منذ عام 1750 قبل الميلادي، ذلك أن إقامة إبراهيم ابنه إسماعيل في قلب الجزيرة العربية في مكة، وإسماعيل هو جد العرب وجد محمد صلى الله عليه وسلم، وبناء البيت الحرام الكعبة، ودعوة الله سباحه وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى إتباع ملة إبراهيم. "وأوحينا إليك أن ابتع ملة إبراهيم حنيفاً".(/4)
هذا ما يريد اليهود والصهيونية طمسه وتزييفه، وقد أثبتت الأحافير التي كشف عنها أخيراً: أن إبراهيم عليه السلام كان يتكلم العربية وإن لم تكن العربية التي نزل بها القرآن أو التي نتكلمها اليوم. كما أثبتت الأحافير: أن اللغة التي كانت مستعملة في اليمن والعراق والشام والحجاز لغة واحدة، وأن اختلفت لهجاتها كما تخلف لهجات الأمم العربية في هذه الأيام، وقد استشهد عبد الحميد السحار – رحمه الله – الذي أورد في كتابه "محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – والذين معه" بالآية الكريمة: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس".
وقد جاء في كتاب العلامة (ألبرايت) عن أحافير فلسطين قوله: "تتقارب اللغات العربية القديمة عدا الأكادية في الآجرومية والنطق بحيث تشترك كل لهجة وما جاورها ولا يلحظ الانتقال من لهجة إلى لهجة إلا كما يلحظ مثل هذا الانتقال اليوم بين اللهجات الفرنسية والجرمانية".
سكتت التوراة. لماذا؟؟
والملاحظ أن التوراة لم تورد ذكر ذهاب إبراهيم عليه السلام إلى الحجاز، وسكتت هذه المصادر سكوتاً متعمداً عن علاقة إبراهيم بالجزيرة العربية ومكة وبناء الكعبة، بل وسكتت أيضاً عن ذكر هود وصالح من أنبياء العرب القدامى كأنما لم يكن عاد وثمود على مقربة من فلسطين، وقد حدد بطليموس في أطسله موقع ثمود وعاد، وكشفت الحفريات عن مدائن صالح، وعثر على بعض الخطوط الثمودية في ثمود وفي الطائف وقد كان اليهود ينفسون على العرب أن صار لهم بيت محرم منذ أيام إبراهيم، بينما لم يصبح لهم هيكل في بيت المقدس إلا في أيام سليمان بن داود، فكان هذا السكوت المتعمد، وقد عمد اليهود إلى طمس حقيقة وعد الله تبارك وتعالى لإبراهيم، فجعلوه قاصراً على إسحق ولذلك تجاهلوا ابنه الأكبر إسماعيل، وحاولوا إخراجه وإخراج أبنائه من حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم من ربه، وابتكروا الأكذوبة التي تقول: إن بني إسرائيل وحدهم شعب الله المختار.
يقول الأستاذ السحار: حرم اليهود أبناء إسماعيل حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم من ربه، وأرادوا أن يسلبوا إسماعيل كل فضل فزعموا أن الذبيح هو إسحق، مع أن التقاليد تقضي بتقديم الابن الأكبر قرباناً لله".
ولاريب أن إنكار إسماعيل وأبنائه يحرف تاريخ العرب قبل الإسلام تحريفاً شديداً، فإن أبناء إسماعيل الاثنى عشر قد انبثوا في هذه المنطقة.
الدليل حقيقة واقعة:
وقد أعلنت ألواح الطين التي كتبت بالخط المساري والتي وجدت في أطلال بابل ونينوي، وبلاد ما بين لالنهرين أن بني إسماعيل كانوا حقيقة واقعة وأن أبناءه الاثنى عشر صاروا قبائل قوية تناوئ بابل وآشور ومصر والإغريق والرومان.
والواقع أن تاريخ هذه المنطقة منذ عهد إبراهيم عليه السلام (1750 قبل الميلاد) هو تاريخ العرب الذين كانت تطلقهم الجزيرة العربية، في موجات مهاجرة امتدت من حدود الفرات إلى المغرب وشملت هذه المنطقة كلها، وإن فكرة السامية الزائفة لم تكن شيئاً معروفاً أم مقرراً، ولا توجد أي إشارة إليها في أي من الكتب أو الحفريات أو الأسانيد المكتوبة على الأعمدة أو الآثار القديمة.
خاتمة:
ومن خلال هذا العرض نصل إلى أن جزيرة العرب أخذت باسم العروبة الصريحة، في كتب اليونان والرومان وأسفار العهد القديم منذ (ألفين وخمسمائة سنة) واسم العرب الصريح أخذ يطلق على أهلها، وعلى المستعمرين في داخلها وتخومها الشمالية جزئياً ثم كلياً منذ ألفين وخمسمائة سنة كذلك، بل قبل ذلك مما تدل عليه النقوشات والمدونات القديمة، واللغة العربية التي تكلم بها سكان الجزيرة والنازحون منذ ألفين وخمسمائة سنة كذلك هي اللغة العربية الصريحة، بقطع النظر عن تعدد لهجاتها، كذلك فإنت الحقائق تؤكد أن اليهود لم يكن لهم دوؤ صريح أو وضع صريح أو أثر صريح في أي نهضة من نهضات هذا التاريخ الطويل، وأنهم زيفوا تاريخهم وتاريخ العرب وعمدوا إلى حجب إسماعيل حتى يقصروا الوعد على أبناء إسحق.
وأن كلمة السامية هي تعبير اصطنعه اليهود ليحصلوا من عمومه دوراً لهم أكثر وضوحاً، من دور العرب أصحاب الشأن الحقيقي وأن يجعلوا منه تكاة لمعارضة خصومهم باسم معاداة السامية.(/5)
نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي
دراسة في بنية التشكل المعرفي لعلم المقاصد[1/3]
د. بدران بن الحسن 21/10/1426
23/11/2005
تمهيد:
إتجهت أنظار الكثير من العلماء إلى الطرح المقاصدي في الفكر الإسلامي واعتبروه أطروحة بديلة قد تساهم في حل الأزمة المعرفية التي تعيشها منهجية الاجتهاد الأصولي الحديثة، ولكن بما أن أبعاد الأزمة المعرفية لا يمكن تحديدها علمياً من زاوية واحدة فقط، كأن تقول مثلا أنها أزمة الفقه أو الأخلاق أو الإجتهاد، لأنها تمثل وحدة تتداخل فيها عدة عوامل بدرجات متفاوتة يصعب عزل أحدها عن الآخر، لهذا يتطلب الأمر منا قراءة هذه الأنماط من الأفكار قراءةً معرفية نستطيع من خلالها أن نكتشف نسبة التأثير لكل عامل من تلك العوامل، ومدى إعتبار معالجة تلك الإشكالية نقلةً معرفية تنقل الفكر الأصولي من عامل معرفي قديم إلى عامل معرفي جديد.
على ضوء هذه الرؤية تحاول هذه الورقة أن تحلل نظرية المقاصد عند الشاطبي من الزاوية التي يمكن من خلالها أن نحدد إلى أي مدى يمكن إعتبارها منهجية تستطيع أن تنقذ الاجتهاد الأصولي وتطبيقاته في المجتمع الإسلامي المعاصر.
للإجابة على هذه التساؤلات قسمت البحث إلى أربعة مباحث: في الأول بينت فيه مفهوم المقاصد. ثم في المبحث الثاني تطرقت إلى الجذور المعرفية للمقاصد وعوامل نشأتها التي حصرتها في بعدين؛ الأصولي والإجتماعي. أما المبحث الثالث فحاولت تحليل النظام الداخلي للنظرية وبيان المفاهيم الأساسية التي لايمكن الاستغناء عنها لفهمها. وأما في المبحث الرابع فقد حاولت أن أبين القيمة المعرفية للمقاصد
في الخاتمة حاولت أن أبين كيفية مساهمة نظرية المقاصد في حل الزمة المعرفية في علم الأصول خصوصا وفي حقل المعرفة عموما.
المبحث الأول: مفهوم المقاصد
لقد حاول الذين جاءوا بعد الشاطبي أن يحددوا المجال الدلالي والمفهومي لهذا المصطلح، ذلك أن الشاطبي لم يعط المفهوم تعريفا جامعا مانعا، ولعله أعتبر الأمر واضحاً، ولعل مازهده في تعريف المقاصد كونه كتب كتابه للعلماء، بل للراسخين في علوم الشريعة (1). وبالرغم من هذا، فإن أسباباً أخرى خفية علينا جعلته يتخذ هذا الموقف، ذلك لأن تحديد المفاهيم من الأولويات الأساسية لبناء أي نموذج معرفي جديد، لهذا أعتقد أن سبب عدم إيراده لمفهوم المقاصد يعود إلى الطبيعة الأساسية لمشروعه الفكري الذي كان ينظر إليه على أنه ليس بحثا في المعرفة فقط بل هو مشروع وظيفي يحاول أن يحدث به تغيراً اجتماعياً ومنظورا جديدا يفهم من خلاله خطاب الشارع الحكيم. ولهذا، فإننا تواجهنا صعوبة في تحديد "مفهوم المقاصد"، ولهذا نجد مؤخراً تأويلات وأحكام مختلفة حول المفهوم نفسه.
غير اننا لحاجة منهجية في ضبط المفهوم نورد بعض تعاريف المتأخرين، التي قد تساعدنا في فهم الاتجاه العام الذي تسير عليه نظرية المقاصد.
ولقد انتبه الطاهر ابن عاشور إلى هذه الإشكالية وحاول تحديدها بمفهوم عام يقول فيه أن "مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا ما في الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لايخلو التشريع من ملاحظاتها، ويدخل في هذا أيضاً معاني من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوضة في أنواع كثيرة" (2).
ويقسمها الى معان حقيقية، تتحقق في نفسها، ومعاني عرفية عامة تدل على المجريات التي ألفتها نفوس الجماهير واستحسنتها. ولإثبات معاني المقاصد يشترط فيها تحقق أربع صفات: الثبوت، والظهور، والانضباط، والاطراد.
لكن إذا اعتمدنا على هذا التحديد فقط، قد لا يسمح لنا أن نرى النظرية من بعدها الخارجي حتى نتمكن بطريقة علمية أن نحدد موقعها المعرفي الذي نحاول أن نقف عنده بقدر المستطاع. ومن أجل توضيح هذا القصد حاول طه عبدالرحمن أن يستخرج المعاني الممكنة من ذلك المفهوم، وتوصل إلى بيان ثلاث معانٍ أساسية؛ كل واحد منها يتعلق بنمط معين من المحتوى، وهي كلها تمثل فصولا خاصة وضعها الشاطبي في كتابه "الموافقات".
فالمعنى الأول يستعمل الفعل قصد بمعنى ضد الفعل "لغا" "يلغو". ولما كان اللغو هو الخلو من الفائدة أو صدق الدلالة فإن المقصد يكون على عكس ذلك "هو معلول الفائدة أو معقول الدلالة" (3)، وهذا المضمون الدلالي يعود إلى الفصل الذي وضعه الشاطبي تحت عنوان "مقاصد وضع الشريعة للإفهام"، وقد ناقش فيه قضيتين أساسيتين حاول فيهما اثبات صفة العربية والأمية للشريعة اللاسلامية (4).(/1)
والمعني الثاني "يستعمل الفعل "قصد" أيضا بمعنى ضد فعل "سها" "يسهو". ولما كان السهو هو فقدان التوجه أو الوقوع في النسيان، فان المقصد يكون على خلاف ذلك، وهو حصول التوجه والخروج من النسيان (5). هذا المعنى يدل على البعد الشعوري والارادي الذي تعكسه الفصول التي وضعها الشاطبي تحت فصل "مقاصد وضع الشريعة للامتثال" و"مقاصد المكلف".
في المعني الثالث " يستعمل فعل "قصد" ضد الفعل "لها " "يلهو"، لما كان اللهو هو خلو من الغرض الصحيح و فقدان الباعث المشروع، فان المقصد يكون على العكس من ذلك هو حصول الغرض الصحيح و قيام الباعث المشروع" (6). هذه الدلالة كما بينها طه عبد الرحمان تعكس "المضمون القيمي" وهو الذي ناقشه الشاطبي في فصل "مقاصد وضع الشريعة ابتداءا " .
من خلال هذا التحليل يتبين لنا أن دلالة نظرية المقاصد يصعب حصرها في بعد واحد لإحتوائها على قابلية عجيبة للفهم المتعدد، لهذا وصل في الأخير إلى القول "و على الجملة فان الفعل "قصد" قد يكون بمعنى "حصل فائدة" أو "حصل نية " أو بمعنى "حصل الغرض"، فيشمل "علم المقاصد" إذ ذاك على ثلاث نظريات أصولية متمايزة فيما بينها، أولها نظرية المقصودات، وهي تبحث في المضامين الدلالية للخطاب الشرعي والثانية نظرية القصود، وهي تبحث في مضامين الشعورية أو الارادية، والثالثة نظرية المقاصد، وهي تبحث في المفاهيم القيمية للخطاب الشرعي (7) .
بهذا المعنى يتضح أن الفهم الصحيح للمقاصد ينبني على هذه الشمولية التي تفرضها النظرية نفسها، لذا تقتضي منا الضرورة أن لا نتقيد بالتعريف الذي وضعه الطاهر ابن عاشور.
من جهة أخرى فإن هذه القابلية للفهم المتعدد لم تمنع الشاطبي من إرساء نظام قيمي دقيق نظم في داخله ما يحمله ذلك المصطلح من الدلالة، إذ ذهب إلى االتركيز على تحديد مفهوم المصلحة تحديدا يعبر عن تلك الدقة، حيث يقسمها إلي نوعين:
فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة إبتداءا، ومن جهة قصده في وضعها للأفهام، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومن جهة قصده دخول المكلف تحت حكمها" (8).
أما النوع الثاني فيتمثل في مقاصد المكلف االتي بينها في "أن الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات، من العبادات والعادات" و "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع" (9).
هذه المقولات تنبني عليها قضايا فرعية أخرى لا يتسع الأمر لذكرها لكن تبقى محتواة في الأولى. وهذا الإعتبار هو الذي منح نوعاً من الأنسجام بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلف.
إضافة إلى هذ التقسيم المنهجي، عمد الشاطبي إلى بيان أن المقاصد في حد ذاتها تنقسم إلى ضرورية وحاجية وتحسينية، وهذا بطبيعة الحال يعكس النظام القيمي الذي على أساسه تتوزع وتترتب عملية تحقق المقاصد في أبعادها الشرعية والاجتماعية. ولذلك وضع خمس قواعد أساسية؛ هي:
القاعدة الأولى: أن الضروري أصل لما سواه من الحاج والتكميلي.
القاعدة الثانية: أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقين بإطلاق.
القاعدة الثالثة: أنه لايلزم من اختلال الباقين اختلال الضروري.
القاعدة الرابعة: أنه قد يلزم لاختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي اختلال الضروري بوجه ما.
القاعدة الخامسة: أنه ينبغي المحافظة على الحاجي والتحسيني للضروري (10).
بهذا نصل إلى خلاصة واضحة وهي أن الشاطبي له مبرراته الموضوعية التي دفعته إلى عدم وضع تعريف جامع مانع لمفهوم المقاصد، بل عمد إلى إيراد إيضاحات إجرائية متعلقة بالجانب التطبيقي لهذا المفهوم.
________________________________________
(1) أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ط2، الدار العالمية للكتاب، 1996، ص5.
(2) ابن عاشور، مقاصدالشريعة الإسلامية،الشركة التونسية للتوزيع، 1978، ص52.
(3) ابن عاشور، نفس المرجع، ص52.
(4) طه عبد الرحمان، تجديد المنهج في تقويم التراث،ط1،دار الكتب العلمية،1991، ص 98.
(5) الشاطبي، الموافقات، ج2، ط1، دار الكتب العلمية،76.
(6) طه عبد الرحمان، نفس المرجع، ص98.
(7) المرجع السابق، ص98 .
(8) المرجع السابق، ص99
(9) الشاطبي، المرجع السابق،ج2،ص4.
(10) الشاطبي، المرجع السابق،ج2،ص4.
نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي؛
دراسة في بنية التشكل المعرفي لعلم المقاصد [2/3]
د. بدران بن الحسن 12/11/1426
14/12/2005
المبحث الثاني: الجذور المعرفية لنظرية المقاصد
لقد توجهت دراسات فلسفة العلوم والدراسات الإبستولوجية الحديثة إلى إبراز عوامل جديدة في تكوين العلوم والمعارف، وأثبتت أن العلوم والمعارف ناتج لتفاعل العالم البشري والعالم المادي، أي تفاعل المفكر مع موضوعه ومحيطه الاجتماعي. فهناك عوامل متعددة تدخل في عملية إنتاج المعرفة وتشكيلها وصياغتها وتوجيهها وتحديد بنيتها وبنائها.(/2)
وفي ضوء هذا، يكون تحليلنا لبعض المضامين التي بناها الشاطبي في "الموافقات"، حيث يبرز مصدران ترجع إليهما –معرفيا- نظرية الشاطبي في المقاصد، وأولهما "جذر البنية الأصولية"، أما الثاني فهو "جذر البنية الإجتماية".
(1)- جذر البنية الأصولية: نكتشف هذا البعد عندما نحاول أن نفهم العلاقة التي تجمع بين نظرية المقاصد والأزمة التي عاشها علم الأصول في عصر الشاطبي، وهي مشكلة من عدة ظواهر أهمها "ذهول "علم الأصول عن مقاصد الشريعة إلى درجة جعلت بعض أدواته الوظيفية كاللغة من أهم المباحث التي أستهلك فيها جهداً كبيراً. يقول ابن عاشور مشيرا إلى هذه المسألة، "أن علم الأصول لا يرجع إلى خدمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع، بواسطة قواعد تمكن العارف بها من انتزاع الفروع منها، أو من انتزاع أوصاف تأذن بها تلك الألفاظ... وتلك كلها في تصاريف مباحثها بمعزل عن بيان حكمة الشريعة وعن المعاني التي انبنت عليها الألفاظ، وهي علل الأحكام القياسية"(1).
بالإضافة إلى هذا، فقد تشكلت ظاهرة الاختلاف التي استهلكت مجهودات الفقهاء والأصوليين، وقد أشار إليها الشاطبي في مواضع عدة من "الموافقات"، حيث يقول في إحداها "لقد كنا قبل شروق هذا النور نتخبط خبط عشواء، وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء، لضعفها عن حمل هذه الأعباء، ومشاركة عاجلات الأهواء على ميدان النفس التي هي من بين المنقلبين مدار الأسواء، فنضع السموم على الأدواء مواضع الدواء، طالبين للشفاء كالقابض على الماء، ولا زلنا نسبح بينها في بحر الوهم فنهيم ونسرح من جهلنا بالدليل، في ليل بهيم، ونستنتج القياس العقيم، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم، ونمشي أكباباً على الوجوه ونظن أننا نمشي على الصراط المستقيم"(2).
نتيجة لهذا الإظطراب الذي هدّد نظام الأدلة الشرعية، والذي وعاه الشاطبي تمام الوعي، جعل قضية القطع أو اليقين مسألة محورية في مشروعه بحيث أقرها مباشرةً في المقدمة التي يقول فيها "إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعةٌ إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي"(3).
بهذا المعنى نجد أن العلاقات التي تجمع بين مظامين نظرية المقاصد من جهة والوضعية العامة للفكر الأصولي الذي ينظم إنتاج المعرفة الاجتهادية في ذلك العصر بدأت تظهر.
وبسبب هذا التناسب الوارد ذهب عبدالمجيد الصغير إلى القول بأن بعض مباحث المقاصد تشكل مشروع الإنقاذ المعرفي، فيقول مثلا في بيان قضية اليقين عنده "لقد فتح الشاطبي... في علم الأصول الطريق المضمون اليقين، الموصل مباشرةً إلى إدراك مقاصد الشرع وحكمته، وذلك بفعل تغير منهجي عميق كان من خلاله واعياً منذ البداية بضرورة مراجعة علم أصول الفقه، ونقد أدبياته المتأخرة خاصة، مبيناً حدود الإستفادة منها، وضرورة تطويرها لأجل إنقاذ علم الأصول ذاته، ما دام علماء الأصول قد ظلوا في غفلة عن القيمة الإجرائية"(4). هذا الفهم تؤكده إشارات أخرى وضعها الشاطبي يبيّن فيها أن نظرية المقاصد تمثل فعلاً مشروع تطهير لعلم الأصول.
هذه العملية كما بينها طه عبد الرحمن مبنية في ذهنية الشاطبي على كيفية تحويل العلاقات الاستمدادية التي تربط علم الأصول بالعلوم الأخرى من "حالة التداخل الإبتذالي" إلى حالة "التداخل الإجرائي"(5). وقد أشار إلى هذه الفكرة الشاطبي نفسه في المقدمة الرابعة التي وضعها في "الموافقات"، وهي تنص على أن "كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لاينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لاتكون عوناً في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية"(6)، والتداخل الإجرائي يقصد من حصر تلك الباحث الثانوية كاللغة في إطارها الوظيفي الإجرائي، بمعنى أنه ينظر إليها كأدوات تخدم غايات أعلى منها وهي المقاصد.
ومن أجل تحقيق هذا التحول المعرفي في بنية الخطاب الأصولي اعتمد الشاطبي على معيارين؛
المعيار الأول: ينص على التمييز في المعارف المندرجة في أصول الفقه بين المسائل المتأصلة والمسائل العارية.
المعيار الثاني: يقوم على التمييز بين ما يدخل في الفقه وما يدخل في أصوله، وبين ما يدخل في الفقه ولا يدخل في أصوله،فـ"ليس كل ما يفتقر إليه الفقه يعد من أصوله "(7).
ويوضح طه عبد الرحمن مآل هذه الإجراءات بقوله "فبمقتضى المعيار الأول أخرج أبو إسحاق من المعارف المتداخلة مع الأصول كل المعارف الخادمة لهذا العلم أو بإصطلاحه المعارف العارية... وبمقتضى المعيار الثاني أخرج من المعارف المتداخلة مع الأصول كل المعارف التي تدخل في الفقه ولا تدخل في أصوله مثل بعض المسائل الكلامية التي اقحمت في هذا العلم والتي تبحث فيها علوم مستقلة معتبرة"(8).(/3)
والنقطة الأخيرة التي توضح لنا هذا الإرتباط الوثيق بين المقاصد وعلم الأصول تتمثل في قضية الاختلاف التي أشرنا إليها حيث لمح إليها الشاطبي قائلا: "ليكون هذا الكتاب عوناً لك في سلوك الطريق وشارحاً لمعاني الوفاق والتوفيق لا ليكون عمدتك في كل تحقق وتحقيق ومرجعك في جميع ما يعن لك من تصور وتصديق إذ قد صار علماً من جملة العلوم ورسماً كسائر الرسوم ومورداً لاختلاف العقول وتعارض الفهوم"(9).
هذا النص يوحي بعلاقة مضمون المقاصد مع ظاهرة الاختلاف التي تمثل جزءاً من أزمة علم الأصول. بل إنه حتى المتأخرين الذين تكلموا عن موضوع المقاصد مثل ابن عاشور قد أشاروا إلى هذه الظاهرة التي تمثل الدافع المعرفي الذي أنتج الفكر المقاصدي.
يقول ابن عاشور في مقدمة كتابه "مقاصد الشريعة": "هذا الكتاب قصدت منه إلى إجلاء مباحث جليلة من مقاصد الشريعة الإسلامية، والتمثيل لها وللاحتجاج والإثبات لتكون نبراساً للمحققين في الدين ومرجعاً بينهم عند اختلاف الأنظار وتبدل الأعصار، وتوسلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار... وقد يظن ظان أن في مسائل علم أصول الفقه غنية لمتطلب هذا الغرض بيد أنه إذا تمكن من علم الأصول رأى رأي اليقين أن معظم مسائله مختلف فيها بين النظار، مستمر بينهم الخلاف في الفروع لأن قواعد الأصول انتزعوها من صفات تلك الفروع، إذ كان علم الأصول لم يدون إلا بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين... لذلك لم يكن لعلم الأصول منتهى ينتهي إليه حكم المختلفون في الفقه وتعذر الرجوع إلى وحدة أو تقريب الحال"(10).
هذا النص بيّن لنا فيه ابن عاشور ملامح معرفية أخرى تسببت في تشكل ظاهرة الإختلاف، وهي أولاً: بناء الأصول على فروع بحيث يصعب الحسم فيها مستدلاً بدليل تاريخي كما هو واضح. وثانياً: أوضح أن طبيعة الأصول نفسها- نتيجة لذلك- ينقصها الإطار الكلي وعبر عنه ب"المنتهى" الذي يحسم في القضية المختلف فيها.
(2)- جذر البنية الإجتماعية: والمقصود بها العوامل الاجتماعية التي شكلت بوضوح مباحث ومنهجية أعتمد عليها الشاطبي في "الموافقات" سواءً كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وبعبارة أخرى ما هو الدورالذي قام به التفاعل الناتج عن التصور القائم عن "البدعة" كمفهوم مركزي له دلالته بين أفراد وسلطات معينة في المجتمع الإسلامي يسهم في تشكيل نمط معين من الخطاب المعرفي الذي يحاول أن يبني نظم الإتصال والفهم بخطاب الوحي، والذي يراه الشاطبي حلاًّ لإنقاذ -ليس للجانب النظري من الأزمة فقط- بل كذلك الجانب التطبيقي، أي "حركة التأسي الاجتماعية" .
ينظر الشاطبي إلى البدعة في تميزها عن المعصية -التي لا تعدو أن تكون تعطيلا للشرع وتهاونا في الالتزام به دون ادعاء تشريع لموقف آخر- بحيث يعرفها "بأنها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الطريقة الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه"(11). وأشار الشاطبي إلى هذا المعرقل المعرفي "البدعة" بقوله :"كثرت البدعة وعم ضرها، واستطالت شرورها، ورام الإنكباب على العمل بها وسكت المتأخرون على الإنكار لها، وخلفت بعده خلوف وشرائع جهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها، فصارت كأنها سنن مقررات وشرائع من صاحب الشرع محددات، فاختلط المشروع بغيره، فعاد الراجع الى محض السنة كالخارج عنها"(12).
نفهم من هذا النص أن ما "قبل المعرفي" الذي كان يوجه فكر الشطبي كان جزء منه نابع من تقلب الأحوال والأعصار بتعبير ابن خلدون، التي أثّرت بلا شك على تحديد مفهوم التأسي الذي يجب أن يتوافق مع دلالات الوحي، وأن هذا التأثر هو الذي يعطي للمقاصد بعدها الإصلاحي، "أما كيف أسس مذهبه الاصلاحي على مقاصد الشريعة، فان ابن عاشور يحلل هذا الجنب، فيذكر أنه لما رأى ما عليه المجتمع الاسلامي من انحلال، نهضت في نفسه همة الاصلاح، ولكنه بقي حائرا في اختيار المنهج الذي يتوخاه لإصلاحه، وكانت حيرته بين منهجين هما: مذهب إخوان الصفا ومذهب الصوفية، لكنه عدل عنهما معا. فقد رأى عند إخوان الصفا نزعة نظرية تفصل الفكر عن العمل، ورأى عند الصوفية طريقة بعيدة الصواب، حيث ينتهون الى الباطن ويعرضون عن الفكر وعن الواقع معا"(13).
قد يصعب إرجاع هذا التأسيس إلى هذا التعليل الشعوري المبني على "الحيرة"، لأن هذا المفهوم الأخير مفهوم بسيط لا يمكن أن ينتج وحده معرفة مركبة مثل نظرية المقاصد. إذ لهذا الغرض يشترط أن تتوفر عوامل أخرى موضوعية أقوى من هذا السبب البسيط.
وفي هذه الحالة يكون تفسير المقاصد في إطار تطور الفكر الأصولي على طريقة تغير الأنساق إتجاهاً بناءا لفهم هذه الظاهرة الفكرية، التي بيّنا أنها تداخلت في تشكيلها عدة عوامل موضوعية لا يمكن الاستغناء عنها.
________________________________________
(1) المرجع السابق،ص246.
(2) المرجع السابق،ص13.(/4)
(3) إن تداخل العوامل الإجتماعية في النظام الإسلامي المعرفي له مفاهيم و نواضم معرفية شرعية تختلف تماما على النحو الذي تتبناه الإبستمولوجية الغربية، مثل إبستمولوجية التطورية عند بوبر التي تعتبر المجتمع لا يؤثر فقط في المعرفة بل يولدها كذلك أي يخلقها بدرجة أن أصبح مرجعية "مطلقة"بمعنى ما.
(4) المرجع السابق،ج1،ص13.
(5) المرجع السابق،ج1،ص19.
(6) عبد المجيد صغير،الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام،ط1،دار المنتخب العربي،1994،ص470.
(7) أنظر طه عبد الرحمان، المرجع السبق،ص95.
(8) الشاطبي،المرجع السابق،ج1،ص42.
(9) طه عبد الرحمان،المصدر السابق،ص94.
(10) الشاطبي الموافقات،ج1،ص23.
(11) عبد المجيد الصغير،المرجع السابق،ص498.
(12) الطاهر ابن عاشور،المرجع السابق،ص5و6.
(13) الشاطبي، الإعتصام، ط1، دار المعرفة، بيروت،1989.
نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي؛
دراسة في بنية التشكل المعرفي لعلم المقاصد (3/3)
د. بدران بن الحسن 23/11/1426
25/12/2005
المبحث الثالث: الآليات الداخلية لنظرية المقاصد.
إن التأسيسات النسقية الشاملة كالتي قام بها الشاطبي في نظرية المقاصد في مجال أصول الفقه تتضمن مجموعة من الآليات البنائية الداخلية يتأسس عليها الإطار العام للفكرة، وتتولد عنها معارف جديدة تستهدفها الشروط التي قامت من أجلها تلك النظرية.
لهذا السبب يصبح اكتشاف العلاقات الوظيفية التي تنبني عليها هذه الأليات ضرورة ملحة، لأنها تفتح بابا لفهم أعمق، كما أن ممارسة عملية البحث والتقصي والحفر في المحيط المعرفي الذي تشغله قد يؤدي إلى اكتشاف آليات ثانوية على مستوى المصطلحات الفردية.
ولبيان معنى هذه الفكرة أحاول أن حلل مفهومين أساسين اعتمد عليهما الشاطبي في تأسيس مشروعه وهما: مفهوم الاستقراء، ومفهوم المصلحة.
1. مفهوم الإستقراء:
اعتمد الشاطبي كثيرا على الاستفراء لتأسيس ما سماه البعض بمعقولية أدلة الإستنباط الشرعية المنبنية على القطع لا على الظن كما ذهب إليه إعتقاد كثير من الأصوليين، إذ منذ البداية أعلن الشاطبي أن تأسيساته الأصولية العامة مبنية على هذا لمنهج الذي ارتضى البعض أن يسميه منهج "تراكم الأدلة"، حيث يقول: "ولما بدا لي من مكنون السر ما بدا ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى لم أزل أقيد من أوابده وأضم من شواهده تفاصيل وجملا وأسوق من شواهده في مصادر الحكم وموارده مبينا لا مجملا معتمدا على الإستقراءات الكلية غير مقتصر على الأفراد الجزئية ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية حسبما أعطته الإستطاعة والمنة"(1).
والقطع في منهج الإستقراء كما يراه الشاطبي يتأسس من خلال قانون تظافر أو تعاضد الأدلة الجزئية الظنية، "وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرئة من جملة أدلة ظنية تظافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للإجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل استقراء أدلة المسألة مجموعا يفيد العلم فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوي"(2).
كما يرى الشاطبي أن إهمال بعض قدماء الأصوليون الإشارة إلى أهمية الإستقراء لأدلة الشريعة التفصيلية وقواعدها الكلية ومقاصدها العامة وقلة إعتنائهم بربط تلك الأدلة بعضها ببعض قد جعلهم مقصرين في تنبيه غيرهم من الخلف إلى قطعية الأدلة المستقرأة من أصول الشريعة، بل إن ذلك الإهمال أبقى المتأخرين في بحثهم عن كل مسألة فقهية أو أصولية سجناء للفتن، بعيدين عن اليقين والاتفاق، قريبين من الظن والإختلاف والافتراق، غافلين عن روح المسألة المستفادة حتما من الإستقراء، والمراد إثبات القطع لها، بفضل الربط بين أغلب جزئياتها، وإدراك الجامع بينها"(3).
والقطع في هذا النسق يجب أن يفهم كذلك في إطار مضمون الفكر المقاصدي، بمعنى أخذه بالدلالة المضمونية لا الصورية، إذ هذا يفسر لقارئ كتاب "الموافقات" سبب بروز أسلوب الاحتجاج الذي يمارسه الباحث في العلوم الحية كالعلوم الإنسانية، لأنه إذا أخذنا القطع بالمفهوم الصوري فإنه لا ينبغي أن يظهرذلك الأسلوب بهذه الدرجة. ويبدو واضحا أن الشاطبي يقول بالضرب الثاني، فالقطع الذي يعنيه هو يقين القضايا الكلية الذي يستفاد بطريقة الإستقراء من أدلة الشريعة، ويتصف بالاطراد والثبات والحاكمية، فقد كان لا يضره على الإطلاق أن يتوسل فيه بأليات الاستدلال المشروعة والمنقولة عن الإصوليين، فضلا عن أليات استدلالية أخرى اختص بها لا تقل حجاجية عن هذه الاستدلالات المنقولة، بل الاتساق جائز كل الجواز بين المضمون القطعي والاستدلال الحجاجي(4).(/5)
ولعله من المهم الإشارة إلى أن القطبين الذين يكوّنان آلية الإستقراء يدوران بين ما سماه كليات الشريعة وبين جزئياتها، والشاطبي في تحديده النظام الذي يحتضنه كان في قمة الذكاء والعبقرية، إذ في الوقت الذي يؤكد أن الكلي نصل إليه عن طريق الحالات الجزئية، يبيّن في الوقت نفسه أن الكلي له سلطة أقوى من تلك الجزئيات، فخرم هذه الأخيرة لا يؤدي أبدا إلى انهيار القضايا الكلية. بالرغم من أن هذا قد لا يتناسب مع الفقه الذي تدور مباحثه حول أفراد جزئية، فإن هذه المقولة يبقى لها أثر معرفي هام قد يساعد على اكتشاف نظام جديد لمنهجية الإستقراء. وهذا التوجه يخالف ما ذهبت إليه الإبتسمولوجيا المعاصرة خاصة في نظرية بوبر "الدحض والتكذيب" التي تقر أنه بمجرد مخالفة عينة واحدة للقضية الكلية فإن القيمة العلمية لهذه الأخيرة تسحب منها.
وفي هذه النقطة يقول الشاطبي مبينا نظامه الاستقرائي: "وكانت الجزئيات هي أصول الشريعة فما ..... مستمدة من تلك الأصول الكلية - شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات - فمن واجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات ... إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها فمن أخذ بالنص مثلا في جزء معرضا عن كلي فقد أخطأ، كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن الجزئي"(5).
والحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس، وهو منتهى نظر المجتهدين بالإطلاق ... وما قرر في سؤال على الجملة صحيح، إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما، والجزئي محكوم عليه بالكلي، لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي لا بالنسبة للأمور الخارجية" "لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت(6).
2. مفهوم المصلحة:
يأخذ مفهوم المصلحة موقع المركز(7) في نظرية المقاصد، إذا كان معتبراً من جانبين؛
الجانب النظري نشأ حين ناقش الشاطبي خطاب الوحي وأعتبر أن "وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً، وهذه الدعوة لابد من إقامة البرهان عليها صحةً أو فساداً ... والمعتمد انما هو أن المقر بين من الشريعة انما وضعت لمصالح العباد إستقراءً لاينازع فيه الرازي(8)." هذا الحصر للشريعة في تحقيق المصالح تجعل تحديد مفهوم المصلحة في المستويات المختلفة - الفردية والجماعية - من المباحث الأساسية التي يجب أن نحدد معالمها.
أما الجانب العلمي، فإنه يتشكل من الوجه الذي يدل على أحد المفاهيم التي تشكل بنيوية التفاعل الإجتماعي وحركته. إذ تفهمه في إطار النظام الشامل الذي يصوغ "الوعي الجماعي" لمجتمع بوجه الذي يساعد على قيام محاولة الإصلاح فيه. بعبارة أخرى، أن تنظيم تحقق هذا المفهوم واقعياً بين الأفراد والجماعات، خاصة في الفضاء الإجتماعي، الذي تتداخل فيه سلطات متباينة في اتجاه الصراع و المنافسة -التي ميزت المجتمع الاسلامي في فترات متعددة من تاريخ تطوره حتى الاّن -تمثل في الحقيقة نصف مشروع المقاصد.
نتيجة لطبيعة التموقع الدلالي الذي شغله هذا المفهوم أولى الشاطبي له إهتماما خاصا، بحيث بيّن فيه مختلف جوانب التداخل الدلالي، والفهم الذي يمكن أن يحصل من هذا المصطلح، معتمدا في ذلك على عمليات التقسييم والترتيب.
وقد عرف الشاطبي المصلحة قائلا: "وأعني بالمصالح ما يرجع إلى قيام حياة الإنسان وتمام عيشه ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق حتى يكون منعما على الإطلاق(9)."
ولم يقف عند الحد الذي كان الجانب المادي فيه بارزا، بل ذهب إلى بيان التمييز بين أنواعها، وقسم المصلحة إلى قسمين؛ القسم الأول مصلحة تتعلق "بمواقع الوجود" وهي مصلحة إضافية نسبية غير ذاتية نتيجة لتداخلها مع المفسدة، فحسب قوله "هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبلتين ولهذا قال تعالى: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة". ولما كان الأمر كذلك فالتمييز بينهما حسب رأيه يقوم على قاعدة " الفهم على مقتضى ما غلب"(10).
أما القسم الثاني من المصالح فيدل على جهة تعلق الخطاب الشرعي بها، وهي خالصة "غير مشوبة بشيء من المفاسد لا قليل ولا كثير، وإذا توهموا بأنها مشوبة فليس في الحقيقة الشرعية كذلك لأن المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة إنما المراد بها بما يجري باعتبار الكسب من غير الخروج إلى زيادة تقتضي تلفت الشارع إليها عن الجملة(11)."
لأهمية هذا المصطلح يقول عبد المجيد الصغير: "إن محاولة الشاطبي تستهدف إعادة النظر وتعميق الرؤيا إلى نفس المفهوم، مفهوم المصالح الذي سيصبح بجانب مفهوم المقاصد المركز والمحور الذي يدور حوله مشروع الشاطبي بكامله، في حين تأتي سائر المفاهيم الأخرى مجتمعة بدلالات منهجية ترمي إلى تأسيس رؤية جديدة حول المفهوم المركزي"(12).(/6)
والشاطبي في نظامه المقاصدي إنما يسعى إلى تأسيس المصلحة في مفهومها الثاني لأنها تمثل أكمل وجه يمكن أن يتحقق فيها، يقول: "المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب المصالح العادية أو درء المفاسد العادية(13)".
بهذا يتبين لنا اتجاه المشروع المقاصدي في تحديد مفهوم خاص بالمصلحة والتي يعتمد عليها كوسيلة أساسية لإصلاح الفوضى الإجتماعية الناتجة عن غموض دلالاته التي يجب أن تكون مطابقة للوحي. هذا المقصد هو الذي تسعى إليه النظرية لتأسيسه في نظام صارم دقيق يحدد معالمه النظرية وتطبيقياته في الفضاء الإجتماعي الذي يشغله.
المبحث الرابع: القيمة المعرفية لنظرية المقاصد.
بصفة عامة إن الإتجاهات التي تناولت مبحث المقاصد بالتحليل والنقد يمكن حصرها في اتجاهين؛ الاتجاه الأول يعتبر المقاصد جزئا متميزا من أصول الفقه فينضم بذلك إلى الأقسام الأخرى كقسم الأدلة وقسم الأحكام(14)، أما الإتجاه الثاني فهو الذي ينظر إليها باعتبارها نظاما كليا جديدا يحمل مميزاته الذاتية القادرة على إحداث "قفزة معرفية" علمية، تحدث تغييرات جذرية في مفاهيم المعرفة، وذلك مثلاً من خلال آلية "الكلية والجزئية".
ظهرت في هذا الاتجاه الثاني وجهات نظر متعددة تؤكد مرة أخرى الكلام الذي ذهبنا إليه في المقدمة بأن نظرية المقاصد يجب النظر إليها وتقييمها بمعيار "العامل المعرفي" الذي تدخل في تركيبه عوامل عدة مشكلة "عقبة معرفية"، وتجاوز هذه الأخيرة هو المبدأ الذي يقوم علية معيار التقييم.
فقد ذهب عابد الجابري إلى اعتبار المقاصد نقلة في النظام المعرفي بالمعنى الذي يعتبر فيه أنه علم يخرج أحكام الفقه من المعالجة البيانية إلى التنسيق البرهاني(15). وهو يستند في ذلك إلى بعض المحاولات التي سعى الشاطي لبنائها، ومثال ذلك، مفهوم المعقولية التي يريد إضفائها على الأحكام الشرعية بناءا على مفهوم القطع. هذه العملية حسب الجابري توازي تشكل اليقين في العقليات، إذ يقول: "كيف يمكن بناء معقولية في الشرعيات على القطع وهو يوازي اليقين في العقليات ونحن نعلم أنها تعتمد النقل وليس من إنشاء العقل؟ يجيب الشاطبي إن ذلك ممكن جدا إذا نحن اعتمدنا على الطريقة البرهانية فبنينا أصول الفقه على كليات الشريعة وعلى مقاصد الشرع، وإن كليات الشريعة تقوم مقام الكليات العقلية في العلوم النظرية، أما مقاصد الشرع فهي السبب الغائي الناظم للمعقولية(16)".
بل يذهب الجابري إلى أبعد من ذلك، حين حاول أن يكشف عن هذه العلاقة بعد بيان أنواع المقاصد التي حددها الشاطبي وهي أربعة: المصلحة والفهم والتكليف وإخراج المكلف من داعية هواه حتى يكون عبدا لله إختيارا كما كان عبدا لله إضطرارا. قال: "وما يهمنا منها هنا هو علاقتها ببناء المعقولية في ميدان الفقه، فهي لها علاقة بالأسباب عند أرسطو وهي أربعة كذلك، هل نطابق مثلا بين السبب المادي وبين قدرة المكلف، وبين السبب الصوري ومعهود العرب، وبين السبب الفاعل وإخراج المكلف من داعية هواه، وبين السبب الغائي ومصالح العباد؟ لنكتف بالقول أن نموذج المعقولية في الطريقة البرهانية خلال القرون الوسطى كان نموذج أرسطو، ولذلك فليس غريبا أن نجد ملامح هذا النموذج في كل محاولة لإفضاء المعقولية على البناءات الفكرية، سواءا منها ما له طابع فكري كالعقليات عند ابن رشد أو ما يؤطر العقل كأصول الفقه عند الشاطبي(17)".
أما طه عبد الرحمن فذهب إلى رأي مخالف، نظر فيه إلى المقاصد على أساس أنها نظرية عامة تقدم الجانب القيمي اللازم توفره في تأسيس علم ما تأسيسا "شرعيا". ويرد قول الجابري بحجة يوضحها في قوله "لأننا سوف نرى أن المضامين المقصدية تندرج في نظام معرفي أنزله الجابري مرتبة هي دون مرتبة البيان، إذ ينكشف على أنها مضامين عرفانية، فيكون الانتقال الذي حصل في علم الأصول ليس انتقالا إلى الأفضل أي إرتفاعا في القيمة العلمية كما إدعى هذا النقد، بل إنتقالا إلى الأخس(18)". ويرى أن هذه النظرية شاملة إذا ما حاولنا أن نستقرئ فيها الأبعاد الأخلاقية في دلالتها النسقية، حيث يقول: "وحاصل الكلام في الأوصاف الأخلاقية للمقاصد الشرعية أي أن المقصود الشرعي معنوي وفطري، وأن القصد إرادي وتجريدي، وأن المقصد حكمي ومصلحي، علما بأن المصلحة هي المحل المعنوي لتحقيق الصلاح، وعلى هذا يكون علم المقصد هو الصورة التي اتخذها علم الأخلاق للإندماج في علم الأصول(19)".
بعد هذا يختم طه عبد الرحمن تصوره قائلا: "وما الشاطبي عندنا إلا أب التداخل بين علم الأخلاق وعلم الأصول، فاتحا بذلك طريقا في بناء العلم الإسلامي على أسس التنسيق المتكامل الذي لا نعلم له نظيرا في السابق ولا في اللاحق(20)".
خاتمة:(/7)
بعد هذا العرض المتواضع لبعض دلالات نظرية المقاصد التي تساعدنا نسبيا في تاريخية تشكلها وبنيتها وتحديد قيمتها العلمية، تبين أن العوامل التي تظافرت وشكلت "العامل المعرفى" الذي دفع بنظرية المقاصد إلى التشكل والتطور يكمن في عامل التطور الداخلي للفكر الأصولي، والعامل الاجتماعي الذي شكل محفزا من هلال المشكلات التي طرحها في وجه المنهج الصولي واضطره للبحث عن آليات جديدة ومنهج جديد لحل تلك الإشكالات.
كما أن هذه النظرية يتعطل فهمها بدون فهم العلاقات البنائية الوثيقة التي تربطها بأصول الفقه وإشكالياته، كما أن المحتوى المعرفي لهذه النظرية لا يلائم إلا الغاية التي ساهمت في قيام النظرية نفسها، وهي تطهير علم الأصول.
ولقد تحقق تحول كبير يمكن أن يعتبر "نقلة معرفية "حين نستحضر مسار التطور التارخي لعلم الاصول، بحيث كانت بدايته الحاسمة مع الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة"، ثم تأتي محطة أخرى شيدها الإمام الجويني والغزالي بمناقشة الأصول في إطار النظم المنطقية، وبعدها تأتي المر حلة الثالثة التي تتمثل في المقاصد التي بدأت حسب بعض التحقيقات التاريخية مع العز بن عبد السلام ثم الشاطبي وأخيرا إبن عاشور وعلال الفاسي والجيل الحديد من الباحثسن المعاصرين.
قد لا تكون الأدلة العلمية لدينا واضحة حول قيمة هذا التطور، لكن نستطيع أن نبين من خلاله فكرة مهمة وهي إثبات طبيعة التطور نفسه، بمعنى أنه لا يمكن أن تصمد أدلة الذين يرفضون قيام عمليات التجديد في آّليات هذه العلوم. هذا الموقف يتعارض مع طبيعة هذه العلوم نفسها، لأن هذه الأخيرة تخضع لمبدأ تاريخانية الأفكار.
وأعتقد أنه إذا فهمنا هذه الحركة الخفية نتمكن من فهم مشروعية وضرورة تطوير كثير من المناهج والأدوات التي نستعملها لفهم خطاب الوحي والواقع، لكن فلسفة هذا التطور العلمي توصف بأنها تواصلية لا إنقطاعية، بعبارة أخرى أن التطوير يلزم أن يكون مبنيا على المتراكم قبليا من الفكر. بهذا المفهوم ننظر إلى نظرية المقاصد على أنها مشروع معرفي جزئي مرتبط بإشكاليات ظهرت في مرحلة معينة من صيرورة الفكر الإسلامي، قد تكون غير مستمرة في وقتنا الحاضر أو معلومة، لهذا فإن اعتبارها منهجية كلية عامة يمكن العمل بها في العلوم الأخرى فيه نوع من المغالطة، لكن تبقى الاستفادة منها مشروعة علميا و ضرورية تفرضها القواعد التي تنظم المعارف في داخل المنظومة الإسلامية العلمية.
هذا أما إذا أردنا أن نفهمها بحجم ذلك الاتساع، فأعتقد أن الموقف الذي ذهب إليه طه عبد الرحمان هو الأصح، بمعنى أن شمولية منهجية المقاصد تظهر فقط من زاوية الجانب القيمي والأخلاقي. فإذا كانت كما عبر عنها بأنها محاولة إدماج علم الأخلاق في علم الأصول، فإنه لا يوجد مانع منهجي لإحداث نفس العملية في العلوم الأخرى. وفي هذا السياق يكون طرح موضوع علاقة النظرية بالعلوم الإنسانية طرحاً بناءا، أما محاولة تطبيقها ميدانياً لحل المشكلات الحديثة المعقدة، فإن هذا يدل على "ذهول منهجي" في البنية الحقيقية للفكر والواقع معاً.
وهكذا يمكن أن نصل إلى نتيجة تركيبية تجعل نظرية المقاصد "نظرية جزئية في المعرفة" تخص علم أصول الفقه، ونظرية أخلاقية عامة يمكن إدراجها في مختلف العلوم مع إبقاء إمكانية الإستفادة الجزئية من بعض مضامينها العلمية التي تخص فلسفة المعرفة بصفة عامة. والله أعلم ,,,
قائمة المصادر والمراجع:
1- أبو إسحق الشاطبي، الموافقات في أصول الفقه، ط1،دار الكتب العلمية، 1991م.
2- محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسيةللتوزيع، 1978.
3- محمد عابد الجابري، التراث و الحداثة، مركزالدراسات العربية، بيروت، 1991.
4- محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز الدراسات العربية، 1991 .
5- طه عبد الرحمان، تجديد المنهج في تقويم التراث، ط1، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1994
6- عبد المجيد الصغير، الفكر الأ صولي و إشكالية السلطة العلمية في الإسلام، ط1، دار المنتخب العربي، بيروت، 1994 .
________________________________________
(1) عبد المجيد الصغير،المرجع السابق،ص131.
(2) الشاطبي، الوافقات، ج1، ص16.
(3) عبد المجيد الصغير،المرجع السابق،ص131.
(4) عبد المجيد الصغير،المرجع السابق،ص131.
(5) الشاطبي،الموافقات،ج1،ص24.
(6) الشاطبي،الموافقات،ج3،ص5 إلى 9.
(7) عبد المجيد الصغير،المصدر السابق،ص116.
(8) الشاطبي، الموافقات،ج2،ص6.
(9) نفس المرجع،ص25.
(10) نفس المرجع،ص25.
(11) نفس المرجع،ص26.
(12) عبد المجيد،المرجع السابق،ص472.
(13) نفس المرجع،ص27.
(14) نفس المرجع،ص29.
(15) الجابري،بنيةالعقل العربي،ص554.
(16) الجابري، التراث و الحداثة، مركز الدرسات الوحدة العربية،1991، ص210.
(17) الجابري،نفس المرجع،ص211.
(18) طه عبد الرحمان، المرجع السابق،ص97.
(19) نفس المرجع،ص97.
(20) نفس المرجع،ص97، 122.(/8)
نظرية طه حسين فى الشعر الجاهلى سرقة أم ملكية صحيحة؟
د.إبراهيم عوض
ibrahim_awad9@yahoo.com
ما زلتُ أذكر تلك المحاضرة التى كنت ألقيها بين العصر والمغرب فى أحد الأيام من خريف سنة 1989م على طلاب الفرقة الرابعة (قسم اللغة العربية وآدابها فى كلية الآداب بجامعة عين شمس بالقاهرة) حين قام طالبٌ ممن يُسْعِدون أساتذتَهم بمناقشتهم فيما يقولون ولا يكتفون بالسماع السلبى القاتل، فعلَّق على ما كنتُ كتبتُه عن الدكتور طه حسين فى كتابى "معركة الشعر ا لجاهلى بين الرافعى وطه حسين" قائلا: يبدو لى أنك قد ظلمتَ الدكتور طه فى اتهامك إياه بأنه أخذ نظريته التى تشكك فى الشعر الجاهلى وشعرائه من المستشرق البريطانى ديفيد صمويل مرجليوث. وكعادتى فى مثل تلك الظروف توقفت قليلا وأنا أبتسم للطالب قبل أن أرد عليه بما يشبه الإلهام: غريبة! كيف فاتنى أن أرجع لما كتبه الدكتور طه فى كتابه "قادة الفكر" عن الشاعر الإغريقى هوميروس صاحب الإلياذة قبل أن أضع كتابى هذا؟ ثم أردفت قائلا: أرجو منك أن تنزل الآن فتستعير ذلك الكتاب من مكتبة الكلية وتحضره لى حتى نستكمل النقاش فى مكتبى، إذ يغلب على ظنى أن طه حسين قد تطرق إلى الحديث عن الشعر الجاهلى فى أول فصول ذلك الكتاب الذى كنت قرأته من زمن غير قريب، وأريد أن أرى ماذا قال فى ذلك الموضوع. ولم يكذّب الطالب خبرا، فما إن انتهت المحاضرة وعدت إلى مكتبى وبرفقتى بعض الطلاب المتحمسين لمتابعة النقاش حتى وجدته ينتظرنى وفى يده الكتاب المستعار. فشكرته وأخذته منه وشرعت أقلب صفحات الفصل المشار إليه، ولم يطل بنا الانتظار، فقد وقعتُ على نصٍّ مهمٍّ جدا للدكتور طه يقول فيه إنه ما كانت الحضارة الإسلامية، التى ظهر فيها مَنْ ظهر مِنَ الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال، لِتُوجَد لو لم توجد البداوة العربية التى سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم. هكذا بالنص على ما سوف يأتى بيانه. فأريتُ النصّ للطلاب ثم شفعتُ ذلك، وأنا أضحك، بسؤال الطالب الذى فجَّر المسألة قائلا: "أوما تزال عند اتهامك لى بأنى ظلمت طه حسين؟ إن هذا الكتاب، كما يتضح من مقدمته، قد صدر قبل ظهور البحث الذى وضعه مرجليوث عن الشعر الجاهلى بأسابيع قليلة جدا جدا مما يدل على أن الدكتور طه لم يكن، حتى ظهور دراسة مرجليوث، يشك أدنى شك فى صحة الشعر الجاهلى أو فى وجود شعرائه. ثم إنه لم يكتف بذلك، بل ها هو ذا يؤكد أنه لولا وجود ذلك الشعر ما وُجِدت الحضارة الإسلامية. وهو كلام كبير وخطير!".
وبعدها بقليل فوجئت بالأستاذ عبد الرشيد صادق محمودى (الذى كنت قد رددتُ عليه فى كتابى المذكور بأن الدكتور طه لا يمكن أن يكون قد استقى شكه فى الشعر الجاهلى من الكاتب الفرنسى إرنست رينان كما يدَّعِى هو) فوجئت به يكتب فى شهر سبتمبر بـ"الأهرام" ثلاث حلقات يتناول فيها ما قلته عنه معزِّزًا رأيه السابق فى الموضوع ببراهينَ ظنَّها مفحمة مما دفعنى إلى التعليق على ما كتب، مستشهدا فى تعليقى، ضمن ما استشهدتُ، بما قرأته مع طلابى من كلام الدكتور طه فى كتابه "قادة الفكر"، ثم أرسلتُ الجزءَ الأول من هذا التعليق للصحيفة مع أحد الأشخاص، لكن الرسول عاد وأخبرنى، والعهدة عليه، بأنه قد فهم من كلامهم أنهم لا ينوون أن ينشروا ما بعثتُ به إليهم. وكنت أستعد فى ذلك الحين للسفر إلى السعودية مُعَارًا إلى جامعة أم القرى بالطائف فانشغلت بتجهيز أوراق السفر وما إلى ذلك عن متابعة الأمر. وها هى ذى السنون تدور، ويثير الإخوان الكرام فى جريدة "شباب مصر" هذه القضية فأجدها فرصة سانحة لمحاولة نشر ما كنت كتبته آنذاك بعد أن حصلت، بشق الأنفس من خلال البريد المشباكى، على مسوَّدة الجزء الثانى منه (مسوَّدة الجزء الثانى فقط، لا النسخةَ المنقَّحةَ من المقال كله)، وهى فى حال يُرْثَى لها من التهويش والتفكك بعد ذلك الزمن الطويل.(/1)
وتدور نظرية عبد الرشيد الصادق محمودى على أن إفادة طه حسين الرئيسية فيما يتعلق بشكّه فى الشعر الجاهلى مستلهَمة من المستشرق الفرنسى إرنست رينان، الذى يؤكد الأستاذ المحمودى أن الدكتور طه كان على علم، قبل أن يضع كتابه "فى الشعر الجاهلى" بسنوات طويلة، بما كتبه هو ورصفاؤه الألمان عن ذلك الشعر (انظر مقاله "منابع ألمانية وفرنسية لشكوك العميد" بالصفحة الثقافية من "أهرام" الجمعة 8 سبتمبر 1989م). والأستاذ المحمودى يريد، فيما هو واضح، أن يخفف من التفاف الحبل حول عنق طه حسين. إنه لا ينفى إفادته من كتابات المستشرقين، لكنْ فرقٌ بين إفادةٍ وإفادة: فطه حسين، فى حالة ثبوت الإفادة من مرجليوث، سارقٌ سرقةً لا يمكن أبرعَ المحامين أن يبرِّئ ساحته منها، أما فى حالة الإفادة من رينان فلن يكون الأمر أمر سرقة، فرينان لا ينكر الشعر الجاهلى، بل تنحصر الإفادة فى أن طه حسين قد استخدم الفكرة التى وجدها عنده حسبما قال، لأنى لم أَطَّلِع بنفسى على الدراسة المذكورة (وهى أن ذلك الشعر لا يعكس اختلاف اللهجات العربية فى الجاهلية ولا يقدّم لنا صورة الحياة الدينية أوانذاك) استخدمها فى نقض الشعر الجاهلى، وعلى هذا فإنه رغم إفادته منه يبقى مفكرًا أصيلاً لا يردِّد آراء غيره. أى أن طه حسين هو ابنُ بَجْدَتها، أو على الأقل صاحب مشاركة أصيلة فى الأمر لا سارقٌ يسطو على أفكار الآخرين. وهذا هو مربط الفرس!
وقد أصدر رينان كتابه "Histoire Generale et Systeme Compare des Langues Semitiques "، الذى تعرَّض فيه للشعر الجاهلى فى 1853م (بالنسبة للجزء الأول)، و1869م (للجزء الثانى)، كما عَرَض رينيه باسيه آراءَ المستشرقين الألمان حول ذلك الموضوع فى كتابه عن "الشعر العربى قبل الإسلام" عام 1880م (انظر، فى تاريخ صدور الكتابين، نجيب العقيقى/ المستشرقون/ ط3/ دار المعارف/ 1964م/ 1/ 202، 223. ويجد القارئ ترجمة لهذه الأبحاث وغيرها من الأبحاث المشابهة فى كتاب د. عبد الرحمن بدوى: "دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلى"). وبالمناسبة فهاتان الحجتان، أو قل: هاتان الشبهتان، لا تصمدان للنظر، فنحن العرب الآن مثلا نتكلم فى حياتنا اليومية اللهجات العامية المختلفة التى كثيرا ما يتعسّر فهمها على غير أصحابها، لكننا حين نكتب نصطنع اللغة الفصحى التى يفهمها الجميع، ولا تعارض بين هذا وذاك، ولا يمكن أن يأتى باحث بعد عدة مئات من السنين فينفى صحة هذا التراث العلمى والأدبى الضخم بحجة أنه لا يعكس ما كنا نتخاطب به من لهجات. ويؤكد هذا أنه سبحانه وتعالى قد وصف القرآن الكريم فى أكثر من موضع منه بأنه نزل بـ"لسانٍ عربىٍّ مبين"، ولم يقل: "بلسانٍ قرشىٍّ أو حجازىٍّ" مثلا، وهذا يعنى أنه كان هناك لسانٌ قومىٌّ للعرب جميعا يتواصلون به رغم اختلاف القبائل واللهجات. كما أن القول بخلو الشعر الجاهلى من الموضوعات الدينية هو دعوى غير صحيحة. وحتى لو كانت صحيحة فليس معنى ذلك أن هذا الشعر مزيَّف، فأقصى ما يمكن أن يقال فيه حينئذ أنه شعر ناقص لا أنه شعر زائف. هذا هو حكم المنطق، ولكن خّلِّنا فيما نحن فيه، فذلك موضوع آخر!
وأريد الآن أن أتتبع أفكار رينان والمستشرقين الألمان فيما كتبه المؤلفون المصريون والمتمصِّرون الذين تناولوا ذلك الشعر حتى أخرج طه حسين كتابه المذكور وكانوا متصلين بكتابات المستشرقين وبيئاتهم كى نعرف مدى انتباه النقاد ورجال الأدب لهذه الأفكار واهتمامهم بها. وأقدم هؤلاء، فيما نعرف، حسن توفيق العدل (1862- 1904م)، الذى كان من أوائل المبعوثين إلى ألمانيا لدراسة الآداب والتربية بجامعاتها، والذى اختاره الألمان للتدريس بالمدرسة الشرقية ببرلين، ثم حاضر بعد ذلك فى كمبردج سنة 1903م، وظل هناك حتى سنة 1904م. وقد كتب العدل "تاريخ آداب اللغة العربية" وطبعه على البالوظة عام 1904م، وتوجد منه نسخة مخطوطة بدار الكتب. فإذا ما قرأنا ما كتبه عن الشعر الجاهلى راعَنا أنه لم يكن يدور بذهنه أى شك فى ذلك الشعر مع أنه عاشر المستشرقين فى أوربا طالبا وأستاذا رَدَحًا من الزمن كما رأينا. وبالنسبة للنقطة الخاصة بلغة الشعر الجاهلى نراه يقول بأن أصحابه كانوا يستعملون لهجة قريش لكونها لغة العرب الأدبية ولحرصهم على شيوع شعرهم بين القبائل العربية جميعا (انظر عبد الحى دياب/ التراث النقدى قبل مدرسة الجيل الجديد/ دار الكاتب العربى/ القاهرة/ 1968م/ 90- 93، ود. عبد العزيز الدسوقى/ تطور النقد العربى الحديث فى مصر/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/1977م /183- 186).(/2)
ولدينا كذلك سليم البستانى مُعَرِّب الإلياذة الذى كتب مقدمة ضافية لها عرض فيها للشعر الجاهلى وقرر وثاقة الطريقة التى انتقل بها، ومن ثم فذلك الشعر منذ المهلهل بن ربيعة صحيح لديه، وإن لم يخل بعضه من النقد والشبهات (وهذا نص عبارته). وبالمثل نراه يقرِّر أن العرب، وإن اختلفت لهجاتهم، كانوا يؤلفون شعرهم ونثرهم بلهجة قريش لأنها أفصح اللهجات، فضلا عن أن سدانة هذه القبيلة للكعبة كَتَب للهجتها السيادة. كما أكد أن الشعر الجاهلى يصور الحياة العربية فى ذلك الوقت أدق تمثيل (انظر ترجمته للإلياذة/ مطبعة الهلال/ 1904م/ 1/ 107،111، 120- 121). ومن هذا يتضح لنا أنه لا يوجد أى انعكاس لشكوك المستشرقين فيما كتب البستانى عن ذلك الشعر. بل إنه لم يذكر أيًّا منهم، اللهم إلا رينان، وفى معرض الثناء على شعر هوميروس مما لا علاقة له بقضية الشك فى الشعر الجاهلى البتة (ص24). والملاحَظ أنه كان مطمئنا تمام الاطمئنان للشعر الجاهلى فى ذات الوقت الذى كان يعى فيه أن بعض الدارسين الغربيين فى أواخر القرن الثامن عشر كانوا يشكون فى وجود هوميروس (ص25).
ومن هؤلاء المؤلفين المطلعين على كتابات المستشرقين والمتصلين بهم اتصالا مباشرا أيضا جرجى زيدان، الذى تبحث فيما سطّره عن الشعر الجاهلى فى كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية" المملوء بالمراجع الاستشراقية عن أثر لما كتبه رينان أو نولدكه أو آلفارت عن هذا الشعر ومدى صحته أو عدمها، فلا تجد لشىء من ذلك ظلاًّ أىّ ظل. وحتى فى المسألة الفرعية المتصلة بالمعلَّقات وهل عُلِّقت فعلاً على أستار الكعبة أَوْ لاَ نراه يرفض شك المستشرقين فى ذلك الأمر. وقد يظن بعض القراء أن جورجى زيدان ربما لم يطَّلع على كتابات أولئك المستشرقين فى ذلك الموضوع، فأسارع إلى طمأنتهم بأنه قد ذكر بين مراجعه دراسات هؤلاء المستشرقين الثلاثة وغيرهم حو ل هذا الشعر (انظر كتابه"تاريخ آداب اللغة العربية"/ دار الهلال/ تعليق د. شوقى صيف/ 167) حيث يشير إلى ما كتبه نولدكه وآلفارت ولايال وسلان...إلخ، وكذلك كتابه "العرب قبل الإسلام"/ دار الهلال/ تعليق د. حسين مؤنس/ 35 حيث ذكر كِتَاب رينان الذى نحن بصدده).
أما د. أحمد ضيف، ولعله أول من عَرَض من المصريين لشكّ بعض المستشرقين فى الشعر الجاهلى، فإنه لخص موقف هؤلاء المستشرقين من ذلك الشعر وناقشه ورفض ما فيه من غلوّ، ولكنْ فى ثلاث فقرات ليس غير. والملاحظ أنه لم يذكر أسماء هؤلاء المستشرقين بل اكتفى بالقول بأنهم "جماعة من المستشرقين، خصوصا الألمانيين منهم". والملاحظ أيضا أنه لم يُسَمّ رينان فى هذا السياق، وإنما سماه فى سياق آخر، وهو مناقشته لمدى تمتع العرب بالخيال القادر على خلق الخرافات والأساطير أو حرمانهم منه (انظر كتابه "مقدمة لدراسة بلاغة العرب"/ القاهرة/1921م/ 57- 62).
وإذا كان د. أحمد ضيف هو أول من عرض من المصريين لشك بعض المستشرقين فى الشعر الجاهلى فيما أعلم، فإن الرافعى هو أيضا، فى حدود ما قرأت وما أذكر، أول من عرض لشك علمائنا القدامى فى ذلك الشعر، وذلك فى كتابه "تاريخ آداب العرب"، الذى صدر سنة 1911م. أى أن الرافعى قد تعرض لقضية الشك فى الشعر الجاهلى قبل طه حسين بنحو خمسة عشر عاما، الرافعى المتَّهَم بتقديس القديم لمجرد أنه قديم ومعاداة الجديد لمجرد أنه جديد. ولكى يكون القارئ على بينةٍ من قيمة ما صنع الرافعى أسوق له وصف د. ناصر الدين الأسد للباب الذى عقده فى كتابه لهذا الموضوع، إذ أكد أنه قد "حشد فيه من المادة ما لم يجتمع مثله من قبله ولا من بعده حتى يومنا هذا فى صعيد واحد من كتابٍ لمَّ فيه شتات الموضوع من أطرافه كلها واستقصاه استقصاءً"، وإن ذكر أنه لم يتعرض لما قاله المستشرقون فى هذا السبيل (د. ناصر الدين الأسد/ مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية/ ط5/ دار المعارف بمصر/ 1978م/ 377)، وهو ما يشير إلى أن ما كتبه أولئك القوم لم يكن له من الأهمية ما يلفت أنظار كتّابنا فى ذلك الوقت.
فماذا عن طه حسين، الذى يزعم عبد الرشيد الصادق محمودى رغم كل ذلك أنه لابد أن يكون قد اطَّلع على ما كتبه رينان والمستشرقون الألمان قبل أن يكتب كتابه "فى الشعر الجاهلى" بأعوام طوال؟ وفى الجواب عن هذا السؤال سوف أتتبع كتابات طه حسين فى الفترة الممتدة ما بين دخوله الجامعة المصرية سنة 1908م واتصاله من ثم بالمستشرقين اتصالاً مباشرًا فى قاعات الدرس وخارجها إلى تاريخ تأليفه لكتابه: "فى الشعر الجاهلى"، الذى نحن بصدده.(/3)
لقد تناول طه حسين كتاب جرجى زيدان "تاريخ آداب اللغة العربية" فى عدة مقالات بمجلة "الهداية" (أعداد يونيه ويوليه، وأغسطس وسبتمبر، وأكتوبر ونوفمبر 1911م) وتعرَّض لبعض ما قاله زيدان حول الشعر الجاهلى، لكن لم تبدر مِنْ فيه كلمةٌ واحدةٌ يحيط بها طائف من الشك فى ذلك الشعر، بل إن كلامه ليدل على أنه كان يأخذ صحته قضية مسلَّمة: ففى المقال الأول مثلا لا يخرج ما قاله فى ذلك الصدد عن الاعتراض على زيدان لتقسيمه شعراء الجاهلية إلى أمراءَ وفرسانٍ وصعاليكَ وأصحاب معلقات بدلا من تقسيمهم على أساس من أشعارهم وما تتأثر به هذه الأشعار من طبيعة الإقليم والدين والأخلاق والعادات ونحو ذلك، أو الاعتراض عليه بأن زوجة امرئ القيس لم يكن اسمها "جندب" بل "أم جندب". وفى المقال الثانى نراه يتحدث عن امرئ القيس وزهير وابن أم كلثوم وعنترة وغيرهم من أصحاب المعلقات حديث المطمئن تمام الاطمئنان إلى حقيقتهم التاريخية وتمثيل أشعارهم للبيئة التى ظهروا فيها خير تمثيل.
وفى محاضرةٍ ألقاها فى 19 شهر أكتوبر من العام نفسه بعنوان "هل تستردّ اللغةُ مجدَها القديم؟" ونُشِرت فى المجلة ذاتها فى عدد أكتوبر- نوفمبر من ذلك العام نراه يتعرض لشعر الجاهليين بما يدل دلالة جازمة على أنه كان خالى البال تماما من الشك فيه: فهو مثلا يتحدث عن اللغة العربية فى الجاهلية مؤكدا أنها لغة فخمة الألفاظ ضخمة المعانى متينة الأساليب رصينة التراكيب كاملة القوى استطاعت أن تعبِّر آدابُها الوجدانية عن كل ما كان العرب يريدون التعبير عنه فى أى مجال من مجالات القول، وأن أشعارها تتفوق على الشعر المصرى فى عصره، ضاربا مثلا على هذا التفوق من شعر امرئ القيس نفسه، الذى سينفى وجوده فيما بعد فى كتابه "فى الشعر الجاهلى"، ومستشهدا على ما يريد تقريره من أفكار وآراء بأشعار الملك الضِّلِّيل وغيره من شعراء الجاهلية كالأعشى وكبشة أخت عمرو بن معديكرب...وهكذا. بل إنه قد عرَّج فى تلك الخطبة على ابن سلام وكتابه "طبقات الشعراء"، وهو أول كتاب يؤصِّل نظرية الشك فى الشعر الجاهلى، ومع هذا لم يتطرق بكلمة واحدة، ولو همسًا، إلى الكلام عن النَّحْل فى ذلك الشعر! ليس ذلك فحسب، إذ نسمعه يقول فى الشعر الجاهلى هذه الكلمة الخطيرة الدلالة: "فى ذلكم العصر التهبت جذوة الشعر واستطار شرره فالْتَهَم كلَّ شىء واحتكم فى كل إنسان، ولم تكن كلمةٌ إلا له، ولا رأىٌ إلا عنه، ولا اعتمادٌ إلا عليه. وكان يكفى للشاعر أن يمدح الوضيع فيرفعه، أو يذم الرفيع فيضعه، أو يغرى بالحرب فتتهالك النفوس وتتفانى القُوَى، أو يدعو إلى السِّلْم فتصبح الضغائن والأحقاد نَسْيًا منسيًّا". كما تعرّض لابن سلام وكتابه المذكور فى مقاله المنشور بـ"الجريدة" فى عدد 17 مايو 1911م بعنوان "الآداب العربية فى الجامعة"، لكن دون أن يتطرق إلى قضية الشك فى الشعر الجاهلى رغم إشارته البرقية إلى تكذيب ابن سلام لابن إسحاق فيما رواه من أخبار وأشعار عن عاد وثمود وطسم وجديس.
ومعروف أنه قد انتقد فى عام 1911م كتاب مصطفى صادق الرافعى "تاريخ آداب العرب"، الذى خصَّص فيه مؤلفه صفحات طويلة لقضية النَّحْل فى الشعر الجاهلى، ومع ذلك لا تحس فيما كتبه عن هذا الكتاب أنه كان يدور فى خَلَده أى شك فى ذلك الشعر. ومعروف كذلك أن هذا الكتاب الذى لم يعجب طه حسين آنذاك قد أعجبه بعد ذلك بخمسة عشر عاما حين أثنى عليه ومدحه فى كتابه "فى الشعر الجاهلى". وقد قلت، فى تفسير هذا التغير الحاد فى موقفه ذاك، إنه أراد أن يخدّر الرافعى حتى لا يتعرض بالنقد لما كتبه عن القرآن والنبى فى ذلك الكتاب، وإن هذا التقرب لم يخدع الرافعى فشنّ عليه حملةً صاعقةً (انظر كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"/ القاهرة/ 1987م/ 15- 16). كما نجده، فى كتابه "تجديد ذكرى أبى العلاء"، الذى نشره فى عام 1914م، يستشهد بقصيدة للمرقش من "المفضَّليات" استشهادَ مَنْ لا يجد فيها ولا فى الشعر الجاهلى ما يمكن أن يثير شكوكه (انظر الكتاب المذكور/ دار الكتاب اللبنانى/ بيروت/ 1974م/ 64).(/4)
هذا قبل أن يسافر د. طه إلى فرنسا. ثم سافر وعاد، فهل نجد فى كتاباته قبل أن يؤلف بحثه "فى الشعر الجاهلى" ما يدل على أنه عَدَل عن موقفه من هذا الشعر بتأثير إقامته فى فرنسا عدة سنوات وإتقانه اللغة الفرنسية وزيادة اقترابه من المستشرقين وكتاباتهم؟ الجواب: لا. وربما أعاننا على فهم المسألة أن نعرف أن بعثة طه حسين إلى فرنسا إنما كانت لدراسة التاريخ، وأن الكتب التى ذكر فى الجزء الثالث من "الأيام" أنه قرأها هناك لا تتضمن أى شىء يتعلق بالأدب العربى ولا بالشعر الجاهلى على وجه الخصوص، وأن اسم رينان أو نولدكه أو آلفارت لم يرد بين عشرات الأسماء التى وردت فى ذلك الكتاب أو فى كتاب زوجته "معك"، وهو الكتاب الذى روت فيه حياتها معه، وأن الدكتور طه عندما عاد إلى مصر واشتغل بالتدريس فى الجامعة إنما كان يدرّس التاريخ الأوربى القديم حتى العام الدراسى 1925- 1926م حيث تحوَّل إلى تدريس الأدب العربى (الشعر الجاهلى بالذات)، وأن كل الكتب التى ظهرت للدكتور طه منذ عودته من فرنسا حتى ظهور كتابه "فى الشعر الجاهلى" إنما كانت تتعلق على نحوٍ أو على آخر بالتاريخ الأوربى القديم. ومنها كتابه "صحف مختارة من الشعر التمثيلى عند اليونان" (المكتبة التجارية/ 1920م/ 49)، وفيه يشير إلى معلقة امرئ القيس إشارة المطمئن تمام الاطمئنان إلى صحتها.
وفى إبريل 1923م سافر طه حسن إلى بلجيكا ممثلا للجامعة المصرية فى مؤتمر العلوم التاريخية ببروكسل حيث دارت مناقشة بين أستاذين أوربيين أحدهما دوبريل البلجيكى، والآخر لفيفر الفرنسى، وكان من رأى الأول أن سقراط شخصية خرافية لا علاقة لها بالتاريخ مثلما هو الحال بالنسبة إلى هوميروس صاحب الإلياذة. وكان وقع هذا التشكيك على الدكتور طه شديد الصعوبة ، وكان من رأيه أن الشك فى الشخصيات التاريخية على هذا النحو يمكن أن يؤدى عاجلا أو آجلا إلى الشك فى أفلاطون وأرسطو بل ونابليون نفسه، وهو ما دفعه إلى مطالبة المؤرخين بالتريث وعدم الجرى فى طريق الفلاسفة المنكرين الشاكّين. وقد حمل على الأستاذ دوبريل مُلْمِحًا إلى أن ما فى نظريته تلك الغريبة من جاذبية خلابة لمخالفتها ما استقر عليه الإجماع ولما يمكن أن تؤمنه لصاحبها من خلود قد يكون هو السبب فى تحمّسه لها وعمله على نشرها (طه حسين/ من بعيد/ المجلد 12 من "المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين"/ 67- 73).
ثم كتب بعد ذلك بسنواتٍ طائفةً من المقالات عن الشعرين العباسى والأموى. وقد تعرَّض، فى عددٍ من هذه المقالات، للكلام عن الشعر الجاهلى وشعرائه، ولكن بطريقة من يؤمن بصحة هذا الشعر إيمانا تاما ولا يتخيل للحظة أنه يمكن أن يكون موضع شك، مما يقطع بأن كل ما قاله أ. عبد الرشيد الصادق من أن طه حسين لا بد أنه اطّلع على رينان والمستشرقين الذين شكّوا فى ذلك الشعر لا يستند إلى أساس. وبالمناسبة لم يَرِدْ لرينان ولا لغيره من المستشرقين الشاكّين فى ذلك الشعر أىّ ذكر فى هذه المقالات. وإلى القراء الكرام بعضا مما قاله عن الشعر الجاهلى فيها:
1- يقول فى مقال منشور بجريدة "السياسة" بتاريخ أول أكتوبر 1924م عن الغزل فى صدر الإسلام: "غزل الجاهليين كان ماديا خالصا فى حين كان فى غزل الإسلاميين شىء غير المادة. ما الذى كان يُعْنَى به امرؤ القيس أو النابغة أو الأعشى إذا تغزّلوا وذَكَروا النساء؟...كان الغزل عندهم ضّرْبًا من الوصف...، وقلما تجد عندهم عناية بالعاطفة أو حرصا على تمثيلها، فإن وَجَدْتَ عندهم هذه العناية لم تلبث أن تزدرى هذه العاطفة ازدراءً لأنها كانت عاطفة مادية غليظة... كانت عواطفهم تصدر عن الشهوات وإيثار اللذة قبل كل شىء".
2- وفى" "السياسة" أيضا بتاريخ 17 أكتوبر 1924م، وتحت عنوان"عَوْدٌ إلى الغزلين- وضّاح اليمن"، نسمعه يقول: "أريد أن أحدثك عن هذا الشاعر الذى يلقبونه بـ"وضّاح اليمن"، والذى فُتِن به بعض أساتذة الأدب المُحْدَثين حتى خُيِّل إليهم أنه اخترع الشعر التمثيلى وأضافه إلى تراثنا القديم... ونَسُوا أن الحوار ليس هو التمثيل، وإنما هو أصل من أصول التمثيل، ونَسُوا أيضا أن هذا الحوار الذى يجدونه فى شعر وضّاح قد سبق إليه الشعراءُ جميعا فى جاهليتهم وإسلامهم، فحاور امرؤ القيس عشيقاته وحاور ابن أبى ربيعة أخدانه".
3- وفى نفس الجريدة بتاريخ 10 ديسمبر 1924م نجده يؤكد أن شعراء الجاهلية لم يكونوا يُعْنَوْن بالغزل إلا بوصفه "وسيلة شعرية إلى ما كانوا يذهبون فيه من مذاهبهم الشعرية المختلفة. ولا نكاد نعرف بين الجاهليين شاعرا قَصَر حياتَه الشعرية على الغزل. بل قليلٌ جدًّا عددُ القصائد الجاهلية التى لم يتناول فيها أصحابُها إلا الغزلَ وحده".(/5)
ثم أخيرًا نراه فى الفصل الذى خصصه للشاعر الإغريقى هوميروس من كتابه "قادة الفكر"، الذى صدر فى إبريل 1925م، وهو نفس الشهر الذى وضع فيه مرجليوث دراسته التى يشك فيها فى الشعر الجاهلى جميعه، نراه يستطرد للمقارنة بين بداوة اليونان وأشعارها وبين بداوة عرب الجاهلية وأشعارهم، فلا نجده يشك فى أشعار الجاهلية أى مقدار من الشك، بل يؤمن بها ويؤكد أنها أساس حضارة الإسلام، ولولاها ما كان الخلفاء والعلماء والقواد المسلمون. وقد ألحَّ على هذه الفكرة إلحاحًا كبيرا، فى الوقت الذى ذكر معها شكَّ بعض الباحثين الأوربيين المحدثين فى وجود هوميروس. وهذا نص عبارته: "عَلاَمَ تقوم الحياة العربية فى بداوة العرب وأو ل عهدهم بالإسلام؟ على الشعر... هل كانت توجَد الحضارة الإسلامية التى ظهر فيها مَنْ ظهر مِنَ الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال لو لم توجَد البداوة العربية التى سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وغيرهم من الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟" (قادة الفكر/ ط9/ دار المعارف بمصر/ 10- 11). والعجيب أن طه حسين، فى رده بعد ذلك على من انتقدوا غُلُوّه فى الشك فى الشعر الجاهلى، قد احتجّ عليهم بأنهم يجهلون أن النحل غير مقصور على العرب، بل عرفه اليونان والرومان، وأن الدراسات الحديثة قد نسفت اطمئنان الأقدمين إلى صحة إلياذة هوميروس وأوديساه (فى الأدب الجاهلى/ دار المعارف/ 1964/ 113- 116). وفاته أنه هو نفسه كان يعرف ذلك قبلا، لكنه لم ينتفع به، إذ ظل على اطمئنانه إلى الشعر الجاهلى إلى أن ظهرت دراسة مرجليوث.
ظل هذا هو موقف طه حسين، كما قلنا، حتى إبريل 1926م على الأقل، وهو الشهر الذى كتب فيه مرجليوث مقاله الذى يشكك به فى الشعر الجاهلى، والذى نشره فى يوليه من ذلك العام، وإذا بالدكتور طه بعد هذا المقال بنحو عشرة أشهر يصدر كتابه "فى الشعر الجاهلى" مستديرا بزاوية مقدارها مائة وثمانون درجة، إذ انطلق كالإعصار الهائج يشكّ فى ذلك الشعر لا يكاد يُبْقى منه على شىء. ويتساءل الباحث: ترى ما الذى جَدّ؟ والجواب: لم يَجِدّ إلا مقال مرجليوث، فكتاب رينان قد مَرَّ عليه عشرات الأعوام، فضلاً عن أنه لم يشكّ فى ذلك الشعر، وأقل قليلا من ذلك الزمن مرّ على ما كتبه نولدكه وآلفارت وباسيه، وليس فيه اختلاف يُذْكَر عما قاله نقادنا القدماء. كما مرَّت خَمْسُ سنواتٍ على صدور كتاب أحمد ضيف، الذى لم يكن فيه مع هذا ما يثير العقل العربى لعدم خروج آراء المستشرقين التى عرض لها عما وصلَنا من نقادنا القدماء خروجًا لافتًا حسبما سبق القول، علاوة على أن الدكتور ضيف لم يفصّل القول فى عَرْض تلك الآراء التى كان قد مضى عليها فوق ذلك زمن طويل، بل عرضها فى ثلاث فقرات ليس إلا. أما مقال مرجليوث فقد كان طازجا، وكان له دوىٌّ شديد بسبب إغراقه فى التطرف، فضلاً عن أن موقف طه حسين وأفكاره فى كتابه عن الشعر الجاهلى يشبهان إلى حد كبير موقف مرجليوث وأفكاره.
وحَرِىٌّ بالذِّكْر أن مرجليوث، الذى دافع عن طه حسين وحاول أن ينفى تهمة تأثره به كما سنبين بعد قليل، لم يقل إن د. طه قد انطلق من رينان أو نولدكه أو آلفارت. بل إن الدكتور طه هو نفسه لم يقل هذا، ولا قالته زوجته بعد مرور عشرات السنين رغم أنها خاضت فى هذه القضية فى كتابها "معك" فى أكثر من موضع، ولا قاله كذلك أي من الباحثين الذين تناولوا هذه القضية، وكثير منهم تلاميذه، ولا قاله أيضا أحد من المستشرقين الذين تناولوا هذا الجانب من كتابات الدكتور طه مما يمكن أن يجد القارئ عينة منه فى كتاب "طه حسين كما يعرفه كتّاب عصره". كما أن معظمهم يربطون بينه وبين مرجليوث حسبما بينتُ فى كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين". إنما تحكَّك هو بعد ذلك بالأخوين كروازيه ليدفع اتهامه بالسرقة من مرجليوث، والأخوان كروازيه لا علاقة لهما بالشعر الجاهلى، بل بالشك فى شعر هوميروس، وقد رأينا كيف ظل الدكتور طه على ما هو عليه من الاطمئنان التام لشعر الجاهلية وشعرائها حتى بعد قراءته ما كتبه هذان الأخوان، بل حتى بعد أن كتب هو الفصل الخاص بذلك الشاعر الإغريقى الذى كانا يشكان فىوجوده. ولو كان منطلقه من رينان لسارع إلى ذكر هذا منذ البداية، لأن ديَْدَن الدكتور طه أن يصرح بمن يخالفهم فى الرأى، أما من يقتبس أفكارهم فإنه يغفلهم تماما، وموقف رينان وأفكاره يختلفان عن موقفه هو وأفكاره، فوق أن المستشرقين قد ذكروا استمداد د. طه لأفكاره من مرجليوث، ولم يشيروا إلى رينان أو غيره، ومنهم المستشرق الألمانى بروكلمان فى كتابه عن تاريخ الأدب العربى (كارل بروكلمان/ تاريخ الأدب العربى/ دار المعارف/ 1/ ترجمة د. عبد الحليم النجار/ 64). وقد كان أحرى به، لو كان طه حسين قد تأثر بنولدكه أو آلفارت الألمانيين، أن يذكر هذا التأثر انطلاقا على الأقل من اعتزازه بألمانيته.(/6)
ومن أغرب الغرائب أن ينبرى مرجليوث مع ذلك كله للدفاع عن طه حسين ضد من رَأَوُا التماثل الشديد بين كتاب الدكتور طه "فى الشعر الجاهلى" ومقاله: "The Origines of Arabic Poetry"، الذى نشره قبل ذلك الكتاب بعشرة شهور على الأقل فى يوليه 1925م بـ"Journal of Asiatic Royal Society"، مؤكدًا فى صفاقة أن الدراستين قد ظهرتا فى نفس الوقت تقريبا، متجاهلا بهذه الطريقة أن فرق عشرة أشهر ليس بالذى يمكن أن يقال معه إن الدراستين قد صدرتا تقريبا فى ذات الوقت. لكنه أكد رغم ذلك أن الفكرة فى كتاب طه حسين مماثلة إلى حد كبير للفكرة التى أدار حولها بحثه عن "أصول الشعر الجاهلى" (انظر كلمته عن كتاب "فى الأدب الجاهلى" لطه حسين فى عدد يوليه 1927م من "Journal of Asiatic Royal Society"). والعهد بالعلماء والكتاب وكل طوائف البشر أنهم حِراصٌ أشد الحرص على إبراز ريادتهم وسبقهم فى مجالات تخصصهم مهما كانت تفاهة ما سبقوا إليه، بل إن كثيرا منهم يلجأ إلى التوسُّل بالباطل من أجل بلوغ هذا الهدف، فما بال مرجليوث يسارع إلى التخلى عن سبقه إلى نظرية الشك فى الشعر الجاهلى بهذه البساطة وبذلك الفُجُور؟ والهدف واضح بطبيعة الحال، فإن إنقاذ رأس طه حسين يستحق هذه التضحية وأكثر منها. إنه رَجُلهم، وهم حريصون على عدم فضيحته، فضلا عن أن صدور إنكار الشعر الجاهلى من كاتب ينتمى إلى الإسلام مصحوبًا بالتشكيك فى القرآن الكريم والنبىّ الذى أتى به أَفْعَل وأقوى ألفَ مرة من صدوره عنه وعن أمثاله من غير العرب والمسلمين. وهذا هو المراد، وكل شىء بجانبه يهون!(/7)
كذلك انبرى أيضا د. إبراهيم عبد الرحمن ليدفع عن الدكتور طه التهمة التى تُطْبِق على عنقه قائلا إن مرجليوث قد ذكر أن آراء طه حسين تناقض آراءه هو (انظر كلمته "إلى خصوم طه حسين ومؤيديه: النص الكامل لمقالة مرجليوث فى براءة عميد الأدب العربى"/ الأهرام/ الجمعة 7 فبراير 1986م/ الصفحة الثقافية). وهذا، بطبيعة الحال، غير صحيح، والأستاذ الدكتور نفسه قد سبق فأورد ترجمة كلام المستشرق البريطانى مرةً باعتبار أن الفكرتين متشابهتان، ومرةً باعتبار أنهما متماثلتان إلى حد كبير (انظر كتابه "بين القديم والجديد- دراسات فى الأدب والنقد"/ مكتبة الشباب/ 1983م/ 440- 441). إلا أن المسألة لا تنتهى فصولها عند هذا الحد، إذ كتب الأستاذ الدكتور أن طه حسين كان يحاضر طلابه فى موضوع انتحال الشعر الجاهلى والشك فيه عامًا بعد عام قبل أن ينشر مرجليوث دراسته فى ذات الموضوع فى 1925م، حتى إذا ثبت له صحة ما انتهى إليه فى رواية هذا الشعر أذاعه على الناس فى شكل كتابٍ سنة 1926م (المرجع السابق/ 440). ويؤسفنى أن أقول هنا أيضا إن هذا الكلام غير صحيح البتة، لسبب بسيط جدا هو أن طه حسين لم يسبق له أن حاضر فى الجامعة لا فى هذا الموضوع ولا فى أى موضوع آخر من موضوعات الأدب العربى، إذ كان، كما سبق القول، يدرّس حتى ذلك العام مادة التاريخ اليونانى واللاتينى. بل لم يسبق له أيضا أن حاضر فى هذا الموضوع قط خارج الجامعة أو كتب فيه أى شىء، كتابا كان ذلك الشىء أو مقالا. أما الذى كان يقوم بتدريس مقرر الأدب العربى فى الجامعة قبل ذلك فهو د. أحمد ضيف حسبما جاء فى كتاب د. حمدى السكوت ود. مارسدن جونز: "أعلام الأدب المعاصر فى مصر" (ط2/ دار الكتاب المصرى بالقاهرة، ودار الكتاب اللبنانى ببيروت/ 1402هـ- 1982م/ 30). مقطع الحق أن طه حسين قد سطا على بحث مرجليوث: لقد كان لا يشك فى الشعر الجاهلى، ثم بعد أن ظهر بحث مرجليوث عن ذلك الشعر أصبح فجأة من الشاكِّين فيه. كما أن شكه قد شمل تقريبا كل هذا الشعر بحيث إن الفرق بينه وبين مرجليوث فى مقدار ذلك الشك لا يكاد يُذْكَر. كذلك فإنه اعتمد فى شكه على عدد من الأدلة ارتكن إليها مرجليوث فى نفى شعر الجاهليين، وعلى رأسها الدليل اللغوى والدليل الدينى. ثم لا ننس الروح العدائية التى تتبدَّى فى كتاب طه حسين والتى تذكِّرنا بما كان يظهره المستشرق البريطانى المتطاول الحقود من بغضٍ ضد الإسلام ونبيه، وانحياز إلى صفوف اليهود. وأخيرا فقد اتصل د. طه بأعمال مرجليوث منذ وقت بعيد، فكتاب "الفصول والغايات"، الذى حققه هذا المستشرق لأبى العلاء المعرى، كان أحد مراجعه الأساسية فى رسالته عن الشاعر العباسى الكفيف التى تقدَّم بها للجامعة المصرية سنة 1914م قبل سفره إلى فرنسا. وفوق هذا وذاك فإن المجلة التى نُشِر فيها بحث مرجليوث كانت قد وصلت إلى مصر ولفتت أنظار المصريين المهتمين بهذه المسائل كيعقوب صروف وأحمد تيمور ومصطفى صادق الرافعى ومحمود شاكر قبل صدور كتاب د. طه بشهور. ومن الطبيعى أن تصل هذه المجلة فور صدرورها إلى مصر، على الأقل لأن فريقا من المستشرقين كانوا أساتذة فى الجامعة المصرية، ولا بد أنهم كانوا مشتركين فى مثل هذه المجلة التى لا يكتبها إلا هم ولا يُعْنَى بها أحدٌ آخرُ عنايتَهم، وكان طه حسين زميلاً وصديقًا حميمًا لهم يسهرون عنده مساء كل أَحَد كما حَكَتْ زوجته فى كتابها "معك" (انظر ص 33، وكذلك الفصل الذى عنوانه: "هل كان طه حسين على علم بمقالة مرجليوث فى الشعر الجاهلى؟" من كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"/ 64- 77). بل إنى لا أستبعد أن تكون هناك أيدٍ خفيةٌ فى الجامعة قد أزاحت د. احمد ضيف من تدريس الأدب العربى، الذى كان متخصصا فيه، ووضعت فى مكانه طه حسين غير المتخصص كى يدعو لسانٌ ينتسب للإسلام والعروبة بدعوة مرجليوث المنكرة، مع توبلتها بشىء من الهجوم الحارّ على القرآن والرسول الذى أنزله الله عليه فيكون قد "شهد شاهدٌ من أهلها"!(/8)
على أن المدافعين عن طه حسين لا يسلِّمون بسهولة، وفيهم أساتذة فضلاء لا أدرى لماذا يحاولون أن يخففوا خطاياه مع معرفتهم التامة بما سببته من بلبلة فكرية ليس لها أساس من علم أو منطق، إذ نراهم يقولون إنه، رغم كل ما يمكن أن يوجَّه إليه من نقد، قد حرّك بكتابه ذاك العقول وهزّ جماهير القراء، وبخاصةٍ المحافظون منهم. ومن هؤلاء د. حمدى السكوت ود. مارسدن جونز فى كتابهما "أعلام الأدب المعاصر فى مصر" (ص20). وقد طالعت نفس الفكرة فى مادة "طه حسين" من "الموسوعة العربية" المنشورة على موقع "كلمات"، إذ وُصِف كتاب "فى الشعر الجاهلي" بأنه "رغم أن الدراسات الحديثة أثبتت خطأه فى بعض الجوانب، إلا أن قيمة الكتاب الفكرية تظل من حيث تشجيعه للموقف النقدى من التراث الأدبى والبلاغى واللغوى العربى والكشف عن خضوع هذا التراث كغيره لقانون التطور التاريخى". وقد سبق طه حسين هؤلاء جميعا إلى ترديد هذه الحجة العجيبة المتهالكة ردًّا على سؤال وُجِّه إليه أثناء زيارته للمغرب سنة 1958م، إذ قيل له: ما بالك ارتددت عما كنت تقول به فى مستهل دخولك على العلم؟ فكان جوابه: يكفى أنى أثرت بما كنت أقول به إذ ذاك العقولَ إلى البحث وإلى النظر (د. نجيب محمد البهبيتى/ المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين/ 186).
ولعلى قرأت أيضا شيئا مثل هذا للدكتور ناصر الدين الأسد رغم أنه قد عرض عرضًا رائعًا، فى كتابه القيم "مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية"، كلَّ ما كُتِب من دراسات وأبحاث تفضح ما فى كتاب طه حسين من سرقة وضعف وتهافت وتسرع وافتئات على حق العلم والتاريخ والدين. بل إنه عند المقارنة بين الرافعى وطه حسين فى هذه المسألة لم يجد مناصا من أن يحكم للأول بأنه "لم يحمِّل نصًّا أكثر مما يحتمل، ولم يعتسف الطريق اعتسافًا إلى الاستنتاج والاستنباط ولا إلى الظن والافتراض، ولم يجعل من الخبر الواحد قاعدةً عامّةً، ولا من الحالات الفردية نظريةً شاملةً" (مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية/ 379)، أما فى الثانى فعلى رغم الكلام الجميل الذى قاله عن أسلوبه وسِحْره نجده يحكم على منهجه قائلا: "ثم استقرّ الموضوع بين يَدَىِ الدكتور طه حسين فخلق منه شيئًا جديدًا لم يعرفه القدماء، ولم يقتحم السبيلَ إليه العربُ المحدثون من قبله، ثم أنكره بعدُ كثير من المحدثين إنكارًا خصبًا يتمثل فى هذه الكتب التى ألفوها فى الرد عليه ونَقْض كتابه. وقد استقى الدكتور طه حسين أكثر مادته، حيث يستشهد ويتمثل بالأخبار والروايات، من العرب القدماء، وسلك بها سبيل مرجليوث فى الاستنباط والاستنتاج والتوسع فى دلالات الروايات والأخبار وتعميم الحكم الفردى الخاص واتخاذه قاعدة عامة، ثم صاغ تلك المادة وهذه الطريقة بإطار من أسلوبه الفنى وبيانه الأخاذ، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه من أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا ليست من ا لجاهلية فى شىء، وإنما هى منحولة بعد ظهور الإسلام... فنحن إذن بإزاء نظرية عامة لم نرها فيما عرضنا من آراء العرب القدماء، ونحسب أنها لم تخطر لهم على بال، ولكننا رأيناها واضحة المعالم فيما عرضنا من آراء مرجليوث، ولم يكتف بالإشارة إليها إشارة عابرة، وإنما نصّ عليها نصًّا صريحًا فى عبارات متكررة تختلف ألفاظها وتتفق مراميها، وجاء الدكتور طه حسين فلم يقنع كما قنع مرجليوث بأن يدلنا عليها فى مقالة أو مقالتين، وإنما فصّل لنا القول فى كتابٍ كاملٍ قائمٍ بذاته" (المرجع السابق/ 379- 380).
ومن الذين أَثْنَوْا ثناءً شديدًا على ما صنعه طه حسين وضخّموا، من فرط تحمسهم، دوره فى حقل الأدب والدراسات النقدية تضخيمًا شديدًا د. محمد زكى العشماوى، الذى يقول إن الدكتور طه "فى منهجه في دراسة الأدب ونقده...يعتبر حدا فاصلا بين عهدين، فما قبل طه حسين كانت دراسة الأدب ونقد الأدب مختلفة اختلافا كليا لأنها كانت تهتم بالشروح اللغوية للكلمات، ولم تكن تتعمق فى تحليل النص وفهمه ودراسته وفق منهج يعتمد على الذوق والذوق المعلَّل، وإنما مجرد أحكام جارفة أو كاسحة لا تنهض على مقدمات أو دلائل مقنعة. فلما جاء أرسى دعائم المنهج التحليلى النقدى السليم الذي ينهض على الاحتكام إلى العقل وعلى تذوق الأثر الفنى وتحليله وفق منهج يلتزم الموضوعية وينتهى إلى أحكام دقيقة ومقنعة بحيث خرج الحُكْم من حيز الخصوص إلى حيز العموم... هذا المنهج الذى أرسى دعائمه د. طه حسين هو الذى استفاد منه أساتذة الجامعات من بعده، وهو الذى عدّل الكثير من الأفكار التى كانت شائعة ومستبدة بحقل النقد الأدبى" (من حوار معه فى جريدة "الجمهورية والعالم" المِشْبَاكيّة).(/9)
والحق الذى لا جدال فيه، مع احترامى الشديد للدكتور العشماوى ورغم حبى لقراءة طه حسين واستمتاعى بأسلوبه وصوته، هو أنه كان هناك نقاد كبار سبقوا أو عاصروا طه حسين وأضافوا مثلما أضاف فى حقل النقد والدراسات الأدبية، وفى بعض الحالات أفضل مما أضاف، ومنهم حسن توفيق العدل وإبراهيم اليازجى وجرجى زيدان والرافعى وأمين الريحانى وروحى الخالدى وخليل سكاكينى ومحمد حسين هيكل ومحمد لطفى جمعة وأحمد ضيف وميخائيل نعيمة والعقاد وشكرى والمازنى وزكى مبارك وأمين الخولى ومحمد فريد الشوباشى وأحمد حسن الزيات وتوفيق الحكيم...إلخ. فضلا عن أن طه حسين لم يكن هو الذى افترع قضيةَ النَّحْل فى الشعر الجاهلى حتى نغضّ الطَّرْف عن خطاياه العلمية والمنهجية والأخلاقية الضخمة التى ارتكس فيها وهو يتناول ذلك الموضوع كما بينتُ فى كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، فقد سبقه من القدماء أبو عمرو بن العلاء وأبو عمرو الشيبانى والأصمعى وأبو عبيدة والسجستانى والجاحظ وابن قتيبة، ناهيك عن ابن هشام فى "السيرة النبوية"، وكذلك ابن سلام فى كتابه "طبقات الشعراء"، الذى تناول فيه هذه المسألة باستفاضة ومنهجية منضبطة تدلان على أستاذية وتمكن حقيقى لا بهلوانية فارغة كلّ همها إحداثُ الضجيج والضحك على ذقن الجمهور. كما سبقه من المحدثين مصطفى صادق الرافعى، الذى عرض فى كتابه "تاريخ آداب العرب" ذلك الموضوعَ عَرْض البصير الخبير الذى يزن كل كلمة من كلامه بميزانٍ دقيقٍ واعٍ حساس، فضلا عمن طَرَق من المستشرقين تلك القضية كما سبق أن أشرنا. وقد فصل القولَ فى هذه النقطة د. ناصر الدين الأسد فى الفصل الثانى والثالث والرابع من الباب الرابع من كتابه "مصادر الشعر الجاهلى وقيمتها التاريخية". والطريف أننى بعد أن كتبتُ هذه الفقرة بيومين رجعتُ إلى كتاب د. السكوت ود. جونز عن مؤلفات طه حسين فوجدتهما يقولان ما قلته، بل ويذكران أيضا عددا من الأسماء التى ذكرتُها مما يؤكد كلامى بأن إسهام طه حسين فى مجال الدراسات الأدبية والنقدية لم ينشأ فى فراغ (انظر كتابهما "أعلام الأدب المعاصر فى مصر"/ 27- 30).
ولعل هذا الموضع أن يكون مناسبا لعرض دفاع د. عبد الرحمن بدوى ومشايعه سامح كريم عن طه حسين. ذلك أن الدكتور طه، فى رأيهما، لم يأت إلا بما أتى به ابن سلام الجُمَحِىّ فى كتابه "طبقات الشعراء"، وعلى هذا فليس ثمة معنى للضجة التى قوبلت بها آراء الدكتور طه ولا لاتهامه بالمروق والانسياق وراء مؤامرات المستشرقين (انظر د. عبد الرحمن بدوى/ دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلى/ دار العلم للملايين/ 1979م/ 10- 11، ومقال سامح كريم فى ذات الموضوع بالصفحة الثقافية بـ"أهرام" الجمعة 17 يناير 1986م). وجوابنا على هذا هو أن كلام ابن سلام، بفرض أن طه حسين لم يقل شيئا أكثر مما قاله، كان بين يدى الدكتور طه كما بيّنّا قبلاً، فلماذا لم يتأثر به إلا بعد ظهور دراسة مرجليوث؟ بل لقد عرض الرافعى هذه القضية عرضًا مستقصيًا كما رأينا قبل قليل، فكيف لم يلتفت طه حسين إلى ما كتب الرافعى أيضا وظل غافلا عن هذه القضية إلى أن ظهرت دراسة مرجليوث؟ كذلك هناك فرق هائل بين ما قاله ابنُ سلام المدققُ المحققُ المستأنى فى بحثه وحكمه، الواضعُ نصب عينيه بلوغَ الصواب لا التزلفَ إلى أعداء الإسلام، وإثارةَ الضجيج والعجيج والبلبلة دون وجه حقٍّ أو عدل،ٍ والتقحّمَ فى مجال التشكيك فى القرآن الكريم واتهامِه بالكذب وبمراءاة اليهود والرغبةِ فى التقرب إليهم، وبين ما كتبه طه حسين بما فيه من مآخذ قاتلة! ثم إن ابن سلام إنما يشك فى بعض الشعر الجاهلى، وحين تتوفر لديه دواعى هذا الشك فقط، أما طه حسن فينثر الريبة فى كل هذا الشعر تقريبا بناءً على خطرات غير ناضجة وأوهام، فضلا عن أنه قد أثار مسائلَ لم يتطرق إليها ابن سلام كقضية اختلاف اللهجات بين القبائل واتخاذها تكأة للتشكيك فى الشعر الجاهلى، وكذلك الزعم بأن ذلك الشعر لا يعكس عقائد أصحابه...إلخ، فكيف بالله يقال إن هذا هو ذاك؟ وقد انتهى الأمر بهذه الأوهام والخطرات المتهافتة إلى أَنْ هجرها الدارسون ولم يعد أحد يردد شيئا من الكلام الساذج الذى زعمه طه حسين فى كتابه وأصبح من مخلَّفات الماضى لا يجد من يقبل عليه أو يعيره أُذُنًا رغم الجهود الهائلة التى يبذلها المطبّلون والمزمّرون لإحياء العَظْم الرَّمِيم! وقد وصف د. حمدى السكوت ود. مارسدن جونز ما ورد فى كتاب الدكتور طه من آراء بأن بعضها مأخوذ من النقاد العرب القدامى، بينما معظمها للمستشرقين، وليس له شىء فيها تقريبا (انظر كتابهما "أعلام الأدب المعاصر فى مصر"/ 20).(/10)
ولقد قيل كلامٌ كثيرٌ وكبيرٌ عن الشك الديكارتى، الذى اتخذه طه حسين، حسبما يدّعى مشايعوه، منهجا فى هذا البحث لتحرير العقول من الجمود ومن تقديس القديم لمجرد كونه قديما. إلا أن الذين يطنطنون بهذا الكلام يَنْسَوْن أن طه حسين لم يُحْسِن استخدامَ هذا المنهج، ومن ثم فاته الانتفاع به كما ينبغى، إذ لم يكن يشك إلا فى الروايات التى لا تعجبه ولا تؤدى إلى ما يريد تقريره منذ البداية، أما الروايات التى يرى أنها مُبْلِغَتُه غايتَه من التشكيك فى الشعر الجاهلى والإساءة إلى القرآن والدين فإنه يقبلها بعُجَرها وبُجَرها دون أى تمحيص حسبما لاحظ الرافعى رحمه الله (مصطفى صادق الرافعى/ تحت راية القرآن/ ط3/ مطبعة الاستقامة/ القاهرة/ 1953م/175). وفى كتابى "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين" استطعت، من خلال النصوص التى اقتطفتُها من كتاب "فى الشعر الجاهلى"، أن أبين أن الدكتور طه لم يهضم أصلاً منهج الفيلسوف الفرنسى، كما أنه لم يطبق إلا جانبًا واحدا فحسب من جوانبه المتعددة (معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين/ مطبعة الفجر الجديد/ القاهرة/ 1987م/ 105- 115).
والآن نترك القارئ مع النصين التاليين اللذين تعرض فى أولهما الدكتور طه حسين بحماقةٍ وغشمٍ للقرآن الكريم متهمًا إياه بأنه قد استعان بالأساطير الكاذبة بغرض التقرب من اليهود، وفى ثانيهما للرسول عليه السلام يغمز منه ومن الإجلال الذى يشعر المسلمون به تجاهه ويحاول دون أى أساس أن يقلل من شأنه صلى الله عليه وسلم!!!! وقد حُذِف هذان النصان من الطبعة الثانية من كتابه "فى الشعر الجاهلى" سنة 1927م بعد أن غُيِّر عنوانُه وسُمَِىَ: "فى الأدب الجاهلى". وبطبيعة الحال لا يمكن أن يردّد هذا الكلامَ من يؤمن بأن القرآن وحى من عند رب العالمين أو يشعر بالتبحيل للنبى الذى نزل عليه: فالله لا يصطنع الأساطير لأغراض سياسية أو غير سياسية، ولا هو بحاجة للتقرب من اليهود أو الأمريكان، كما أن الرسول الكريم كان فى الذؤابة من قومه نسبًا وشرفًا كما قالت كلمة التاريخ!!!! وقد نقلنا هذين النصين من أحد المواقع التى تظن أنها تستطيع أن تحارب الإسلام بكتاب الدكتور طه وتهزمه!!!! نقلناهما حتى يتبين الحقُّ من الباطل ويعرف القاصى والدانى ما فى كلام الذين يشنّون الغارة على ناقدى الدكتور طه من مكرٍ والتواءٍ حين يقولون إن الرجل لم يتعرض للقرآن ولا للنبى بشىء، وإن من ينتقدونه إنما يرددون كلاما لا أصل له!!!!
الشعر الجاهلي واللغة
على أن هناك شيئا آخر يحظر علينا التسليم بصحة الكثرة المطلقة من هذا الشعر الجاهلي ، ولعله أبلغ في اثبات ما نذهب اليه . فهذا الشعر الذي رأينا أنه لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين بعيد كل البعد على أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه والأمر هنا يحتاج إلى شيء من الروية والأناة . فنحن إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم حين نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه ، نريد بها الألفاظ من حيث هي ألفاظ تدل على معانيها ، تستعمل حقيقة مرة ومجازا مرة أخرى ، وتتطور تطورا ملائما لمقتضيات الحياة التي يحياها أصحاب هذه اللغة .
نقول أن هذا الشعر الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية . ولنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي ، أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه . أما الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه فهو أن العرب ينقسمون إلى قسمين : قحطانية منازلهم الأولى في اليمن ، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز .
وهم متفقون على أن القحطانية عرب منذ خلقهم الله فطروا على العربية فهم العاربة ، وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية اكتسابا ، كانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية ، ثم تعلموا لغة العرب العاربة فمحت لغتهم الأولى من صدورهم وثبتت فيها هذه اللغة الثانية المستعارة . وهم متفقون على أن هذه العدنانية المستعربة إنما يتصل نسبهم باسماعيل بن ابراهيم . وهم يروون حديثا يتخذونه أساسا لكل هذه النظرية ، خلاصته أن أول من تكلم بالعربية ونسى لغة أبيه اسماعيل بن ابراهيم .
على هذا كله يتفق الرواة ، ولكنهم يتفقون على شيء آخر أيضا أثبته البحث الحديث ، وهو أن هناك خلافا قويا بين لغة حمير (وهي العرب العاربة) ولغة عدنان (وهي العرب المستعربة) . وقد روى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا .
وفي الحق أن البحث الحديث قد أثبت خلافا جوهريا بين اللغة التي كان يصطنعها الناس في جنوب البلاد العربية ، واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمال هذا البلاد . ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من اثبات هذا الخلاف في اللفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضا . وإذن فلابد من حل هذه المسألة .(/11)
إذا كان أبناء اسماعيل قد تعلموا العربية من أولئك العرب الذين نسميهم العاربة فكيف بعد ما بين اللغة التي كان يصطنعها العرب العاربة واللغة التي كان يصطنعها العرب المستعربة ، حتى استطاع أبو عمرو بن العلاء أن يقول إنهما لغتان متمايزتان ، واستطاع العلماء المحدثون أن يثبتوا هذا التمايز بالأدلة التي لا تقبل شكا ولا جدالا ! والأمر لا يقف عند هذا الحد ، فواضح جدا لكل من له المام بالبحث التاريخي عامة وبدرس الأساطير والأقاصيص خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية .
للتوراة أن تحدثنا عن ابراهيم واسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا ، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لاثبات وجودهما التاريخي ، فضلا عن اثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة اسماعيل بن ابراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها . ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في اثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة ، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وأقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون فيه شمال البلاد العربية ويثبتون فيه المستعمرات . فنحن نعلم أن حروبا عنيفة شبت بين هؤلاء اليهود المستعمرين وبين العرب الذين كانوا يقيمون في هذه البلاد ، وانتهت بشيء من المسالمة والملاينة ونوع من المحالفة والمهادنة . فليس يبعد أن يكون هذا الصلح الذي استقر بين المغيرين وأصحاب البلاد منشأ هذه القصة التي تجعل العرب واليهود أبناء أعمام ، لا سيما وقد رأى أولئك وهؤلاء أن بين الفريقين شيئا من التشابه غير قليل ؛ فأولئك وهؤلاء ساميون .
ولكن الشيء الذي لا شك فيه هو أن ظهور الإسلام وما كان من الخصومة العنيفة بينه وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب ، قد اقتضى أن تثبت الصلة الوثيقة بين الدين الجديد وبين الديانتين القديمتين: ديانة النصارى واليهود .
فأما الصلة الدينية فثابتة واضحة ، فبين القرآن والتوراة والأناجيل اشتراك في الموضوع والصورة والغرض ، كلها ترمي إلى التوحيد ، وتعتمد على أساس واحد هو هذا الذي تشترك فيه الديانات السماوية السامية . ولكن هذه الصلة الدينية معنوية وعقلية يحسن أن تؤيدها صلى أخرى مادية ملموسة أو كالملموسة بين العرب وبين أهل الكتاب. فما الذي يمنع أن تستغل هذه القصة قصة القرابة المادية بين العرب العدنانية واليهود ؟
وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة في القرن السابع للمسيح فقد كانت أول هذا القرن قد انتهت إلى حظ من من النهضة السياسية والاقتصادية ضمن لها السيادة في مكة وماحولها وبسط سلطانها المعنوي على جزء غير قليل من العربية الوثنية . وكان مصدر هذه النهضة وهذا السلطان أمرين: التجارة من جهة ، والدين من جهة أخرى .
فأما التجارة فنحن نعلم أن قريشا كانت تصطنعها في الشام ومصر وبلاد الفرس واليمن وبلاد الحبشة. وأما الدين فهذه الكعبة التي كانت تجتمع حولها قريش ويحج اليها العرب المشركون في كل عام ، والتي أخذت تبسط على نفوس هؤلاء العرب المشركين نوعا من السلطان قويا ، والتي أخذ هؤلاء العرب المشركون يجعلون منها رمزا لدين قوي كأنه كان يريد أن يقف في سبيل انتشار اليهودية والمسيحية من ناحية أخرى . فنحن نلمح في الأساطير أن شيئا من المنافسة الدينية كان قائما بين مكة ونجران . ونحن نلمح في الأساطير أيضا أن هذه المنافسة الدينية بين مكة وبين الكنيسة التي أنشأها الحبشة في صنعاء هي التي دعت إلى حرب الفيل التي ذكرت في القرآن .
فقريش إذن كانت في هذا العصر ناهضة نهضة مادية تجارية ، ونهضة دينية وثنية . وهي بحكم هاتين النهضتين كانت تحاول أن توجد في البلاد العربية وحدة سياسية وثنية مستقلة تقاوم تدخل الروم والفرس والحبشة ودياناتهم في البلاد العربية .
وإذا كان هذا حقا – ونحن نعتقد أنه حق – فمن المعقول جدا أن تبحث هذه المدينة الجديدة لنفسها عن أصل تاريخي قديم يتصل بالأصول التاريخية الماجدة التي تتحدث عنها الأساطير . وإذن فليس ما يمنع قريشا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس اسماعيل وابراهيم ، كما قبلت روما قبل ذلك ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعها لها اليونان تثبت أن روما متصلة باينياس ابن بريام صاحب طروادة .(/12)
أمر هذه القصة إذن واضح . فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام واستغلها الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني وسياسي أيضا ، وإذن فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عند ما يريد أن يعترف أصل اللغة العريبة الفصحى . وإذن فنستطيع أن نقول أن الصلة بين اللغة العربية الفصحى التي كانت تتكلمها العدنانية واللغة التي أنت تتكلمها القحطانية في اليمن إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة ، وإن قصة العاربة والمستعربة وتعلم اسماعيل العربية من جرهم ، كل ذلك حديث أساطير لا خطر له ولا غناء فيه .
والنتيجة لهذا البحث كله تردنا إلى الموضوع الذي ابتدأنا به منذ حين ، وهو أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا . ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير لغة القرآن ، والتي كان يقول عنها أبو عمرو بن العلاء : إن لغتها مخالفة للغة العرب ، والتي أثبت البحث الحديث ، أن لها لغة أخرى غير اللغة العربية .
ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضاف إلى شعراء هذه القحطانية في الجاهلية لا نجد فرقا قليلا ولا كثيرا بينه وبين شعر العدنانية . نستغفر الله ! بل نحن لا نجد فرقا بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن . فكيف يمكن فهم ذلك أو تأويله؟ أمر ذلك يسير ، وهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلى القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء ، لم يقله شعراؤها وإنما حمل عليهم بعد الإسلام لأسباب مختلفة سنبينها حين نعرض لهذه الأسباب التي دعت إلى انتحال الشعر الجاهلي في الإسلام .
الدين وانتحال الشعر
... ونوع آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين ، وهو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته ونسبه في قريش . فلأمرٍ ما اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم ، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف ، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي ، وأن يكون قصي صفوة قريش ، وقريش صفوة مضر ، ومضر صفوة عدنان ، وعدنان صفوة العرب ، والعرب صفوة الإنسانية كلها . وأخذ القصاص يجتهدون في تثبيت هذا النوع من التصفية والتنقية وما يتصل منه بأسرة النبي خاصة ، فيضيفون إلى عبد الله وعبد المطلب وهاشم وعبد مناف وقصي من الأخبار ما يرفع شأنهم ويعلي مكانتهم ويثبت تفوقهم على قومهم خاصة وعلى العرب عامة . وأنت تعلم أن طبيعة القصص عند العرب تستتبع الشعر ، ولا سيما إذا كانت العامة هي التي تراد بهذا القصص ..(/13)
نظرية علمية جديدة : الإنسان أصله صرصار
أ.د/
جابر قميحة
komeha@menanet.net
«الإنسان أصله قرد, ثم ارتقي تدريجيًا -علي مدار ملايين السنين- حتي أخذ صورته البشرية», هذا ما يقوله «دارون», ويمثل نخاع نظريته في «النشوء والارتقاء», وإن كان هناك من ينسب هذه المقولة لتلميذه «لامارك», وإن لم ينكروا أن دارون ذهب إلي أن الإنسان «في الأصل» كانت صورته تشبه القرد إلي حد بعيد . وعلي أية حال نري أن الخلاف لفظي, ولا تترتب عليه أية نتيجة عملية .
ونحن المسلمين نرفض هذه النظرية جملة وتفصيلاً, لتعارضها مع عقيدتنا في الخلْق بصفة عامة, وخلق الإنسان بصفة خاصة . غير أني أقول إني شُغلت بالقراءة في هذه النظرية, والقراءة عنها في مطلع الخمسينيات , وأنا طالب بالسنة الخامسة من المرحلة الثانوية (شعبة أدبي - فلسفة), وأذكر من الكتب التي قرأتها آنذاك كتاب «ملقي السبيل في نظرية النشوء والارتقاء» لإسماعيل مظهر, و«رسالة في الرد علي الدهريين لجمال الدين الأفغاني», وكذلك ما كتبه محمد عبده ,ومحمد فريد وجدي , وغيرهما.
ومن عجب أن يخرج أحد العلماء الألمان بنظرية جديدة مناقضة, فيقول: إن الإنسان لم يكن قردًا وارتقي, ولكن القرد كان أشبه ما يكون بالإنسان, وانحدر علي مدي ملايين السنين.
نظرية جديدة 100%
وأعتذر للقارئ عن هذا الاستطراد, ولكني ذكرت ما ذكرت, لأخٍْلُص منه إلي ما يدعو «للفخر الفاخر» و«الإعجاب الغامر», وهو أن مصريا من جلدتنا, يتكلم لغتنا, خرج علينا بنظرية جديدة تهدم كل ما سبق, بل تنسف النظرية أو النظريات السابقة, بل تنسف دارون نفسه, وكذلك لامارك, وزرجن بارجن, و«اللي خلفوهم» أيضًا.
وخلاصة هذه النظرية هي : أن الإنسان ليس أصله قردًا, ولا أسدًًًا, ولا حتي وزّة. ولكن أصله «صرصارً», وصاحب هذه النظرية هو «الفلتة» الدكتور محمد مجدي مرجان . وقد دأب علي تكرار مضمون نظريته هذه في «أهرام» كل أربعاء. ولكن -إنصافًا لهذا المرجان الفلتة- نقول: إنه وضع عدة قيود وضوابط علي نظريته في «صرصارية الإنسان». وأهمها:
1- أنه يقصد بالإنسان.. الإنسان المصري فقط, ولا يدخل في نطاق النظرية الأجناس الأخري.
2 - وكذلك لا يقصد الإنسان المصري -بإطلاق- ولكن من يعارض الرئيس حسني مبارك, وقد وصفهم بأنهم قلة قليلة تافهة... حشرات... هوام... ضائعون... مضللون... أغبياء... جبناء... لصوص.. خونة... عملاء. مع أنهم في الواقع يمثلون أغلبية الشعب, وأغلبهم من المواطنين الأجلاء الذين يحرصون علي إنقاذ مصر ونهوضها من نكباتها, وما نزل بها في العهد المباركي.
3 - أن هذه «الصراصير» قادرة علي التشكل في صور حيوانات أو حشرات أخري.. سنعرفها بعد قليل.
من كلمات مرجان الفلتة
قلت آنفًا: إن مرجان «الفلتة» -في أغلب مقالاته الأهرامية- مغرم بتشبيه «المعارضين بالصراصير» , ومن آخر ما كتبه في «أهرام 6/7/2005»: «... ولكن هذا هو قدر مبارك الذي لم يكن غيره بقادر أن يتحمل هذا الثمن الباهظ, ويطبق هذا الإسفاف الصفيق, افتتح (مبارك) المزاد (!!!!), وتسابق المهرجون والبهلوانات, واندس العملاء واللصوص, وتحولت «الصراصير» إلي عقارب, والفئران أسودا... وللأسف بلاخلاق تعاقب المُحْسن, وتكافئ المسيء, وتقتات من كل الموائد... إنهم فئة من الفاشلين والحاقدين والعملاء...».
ونسي «مرجان الفلتة» أن في هؤلاء أساتذة درّسوا له القانون... وفيهم من المثقفين «المتعففين» حائزون علي أرقي الشهادات العالمية . ولكني لا أملك إلا أن أقول: لعن اللّه النفاق, وأقول: إذا لم تستحي فاصنع, وقل ما شئت».
وإلي الامتحانات تسرب النفاق
وشعرت بخزي فادح وجزع أليم , وأنا أري «هيمنة النفاق» علي بعض امتحانات التربية والتعليم . وبين يديّ ورقة امتحان الفصل الدراسي الثاني (2004-2005) في مادة التربية الفنية للصف الأول الثانوي بمدرسة العريش الثانوية للبنين (محافظة شمال سيناء) ,ونص الورقة: أولاً: التعبير الفني: تشهد الأيام القليلة القادمة منعطف (كذا) خطيرًا في مصر للرؤية المستقبلية للشعب المصري لتحديد الأهداف والأولويات لتحسين حياة الفرد. والرئيس حسني مبارك قائد له تاريخ مستمر (كذا), واستطاع أن ينقل مصر نقلات حضارية في الاقتصاد والسياسة والتعليم والثقافة والزراعة والاستقرار والأمان, وحرص علي عدم المساس بأصحاب الدخل المحدود, وسعي لتحسين أحوال المعيشة, ووضع خططا خمسية متتالية لازدهار التنمية, وحرص علي إقامة مدن جديدة, ومشروعات ضخمة مثل (توشكي, شرق العوينات, ترعة السلام) لرفع معيشة أبناء الوطن . ولا يحتاج الرئيس لدعاية انتخابية, والكل سيقول كلمته (نعم) يوم الانتخابات للرئيس مبارك.
المطلوب: عبّر بقلمك وألوانك عن إحدي (كذا) المشاهد التالية:
1 - مشهد من مشاهد التأييد الانتخابي للرئيس مبارك في الشوارع أو داخل اللجنة الانتخابية .
2 - مشهد من مشاهد الإصلاح والخدمات في مصر علي يد الرئيس مبارك .(/1)
ثانيًا: التصميم الابتكاري: داخل مستطيل مساحته 20سم ھ 15 سم:
* صمم شعار تأييد للرئيس مبارك في الانتخابات القادمة, مسخدمًا الرموز المناسبة.
* علي أن تكتب عبارة (نعم لمبارك) داخل التصميم.
* (استخدم الألوان التي تناسب الشعار) (انتهي).
ولا أملك إلا أن أقول: لعن اللّه النفاق. وإذا لم تستحْي, فضع من الأسئلة ما شئت.
حتي أنت يا بيومي...
وفي مثل هذا الفلك يدور أزهري عتيد هو الشيخ عبد المعطي بيومي (عضو مجلس الشعب بالتعيين)... إنه يعترض علي المقولة النيّرة (اللّه أكبر وللّه الحمد). ويزعم أنها شعار حزبي ينم علي تعصب ديني, ومن ثم يجب أن تكون من الشعارات المحظورة أثناء قيام المرشحين بالدعاية في الانتخابات. والشيخ بيومي يعتقد أنه برأيه هذا سيرضي الدكتور فتحي سرور -رئيس مجلس الشعب- في حكومتنا العلمانية, ولكن «نقبه طلع علي شونة» ورفض الدكتور سرور ما قاله الشيخ بيومي. وقال بالنص: «لا يا أخي.. كلنا بنقول: اللّه أكبر وللّه الحمد», وهتف الإخوان جميعًا في مجلس الشعب ومعهم أعضاء آخرون.. أكثر من عشر مرات «اللّه أكبر وللّه الحمد»... وتوالت اللطمات علي الشيخ الذي «كُبت»... وخصوصًا عندما سقط سقطة علمية فاضحة حينما حاول التخفيف من شدة الكرّ عليه فزعم «أنه يعلم أن النبي قال : "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن , ثقيلتان في الميزان , خفيفتان على اللسان , هما : اللّه أكبر وللّه الحمد» . ورده إلي الصواب أحد نواب الإخوان, - وهوليس شيخًا ولا أزهريًا - , فذكر أن الكلمتين – بنص الحديث الشريف هما : " سبحان الله وبحمده , سبحان الله العظيم " , وليستا : " الله أكبر , ولله الحمد " , كما ذكر الشيخ بيومي . آااه.. يا شيخ بيومي... هل المسلمون الذين يهتفون في العيدين «...اللّه أكبر.. اللّه أكبر.. وللّه الحمد» أهؤلاء حزبيون.. يا أيها الشيخ " العالم " جدا ?!!
ولكن لك الفضل إذ جعلتني أترحم علي من قال: السٍّفلة هم من يأكلون بالطبل والمزمار, وسِفْلةُ السفلة هم من يأكلون بدينهم». ونقول لمن يرفض أو يتحرج من هذا الهتاف أو هذا الشعار «اللّه أكبر وللّه الحمد»: «اللّه أكبر وللّه الحمد»... وأنٍفُك.. وبصرك.. ووجهك... وكلك في الرغام, ولعن اللّه النفاق.. وإذا لم تستحْي فقل... وازعم ما شئت.
إنها مسئولية الشعوب
والواقع التاريخي يقول: إن نفاق الرعية يفسد الحكام, ويحولهم بالتدريج إلي وحوش ضارية. وصدق خليل مطران شاعر القطرين إذ قال (عن الطاغية نيرون حارق روما):
من يلم نيرون إني لائم
أُمة لو قهرته ارتد قهرًا
كل قوم خالقو نيرونهم
قيصر قيل له أو قيل كسري
إن الأمة في هذه الحالة تكون أمة بلا كيان, وذلك باستسلامها للطاغية.. ولهذا الاستسلام صور ثلاث هي:
1 - الاستسلام السلبي بالسكوت علي مخازي الطاغية دون مقاومة, أو حتي رفع صوت بالاعتراض.
2 - الاستسلام الإيجابي, بمنافقة الطاغية, وتزيين الشر له, وإظهار باطله علي أنه حق ناصع عادل مبين. وهنا تتشكل «بطانة السوء», وقد قلت في هؤلاء – من قصيدة متواضعة نظمتها - :
إن قال سيدهم «لا» فهْي كِلْمتهم
وإن يقل «نعمٌ» قالوا «نعمْ. نعمُ»
عميٌ عن النور في آذانهم صممٌ
لا ينطقون بحق.. إنهم بُكمُ
يرضون بالدون والدنيا إذا نعموا
أما إذا حُرموا أطماعَهم نقموا
كأنهم في مسار العمر قد خلُقوا
بلا عقول, فهم في عيشهم غنم
فلتخْسئُوا يا خفافيش النفاق فقد
عشتم وكلكمو في مصرنا قَزَم
3 - أما النوع الثالث فهو الاستسلام النفاقي الإيجابي «السيكوباتي» أو الإجرامي, بالعدوان والإيذاء قولاً وفعلاً, وتحريض الطاغية علي أن يعصف بمعارضيه قتلاً وسجنًا وتشريدًا بزعم خوف هؤلاء المنافقين علي حياته. وبالتدريج ينفصل الطاغية عن الشعب, ويغرس كراهيته في قلوب الناس. أما بطانة السوء فهي الفائزة الغانمة مكاسب الدنيا, ورغد العيش.
وهاكم نيرون مثلاً
والمثل التاريخي الذي يقطع بصدق هذا الحكم هو «نيرون» الذي شهد له أستاذه «سنكا» بأنه عاقل نجيب فيه ذكاء ورحمة. ولكن بدأت جوقة النفاق -حرصًا علي منفعتها- تعمل عملها. فصورت رذائله فضائل, ونقائصه كمالا , وصارت تُضخم فيه إلي أن بلغ لهذا أقصي غايات الغرور. وأعطانا خليل مطران نموذجًا لهذا النفاق المخزي في هذه المحاورة التي دارت بين الامبراطور نيرون, وبين بطانة المنافقين:
قال بي حسن, فقالت: وبه
يا فقيد الشبه فقت الناس طُرا
فترقي, قال: إني مطرب
فأجابت: وتعيد الصحو سُكْرا
فتمادي, قال: في التصوير لي
غُرَر, قالت: وتُؤتي الرسم عمْرا
فتغالي, قال: في التمثيل لا
شِبْه لي, قالت: وتحيي الميْتَ نشْرا
فتباهي, قال: إني شاعر
فأجابت: إنما تنظم .. درا
وانطلاقا من هذا النفاق الموهم المضخًّم بدأ جنون العظمة وشهوة البطش والطغيان تأخذ طريقها إلي نفس نيرون. وهي صورة لا يخلو منها تاريخ أمة من الأمم والنهاية هي الخراب والدمار.(/2)
نظريّة المؤامرة والوعي السياسي
عبد الله الصبيح 3/5/1426
10/06/2005
كثير من مثقفينا سواء كانوا إسلاميين أو ليبراليين أو أياً ما كانوا ينطلقون في رؤاهم وتحليلاتهم السياسية من نظرية المؤامرة؛ إذ يرون أن كل مافي الوجود من أحداث إنما هي عن تخطيط مقصود من طرف فاعل، وهو موجه ضدنا معشر العرب أو المسلمين.
ونظرية المؤامرة ليست خاطئة تماماً، ولكنها ليست صواباً تماماً. وهي في كل الأحوال لاتستطيع أن تفسر ما يقع من حوادث، وينشأ من ظواهر في المحيط السياسي.
ومن ركن إليها أفضت به إلى عمى في البصيرة عن قواه الذاتية الكامنة، وضخمت عنده قدرات خصمه فأورثته عجزاً ويأساً. والعاجز اليائس إما أن يستسلم لإرادة خصمه أو ينزوي عن مسرح الأحداث.
وفي كلتا الحالتين هو الجاني على نفسه.
إن الوعي السياسي يُراد به ليس فقط معرفة أهداف الخصم، وإنما تحديد الخيارات المتاحة للريادة في تكوين الحدث أو رد الفعل تجاه الحدث. ونظرية المؤامرة تحدثك عن أهداف الخصم وتضخمها أمامك، وتغلق عليك منافذ الخيارات التي ينبغي لك أن تسلكها في التأثير في المسرح السياسي.
تصورْ ذلك الذي يحدثك عن الصهيونية العالمية ومؤامراتها الضخمة في البر والبحر والحرب والسلم، وسيطرتها على السياسة والفن والإعلام وسوق المال والمجال الأكاديمي، وغير ذلك مما تعلمه وما لاتعلمه، تصوّرْ أن ذهنك أصبح مشبعاً بما حدثك به، ثم أضفت إليه دراسة ما يُسمّى ببروتوكولات حكماء صهيون، فأضفت ضِغثاً على إبّالة!!
ترى هل ترك لك ذلك التثقيف فسحة للتصرف السليم، أم أنه حدد طريقاً واحداً وهو العجز واليأس وليس ثمة طريق آخر سواه؟
وهل أتاح لك بذلك فرصة لتفحص ذاتك وتعرّف مواطن القوة والضعف عندك، أم أنك استغرقت في تهويمات عن أهداف خصمك، وما يريده فقط، وغفلت عن دراسة مواطن القوة والضعف الفعلية عنده؟
وإن مما يزيد من بلائنا مع هذا النوع من التحليل أن البعض يسميه وعياً سياسياً أو وعياً للواقع، بينما هو لا يعدو عن أن يكون اعتقالاً للذات في مشروعات العدو وارتهاناً لطاقات العقل المبدعة ضمن إستراتيجية الخصم.
إن التحليل السليم لاينفصل عن الواقع إطلاقاً ولا يعيش في الخيال، ومن الارتباط بالواقع أن يتلمّس الباحث العوامل الواقعية المؤثرة في الحدث، ويحولها إلى أرقام إحصائية، ويتتبّع مساراتها وتغيّراتها.
وكل عامل واقعي لايكاد يكون حكراً على طرف في المسرح السياسي دون طرف آخر، بل كل فريق يستطيع أن يستفيد منه بمقدار ما عنده من تخطيط سليم ودراسة واقعية.
والتخطيط السليم لا يكون عن طريق ما يُسمّى بالوعي السياسي الناتج من جمع قصاصات من الصحف هنا وهناك، وإنما يكون عن طريق الدراسة المتأنية المتخصصة طويلة المدى.
إن المطالعة الصحفية قد تنتج لنا مثقفاً سياسياً، ولكنها لن تنتج فقيهاً بالواقع، عالماً بالسياسة، يستطيع رسم الإستراتيجيات السياسية إلا إذا كانت مطالعة بعض النشرات الطبية كافية لإخراج طبيب عالم يستطيع التشخيص والعلاج وإجراء العمليات الجراحية(/1)
نظريّة الملحمة في الأدب الملتزم بالإسلام
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
... ...
...
كان أرسطو يحصر الشعر في المحاكاة التي تعرض أفعال البشر، خيرها وشرها ترتيباً يبرز أهميتها وضرورتها، ويبرز توالد بعضها من بعض. وكان يعتبر" هوميروس" اليوناني شاعراً عظيماً، ولم يُقمْ وزناً للشعر الغنائي ولا لشعرائه.
لقد أثّرت نظريات أرسطو في أوروبا كثيراً وكذلك الفكر اليوناني الوثني، وبرز هذا التأثير في الأدب الكلاسيكي الأوروبي، ثمّ امتدّ بعد ذلك في ميادين كثيرة.
إلا أن نظريّة المحاكاة التي اعتمدها أرسطو كقاعدة للشعر لا تنهض كنظرية مقبولة في التصور الإيماني، ولا في اللغة العربية وأدبها. وفكر أرسطو وآراؤه كانت وليدة تجربة وثنية في مجتمع وثني، حملت معها روح الوثنية.
والملحمة عند أرسطو محاكاة بالقصة الشعريّة، تروي الأحداث رواية يقرؤها القارئ، ولا يشاهدها النظارة كما يشاهدونها في المأساة.
1ـ لمحة عن نشوء" الأسطورة" عند اليونانيين :
اتخذ أرسطو" هوميروس" نموذجاً للأسطورة، وعلى أساس ذلك وضع قواعدها وأسماها" EPIKOS" وأصبحت في الإنكليزية" EPIC"، وتعريفها في المعاجم : هي قصيدة تحتفل بشعر منظوم أعمال الأبطال والآلهة وأنصاف الآلهة. وقد نشأت الأساطير" EPICS" من تصوّرات مبكّرة لأُناس وهميين وتجاربهم مع الطبيعة. وكانت تبتدئ هذه الأساطير من الشعب نفسه ثم تنتقل من جيل إلى جيل، وتنمو مع انتقالها بخرافات عن الآلهة ودورها في أحداث تاريخية في حياة الشعب. ثمّ يأتي شاعر أو أكثر يجمع هذه الأساطير ويضع لها الصياغة النهائية التي تعرض الأحداث التاريخية بصورة خرافية، وقد لا تعرضها. هكذا بدأت الأوديسا وهكذا نمت وهي تجمع من خلال ذلك الفكر اليوناني الوثني عن الآلهة والطبيعة والإنسان.
والأساطير الهندية خرجت بنفس الأسلوب الوثني، مثل أسطورة " ماهابهاراتا" والأسطورة البابلية :" أسطورة الخلق"، وأسطورة الرومان وضعها شاعرهم فيرجيل :" أسطورة الاينيادا". وحذا حذو هذه الأساطير الوثنية ميلتون الإنجليزي في" الفردوس المفقود"، ثم أخذ الغرب الأوربي يتنازل عن خصائص هذه الأساطير ويقدّم بدلاً منها قصائد اجتماعية مثل قصيدة الشاعر الإنجليزي" بوب" :" Rape of The Lock".
2ـ خطأ في الترجمة يجب أن نتحرّر منه ومن التبعيّة للوثنيّة اليونانيّة :
لقد تُرجمت كلمة" epikos"، و" epic" خطأً إلى" الملحمة". والترجمة الأقرب للصحة هي" الأسطورة"، فكلمة الملحمة في اللغة العربية وفي المعاجم وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تحمل معاني أجلّ وأرقى من معاني الأسطورة.
من هنا أصبح واجبنا، مع انطلاقة الأدب الملتزم بالإسلام، أن نقدّم تصوّراً جديداً للملحمة في أدبنا ينبع من الكتاب والسنّة واللغة العربيّة وتاريخ الإسلام، بعيداً عن الخرافات والأساطير، وبعيداً عن التبعيّة العمياء للأساطير الوثنيّة.
ومعاني كلمة الملحمة في اللغة العربيّة كما هي في المعاجم : الوقعة العظيمة في الفتنة، الحرب ذات القتل الشديد، ومنها لحم القوم، وألحمت القوم، ونبيّ الملحمة. وفي كل هذه المعاني ابتعاد عن الخرافات والأساطير.
وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم :".... فعندئذ تغدر الروم وتجمع للملحمة...."، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عمران بيت المقدس خراب يثرب وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال ) ثم ضرب بيده على فخذ محدّثه أو منكبه وقال : ( إنّ هذا لحقّ كما أنك هاهنا ).
وأحاديث أخرى جمعها أبو داود في سننه في كتاب أسماه" الملاحم".
فمن هنا نرى أن كلمة الملحمة تمثّل قتالاً حقيقياً لا خرافة فيه ولا وهم، وترتبط بأرض القتال، وبالنبوة، وبتأليف الأمة وإصلاحها، وهي مرتبطة بالتوحيد ورسالته، وبمعارك الإسلام الحقيقية.
3ـ التصور الذي نطرحه للملحمة في الأدب الإسلامي لمفارقة التصوّر الوثني :
أ ـ الطول : لا حاجة لأن تلتزم الملحمة آلاف الأبيات الشعريّة أو عشرات الآلاف، فهذا متعب للقارئ وللشاعر دون أي فائدة توازي ذلك التعب والملل، يكفي أن يتّفق على الحد الأدنى لأبيات الملحمة، ويترك الطول دون فرض وإلزام.
ب ـ الموضوع : ينحصر في قضايا الأمة المسلمة وتاريخها ورسالتها وواقعها، خالية من الخرافات والأساطير. ففي الواقع أحداث أهم من الأساطير وأجدى وأكثر متعة وفائدة.
ج ـ الزمن : الفترة الزمنية للملحمة يجب أن تكون فترة تترابط فيها الأحداث.
د ـ الأجزاء : المقدّمة أو الافتتاح، الموضوع أو القضية، ثم الخاتمة.
هـ ـ الهدف : لا بد من هدف واضح حتى لا يضيع هذا الجهد الكبير في متعة تائهة. فالهدف يمكن أن يكون مشاركة الأمة في أفراحها وأحزانها، أو إبرازاً لرسالة الأمة ونشراً لها، أو دعماً لجهادها وقوتها، الهدف يجب أن يكون إيمانياً.
4 ـ شروط الملحمة في الأدب الملتزم بالإسلام :(/1)
أ ـ تطهيرها من الأساطير والخرافات وأفكار الوثنيّة.
ب ـ أن ينبثق تصورها من الإيمان والتوحيد، أو من الكتاب والسنّة، ومن اللغة العربيّة، تحمل الصدق، وتساهم في البناء والإعداد، على طريق النصر.
ج ـ أن يكون موضوعها ملحميّاً مأخوذاً من تاريخ الإسلام القديم والحديث.
د ـ أن تقوم على الصدق.
هـ ـ أن تحمل الخصائص الفنيّة التي ترفعها إلى مستوى الأدب، وأن تحمل الخصائص الإيمانية لتكون أدباً إسلاميّاً.
5ـ مواقف مختلفة :
لقد دار حوار حول هذه القضيّة بعد إثارتها في الصحف والمجلاّت والمؤتمرات والندوات. وكانت الآراء مختلفة بين مؤيّد ومعارض. ولكن مع متابعة الموضوع والكتابة فيه أخذت الصورة تزداد وضوحاً والقناعة بها تنمو.
فلم تجر العادة أن يُقْبَل مثل هذا الطرح الجديد فوراً. فلا بد من مؤيّدٍ ومعارض. إلا أن الحجج المقدّمة من أجل هذا التصوّر لم ينقضها أحد، فهي حجج مبنية على حقائق تاريخية لا افتراء فيها، وعلى قواعد إيمانيّة لا خلاف حولها. ولكن جوهر المشكلة نابعٌ من أنّ أوروبا تأثرت بالفكر اليوناني تأثراً كبيراً قريباً من التقديس، حتى إن الحداثة التي ترفض الماضي كلّه ظلّت متمسِّكة بالخرافة والأساطير والاعتزاز بها. وكذلك فإن كثيراً منّا قد تأثر بأوربا العلمانية تأثراً كبيراً، وزاد من أسباب هذا التأثر الغزو والاحتلال وفرض أدبهم وفكرهم بأسلوب مباشر وغير مباشر. وكانت الملحمة اليونانية وتصورها هي التي تدرَّس في الجامعات على أساس أنّ هذا هو الحقّ.
ولكنْ مع الإصرار وزيادة الإيضاح نرجو أنْ ينأى الأُدباء المسلمون عن أيّ تصوّر وثني مهما كان مصدره. إنّ مهمة الأدباء المسلمين اليوم أن يقدّموا للعالم التصورات الإيمانيّة نظريّة وتطبيقاً، حتى نوفي بالأمانة التي نحملها.
لا يُعقل أن نظلّ تبعاً حتى في الأدب وتصوّراته، ونحن نحمل أَجْمل تصوّر للأدب وأغناه.
6ـ كيف نقدم تصورنا للملحمة ؟
إنّنا نقدم نظريّة مفصّلة مع الأدلّة والبيّنة، بوضوح وجلاء، وحسمٍ وحزمٍ دون أي تردّد. ونقدم مع النظريّة تطبيقاً عمليّاً لهذا التصوّر في ملاحم تمّ نشرها: ملحمة الغرباء، ملحمة فلسطين، ملحمة الأقصى، ملحمة البوسنة والهرسك، ملحمة الإسلام في الهند، ملحمة القسطنطينية، ملحمة الجهاد الأفغاني، ملحمة أرض الرسالات، ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين، وغيرها.
فطرح النظريّة والتطبيق لها أقوى حجة وأعدل قضية. وإنّنا نأمل أن يأخذ هذا التحرّر من التبعيّة للوثنيّة اليونانيّة وغيرها منزلته العادلة، وأن يُصْبح تصوّر الملحمة وتطبيقها مقارباً أو مطابقاً لما نعرضه، ونعرض التفصيلات في دراسة أوسع من هذا الموجز في كتاب :"الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته"، وفي مقدّمة بعض الملاحم الأخرى.
وندعو الله أن يتقبل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن يمدّنا بعزيمة من عنده، إنه هو السّميع العليم.(/2)
نظف أسنانك فستحتاج إليها يوم القيامة - إشارات في التحذير من رفقة السوء!!
المكان: أرض بيت المقدس.
الزمان: يوم الحساب.
التوقيت: مع اقتراب الشمس من الرؤوس.
المشهد:
أنت واقف تحت الشمس وقد بلغ منك العرق بمقدار ذنوبك إلى الكعبين أو الساقين أو الصدر أو الفم فيغمرك العرق وكل أعلى بمقدار كم سيغرق وأنت في هذا الموقف تتمنى أن ينتهي بأسرع ما يمكن وبأي طريقة وحولك يقف أصدقاؤك الذين كنت معهم على غير طاعة الله لا يستطيعون أن يفعلوا لك شيئا ولا حتى أن يكونوا كما كانوا يفعلون في الدنيا ' رجالا ' في مواقف المعصية فهم مشغولون بأنفسهم أيضا.
وبينما أنت في هذا الموقف العصيب تنظر على مقربة منك فترى ظلا عظيما ممتدا يقف تحته الكثير من الناس كنت تعرفهم بأشكالهم بل حتى منهم من تعرفه باسمه بل ومنهم من وقفت وتكلمت معه مرات ومرات ما بالهم هناك وأنا هنا ؟؟؟ بل ما لهم مستظلين وأنا في عرق ذنوبي غريق. نعم أليسوا هم من كانوا يدعونني إلى صحبتهم ويلحون علي في ذلك أليسوا هم من كانوا يحذرونني من صحبة رفاقي ويخبرونني بهذا المشهد ويرجونني ألا أكون في موضعي هذا.
حينها يملأ الندم قلبك ' ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ' فهل علمت أخي الحبيب من الذي سيحتاج إلى أسنانه يوم الحساب أسأل الله ألا تكون منهم.
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:' الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل '.
وقال صلي الله عليه وسلم :' لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي ' وكما وجه الحبيب صلي الله عليه وسلم كل قابل لنصحه ومستجيب لأمره إلى من يكون الخليل والصاحب ومن يدخل بيتك ويأكل طعامك كذا بين الثواب العظيم للصحبة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال صلي الله عليه وسلم في حديث آخر :' إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم [ يحسدهم الحسد المحمود ] الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله عز وجل قالوا: يا رسول الله [ صلي الله عليه وسلم ] من هم ؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ثم تلا الآية:' ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون '.
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم في حديث آخر :' إذا خلص الله المؤمنين من النار وأمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدنيا أشد مجادلة من المؤمنين لربهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار قال يقولون: ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجون معنا فأدخلتهم النار فيقول الله تعالى : اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى كعبيه فيخرجونهم فيقولون : ربنا أخرجنا من قد أمرتنا فيقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل' فانظر أعزك الله إلى شفاعة المؤمنين في إخوانهم وأصحابهم وأهليهم وأصدقائهم يوم القيامة وفضلها العظيم.
وتعال معي عزيزي الشاب إلى محور حديثنا الأساس وهو السبيل إلى اختيار الأصحاب والأصدقاء لكي ننال الثواب العظيم ولعل من أفضل العبارات التي تصوغ شكل الصاحب والرفيق عبارة الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى من القرن السادس الهجري حيث قال رحمه الله:' ينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلا حسن الخلق غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا '.
ونلمح في العبارة ان المنهي عنه في الصاحب أكثر من المأمور به وهي إشارة إلى أن الصفة الحسنة إن وجدت في الصاحب فليست كفاية للحكم بصلاحه لصحبتك بل الأهم انتفاء المنهيات حيث أنها علامة الهلاك.
1_ أما العقل فهو رأس المال ولا خير في صحبة الأحمق لأنه يريد أن ينفعك فيضرك ونعني بالعاقل الشخص الذي يفهم الأمور على ما هي عليه إما بنفسه أو يكون بحيث إذا شرح له فهم وهذا مفهوم بالفطرة فلا نظن أن هناك من يحب مصاحبة الحمقي الذين لا يعرفون ما لا يفعلون.
2_ وأما حسن الخلق فلا بد منه فرب عاقل يغلبه غضب أو شهوة فيطيع هواه فلا خير في صحبته فلا يغرنك صاحب العقل الراجح إن ساؤت أخلاقه فسيؤذيك أنت أولا بأخلاقه قبل أن ينفعك بعقله وإن لم يفعل تنطبع أخلاقه على أخلاقك ولو بعد حين.
3_ وأما الفاسق فإنه لا يخاف الله ومن لا يخاف الله تعالى لا تؤمن غائلته ولا يوثق به وهذا والله من درر كاللام فأمر طبيعي للغاية أن من لا يراعي حرمات الله تعالى هل سيراعي حرماتك وهل تأمنه على نفسك ومالك ؟ كلا والله وإن ظهر منه عكس ذلك فعند الملمات والخطوب تظهر الحقائق وتنكشف وعندها لا ينفع الندم.(/1)
4_ وأما المبتدع فيخاف من صحبته بسراية بدعته فصاحب البدعة يسرب إليم فهمه الخاطئ للإسلام وبدعته ولا تشعر فمثلا كثرة مخالطتك للقبورييين ورؤيتك لما يفعلونه تقذف في القلوب الاعتقاد في القبور والتبرك بها والذبح والنذر لها والدعاء عندها وهذا من أخطر الأمور.
5_ واما الحريص على الدنيا فإن واجب المؤمن أن يتجنب عشرة طلاب الدنيا فإنهم يدلونه على طلبها وجمعها ومنعها عن أصحاب الحق فيها وذاك الذي يبعد العبد عن طلب نجاته ويقطعه عنها ويجتهد في صحبة أهل الخير ومن يدله على طلب الآخرة وينبغي الحذر من هذه الصفة بالذات فصاحبها قد يكون صاحب عقل راجح وخلق رفيع وليس مبتدعا ولا فاسقا ولكنه غافل عن الله تعالى وليس حريصا على مرضاته فتصبح مثله بعد فترة من الوقت لا يهمك في هذه الدنيا إلا ذات الدنيا العمل والدراسة والكلية والبيت وغيرها من الأمور الدنيوية ولا يصبح في عقلك ولا فكرك حيز ولا مجال لمرضاة الله تعالى والسعي إليها فيقسو قلبك أعاذنا الله تعالى وإياك من ذلك,
ويختم ابن الجوزي رحمه الله تعالى فيقول:' ومن اجتمعت فيه هذه الخصال كلها فإن صحبته لا ينتفع بها في الدنيا فقط بل ينتفع بها في الآخرة وعلى هذا يحمل كلام بعض الصحابة والتابعين رحمهم الله تعالى : استكثروا من الأخوان فإن لكل مؤمن شفاعة يوم القيامة '.
وخير ختام لهذا الكلام قول الله تعالى :' الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين '
أخي الحبيب : إنها دعوة لإعادة النظر في أصدقائك وتوصيفهم تبعا للقواعد التي ذكرناها سابقا فإما أن تنال بهم الشفاعة يوم القيامة وتكون معهم في تلك المكانة العظيمة وإما أن تبدأ بالأخذ بنصيحتي وتستعد بتنظيف أسنانك فستحتاج إليها في ذلك المقام.
حفظك الله تعالى ومن تحب من كل سوء وشر وأعانك على الخير ونيل رضاه
وإلى لقاء قريب لكم منا خير التحية وأطيب الأمنيات والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(/2)
نعم للحاسب ولكن!
انتشر اليوم استخدام الحاسب الآلي في أنحاء العالم، والعالم الإسلامي جزء من هذا العالم الواسع، حتى أصبحت مقولة الأمية ألا تعرف الحاسب مقولة قابلة للنقاش على الأقل في عصرنا.
ورافق القفزات الهائلة في هذا العالم الحاسوبي انتشار طائفة من البرامج العلمية والشرعية، وانتشار مواقع دعوية على الشبكة العنكبوتية (الانترنت)، وما من شك أن هذا الجهاز له أهميته وفوائده حين يحسن استخدامه.
فتتيح البرامج العلمية والموسوعات قدرات وإمكانات هائلة في البحث والمراجعة، وتتيح إمكانات النسخ واللصق وقتاً لأولئك الذين يستخدمون الحاسب في تحرير أبحاثهم وتدوينها، كما تخدم برامج تحرير النصوص وقواعد البيانات طائفة ممن يسعون لضبط أعمالهم وإدارتها، فهي تهيء للباحث إمكانات وقدرات لاتهيئها له غيرها من الوسائل والأدوات، وتوفر له قدراً من الوقت والجهد.
والحاسب اليوم أصبح يتخطى حواجز كثيرة، ويخاطب فئات لا يمكن مخاطبتها بالوسائل العادية، ويوفر قدراً من الأموال والجهود التي تصرف في غيره من وسائل الخطاب.
ويخدم الحاسب اليوم في التعلم الذاتي، فيستفيد منه طائفة ممن لاتتيسر لهم أسباب التعلم.
إلا أن التعامل مع هذا الجهاز ينبغي أن يكون باعتدال، فمع التأكيد على أهمية الاستفادة منه واستثمار إمكاناته إلا أن هناك جوانب عدة يجب أن توضع في الاعتبار:
الأول: لابد من الحذر من أن تطغى مساحة الاهتمام والتعامل مع هذا الجهاز على المساحة المتاحة للكتابة والقراءة؛ فلا غنى لطالب العلم عن القراءة والجلد فيها والمكابدة، والحاسب بما يوفره من متعة وسهولة في التعامل ربما كان أكثر إغراءً .
الثاني: يخدم الحاسب في سرعة الوصول إلى المعلومة، بل ربما لايمكن الحصول عليها من غير طريقه، لكن لابد من الحذر من الاعتماد عليه وحده في البحث؛ إذ ذلك يعني ألا تكون للباحث صلة بالكتاب، وألا يعرف طريقة المؤلف في ترتيبه وتبويبه.
الثالث: نظراً لأن الحاسب يعمل بطريقة آلية صرفة، فكثيراً ما ينفي الباحث وجود معلومة في الكتاب، والسبب في ذلك أنه أخطأ في إدخال الكلمة، أو استخدم كلمة مرادفة لما في الأصل، أو أن مُدخِل النص وقع في تصحيف أو تحريف وما أكثر ذلك.
الرابع: كان السلف يحذرون كثيراً من التصحيف والتحريف في الكتب، ولذا كان الوقوع في آفتي التصحيف والتحريف من مؤيدات مقولة"من كان أستاذه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه"، ولئن كانت الكتب المطبوعة تعاني من هذه الآفات، فالبرامج الحاسوبية اليوم لها النصيب الأكبر ما بين سقط، وخطأ في إحالة وخطأ في تخريج وتصحيف وتحريف، خاصة أن كثيراً من أعمال الحاسب تم إدخالها على أيدي فنيين ونساخ غير مختصين، إضافة إلى أن حمى المنافسة تدفع للتسرع في إخراجها قبل نضجها.
ولعل من الأخطاء الطريفة في ذلك ما وقع في أحد برامج الحديث الشريف في كتاب صحيح مسلم "باب جواز إرداف المرأة الانجليزية" والصواب "الأجنبية".
الخامس: الجرأة على استخدام البرامج غير الأصلية، والاعتداء على حقوق المؤلفين، وقد أفتت مجامع عدة بتحريم ذلك ومنعه، فلا أقل من الورع، خاصة في استخدام البرامج الشرعية.
السادس: الحاسب يضيع وقتاً هائلاً على بعض من يتعامل معه، فلابد من الحذر من استهلاك الوقت وضياع ساعات العمر.
A(/1)
نعم للوسطية، ولكن ما هي الوسطية؟ الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد*
ينادي البعض في هذه الأيام بالوسطية، وقد عقدوا لذلك المؤتمرات، والندوات العلنية بعد السرية، وأنشأوا من أجل ذلك معاهد ومحاضن، للتسويق لإسلام جديد مغاير ومناقض للإسلام الذي بعث به سيد البرية محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عبارة عن خلطة بين ما تهواه أنفس أولئك الدعاة المشبوهين، وبين ما أفرزته الحضارة الكافرة، إسلام أمريكي، ليتمكنوا من تفريخ عدد من علماء سوء مفسدين مضلين، وأنصاف دعاة مهرجين مخربين.
يصدق على مثل هذه الدعوات المشبوهة التي تحركها أيد خبيثة معروفة، وينفذها بعض المنافقين والمخدوعين المستغلين، أنها دعوات حق يريدون بها باطلاً، وكلمات صدق يرمى من ورائها إلى تبديل الدين وتطويعه.
الوسطية الحقة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه الكرام، والتابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة الفاضلة، والأعصار الزاهية، قبل أن تنبت الفرق الكلامية، وتظهر العقائد الخلفية، كما جعلهم ربهم: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"1، ومن سار على نهجهم واتبع سبيلهم إلى يوم الدين.
ولهذا يمثل الوسطية أهل السنة والجماعة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كما أن المسلمين نقاوة بين الأمم، كذلك أهل السنة نقاوة بين الفرق).
فالوسطية والخيرية إذاً هي الالتزام بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح في الاعتقاد، والتصور، والعبادة، والسلوك: "ما أنا عليه وأصحابي اليوم" الحديث، أي الاعتصام بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعت عليه الأمة.
يعتقد بعض المتفلتين أن الوسطية ما هي إلا التلفيق بين الإسلام وما أفرزته الحضارة المادية الكافرة، كما يزعم دعاتها: الجمع بين الأصل والعصر.
وما هي إلا الأخذ بهفوات وسقطات بعض أهل العلم، والبحث والتفتيش عن الأقوال الشاذة، والآراء المهجورة، وصدق من قال: "من تتبع رخص العلماء وزلاتهم تزندق أوكاد، وتجمع فيه الشر كله".
رموز الوسطية لفيف من العلمانيين والمنافقين ذوي النكهة الإسلامية، أوالمزاج الإسلامي، ، والمنهزمين التوفيقيين، من دعاة إزالة الفوارق بين الأديان، ورفع الكفر عن اليهود والنصارى، والتقارب بين السنة والشيعة، المجيزين لكثير من المحظورات، المحللين لجل المحرمات: الغناء، الموسيقى، التمثيل، التصوير، تولي المرأة الإمامة الكبرى والقضاء، الساعين لإشاعة الفاحشة في المجموعات الطاهرة، المتجاسرين على رد سنن خير الأنبياء.
تتضح وسطية أهل السنة، واعتدالهم، وخيريتهم في الآتي:
أولاً: الإيمان بأسماء الله وصفاته، فهم وسط بين المشبهة من ناحية وبين الجهمية المعطلة نفاة الصفات من ناحية أخرى، فمذهبهم إثبات من غير تشبيه، وتنزيه من غير نفي.
ثانياً: في الصحابة، فهم وسط بين الشيعة والخوراج الذين كفروا وفسقوا كثيراً من الصحابة من ناحية، وبين الشيعة وغلاة الصوفية الذين يدَّعون العصمة لبعضهم، فالصحابة عند أهل السنة بشر، ولكنهم أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين، تجوز عليهم الكبائر والصغائر كسائر الخلق، مع ندرة حدوث ذلك منهم.
ثالثاً: فقهاء أهل السنة كذلك وسط بين المتعمقين في القياس والرأي من ناحية، وبين نفاة القياس كلياً من ناحية أخرى.
رابعاً: في الشفاعة في الآخرة، فهم وسط بين الخوارج والمعتزلة الذين نفوا عدداً من شفاعاته صلى الله عليه وسلم من ناحية، وبين غلاة الصوفية الذين جعلوا الشفاعة في الآخرة كالشفاعة في الدنيا من ناحية أخرى.
خامساً: في الحكم على الناس، إذ أنهم يحكمون على الناس بما ظهر منهم، ويدعون علم سرائرهم لعلام الغيوب.
سادساً: في الإكفار، فهم وسط بين الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بكل كبيرة من ناحية، وبين المرجئة الذين جعلوا الأمر فوضى والتكاليف عبثاً، الذين يقولون: (لا نكفر إلا من انتفى الإقرار والتصديق من قلبه) من ناحية أخرى، إذ يكفرون من تعاطى سبباً من أسباب الإكفار، ويمنعون الإكفار بكل معصية.
هذه هي الوسطية الحقة، وما سواها تفلت عن الشرع، وسعي لتبديل وتغيير دين محمد صلى الله عليه وسلم.
الأفضل للمرء أن ينسلخ عن دين الإسلام، ويكفر بما أنزل عليه بالكلية، بدلاً عن أن يشرع ديناً ما أنزل الله به من سلطان، تحت مسميات مختلفة، ومصطلحات مفضوحة مختلقة.
لقد ضاق دعاة تطوير الدين وتبديله حتى يماشي ما عليه الكفار بالعتيق ذرعاً، ولهذا سعوا لاستيراد "نظم الحكم" من الكفار كما استورد سلفهم عمرو بن لحي الخزاعي صنماً من الشام، عندما ضاق بالحنيفية السمحة فتولى كِبْرَ تبديلها، كما يريد هؤلاء تولي كِبْرَ تبديل شرع محمد العتيق، ولهذا رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر "قصبه"، أي أمعاءه في جهنم.(/1)
فهنيئاً لدعاة تبديل الدين، وتبصر بمصير شيخهم شيخ السوء عمرو بن لحي الخزاعي، والله جامع الكافرين والمافقين في جهنم جميعاً.
وليعلم هؤلاء أن دين الله محفوظ، وشرعه باق ما بقيت السموات والأرض، وأنهم بسعيهم الباطل هذا، وعملهم الخاسر، لا يضرون إلا أنفسهم، فهنيئاً لهم برضى الكفار الموجب لغضب الجبار، المفضي إلى الخلود في النار، والويل ثم الويل لمن باع آخرته بدنياه، وربما بدنيا غيره.
اللهم من أرادنا وأراد إسلامنا بسوء اللهم فعليكه فإنه لا يعجزك، وصلى الله وسلم وبارك على محد، وآله، وصحبه، والتابعين لهم من بعده.(/2)
نعم... نعم يا محمد..
بقلم: الدكتور جابر قميحة
komeha@menanet.net
ما حل موسم الحج, وما تلوت سورة الأنفال إلا وتذكرت الواقعة الغريبة التي أقصها علي القارئ بعد قليل, كما أعرضها كذلك علي العلماء والفقهاء, آملاً أن أجد لها تفسيرًا علميًا مقنعًا. وعلي أية حال تبقي هذه الواقعة دليلاً علي أن هناك مجهولات كثيرة أمام العقل البشري, لا أقول في الفضاء - الذي يزعم الإنسان بغروره أنه قهره - ولكن في الأرض التي يدب عليها, وفي المحيط الذي يعيش فيه.
. . .
كان ذلك مساء يوم الجمعة (أول ديسمبر 1967), كنت جالسًا في انتظار أذان العشاء بالجامع الكبير في المنزلة دقهلية - مسقط رأسي - ورأيت رجلاً نحيلاً, أبيض البشرة, يرتدي جلبابًا رماديًا... جلس إلي يساري, لم يشد نظري إليه إلا أنه كان يضع علي رأسه عمامة خضراء. وأهل المنزلة يطلقون علي «العمامة الخضراء» وصف «الشرف الأخضر», فيقولون «فلان لابس شرف أخضر» أي معمم بعمامة خضراء, والسبب أن هذا اللون اختصت به عمائم الأشراف الذين ينتسبون - كما يقولون - إلي الرسول الله صلي الله عليه وسلم وآل البيت.
- هذا رجل غريب عن المنزلة ولا شك.. دار في ذهني هذا الخاطر, لأن أصحاب العمائم الخضراء من أهل البلد, كنت أعرفهم جميعًا, وهم لا يتجاوزون سبعة أشخاص.
أخرج الرجل الغريب من جيبه مصحفًا صغيرًا, وشرع يتلو سورة الأنفال بصوت خفيض, ولكنه كان ينساب إلي أذني كماء الذهب. وأشهد أنني ما سمعت في حياتي تلاوة أجمل وأبهي من تلاوة هذا الرجل, حتي إنني أملت رأسي علي كتفه اليمني كيلا يفلت مني حرف واحد مما يتلو, وشعرت بتيار من الدفء يغمر أعماقي في هذه الليلة الباردة, إلي أن وصل الرجل إلي قوله تعالي: { يا أيها َّالذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم .....} [الأنفال: 24]. وقف الرجل عند هذا الجزء من الآية... وأخذ يكرره عدة مرات, وفي كل مرة كان صوته يزداد خشوعًا, وتهدجًا, وفي كل مرة يزداد شعوري بالدفء, إلي أن تحول صوته إلي ما يشبه النشيج الباكي, وأخذ يردد «أنا مستجيب يا محمد... نعم نعم يا محمد... نعم يا حضرة النبي».. نظرت إلي وجه الرجل فرأيت الدموع تنهمر علي وجنتيه وذقنه الحليقة, ووجدتني أردد معه بصوت مهموس «نعم يا محمد.. نعم يا حضرة النبي».
وبعد الأذان... أعاد الرجل مصحفه إلي جيبه. ومن جيبه الصغير في أعلي الجهة اليسري من ثوبه أخرج زجاجة صغيرة, وفتحها عن «مرٍود» كمرٍود المكحلة, ومسح باطن كفي اليمني بهذا المرود الزجاجي المحمل ببلل من عطر فواح.
وبعد التحيات.. وبُعيٍد التسليمة اليمني.. أدرت رأسي بالتسليمة اليسري... فلم أجد الرجل.. انتفضتُ واقفًا - وكان أغلب المصلين مازالوا جلوسًا - أدرت نظري في كل أنحاء المسجد بحثًا عن صاحب العمامة الخضراء - بل عن أي لون أخضر - دون جدوي.. واستبد بي شعور من الإحباط والفزع, وكأنني فقدت شيئًا عظيمًا عزيزًا علي نفسي... وفي ذهول سألت من كان يصلي علي يميني:
- أين الرجل?
- أي رجل?
- الرجل الذي كان يصلي علي يساري... صاحب «الشرف الأخضر».
- لم يحضر الصلاة أحد تعمم بشرف أخضر.
بدأت أشعر بانكسار شديد, أيمكن أن يكون كل ما رأيت خيالاً أو وهمًا?. آه... والعطر?! رفعت كفي إلي أنفي... الرائحة فوّاحة جميلة... قد يكون ذلك وهما أيضًا. قصدت صديقًا كان يهمّ بمغادرة المسجد وقربت باطن كفي اليمني من أنفه دون أن أتكلم فهتف:.. الله!! الله!!! منين اشتريت هذا العطر??!! ولم أجب... وغادرت الجامع ولساني يردد بنبرات هامسة: نعم يا محمد... نعم يا حضرة النبي.
. . .
وبعد قرابة ست سنين توجهت لأداء فريضة الحج, وبدأنا بالمدينة المنورة, وبعد أن صليت العشاء بالمسجد النبوي الشريف مساء الأربعاء (غرة ذي الحجة 1393 - 26 من ديسمبر 1973).. جلست في أحد المقاهي التي كانت تتناثر حول المسجد النبوي...
كان الجو شديد البرودة.. رفعت فنجان القهوة إلي فمي, ولكني توقفت... اكتشفت أن الفنجان لم يغسل جيدًا» فعلى حافة الفنجان وجزء من جداره الأعلى الخارجي «بصمة شفة» الشارب السابق. ودارت في ذهني خواطر مفزعة, والفنجان قريب من فمي, ألا يمكن أن يكون «صاحب البصمة» مريضًا بالسل, أو الكوليرا, أو بمرض آخر معٍد خطير?.. وهممت بوضع الفنجان علي المنضدة ولكني شعرت بمن ينقر علي كتفي من الخلف.. وهو يردد بصوت خافت «اشرب... اشرب القهوة يا حاج.. توكل علي الله, فهو الحامي.. الشافي». وكأن الرجل كان يقرأ أفكاري, ورأيت يده تمتد إليّ «بمرٍود» مبلل بالعطر... فتحت يدي اليسري لاستقبال العطر...
- لا.. هات اليمني يا حاج... تيامنوا...
نقلت فنجان القهوة إلى يدي اليسري, وفردت كفي اليمني لتستقبل عطر الرجل الفواح... كل ذلك وأنا مشغول عن وجه الرجل بالقهوة... وبكفي... وهو يقول:
- نفحة من نفحات النبي صلي الله عليه وسلم... نعم يا محمد.. نعم يا حضرة النبي...(/1)
نهضت واقفًا... ياه... إنه هو... الرجل النحيل الأبيض, ذو الجلباب الرمادي والعمامة الخضراء... وسقط الفنجان من يدي علي الأرض وصار فتاتًا... وصاح عامل المقهي «حاسب رجليك والزجاج» وفي اللحظة التي نظرت فيها إلي موطئ قدمي كان الرجل قد اختفي كأنه شعاع خاطف من البرق, وأرسلت نظري إلي أقصي مدي الرؤية.. بحثًا عن أي لون أخضر فلم أجد... وأخذ لساني يردد كأن قوة غيبية تديره «نعم».. نعم يا محمد... نعم يا حضرة النبي(/2)
نعمة الاستقرار
د. محمد عمر دولة
كثيراً ما يغفل الإنسان عن النعمة التي حباه الله بها، فينسى شكرها، ويغفل عن ذكرها، ويقصر في الاستفادة منها. وربما حسب هذه النعمة مما يحصل عليها كل أحد من العالمين.!!
ولكنه ما إن يُبتلى بفقد تلك النعمة؛ حتى يعلم قدرها، لإدراكه حينئذ عظمة فقدها، وفداحة ضياعها بعد تحصيلها.
وحينئذ يشعر المرء بالذين ابتلاهم الله بالحرمان من تلك النعم، فتنفتح العيون حينئذ على المرضى والمدينين والفقراء والمساكين وأصحاب الهموم، بعد أن كان غافلاً عنهم حينما كان يرتع في النعم، ولم يخطر بباله أن يقول الحمد لله الذي عافانا مما أبتلى به كثيراً من الناس.
تذكرت هذه المعاني وأنا أغادر بيتاً أقمت فيه زمناً طويلاً فسكنت بيتاً غيره.. لم استطع الإقامة فيه إلا أياما قليلة ثم غادرته إلى غيره..
لقد حضرني شعور غامر تملك على أرجاء نفسي، شعور غريب بالعدمية وفقدان الوجود، حتى كأنني خرجت من هذا العالم.
كنت مثل الشجرة التي اقتلعت من جذورها.. وغرست في غير تربتها..
فقد ضاقت علي الأرض بما رحبت وضاقت علي نفسي.. لا استقرار ولا راحة ولا طمأنينة حتى لم أقدر على فتح كتاب من الكتب أياماً متتالية.. فضاعت حلاوة الحياة وما عاد شيء يستساغ.
ثم حوّل الله تلك الأيام.. وبدّلها بأحسن منها فعاد للقلب استقراره، وراحته، وسرى الإحساس بالحياة من جديد.. سبحان الله.. كم تستغرقنا الأحوال التي تمر بنا.. حتى إننا ننسى كل ما عدها ولا نفكر إلا فيما يتعلق بها فهذا من مقتضى البشرية (خلق الإنسان ضعيفا).
إن هذا الاستقرار الذي نتفيأ ظلاله، ليس من صنعنا، بل هو من رحمة الله بنا، ونعمته علينا التي لا نعرف لها حداً، ولا نحصيها عداً. كما قال - عز وجل - (وما بكم من نعمة في الله). ولو لا هذا الاستقرار، الذي يتنعم به كل من أصبح آمنا في سربه معافاً في بدنه عنده قوت يومه، لم نشعر بقيمة الحياة ولذتها ولم نقدر أن نعمل شيئاً مفيداً نافعاً.
فإذا ذهب الاستقرار.. أظلم القلب، وضاقت النفس، وتعطلت الجوارح، حتى يصير المرء عاجزاً عن القيام الواجبات، وأداء العبادات على الوجه الأكمل. إن توفيق الله وحده هو الذي يوفر لنا الاستقرار والراحة والطمأنينة فننشغل بما بنفع الناس. إن تجربة كهذه التجربة تستثقلها النفس عند وقوعها، لشدتها وغياب المألوف عنها، ولكن بعد تحصيل الاستقرار المفقود؛ تكون التجربة أنفع الفائدة أوقع، لقد أدركت بعض المعاني التي كانت خافية عليّّ من قول الني - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين ((السفر قطعة من العذاب)) فعرفت الآن هذه الحقيقة النبوية والحكمة الإنسانية الخالدة وعشتها بنفسي فالسفر (قطعة من العذاب) على قلب ابن آدم، والعذاب النفسي أشد من العذاب الجسدي. ومما لا يمكن أن أنساه في هذه التجربة ما قاله أحد الفضلاء وقد رأى مشقة الرحيل، وتعب الانتقال، وشدة مفارقة الجيران الذين عرفناهم وألفناهم؛ فتمثل من وحي اللحظة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة). فقد كان لهذه العبارة النبوية وقعٌ بليغ في نفسي (لا عيش) لا حياة حقيقة ولا استقرار ولا سعادة خالية من الضنك والتعب والنصب (إلا عيش الآخرة) إلا في جنة الفردوس، وأما في هذه الدنيا فلا راحة على الحقيقة إلا ومعها التعب، ولا استقرار إلا ومعه الرحيل والتحول والأسفار، ولهذا قد استفتح البخاري رحمة الله كتاب (الرقائق) بهذه الترجمة (باب ما جاء في الرقائق وأن لا عيش إلا عيش الآخرة) فالعاقل يدرك نعمة الاستقرار ويستعد لدار القرار، ورحم الله التهامي حين قال:
طُبعت على كدر وأنت تريدها *** صفواً من الأقدار والأكدار
فاقضوا مأربكم عجالى *** إنما أعماركم سفر من الأسفار(/1)
نعمة الثبات على الهداية
أخي الحبيب:-
فإن من أعظم نعم الله على العبد الثبات على الهداية.. فالقلب أشد تقلباً من القدر إ ذا استجمع غليانه وهو كالريشة تقلبها الريح.. فبين العبد وبين قلبه مسافات قد يصل إليه في لحظة أو لحظات أو عام أو أعوام وربما يقضى عمره كله وما وصل إلى قلبه بل يكون كالسائمة لا يلوى على شيء لا يصل إلا عند لحظة خروج الروح فينادى كما قال تعالى.{ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } [سورة المؤمنون 23/99]),ولكن الجواب يأتي على غير المراد .{ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)} [سورة المؤمنون 23/100].
وإذا وصل الإنسان إلى قلبه وعرف الله عز وجل وتحرك فيه مشهد اليقظة فقد نال العز في الدنيا والآخرة.. وربما إذا وصل إلى قلبه لا يستطيع أن يصل آلي ربه.. فبين القلب والرب مسافات قد يحول بينها الشيطان والنفس والهوى فكم من إنسان عرف الله عز وجل ولكن الشهوات أقعدته عن مواصلة السير إليه وكلما تثاقلت الشهوات وتعاظمت الذنوب طالت المسافة بين القلب وبين ربه سبحانه وتعالى فهناك عوائق إذا تعداها العبد وتخطاها حط برحله في الجنة إنشاء الله..
عَنْ سَبْرَةَ بْنِ أَبِي الفَاكهِةٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ وَيُقْسَمُ الْمَالُ فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. (1 ) الطول:الحبل يربط للدابة في وتد فترعى وهي مقيدة فيه.
البداية نقطة :-
والبداية نقطة أو قطرة من وجدها فقد وجد الخير كله ومن حرمها فقد حرم الخير كله ..فإياك ومعوقات السفر وإياك وقلة الزاد..
عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ فَقَالَ قَوْمٌ نَحْنُ سَمِعْنَاهُ فَقَالَ لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ قَالُوا أَجَلْ قَالَ تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ قَالَ حُذَيْفَةُ فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ فَقُلْتُ أَنَا قَالَ أَنْتَ لِلَّهِ أَبُوكَ قَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ قَالَ حُذَيْفَةُ وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ قَالَ عُمَرُ أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ قُلْتُ لَا بَلْ يُكْسَرُ وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ قَالَ أَبُو خَالِدٍ فَقُلْتُ لِسَعْدٍ يَا أَبَا مَالِكٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا قَالَ شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ قَالَ قُلْتُ فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا قَالَ مَنْكُوسًا .( 2).
أنظر لهذا الحديث كم ذكر من معوقات من فتنة الرجل في أهله وجاره إلى الفتن التي تموج كموج البحر...(/1)
فالهداية ذروة الشرف فعز الإنسان وشرفه أن يضع قلبه على سُلم الهدايه ثم يرتقى فيعرف الله عز وجل بأسمائه وصفاته ويعبده حق عبادته فالله عز وجل أمرك أن تواصل السير حتى آخر رمق قال عز وجل {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} [سورة الحجر 15/99] "بينما حال من لم يضع قلبه على سلم الهداية واتبع طريق الغواية يقول عنه سبحانه وتعالى {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)} [سورة المدثر 74/46-47]
الصراط المستقيم سبيل المهتدين.
قال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [سورة الأنعام 6/153]
فالهداية للصراط المستقيم والمضي قدما بالقلب واللسان وباقي الجوارح نهايته الفوز برضى الرحمن والتنعم بالجنان.
والهداية لا بد فيها من تواطىء القلب مع اللسان مع الجوارح--- لا .. بل كل ذرة فيك لا بد أن تستشعر أنها تريد الله وأنها لا غنى لها طرفة عين عن الله عز وجل .. تبدأ الهداية بيقظة القلب ثم سجود القلب لله سجدة لا يقوم منها أبداً 0وهذا هو الثبات نسأل الله أن يثبتنا جميعا على الهداية.
والقلب هو الملك والجوارح هي الرعية فبخضوع القلب وذُله لله عز وجل تتبعه جميع الجوارح
فعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ " أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ.( 3) " فليس للقلب معبود إلا الله فإذا ترك العبادة وأعرض عن الهداية خرج من سبيل العابدين.. قال الله عز وجل {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93)} [سورة مريم 19/88-93]" وقال تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [سورة الحج 22/18]" فينبغى للسالك إلى الله أن يخالف أصحاب الجحيم ويستأنس بأصحاب النعيم ويثبت على الأمر إلى منتهاه.. قال عز وجل {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)} [سورة الممتحنة 60/4] وقال تعالى " {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)} [سورة الزخرف 43/26-27] وقال تعالى {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (79)} [سورة الأنعام 6/78-79]وقال تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [سورة الكافرون 109/1-6]
فإذا بالعبد يمضى إلى ربه تبارك وتعالى لا يستوحش قلة السالكين ولا يسقطه كثرة الناكبين عن الصراط قال تعالى {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)}[سورة الأحزاب 33/23]"
سلامة المنهج دليل على صحة الهداية:-(/2)
فأصحاب الصراط المستقيم تمر بهم الأزمات وتحيط بهم المعوقات وتثقلهم الصعاب وهم ماضون لا يلتفتوا قد علموا أن الطريق الذي هم فيه هو درب الأنبياء والصالحين فاستأنسوا بهم واشتاقوا إلى اللحوق بركبهم فاستعذبوا الصعب ليصلوا إلى المراد قال تعالى {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69)} [سورة النساء 4/69]"
قلبه حط في ركابهم ومازال يعدو للحوق بهم أحس بغربة الدنيا وأنه سلب من وطنه فهو مشتاق دائما إلى الوصول .
مر النبي صلى الله عليه وسلم بأحد شباب الصحابة فوعظه موعظة من كلمات أثرت فيه لآخر عمره رضي الله عنه.. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.( 4)
فإذا صحت الهداية في قلب العبد وأبصر الوعد والوعيد والجنة والنار وما أعد الله في هذه لأوليائه وفى هذه لأعدائه وأبصر الناس خرجوا من قبورهم لدعوة الحق وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقد نصب الميزان وتطايرت الصحف واجتمع الخصوم وتعلق كل غريم بغريمه ولاح الحوض وأكوابه وكثر العطاش وقل الوارد ونصب الجسر على جهنم للعبور ودفع الناس إليه وقسمت الأنوار دون ظلمته للعبور عليه والنار يحطم بعضها بعضا تحته والمتساقطون فيها أضعاف الناجين عندئذ ينفتح في قلبه عينا يبصر بها ذلك ويقوم بقلبه شاهدا من شواهد الآخرة ---- يرى الآخرة دوما لاتغيب عنه - ويرى الدنيا وسرعة انقضائها ..
الصحة والفراغ أعظم مغنم لمواصلة السير.
فإذا رزق الإنسان بدنا يحمله على طاعة الله ووقتا يؤدى فيه هذه الطاعة فهذا من أعظم النعم وأجلها وفى الحديث عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ .( 5)" الغبن:النقص غبنه أنقصه أو غلبه ويعبر عنها في البيع.
فالوقوف على المنهج الصحيح قد ييسر للعبد ولكن الثبات على الطريق والعمل لله ديمة بلا انقطاع قل من يوفق إليه قال تعالى{مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)}[سورة الأحزاب 33/23]
المحن تمحص الرجال:-
تأمل قصة طالوت وما مر بأصحابه من محن واختبار ليميز الله الخبيث من الطيب.(/3)
يبين سبحانه وتعالى فيها مشقة الطريق وأن الذين يصلون قليل...فتأمل معي هذه القصة وما فيها من عبر.فهي من أحكم الحاكمين ورب العالمين .قال تعالى{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ (252)} [سورة البقرة 2/246-252]
فانظر إلى هذا الابتلاء العظيم ملك معه جيش عرمرم خرجوا وهم عاقدين العزم علي الجهاد في سبيل الله فلما اختبر الله صدق عزمهم ما صدق إلا قليل..
فعَنْ الْبَرَاءِ قَالَ كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِدَّةَ أَصْحَابِ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهَرَ وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ بِضْعَةَ عَشَرَ وَثَلَاثَ مِائَةٍ. ( 6)
.فالسعيد من ثبته الله على الهداية وأقامه على الصراط المستقيم قال تعالى{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)} [سورة الفتح 48/4]
*وقال تعالى في شأن أم موسى عليه السلام {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (10)} [سورة القصص 28/10]"
*وقوله تعالى في شأن أصحب الكهف {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً (14)} [سورة الكهف 18/13-14](/4)
يقول تعالى في أهل الكهف وربطنا على قلوبهم إذا قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا.. وهذا من أحسن الاستدلال والاستشهاد فإن هؤلاء كانوا بين قومهم الكفار في خدمة ملكهم الكافر فما هو إلا أن وجدوا حقيقة الإيمان والتوفيق وذاقوا حلاوته وباشر قلوبهم فقاموا من بين قومهم وقالوا ربنا رب السموات والأرض الآية . والربط على قلوبهم يتضمن الشد عليها بالصبر والتثبيت وتقويتها وتأييدها بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيش وفروا بدينهم إلى الكهف والربط على القلب عكس الخذلان فالخذلان حله من رباط التوفيق فيغفل عن ذكر ربه ويتبع هواه ويصير أمره فرطا والربط على القلب شده برباط التوفيق فيتصل بذكر ربه ويتبع مرضاته ويجتمع عليه شمله .( 7)
[من كتاب "الثبات علي الهداية" للشيخ ]
________________________________________
(1 )صحيح: رواه النسائي(3083 ) أحمد(15528)
( 2) رواه مسلم (207)
( 3) رواه البخاري(52 ) مسلم ( 1599)
( 4) رواه البخاري( 6416 )
( 5) رواه البخاري(5933 )
(6 ) رواه البخاري(3958 )
( 7) تهذيب مدارج السالكين (ص 473)(/5)
نعمة العدل
الحمد لله شمل الأنام بواسع رحمته، وصرَّف العالم ببالغ حكمته، لا يشغله شأنٌ عن شأن وهو الحكيم الخبير. أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، أصدق الناس في الأقوال، وأسدهم في الأفعال، وأعدلهم في الأحكام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
بالعدل قامت السماوات والأرض؛ فالعدل أساس الملك والحكم. قال الله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].
وإن الحضارات الإنسانية لا تبلغ أوج عزها، ولا ترقى إلى عز مجدها إلا حين يعلو العدل تاجها، ويتلألأ به مفرقها. تبسطه على القريب والبعيد، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والكبير والصغير. والعدل جاءت به جميع الشرائع، ورضيته العقول الحكيمة، وتعلقت به الفطر السوية. وتباهى به ملوك الأمم وقادتها، وعظماؤها وساستها، ومدحوا به.
لقد دلت الأدلة الشرعية وسنن الله في الأولين والآخرين أن العدل دعامة بقاء الأمم، والدول، وبه تمتد الأمن، وتعلو أبنية العز والمجد، ويكون النصر والتمكين.
حسن العدل وحبه مستقر في الفطر، فكل نفس تنشرح لمظاهر العدل مادام بمعزلٍ عن هوى يغلبها في قضية خاصة تخصها.
القسط والعدل هو غاية الرسالات السماوية كلها:
بالعدل قامت السموات والأرض، وللظلم يهتز عرش الرحمن. العدل مفتاح الحق، وجامع الكلمة، ومؤلف القلوب.
إذا قام في البلاد عمَّر، وإذا ارتفع عن الديار دمَّر. إن الدول لتدوم مع الكفر مادامت عادلة، ولا يقوم مع الظلم حقٌ ولا يدوم به حكم.
العدل في حقيقته تمكين صاحب الحق ليأخذ حقه. في أجواء العدل يكون الناس في الحق سواء لا تمايز بينهم ولا تفاضل، بالعدل يشتد أزر الضعيف ويقوى رجاؤه، وبالعدل يهون أمر القوي وينقطع طمعه. لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:279].
وإن أمة الإسلام هي أمة الحق والعدل، والخير والوسط، نصبها ربها قوامةً على الأمم في الدنيا، شاهدةً عليهم في الآخرة، خير أمةٍ أخرجت للناس، يهدون بالحق وبه يعدلون، يتواصون بالحق والصبر، ويتنافسون في ميادين الخير والبر، ويتسابقون إلى موجبات الرحمة والأجر.
أمةٌ أمرها ربها بإقامة العدل في كتابه أمرًا محكمًا وحتمًا لازمًا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الامَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء:58].
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:135].
لا أعدل ولا أتم ولا أصدق ولا أوفى من عدل شريعة الله، فهي مبنية على المصالح الخالصة أو الراجحة، بعيدة عن أهواء الأمم وعوائد الضلال، لا تعبأ بالأنانية والهوى، ولا بتقاليد الفساد. إنها لمصالح النوع البشري كله ليس لقبيلة أو بلد أو جنس.
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى:15].
إن الإسلام صدقٌ كله، خيره وحكمه عدلٌ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115].
عدل الإسلام يسع الأصدقاء والأعداء، والأقرباء والغرباء، والأقوياء والضعفاء، المرؤوسين والرؤساء. عدل الإسلام ينظم كل ميادين الحياة ومرافقها ودروبها وشؤونها. في الدولة والقضاء، والراعي والرعية، والأولاد والأهلين. عدلٌ في حق الله. وعدل في حقوق العباد في الأبدان والأموال، والأقوال والأعمال. عدلٌ في العطاء والمنع، والأكل والشرب. يُحق الحق ويمنع البغي في الأرض وفي البشر. (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) ( رواه البخاري: رقم: (893)،و(1829).
وروي في الحديث الآخر: (ما من أحد يكون على شيء من أمور هذه الأمة فلم يعدل فيهم إلا كبه الله في النار) أخرجه الحاكم.(/1)
وإن من أولى ما يجب العدل فيه من الحق حق الله سبحانه في توحيده وعبادته، وإخلاص الدين له كما أمر وشرع خضوعًا وتذللاً، ورضًا بحكمه وقدره، وإيمانًا بأسمائه وصفاته. وأظلم الظلم الشرك بالله عز وجل، وأعظم الذنب أن تجعل لله ندًا وهو خلقك.
ثم العدل في حقوق العباد تُؤدى كاملة موفورة، ماليةً أو بدنية، قولية أو عملية. يؤدي كل والٍ ما عليه مما تحت ولايته في ولاية الإمامة الكبرى ثم نواب الإمام في القضاء والأعمال في كل ناحية أو مرفق.
في الحديث الصحيح: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن – وكلتا يديه يمين – الذين يعدلون في حكمهم وفي أهلهم وما ولوا) أخرجه مسلم(1827).
وإن ولاة أمور المسلمين حق عليهم أن يقيموا العدل في الناس. وقد جاء في مأثور الحكم والسياسات: لا دولة إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.
حكم كله عدل ورحمة في خفض الجناح ولين الجانب، وقوة الحق، عدلٌ ومساواة تكون فيه المسؤوليات والولايات والأعمال والمهمات تكليفًا قبل أن تكون تشريفًا، وتبعات لا شهوات، ومغارم لا مغانم، وجهادًا لا إخلادًا، وتضحيةً لا تحليةً، وميدانًا لا ديوانًا، وأعمالاً لا أقوالاً، وإيثارًا لا استئثارًا. إنصافٌ للمظلوم، ونصرة للمهضوم، وقهرٌ للغشوم، وردع للظلوم، رفع المظالم عن كواهل المقروحة أكبادهم، ورد الاعتبار لمن أذلهم البغي اللئيم، لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا تعويق واهم، وإن حدًا يقام في الله خير من أن يمطروا أربعين صباحًا.
وفي مثل هذا صح الخبر عنه أنه قال: ((أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال) أخرجه البخاري، (660)، ومسلم: (1031).
أما نزاهة القضاء ونقاء ضمائر القضاة فحسبك به من عدل وقسط، صاحب الحق في جو القضاء العادل يشعر بالثقة والأمان، في أروقة المحاكم وفي دواوين القضاء، مطمئنٌ إلى عدالة القضية ونزاهة الحكم وشرف سرائر الحكام. والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولأن يخطئ الحاكم في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة، هذا تعرفه دنيا الحضارات ودين أهل الإسلام. القاضي العادل يواسي الناس بلحظه ولفظه، وفي وجهه ومجلسه، لا يطمع شريف في حيفه، ولا ييأس ضعيف من عدله، لا يميل مع هوى، ولا يتأثر بود، ولا ينفعل مع بغض. لا تتبدل التعاملات عنده مجاراةً لصهر أو نسب، ولا لقوة أو ضعف، يزن بالقسطاس، وبالعدل يقضي. يدني الضعيف حتى يشتد قلبه وينطلق لسانه، وبتعاهد الغريب حتى يأخذ حقه، وما ضاع حق غريب إلا من ترويعه وعدم الرفق به.
جاء في الخبر عنه : (إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى الله عنه ولزمه الشيطان) ( حسن، أخرجه الترمذي،(1330).
هذا هو العدل العالمي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا عدلٌ يتم فيه ضبط النفس والتحكم في المشاعر. إنه القمة العليا والمرتقى الصعب الذي لا يبلغه إلا من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ نبيًا ورسولاً، وبدينه دستورًا وحكمًا. إنه عدل محمد ، مكيالٌ واحدٌ وميزانٌ واحدٌ.
إن أممًا الآن في أرض الله، مثل أمريكا وروسيا، آتاها الله بسطة في القوة والسيطرة فما أقامت عدلاً، ولا حفظت حقًا، ويلٌ لهم وما يطففون، إذا اكتالوا لأنفسهم يستوفون، وإذا كالوا لغيرهم أو وزنوهم يخسرون. ولكن هدي محمد صلى الله عليه وسلم يأبى إلا الحق:
{ وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى:15].
إن الأمة لا تصل إلى هذا القدر من السمو ونصب ميزان العدل إلا حينما تكون قائمةً بالقسط لله خالصةً مخلصة، بلباس التقوى: {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
والفئة الباغية إذا فاءت إلى أمر الله ودخلت في الطاعة فإن حقها في العدل محفوظ: فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].
وكما يكون العدل في الأعمال والأموال فهو مطلوب في الأقوال والألفاظ:
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [الأنعام:152]. ولعل العدل في الأقوال أدق وأشق. وصاحب اللسان العدل يعلم أن الله يحب الكلام بعلم وعدل، ويكره الكلام بجهلٍ وظلم:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
لقد أعلن النبي حكمه على كلمة قالها شاعر حال كفره حين قال عليه الصلاة والسلام: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل). أخرجه البخاري (3841)، ومسلم: (2256).(/2)
ثم هاهو صاحبه عثمان بن مظعون رضي الله عنه يسمع البيت كاملاً؛ يترسم النهج في نفسه في التقويم والعدل فُيحق الحق ويقول القسط، فقال في شطره الأول صدقْتَ، ولما قال الشطر الثاني: (وكل نعيم لا محالة زائل) قال: كذبت، نعيم الجنة ليس بزائل. فلم يكن كذب الشاعر في الشطر الثاني بمانع عثمان رضي الله عنه من أن يقر له بالصدق والحق في شطره الأول.
وهذا علي رضي الله عنه يقاتل من خرج عليه، فلما سئل عنهم: أمشركون هم؟ قال: هم من الشرك فروا. قيل: أفمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: هم إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم.
ومن لغير هذا العدل من القول غير أبي الحسن رضي الله عنه وعن ذريته الطيبين الطاهرين؟! وهل بعد هذا الإنصاف من إنصاف؟!
والنووي رحمه الله يقول: وينبغي ذكر فضل أهل الفضل ولا يمنع منه شنآن أو عداوة. والعبد إذا رزق العدل وحب القسط علم الحق، ورحم الخلق، واتبع الرسول، واجتنب مسالك الزيغ والبدع، هكذا يقول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله.
إذا ساد العدل حُفظت الحقوق، ونصر المظلوم وولت الهموم، وأدبرت الغموم.
أما حينما يتجافى الناس عن العدل ويقعون في حمأة الظلم ينبت فيهم الحقد والقطيعة والفرقة وذهاب الريح.
ومن تجافى عن العدل دخل دائرة الظلم، يأخذ ولا يعطي، ويطلب ولا يبذل، يأخذ الذي يستحق، ويمتنع عما يحق، تغلبه مسالك المنافقين:
{قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154]، وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ [النور:48، 49].
إن الظلم وسلب الحقوق وإهدار الكرامات مبعث الشقاء ومثار الفتن. إن قومًا يفشو فيهم الظلم والتظالم، وينحسر عنهم الحق والعدل إما أن ينقرضوا بفساد، وإما أن يتسلط عليهم جبروت الأمم يسومونهم خسفًا، ويستبدون بهم عسفًا، فيذوقون من مرارة العبودية والاستذلال ما هو أشد من مرارة الانقراض والزوال. إن الظلم خراب العمران، وخراب العمران خراب الأمم والدول.
وأحق الناس بالعدل أبناؤك. فمن ابتغى بر أبنائه وبناته يحبونه في حياته ويترحمون عليه بعد مماته وتصفو قلوبهم فيما بينهم فليتق الله وليقم العدل فيما بينهم، يساوي بينهم في العطية والمعاملة والنظرة والابتسامة. وليتق الله أولئك الذين يحرمون بعض المستحقين من الذرية في عطية أو وصية فذلك حرام وجور وظلم، والوصية به وصية ظلم وجنف، مخالفة للعدل والحق لا يجوز نفاذها، فتلك أفعالٌ شنيعة، وظلمٌ مهلك، تقوم به الخصومات، وتثور به الأحقاد، وتقع به المظالم، وتتقطع به الأرحام.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به رسول الله فقال: (إني نحلت ابني هذا غلامًا كان لي. فقال رسول الله : أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا. قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم. قال: فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة) البخاري: (2586)، ومسلم: (1623).
والإمام العادل سابع سبعةٍ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
والعدل في المعاملات الزوجية فرضٌ وحقٌ واجبٌ في النفقة والكسوة والمعاملة والعشرة كما يفعل الكرماء من ذوي العقل والدين والمروءة والكمال. تطعمها مما تطعم، وتكسوها مما تكتسي.
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط)) وفي رواية (وشقه مائل).
أيها الإخوة، حينما تتشرب النفوس العدل فيكون سجية لها فإنه يقودها إلى محاسن الأخلاق ومكارم المروءات، عدل في السلوك كله، وسط بين الإفراط والتفريط، جود وسخاء من غير سرف ولا تقتير، وشجاعة وقوة من غير جبن ولا تهور، وحلم وأناة من غير غضب ماحق أو مهانة مردية. وكل تعامل فَقَدَ العدل فهو ضرر وإضرار، وفساد وإفساد وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاْرْضِ مُفْسِدِينَ [الشعراء:183].
وفي ديننا، مرتبة فوق العدل قد أمر الله بها مقترنة بالعدل. مرتبة تأتي لتجمل حدة العدل الصارم ووجهه الجازم الحازم، إنها مرتبة الإحسان حين تدع الباب مفتوحًا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقوقه إيثارًا لود القلب وشفاء غل الصدور، ليداوي جرحًا، ويكسب فضلاً، ويرتفع عند ربه درجاتٍ عُلا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغني، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين استجب اللهم يا رب العالمين.(/3)
صحيح، أخرجه أحمد (2/347)، والترمذي : كتاب النكاح – باب : ما جاء في التسوية بين الضرائر ، حديث (1141)، وابن ماجه: كتاب النكاح – باب القسمة بين النساء، حديث (1969)، وصححه ابن الجارود في المنتقى (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2/186) والألباني. صحيح سنن الترمذي (912).
صحيح، أخرجه أبو داود : كتاب النكاح – باب: في القسم بين النساء، حديث (2133)، والدارمي ، كتاب: النكاح – باب : في العدل بين النساء، حديث (2206).(/4)
نعمة لا قمامة
أ / إبراهيم بن محمد بن سليمان السعوي
</TD
من لطف الله بهذا العبد الضعيف أن أنعم عليه نعم لا تحصى في مجالات شتى ، قال تعالى : {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وقال سبحانه {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} ، بل أنه سبحانه سخر هذا الكون السفلي وما فيه من مخلوقات لتكون فداء لأغراض هذا الإنسان ليحقق الغاية من إيجاده في هذه الحياة ، وهي الذل والخضوع والانقياد ، فقد قال عز من قائل : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، وقال تعالى {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } .
فالإنسان يصبح ويمسي فهو يَنعم بنعمه سبحانه : نعمة الهداية ، وكمال العقل ، ورغد في العيش ، وأمن في الأوطان و.... قال : " من أصبح منكم آمناً في سربه معافىً في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا ".
فلقمة العيش التي يَسد بها الإنسان رمقه من أعظم النعم التي مَنّ بها الرب على أهل مكة ؛ قال سبحانه : {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} .
ومن نعمه سبحانه على أهل هذه المنطقة توفر العيش من مأكل ومشرب ، من قوت ومدخر ، ما لذّ وطاب ، من معروف وغير معروف ، أصناف يعجز المرء عن حصرها وتعدادها ، جُبيت من جميع أقطار الأرض التي حُرم كثير من أهل الأرض منها .
والواجب على العبد تجاه هذه النعم شكر المنعم سبحانه ، فقال تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، وقال تعالى : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } . وقطع سبحانه بالمزيد مع الشكر {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } .
والشكر ينتظم من علم وحال وعمل ، فالعلم معرفة النعمة من المنعم ، والحال هو الفرح الحاصل بإنعامه المتعلق باللسان بالتحميدات الدالة على شكره سبحانه ، والعمل هو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه المتعلق بالجوارح باستعمال هذه النعم في طاعته ، والتوقي من الاستعانة بها على معصيته .
فكل من عمل في نعمه سبحانه عملاً يخالف الغرضَ المقصود منها فقد كفر بهذه النعمة .
فالحفاظ على الأطعمة بأي شكل من أشكال الحفظ ؛ هو المتحتم من كل إنسان سيما المؤمن بالله رباً ، وبمحمد نبياً ، وبالإسلام ديناً يكون فيه شكر لهذه النعم ، والعكس بالعكس ، قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .
وأما الاستهانة في النعم ورميها مع النفايات غاية في الإسراف والتبذير ، الذي هو سمة المتغطرسين ، والمتكبرين ومن لا يقدر للأمور قدرها ، قال الله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
وأخبر سبحانه عن منزلة المبذر بقوله : { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} .
ونتيجة الإسراف والتبذير ، والكفر بالنعم نتيجة سيئة للغاية : دمار وخراب ، وتفرق وشتات ، نحو ما ذكره الله عن قوم سبأ : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ }.
والاستهانة بالنعم ، ورميها مع النفايات طلقات من العيار الثقيل لكسر قلوب الفقراء والمساكين ؛ فكيف هم لا يجدون ما يسدون به رمقهم ، وهذه النعم ترمى مع النفايات ، وما يرمى من بعض البيوت قد يكفي لعائلة كاملة من العوائل الفقيرة .(/1)
وبما أن الجميع متفقون على أن التساهل ببقايا الطعام ، ورميها مع النفايات غير سائغ شرعاً ، ولا عقلاً نجد نسبة كبيرة من المجتمع لا يُلقون لهذه النعم أي اهتمام ، وتزيد هذه النسبة في مجتمع وتقل في مجتمع آخر ، وأكثر ما تزيد في المدن الكبيرة والمتطورة ، والأماكن التجارية التي تقدم للمجتمع الطعام ؛ كالمطاعم ، والوجبات السريعة و.......وأماكن المأوى والمبيت كالفنادق والشقق المفروشة.
فهناك دراسة على نفايات مستوى دول الخليج مفادها أن نسبة الأطعمة من نفايات هذه الدول (040/0) من مجموع هذه النفايات .
وهذا التساهل نجده يقع وللأسف الشديد ممن عليهم سمات الخير والصلاح ، وإنه ليحزنك حينما تأتي لأحد الصالحين في بيته تجد بقايا الطعام مع النفايات ، حتى أن روائح الطعام تفوح من مكان النفايات ، وعندها بعض الحيوانات قريبة من مكان النفايات .
وتواجد بعض الحيوانات داخل الأحياء تسرح وتمرح قريبة من المنازل ظاهرة غير حضارية ، ولا صحية ، وغير لائقة بالمجتمعات المتقدمة ، وهذه من النتائج السلبية لرمي هذه الأطعمة مع النفايات .
وشكر النعمة ، والحفاظ عليها مسؤولية الجميع كل بحسبه : فالأب داخل البيت ، ومن تجارتهم قائمة على تقديم الطعام للناس ، كالمطابخ ، والمطاعم ، والوجبات الخفيفة على نطاق متجرهم ، وكذا أصحاب محلات الخضرة و الفواكه .
وأصحاب الفنادق ، والشقق المفروشة ليسو بمنأى عن مسؤولية ما يرمى مع نفايات منتجعاتهم من الأطعمة .
والقائمون على محاضن التربية والتعليم على كاهلهم مسؤولية عظيمة تجاه ما يرمى من الأطعمة من بعض المدارس ؛ فإن هناك للأسف الشديد كثير من المدارس لا يهتمون بما يبقى من الطعام من الطلاب ، فترمى مع النفايات .
فالأمانات والبلديات على قمة هرم المسؤولية فليأخذ هذا الموضوع حيزاً كبيراً من اهتماماتهم وشؤونهم ليجد حلولاً مجدية كغيره من الموضوعات الشائكة التي تم علاجها لما لقيت الصدق والجد ، وعلاج ظاهرة رمي الأطعمة مع النفايات لن يجد صعوبة تذكر إذا صدق القائمون على الأمانات والبلديات في تلافي هذه الظاهرة ، وهذا هو المؤمل منهم .
وأما جمعيات البر والمستودعات الخيرية فقد قطعوا مشواراً يشكرون عليه في هذا المضمار مع قلة يد العون فلهم جهود في جمع ما بقي من ولائم الأفراح و المناسبات ، وبقايا الخبز ؛ إلا أن الناس ما زالوا يطمعون في توسيع هذا المشروع حتى يشمل بقية الطعام ، والمحافظات والقرى ؛ حتى يساهموا في إعانة الناس على تقدير هذه النعم .
ونشاطر الرأي أن مثل هذا المشروع يُعد أهم من بعض الأعمال التي تقدمها هذه الجمعيات ، وفي كل خير .
وإنه لمحزن حقاً أن بقايا الطعام بهذه النسبة العالية (040/0) من مجموع نفايات منطقة أهل الخليج لا يمكن الاستفادة منه اقتصادياً فهناك كبريات الشركات في أوربا والولايات المتحدة قائمة على الاستفادة من بقايا الأطعمة بدلاً من أن ترمى مع النفايات يتم تحويلها إلى أعلاف للحيوانات وأسمدة عالية الجودة .
مع أن المسلمين أجدر وأحق بهذا التصرف الحميد ، فنهيب أصحاب رؤوس الأموال من أهل هذه المنطقة إلى المسارعة إلى مثل هذا العمل مع التعاون مع الأمانات والبلديات ولن يتوانوا في ذلك بل يستبشرون ويسارعون في تقديم ما يستطيعونه في هذا العمل الخيري الحضاري . وسيجمع الله لهم بين الحسنتين : فتح لهم في دنياهم ، وأجر مدخر لهم في أخراهم متى ما جمعوا بين الصدق والإخلاص .
وسائل وطرق في الحفاظ على هذه النعم :
1ـ التوسط في المأكل والمشرب بلا إسراف يؤدي إلى التخمة والأمراض ، ولا يقصر فيضر بصحته أخذًا بوصية الحبيب صلى الله عليه وسلم : " ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " .
وعند الأخذ بهذه الوصية فلن يحتاج الإنسان إلى رمي ما بقي من الطعام .
2ـ عزل ما يمكن أن تكون الفائدة منه كبيرة مثل بقايا الخبز عن بقية بقايا الطعام . ومن ثم تعطى من يستقبلها نحو الجمعيات والمستودعات الخيرية .
3ـ البعد عن إطالة تخزين بقايا الطعام كأن تجلس يومين فأكثر ومن ثم ينتج عنه روائح فيريد الإنسان أن يتخلص من هذه الروائح فيلجأ إلى رميها مع النفايات .
4ـ فصل أماكن بقايا الطعام عن أماكن بقايا النفايات داخل المنزل . وعلى أصحاب الفنادق ، والشقق المفروشة تقديم خدمات للنزلاء بهذا الخصوص كأن يكون هناك حاويات ، وأكياس مميزة ببقايا الأطعمة فهي خدمة أولى وأفضل بلا شك من كثير من الخدمات التي تقدم لنزلاء هذه الأماكن .(/2)
5ـ مما يعين على الاستفادة من بقايا الطعام أن أصحاب المواشي يستقبلون هذه الأطعمة ، ولا يمانعون من ذلك فيتحرى الإنسان عن هذه المواشي ، وقد يجد من يكون من أهل الحي الذي يقطن فيه عنده مواشي فيستقبل هذه الأطعمة لاسيما التي ليس لها روائح ، وقد يكون أحد أهل الحي خصص سيارة لبقايا الأطعمة . بل قد يتعدى إحسانه إلى أبعد من ذلك فتجده يمر على الأطعمة التي وضعها أصحاب البيوت عند أبوابهم وخاصة جيرانه الأقربين فجزاء الله خيراً من كان هذا صنيعه ـ .
أو أن هناك مواشي قريبة من بعض الأحياء في بعض المدن يستقبل أهلها هذه الأطعمة فما عليك أخي إلا أن تمشي خطوات معدودة احتراماً لهذه النعم .
6ـ بما أن كثيراً من المدن لا يبعد عنها البر مسافة تذكر فما عليك أخي إلى أن تحتسب الأجر عند الله فتذهب بهذه الأطعمة إلى هذا البر ، ومن ثم قد تأتي حيوانات تأكل هذه الأطعمة فتظفر بأجرين من رحمته سبحانه ـ إن شاء الله ـ : أجر لاحترام هذه النعم ، وأجر إطعام هذه الحيوانات ، وفضل الله يؤتيه من يشاء .
مع التنبه لخول هذه الأطعمة مما يضر بالحيوانات كقطع الحديد والزجاج .
وصلى وسلم على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
إعداد
أ / إبراهيم بن محمد بن سليمان السعوي
القصيم ـ بريدة(/3)
نعيم الجنة وعذاب النار
للشيخ / محمد صالح المنجد
عناصر الدرس:
• ... هل يجوز الشهادة لمعين بالنار
• ... أناس وردت تسميتهم من أهل النار
• ... أسباب الخلود في النار
• ... مصير أعمال الكفار الصالحة
• ... حال الموحدين من أهل الكبائر في النار
• ... عذاب العصاة من غير المشركين و الكفار
• ... شفاعة المؤمنين
• ... إخراج الله لأناس من النار بقبضته
• ... أسوأ الناس عذاباً الذين يدعون إلى النار
• ... حفت النار بالشهوات
• ... أسباب الوقاية من النار
• ... تجنب أشياء توصل إلى النار
• ... فعل أعمال صالحة للاتقاء من النار
• ... المواضع التي يسن فيها الاستعاذة من النار
• ... حال من يخشى عقاب الله
(المقدمة):
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فقد تقدم في الدرس الماضي في عذاب النار -نعوذ بالله منه- أنَّ العذاب حسي ومعنوي، جسدي ونفسي، وأن الاستهزاء والاحتقار والازدراء مع الحرق والضرب والسحب أنّ الخزي والتشهير والفضيحة، وسواد الوجه، وأن الله لا ينظر إليهم، ولا يستجيب دعائهم، وينساهم، يتركهم في العذاب ويتخلى عنهم، وتبرؤ بعضهم من بعض، ولعن بعضهم بعضاً، وعدم استفادتهم من اشتراكهم في العذاب، والتنكر لمن لهم بهم علاقات، والخسارة التي خسروا بها أنفسهم وأهليهم، وانقلاب الصداقات إلى عداوات في النار، وكذلك السبّ والشتم من بعضهم لبعض، هذا كله من عذاب النار.
وعرفنا أن النار التي يدخلها الموحدون هي النار التي فيها الكفار، ولكن العذاب يتفاوت، وجهنم دركات، وعذاب الكفار مؤبد، وعذاب عصاة الموحدين مؤقت، وأنّ كفرة الجن في النار، وأن هذه النار عذاب الله وانتقامه من أعدائه في ذلك اليوم الذي يغضب فيه غضباً لا يغضب بعده مثله.
هل يجوز الشهادة لمعين بالنار؟
القاعدة عند أهل الحق، أهل السنة، أهل الإسلام والتوحيد: أنه لا يجوز الشهادة لمعين بالنار إلا إذا جاء ذلك في الشرع؛ فمثلاً: من الأشخاص الذين جاء ذكرهم بأعيانهم من أهل النار:
إبليس، وهو الشيطان الرجيم: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا} يعني من الجنة: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} [سورة الأعراف(18)].
وفرعون وقومه: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [سورة هود(98)].
وزوجتا نوح ولوط: {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [سورة التحريم(10)].
وآزر أبو إبراهيم: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [سورة التوبة(114)]. قال عُبيد بن عُمير وسعيد بن جبير: إنه يتبرأ منه في يوم القيامة حين يلقاه. وقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يَلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزيٍ أخزى من أب الأبعد؟. فيقول الله -تعالى-: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخٍ) -يعني ضبع- (ملتطخٍ) يعني قذرٍ متسخ، (فيؤخذ بقوائمه فيُلقى في النار)1. [رواه البخاري]. والذيخ ذكر الضباع لا يقال له ذلك إلا إذا كان كثير الشَّعر، ملتطخ في رجيع أو دمٍ أو طين.
مسخ الله آزر على هيئة هذا الحيوان البغيض الكريه، قال العلماء: الحكمة من ذلك، الحكمة في مسخه لتنفر نفس إبراهيم منه، ولئلا يبقى في النار على صورته الآدمية فيكون فيه غضاضة على إبراهيم.
وفي الضبع حمق، وآزر من أحمق البشر؛ لأنه رأى الآيات البينات ولم يؤمن.
ومن الناس الذين وردت تسميتهم من أهل النار:
عمرو بن لحي الخزاعي، الذي قال فيه النبي- صلى الله عليه وسلم-: (رأيتُ عمرو بن عامر بن لُحي الخزاعي يجر قصبه) يعني أمعاءه (في النار. وكان أول من سيَّب السوائب)2. [رواه البخاري ومسلم].
هذا رجل عاش في الجاهلية قبل بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- افتعل أمراً منكراً؛ لأنه قام بتغيير دين إبراهيم الخليل، وكانت له رحلة إلى الشام، وكان بها يومئذٍ العماليق، وهم عباد الأصنام، فلما رائهم يعبدونها استوهبهم واحداً منها، وهو هُبل، فجاء به إلى جزيرة العرب، ونصبه عند الكعبة، ودعا الناس إلى عبادته.
وقيل: إن رجلاً إن اسمه إساف فَجَرَ بامرأة، يقال لها: نائلة في الكعبة فمسخهم الله حجرين، فأخذهما عمرو بن لُحي، فنصبهما حول الكعبة، فصار من يطوف يتمسح بهما3. هذا أول من سيّب السوائب عمرو بن لحي.(/1)
والسوائب من بهيمة الأنعام ينذر الواحد مثلاً بعيره أو ناقته للصنم، فلا تحبس عن مرعى ولا عن ماء ولا تركب، تسيب هكذا، ولا ينتفع منها بشيء، تقرباً إلى الصنم بزعمهم، من الذي عملهم هذا؟ عمرو بن لحي الخزاعي. أول من غير ملة إبراهيم في جزيرة العرب، ولذلك كان من أهل النار.
ورد في بعض الأحاديث: قارون وهامان وأبي بن خلف، وهو الحديث المشهور المرفوع إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أنَّه ذكر الصلاة يوماً فقال: (من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) 4. وهذا الحديث لأهل العلم كلام في تصحيحه وتضعيفه حتى من المعاصرين كالشيخ الألباني-رحمه الله- ضعّفه في الترغيب والترهيب، وكتب أخرى، وحسنه في الثمر المستطاب، وفقه السنة والكتاب، ومشكاة المصابيح.
على أية حال حديث مشهور معروف فيه أسماء هؤلاء الثلاثة: قارون وهامان وأبي بن خلف أنهم من أهل النار.
قارون الذي اغتر بماله وكفر بالله. فرعون الذي نازع الله في ربوبيته. وهامان وزيره ومعينه على الظلم والشر. وأبي بن خلف الجُمحي الذي آذى النبي -عليه الصلاة والسلام- حتى أنه عليه الصلاة والسلام قصده فقتله بيده، ولم يقتل شخصاً غيره بيده5.
(وكذلك) الوليد بن المغيرة ممن ثبت أنهم من أهل النار في كتاب الله تعالى-، فإن الله -عز وجل- قال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا* وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * ... سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [سورة المدثر (11-26)]. قال ابن كثير: "وهذا المذكور في هذا السياق هو الوليد بن المغيرة المخزومي أحد رؤساء قريش"6. هذا الذي لمّا قرأ -عليه الصلاة والسلام- القرآن بدأ يلين، فجاء أبو جهل قال: قريش تريد أن تجمع لك مالاً، لماذا؟ قال: يعطونكه، يتصدقون عليك، قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً!. فقال: إنهم علموا أنك تطلب المال، فقال له كلاماً معناه: إنّه علموا أنك أعجبت بمحمد، وأنك تعرضت له تطلب منه شيئاً، استفزَّه، فعند ذلك قال: والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من ذلك، يعني من الأشعار ولا من كلام الجن، والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى، وقال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، أبو جهل يقول له، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكّر قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [سورة المدثر (24)]. يعني إذا ما كان من قول الشعراء، ولا من قول الجن، فما هو؟! فكَّر ودبّر وعبس، وبسر، أدبر، واستكبر، وقال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}..
ممن ورد عليهم النص أنهم في النار: أبو لهب وزوجته؛ كما قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ* وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [سورة المسد(1-5)]. {تبت يدا} خسرت وخابت، وظل سعيه؛ {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أم جميل: أروى بنت حرب بن أميه أخت أبي سفيان، كانت من سادات نساء قريش لكن ذلك ما نفعها عند الله؛ لأنها كانت عوناً لزوجها على كفره، وجحوده، وعلى إيذاء المؤمنين، فهي في النار حمالة حطب، تأخذ حطب من النار وتلقيه على زوجها، ليزداد فيه ما فيه من العذاب، وتعذب معه أيضاً: {فِي جِيدِهَا} وعنقها حبل من النار.
ممن ورد عليهم النص أنهم في النار: أبو طالب؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: (هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)7. [رواه البخاري ومسلم]. وقد تقدم ذلك.
وجاء في الصحيحين أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة جاءه، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال: (أي عم قل: لا إله إلا الله كلمةً أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) تموت على غير ملة أبيك؟!. هذا قرناء السوء، هذه حالهم، عند الموت يثبتونه على الكفر، فلم يزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرضها عليه ويعيدانه، يعيدان كلامهما بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، ومات، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنه عنك). فأنزل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}8. [سورة التوبة(113)].
هذا عمّه، من أقرب الناس إليه، ودافع عنه، لكن ما نجاه ذلك؛ لأن التوحيد هو الأصل، ما في توحيد ما في نجاة من النار.
ذُكر آخرون من أهل النار لكن ليس في سياق شركٍ أو كفرٍ أكبر عملوه وإنما في كبائر اقترفوها؛ فمثلاً:(/2)
المرأة التي عذبت الهرة، قال عليه الصلاة والسلام: (عُذبت امرأة في هرةٍ سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)9. [الحديث رواه مسلم].
منهم كذلك: سارق الحجيج، وسارق بدنتي النبي -عليه الصلاة والسلام-، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو في الكسوف أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (عرضت عليّ الجنة حتى لو مددتُ يدي تناولت من قطوفها، وعرضت عليّ النار فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرُّها، ورأيت فيها سارق بدنتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورأيت فيها أخا بني دُعدع سارق الحجيج). ماذا كان يفعل؟ عنده عصا مثل العكَّاز، محجن، يمشي بها مع الطائفين ويتعمد إدخال طرفها في متاع الحاج، ويمضي في الزحام، فإن لم ينتبه له مضى به، وإن انتبه له قال: إنما تعلق بمحجني، قال عليه الصلاة والسلام: (فإذا فُطن له قال هذا عمل المحجن)10. هذا سارق الحجيج رائه في النار. فهذه العصابات المنتشرة في الحج والعمرة ويلٌ لهم من النار. [والحديث رواه النسائي وهو حديث صحيح].
وكذلك: كَركِرة أو كِركِرة أو كَركَرة، كما ذكروا في ضبط اسمه سارق وغال للعباءة من المغانم، بعد الجهاد، اشترك في الجهاد؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: كان على ثقل النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل يقال له: كركرة فمات، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هو في النار)، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءةً قد غلَّها11. [رواه البخاري]. سرق عباءة من المغانم قبل أن تقسم فراح في النار.
قال ابن حجر -رحمه الله-: "يعذب على معصيته، أو المراد هو في النار إن لم يعف الله عنه"12.
ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أيضاً رجلاً قتل نفسه، انتحر، وحديثه عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التقى هو والمشركون فاقتتلوا، فلما مال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل. يعني من شجاعته، من قوته، من بلائه العظيم، لا يدع لهم يعني للكفار شاذةً إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا أي قال المسلمون: ما أجزأ منَّا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (أما إنَّه من أهل النار). طبعاً تعجب الصحابة جداً، كل هذا القتال، وهذه الشجاعة، وهو من أهل النار؟! فقال رجل من القوم: أنا صاحبه، أنا سأتكفل أن ألازمه حتى آتيكم بخبره، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه أبداً، فخرج معه، كل ما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت، فوضع نصلتيه في الأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرجل، أي المراقب المتبع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أشهد أنك رسول الله، قال: (وما ذاك؟). قال: الرجل الذي ذكرته آنفاً أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك. فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه حتى جرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع نصلتيه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: (إنَّ الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة)13. [رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم]. "تغييب خاتمة العبد عنه فيه حكمة لطيفة"؛ كما قال ابن حجر-رحمه الله-: "لأن لو علم كل واحد خاتمه سلفاً فلعله يُفضي إلى عجب من علم أنه من أهل الجنة أو تكاسل أو تراخي عن العمل، وإلى أن يزداد عتواً وبطشاً من علم أنه من أهل النار14.
لم يثبت أن صاحب هذه القصة هو قزمان كما اشتهر ذلك في السيرة، لكنه رجل معين كان يعرفه الصحابة.
وأحياناً يتعمد الصحابة كتمان أسماء بعض الأشخاص لمصالح معينة، ويحذفه الراوي من القصة، يحذف اسمه.
ذكر لنا ربنا -عز وجل- أقواماً من أهل النار:
(أولاً): كقوم نوح: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [سورة نوح(25)].
(ثانياً): وقوم عاد: {لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} [سورة فصلت(16)].
(ثالثاً): وكذلك بنو النضير اليهود: {وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [سورة الحشر(3)].
وأهل السنة، أهل التوحيد يقطعون أنَّ كل من مات على الكفر والشرك بعد إقامة الحجة عليه فهو من أهل النار الخالدين فيها.
أما المخلدون في النار فجرائمهم على تنوع:(/3)
وأولهم: الكفار، والمشركون، وعباد الطواغيت، والأنداد، هذا أول وأعظم سبب للخلود في النار: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [سورة آل عمران(131)]. {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [سورة المائدة(72)]. وقال عليه الصلاة والسلام: (من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار)15. [رواه البخاري]. والنّد هو المثل.
ويدخل في هذا الشرك الأكبر الموجب للخلود في النار: دعاء الأموات والاستغاثة بهم من دون الله: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [سورة يونس (106)]. الكفار الذين قالوا المشركون عللوا عملهم هذا بقولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [سورة الزمر(3)]. فمن أثبت وسائط بين الله وبين خلقه؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كالوسائط التي تكون بين الملوك والرعية فهو مشرك، بل هذا دين المشركين عباد الأوثان كانوا يقولون إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وأنها وسائل يتقربون بها إلى الله، وهو من الشرك الذي أنكره الله على النصارى"16.
من أسباب الخلود في النار أيضاً: التكذيب بالبعث والنشور، ويوم القيامة، قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} [سورة الفرقان(11)]. وقال عز وجل: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [سورة الرعد(5)].
من الأسباب للخلود في النار: التكذيب بآيات الله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [سورة غافر(70) (71) (72)]. يوجد الآن أعداداً من الناس يقولون: لا بعث ولا رسل ولا نبوات ولا وحي، ولا شيء، أرحام تدفع وأرض تبلع.. وهكذا.. هؤلاء يوم القيامة ملعونين في النار.
يوجد من يكذب بالقرآن والأنبياء: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ * فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * ذَلِكَ جَزَاء أَعْدَاء اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاء بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [سورة فصلت(26) (27) (28)].
من الأسباب: التفريق في الإيمان بين الكتب التي أنزلها الله -عز وجل- والإيمان ببعض والكفر ببعض؛ كما يفعل اليهود والنصارى وغيرهم، وقد قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [سورة البقرة(85)]. كذلك الذي يؤمن ببعض القرآن ويكفر ببعض، ويقول القرآن دخله خرافات، والقرآن أصابه التحريف مثلاً، ويقول: هذا صح وهذا لم يصح، هذا من أهل النار الخالدين فيها.
من الأسباب (التي يخلد صاحبها في النار) كذلك: التكذيب بنوبة النبي-عليه الصلاة والسلام-؛ لأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة من رسالة الإسلام، والنبي -عليه الصلاة والسلام- بيَّن أن الذي لا يؤمن به سيكون من أصحاب النار يوم القيامة: يهودي، نصراني، من غيرهم من الطوائف، يسمع ديني على الوجه الصحيح، تصله الرسالة بشكل واضح، ثم لا يؤمن، هذا من أهل النار.
كذلك من أسباب الخلود في النار: قتل النبيين، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، قتل الدعاة إلى الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة آل عمران(21)].
وكذلك من الأسباب: الارتداد عن الإسلام -والعياذ بالله-؛ كما قال عز وجل: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة البقرة(217)].(/4)
من الأسباب: طاعة الرؤساء الضُّلال، وزعماء الكفر في كفرهم، واتباعهم على ذلك؛ كما قال تعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [سورة الأحزاب(64) (65) (66)].
كذلك (من الأسباب التي يخلد صاحبها في النار): الكذب على الله، والافتراء عليه: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} [سورة النحل(62)]. الذين جعلوا الملائكة إناثاً، وعبدوهم من دون الله، ونحو ذلك من الذين يفترون على الله الكذب وهم يعلمون.
النفاق الأكبر طبعاً من أسباب التخليد في النار: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [سورة التوبة(68)]. {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [سورة النساء(140)].
كذلك من الأسباب: الاستكبار عن عبادة الله، وعن سماع آياته؛ كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [سورة الأعراف(36)]. ماذا يفعل الواحد منهم؟: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة لقمان(7)(8)]. النار ماذا قالت لما احتجت مع الجنة؟ قالت: (يدخلني الجبارون والمتكبرون)17.
الكفار الذين علموا أعمالاً صالحة، ما هو مصير هذه الأعمال؟
بعضهم كفل أيتام، أعان مساكين، أطعم جياع، آوى مشردين، بر والدين، وصل رحمه، أحسن إلى جيرانه.. ما دام الأساس باطل كفر بالله فماذا ينفعه عمله ذلك؟ لا شيء. قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [سورة الفرقان(23)]. وقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [سورة الزمر(65)]. هذا قاله لنبيه -عليه الصلاة والسلام-، فكيف بأولئك المشركين؟
طبعاً نسمع اليوم أنَّ أغنى رجل في العالم قد وهب نصف ثروته في أعمال الخير، واقتدى به رجل آخر من أغنياء العالم فجعل مؤسسة خيريه بنصف ممتلكاه، وفلان.. وفلان، لكن إذا كانوا كفرة يدعون المسيح من دون الله، ويعبدون الصليب، ولا يدخلون في الإسلام، وهم قد سمعوا به سماعاً حقيقياً صحيحاً، إذاً ما الذي ينفعهم؟ لا ينفعهم شيئاً..
لكن من عدل الله أنه يعطي الكافر في الدنيا على أعماله الصالحة، فيعطيه مزيداً من الأموال على أشياء تصدق بها، يعطيه صحة، يعطيه أولاداً، يعطيه جاهاً، وذكراً، وسمعةً، يستوفي كل شيء في الدنيا حتى إذا جاءه يوم القيامة لم يجد حسنةً تنفعه، قال ابن القيم -رحمه الله-: "والله-سبحانه- يجازي عدوه مما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا، ويخفف به عنه يوم القيامة"18. هذا أبو طالب خفف عنه، لكن مخلد في النار، وشفاعة النبي -عليه الصلاة والسلام- سبب في ذلك.
ما هي حال الموحدين من أهل الكبائر؟
تقدم أنَّ أول من يدخل النار من عصاة الموحدين: المرائين، قارئ للقرآن، ومقاتل في المعركة مع المسلمين، ويجاهد الكفار، ومتصدق منفق، لماذا؟ كما تقدم، هذا فعل ليقال: فلان شجاع، وهذا فعل ليقال: فلان كريم، وهذا فعل ليقال: فلان قارئ أو فلان عالم.
أخذتم في الدنيا نصيبكم والناس تكلموا بذلك وأثنوا ومدحوا فليس لكم الآن إلا النار، فيسحبون إليها، قال معاوية -رضي الله عنه- لمّا سمع هذا الحديث أبو هريرة أغمي عليه كم مرة لما أراد أن يحدث به؟!.
قال معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى بكاءً شديداً حتى ظننا أنه هالك، ثم أفاق ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} } [سورة هود(16)(15)].
وتقدم أنَّ أول من تسعر بهم النار الأولية النسبية بالنسبة للعصاة من الموحدين هؤلاء. وأما الكفار فقد سحبوا إلى النار من قبل.(/5)
العُصاة من غير المشركين الكفار لهم ألوان من التعذيب في النار، ولهم ألوان من العذاب مع أنهم ليسوا بكفار لكن الله يعذب من العصاة وأهل الكبائر؛ فمن عذابه: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ). تقدم به السنّ، وليس في ثورة شباب، ولا داعي الشهوة عنده قوي، ومع ذلك زاني.
(وملك كذاب) يعني عنده سلطان ما يحتاج إلى الكذب، لا يخاف من رعيته، فلماذا يكذب؟ هذا كذب متأصل في نفسه، ثم هو قدوة الناس ويكذب على الملأ.
(وعائل مستكبر)19. [والحديث رواه مسلم]. يعني فقير ومتكبر، يتكبر على ماذا؟ يعني المال الذي دعا المتكبرين للتكبر هو فاقده، فهو فاقد سبب التكبر ويتكبر، هذا معناه أن التكبر متأصل في نفسه.
مثلاً: المتجسس على المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: (ومن استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون، أو يفرون منه) -وهو مصر يستمع- قال: (صبَّ في أذنه الآنك يوم القيامة)20. [الحديث رواه البخاري]. الآنك: الرصاص المذاب. وقيل: خالص الرصاص. وقيل: هو القصدير. قالوه الداوودي21.
الذين نجوا من النار يعرفون أنهم فقدوا (أ) ناساً كانوا معهم مسلمين في الدنيا فهل يتخلون عنهم أو ماذا يفعلون؟!.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الطويل في ذكر الصراط: (حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوا الذي نفسي بيده ما منكم من أحدٍ بأشد مناشدةً لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار). فالذين نجوا من النار يناشدون ربهم في هؤلاء، في إخوانهم الذين سقطوا في النار، يريدون أن يشفعوا لهم، لكي يخرجوا منها..
ومعنى الحديث: أي ما منكم من أحد يناشد الله في الدنيا في استيفاء حقه أو استقصاءه وتحصيله من خصمه، والمتعدي عليه بأشد من مناشدة المؤمنين لله -تعالى- في الشفاعة لإخوانهم هؤلاء الذين سقطوا في النار يوم القيامة.
فماذا يقولون في مناشدتهم لربهم؟ يقولون: (ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم؟). لكن طبعاً أدركه من العذاب ما أدركه، وناله ما ناله، ولو لحظة، كم هي شديدة؟
(فتحرّم صورهم على النار)، يعني هؤلاء الذين سقطوا في النار، النار ما تأكل وجوههم على الأقل، كانوا يصلون وآثار السجود، دارات وجوههم، ولتكون علامة يعرف بها هؤلاء الشافعون إخوانهم من بقية أهل النار، ولذلك حرَّم الله على النار أن تأكل آثار السجود، قال النبي-عليه الصلاة والسلام-: (فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه) -احترقت تماماً- (ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا بهم، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه) -يعني ارجعوا إلى النار- (فمن وجدتم في قلبه مثقال) يعني زنة مقدار (دينارٍ من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراًً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً؟ ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرةٍ من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً أو خيِّراً؟). وكان أبو سعيد الخدري راوي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [سورة النساء(40)]. بعد ما تنتهي شفاعات الكل ممن أذن لهم بالشفاعة، قال: (فيقول الله -عز وجل-: شفعت الملائكة وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضةً من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط). ومعنى: (لم يعملوا خيراً قط). يعني عندهم أصل التوحيد، ولكن ما عملوا الخيرات، ويشترط كذلك أن لا يكونوا قد ارتكبوا شيئاً يخرجهم من الملة، أو تركوا شيئاً يخرجهم تركه من الملة، كالصلاة التي من تركها بالكلية كفر، هذا يخرج، ويستثنى بالنصوص الأخرى، ويفهم بالجمع مع النصوص الأخرى.(/6)
قال عليه الصلاة والسلام في هذه القبضة: (قد عادوا حُمماً). يعني صاروا فحماً من شدة الاحتراق، وماتوا (فيلقيهم) يعني الله -عز وجل- (في نهرٍ في أفواه الجنة) يعني أوائل الجنة، مفتت مسالك، وطرق، وشوارع في الجنة، (يقال له نهر الحياة) فينبتون، ويخرجون قال: (فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل)، بذور الصحراء، يحملها السيل إلى جانب الوادي فتنبت، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا ترونها تكون إلى الحجر أو الشجر ما يكون منها إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض). فقالوا يا رسول الله: كأنك كنت ترعى في البادية.. يعني وصف لهم وصفاً دقيقاً هذه الأشياء التي تخرج في البادية، قال: (فيخرجون كاللؤلؤة في رقابهم الخواتم). خلاص الآن صاروا خلقاً آخر، هذه أشياء من ذهب تعلق في رقابهم يعرفهم أهل الجنة، فيقولون: (هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عملٍ عملوه ولا خيرٍ قدموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة، فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول لكم: عندي لكم أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا أي شيءٍ أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا)22. [رواه البخاري ومسلم واللفظ له].
طبعاً نعرف(نعلم) أنَّ من عقيدة أهل السنة، وأهل التوحيد، أهل الحق أنّ الذي لا يعمل عمل خير أبداً، تارك العمل بالكلية، لا صلاة، ولا صيام، ولا زكاة، ولا حج، ولا بر، ولا دعاء، ولا ذكر، ولا تلاوة، تارك العمل بالكلية كافر كفرا مخلد في النار، هذا كفر إعراض، لما أعرض عن الدين بالكلية خلده الله في النار، فما معنى: (لم يعملوا خيراً قط).
(أجاب العلماء على ذلك بما يلي: أولاً): قال بعض العلماء: إنه على عادة العرب في استعمال هذه الكلمة، فمثلاً يقولون لمن عمل ولم يتقن عمله: لم تعمل شيئاً قط، ما عملت شيئاً!. وليس المقصود أنه ما عمل شيئاً بالكلية، لكن جرت عادتهم بمثل هذا، ما صنعت شيئاً. قال ابن خزيمة-رحمه الله-: "هذه اللفظة: (لم يعملوا خيراً قط) من الجنس الذي تقول العرب يُنفى الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام. فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل: (لم يعملوا خيراً قط) على التمام والكمال لا على ما أوجب عليه، وأمر به23.
ثانياً: أنه من باب العام المخصص، مخصص بماذا مثلاً؟ بتكفير تارك الصلاة بالكلية، فيكون عام: (لم يعملوا خيراً قط). وأما الذي عمل شيئاً يخرجه من الملة أو ترك شيئاً تركه يخرج من الملة فإنه سيخلد في النار، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في قوله: (لم يعملوا شيئاً قط). يعني ما عملوا أعمالاً صالحة لكن الإيمان قد وقر في قلوبهم، فإما أن يكون هؤلاء قد ماتوا قبل التمكن من العمل، آمنوا ثم لم يتمكنوا، وحينئذٍ يصدق عليهم أنهم لم يعملوا خيراً قط.
لكن هذا يلزم أن يقال مع تقصيرهم، وإلا فإنّ الذي يقول الشهادتين يؤمن ويموت فجأةً لا يدخل النار؛ لأنه لم يتمكن من العمل بعذر، وليس أنه لم يعمل وهو قادر على العمل.
قال الشيخ -رحمه الله- أيضاً: "وإما أن يكون هذا الحديث مقيداً بمثل الأحاديث الدالة على أن بعض الأعمال الصالحة تركها كفر كالصلاة مثلاً، فإن من لم يصلي، -يعني بالكلية- فهو كافر ولو زعم أنه مؤمن بالله ورسوله، والكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة، وهو خالد مخلد في النار أبد الآبدين -والعياذ بالله-.
فالمهمّ أنّ هذا الحديث إما أن يكون في قومٍ آمنوا ولم يتمكنوا من العمل فماتوا فور إيمانهم فما عملوا خيراً قط، وإما أن يكون هذا عاماً ولكنه يستثنى منه ما دلت النصوص الشرعية على أنه لابد أن يُعمل كالصلاة.
ثالثاً: من الأقوال التي قالها بعض أهل السنة في هذه اللفظة أنه يحمل على حالةٍ خاصة، وأناس مخصوصين تركوا العمل لعذرٍ منعهم منه لكن اقترفوا سيئات. وهذا فيه جمع بعض ما تقدم، فيقال: معنى: (لم يعملوا خيراً قط) يعني أصل الإيمان وقر في قلوبهم. يعني عندهم إيمان ما هو أنهم كفاراً لا يؤمنوا بالله، لكن ما عملوا خيراً قط لعذر لكن عملوا سيئات كثيرة أدخلتهم النار.
فإذاً يحمل على حالة خاصة، وقوم مخصوصين؛ لأنه في النهاية لا يمكن أن يكون واحد ما كان في قلبه خير قط، ولا عمل أي أعمل خير قط أبداً ويدخل الجنة، أبداً، ما يمكن.
ولا يمكن أن تتصور أن واحداً يقول إنه مسلم وهو لا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يذكر الله أبداً، ولا يتلو القرآن، ولا قرأ ولا آية في حياته، ولم يدعُ، ولم يرفع كفيه لله، ولا بر، ولا وصل رحم، ولا تصدق، ولا عمل أي خير إطلاقاً ثم تقول هذا ممكن يخرج من النار!! أي إيمانٍ في قلبه؟! لو كان في قلبه ذرة إيمان كان ظهرت بعمل؟ كان ظهرت بعمل، لكن الذي ما عمل خير قط أبداً كذا على إطلاقها مطلقاً هذا ما هو مؤمن، ولذلك يخلد في النار.(/7)
فإذاً هذا يحمل مثلاً على: (لم يعملوا خيراً قط) ناس معينين عندهم أصل الإيمان، ما تمكنوا من العمل لعذر لكن عندهم سيئات، فدخلوا النار، عذبوا إلى أن أخرجوا في النهاية.
نهاية من يخرج من الموحدين، هؤلاء الجهنميون الذين يخرجهم الرحمن بقبضة من النار، هذه منّة من الله عليهم، بقي أرحم الراحمين، فأدركت هؤلاء، فهم آخر أهل النار خروجاً منها ممن يخرج..
وأما المخلدون لا يموت(ون) ولا يحيا(ون)، وما هم منها بمخرجين، وقد ورد في بعض هؤلاء من الأمور التي لها مدلول أن بعضهم يدعون الله في النار، وهم في النار، من بقايا الموحدين هؤلاء الذين دخلوا النار، فقد روى الإمام مسلم عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يخرج من النار أربعة، فيعرضون على الله، فيلتفت أحدهم فيقول: يا رب إذ أخرجتني منها فلا تعدني فيها فينجيه الله منها)24.
وجاء عند ابن حبان: (فيلتفت فيقول: يا رب ما كان هذا رجائي فيك، فيقول: ما كان رجاؤك؟ قال: كان رجائي إذ أخرجتني منها أن لا تعيدني فيها، فيرحمه الله فيدخله الجنة)25. [وهو حديث صحيح على شرط مسلم]. أي رواية ابن حبان هذه.
إذاً الذين يدعون من المخلدين لا يستجاب دعاءهم، لكن بعض هؤلاء العصاة البقية ينفعهم دعاؤهم فقد ينفعهم دعاؤهم، ويكون سبباً في خروجهم، وعدم عودتهم إلى النار.
لاشك أنًّ أسوأ الناس عذاباً الذين يدعون إلى النار:
وعلى رأس هؤلاء إبليس لعنه الله، وله جنود وأعوان: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [سورة لقمان(21)]. و(كذلك) من سار على شاكلته كفرعون الذي هو من الدعاة إلى جهنم.
وكذلك المشركون والمشركات الذين قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [سورة البقرة(221)].
والأئمة المضلون، والرؤساء المنافقون كما عرفنا.. (النار حفت بالشهوات)، وفي ناس يدعون إلى الشهوات، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (حجبت النار بالشهوات)26. [رواه البخاري]. فهي محفوفة بالشهوات والمحرمات، فمن أراد طريق النار سلك سبيل الشهوات، فلما قال: (حفت النار بالشهوات). لابد أن الطريق يمر بها، ولمّا قال: (حفت الجنة بالمكاره)27. لابد أن الطريق إلى الجنة يمر بالمكاره، وإرغام النفس، ومجاهدة النفس على ما تكرهه من مثل الوضوء في البرد، ومقاومة النوم لصلاة الفجر، والثبات في القتال مع أنّ النفس تكره القتل والجرح، والصبر على إخراج المال في الزكاة والنفقة الواجبة مع أن النفس تحب الإمساك، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (لمّا خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها) الحديث.. وفيه: (فلمّا خلق الله النار قال يا جبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي ربي وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفّها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي ربي وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها)28. [رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح]. هذه الشهوات المحرمة.
أما الشهوات المباحة فليست داخلة إلا إذا أدت إلى ترك واجبات أو فعل محرمات؛ قال الله -تعالى-: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [سورة مريم(59)]. فاتباع الشهوات من أسباب دخول النار.
وقد ذكر جمع من أهل التفسير أنَّ هذه الآية في هذه الأمة حيث سيكون آخرها متبعين للشهوات من شرٍ وفواحش، حتى أنهم يزنون في عرض الشوارع، وأمام الناس، قال مجاهد -رحمه الله- في هذه الآية: "يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق، لا يخافون الله في السماء، ولا يستحيون من الناس في الأرض"29.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرجال" -يعني في الصمود أمام الشهوات- "فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول، ولم يتحمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذل ساعة لعزّ الأبد، ولا محنة ساعة لعافية الأبد" -ما تحمل الساعة المؤقتة دخلوا فيها- "فإنّ الحاضر عنده شهادة، والمنتظر غيب" -ليش ما تحملوا؟؛ لأنه يقول هذه الشهوة أمامي أما الحور العين ما شفناها، الحاضر عنده ثقيل في حسه، فلذلك يجذبه بقوة؛ لأن الإيمان بالغيب ضعيف، يقول ذاك في الآخرة ما شفناه، ما عايناه، ما أحسسنا به، وهكذا.. قال: "فإن الحاضر عنده شهادة، والمنتظر غيب، والإيمان ضعيف، وسلطان الشهوة حاكم، فيتولد من هذا إيثار العاجلة ورفض الآخرة، هذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة ويجاوزه إلى العواقب والغايات فله شأن آخر".(/8)
ثم قال -رحمه الله-: "فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم، والسعادة الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعد لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب، والحسرات الدائمة، ثم اختر أي القسمين أليق بك، وكل يعمل على شاكلته، وكل أحد يصبو إلى ما يناسبه، وما هو الأولى به"30.
وهنا يجب أن نعلم كيف يتقي الإنسان النار؟ وما هي أسباب النجاة منها؟؛ لأن الله لمّا أوجب علينا اتقاء النار بأمره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [سورة التحريم(6)]. لابد أن نعرف ما هي أسباب الوقاية، ولما قال: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [سورة آل عمران(131)]. لابد أن نعرف ما هي أسباب الوقاية؟. قال أبو حنيفة -رحمه الله- في قوله: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}؛ "هذه أخوف آية في القرآن" -لماذا؟- قال: "حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه"31. ولذلك قال: {واتقوا النار}. واتقوا يا أيها المؤمنون التي أعدت للكافرين، يعني إذا ما اتقيتموها ستدخلوها.
ومن رحمته -عز وجل- أنه بيَّن لنا الأسباب التي تؤدي للنار لنجتنبها، والأسباب التي تحمي من النار لكي نتخذها لنمنع أنفسنا منها: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [سورة التوبة(115)].
وهذا من عدله -عز وجل- بيّن، وضَّح، علّمنا، أنزل في الكتاب، أرسل الرسل؛ ليبين.
(لما) خلق النار، قال هذه الأسباب، وهذه المسالك المؤدية إليها، ولذلك أهل الجنة الذين سلكوا السبل التي تقيهم النار يشعرون بالمنّة: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ* فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [سورة الطور(25) (26)(27)]. كنَّا نشفق من عذاب النار.
ما هي الأشياء التي تجعل الإنسان المسلم من ذكرٍ وأنثى يجتنب النار؟ يتجنب عذاب النار؟ كيف نتقي النار؟.
نتقي النار بأشياء نجتنبها، وأشياء نعملها.
أولاً: التي نجتنبها: الشرك بالله، {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [سورة المائدة(72)].
من الأعمال المحرمة(التي نجتنبها): الاستهزاء بالمؤمنين، وازدراء الصالحين؛ لأنهم يوم القيامة يقال لهم في النار لما يتوسلون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}. يقال لهم: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ* إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [سورة المؤمنون (107-110)]. فلما سخروا من عباده أدخلهم النار، هذه من الأسباب التي يجب تجنبها، الازدراء والسخرية بالصالحين.
من أسباب دخول النار: عقوق الوالدين: قال عليه الصلاة والسلام: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه). من يا رسول الله؟ قال: (من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما فدخل النار)32. [حديث صحيح].
(وقد) ساق القرطبي -رحمه الله- أثراً فقال: "إن رجلاً كان عاقاً لوالديه يقال له: علقمة فقيل له عند الموت: قل لا إله إلا الله فلم يقدر على ذلك حتى جاءته أمه فرضيت عنه33. فاستطاع أن يقولها.
من الأعمال التي يجب اتقاؤها للنجاة من النار: الحذر من مخالفة هدي النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهدي المؤمنين، وإجماع المؤمنين؛ لأن الله -عز وجل- قال: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [سورة النساء(115)]. هذه عاقبة الذي يخالف الهدي النبوي، ويخالف ما أجمع عليه المسلمون.
وكثير اليوم ممن تظهر فتاويهم في القنوات الفضائية مخالفين لإجماع المسلمين: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ}.
ومن الأعمال كذلك التي يجب اتقاؤها: الركون إلى الظالمين، والكفرة وموالاة هؤلاء، قال تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [سورة هود(113)]. وقال عز وجل: {قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [سورة محمد(26)]. هؤلاء المداهنين. المداهنون هؤلاء: {قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر}. نمشي معكم قليلاً، نوافق على بعض ما تريدونه: {سنطيعكم في بعض الأمر}. فأدَّى بهم ذلك إلى النار.(/9)
مما يقي الإنسان من النار: اجتناب الشهوات، والمقصود المحرمة كما عرفنا، فالخمر له شهوة، والزنا له شهوة، وهكذا السرقة، أخذ المال له شهوة بغير حق، من غير تعب.
من الأمور المهمة: حفظ الفرج والفم؛ لأنها تُعين، سئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: (تقوى الله وحسن الخلق). وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، قال: (الفم والفرج)34. [رواه الترمذي، وهو حديث صحيح]..
اللسان أسهل الأعضاء حركة فيجب ضبطه، والشهوة عند الهيجان تذهب العقول أمامها إلا من رزقه الله الثبات، وكان عنده خوف من الله، فإن الخوف من الله يطفئ الشهوة المحرمة إذا ثارت، قال عليه الصلاة والسلام: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)35.
(والخلاصة في الأسباب التي نجتنبها لنتقي النار) حماية جناب التوحيد من الشرك، والحذر من الكبائر، والإصرار على الصغائر، هذه الأشياء التي تجنب العبد النار.
وهناك أعمال صالحة نفعلها لنتقي النار:
أولاً: تحقيق التوحيد: (فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)36. [رواه البخاري ومسلم]. فإذا ليس من قالها من طرف لسان بدون يقين في القلب، وإنما قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله. (وقال صلى الله عليه وسلم): (إني لأعلم كلمةً لا يقولها عبد حقاً من قلبه إلا حرم على النار)37. ما هي؟ كلمة: لا إله إلا الله. [وهو حديث صحيح]. هذه الكلمة التي أرادها من عمه عند الموت فلم يجبه.
فمن حقق التوحيد وقى نفسه من النار، ولذلك تجوب العالم شركيات كثيرة، وأشياء تقدح في التوحيد، وتخدش التوحيد؛ فمن أراد النجاة فليحقق التوحيد.
مما يقي الإنسان من النار: الاستعاذة بالله منها؛ كما قال عز وجل: {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة البقرة(201)]. ما هو دعاء المؤمنين؟: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة آل عمران(16)]. فيتوسلون إلى ربهم بإيمانهم ليغفر ذنوبهم، وينجيهم من عذاب السعير: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [سورة آل عمران(191)]. {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [سورة الفرقان(65). النبي -عليه الصلاة والسلام- في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمغرم والمأثم، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وفتنة النار، وفتنة القبر... )38. [الحديث رواه البخاري]. وهو عليه الصلاة والسلام كان مرةً بجانب بستان لبني النجار على بغلةٍ له، والصحابة معه، فحادت به البغلة حتى كادت أن تلقيه، فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال عليه الصلاة والسلام: (من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟). فقال رجل: أنا، قال: (فمتى مات هؤلاء؟) قال: ماتوا في الإشراك، فقال: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب الله الذي أسمعه منه). ثم أقبل علينا بوجهه، وقال: (تعوذوا بالله من عذاب النار). قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار39. الحديث.. رواه مسلم].
وجاء أيضاً أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: (كيف تقول في الصلاة؟). قال: أتشهد وأقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ.. -يعني الأدعية الكثيرة التي تعرفانها أنتما، أنا لا أعرفها،- فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (حولها ندندن)40. [رواه أبو داود وهو حديث صحيح].
وقد تقدم معنا الحديث الصحيح أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (ما سأل رجل مسلم الله عز وجل الجنة ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاثاً إلا قالت النار: اللهم أجره من النار)41. وفي رواية: (ما استجار عبد من النار سبع مرات إلا قالت النار: يا رب إن عبدك فلاناً استجار مني فأجره...)42. الحديث.. وهو صحيح]. قال أبو مسلم الخولاني -رحمه الله-: "ما عرضت لي دعوة إلا ذكرت جهنم، فصرفتها إلى الاستعاذة منها".
وعن مجاهد قال: "يؤمر بالعبد إلى النار يوم القيامة فتنزوي، فيقول: ما شأنك؟ فتقول: إنه قد كان يستجير مني، فيقول: خلوا سبيله"43.
وقال عطاء الخرساني: "من استجار بالله من جهنم سبع مرات، قالت جهنم: لا حاجة لي فيك"44.
ما هي المواضع التي يسنّ، ويشرعُ فيها الاستعاذة من النار؟
طبعاً في كل وقتٍ وحين، لكن هل ورد أشياء مؤكدة؟ أوضاع، أحوال، أوقات مؤكدة؟. نعم.(/10)
أولاً: عند الفراغ من مناسك الحج: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ* وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} سورة البقرة (200) (201)].
ثانياً: بين الركنين؛ فعن عبد الله بن السائب الصحابي أنه قال سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول ما بين الركنين: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)45. [رواه أبو داود، وهو حديث صحيح].
ثالثاً: في نهاية التشهد، وقبل السلام، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم...)46. [الحديث.. رواه مسلم].
رابعاً: بعد الانتهاء من الصلاة، وفي مجالس الذكر، فقد روى البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: كنّا إذا صلينا خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحببنا أن نكون عن يمينه، يقبل علينا بوجهه، قال: فسمعته يقول: (رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)47. [رواه مسلم]. وجاء في البخاري حديث الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر، فيسألهم ربهم عن هؤلاء في حلقة الذكر؟ ماذا يقولون؟ قال: (فمم يتعوذون؟ قال: يقولون من النار؟ قال يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها؟ قال يقول: فكيف لو رأوها؟ قال يقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، وأشد لها مخافة، فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم)48. [رواه البخاري].
خامساً: عند قراءة القرآن، وآيات العذاب، فقد جاء في صحيح مسلم عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فافتتح البقرة، جعل يقرأ مترسلاً إذا مر بآيةٍ فيها تسبيح سبح، وإذا مر بآيةٍ.. فافتتح البقرة .. إلى أن.. قال: يقرأ مترسلاً إذا مر بآيةٍ فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤالٍ سأل، وإذا مرة بتعوذٍ تعوذ ثم ركع49.
سادساً: عند النوم، قال حذيفة -رضي الله عنه-: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن ينام وضع يده تحت رأسه ثم قال: (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك)50. [رواه الترمذي وهو حديث صحيح].
ومن الأعمال التي يقوم بها المسلم لتنجيه من النار: الثبات على الدين: (ثلاث من كنَّ فيه حرم على النار وحرمت النار عليه: إيمان بالله، وحب الله، وأن يلقى في النار فيحرق أحبّ إليه من أن يرجع في الكفر)51. [رواه أحمد وأبو يعلى وإسناده حسن].
كذلك (من الأعمال التي تنجي المسلم من النار): المحافظة على الصلوات الخمس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها يراها حقاً لله عليه حُرم على النار)52. [رواه أحمد وهو حديث حسن لغيره]. و(قد) مرَّ أن الله -سبحانه وتعالى- حرم على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود53.
ومن الأسباب الواقية (من النار ما جاء في الحديث الصحيح): (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه من النار سبعين خريفاً)54. [رواه البخاري ومسلم مرفوعاً]. (ومعنى): (في سبيل الله) هو في الجهاد أو في طاعة الله؟ كلامها قولان للعلماء، الصيام هذا عظيم، قال عليه الصلاة والسلام: (من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض)55. [رواه الترمذي، وهو حديث صحيح].
أيضاً (من الأسباب): الجهاد (في سبيل الله)، قال عليه الصلاة والسلام: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)56. [رواه البخاري].
أيضاً(من الأسباب الواقية من النار): الحراسة في سبيل الله، والبكاء من خشية الله: (عينان لا تسمهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)57. [رواه الترمذي، وهو حديث صحيح].
أيضاً (من أسباب الوقاية من النار): الصدقة ولو بالقليل، والكلمة الطيبة: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة)58. [متفق عليه]. وفي رواية: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجد فبكلمة طيبة)59. [متفق عليه].
وأيضاً (من الأسباب الواقية من النار): المحافظة على النوافل بعد الفرائض، وسنة الظهر القبلية والبعدية، قال عليه الصلاة والسلام: (من صلَّى أربعاً قبل الظهر وأربعاً بعدها حرّم الله لحمه على النار)60. [رواه أحمد وأبو داود، وهو حديث صحيح].
(ومن الأسباب أيضاً) الرقة واللين والسهولة في التعامل مع عباد الله، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبركم بمن يحرم على النار؟ أو بمن تحرم عليه النار؟ على كل قريبٍ هينٍ سهل)61. [رواه الترمذي وأحمد، وهو حديث صحيح]. وقد قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتلٍ جواظٍ مستكبر)62.(/11)
أثنى الله على الذين يخشون عقابه: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [سورة الملك(12)]. هؤلاء: {َيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [سورة الإسراء(57)]. هؤلاء: {الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} [سورة المؤمنون(57)]. هؤلاء: الذين كانوا قبل في أهلهم مشفقين. قال إبراهيم التيمي -رحمه الله-: ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار؛ لأن أهل الجنة قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}63. [سورة فاطر(34)]. لكن الحزن مم؟ الخوف والإشفاق والبكاء من خشية الله ومن عذابه.
قال عبد الله بن الرومي: بلغني أن عثمان -رضي الله عنه- قال: لو أني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير64.
وقال سعد بن الأخرم: كنت أمشي مع ابن مسعود فمر بالحدادين، وقد أخرجوا حديداً من النار فقام ينظر إليه ويبكي.
وعن ابن أبي الذباب أن طلحة وزيداً مرا بكير حدادٍ فوقفا ينظران إليه يبكيان.
وكان هرم بن حيان: إذا أصبح غدا، فمرَّ بأكورة الحدادين فنظر إلى الحديد كيف ينفخ، فيقف يبكي، ويستجير من النار65.
وكان كثير من الصالحين يذكر النار، وأنواع عذابها برؤية ما يشبّه به في الدنيا؛ كرؤية البحر وأمواجه، والرؤوس المشوية.
يعني حتى الطعام إذا أخرج من الفرن، وبكاء الأطفال، يتذكر بكاء أهل النار، والحر والبرد، ليس لأن الأطفال من أهل النار، لكن لأن بكاء الأطفال ذكّره.
(و) بعضهم كان يذكر النار عند الطعام والشراب، يذكر طعام أهل النار وشراب أهل النار؛ عن العلاء بن محمد قال: دخلت على عطاء السلمي فرأيت مغشياً عليه فقلت لامرأته: ما شأنه؟ قالت: سجرت جارة لنا التنور، -في فرن عند الجيران، وضعت فيه حطب، أوقدته،- فلما نظر إليه غُشي عليه66.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "وقد يشاهد كثير من المؤمنين من جلال الله وعظمته وجمالها أموراً عظيمة، تصادف قلوباً رقيقة فتحدث غشياً وإغماء. ومنها ما يوجب الموت.. وإن كان الكاملون منهم لا يعتريهم هذا.. لكن يعتريهم عند قوة الوارد على قلوبهم وضعف المحل المورود عليه.."67. -يعني بعض من ضعف محل القلب عنده، والوارد قوي فيسقط..-.
وهذا جواب من قال: ولماذا لم يقع للصحابة مثل هذا الغشي والإغماء؟ فيقال: وَقَعَ، بكوا طويلاً، وغشي على بعضهم، لكن قد لا يكون قد نقل عن أحدٍ منهم أنه مات، بينما نُقل عن بعضهم من التابعين وغيرهم أنه ورد عليه شيء من عذاب الله فوقع -مات- لماذا؟؛ لأن قوة القلب عند الصحابة لما ورد عليه الوارد القوي كما ورد على عمر مثلاً في الآيات في الصلاة، ونحو ذلك، قلبُه كان قوياً، فتحمل الوارد القوي، فكان بكاءً، أو دموعاً، أو غشياً، لكن إذا ورد الوارد القوي على قلبٍ أضعف قد يموت.
وهذا طبعاً حسن خاتمة على أية حال لو مات من خشية الله، لكن الشاهد كيف كان حالهم بالمقارنة مع حالنا، وربما لا تكاد دمعة تذرف من العين، لقد أطار الخوف من الله النوم من جفونهم.
(فهذا) كان طاووس-رحمه الله-: يفترش فراشه ثم يضطجع عليه فيتقلى كما تقلى الحبة على المقلى، ثم يثب فيدرجه -ويلفه، ويقوم- ويستقبل القبلة حتى الصباح، ويقول: طيّر ذكر جهنم نوم العابدين.
وقال الحرّ بن حصين الفزاري: رأيت شيخاً من بني فزارة أمر له خالد بن عبد الله بمائة ألف فأبى أن يقبلها، وقال: أذهب ذكر جهنم حلاوة الدنيا من قلبي.
وكان يقول إذا قام من النوم -يذكر الناس ليوقظهم لصلاة الفجر-: النار النارَ النار.
إذا ما الليل أظلم كابدوه *** فيسفر عنهم وهمُ ركوعُ
أطار الخوف نومهمُ فقاموا *** وأهل النوم في الدنيا هجوعُ
ولذلك كان الفراش والزاد من الدنيا قليل، قال ابن المبارك:
وما فرشهم إلا أيا من أزرهم *** وما وسائدهم إلا ملاء وأذرع
(الإزار هو الذي يفترشه).
وما ليلهم فيهن إلا تخوفٌ *** وما نومهم إلا عشاش مروعُ
وألوانهم صفر كأن وجوههم *** عليها جساد هي بالورس مشبعُ
نواحل قد أزرى بها الجهد والسُّرى *** إلى الله في الظلماء والناس هجّعُ
ويبكون أحياناً كأن عجيجهم *** إذا نوّم الناس الحنين المرجعُ
ومجلس ذكرٍ فيهم قد شهدته *** وأعينهم من رهبة الله تدمعُ
كان عباد بن زياد التيمي له إخوة متعبدون فجاء الطاعون فاخترمهم جميعاً، فقال في رثائهم:
فتيةٌ يعرف التخشّع فيهم *** كلهم أحكم القرآن غلاما
قد برى جلده التهجد حتى *** عاد جلدا مصَفِرَاً وعظاما
تتجافى عن الفراش من الخو*** ف إذا الجاهلون باتوا نياما
بأنين وعبرةٍ ونحيبٍ *** ويظلون بالنهار صياما68.
ومن السلف من منعه خوف النار من الضحك، قال الحجاج لسعيد بن جبير بلغني أنك لم تضحك؟ قال: كيف أضحك وجهنم قد سعرت، والأغلال قد نصبت، والزبانية قد أعدت.(/12)
وقال عثمان بن عبد الحميد: وقع في جيران غزوان حريق، فذهب يطفئه فوقعت شرارة على إصبعٍ من أصابعه، فقال: ألا أراني قد أوجعتني نار الدنيا، والله لا يراني ضاحكاً حتى أعرف أينجيني من نار جهنم أم لا!69. ومرض بعضهم، وسقط خوفاً من النار، فعطاء صار صاحب فراش سنين، ما به علة معروفة.
كانوا يرون أنه بدأ مرض عمر بن عبد العزيز الذي مات فيه من الخوف.
قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: إن لله -عز وجل- عباداً كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وكمن رأى أهل النار في النار مخلدين؛ قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونه، حوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، صبروا أياما قصارا تعقب راحة طويلة، أما الليل فمصافة أقدامهم، تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم ربنا ربنا، وأما النهار فحلماء علماء، بررة أتقياء؛ كأنهم القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو خولطوا ولقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم70.
وروي من غير وجه أن علي بن الفضيل بن عياض -رحمه الله- مات من سماع آية: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سورة الأنعام(27)].
سأل ابن خزيمة يونس بن عبد الأعلى عن سبب موت ابن وهب؟ قال: قرأ عبد الله كتاب الأهوال، فمر في صفة النار فشهق فغشي عليه، فحُمل إلى منزله فعاش أياماً ثم مات71.
(قال يحيى ابن أبي كثير): " قطع قلوب الخائفين طول الخلودين في الجنة أو النار".
(وقال ابن السماك): "قطع قلوب العارفين طول الخلودين في الجنة والنار.
وخطب أبو موسى الأشعري الناس بالبصرة، فذكر في خطبته النار فبكى حتى سقطت دموعه على المنبر، وبكى الناس يومئذٍ بكاءً شديداً.
ونظر عمر بن عبد العزيز إلى رجلٍ عنده متغير اللون، فقال: ما الذي أرى بك؟ قال: أسقام وأمراض يا أمير المؤمنين، إن شاء الله. فأعاد عليه عمر، فأعاد عليه الرجل مثل ذلك ثلاثاً، فقال: إذا أبيت إلا أن أخبرك فإني ذقت حلاوة الدنيا فصغر في عيني زهرتها وملاعبها، واستوى عندي حجارتها وذهبها، ورأيت كأن الناس يساقون إلى الجنة، وأنا أساق إلى النار، فأسهرت لذلك ليلتي، وأضمأت له نهاري، وكل ذلك صغير حقير في جانب عفو الله وثواب الله -عز وجل- وجنب عقابه72.
كان عمر بن عبد العزيز ساكتاً وأصحابه يتحدثون، قالوا: مالك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت مفكراً في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها، وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها، ثم بكى.
قال مغيث بن الأسود: زوروا القبور كل يومٍ بفكركم. تفكروا في جوامع الخير كل يومٍ بعقولكم، وشاهدوا الموقف كل يومٍ بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف، -يعني من أرض المحشر الناس ينصرفون- بالفريقين إلى الجنة والنار بهممكم، واشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكرى النار ومقامعها وأطباقها.
وقال صالح المري: للبكاء دواعي: الفكرة في الذنوب، فإن أجابت على ذلك القلوب وإلا نقلتها إلى الموقف، وتلك الشدائد والأهوال، فإن أجابت إلى ذلك -يعني نفسك وارعوت وذلت لله- وإلا فأعرض عليها التقلب بين أطباق النيران.
وقال سعيد الجرمي: والله ما صدَّق عبد بالنار قط إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره لم يصدق بها حتى يهجم عليها. -يعني مهما وعظ، ومهما ذكّر لا يذكر-.
قال ابن عيينة: قال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها، وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيءٍ تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً، قال: فأنتِ في الأمنية -لا زلت في الدنيا- فاعملي73.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا الجنة بمنّه، وأن يعافينا من النار بفضله –سبحانه-.
ونسأله -عز وجل- أن يجعلنا من الأبرار، وأن يدخلنا برحمته في القوم الصالحين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(/13)
نعيم المرأة في الجنة
السؤال :
بسم الله الرحمن الرحيم:
إذا كان الرجال في الجنة يكرمهم الله بالحور العين جزاءً لهم فما نصيب المرأة التي دخلت الجنة في كل حالةٍ ممّا يلي :
1- إذا كانت متزوجة في الدنيا ، و دخلت الجنة هي وزوجها .
2- ‘ذا كانت متزوجةً في الدنيا و دخلت الجنة ، أمّا زوجُها فدخل النار أعاذنا الله و إياكم منها .
3- إذا توفيت قبل أن تتزوج في الدنيا .
4- إذا تزوّجت أكثر من مرّة في الدنيا .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
الجنّة دار النعيم المقيم ، و من دَخَلها فقد استحقَّ من نعيمها ما يُناسب منزلته فيها ، و هذا للرجال و النساء كلٌّ بحسبه ، لأنّ ( النساء شقائق الرجال ) كما أخبر بذلك النبيّ صلى الله عليه و سلّم فيما رواه أبو داود و الترمذي و أحمد بإسناد صحيح عن أمّ المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما .
و قد جمَع الله تعالى في الذكر ، و الوعد بالأجر و الثواب بين الرجال و النساء في آياتٍ تُتلى من كتابه العزيز ؛ منها قوله تعالى : ( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قَاتَلُوا وَ قُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَ لأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) [ آل عمران : 195 ] .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ( أي قال لهم مخبراً أنه لا يضيع عمل عامل منكم لديه بل يوفي كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى ، و قوله (( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ )) أي : جميعكم في ثوابي سواء ) .
و قال تعالى : ( وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) [ النساء : 124 ] .
قال ابن كثير : في هذه الآية بيان إحسانه و كرمه و رحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذكرانهم و إناثهم بشرط الإيمان .
قلتُ : و الآيات الدالة على المراد غير ما ذكرنا كثيرة ، و منها ما تُعرَفُ دلالته بمعرفة سبب نزوله ، فقد روى الترمذي بإسنادٍ حسَّنَه عَنْ أُمِّ عُمَارَةَ الأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ مَا أَرَى كُلَّ شَيْءٍ إِلاّ لِلرِّجَالِ وَمَا أَرَى النِّسَاءَ يُذْكَرْنَ بِشَيْءٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةَ : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) الآيَةَ.
و ما دام السؤال منصبّاً على نعيم المرأة في الجنّة فنقول ، و بالله التوفيق :
إذا كان الزوجان من أهل الجنّة فإنّ الله تعالى يجمعُ بينهما فيها ، بل يزيدهُم من فضلِه فيُلحِقُ بهم أبناءهم ، و يرفع دَرجات الأدنى منهم فيُلحقه بمن فاقه في الدرجة ، بدلالة إخباره تعالى عن حملة العرش من الملائكة أنّهم يقولون في دُعائهم للمؤمنين { ... ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومَن صلح مِن آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم } [ غافر : 8 ] .
و قوله تعالى { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ... } [ الطور : 21 ].
أمّا إن كان أحد الزوجين من أهل النار فإمّا أن يكون كافراً ، فهذا يُخلَّد فيها ، و لا ينفعه كون قرينه من أهل الجنّة ، لأنّ الله تعالى قضى على الكافرين أنّهم ( خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ و لا هُمْ يُنْظَرُونَ ) [ البقرة : 162 و آل عمران : 88 ] .
و قضى تعالى بالتفريق بين الأنبياء و زوجاتهم إن كنّ كافرات يوم القيامة ، فقال سبحانه : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَ امْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) [ التحريم :10 ] ، فكان التفريق بين سائر الناس لاختلاف الدين أولى .
قال الحافظ ابن كثير [ في تفسيره : 4 / 394 ] عند هذه الآية الكريمة :
قال تعالى (كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ ) أي : نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلاً ونهاراً يؤاكلانهما و يضاجعانهما و يعاشرانهما أشد العشرة و الاختلاط ، ( فَخَانَتَاهُمَا ) أي : في الإيمان لم يوافقاهما على الإيمان ، و لا صَدَقاهما في الرسالة ، فلم يُجدِ ذلك كله شيئاً ، و لا دفع عنهما محذوراً ، و لهذا قال تعالى ( فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ) أي : لكُفرهما ، و قيل للمرأتين ( ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) .اهـ .(/1)
أما إن كان للمرأة في الدنيا أكثر من زوجٍ ، فإنّ من فارقَها بطلاق حُلّ زواجه بطلاقه ، فتعيّن افتراقهما في الآخرة كما افترقا في الدنيا ، و أمّا إن مات عنها و هي في عصمته ، ثم تزوّجت غيره بعده ، فلآهل العلم ثلاثة أقوال في من تكون معه في الجنّة :
• القول الأول : أنّها مع من كان أحسنَهُم خُلقاً و عشرةً معها في الدنيا ، و لا دليل على هذا القول ، إلا حديثٌ منكرٌ لا يصلح حجّة عليه .
• و الثاني : أنها تُخيَّر فتختار من بينهم من تشاء ، و لا أعرف دليلاً لمن قال به .
و هذان القولان ذكرهما الإمام القرطبي في كتابه الشهير التذكرة في أحوال الموتى و أمور الآخرة [ 2 : 278 ] . و اختار الثاني منهما الشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله ، و بعض المعاصرين .
• و القول الثالث : أنها تكون في الجنّة مع آخر زوجٍ لها في الدنيا ، أي مع من ماتت وهي في عصمته ، أو مات عنها و لم تنكح بعده ، و يدلّ على هذا القول ما رواه البيهقي في سننه [ 7 / 69 ] عن حذيفة رضي الله عنه ثم أنه قال لامرأته إن شئت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تزوجي بعدي فإن المرأة في الجنة لأخر أزواجها في الدنيا فلذلك حرم الله على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحن بعده لأنهن أزواجه في الجنة ، و حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال : ( أيما امرأة توفي عنها زوجها ، فتزوجت بعده ، فهي لآخر أزواجها ) و قد صححه العلاّمة الألباني رحمه الله [ في السلسلة الصحيحة 1281] ، و لم أقف على تصحيح أحدٍ قَبلَه له .
و إذا صح الحديث فلا يُُُعدَل عنه إلى غيره ، و لا يُعدَلُ به غيرُه ، فلذلك كان القول الثالث أولى الأقوال بالاعتبار ، و أرجَحَها ، و الله أعلم .
أما إذا لم يكُن للمرأة زوجٌ من أهل الدنيا في حياتها ؛ فإنّ الله تعالى يزوّجها بمن تقرُّ به عينُها في الجنّة ، لأنّ الزواج من جملة النعيم الذي وُعد به أهل الجنّة ، و هو ممّا تشتهيه النفوس ، و تتطلّع إليه ، و قد قال تعالى : ( وَ فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ الزخرف : 71 ] .
و ينبغي للمسلم أن يشتغل بسؤال الله تعالى الجنّة و نعيمها على وجه الإجمال ، ( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ) ، و من دخَلها فحق على الله أن يُرضيه ، و الله الموفّق .(/2)
نغمات عودي
شعر: بدوي الجبل
نَغَمات عودي لا تُملُّ iiلأنها
شعرٌ يفيض عواطفاً iiوشعورا
نغماتُ عودي لا تملُّ iiلأنها
لغة الملائك إذ تُناجي iiالحورا
همستْ بها الأرواح في ملكوتها
شدْواً أرقَّ من الصبا وزفيرا
يوحي إليَّ من الخيال iiبدائعاً
في ظلمة الأحزان من iiنغماته
أحنو عليه معانقاً iiمتنهداً
وأبثُّه شكوى الهوى iiفأخاله
سله عن الزمن الخئون iiوأهله
شهد القرون الماضيات iiوصافحت
ورأى حضارة جِلقٍ iiوجلالها
إذ ماء جلقَ كالرحيق iiعذوبة
سلب الزمان ملوكَ غسانٍ iiبها
يا لاثماً فيها الثرى من iiحُبّه
ومعانقاً أغصانها من iiشوقه
هذا صلاحُ الدين فاخشعْ، iiإنه
طافَ الجلال به مليكاً iiفاتحاً
فالثم ثراه فقد لثمتَ iiخميلةً
واهتفْ لدى القبر النديّ iiمردّداً
ليثُ المعامعِ وهو أوّل iiآسرٍ
... ويهزُّ أعطافي هوىً وسرورا
نفسي الحزينة تستعير iiالنورا
فكأنني أمٌّ تضمُّ صغيرا
يبكي عليّ متيماً iiمهجورا
تَرَه عليماً بالزمان iiخبيرا
أوتارُه السفاحَ iiوالمنصورا
والملك في تلك الربوع iiكبيرا
وظباءُ جلّق كالشموس iiسفورا
تاجاً يُشعُ سناؤهُ iiوسريرا
أعلمتَ أنك تلثم الكافورا ii؟
أعلمت أنك قد ضممتَ iiخُصورا
ملكُ الملوك مسالماً iiومُغيرا
حيّاً، وطاف بلحده iiمقبورا
للمكرمات وقد نشقتَ iiعبيرا
بفنائِه التهليلَ والتكبيرا
صِيدَ الفوارسِ كيف صار iiأسيراً؟(/1)
نفاق الغرب ورياء العرب
البروفسور ديتيران*
بعد أسابيع طويلة من اندلاع أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة إلى النبي محمد ما زلنا نتساءل عن الدوافع الحقيقية التي تقف وراء القضية، خاصة وأننا ألفينا بعض الجهات الغربية وأخرى إسلامية تبذل جهدها من أجل استغلال القضية، مما أدى إلى إفلات المسألة من عقالها. وتابع الكثير هنا في الغرب تطورات الأحداث وكأنهم تعذر عليهم الاتزان أمام هذا الكوم الهائل من الحجج والبراهين والمواقف الغريبة الشكل. وفي المقابل، صدرت عن الجانب العربي والإسلامي ردود فعل لم تقل في كثير من الأحيان غرابة وإثارة للشك من المواقف الغربية.
على الصعيد الغربي، سمعنا القيمين على الجريدة الدانمركية صاحبة مبادرة الكاريكاتير المشؤومة ومعها وسائل الإعلام التي أعادت نشر الرسوم، تبادر بالقول أنها تدافع عن حرية التعبير وحقها في تعاطي جميع المواضيع دون رقابة بما فيها المحرمات الدينية. وسرعان ما انضمت إلى هذا الموقف مجموعة واسعة جدا من السياسيين والمفكرين والقطاعات الاجتماعية التي شجبت المظاهرات الصاخبة "المنظمة" في بعض الدول الإسلامية والدعوات إلى مقاطعة البضائع الدانمركية والأوروبية وما تخللها من أعمال الاعتداء (المحدودة) على السفارات والبعثات الأوروبية في البلاد الإسلامية. وتفاوتت شدة هذه المواقف من بلد أوروبي إلى آخر فالقضية تأججت بشكل ملفت في الدول الاسكندينافية وفرنسا وربما ألمانيا بينما لم تتجاوز حدود النقاش العلني خلال عدد من الأسابيع في بلدان أخرى كإسبانيا. وبمعزل عن أحقية عرض هذه الرسوم والدعوة إلى احترام جميع الآراء فإن المبادرات الأوروبية السياسية والثقافية والاجتماعية والإعلامية التي شددت على إعادة نشر الرسوم وطرح قضية حرية التعبير، علاوة على ما زُعم عن معاداة الدين الإسلامي للتسامح وتعدد الآراء، تحمل في أحشائها تناقضات كثيرة يصعب على المراقب المحايد التجاوز عنها. فلم نلبث أن علمنا أن الصحيفة الرائدة في نشر الرسوم فعلت ذلك بعد أن وجه مفكر دانمركي دعوة مفتوحة إلى القراء من أجل إرسال رسوم تصور رسول الإسلام تصويرا ساخرا. وإن صح هذا الخبر وفعلا لقد أكده جامع الرسوم ذاته فإن المسألة لا ترتبط بعمل فني تلقائي ينبع من منطلقات فكرية وثقافية مستقلة وإنما هي متعلقة بمحاولة مبرمجة تهدف إلى إحداث البلبلة. ومما يدعو إلى التأمل والحسبان أن صاحب الملف نفسه اعترف بأن الفكرة طرأت عليه بعد أن تناهى إلى سمعه أن دارا من دور النشر أخفقت في إيجاد رسام واحد يقبل تصوير النبي محمد. ومرة أخرى يجب أن نسأل عن أسباب هذه الدعوة الغريبة وكأن تصوير مرسل من مرسلي الأديان التوحيدية فريضة من الفرائض على روّاد فن الكاريكاتور الحديث، ولا بد أن يشار هنا إلى أن الفن التصويري الغربي يزخر بسوابق عديدة تم فيها تصوير النبي محمد بطريقة مشينة ومجحفة في غالب الأحيان، كما تحفل الأدبيات الأوروبية بأوصاف وهمية لمظهر النبي محمد وحتى طباعه الأخلاقية وتُعدّ الكوميديا الإلهية للكاتب الإيطالي دانتي ألياري أحد الأعمال الأكثر تركيزا على النقطة. لذلك لا يجوز الادعاء بأن الفنون الغربية امتنعت في وقت من الأوقات عن مثل هذه المقومات التصويرية، وذلك على الرغم من أن الدين الإسلامي يحظر تمثيل خاتم الأنبياء بأي شكل من أشكال. ومن يشك في ما نقول نحيله إلى الكتابات واللوحات وحتى النقوش المنتجة في أوروبا من العصور الوسطى إلى يومنا هذا فالأمثلة متوفرة. لذلك لا نفهم الحجج والبراهين التي ساقها المدافعون عن حق التعبير. ونزداد حيرة إذا أخذنا بعين الحسبان أن غالبية الجهات الأوروبية المصممة على إعادة نشر الرسوم المشؤومة تمتنع كل الامتناع عن نشر آراء وأقوال ومواقف تهين معتقدات وشخصيات يرفضون المساس بها. فالجريدة الدانماركية صاحبة المبادرة كانت قد رفضت سابقا نشر رسوم تتطاول على المسيح رسول الدين المسيحي الأعظم، كما أن هناك وسائل إعلام متدينة منسوبة إلى التيار المسيحي الأقل اعتدالا أقدمت على احتضان القضية من أجل رعاية حرية الرأي، بينما هي تأبى وتشجب أي مظاهر تحسبها معتدية على منطلقاتهم العقائدية. وعلى الصعيد السياسي لا بد أن نذكر ردود الفعل المتصلبة للحكومة الدانماركية قبل انفجار الأزمة إذ استمعنا إلى تصريحات رسمية غير لائقة حول الإسلام والمسلمين في أوروبا هي بعيدة كل البعد عن الكياسة الدبلوماسية المألوفة لدى دول الشمال الأوروبي. وكان الأولى بالحكومة أن تدافع عن حق الجرائد المحلية في نشر ما تراه مناسبا والامتثال إلى القضاء حالة انتهاكها الآداب أو مشاعر المؤمنين فهذا أمر منوط بالمحاكم، وليس العمل على تحويل القضية إلى قضية سياسية تتطلب تدخلها الشخصي.(/1)
ثم لدينا واقعة شائكة أخرى تعكس بشكل صريح حجم النفاق الذي أحاط بالمسألة منذ الوهلة الأولى وهي ازدواجية المعايير بشأن تحديد الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تجاوزها في مجال التعبير، إذ أن بعض الدول الأوروبية سنت قوانين تمنع منعا باتا التطرق "بصورة منبوذة" إلى مواضيع حساسة كالمحارق النازية مع أن الأخيرة مسألة تاريخية تحولت بحكم المصالح السياسية والإيديلوجية إلى حرام ممنوع الاقتراب إليه. وليس من الصدف أن نجد العناصر الغربية الأكثر امتعاضا من احتجاجات الشارع في الدول الإسلامية تبادر إلى الغلو والتعدي السافر على الدين الإسلامي لمجرد أنهم مقتنعون بأن هناك صراعا مديدا بين الحضارة المسيحية المتطورة السموحة والحضارة الإسلامية الكظيمة المتحجرة !! (أو "الكيان الإسلامي" كيفما يفضلون تسميتها لأنهم يحجمون عن إعدادها حضارة)!!. ولسنا نحن من الداعين إلى معاقبة المسؤولين عن نشر وقائع يراها البعض مشينة وإنما نطالب باحترام الأسس التي تضمن حرية الرأي مشددين في الوقت ذاته على حق كل إنسان يعتبر نفسه مهانا أو معرضا للشنيعة في اللجوء إلى الوسائل القانونية المعترف بها، إلا أنه من غير المستحسن تجريح المشاعر الدينية خدمةً لمصالح مشكوك فيها تهدف أكثر ما تهدف إلى تغذية نظرية الاصطدام والقطيعة وتحويل الإسلام إلى عدو العصر الحديث.
ومما يثبت هذا النفاق الغربي السافر القرارات التي اتخذتها بعض الحكومات في سبيل منع فضائيات عربية وإسلامية أن تباشر بثها الفضائي في أوربة لأنها تنشر على حد زعم تلك الحكومات الكذب والبهتان على القيم الحضارية الغربية، أو الملاحقة التي تعرضت لها قناة الجزيرة الموصومة بتشجيع الإرهاب لبثها خطابات الزعماء الإسلاميين المتطرفين "المجرمين" أو لتقديم أخبار معينة عن تجاوزات القوات المحتلة في أفغانستان والعراق، وكأن تلك الحكومات مستعدة لتعددية الآراء ما دامت الآراء تتوافق بشكل أو آخر بمنظورها الخاص للواقع. والأسوأ بالنسبة لسمعة الآلية الدعائية الغربية أن قسما من المواطنين الغربيين خصوصا الأوروبيين باتوا يخشون أن تكون الأخبار المشاعة من وسائل الإعلام الإسلامية صحيحة أو شبه صحيحة وإن كانت لهجتها مفعمة بالإنشائية والغلو، أي أن سبب الحملة عليها ليس دحض الباطل وإنما الحيلولة دون إجراء تحليل دقيق للسياسة الخارجية الغربية في العالم الإسلامي.
بيد أن مظاهر النفاق الغربية تلقى موقفا انعكاسيا مقابلا وموازيا لها في التطرف والتعصب في الجانب المقابل حيث لمسنا رغبة جلية لدى بعض الدوائر الإسلامية الرسمية وغير الرسمية في تحريك القضية والصيد في المياه العكرة. ومما يزيدنا تشكيكا في دوافع تلك الدوائر أن الرسوم عرضت في بعض الصحف الأردنية واليمنية والمصرية في وقت سابق دون أن تثير لغوا يذكر إلا عندما اتسعت رقعة الأزمة وتذكر الجميع أن جرائد معينة قد أفسحت المجال لهذه الحملة الشنيعة على الدين الإسلامي. ولقد استمعنا إلى تصريحات رؤساء التحرير لدى الجرائد المعنية فألفيناهم جميعا مشددين على ضرورة إظهار هذه الرسوم لإثبات بشاعتها ومدى سخفها في آن واحد وليس الإساءة إلى أحد. وأشار البعض إلى أن مشاركة عدد من الأنظمة العربية في الجدال وتقديم الاحتجاج الرسمي أمام الحكومة الدانمركية دليل على اضطرار الأنظمة العربية إلى منافسة الحركات الإسلامية الصاعدة وتجريدها من ورقة الانفراد بالدفاع عن قيم الأمة ومقدساتها. وربما يفسر هذا الاعتقاد أحداث الشغب المسجلة في سوريا وليبيا حيث أجريت مسيرات شعبية يُعتقد أنها حظيت أساسا بمباركة السلطات المحلية، والكل يعرف أن الأنظمة العربية خبيرة في سبل منع المظاهرات وإرهاب المشاركين فيها إذا أعدّت هذه المسيرات تهديدا لمصالحها أو لروابطها القوية بالقوى الحليفة كالولايات المتحدة. إن محاولة السيطرة على القضية الدينية وتهميش الإسلاميين في هذا المجال محاولة سبق أن باءت بالفشل في العقود الماضية. وليس من المعقول أن يسمح الحكم للتيار الإسلامي بقدر من البطولة الاجتماعية المقيدة لاحتواء الغليان الشعبي في حين تسعى السلطة إلى وضع العراقيل أمام انضمام القوى السياسية المناهضة إلى اللعبة السياسية، ولقد تراجعت المسيرة الانفتاحية الإصلاحية إلى ظاهرة شكلية لا معنى لها في معظم الدول العربية إن لم نقل جميعها. ويحيرنا أن نرى الجماهير الملتهبة تجوب الشوارع دفاعا عن شعائرها الدينية، وثمة ما يبرر غضب هذه الجماهير لأنّ هذه الرسوم مشبوهة الغرض مست لديها الرمز الأعظم لعقيدتها ودينها ، بينما لم نكد نلاحظ مسيرات حاشدة تبلغ الحدة نفسها في أعقاب قصف أفغانستان أو احتلال العراق أو فضائح أبي غريب والاساآت المتكررة للقرآن الكريم في غوانتانمو أو أي من المواقع التي قتل وجرح وعذب وأهين فيها ألوف المسلمين الأبرياء.(/2)
خلاصة القول، لا نعرف من هو أكثر تيها وضلالا، المواطن الغربي الممتعض الذي هرول إلى المتاجر لشراء السلع الدانمركية والمُطالب المحتقن باتخاذ إجراءات صارمة للتصدي للموجة الإسلامية المعادية للحضارة الغربية وهي مطالبة تنبثق مما تكرره وسائل إعلام غربية جاهلة خبيثة، أو المواطن المسلم المقاطع للسلع نفسها والموقن بأن هناك حملة صليبية جديدة تهدف إلى محو الإسلام والاستيلاء على قدرات الأمة الإسلامية. وتتمثل طليعة هذه الحملة المتجددة في التشهير بأركان الدين الإسلامي من خلال حفنة من الرسوم لم يطلع عليها ابن الشارع لأنه اطلاع غير مباح! والمؤسف أن هناك جهات "غامضة" على كلا الجانبين تحاول أن تجني ثمارا من الأزمة عن طريق التضخيم والغلو والإفك. ولحسن الحظ لم تنجر أكثرية الأوروبيين إلى البغض والكراهية، وفي المقابل لم نر مظاهرات عنيفة إلا في عدد قليل جدا من المدن الإسلامية بلغ فيها السيل الزبى لأسباب داخلية وخارجية على حد سواء. هكذا أمسينا محاصرين بين تناقضين متعارضين، تناقض الأنظمة الغربية التي تنصب نفسها حماة لحرية الرأي والتعبير وهي الضاربة بها عرض الحائط كلما كانت حرية التعبير ذاتها تمس مصالحها، وتَناقض الأنظمة العربية التي تدعو إلى استخدام الكلمة والصورة ضمن حدود معقولة وأخلاقية بينما هي عاجزة عن استيعاب المضمون الحقيقي للعقلانية والأخلاق وحرية التعبير.
*البروفسور إغناثيوس غوتيريث دي تيران، مستعرب إسبانيا يدرس التاريخ الإسلامي المعاصر في جامعة أوتونما بمدريد.(/3)
نفحات رمضان ونسمات القَدْر وبركات البيت.. ولكن!
بقلم : د. توفيق الواعي
يأتي رمضان الذي يتعشقه العُباد، ويترقبه بغاة الخير، فينزل برداً على القلوب وسلاماً على النفوس وهدوءاً على الضمائر، وسعادة للروح، وبهجة للحياة، يستقبله الناس بالأفراح والأهازيج، والأذكار والتراتيل بعفوية فيها جلال الإيمان وعمق العادة وطبيعة الخير، وسجية المؤمن.
يأتي رمضان، فيذكر المسلم بزيادة الأجر ومضاعفة الثواب، وشرف الأيام والليالي، وينبه إلى فضل الله وعطائه العميم، ومنحه ورزقه الكريم، لينهل ويتزود ويتضلع من الخير والزاد والبركة. يأتي رمضان، يظلله القرآن وترفرف عليه الهداية، وتعلوه نسائم المغفرة وأجواء التوبة، فينهل منه الجميع: العالم النحرير، بما يوحيه القرآن ويعلمه التنزيل، ويمليه الفرقان، والعاصي بما يناله من مغفرة للذنوب، وتوبة من الخطايا ورجوع إلى الطريق المستقيم.
كما يأتي رمضان بذكريات الخير وبشريات النصر والفتح، فتطل علينا "بدر" بعظمتها وعظمة رجالها، وفتح مكة بهالتها وبطولاتها وخضوعها واستسلامها، وهتافها: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا(81) (الإسراء). هذه الأجواء العظيمة يجب أن تنتج العظماء، وهذه الروحانيات الكبيرة ينبغي أن تهيئ النفوس الكبار، ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، فرمضان بروحانياته ودفعاته الإيمانية لم يستطيع كثير من المؤمنين بأثقالهم وأوزارهم الاستفادة منها أو الارتفاع إلى مستواه، فمن الناس من أحاطت به ظروف جعلت عبء الحياة عليه شديد الوطأة فناء تحت كلكلها، ومنهم من أحاطت به أحمال جعلته يحمل عبء سواه، فهو في كفاح دائم ونضال مستمر وعمل لا ينقطع، وكذلك الأمم في حياتها تتقلب بها الحادثات وتنتابها عوامل الاجتماع، فهي أحياناً وادعة مستسلمة، وأحياناً كادحة مجاهدة، وإنما يحمل عبء الجهاد فيها أصحاب الدعوات الخالصة والمبادئ السليمة، ورجال الإصلاح والعزائم، الذين آمنوا بوجوب العمل، واعتقدوا ضرورة الحاجة إلى إيقاظ هؤلاء النفر اللاهين والنائمين من أبناء الأمة. ودعاة الحق والإصلاح وأصحاب النفوس الكبيرة لابد أن يجاهدوا ولابد أن يعرفوا أن الكفاح قدرهم فيستعدوا لكفاح طويل لا نهاية له، فإن حاجات الأمم أطول من أعمارها مهما طالت، وعليهم ألا يقصروا أو ينوا في أداء المهمة العظيمة التي كان من حظهم أن يحملوا عبئها ويُنتدبوا للقيام بها.
وهم إذا فعلوا ذلك فقد أعد الله لهم أعظم الأجر لقاء جهدهم الدائب، وهم إذا حرموا أنفسهم لذائذ الدنيا الفانية في حياتهم القصيرة، فقد أعد الله لهم في خلد جنته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فإن سمت أنفسهم عن الزائل وجاهدوا في الله حق جهاده، رأوا في لذة العمل الصالح وفي سعادة النجاح وسادة المجتمع ثواب عملهم وجهادهم في الدنيا قبل الآخرة، وفي الحياة الفانية قبل الباقية ولن يضيع الله ذلك الأجر، بل سيضاعفه. وشتان بين ثواب الله ورضاه، وبين ما يفنى ويزول، بين لذة الحياة الدنيا، ولذة الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل 38 (التوبة) "ولموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها" (رواه البخاري).
فإذا أبوا إلا القعود واستسلموا للضعف، وسلموا الراية وخانوا الأمانة، فهناك العذاب الأليم والجزاء الوفاق في الدنيا قبل الآخرة.
ولن يدع الله إن شاء الله الراية بغير حَمَلة، ولن يترك إسلامه ودعوته بغير أنصار، بل يديل الله منهم ويستبدل قوماً غيرهم، ويكون إثم المقصرين القاعدين الذين كرهوا العمل وسئموا الكفاح على أنفسهم، والضرر حائق بهم ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله(فاطر:43).
وعلى المجاهدين أن يعلموا أن شرف العمل عظيم وفضله كبير من حيث اختارهم الله لحمل الأمانة ونصرة دعوته، ولو لم يكن من الثواب إلا هذا التكريم لكان فيه الكفاية والغناء، فإن الله لا يختار لهذا الشرف إلا من أحبهم، وماذا يرجو مؤمن بعد، أن يكون لربه حبيباً ومن رسوله قريباً، فيشكر الله على هذه المنة، ولا يرى لنفسه فضلاً في شيء؟ بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين 17 (الحجرات:17).
وبعد: فهل هناك اليوم عذر لقاعد عن العمل للإسلام أو أمته، أو متقاعس عن الدفاع عن بيضته، أو مفرط في دينه وعقيدته؟ بعد هذه الحوادث الجسام التي تعيشها الأمة وتكاد تستأصل شأفتها وتمحو عزتها! إنه لمن المفروض والمؤكد على كل مؤمن اليوم أن يضع نفسه تحت تصرف أمته، دفاعاً على عقيدته التي آمن بها، يذود عنها ويعمل لها، ويجاهد في سبيلها بنفسه وماله، ولا عذر لأحد في ذلك.(/1)
قرأ أبو طلحة رضوان الله عليه سورة براءة، فآتى على هذه الآية انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله (التوبة:41) فقال: أرى ربنا قد استنفرنا شيوخاً وشباناً، جهزوني يا بَني، فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله ص حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى وركب البحر ومات مجاهداً في سبيل الله.
وشهد أبو أيوب الأنصاري مع رسول الله ص بدراً ثم لم يتخلف عن غزوة للمسلمين إلا عاماً واحداً، قال ابن سيرين: وكان أبو أيوب يقول: قال الله تعالى انفروا خفافا وثقالا فلا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً، ومازال رضي الله عنه المجاهد القوي، والجندي الفتي، حتى مات ابن يثرب ربيب الصحراء شهيداً على أسوار القسطنطينية، ونام شهيداً سعيداً قرير العين هادي النفس على ضفاف البسفور... هؤلاء هم رجال رمضان ورجال القرآن الذين استفاوا الكثير من هذه النفحات العلوية، وهذه الأجواء الإيمانية فعاشوا كراماً. فهل نفقه الدروس والعبر؟.. نسأل الله ذلك.(/2)
نفحات من شهر الصيام
الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة , بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنه , ورد أمله وخيب ظنه , إذ جعل الصوم حصنا لأوليائه وجنة , وفتح لهم به أبواب الجنة , وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة , وأن بقمعها تصبح النفس المطمئنة , ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة , والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ذوي الأبصار الثاقبة , والعقول المرجحة وسلم تسليما كثيرا .
تعريف الصيام :
لغة : من صام بمعنى أمسك , فالإمساك والصيام في اللغة بمعنى واحد .
قال تعالى :{فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } [سورة مريم : 26]
وشرعاً : هو التعبد لله تعالى بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
حكمه : الوجوب .
مرتبته : أحد أركان الإسلام .
ومن حكمة الله تعالى أن نوع العبادات على العباد ليختبر حال المكلف وكيف يكون امتثاله , فمن العباد من يفتح له في الصلاة ولا يطيق الصوم ومنهم من يفتح عليه في الصلاة والصوم ولا يفتح له في الزكاة فنوع الله العبادات ليسابق من شاء الله له الهداية ويأطر نفسه على جميع الطاعات , مهما كانت بعيدة عن هوى النفس .
مقاصد الصيام :
1- نرى أنه مرتبط بالإيمان الحق , فهو قضية قلبية لأنه بين العبد وربه , ومن أعظم معاني الصوم تربية الإيمان وتحقيق التقوى , والتطلع إلى الدار الآخرة .
قال تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [سورة البقرة : 183]
2- وقاية من النار ,
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الصِّيَامُ جُنَّةٌ .[رواه البخاري (1904) ومسلم (1151)]
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا [رواه البخاري (2840) مسلم (1153)]
3- سبيل إلى الجنة
عَنْ سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ .[ رواه البخاري (1896) مسلم (1152)]
قال ابن القيم رحمه الله :
أَبْوَابُهَا حَقٌّ ثَمَانِيَةٌ أَتَتْ
فِي النَّصِ وِهِي لِصَاحِبِ الإِحْسَانِ
بَابُ الجِهَادِ وَذَاكَ iiأَعْلَاهَا
وَبَابُ الصَّوْمُ يُدْعَى الْبَابُ iiبِالرَّيَّانِ
وَلِكُلِّ سَعْيٍ صَالِحٍ بَابٌ
وَرَبُ السَّعْي مِنْهُ دَاخِلٌ iiبِأَمَانِ
وَلَسَوْفَ يُدْعى الْمَرْءُ من iiأَبْوَابِهَا
جَمْعًَا إِذَا وَفَّى حُلَى iiالإِيمانِ
4- وقاية من الشهوات
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ , فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ , وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ . [ رواه البخاري (1905) مسلم (1400) ]
5- كفارة للذنوب
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.[ رواه البخاري (1901) مسلم (760)]
6- سبب للسعادة في الدارين
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ.[ رواه البخاري (1904) مسلم (1151)]
7- خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ .[ رواه البخاري (1894) مسلم (1151)]
8- شهر القرآن
قال تعالى :
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [سورة البقرة : 185](/1)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ .[ رواه البخاري (3220) مسلم (2450)]
9- شهر الجهاد
فناهيك أن أعظم معركتين كانتا في رمضان : بدر , وفتح مكة .
10- شهر النفقة والإنفاق
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ.[ رواه البخاري (3220) مسلم (2450)]
11- شهر التوبة
فيه ثلاثة أمور تكفر الذنب :
1 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.[ رواه البخاري (35) مسلم (760)]
2 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.[ رواه البخاري (37) مسلم (760)]
3 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.[ رواه البخاري (38) مسلم (760)]
12- شهر الدعاء
فقد وسط سبحانه الدعاء آيا ت الصوم فقال تعالى : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)} [سورة البقرة : 186]
هناك خمسة أسباب لإجابة الدعاء :
1- اختيار الزمان الفاضل ( وقت السحر – دبر الصلوات المكتوبات – بين الآذان والإقامة – آخر ساعة من يوم الجمعة – عند الصيام – يوم عرفة )
2- اختيار الأماكن الفاضلة ( المساجد – مكة - )
3- صفة الداعي ككونه مسافراً – أو أباً يدعوا لولده – أو صائم – أو مجاهد – أو مظلوماً – أو مضطراً منقطعاً لله تبارك وتعالى انقطاعاً تاماً
4- صفة الدعاء مثل أن يكون الداعي متوضأ مستقبل القبلة وداعياً باسم الله الأعظم وبصفاته الحسنى
5- زوال المانع من أكلٍ للحرام وغيره .
فائدة : الاعتداء في الدعاء منهي عنه ( مثل الدعاء بقطيعة رحم والدعاء بغير الله ... )
حال العباد في رمضان :
الصنف الأول :
يفرحون بهذا الشهر فرح القادم بغائبه وحبيبه ويسرون بقدومه , لما علموا فيه من زيادة الإيمان وفتح أبواب البر , وتعظيم الطاعات .
فهؤلاء علموا أن الامتناع عن اللذات في الدنيا سبباً لحصوله في الجنة , وأن الله يجزي فيه من الأجر ما ليس في غيره , ويعلمون أن الصفقة مع الله - عز وجل - رابحة , ويعلمون أن ذلك استسلام لله - عز وجل - وأنه من كمال العبودية أداء فرض الله , ويقومون الليل إيماناً واحتساباً ويقرأون القرآن ويخرجون من رمضان وقد أدوا ما افترض الله عليهم .
الصنف الثاني :
قوم يستعظمون قدوم هذا الشهر فتضيق نفوسهم وتعظم شهواتهم فيغرونه بجميع أنواع الملذات ويستغرقون في كل الشهوات .
متى فُرض الصيام ؟
فُرض في السنة الثانية من الهجرة .
ويجب صوم رمضان برؤية الهلال
فلو أجمع علماء الفلك أن الليلة من رمضان والهلال لم ير فلا يجوز الصيام ولكن وجب الصيام مع أهل البلد حتى لا تحدث الفرقة بين البلد الواحد .
أقوال العلماء في بدأ الصوم :
القول الأول :
إذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم لقوله - صلى الله عليه وسلم -حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ.[ رواه البخاري (1909) مسلم (1081)]
وذلك أقرب لاتحاد المسلمين , فلو ثبتت رؤية الهلال في أي بلد مسلم وجب على أهل الأرض الصيام .
القول الثاني :
لا يجب إلا على من رآه ومن في حكمه , والتوقيت يختلف من مكان إلى آخر .
القول الثالث :
الناس تبع للإمام فإذا صام صاموا وإذا أفطر أفطروا .
والراجح أن كل بلد يصوموا مع بلدهم وهذا لتوحيد الكلمة , وهذا ما أفتى به الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ الألباني رحمهما الله .(/2)
والذي يرى الهلال لا بد أن يكون عدلا مؤدياً للواجبات تاركاً للكبائر ولم يصر على صغيرة , وأن يكون قوي البصر.
دخول رمضان بشاهد , والخروج بشاهدين .
من رآه بنفسه ولم يعتد بقوله يصوم سراً وفي الفطر لا يفطر بمفرده بل يفطر مع باقي المسلمين الصوم يوم تصومون
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ وَالْفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَالْأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ [رواه الترمذي (697)] وقَالَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَفَسَّرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا أَنَّ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَعُظْمِ النَّاسِ .
أحكام الصيام :
المفطرات :
1- الأكل .
2- الشرب .
3- الجماع .
فمن تعمد فعل شيء من هذه الأشياء فقد أفطر بالإجماع .
ومن المفطرات أيضا
4- القيء العمد .
5- الاستمناء بأي وسيلة .
من أفطر في رمضان , ماذا عليه ؟
- إن كان بأكل أو بشرب فعليه التوبة وصيام يوم مكانه .
- وإن أفطر بالجماع فعليه أربعة أشياء :
• عليه الإمساك بقية يومه لا يأكل ولا يشرب .
• عليه التوبة .
• عليه القضاء .
• عليه الكفارة ( عتق رقبة , صيام شهرين , إطعام ستين مسكيناً , فمن لم يجد سقطت الكفارة)
رخص الصيام :
1- من أكل وشرب ناسياً
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ . .[ رواه البخاري (1933) مسلم (1155)]
2- من أصبح جنباً فلا شيء عليه
عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ.[ رواه البخاري (1926) مسلم (1109)]
3- السواك
عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ.[ رواه البخاري تعليقا]
4- المضمضة والاستنشاق مع عدم المبالغة
عَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا .[رواه الترمذي (788) النسائي (86) أبو داود (2366) ابن ماجة (407) أحمد (15945)]
5- تقبيل الزوجة وعناقها ومباشرتها دون الجماع إلا أن خُشيَّ على نفسه الوقوع في الجماع فيتجنب ذلك .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ.[ رواه البخاري (1927) مسلم (1106)]
6- تعاطي الأدوية التي لا تصل إلى الجوف , إلا البخاخة عند الضرورة .
7- الاكتحال والتقطير في العين .
8- بلع الريق مما جرت العادة بجريانه من الفم أو الأنف إلى الحلق .
9- المسافر له أن يفطر .
10- المرأة الحامل والمرضع تفطر وعليها أن تطعم إذا خافت على أولادها .
11- الكبير الذي لا يستطيع الصوم عليه الفدية .
12- ذوق الطعام
13- الاغتسال والتبرد بالماء وكذا المضمضة التي ترطب الفم والسان .
14- الحجامة ما لم تؤدي إلى ضعفه فقد احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم وحديث أفطر الحاجم والمحجوم أفتى العلماء بنسخه .
15- ويستحب تعجيل الفطر وتأخير السحور .
أخطاء بعض الصائمين :
1- الإقبال على العبادة في رمضان وتركها في غيره .
2- الإقبال على ما حرم الله وترك ما أحل الله , أي الصيام عن الأكل والشرب والجماع ولكنهم لا يتركون قول الزور والسب والشتم و سائر المحرمات .
3- كثير من الصائمين يصبح عندهم سوء خلق بسبب الجوع والعطش ويقسون على أهلهم وكل هذا بسبب أنهم صائمون .
4- المبالغة في الأطعمة والأشربة بألوانها المختلفة وهذا ينافي حكمة الصيام .
قيام رمضان مغفرة للذنوب :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.[ رواه البخاري (37) مسلم (760)]
وقد بينت عائشة - رضي الله عنه - عدد ركعات القيام(/3)
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَقَالَتْ مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ قَالَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي.[ رواه البخاري (2013) مسلم (738)]
العشر الأواخر من رمضان
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُوكان يجتهد في العشر الأواخر ما لم يجتهد في غيره . [ رواه البخاري (2024) مسلم (1174)]
ليلة القدر :
قال تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} [سورة القدر : 1-5]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.[ رواه البخاري (35) مسلم (760)]
ولذا يستحب تحريها والدعاء فيها .
علامات ليلة القدر :
1- أن الشمس تطلع صبحتها لا شعاع لها .
2- لا حارة ولا باردة وأن الشمس حمراء ضعيفة وقيل لا يرمى فيها بنجم أي لا تتساقط الشهب .
*ما ورد أن الكلاب لا تنبح في هذه الليلة فلا أصل له
الدعاء في ليلة القدر
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ قُولِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي [الترمذي (3513)]قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
نسأل الله أن يتقبل منا صالح أعمالنا
كتبه
أبو محمد(/4)
نفسك
مواعظ و أذكار يا ابن ادام اتق اله واعلم يرعاك الله
ان الله مطلعا عليك ناظرا اليك واعلم يرعاك الله
ان نفسك التى بين جنبيك ان لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل
واتق الله فى نفسك وفى اهلك و فى والديك وفى بيتك وفى عملك و فى كل وقت وحين
واذا خلوت الدهر يوما لاتقل خلوت ولكن قل عليا رقيبا
واعلم ان الله غفورا رحيما و اقبل على الله وجدد التوبة دائما واكثر من قول
لاالة الا انت سبحانك انى كنت من الظالمين
ولاحول ولا قوة الا بالله
و اعلم ان من يتق الله يجعل لة مخرجا ويرزقة من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبة
فاتق الله وتوكل على الله وعد الى الله وجاهد نفسك و الشيطان فان النفس كالطفل الصغير فان تعلقت بالذنوب فافطمها عنها و استعن بالله عليها وعلى الشيطان وعلى الله التوكل والية المصير(/1)
نفقة اللقيط
اللقيط نفس محترمة لا يجوز تركه وتعريضه للهلاك، لأن في ترك الإنفاق عليه هلاكه، وحفظه من ذلك واجب كإنقاذه من الغرق، وهو فرض كفاية. فمن هو المكلف بالإنفاق على اللقيط ؟ وما هي الخطوات التي يجب مراعاتها في الإنفاق على اللقيط ؟
أولا: الرواية الواردة في ذلك :
قال يحيى: قال مالك، عن بن شهاب، عن سنين أبي جميلة - رجل من بني سليم- :أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال:فجئت به إلى عمر بن الخطاب، فقال: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها، فقال له عريفه: يا أمير المؤمنين: إنه رجل صالح، فقال له عمر: أكذلك ؟ قال: نعم، فقال عمر بن الخطاب:" اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته" وفي لفظ : "وعلينا رضاعه "(1).
ثانيا : الخطوات التي ينبغي مراعاتها في الإنفاق على اللقيط :
الخطوة الأولى: نفقة اللقيط في ماله ، وذلك لأن له مال عام أو خاص :
1- المال العام :وهو المال الموقوف على اللقطاء، والموصى لهم . فهذا مال يستحقه بكونه لقيطا.
2- المال الخاص : وهو ما اختص به اللقيط من ثياب أو حلي عليه ، أو تحته من فراش أو سرير، أو في يده من نفقة أو عنان دابة أو مشدود في ثيابه أو ببعض جسده أو مجعولا فيه كدار وخيمة فهو له لأنه آدمي حر فما في يده له كالبالغ،وإن كان مطروحا بعيدا منه أو قريبا مربوطا بغيره لم يكن له لأنه لا يد له عليه.
فإذا لم يوجد مع اللقيط شيء لم يلزم الملتقط الإنفاق عليه في قول عامة أهل العلم.
قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن نفقة اللقيط غير واجبة على الملتقط كوجوب نفقة الولد وذلك لأن أسباب وجوب النفقة من القرابة والزوجية والملك والولاء منتفية فالالتقاط إنما هو تخليص له من الهلاك وتبرع بحفظه فلا يوجب ذلك النفقة كما لو فعله بغير اللقيط(2).
أقوال الفقهاء في أن نفقة اللقيط من ماله :
- مغني المحتاج : ونفقته :أي اللقيط ومؤنة حضانته ليست على الملتقط بل في ماله:
1- المال العام كالوقف على اللقطاء والوصية لهم، فإن قيل: كيف يصح الوقف عليهم ووجودهم لا يتحقق بخلاف الوقف على الفقراء؟ وأجيب: بأن الجهة لا يشترط فيها الوجود وإلا لم يصرف إلى من حدث فالموقوف عليه الجهة ويكفي إمكانها.
وأما إضافة المال إلى اللقيط ففيه تجوز! فإنه في الحقيقة ليس هو ماله بل مال الجهة العامة، ولكن المراد أنه يصرف إليه منه، وإن لم يكن ملكه لعموم كونه لقيطا أو موصى له، وقد يكون المال له بخصوصه كالوقف عليه نفسه أو الهبة أو الوصية له، ويقبل له القاضي من ذلك ما يحتاج إلى القبول.
2- المال الخاص: وهو ما اختص به كثياب ملفوفة عليه، وملبوسة له، ومفروشة تحته، ومغطى بها، ودابة مشدودة في وسطه، أو عنانها بيده، أو راكبا عليها ، وما في جيبه من دراهم وغيرها ، كذهب وحلي، ومهده وهو سريره الذي هو فيه، ودنانير منثورة فوقه ومنثورة تحته، فهذا كله ماله لأن له يدا واختصاصا كالبالغ(3)، والذي يلاحظ غالبا في هذا الزمان وجود اللقيط وبجانبه مال يضعه من وضع اللقيط زيادة في تحفيز من رآه ليأخذه، ورحمة بهذا الصبي .
تنبيه :عند وجود المال العام والخاص للقيط :الأصح – والله أعلم _: تقديم الخاص لأنه مقصور عليه، ولأنه لو كانت حضانته على أبيه الموسر وله مال كانت نفقته في ماله فهذا أولى، ولأن الإنفاق عليه من بيت المال للضرورة و لا ضرورة إذا كان له مال، فلا ينفق من العام إلا عند فقد الخاص .
- العدة شرح العمدة: وما يوجد عليه من الثياب والحلي، أو تحته من فراش أو سرير أو غيره فهو له، وكذلك كل ما عنده من المال ،فهو خاص به لأنه آدمي حر فأشبه البالغ(4).
- الإقناع : وما وجد معه من فراش تحته، أو ثياب، أو مال في جيبه، أو تحت فراشه أو مدفونا تحته طريا أو مطروحا قريبا منه : كثوب موضوع إلى جانبه أو حيوان مشدود بثيابه فهو له وأن كان في خيمة أو دار فهي له(5).
- الكافي في فقه ابن حنبل: ( وما يوجد معه فهو له، وأما المدفون تحته فليس له لأن البالغ لو جلس على دفين لم يكن له، وقال ابن عقيل: إن كان الحفر طريا فهو له لأن الظاهر أنه حفر النابذ له، وإن وجد بقربه مال موضوع ففيه وجهان :
أحدهما : هو له إن لم يكن له غيره لأن الإنسان يترك ماله بقربه.
الثاني : ليس هو له لأنه لا يد له عليه)(6).
-كفاية الأخيار: اللقيط قد يكون له مال عام أو خاص، فالأول: كالوقف على اللقطاء والوصية لهم ، والثاني: ما يوجد تحت يده فيكون مختصا به، لأن للصغير يدا واختصاصا كالبالغ إذ الأصل الحرية ما لم يعرف غيرها، والمختص به كالثياب التي هي لا بسها، ومفروشة تحته، وملفوفة عليه، وكذا ما غطي به كاللحاف وغيره ، وكذا ما شد عليه أو جعل في جيبه من دراهم وحلي وغيرهما، وكذا دابة عنانها بيده ولو كان في خيمته فهي له ، أو في دار ليس فيها غيره ، أو في بستان وجهان : حكاهما الماوردي(7).(/1)
- زاد المستقنع : (وما وجد معه أو تحته ظاهرا أو مدفونا طريا أو متصلا به كحيوان وغيره أو قريبا منه فله، وينفق عليه منه).(8)
- بدائع الصنائع: ولو كان معه مال مشدود عليه فهو له، لأن الظاهر أنه ماله فيكون له كثيابه التي عليه، وكذا إذا وجد مشدودا على دابة فالدابة له، وهكذا كل ما اتصل به، وعليه فتكون النفقة عليه من ماله، وليس على الملتقط أن ينفق عليه من مال نفسه لانعدام السبب الموجب للنفقة عليه، ولو أنفق عليه من مال نفسه: فإن فعل بإذن القاضي له أن يرجع عليه، وإن فعل بغير إذنه لا يرجع عليه لأنه يكون متطوعا فيه(9).
- الروض المربع: وما وجد معه من فراش تحته، أو ثياب عليه، أو مال في جيبه، أو تحته ظاهرا أو مدفونا طريا أو متصلا به كحيوان وغيره مشدودا بثيابه أو مطروحا قريبا منه فهو له عملا بالظاهر، ولأن له يدا صحيحة كالبالغ وينفق عليه منه ملتقطه بالمعروف لولاية عليه(10).
- المهذب: (ولهذا لو وجد لقيط ومعه مال كان المال له)(11).
- المغني : إذا وجد مع اللقيط شيء فهو له، وينفق عليه منه، وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي، والسبب في ذلك أن الطفل يملك وله يد صحيحة ، بدليل أنه يرث ويورث، ويصح أن يشتري له وليه ويبيع فكل من له ملك صحيح فله يد صحيحة كالبالغ فكل مال اتصل به أو تعلق بمنفعته فهو تحت يده ويكون ملكا له في الظاهر وذلك مثل: ما كان لابسا له أو مشدودا في ملبوسه أو في يديه أو مجعولا فيه كالسرير، وما فيه من فرش أو دراهم، والثياب التي تحته والتي عليه، وإن كان مشدودا على دابة أو كانت مشدودة في ثيابه أو كان في خيمة أو في دار فهي له(12).
- الكافي في فقه ابن حنبل : وينفق عليه من ماله لأنه حر فينفق عليه من ماله كالبالغ، ويجوز للولي الإنفاق عليه من غير إذن الحاكم لأنه ولي، ولأن هذا من الأمر بالمعروف فاستوى فيه الإمام وغيره ، ويستحب استئذانه لأنه أنفى للتهمة، فإن بلغ اللقيط واختلفا في النفقة، فالقول قول المنفق(13).
وروي عن أحمد: في رجل أودع رجلا مالا وغاب وطالت غيبته وله ولد ولا نفقة له هل ينفق عليهم هذا المستودع من مال الغائب ؟ فقال: تقوم امرأته إلى الحاكم حتى يأمره بالإنفاق عليهم، فلم يجعل له الإنفاق عليهم من غير إذن الحاكم، فقال بعض الحنابلة: هذا مثله( أي لا يجوز الإنفاق عليه من غير إذن الحاكم)، والصحيح: أن هذا مختلف على الأول من وجهين، أحدهما : أن الملتقط له ولاية على اللقيط وعلى ماله فإن له ولاية أخذه وحفظه، والثاني : أنه ينفق على اللقيط من ماله فمتى لم يجد حاكما فله الإنفاق بكل حال لأنه حال ضرورة، وقال الشافعي: ليس له أن ينفق بغير إذن الحاكم في موضع يجد حاكما، وإن أنفق ضمن بمنزلة ما لو كان لأب الصغير ودائع عند إنسان فأنفق عليه منه وذلك لأنه لا ولاية له على ماله وإنما له حق الحضانة وإن لم يجد حاكما ففي جواز الإنفاق وجهان، والصحيح -والله أعلم _: أن للملتقط ولاية على مال اللقيط، فيستحب أن يستأذن الحاكم في موضع يجد حاكما فيه لأنه أبعد عن التهمة، وفيه خروج من الخلاف، وحفظ لما له من أن يرجع عليه بما أنفق (14).
- منار السبيل : والإنفاق عليه فرض كفاية، وذلك لقوله تعالى :? وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ? [المائدة :2] . وما معه فهو ماله، وينفق عليه مما معه(15).
- كفاية الأخيار : فإن وجد اللقيط ومعه مال أنفق عليه الحاكم منه(16).
- الشرح الكبير : ما وجد مع اللقيط فهو له، فينفق على اللقيط مما وجد معه، وما حكم له به، فإن كان فيه كفايته لم تجب نفقته على أحد لأنه ذو مال فأشبه غيره من الناس وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي(17).
مسألة : وجود اللقيط في دار: إن وجد في دار ونحوها كحانوت ولا يعرف لها مستحق ليس فيها غيره فهي أي الدار ونحوها له ليد ولا مزاحم، وإن وجد فيها غيره كلقيط آخر فهي لهما، أما لو كانا على دابة فلو ركبها أحدهما ومسك الآخر زمامها، فهي للراكب فقط لتمام الاستيلاء(18).
مسألة: وجوده في بستان : لا يحكم للقيط ببستان وجد فيه بخلاف الدار لأن سكناها تصرف، والحصول في البستان ليس تصرفا ولا سكنى، وقضية هذا التعليل أنه إذا كان يسكن عادة يكون كالدار و يكون له صلاحية التصرف فيه، ودفع المنازع له،وقيل: يحكم له به،والصحيح – والله أعلم-:هو الأول (19).
مسألة:وجود مال مدفون تحت اللقيط : وجود المال المدفون تحت اللقيط: اختلف فيه الفقهاء على أقوال:
1- ليس له ذلك، ولو كان تحته وفيه رقعة مكتوب فيها أن الدفين له، لأن الكبير العاقل لو كان جالسا على أرض تحتها دفين لم يحكم له به وحكم هذا المال: إن كان من دفين الجاهلية فركاز، وإلا فلقطة (20).
2- إن كان الحفر طريا، أو متصلا به- خيط متصل بالدفين مربوط ببعض بدنه أو ثيابه- فهو له، وإلا فلا ، أو ورقة مكتوب فيها أن الدفين له فهو له(21) ، وهو الصحيح- والله أعلم- .
مسألة:وجود مال أو متاع منفصلا عنه :(/2)
المال: إما أن يكون متصلا باللقيط أو منفصلا عنه، فما اتصل به فهو له بدون خلاف ، وما انفصل عنه:
1- ليس له ذلك في الأصح، لأن يده لا تثبت إلا على ما اتصل به، بخلاف الموجود بقرب المكلف فإنه يحكم بملكه له.
2- أنه له عملا بالظاهر(22).
قال ابن قدامة : (وأما المنفصل عنه فإن كان بعيدا منه فليس في يده، وإن كان قريبا منه كثوب موضوع إلى جانبه ففيه وجهان: أحدهما : ليس هو له لأنه منفصل عنه فهو كالبعيد، والثاني : هو له وهو أصح لأن الظاهر أنه ترك له فهو له بمنزلة ما هو تحته ولأن القريب من البالغ يكون في يده، ألا ترى أن الرجل يقعد في السوق ومتاعه بقربه ويحكم بأنه في يده، والحمال إذا جلس لاستراحة ترك حمله قريبا منه)(23)
تنبيه : الذي يضبط القرب والبعد العرف .
الخطوة الثانية : إن لم يوجد مع اللقيط مال ، فلا يلزم الملتقط الإنفاق عليه في قول عامة أهل العلم، وتقدم قول ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن نفقة اللقيط غير واجبة على الملتقط كوجوب نفقة الولد(24)، وذلك لأن أسباب وجوب النفقة من القرابة والزوجية والملك والولاء منتفية، فالالتقاط إنما هو تخليص له من الهلاك وتبرع بحفظه، فلا يوجب ذلك النفقة كما لو فعله بغير اللقيط.
ومن أنفق عليه متبرعا فلا شيء له سواء كان الملتقط أو غيره، وإن لم يتبرع بالإنفاق عليه فأنفق عليه الملتقط أو غيره محتسبا بالرجوع عليه إذا أيسر وكان ذلك بأمر الحاكم لزم اللقيط ذلك إذا كانت النفقة قصدا بالمعروف، وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وإن أنفق بغير أمر الحاكم محتسبا بالرجوع عليه، فقال أحمد: تؤدى النفقة من بيت المال، والسبب: أنه أداء مال واجب على غيره فكان له الرجوع على من كان الوجوب عليه كالضامن، وقال شريح والنخعي: يرجع عليه بالنفقة إذا أشهد عليه، وقال عمر بن عبد العزيز : يحلف ما أنفق احتسابا فإن حلف استسعى، وقال الشعبي ومالك
والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي وابن المنذر : هو متبرع به(25)، وهذا هو الصحيح – والله أعلم- ، لأن إذن الحاكم في ذلك ضمان لرجوع حقه دون خلاف.
فليس على الملتقط نفقته إلا على سبيل التبرع، لقول عمر- رضي الله عنه-:"وعلينا نفقته" ، ولأنه لا نسب بينهما، ولا ملك، فأشبه الأجنبي، ولأنه آدمي حر له حرمة فوجب على السلطان القيام به عند حاجته كالفقير.
قال ابن وهب :( من أنفق على لقيط كان متطوعا )(26).
- في الإقناع : ( ولا يجب نفقته على ملتقطه) (27).
- في اللباب شرح الكتاب: (والملتقط متبرع في الإنفاق عليه لعدم الولاية، إلا أن يأمره القاضي به ليكون دينا عليه لعموم ولايته)(28) .
وأما المالكية: فيوجبون على الملتقط الإنفاق على اللقيط إن لم يكن له مال خاص، ولم يتيسر أخذ النفقة من بيت المال ،وإنما جعلوا هذا الإلزام بسبب التقاطه للقيطه ، ويستمر إلى بلوغ اللقيط قادرا على الكسب ، وإن كانت أنثى إلى أن تتزوج (29).
الخطوة الثالثة : إن لم ينفق عليه أحد – لا الملتقط ولا غيره على وجه التبرع- فتكون نفقته على بيت المال ، والسبب في ذلك أن بيت المال يرث اللقيط، فميراثه وديته لبيت المال، فلما كان مال اللقيط عائدا إلى بيت المال، فيكون الغنم بالغرم.
وحكم نفقته على بيت المال: واجبة، لقول عمر - رضي الله عنه- في حديث أبي جميلة:" اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته"، وفي رواية:" من بيت المال".
فإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال: السبب في تعذر الإنفاق عليه من بيت المال إن لم يكن في بيت المال شيء، فيستقرض له القاضي من بيت المال، أو كان هناك ما هو أهم من نفقة اللقيط كسد ثغر، استقرض له القاضي، فإن لم يجد من يقرضه جمع القاضي الناس، وقام المسلمون بكفايته قرضا، وعد نفسه منهم، وقسط نفقته على أهل الثروة، ثم إن بان رقيقا رجع على سيده، أو حرا وله مال أو قريب رجع عليه، وإن بان حرا لا مال له ولا قريب ولا كسب قضى الإمام حقه من سهم الفقراء والمساكين والغارمين كما يرى(30).
اقترض عليه_ أي : على بيت المال _ الحاكم، وانفق عليه منه .
أقوال الفقهاء في ذلك:
- الروض المربع : وإن لم يكن مع اللقيط شيء، ولم ينفق عليه الملتقط فمن بيت المال، لقول عمر- رضي الله عنه- : " اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته وفي لفظ وعلينا رضاعه " ولا يجب على الملتقط(31).
- عمدة القاري : ونفقته تكون في بيت المال(32).
- كفاية الأخيار : فإن لم يكن له مال وجبت نفقته في بيت المال، وتكون من سهم المصالح، لأن عمر -رضي الله عنه-: استشار الصحابة في نفقة اللقيط، فأجمعوا على أنها في بيت المال، ولأن البالغ المعسر ينفق عليه منه، وهذا أولى(33).
- الإقناع : وينفق عليه من بيت المال إن لم يكن معه ما ينفق عليه، فإن تعذر اقترض الحاكم على بيت المال، وإن اقترض الحاكم ما أنفق عليه، ثم بان رقيقا، أو له أب موسر رجع عليه، فإن لم يظهر له أحد ففي بيت المال(34).(/3)
- اللباب في شرح الكتاب : ونفقته من بيت المال لأنه مسلم عاجز عن التكسب، ولا مال له ولا قرابة، ولأن ميراثه عائد لبيت المال، والخراج بالضمان(35) .
- المبسوط : ونفقة اللقيط في بيت المال، لأنه عاجز عن الكسب، ومحتاج إلى النفقة، ومال بيت المال معد للصرف إلى المحتاجين، وهو منهم(36).
- بدائع الصنائع : اللقيط إن لم يكن معه مال فنفقته في بيت المال(37)،ولأن ولاءه له(38) ، و قد قال عليه الصلاة و السلام : "الخراج بالضمان "(39).
- الشرح الكبير : وينفق عليه من بيت المال إن لم يوجد معه شيء ينفق عليه، ولم ينفق عليه الملتقط(40).
- مغني المحتاج : إن لم يوجد مع اللقيط مال فنفقته في بيت المال(41).
الخطوة الرابعة : إن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال، وذلك إما:
1- لكونه لا مال فيه.
2- أو كان في مكان لا إمام فيه.
3- أو لم يعط شيئا.
فعلى من علم حاله من المسلمين الإنفاق عليه لقول الله تعالى :? وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ? [المائدة :2] ولأن في ترك الإنفاق عليه هلاكه، وهذا فرض كفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين، فإن تركه الكل أثموا جميعا.
أقوال الفقهاء في هذه الخطوة :
- الروض المربع :فإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال فعلى من علم بحاله من المسلمين، فإن تركوه أثمو(42).
- منار السبيل :فإن تعذر الاقتراض أو الأخذ من بيت المال، فعلى من علم بحاله من المسلمين الإنفاق عليه لأن به بقاءه، فوجب كإنقاذ الغريق، لقوله تعالى :? وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى?[المائدة :2](43).
وإن تعذر الإنفاق عليه من بيت المال فعلى من علم حاله الإنفاق عليه فرض كفاية لأن به بقاءه فوجب كإنقاذ الغريق فإن اقترض الحاكم ما أنفق عليه ثم بان رقيقا أو له أب موسر رجع عليه لأنه أدى الواجب عنه فإن لم يظهر له أحد وفي من بيت المال(44).
- الكافي في فقه ابن حنبل : فإن تعذر الإنفاق عليه، فعلى من علم حاله الإنفاق مجانا، ولا يرجع لأنها فرض كفاية(45).
مسألة: هل يقبض الملتقط للقيط:
في المدونة الكبرى :أرأيت اللقيط إذا تصدق عليه بصدقة أو وهبت له هبة أيكون الذي هو في حجره القابض له ولم يجعله له السلطان ناظرا ولا وصيا قال : نعم(46).
مسألة :أقام رجل البينة أن اللقيط ابنه، فهل يرجع الملتقط عليه بالنفقة:
قال مالك: إذا أنفق عليه الملتقط، ثم أقام رجل البينة أنه ابنه، فإن الملتقط يرجع على الأب إن كان طرحه متعمدا، وكان موسرا، وإن لم يكن طرحه، ولكن ضل منه فلا شيء على الأب، والملتقط متطوع بالنفقة، وقال الليث: إنه يرجع الملتقط بالنفقة على أبيه إذا ادعاه(47).
جمع وإعداد / يونس عبد الرب الطلول
(1) ذكر هذه الرواية البخاري: باب إذا زكى رجل رجلا كفاه ( 2/946 ) رقم 2518، الموطأ ( 2/738) رقم 1417، ، وصححه الألباني في مختصر إرواء الغليل ج 1 ص310 برقم ، 1573.
(2) انظر: المغني (جزء 6 - صفحة 407 )، الشرح الكبير (جزء 6 - صفحة 404).
(3) انظر: مغني المحتاج (2/417).
(4) العدة شرح العمدة ( جزء 1 - صفحة 259).
(5) انظر: الإقناع (جزء 2 - صفحة 405 ).
(6) الكافي في فقه ابن حنبل( جزء 2 - صفحة 203 ).
(7) انظر:كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 )
(8) زاد المستقنع ( 1/450) .
(9) انظر:بدائع الصنائع ( 5/291) .
(10) انظر: الروض المربع (1/450).
(11) المهذب ( جزء 3 - صفحة 353 ).
(12) انظر: المغني ( جزء 6 - صفحة 407 ).
(13)الكافي في فقه ابن حنبل ( جزء 2 - صفحة 203 ).
(14) المغني ( جزء 6 - صفحة 407 )
(15) انظر: منار السبيل ( 1/235).
(16)انظر: كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 ).
(17) الشرح الكبير( جزء 6 - صفحة 406 ).
(18) انظر: مغني المحتاج ( 2/417).
(19) انظر: مغني المحتاج ( 2 / 421 )بتصرف، كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 ).
(20) انظر: مغني المحتاج ( 2 / 421 )بتصرف، الكافي في فقه ابن حنبل( جزء 2 - صفحة 203 ).
(21) انظر: الروض المربع (1/450)، زاد المستقنع ( 1/450)، الكافي في فقه ابن حنبل( جزء 2 -صفحة 203 )، المغني ( جزء 6 - صفحة 407 ).
(22) انظر: مغني المحتاج ( 2 / 421 ) بتصرف.
(23) المغني ( جزء 6 - صفحة 407 ).
(24) المغني ( جزء 6 - صفحة 407 )، الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 404 ).
(25) انظر: المغني ( جزء 6 - صفحة 407 )، الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 404 ).
(26) المدونة الكبرى( جزء 4 - صفحة 263 )
(27) الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405 ).
(28)اللباب في شرح الكتاب ( جزء 2 - صفحة 55 ).
(29) الشرح الصغير للدرير ( ج2ص326) .
(30) انظر: كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 )بتصرف ، الإنصاف ( جزء 6 - صفحة 433 )، مغني المحتاج ( جزء 2 - صفحة 421 ) .
(31)انظر: الروض المربع ( 1/450) .
(32)انظر:عمدة القاري ( جزء 13 - صفحة 237 ).
(33) كفاية الأخيار ( جزء 1 - صفحة 431 ).
(34) انظر: الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405 ).(/4)
(35) انظر:اللباب في شرح الكتاب ( جزء 2 - صفحة 55 ).
(36) المبسوط ( جزء 6 - صفحة 146 ).
(37)بدائع الصنائع ( جزء 3 - صفحة 453 ).
(38) بدائع الصنائع ( 5/291) .
(39)أخرجه أبو داود ج 2ص306 برقم 3508، والترمذي ج3ص 581 برقم، والنسائي ج7 ص 254.برقم 4490.، وابن ماجه ج2 ص 754 برقم 2243 ، وحسنه الألباني في مختصر إرواء الغليل ج 1 ص 257 برقم 1315 .
(40)انظر:الشرح الكبير ( جزء 6 - صفحة 404).
(41)انظر: مغني المحتاج ( جزء 2 - صفحة 417).
(42)انظر:الروض المربع ( 1/450) .
(43)منار السبيل ( 1/235) .
(44)الكافي في فقه ابن حنبل ( جزء 2 - صفحة 203).
(45)الإقناع ( جزء 2 - صفحة 405).
(46) المدونة الكبرى( جزء 4 - صفحة 263 )
(47) التمهيد ( جزء 3 - صفحة 129 ).(/5)
نفوس مصطفاة
الكاتب: الشيخ أ.د.عبدالوهاب بن ناصر الطريري
عاد صلى الله عليه وسلم من غار حراء بعد أول مقابلة مع روح القدس مؤذنة بدء تنزّل الوحي الإلهي، وقد أخذه الرّوع وخشي على نفسه، وكان من صنع الله له أن كان منقلبه إلى تلك المرأة العاقلة الرشيدة زوجه خديجة -رضي الله عنها- فما إن قصّ عليها القصص وبثها مشاعره الإنسانية "لقد خشيت على نفسي"؛ حتى بادرته الجواب بوثوق جازم حازم مستشرف لسنّة إلهية هداها إليها نظر عقليّ، ونضج عمريّ، واستقراء تاريخيّ، ومعرفة لَصِيقة بزوجها الذي عاشت معه خمسة عشر عاماً فخبرت دخيلتَه، وشفّت لها عشرته عن آفاق نفسه ومعدن أخلاقه، ولذا جاء جوابها هذا سريعاً حاسماً بقَسَم معظّم يدلّ على غاية الوثوق واليقين "كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتُكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".
إنّ أمّنا خديجة وهي تدلّ على هذا الناموس الكونيّ، وهو أن الله يحفظ من عباده من يكون بهم قِوام العباد ونفعهم؛ فلا يخزيهم ولا يحزنهم، وأن الله إنما طبعهم على هذه المكارم السمحة لكيما يجعلهم أهل إعزازه وإحسانه، كما أنها دلت أيضاً على هذا الخلق المحمديّ الذي كان ملازماً للنبي -صلى الله عليه وسلم- منذ نشأته الأولى، وقبل أن ينزل عليه وحي ربّه، ولذا فإن الأبرار أمثاله لا يُخذلون أبدًا، وإذا نظرت إلى هذه الشمائل الكريمة التي ذكرتها خديجة -رضي الله عنها- وجدت أن القاسم بينها نفعُ الناس، وقضاء حوائجهم، وسدّ خلّتهم؛ فذو الرحم يوصل، والعاجز يُحمل، والمعدوم يُكسب، والضيف يُقرى، والنوائب تُقضى.
إنها أصول مكارم الأخلاق التي تصدر عن نفوس كريمة وقلوب رحيمة تتحمل هموم الناس، وتتلمّس حاجاتهم، وتقضي نُوَبهم، وتغيث لهَفَاتهم، وكل هذه كانت صفات فطريّة لمحمد -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينبّأ بما في الصحف الأولى، عرفتها خديجة عن خبرة عميقة، وصلة وثيقة، إنها صلة الزوج بزوجها.
وثمة مشهد نبوي آخر كاشف عن هذه الحقيقة، وهو مشهد موسى -عليه السلام- لمّا ورد ماء مدين، فوجدهم يسقون أغنامهم، ومن دونهم امرأتان تذودان غنمهما عن ورود الماء، وكان منظراً أثار استغرابه وتساؤله، ولذا قصد إليهما سائلاً:(ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير)، ما الذي يجعل نفس موسى تستغرب وتستنكر هذا المنظر؟ إنها استقامة أخلاقيّة ترى حق الضعيف الرعاية والتقديم وليس الإقصاء والتأخير (فسقى لهما). إنها المبادرة السريعة لدواعي المروءة والشهامة والكرامة الأخلاقيّة، ولذا عبّر القرآن بالفاء التي تقتضي الترتيب والتعقيب، مما يوحي بسرعة الاستجابة لرعاية هذه الحال، وإنك لتعجب من رجل غريب في أرض لا يعرفها، وأناس لا سند له فيهم ثم هو لاغب مجهود، قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد، مطارَد من عدو باطش لا يرحم؛ فهو من أحواله هذه في شغل شاغل، ولكنه مع هذا كله استغرب ما تنكره أخلاقه، وتجاوب مع دواعي مروءته الفطريّة، في حين أن أهل حيهما وجيرتهما لم يبالوا بهما ولم يهمّهم شأنهما.
إن هذه المشاهد تدل على حقيقة مهمة، وهي أن الله يصطفي لرسالاته العظيمة نفوساً عظيمة، ومن أعظم جوانب عظمتها الحدْب على الناس، وتبنّي قضاياهم، والسعي الحثيث في حوائجهم، وأن رحمتهم بالناس جعلتهم مثابة للضعيف والمعدوم؛ فكل ذي نائبة يجد منهم العون، ويتلقّى العطف والرحمة، ولذا فإن تكليفهم باستنقاذ البشرية من الضلال، وهدايتهم إلى الحق يلاقي في نفوسهم شوقًا إلى نفع الناس والبرّ بهم، والإحسان إليهم، إنها قلوب كريمة عامرة برحمة الخلق والرأفة بهم.
إن هذا المعنى الجليّ الواضح في حياة أنبياء الله ورسله ينبغي أن يكون حاضراً في نفوس ورثة الأنبياء؛ فإنه بقدر تخلّقهم بأخلاق النبوة يكون أداؤهم لميراث الأنبياء؛ فأهل العلم والدعوة لا بد أن يكون لهم عمق اجتماعي يجعلهم ملاذًا للناس في قضاء حوائجهم، وتبني قضاياهم، والسعي في أمورهم، ورحمتُهم بالناس هي من آثار رحمة الله بخلقه (فبما رحمةٍ من الله لنتَ لهم) وبدون ذلك يكون دورهم في الأمة محدوداً وأثرهم في الناس منقوصاً.
لقد كان من سعادة أعمارنا أن عرفنا إمام عصرنا سماحة الشيخ ابن باز –رحمه الله- فرأينا ثم ذاك التناغم الجميل بين أخلاق النبوة وميراثها في صورة رائعة من صور الاقتداء والتقفّي للأثر النبوي؛ فكان -رحمه الله- آية في بذل نفسه وجاهه وماله في نفع الناس والعطف عليهم وقضاء حوائجهم، كما كان كذلك في تعليمهم وإرشادهم ودعوتهم ولذا عظم أثره، وكان له من المكانة في الناس ما لم يكن لغيره، ولا أرى أصحاب التأثير في الأمة إلا أولئك الذي جمعوا إلى علم النبوة هذه المكارم الأخلاقيّة النبويّة؛ فرحم الله بهم الخلق وجعلهم للناس مثابة وأمنا(/1)
نقد الإطار المعرفي التربوي اللبرالي
18-6-2006
بقلم د. علي خليل أبو العينين
"...إن المعرفة التربوية الغربية المعاصرة وتطبيقاتها قد وصلت بإنسانها إلى طريق مسدود، وتعيش أزمة حادة بالرغم من مظاهر الصحة والحيوية التي قد تبدو عليها..."
يعتبر هذا الإطار المعرفي للرؤية التربوية الليبرالية الغربية سليل ثلاثة أصول، إليها ترتد أصوله، ومنها تتكون كافة اتجاهاته ومفرداته وتوجيهاته وتجلياته وهي : الفكر الإغريقي، والفكرة الرومانية، والديانة المسيحية .
أما الفكر الإغريقي : فنشأ في بيئة جغرافية ألقت بظلالها على النظام الفكري والاجتماعي, فيما يطلق عليه: ( المدينة/ الدولة )، وكان لكل مدينة دولة نمت نموها الخاص بها، حسب الظروف المحيطة بها وبالتالي أثرت في تكوينها الفكري الأيديولوجي وانعكس هذا على تصوراتها عن الإنسان والإله والوجود الحضارة، وبإيجاز شديد يمكن عرض ما تميز به الفكر الاغريقي فيما يلي:
(أ) العقلانية : بمعنى التعلق بالعقل والإيمان المطلق به, بحيث تكون كل ألوان النشاط الإنساني محكومة بالعقل ونشاطه, وهذا ما تفرد به الاغريق ، فلم يكن هناك فكر ثابت, بل متحرك متغير, متجدد بفعل المؤثرات الخارجية, وقامت هذه العقلانية على أساس القياس والاستنتاج والتوليد, والخضوع لمباديء عقلية صرفة مثل استحالة الجمع بين النقيضين, وربط الأسباب بمسبباتها، وبلغ هذا ذروته في منطق أرسطو الذي هو نتاج عقلي لتنظيم عمل العقل, ونشاط إنساني ووظيفة بشرية .
(ب) الإنسانية : وقد ظهر أثرها فيما أنتجه الفكر الإغريقي من علم وفلسفة وفن بشكل ميزهم عن غيرهم، حيث اتخذ الإغريق من الإنسان موضوعا لاهتمامهم، فجعلوه موضوع تأملهم ودراساتهم, بل وتناولوا كل موضوع آخر من زاوية علاقته بالإنسان، حتى أنهم قالوا : إن الإنسان هو المقياس الوحيد الذي يقاس به كل شيء آخر في الكون ، ولا يخفى بعد ذلك نزعتهم التي "مجدت القدرات الإنسانية، وشحذت من الإمكانيات البشرية، وسارت في ذلك إلى نهاية الشوط الذي يغلب النزعة الإنسانية على كل شيء، ونعني بالنزعة الإنسانية هنا، هو ذلك الإنسان في مقابل الكون والوجود القوة العليا، قد يحاربه القدر الأعمى، وقد يسقط ولكن سقوط أبطال التراجيديا يثير الشفقة والرحمة"[1] .
حتى الآلهة، فقد اكسبوها ثوباً إنسانياً يكاد يلغي البعد بينها وبين الإنسان حتى قيل إن الآلة عند هومير بشر، والبشر آلهة، ووجدت عشرات الآلهة التي تحارب بعضها، وتغضب وتثور، وتهدد وتنذر ثم تهدأ وتلعب وتشرب الخمر .
(ج) النزعة الفردية : وهي انعكاس للإنسانية، حيث يدل تراث هذا الفكر على عظمة الإنسان الفرد، وقدرته على غلبة الطبيعة، وكان المجال واسعاً لنمو "الشخصية الفردية في جميع مظاهرها السياسية منها والخلقية والعلمية والفنية" [2] .
إن هذا الانعكاس واضح لطبيعة لم تعرف الوحدة السياسية بين بلدانها إلا في حالات نادرة، فقد كانت كل مدينة دولة تحاول "أن تنتصر على الطبيعة وأن تجعلها في متناول الإنسان وفي خدمته، ومن ثم كان الطابع العام للإنسان الاغريقي هو حب التملك، والتفكير في نفسه وفي وحدته الصغيرة، قبل أن يفكر في الآخرين الذين يعيشون في عزلة عنه" [3]، حتى الإنتاج الفني يعكس هذا ويجسده في كتب التماثيل للإنسان والآلهة، وأدبهم معبر عن هذه الفردية .
(د) الحياة السعيدة : أن يعيش الاغريق حياة كلها سعادة "تشبه حياة الآلهة أثناء وجودهم على الأرض" كان كل هدفهم، الذي ليس مرده رغبة الآلهة، بل مرده إلى "نوع الحياة التي وافقوا عليها أنفسهم"[4]ومن ثم جاءت تربيتهم أبناءهم على نفس الشاكلة، تدريب الناشئة على تنمية الملكات الفردية بحيث يحصلون السعادة لأنفسهم .
أما الفكرة الرومانية : فقد كانت ربيبة الفكر الاغريقي، إن كان ثمة فكر يوناني خارج إطار القانون الروماني، وقد تميزت هذه الفكرة بعدة مميزات: الأسرة في مقابل الفردية : حيث كانت الأسرة هي رابطة بين الأشخاص والأشياء والآلهة، وكانت هي المركز الذي يلتف حوله الدين والخلق والنظام كله، وكيان الدولة، بل كانت هي المنبع الذي تستمد منه كافة مقومات الحياة .
الآلهة مع تعددها مجرد معنويات مجردة، كالصحة والشباب، ولكل عمل في الحياة إله خاص به يتولاء ويشرف عليه وكان لكل أسرة آلهتها الخاصة بها، مع أن الديانة كانت رسماً من رسوم الدولة العامة التي تعمل على توثيق الروابط بين الأسرة والدولة والحكومة والأفراد .
تكوين الإمبراطورية كان صدي للإيمان بالأسرة : ومن ثم ظهرت عبقريتهم في التطبيق والإدارة والتنظيم، وعلى وجه خاص في التنظيم السياسي والإداري والقانوني، وانعكس هذا على تربية الشباب على الطاعة، والنفعية، والجماعية، فلم يكن للفرد نصيب وافر من الظهور، بل كانت الأسرة مقدسة، والحياة الاجتماعية هي الأساس، فالأب يفرض والابن يطيع، والدولة تفرض والأفراد يطيعون .(/1)
أما الديانة المسيحية : فبعد انتقالها إلى الغرب غدت ديانة الإمبراطورية الرومانية، ولكنها تحولت عن جوهرها الحقيقي، لتطوع للطابع المادي للحضارة اليونانية/الرومانية، ولقد صدق القاضي عبدالجبار بن أحمد ( 415هـ/ 124 ) عندما سبر غور هذه الحقيقة فعبر عنها بعبارته الجامعة التي يقول: "إن النصرانية عندما دخلت روما لم تتنصر روما ، ولكن المسيحية هي التي ترومت" [5] ، وما كان لها أن تعيش في الغرب لولا ما ساندها من القوانين الرومانية، والأنظمة التي فرضتها ليعيش الناس تحت لوائها، وكذلك "لولا القلق الذي أوجده تفكك الإمبراطورية الرومانية، ما أتيح لها أن تنتشر على النحو الذي انتشرت به في أوروبا" [6] .
وعموما فقد تميزت الديانة المسيحية - في أوربا - بخاصتين : (الأولى) : الازدواج العقدي الذي يفصل بين الدين والواقع التاريخي، و(الثاني) : هيمنة الكنيسة على الضمائر والسلوك والعقول .
وعموماً، يتمثل الأثر الذي تركته الكنيسة في الفكر الغربي في ناحيتين :
(أحداهما) : إيجابية، وهي حفظ اللغة اللاتينية من التدهور والاندثار، مما حفظ التراث الاغريقي في الفلسفة والفكر والذي كان أساسا لبناء اللاهوت المسيحي، واحتفاظها بالقانون الروماني الذي تقي أساسا لحكومة الكنيسة بعد ذلك .
و(ثانيتهما) : سلبية : تمثلت في تجميد الحياة والفكر ومصادرتهما لحساب الكنيسة وبأبواتها، مما أدى إلى الخروج على الكنيسة بعد ذلك في ردة بالغة الانحراف نحو المادية الاغريقية بنزعتها العقلية والإنسانية وتمجيد الفردية وغلبة الطبيعة وقهرها .
لقد التقت هذه العناصر الثلاثة في الحياة الأوروبية، منذ عصر النهضة، وظل كل واحد منها يعمل عمله مستقلا عن الآخر، وبينما اقتصر تأثير الدين المسيحي على دائرة ضيقة غلب تأثير التراث الاغريقي فلسفة وفكرا على الحياة الأوروبية، بحيث أصبح العامل الحاسم في رسم معالم الفكر الأوروبي الحديث، وشكل صورته التي هو عليها الآن، فالنظرة إلى الحياة والإنسان ومكانته في الكون، وطرق التفكير وأساليب التعبير، ومجالات الفكر كل ذلك مما استمده الفكر الأوروبي الحديث من التراث الاغريقي ولا يخفي أثر الإسلام والفكر الإسلامي الذي أحدث لدى الأوروبيين من صدمة، وبالتالي نقلوا عنه الكثير، ولكنهم ركزوا على الجوانب المادية وأهملوا الجوانب الأخرى، فهم لم يأخذوا كل ما في الإسلام، وإنما أخذوا منها ما يفيد ماديتهم الغربية الموروثة عن اليونان .
وعادت إلى الظهور بقوة اتجاهات الفكر الاغريقي المادي، حيث ساد الإيمان بالعقل والتجريب المادي الرافض للدين، ولأي شيء وراء المادة، وساد الإيمان بالإنسان، وأن أساس التعامل الإنساني هو المصلحة والمنفعة، وأن التعاون و الأخوة الإنسانية إنما تقوم على أساس عقلاني، وأصبحت العقلانية الأوروبية هي صاحبة الحق الكامل في الإشراف على اتجاهات الحياة، حيث هي القادرة على فهم الكون وتوجيه الحياة، وتلبية الحاجات الإنسانية و إخضاع كل شيء حتى الطبيعة والآلة والدين، وحاول الفكر الأوروبي والأمريكي - باعتباره امتداداً للفكر الأوروبي - خلق عالم جديد مؤسس على العقل والحقيقة المادية، ومن هنا كانت هذه الحقيقة هي الهدف الرئيسي لهذا الفكر في العصر الحديث والمعاصر .
إن الحضارة الأوروبية تقوم على التراث الاغريقي، بل تعمقه وتذهب به كل مذهب، من حيث الشغف بالعلم الطبيعي، والاكتشافات الجغرافية، والتفكير فيما هو في مقدور الإنسان واعتبار الميتافيزيقا والقيم والإرادة دراسات غير مفيدة،حتى المذهب الإنساني، والذي أخذ يتأكد من جديد، ويبشر به مبشرون في الفكر الغربي ما هو إلا اهتمام بالإنسان وما في مقدوره، ثم اعتبار الإنسان بما هو غربي لا بما هو من خصوصيته. حتى الدين، قد أصبح شيئا إنسانياً، فهو خاضع للفحص الإنساني الحر، وكل إمرىء له الحق في تفسير العقيدة المسيحية، حتى تحولت إلى مجرد عاطفة خالية من كل مضمون، حتى الكنائس ما هي إلا إمتداد لصخب الحياة وعالم الشارع يذهب إليها الإنسان كما قد يكون ذاهباً إلى فسحة أو نزهة يسمع الموسيقى، ويشتري الرسومات، لقد أصبح الدين إنسانياً هو الآخر .(/2)
ولم يكن الفكر التربوي بعيداً عن هذه الروح، ومع تولد الكثير من الاتجاهات والفلسفات التربوية، فإنها ترتد في النهاية إلى تمجيد الإنسان وتمجيد قدراته، والانتصار على الطبيعة، بل والعالم كله، وكثرت الأبحاث والدراسات النفسية التي تزكي هذا وتدعمه، حتى أنها سخرت جميع الوسائل الممكنة من أجل تحقيق هذاالإنسان، حتى وصل الأمر إلى إنسان ذي بعد واحد - على حد تعبير ماركيوز - وإن الناظر إلى خريطة الفكر التربوي المعاصر يسترعي نظره تعدد المدارس الفكرية وتباينها بل وتناقضها، البراجماتية، التوماوية، الفرويدية، الاتجاه الاجتماعي الاقتصادي، المستقبلي ... الخ، وكل له اتجاهاته وآراؤه التي يبشر بها ويدعو إليها، حتى الاتجاه الإنساني أخذ يبرز طارحاً قضاياه بقوة، ناقداً النظرة المادية التي كانت أساساً للنظر للإنسان وحياته وسلوكه محاولا العودة إلى إنسانية الإنسان وتأكيدها .
وأياً كان الأمر فإن المعرفة التربوية الغربية المعاصرة وتطبيقاتها قد وصلت بإنسانها إلى طريق مسدود، وتعيش أزمة حادة بالرغم من مظاهر الصحة والحيوية التي قد تبدو عليها، من مظاهر تلك الأزمة، ضعف جاذبيتها، وضعف تأثير المذاهب والفلسفات التربوية، واهتزاز الثقة في العلوم التربوية ونتائجها، والانفصال بين الفكر والواقع التعليمي والاجتماعي، والعجز عن مواجهة المشكلات الاجتماعية والتعليمية الجديدة ،فضلاً عن أن هذا الفكر وتلك المعرفة لقلة جدواها أصبحت تشكل عائقا في طريق نمو التعليم وتطوره، بل وتزيد من حدة المشكلات الاجتماعية .
يدل هذا على استحكام أزمة المعرفة التربوية وإطارها المعرفي بلادها وبيئاتها، وتعرض لها الناقدون بأعمال نقدية كثيرة، والغريب أنه ما زال بيننا من يبشر ويدعو وينتج الفكر التربوي في ظل معطيات هذا الإطار، الذي مهما كان صلاحه، فإن صلاحه لن يتعدى بيئته، ولن يصلح لبيئة أخرى، لأنه نتاج إنساني محكوم بالزمان والمكان، وخاضع لمبدأ وقانون التغير ، فبأي دعوى يقيم المبشرون به في الزمان والمكان العربي الإسلامي، إلا دعوى العلمية والعالمية التي أخذت تتهاوى وتتساقط في الآونة الأخيرة، والتي لا تتفق بهذا الشكل من بداهة العقل .
ـــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
[1] عبدالحميد إبراهيم (انطونيو: وكليوباترا دراسة مقارنة بين شكبير وشوقي ط2 ـ السعودية ـ الدار السعودية للنشر والتوزيع) .
[2] عبدالله عبدالدائم: تاريخ التربية. دمشق ـ مطبعة جامعة دمشق. 1379/ 1959، ص 22 .
[3] عبدالحميد إبراهيم ( مرجع سابق )، ص 648. 9. راجع: المره. وايلدز، وكينيث ف. لوتش: أصول التربية الحديثة.
[4] المرجع السابق، ص 12. 11
[5] عبدالغني عبود: المسلمون وتحديات العصر . الكتاب (15) من سلسلة الإسلام وتحديات العصر ـ ط1 ـ القاهرة ـ دار الفكر ـ 1985م، ص 189.
[6] راجع: عبدالحكيم عثمان ( مرجع سابق )، ص 47، 49.(/3)
نقد القومية العربية على ضوء الإسلام والواقع
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فلا يشك مسلم له أدنى بصيرة بالتاريخ الإسلامي في فضل العرب المسلمين، وما قاموا به من حمل رسالة الإسلام في القرون المفضلة، وتبليغه لكافة الشعوب، والصدق في الدعوة إليه، والجهاد لنشره والدفاع عنه، وتحمل المشاق العظيمة في ذلك، حتى أظهرها الله على أيديهم وخفقت رايته في غالب المعمورة، وشاهد العالم على أيدي دعاة الإسلام في صدر الإسلام أكمل نظام وأعدل حاكم، ورأوا في الإسلام كل ما يريدون وينشدون من خير الدنيا والآخرة، ووجدوا في الإسلام تنظيم حياة سعيدة تكفل لهم العزة والكرامة والحرية من عبادة العبيد، وظلم المستبدين، والولاة الغاشمين
ووجدوا في الإسلام تنظيم علاقتهم بالله سبحانه: بعبادة عظيمة تصلهم بالله، وتطهر قلوبهم من الشرك والحقد والكبر، وتغرس فيها غاية الحب لله وكمال الذل له والتلذذ بمناجاته، وتعرفهم بربهم وبأنفسهم، وتذكرهم بالله وعظيم حقه كلما غفلوا أو كادوا أن يغفلوا وجدوا في الإسلام تنظيم علاقتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وماذا يجب عليهم من حقه والسير في سبيله، ووجدوا في الإسلام أيضا تنظيم العلاقات التي بين الراعي والرعية، وبين الرجل وأهله، وبين الرجل وأقاربه، وبين الرجل وإخوانه المسلمين، وبين المسلمين والكفار، بعبارات واضحة وأساليب جلية ووجدوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة وأتباعهم بإحسان تفسير ذلك بأخلاقهم الحميدة وأعمالهم المجيدة، فأحب الناس الإسلام وعظموه ودخلوا فيه أفواجا، وأدركوا فيه كل خير وطمأنينة وصلاح وإصلاح
والكلام في مزايا الإسلام وما اشتمل عليه من أحكام سامية وأخلاق كريمة، تصلح القلوب، وتؤلف بينها وتربطها برباط وثيق من المودة في الله سبحانه، والتفاني في نصر دينه، والتمسك بتعاليمه، والتواصي بالحق والصبر عليه، لا ريب أن الكلام في هذا الباب يطول والقصد في هذه الكلمة الإشارة إلى ما حصل على أيدي المسلمين من العرب في صدر الإسلام من الجهاد والصبر، وما أكرمهم الله به من حمل مشعل الإسلام إلى غالب المعمورة، وما حصل للعالم من الرغبة في الإسلام، والمسارعة إلى الدخول فيه، لما اشتمل عليه من الأحكام الرشيدة والتعاليم السمحة، والتعريف بالله سبحانه وبأسمائه وصفاته وعظيم حقه على عباده، ولما اتصف به حملته والدعاة إليه من تمثيل أحكام الإسلام في أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم، حتى صاروا بذلك خير أمة أخرجت للناس، وحققوا بذلك معنى قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ومعنى الآية كما قال أبو هريرة رضي الله عنه كنتم خير الناس للناس
لا يشك مسلم قد عرف ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام فيما ذكرناه، فهو من الحقائق المعلومة بين المسلمين، ولا يشك مسلم في ما للمسلمين غير العرب من الفضل والجهاد المشكور في مساعدة إخوانهم من العرب المسلمين في نشر هذا الدين والجهاد في إعلاء كلمته، وتبليغه سكان المعمورة، شكر الله للجميع مساعيهم الجليلة، وجعلنا من أتباعهم بإحسان، إنه على كل شيء قدير
وإنما الذي ينكر اليوم ويستغرب صدوره عن كثير من أبناء الإسلام من العرب، انصرافهم عن الدعوة إلى هذا الدين العظيم، الذي رفعهم الله به، وأعزهم بحمل رسالته، وجعلهم ملوك الدنيا وسادة العالم، لما حملوا لواءه وجاهدوا في سبيله بصدق وإخلاص، حتى فتحوا الدنيا، وكسروا كسرى، وقصروا قيصر، واستولوا على خزائن مملكتيهما، وأنفقوها في سبيل الله سبحانه، وكانوا حينذاك في غاية من الصدق والإخلاص والوفاء والأمانة والتحاب في الله سبحانه والمؤاخاة فيه، لا فرق عندهم بين عربي وعجمي، ولا بين أحمر وأسود، ولا بين غني وفقير، ولا بين شرقي وغربي، بل هم في ذلك إخوان متحابون في الله، متعاونون على البر والتقوى، مجاهدون في سبيل الله، صابرون على دين الإسلام لا تأخذهم في الله لومة لائم، يوالون في الإسلام، ويعادون فيه، ويحبون عليه، ويبغضون عليه، ولذلك كفاهم الله مكايد أعدائهم، وكتب لهم النصر في جميع ميادين جهادهم، كما وعدهم الله سبحانه بذلك في كتابه المبين حيث يقول سبحانه: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ(/1)
ثم بعد هذا الشرف العظيم والنصر المؤزر من المولى سبحانه لعباده المؤمنين من العرب وغيرهم، نرى نفرا من أبنائنا يخدعون بالمبادئ المنحرفة، ويدعون إلى غير الإسلام، كأنهم لم يعرفوا فضل الإسلام وما حصل لأسلافهم بالإسلام من العزة والكرامة، والمجد الشامخ والمجتمع القوي الذي كتبه الله لأهل الإسلام الصادقين، حتى إن عدوهم ليخافهم وهو عنهم مسيرة شهر، نسي هؤلاء أو تناسوا هذا المجد المؤثل والعز العظيم والملك الكبير، الذي ناله المسلمون بالإسلام، فصار هؤلاء الأبناء يدعون إلى التكتل والتجمع حول القومية العربية، ويعرفونها بأنها اجتماع وتكاتف لتطهير البلاد من العدو المستعمر، ولتحصيل المصالح المشتركة، واستعادة المجد السليب
وقد اختلف الدعاة إليها في عناصرها، فمن قائل: أنها الوطن والنسب واللغة العربية ومن قائل: أنها اللغة فقط ومن قائل: أنها اللغة مع المشاركة في الآلام والآمال ومن قائل غير ذلك وأما الدين فليس من عناصرها عند أساطينهم والصرحاء منهم، وقد صرح كثير بأن الدين لا دخل له في القومية، وصرح بعضهم أنها تحترم الأديان كلها من الإسلام وغيره وهدفها كما يعلم من كلامهم هو التكتل والتجمع والتكاتف ضد الأعداء ولتحصيل المصالح المشتركة كما سلف، ولا ريب بأن هذا غرض نبيل وقصد جميل
فإذا كان هذا هو الهدف، ففي الإسلام من الحث على ذلك والدعوة إليه، وإيجاب التكاتف والتعاون لنصر الإسلام، وحمايته من كيد الأعداء ولتحصيل المصالح المشتركة، ما هو أكمل وأعظم مما يرتجى من وراء القومية ومعلوم عند كل ذي لب سليم أن التكاتف والتعاون الذي مصدره القلوب، والإيمان بصحة الهدف، وسلامة العاقبة في الحياة وبعد الممات كما في الإسلام الصحيح - أعظم من التعاون والتكاتف على أمر اخترعه البشر ولم ينزل به وحي السماء، ولا تؤمن عاقبته لا في الدنيا ولا في الآخرة. وأيضا فالتكاتف والتعاون الصادر عن إيمان بالله، وصدق في معاملته ومعاملة عباده، مضمون له النصر وحسن العاقبة - كما في الآيات الكريمات التي أسلفنا ذكرها - بخلاف التكاتف والتعاون المبني على فكرة جاهلية تقليدية، لم يأت بها شرع ولم يضمن لها النصر.
وهذا كله على سبيل التنزل لدعاة القومية، والرغبة في إيضاح الحقائق لطالب الحق وإلا فمن خبر أحوال القوميين، وتدبر مقالاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، عرف أن غرض الكثيرين منهم من الدعوة إلى القومية، أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع، ومن تلك الأمور، فصل الدين عن الدولة، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة - لا بلغهم الله مناهم - ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات، يرقص لها الاستعمار طربا، ويساعد على وجودها ورفع مستواها - وإن تظاهر بخلاف ذلك - تغريرا للعرب عن دينهم، وتشجيعا لهم على الاشتغال بقوميتهم، والدعوة إليها والإعراض عن دينهم
ومن زعم من دعاة القومية أن الدين من عناصرها، فقد فرض أخطاء على القوميين، وقال عليهم ما لم يقولوا لأن الدين يخالف أسسهم التي بنوا القومية عليها، ويخالف صريح كلامهم ويباين ما يقصدونه من تكتيل العرب، على اختلاف أديانهم تحت راية القومية
ولهذا تجد من يجعل الدين من عناصر القومية يتناقض في كلامه، فيثبته تارة وينفيه أخرى، وما ذلك إلا أنه لم يقله عن عقيدة وإيمان، وإنما قاله مجاملة لأهل الإسلام، أو عن جهل بحقيقة القومية وهدفها، وهكذا قول من قال: إنها تخدم الإسلام أو تسانده، وكل ذلك بعيد عن الحقيقة والواقع، وإنما الحقيقة أنها تنافس الإسلام وتحاربه في عقر داره، وتطلي ببعض خصائصه ترويجا لها وتلبيسا أو جهلا وتقليدا
ولو كانت الدعوة إلى القومية يراد منها نصر الإسلام وحماية شعائره، لكرس القوميون جهدهم في الدعوة إليه ومناصرته، وتحكيم دستوره النازل من فوق سبع سماوات، ولبادروا إلى التخلق بأخلاقه، والعمل بما يدعو إليه، وابتعدوا عن كل ما يخالفه؛ لأنه الأصل الأصيل والهدف الأعظم، ولأنه السبيل الذي من سار عليه، واستقام عليه، وصل إلى شاطئ السلامة، وفاز بالجنة والكرامة، ومن حاد عن سبيله باء بالخيبة والندامة، وخسر الدنيا والآخرة، فلو كان دعاة القومية يقصدون بدعوتهم إليها تعظيم الإسلام وخدمته، ورفع شأنه، لما اقتصروا على الدعوة للخادم دون المخدوم، وكرسوا لهذا الخادم جهودهم، وغضبوا من صوت دعاة الإسلام إذا دعوا إليه، وحذروا مما يخالفه أو يقف حجرا في طريقه(/2)
لو كان دعاة القومية يريدون بدعوتهم إعلاء كلمة الإسلام، واجتماع العرب عليه، لنصحوا العرب ودعوهم إلى التمسك بتعاليم الإسلام، وتنفيذ أحكامه، ولشجعوهم على نصره ودعوة الناس إليه، فإن العرب أولى الناس بأن ينصروا الإسلام، ويحموه من مكايد الأعداء ويحكموه فيما شجر بينهم، كما فعل أسلافهم؛ لأنه عزهم وذكرهم ومجدهم، كما قال الله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ وقال فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ وإذا عرفت أيها القارئ ما تقدم، فاعلم أن هذه الدعوة: أعني الدعوة إلى القومية العربية، أحدثها الغربيون من النصارى، لمحاربة الإسلام والقضاء عليه في داره، بزخرف من القول، وأنواع من الخيال، وأساليب من الخداع، فاعتنقها كثير من العرب من أعداء الإسلام، واغتر بها كثير من الأغمار ومن قلدهم من الجهال، وفرح بذلك أرباب الإلحاد وخصوم الإسلام في كل مكان
نشرة صدرت في كتاب عن المكتب الإسلامي في بيروت ودمشق عام 1400 هـ الطبعة الرابعة.
ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الدعوة إلى القومية العربية أو غيرها من القوميات، دعوة باطلة وخطأ عظيم، ومنكر ظاهر، وجاهلية وكيد سافر للإسلام وأهله، وذلك لوجوه
الأول أن الدعوة إلى القومية العربية تفرق بين المسلمين، وتفصل المسلم العجمي عن أخيه العربي، وتفرق بين العرب أنفسهم ؛ لأنهم كلهم ليسوا يرتضونها، وإنما يرضاها منهم قوم دون قوم، وكل فكرة تقسم المسلمين وتجعلهم أحزابا فكرة باطلة، تخالف مقاصد الإسلام وما يرمي إليه؛ وذلك لأنه يدعو إلى الاجتماع والوئام، والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى، كما يدل على ذلك قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وقال تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
فانظر أيها المؤمن الراغب في الحق كيف يحارب الإسلام التفرق والاختلاف، ويدعو إلى الاجتماع والوئام، والتمسك بحبل الحق والوفاة عليه، تعلم بذلك أن هدف القومية غير هدف الإسلام، وأن مقاصدها تخالف مقاصد الإسلام، ويدل على ذلك أيضا أن هذه الفكرة، أعني الدعوة إلى القومية العربية وردت إلينا من أعدائنا الغربيين، وكادوا بها المسلمين، ويقصدون من ورائها فصل بعضهم عن بعض، وتحطيم كيانهم، وتفريق شملهم، على قاعدتهم المشئومة (فرق تسد) وكم نالوا من الإسلام وأهله بهذه القاعدة النحيسة، مما يحزن القلوب ويدمي العيون
وذكر كثير من مؤرخي الدعوة إلى القومية العربية، ومنهم مؤلف الموسوعة العربية: أن أول من دعا إلى القومية العربية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، هم الغربيون على أيدي بعثات التبشير في سوريا، ليفصلوا الترك عن العرب، ويفرقوا بين المسلمين، ولم تزل الدعوة إليها في الشام والعراق ولبنان تزداد وتنمو، حتى عقد لها أول مؤتمر في باريس من نحو ستين سنة، وذلك عام 1910 م، وكثرت بسبب ذلك الجمعيات العربية، وتعددت الاتجاهات، فحاول الأتراك إخمادها، بأحكام الإعدام التي نفذها جمال باشا في سورية في ذلك الوقت، إلي آخر ما ذكروا، فهل تظن أيها القارئ أن خصومنا وأعداءنا يسعون في مصالحنا، بابتداعهم الدعوة إلى القومية العربية، وعقد المؤتمرات لها، وابتعاث المبشرين بها، لا والله، إنهم لا يريدون بنا خيرا ولا يعملون لمصالحنا، إنما يعملون ويسعون لتحطيمنا وتمزيق شملنا، والقضاء على ما بقي من ديننا، وكفى بذلك دليلا لكل ذي لب، على ما يراد من وراء الدعوة إلى القومية العربية، وأنها معول غربي استعماري، يراد به تفريقنا وإبعادنا عن ديننا كما سلف(/3)
ومن العجب الذي لا ينقضي، أن كثيرا من شبابنا وكتابنا - ألهمهم الله رشدهم - خفيت عليهم هذه الحقيقة، حتى ظنوا أن التكتل والتجمع حول القومية العربية، والمناصرة لها، أنفع للعرب وأضر للعدو، من التجمع والتكتل حول الإسلام ومناصرته، وهذا بلا شك ظن خاطئ، واعتقاد غير مطابق للحقيقة.
نعم لا شك أنه يحزن المستعمر ويقلق راحته كل تجمع وتكتل ضد مصلحته، ولكن خوفه من التجمع والتكتل حول الإسلام أعظم وأكبر، ولذلك رضي بالدعوة إلى القومية العربية، وحفز العرب إليها، ليشغلهم بها عن الإسلام، وليقطع بها صلتهم بالله سبحانه. لأنهم إذا فقدوا الإسلام حرموا ما ضمنه الله لهم من النصر، الذي وعدهم به في الآيتين السابقتين، وفي قوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
ومعلوم عند جميع العقلاء أنه إذا كان لا بد من أحد ضررين، فارتكاب الأدنى منهما أولى، حذرا من الضرر الأكبر، وقد دل الشرع والقدر على هذه القاعدة، وقد عرفها المستعمر وسلكها في هذا الباب وغيره فتنبه يا أخي واحذر مكايد الشيطان والاستعمار وأوليائهما، تنج من ضرر عظيم، وخطر كبير، وعواقب سيئة عافاني الله وإياك والمسلمين من ذلك
ومما تقدم يعلم القارئ اليقظ أن الدعوة إلى القومية العربية - كما أنها إساءة إلى الإسلام ومحاربة له في بلاده - فهي أيضا إساءة إلى العرب أنفسهم، وجناية عليهم عظيمة. لكونها تفصلهم عن الإسلام الذي هو مجدهم الأكبر، وشرفهم الأعظم ومصدر عزهم وسيادتهم على العالم، فكيف يرضى عربي عاقل بدعوة هذا شأنها وهذه غايتها:؟! ولقد أحسن الكاتب الإسلامي الشهير: أبو الحسن الندوي في رسالته المشهورة: (اسمعوها مني صريحة: أيها العرب) حيث يقول في صفحة 27 و 28 ما نصه:
(فمن المؤسف المحزن المخجل أن يقوم في هذا الوقت في العالم العربي، رجال يدعون إلى القومية العربية المجردة من العقيدة والرسالة، وإلى قطع الصلة عن أعظم نبي عرفه تاريخ الإيمان، وعن أقوى شخصية ظهرت في العالم، وعن أمتن رابطة روحية تجمع بين الأمم والأفراد والأشتات، إنها جريمة قومية تبز جميع الجرائم القومية، التي سجلها تاريخ هذه الأمة، وإنها حركة هدم وتخريب، تفوق جميع الحركات الهدامة المعروفة في التاريخ، وإنها خطوة حاسمة مشئومة، في سبيل الدمار القومي والانتحار الاجتماعي) انتهى.
فتأمل: أيها القارئ كلمة هذا العالم العربي الحسني الكبير الذي قد سبر أحوال العالم وعرف نتائج الدعوة إلى القوميات وسوء مصيرها، تدرك بعقلك السليم ما وقع فيه العرب والمسلمون اليوم، من فتنة كبرى ومصيبة عظمى، بهذه الدعوة المشئومة، وقى الله المسلمين شرها، ووفق العرب وجميع المسلمين للرجوع إلى ما كان عليه أسلافهم المهديون، إنه سميع مجيب
ثم لا يخفاك أيها القارئ الكريم غربة الإسلام اليوم، وقلة أنصاره والمتحمسين لدعوته، وكثرة المحاربين له والمتنكرين لأحكامه وتعاليمه، فالواجب على أبناء الإسلام بدلا من التحمس للقومية والمناصرة لدعاتها: أن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام وتعظيمه في قلوب الناس، وأن يجتهدوا في نشر محاسنه وإعلان أحكامه العادلة، وتعاليمه السمحة الصافية، نقية من شوائب الشرك والخرافات والبدع والأهواءه حتى يعيدوا بذلك ما درس من مجد أسلافهم، وحماستهم للإسلام، وتكريس قواهم لنصرته وحمايته، والرد على خصومه بشتى الأساليب الناجعة، وأنواع الحجج والبراهين الساطعة ولا شك أن هذا واجب متحتم، وفرض لازم على جميع أبناء الإسلام، كل منهم بحسب ما أعطاه الله من المقدرة والإمكانات، التي يستطيع بها القيام بما أوجب الله عليه من النصر لدينه والدعوة إليه، فنسأل الله أن يمن على الجميع بذلك، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يقر أعين المسلمين جميعا بنصر الإسلام الصافي من الشوائب، وظهوره على جميع خصومه في القريب العاجل، إنه سبحانه خير مسئول وأقرب مجيب(/4)
الوجه الثاني: أن الإسلام نهى عن دعوى الجاهلية وحذر منها، وأبدى في ذلك وأعاد في نصوص كثيرة بل قد جاءت النصوص تنهى عن جميع أخلاق الجاهلية، وأعمالهم إلا ما أقره الإسلام من ذلك، ولا ريب أن الدعوة إلى القومية العربية من أمر الجاهلية، لأنها دعوة إلى غير الإسلام، ومناصرة لغير الحق، وكم جرت الجاهلية على أهلها من ويلات وحروب طاحنة، وقودها النفوس والأموال والأعراض، وعاقبتها تمزيق الشمل وغرس العداوة والشحناء في القلوب، والتفريق بين القبائل والشعوب قال شيخ الإسلام: ابن تيمية رحمه الله (كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصهم مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وغضب لذلك غضبا شديدا ) انتهى
ومما ورد في ذلك من النصوص قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقال تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ
وفي سنن أبي داود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد ولا ريب أن دعاة القومية يدعون إلى عصبية ويغضبون لعصبية ويقاتلون على عصبية، ولا ريب أيضا أن الدعوة إلى القومية تدعو إلى البغي والفخر؛ لأن القومية ليست دينا سماويا يمنع أهله من البغي والفخر، وإنما هي فكرة جاهلية تحمل أهلها على الفخر بها والتعصب لها على من نالها بشيء، وإن كانت هي الظالمة وغيرها المظلوم، فتأمل أيها القارئ ذلك يظهر لك وجه الحق
ومن النصوص الواردة في ذلك ما رواه الترمذي وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله قد أذهب عنكم عصبية الجاهلية وفخرها بالآباء إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى وهذا الحديث يوافق قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ أوضح سبحانه بهذه الآية الكريمة أنه جعل الناس شعوبا وقبائل للتعارف لا للتفاخر والتعاظم، وجعل أكرمهم عنده هو أتقاهم، وهكذا يدل الحديث المذكور على هذا المعنى ويرشد إلى سنة الجاهلية التكبر والتفاخر بالأسلاف والأحساب، والإسلام بخلاف ذلك، يدعو إلى التواضع والتقوى والتحاب في الله، وأن يكون المسلمون الصادقون من سائر أجناس بني آدم، جسدا واحدا، وبناء واحدا يشد بعضهم بعضا، ويألم بعضهم لبعض، كما في الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه وقال صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فأنشدك بالله أيها القومي: هل قوميتك تدعو إلى هذه الأخلاق الفاضلة، من الرحمة للمسلمين من العرب والعجم، والعطف عليهم والتألم لآلامهم؟ لا والله، وإنما تدعو إلى موالاة من انخرط في سلكها، ونصب العداوة لمن تنكر لها، فتنبه أيها المسلم الراغب في النجاة، وانظر إلى حقائق الأمور بمرآة العدالة والتجرد من التعصب والهوى، حتى ترى الحقائق على ما هي عليه، أرشدني الله وإياك إلى أسباب النجاة
ومن ذلك ما ثبت في الصحيح أن غلاما من المهاجرين وغلاما من الأنصار تنازعا، فقال المهاجري: يا للمهاجرين وقال الأنصاري: يا للأنصار فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم فإذا كان من انتسب إلى المهاجرين واستنصر بهم على إخوانهم في الدين، أو إلى الأنصار واستنصر بهم على إخوانهم في الدين يكون قد دعا بدعوى الجاهلية، مع كونهما اسمين محبوبين لله سبحانه، وقد أثنى الله على أهلهما ثناء عظيما في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ الآية، فكيف تكون حال من انتسب إلى القومية واستنصر بها وغضب لها؟ أفلا يكون أولى ثم أولي بأن يكون قد دعا بدعوى الجاهلية؟ لا شك أن هذا من أوضح الواضحات(/5)
ومن ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن الحارث الأشعري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فذكرها، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم" قيل يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله وهذا الحديث الصحيح من أوضح الأحاديث وأبينها في إبطال الدعوة إلى القومية، واعتبارها دعوة جاهلية، يستحق دعاتها أن يكونوا من جثي جهنم، وإن صاموا وصلوا، وزعموا أنهم مسلمون فيا له من وعيد شديد، وتحذير ينذر كل مسلم من الدعوات الجاهلية، والركون إلى معتنقيها، وإن زخرفوها بالمقالات السحرية، والخطب الرنانة الواسعة، التي لا أساس لها من الحقيقة، ولا شاهد لها من الواقع، وإنما هو التلبيس والخداع والتقليد الأعمى، الذي ينتهي بأهله إلى أسوأ العواقب، نسأل الله السلامة من ذلك
وهنا شبهة يذكرها بعض دعاة القومية أحب أن أكشفها للقارئ، وهي أن بعض دعاة القومية زعم أن النهي عن الدعوة إلى القومية العربية والتحذير منها يتضمن تنقص العرب وإنكار فضلهم.
والجواب أن يقال: لا شك أن هذا زعم خاطئ واعتقاد غير صحيح، فإن الاعتراف بفضل العرب، وما سبق لهم في صدر الإسلام من أعمال مجيدة لا يشك فيه مسلم عرف التاريخ كما أسلفنا، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم، ومنهم أبو العباس بن تيمية في كتابه: (اقتضاء الصراط المستقيم) أن مذهب أهل السنة تفضيل جنس العرب على غيرهم، وأورد في ذلك أحاديث تدل على ذلك، ولكن لا يلزم من الاعتراف بفضلهم أن يجعلوا عمادا يتكتل حوله، ويوالي عليه ويعادي عليه، وإنما ذلك من حق الإسلام الذي أعزهم الله به، وأحيا فكرهم ورفع شأنهم، فهذا لون وهذا لون، ثم هذا الفضل الذي امتازوا به على غيرهم، وما من الله به عليهم من فصاحة اللسان، ونزول القرآن الكريم بلغتهم، وإرسال الرسول العام بلسانهم، ليس مما يقدمهم عند الله في الآخرة، ولا يوجب لهم النجاة إذا لم يؤمنوا ويتقوا، وليس ذلك أيضا يوجب تفضيلهم على غيرهم من جهة الدين، بل أكرم الناس عند الله أتقاهم، كما تقدم في الآية الكريمة والحديث الشريف، بل هذا الفضل عند أهل التحقيق يوجب عليهم أن يشكروا الله سبحانه أكثر من غيرهم، وأن يضاعفوا الجهود في نصر دينه الذي رفعهم الله به، وأن يوالوا عليه ويعادوا عليه، ودون أن يلتفتوا إلى قومية أو غيرها من الأفكار المسمومة، والدعوات المشئومة، ولو كانت أنسابهم وحدها تنفعهم شيئا لم يكن أبو لهب وأضرابه من أصحاب النار، ولو كانت تنفعهم بدون الإيمان لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا وبذلك يعلم القارئ المسلم من الهوى أن الشبهة المذكورة شبهة واهية لا أساس لها من الشرع المطهر، ولا من المنطق السليم البعيد من الهوى.
وهنا شبهة أخرى وهي قول بعضهم: أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا ذل العرب ذل الإسلام ورواه بعضهم بلفظ: إذا عز العرب عز الإسلام قالوا: وهذا يدل علي أن انتصار القومية العربية والدعوة إليها انتصار للإسلام ودعوة إليه، والجواب أن يقال: يعلم كل ذي لب سليم وبصيرة بالإسلام، أن هذه سفسطة في السمعيات، ومغالطة في الحقائق، وتأويل للحديث على غير تأويله، سواء صح أم لم يصح، فإن الواقع يشهد بخلاف ما ذكره القائل، فقد ذل العرب يوم بدر ويوم الأحزاب، وصار في ذلهم عز الإسلام وظهوره، وانتصر العرب يوم أحد وصار في انتصارهم ذل المسلمين والمضرة عليهم، ولكن الله سبحانه لطف بأوليائه وأحسن لهم العاقبة، فهل يستطيع هذا القائل أن يدعي خلاف هذا الواقع؟ وهل يمكن أن يقول: إن انتصار العرب الكافرين بالله، المحاربين لدينه، انتصار للإسلام، من قال هذا فقد قال خلاف الحق، وهو إما جاهل أو متجاهل، يريد أن يلبس الحق بالباطل ويخدع ضعفاء البصائر، سبحان الله ما أعظم شأنه
ثم أعود فأوضح للقارئ أن الحديث المذكور ضعيف الإسناد، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ أبو الحسن الهيثمي في: (مجمع الزوائد) لما ذكر هذا الحديث بلفظ: إذا ذلت العرب ذل الإسلام رواه أبو يعلى ، وفي إسناده محمد بن الخطاب ضعفه الأزدي وغيره، ووثقه ابن حبان ) انتهى.(/6)
وقال الحافظ الذهبي في (الميزان) في ترجمة محمد المذكور: (قال أبو حاتم : لا أعرفه وقال الأزدي : منكر الحديث) انتهى قلت: وفي إسناده أيضا علي بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف عند جمهور من المحدثين لا يحتج بحديثه، لو سلم الإسناد من غيره، فكيف وفي الإسناد من هو أضعف منه، وهو محمد بن الخطاب المذكور وأما توثيق ابن حبان له، فلا يعتمد عليه لأنه معروف بالتساهل وقد خالفه غيره. ولو صح الحديث لكان معناه: إذا ذل العرب الحاملون راية الإسلام والدعوة إليه، لا العرب المتنكرون له الداعون إلى غيره ولا يجوز أن يرد في سنة رسول الله كل ما يخالف القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أبدا، فإن كلام الله لا يتناقض، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، والسنة لا تخالف القرآن بل تصدقه وتوافقه، وتدل على معناه وتوضح ما أجمل فيه
وقد علق الله سبحانه في القرآن النصر على الإيمان بالله والنصر لدينه، فلا يجوز أن يرد في السنة ما يناقض ذلك، فتنبه أيها المؤمن، واحذر من الشبهات المضللة، والأحاديث المكذوبة، والآراء الفاسدة والأفكار المسمومة، فإن الخطر عظيم، والمعصوم من عصمه الله سبحانه، فاعتصم به وتوكل عليه وتفقه في دينه، واستقم عليه تفز بالنجاة والعاقبة الحميدة.
وهذه الشبه وأمثالها تفسر لنا ما صح به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث حذيفة: أنه قال: كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال "نعم" قلت فهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال "نعم وفيه دخن" قلت ما دخنه؟ قال "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر" قلت فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال "نعم" دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" قلت يا رسول الله صفهم لنا قال "هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" قلت فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال لتلزم جماعة المسلمين وإمامهم" قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري ، فهذا الحديث العظيم الجليل يرشدك أيها المسلم إلى أن هؤلاء الدعاة اليوم، الذين يدعون إلى أنواع من الباطل كالقومية العربية، والاشتراكية والرأسمالية الغاشمة، وإلى الخلاعة والحرية المطلقة وأنواع الفساد كلهم دعاة على أبواب جهنم، سواء علموا أم لم يعلموا، من أجابهم إلى باطلهم قذفوه في جهنم، ولا شك أن هذا الحديث الجليل من أعلام النبوة، ودلائل صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالواقع قبل وقوعه فوقع كما أخبر
فنسأل الله لنا ولسائر المسلمين العافية من مضلات الفتن، ونسأله سبحانه أن يصلح ولاة أمر المسلمين وزعماءهم حتى ينصروا دينه، ويحاربوا ما خالفه إنه ولي ذلك والقادر عليه
الوجه الثالث من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية
هو أنها سلم إلى موالاة كفار العرب وملاحدتهم من غير المسلمين، واتخاذهم بطانة، والاستنصار بهم على أعداء القوميين من المسلمين وغيرهم ومعلوم ما في هذا من الفساد الكبير، والمخالفة لنصوص القرآن والسنة، الدالة على وجوب بغض الكافرين من العرب وغيرهم، ومعاداتهم وتحريم موالاتهم واتخاذهم بطانة والنصوص في هذا المعنى كثيرة منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ الآية سبحان الله ما أصدق قوله وأوضح بيانه،
هؤلاء القوميون يدعون إلى التكتل حول القومية العربية مسلمها وكافرها، يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة، نخشى أن يعود الاستعمار إلى بلادنا، نخشى أن تسلب ثرواتنا بأيدي أعدائنا، فيوالون لأجل ذلك كل عربي من يهود ونصارى، ومجوس ووثنيين وملاحدة وغيرهم، تحت لواء القومية العربية، ويقولون: إن نظامها لا يفرق بين عربي وعربي، وإن تفرقت أديانهم، فهل هذا إلا مصادمة لكتاب الله، ومخالفة لشرع الله، وتعد لحدود الله، وموالاة ومعاداة، وحب وبغض على غير دين الله؟ فما أعظم ذلك من باطل، وما أسوأه من منهج والقرآن يدعو إلى موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين أينما كانوا وكيفما كانوا، وشرع القومية العربية يأبى ذلك ويخالفه: قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ويقول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ إلى قوله تعالى وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(/7)
ونظام القومية يقول: كلهم أولياء مسلمهم وكافرهم والله يقول: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ويقول سبحانه قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وقال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وشرع القومية أو بعبارة أخرى شرع دعاتها يقول: أقصوا الدين عن القومية، وافصلوا الدين عن الدولة، وتكتلوا حول أنفسكم وقوميتكم، حتى تدركوا مصالحكم وتستردوا أمجادكم، وكأن الإسلام وقف في طريقهم، وحال بينهم وبين أمجادهم، هذا والله هو الجهل والتلبيس وعكس القضية، سبحانك هذا بهتان عظيم
والآيات الدالة على وجوب موالاة المؤمنين، ومعاداة الكافرين، والتحذير من توليهم كثيرة لا تخفى على أهل القرآن، فلا ينبغي أن نطيل بذكرها وكيف يجوز في عقل عاقل أن يكون أبو جهل ، وأبو لهب ، وعقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث وأضرابهم من صناديد الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلي يومنا هذا، إخوانا وأولياء لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة، ومن سلك سبيله من العرب إلى يومنا هذا. هذا والله من أبطل الباطل وأعظم الجهل وشرع القومية ونظامها يوجب هذا ويقتضيه، وإن أنكره بعض دعاتها جهلا أو تجاهلا وتلبيسا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد أوجب الله على المسلمين: أن يتكاتفوا ويتكتلوا تحت راية الإسلام، وأن يكونوا جسدا واحدا، وبناء متماسكا ضد عدوهم، ووعدهم على ذلك النصر والعز والعاقبة الحميدة، كما تقدم ذلك في كثير من الآيات، وكما في قوله تعالي: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية وقال تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فوعد الله سبحانه عباده المرسلين، وجنده المؤمنين بالنصر والغلبة، واستخلافهم في الأرض والتمكين لدينهم، وهو الصادق في وعده، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ وإنما يتخلف هذا الوعد في بعض الأحيان بسبب تقصير المسلمين، وعدم قيامهم بما أوجب الله عليهم من الإيمان بالله، والنصر لدينه، كما هو الواقع، فالذنب ذنبنا لا ذنب الإسلام، والمصيبة حصلت بما كسبت أيدينا من الخطايا، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ
فالواجب على العرب وغيره: التوبة إلى الله سبحانه، والتمسك بدينه، والتواصي بحقه، وتحكيم شريعته، والجهاد في سبيله، والاستقامة على ذلك من الرؤساء وغيرهم، فبذلك يحصل لهم النصر ويهزم العدو، ويحصل التمكين في الأرض، وإن قل عددنا وعدتنا، ولا ريب أن من أهم الواجبات الإيمانية: أخذ الحذر من عدونا، وأن نعد له ما نستطيع من القوة، وذلك من تمام الإيمان، ومن الأخذ بالأسباب التي يتعين الأخذ بها، ولا يجوز إهمالها، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ وقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ(/8)
وليس للمسلمين أن يوالوا الكافرين أو يستعينوا بهم على أعدائهم، فإنهم من الأعداء ولا تؤمن غائلتهم وقد حرم الله موالاتهم، ونهى عن اتخاذهم بطانة، وحكم على من تولاهم بأنه منهم، وأخبر أن الجميع من الظالمين، كما سبق ذلك في الآيات المحكمات، وثبت في: (صحيح مسلم )، عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه فلما أدركه قال لرسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤمن بالله ورسوله؟ قال لا قال "فارجع فلن استعين بمشرك قالت ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة فقال لا قال "فارجع فلن استعين بمشرك" قالت ثم رجع فأدركه في البيراء فقال له كما قال أول مرة "تؤمن بالله ورسوله؟" قال نعم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "فانطلق" فهذا الحديث الجليل، يرشدك إلى ترك الاستعانة بالمشركين، ويدل على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يدخلوا في جيشهم غيرهم، لا من العرب ولا من غير العرب؛ لأن الكافر عدو لا يؤمن. وليعلم أعداء الله أن المسلمين ليسوا في حاجة إليهم، إذا اعتصموا بالله، وصدقوا في معاملته. لأن النصر بيده لا بيد غيره، وقد وعد به المؤمنين، وإن قل عددهم وعدتهم كما سبق في الآيات وكما جرى لأهل الإسلام في صدر الإسلام،
ويدل على تلك أيضا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ فانظر أيها المؤمن إلى كتاب ربك وسنة نبيك عليه الصلاة والسلام كيف يحاربان موالاة الكفار، والاستعانة بهم واتخاذهم بطانة، والله سبحانه أعلم بمصالح عباده، وأرحم بهم من أنفسهم، فلو كان في اتخاذهم الكفار أولياء من العرب أو غيرهم والاستعانة بهم مصلحة راجحة، لأذن الله فيه وأباحه لعباده، ولكن لما علم الله ما في ذلك من المفسدة الكبرى، والعواقب الوخيمة، نهى عنه وذم من يفعله، وأخبر في آيات أخرى أن طاعة الكفار، وخروجهم في جيش المسلمين يضرهم، ولا يزيدهم ذلك إلا خبالا، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ وقال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
فكفى بهذه الآيات تحذيرا من طاعة الكفار، والاستعانة بهم، وتنفيرا منهم، وإيضاحا لما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة، عافى الله المسلمين من ذلك، وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ أوضح سبحانه أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والكفار بعضهم أولياء بعض، فإذا لم يفعل المسلمون ذلك، واختلط الكفار بالمسلمين، وصار بعضهم أولياء بعض، حصلت الفتنة والفساد الكبير، وذلك بما يحصل في القلوب من الشكوك، والركون إلى أهل الباطل والميل إليهم، واشتباه الحق على المسلمين نتيجة امتزاجهم بأعدائهم وموالاة بعضهم لبعض، كما هو الواقع اليوم من أكثر المدعين للإسلام حيث والوا الكافرين، واتخذوهم بطانة، فالتبست عليهم الأمور بسبب ذلك، حتى صاروا لا يميزون بين الحق والباطل ولا بين الهدى والضلال، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فحصل بذلك من الفساد والأضرار ما لا يحصيه إلا الله سبحانه.
وقد احتج بعض دعاة القومية على جواز موالاة النصارى والاستعانة بهم بقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى وزعموا أنها ترشد إلى جواز موالاة النصارى؛ لكونهم أقرب مودة للذين آمنوا من غيرهم،(/9)
وهذا خطأ ظاهر وتأويل للقرآن بالرأي المجرد، المصادم للآيات المحكمات المتقدم ذكرها وغيرها، ولما ثبت في السنة المطهرة من التحذير من موالاة الكفار، من أهل الكتاب وغيرهم وترك الاستعانة بهم، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار والواجب: أن تفسر الآيات بعضها ببعض، ولا يجوز أن يفسر شيء منها بما يخالف بقيتها، وليس في هذه الآية بحمد الله ما يخالف الآيات الدالة على تحريم موالاة الكفار من النصارى وغيرهم، وإنما أتي هذا الداعية من سوء فهمه وتقصيره في تدبر الآيات، والنظر في معناها، والاستعانة على ذلك بكلام أهل التفسير المعروفين بالعلم والأمانة والإمامة، ومعنى هذه الآية على ما قال أهل التفسير، وعلى ما يظهر من صريح لفظها: أن النصارى أقرب مودة للمؤمنين من اليهود والمشركين، وليس معناها: أنهم يوادون المؤمنين، ولا أن المؤمنين يوادونهم، ولو فرض أن النصارى أحبوا المؤمنين وأظهروا مودتهم لهم لم يجز لأهل الإيمان أن يوادوهم ويوالوهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد نهاهم عن ذلك في الآيات السالفات ومنها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ الآية.
وقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ولا ريب أن النصارى من المحادين لله ولرسوله، النابذين لشريعته، المكذبين له ولرسوله عليه أفضل الصلاة والسلام فكيف يجوز لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يوادونهم أو يتخذهم بطانة؟ نعوذ بالله من الخذلان وطاعة الهوى والشيطان.
وزعم آخر من دعاة القومية أن الله سبحانه قد سهل في موالاة الكفار الذين لم يخرجونا من ديارنا، واحتج على ذلك بقوله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
وهذا كالذي قبله احتجاج باطل، وقول في القرآن بالرأي المجرد، وتأويل للآية على غير تأويلها. والله سبحانه حرم موالاةالكفار ونهى عن اتخاذهم بطانة في الآيات المحكمات، ولم يفصل بين أجناسهم، ولا بين من قاتلنا ومن لم يقاتلنا، فكيف يجوز لمسلم أن يقول على الله ما لم يقل، وأن يأتي بتفصيل من رأيه لم يدل عليه كتاب ولا سنة؟ سبحان الله ما أحلمه، وإنما معنى الآية المذكورة عند أهل العلم: الرخصة في الإحسان إلى الكفار، والصدقة عليهم إذا كانوا مسالمين لنا، بموجب عهد أو أمان أو ذمة، وقد صح في السنة ما يدل على ذلك، كما ثبت في الصحيح أن أم أسماء بنت أبي بكر قدمت عليها في المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهي مشركة تريد الدنيا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أسماء أن تصل أمها، وذلك في مدة الهدنة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعطى عمر جبة من حرير، فأهداها إلى أخ له بمكة مشرك، فهذا وأشباهه من الإحسان الذي قد يكون سببا في الدخول في الإسلام، والرغبة فيه، وإيثاره على ما سواه، وفي ذلك صلة للرحم، وجود على المحتاجين، وذلك ينفع المسلمين ولا يضرهم، وليس من موالاة الكفار في شيء كما لا يخفى على ذوي الألباب والأبصار.
وللقوميين هنا شبهة، وهي أنهم يقولون: إن التكتل حول القومية العربية بدون تفرقة بين المسلم والكافر يجعل العرب وحدة قوية، وبناء شامخا، يهابهم عدوهم ويحترم حقوقهم، وإذا انفصل المسلمون عن غيرهم من العرب، ضعفوا وطمع فيهم العدو، وشبهة أخرى وهي أنهم يقولون: إن العرب إذا اعتصموا بالإسلام، وتجمعوا حول رايته، حقد عليهم أعداء الإسلام، ولم يعطوهم حقوقهم، وتربصوا بهم الدوائر، خوفا من أن يثيروها حروبا إسلامية، ليستعيدوا بها مجدهم السالف، وهذا يضرنا ويؤخر حقوقنا ومصالحنا المتعلقة بأعدائنا، ويثير غضبهم علينا.(/10)
والجواب: أن يقال: إن اجتماع المسلمين حول الإسلام، واعتصامهم بحبل الله، وتحكيمهم لشريعته، وانفصالهم من أعدائهم والتصريح لهم بالعداوة والبغضاء، هو سبب نصر الله لهم وحمايتهم من كيد أعدائهم، وهو وسيلة إنزال الله الرعب في قلوب الأعداء من الكافرين، حتى يهابوهم ويعطوهم حقوقهم كاملة غير منقوصة، كما حصل لأسلافهم المؤمنين. فقد كان بين أظهرهم من اليهود والنصارى الجمع الغفير، فلم يوالوهم ولم يستعينوا بهم، بل والوا الله وحده، واستعانوا به وحده، فحماهم وأيدهم ونصرهم على عدوهم والقرآن والسنة شاهدان بذلك، والتاريخ الإسلامي ناطق بذلك، قد علمه المسلم والكافر. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر إلى المشركين، وفي المدينة اليهود، فلم يستعن بهم، والمسلمون في ذلك الوقت ليسوا بالكثرة، وحاجتهم إلى الأنصار والأعوان شديدة، ومع ذلك فلم يستعن نبي الله والمسلمون باليهود، لا يوم بدر ولا يوم أحد، مع شدة الحاجة إلى المعين في ذلك الوقت، ولا سيما يوم أحد، وفي ذلك أوضح دلالة على أنه لا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بأعدائهم، ولا يجوز أن يوالوهم أو يدخلوهم في جيشهم، لكونهم لا تؤمن غائلتهم، ولما في مخالطتهم من الفساد الكبير، وتغيير أخلاق المسلمين، وإلقاء الشبهة، وأسباب الشحناء والعداوة بينهم، ومن لم تسعه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقة المؤمنين السابقين فلا وسع الله عليه.
وأما حقد غير المسلمين على المسلمين إذا تجمعوا حول الإسلام، فذلك مما يرضي الله عن المؤمنين ويوجب لهم نصره، حيث أغضبوا أعداءه من أجل رضاه، ونصر دينه والحماية لشرعه. ولن يزول حقد الكفار على المسلمين، إلا إذا تركوا دينهم واتبعوا ملة أعدائهم، وصاروا في حزبهم، وذلك هو الضلال البعيد والكفر الصريح، وسبب العذاب والشقاء في الدنيا والآخرة، كما قال سبحانه: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
وقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ فأبان الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات البينات: أن الكفار لن يرضوا عنا حتى نتبع ملتهم، وندع شريعتنا، وإنهم لا يزالون يقاتلونا حتى يردونا عن ديننا إن استطاعوا.
وأخبر أنه متى أطعناهم واتبعنا أهواءهم، كنا من المخلدين في النار، إذا متنا على ذلك، نسأل الله العافية من ذلك، ونعوذ بالله من موجبات غضبه وأسباب انتقامه.
الوجه الرابع: من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن؛ لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاما وضعية تخالف حكم القرآن، حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام، وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف، وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين والردة السافرة، كما قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(/11)
وقال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وقال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وكل دولة لا تحكم بشرع الله، ولا تنصاع لحكم الله، ولا ترضاه فهي دولة جاهلية كافرة، ظالمة فاسقة بنص هذه الآيات المحكمات، يجب على أهل الإسلام بغضها ومعاداتها في الله، وتحرم عليهم مودتها وموالاتها حتى تؤمن بالله وحده، وتحكم شريعته، وترضى بذلك لها وعليها، كما قال عز وجل: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ
فالواجب على زعماء القومية ودعاتها، أن يحاسبوا أنفسهم ويتهموا رأيهم، وأن يفكروا في نتائج دعوتهم المشئومة، وغاياتها الوخيمة، وأن يكرسوا جهودهم للدعوة إلى الإسلام ونشر محاسنه والتمسك بتعاليمه والدعوة إلى تحكيمه بدلا من الدعوة إلى قومية أو وطنية، وليعلموا يقينا أنهم إن لم يرجعوا إلى دينهم ويستقيموا عليه ويحكموه فيما شجر بينهم، فسوف ينتقم الله منهم، ويفرق جمعهم، ويسلبهم نعمته، ويستبدل قوما غيرهم، يتمسكون بدينه ويحاربون ما خالفه كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ وقال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فيا معشر القوميين: راقبوا الله سبحانه، وتوبوا إليه، وخافوا عذابه واشكروه على إنعامه، وذلك بتعظيم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والعمل بهما ودعوة الناس إلى ذلك، وتحذيرهم مما يخالفه، ففي ذلك عز الدنيا والآخرة، وصلاح أمر المجتمع، وراحة الضمير وطمأنينة القلب، والسعادة العاجلة والآجلة، والأمن من عذاب الله في الدنيا والآخرة. وكل ما خالف ذلك من الدعوات، فهو دعوة إلى جهنم، وسبيل إلى قلق الضمائر، واضطراب المجتمع، وتسليط الأعداء، وحرمان السعادة والأمن في الدنيا والآخرة، كما قال ذو العزة والجلال في كتابه المبين: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى فأبان سبحانه في هذه الآيات أن من اتبع هداه لم يضل ولم يشق، بل له الهدى والسعادة في الدنيا والآخرة ومن أعرض عن ذكره فله المعيشة الضنك في الدنيا، والعمى والعذاب في الآخرة، ومن ضنك المعيشة في الدنيا ما يبتلى به أعداء الإسلام من ظلمة القلوب وحيرتها، وما ينزل بها من الغموم والهموم والشكوك والقلق، وأنواع المشاق في طلب الدنيا وجمعها والخوف من نقصها وسلبها، وغير ذلك من أنواع العقوبات المعجلة في الدنيا، كما قال الله سبحانه: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ وقال تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ والآيات في هذا المعنى كثيرة، نسأل الله أن يصلح قلوبنا، وأن يعرفنا بذنوبنا، ويمن علينا بالتوبة منها، وأن يهدينا وسائر إخواننا سواء السبيل، إنه على كل شيء قدير.
ولنختم الكلام في هذا المقام بنبذة من كلام الكاتب المصري الشهير الشيخ: محمد الغزالي تتعلق بالقومية قد أجاد فيها وأفاد، حيث قال في كتابه: (مع الله) صفحة 254 ما نصه:
لا مكان للإلحاد بيننا(/12)
ما هؤلاء الناس؟ إنهم ليسوا عربا ولا عجما ولا روس ولا أمريكان!! إنهم مسخ غريب الأطوار صفيق الصياح، بليت به هذه البلاد إثر ما وضعه الاستعمار بها وترك بذوره في مشاعرها وأفكارها، فهم - كما جاء في الحديث - من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، بيد أنهم عدو لتاريخنا وحضارتنا وعبء على كفاحنا ونهضتنا، وعون للحاقدين على ديننا والضانين بحق الحياة له ولمن اعتنقه.
إن هؤلاء الناس الذين برزوا فجأة، وملأت ضجتهم الأودية كما تملأ الضفادع بنقيقها أكناف الليل، يجب أن يمزق النقاب عن سريرتهم، وأن تعرفهم هذه الأمة على حقيقتهم، حتى لا يروج لهم خداع، ولا ينطلي لهم زور، إن صفوف الذين يلبسون مسوح العروبة، ويندسون خلال صفوف المجاهدين، ويزعمون أنهم مبشرون بالقومية العربية ورافعون لألويتها، وفي الوقت نفسه ينسحبون من تقاليد العروبة، ويهاجمون أجل ما عرفت به، ويبعثرون العوائق في طريق الإيمان ورسالته إن هؤلاء الناس ينبغي أن يماط اللثام عن وجوههم الكالحة، وأن تلقى الأضواء على وظيفتهم التي يسرها الاستعمار لهم، ووقف بعيدا يرقب نتائجها المرة، وما نتائجها إلا الدمار المنشود لرسالة القرآن، وصاحبها العظيم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لقد قرأنا ما يكتبون، وسمعنا ما يقولون، ولم يعوزنا الذكاء لاستبانة غاياتهم، فهم ملحدون مجاهرون بالكفر، يقولون في صراحة: إن الإسلام ليس إلا نهضة عربية، فاز بها هذا الجنس العظيم في القرون الوسطى، واستطاع في فورته العارمة أن يجتاح العالم بقيادة رجل عبقري، هو الزعيم الكبير: محمد صلى الله عليه وسلم أي أن هذا الدين الجليل، نبت من الأرض، ولم ينزل من السماء، وأنه انطلاقة شعب طامح فاتح، وليس هداية مثالية فدائية، جاءت من عند الله لتنقذ العرب من جاهلية طامسة، كانوا بها في مؤخرة البشر، إلى حنيفية سمحة رفعت خسيستهم، ثم انتشر شعاعها بعد في أنحاء الأرض، كما تنتشر الأضواء في عرض الأفق لدى الشروق. والفضل في ذلك كله لله وحده، الذي اصطفى محمدا، وامتن عليه بالهدى والحق، بعد أن قال له: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ
وقال: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ كما يقول في العرب الذين أرسل فيهم: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فأي زحف عربي هنالك؟ وأي عبقرية أنشأت من عندها هذا الغيث الممرع لأهل الأرض؟ إن الزعم: بأن الإسلام (ثورة عربية) أكذوبة كبرى وأضلولة شائنة، وإن هذا القول ليس تكذيبا للإسلام فقط، بل دعوة خطيرة إلى تكذيب الديانات كلها، وإلى إشاعة الكفر والفسوق والعصيان في أنحاء الأرض، والغريب أن هؤلاء الناس يخاصمون الإسلام بعنف، ويحاربون أمته بجبروت، ويهادنون الأديان الأخرى من سماوية وأرضية، كأن الإسلام هو العدو الذي كلفوا باستئصاله وحده، لا بل هو العقبة الفذة التي وضعت المعاول في أيديهم لإهالتها ترابا، أجل، وهل للاستعمار عدو في هذه البلاد إلا الإسلام؟ إنه مصدر المقاومة العنيدة، وروح الكفاح الباسل الذي أعيا المهاجمين وأحبط مؤامراتهم، ومن ثم فعلى الاستعمار أن ينسج خيوطه حوله ليقتله، ويحول بينه وبين الحياة الكريمة، ولقد ابتدع القوميات الضيقة واستجباها بشتى الأساليب، لينال من كيان هذا الدين، فلما سقطت أمام الإسلام في المعركة، دس أتباعه تحت لواء القومية العربية، وزودهم بضروب من الادعاء، ليزحموا العرب المخلصين في هذا الميدان، ولينالوا من الإسلام بطريقة أخرى.(/13)
وتفسير القومية العربية هذا التفسير الكفور الكنود، هو حرب أخرى ضد الإسلام، إنه لجدير أن يتسمى هؤلاء بأتباع القومية العبرية لا العربية. أليسوا يعملون لمصلحة الاستعمار وإسرائيل، ولقد مرت أربعة عشر قرنا على اشتباك العروبة بالإسلام، أو بتعبيرنا نحن أهل الإيمان: على تشريف الله العرب بحمل هذه الأمانة وإبلاغها للناس، ونظرة إلى البعيد تعرفنا بسهولة أن العرب مرت عليهم أدهار قبل الإسلام، لم يكونوا فيها شيئا مذكورا، ثم جاء هذا الدين فدخلوا التاريخ به، وطار صيتهم تحت رايته، وصدق الله إذ يقول وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ثم أخطأ العرب، فظنوا أن هذا الدين العالمي الذي نزلت فيهم آياته، يمنحهم امتيازا خاصا، ويجعلهم عنصرا أرقى من سائر الأجناس، ونشأ عن هذا الخطأ رد الفعل الذي لا بد منه، فقامت الشعوب الأخرى تدافع عن قيمة دمائها وكرامة عنصرها، وهذه الأغلاط المتبادلة علتها حنين البشر إلى الجاهلية، واستثقالهم مؤنة السعي لتحصيل الكمال الإنساني، فإذا عز على شخص تافه أن يكون تقيا ينسبه عمله إلى المجد والعلا، ذهب ينتحل نسبا آخر إلى أسرة أو وطن أو جنس، ليرتفع به دون جهد، وتلك كلها عصبيات باطلة ونزعات نازلة، ولا محل لها في دين، ولا وزن لها عند رب العالمين، ولكن المهم أن العرب الأولين لما أرادوا المفاخرة والتميز كان الإسلام متكأهم ومعقد فخارهم، فبأي شيء يملئون أفواههم إذا لم يذكروا الإسلام؟ إن وطابهم خال وتاريخهم صفر، حتى جاء الأفاكون في هذا الزمان بالبدعة التي لم يسمع بها إنسان، فإذا العروبة في نظرهم يجب أن تتجرد من الإيمان، وزعموا - قبحهم الله - أنها بالانسلاخ عن الدين تسمو وتسير، بل إن أحد الكتاب من هذه العصابة وجد الوجه الذي يطالع به الناس ليقول: إن الإسلام جنى على العروبة، وإن اللغة العربية قد انتشرت أبعد مما انتشر الإسلام، وإن الإسلام - لأنه عالمي - ضار بالقومية العربية. وظاهر أن هذا الكلام بقطع النظر عن بطلانه، إنما يروج لحساب الاستعمار الغربي منه والشرقي على السواء، وأن قائله يخدم أهداف الغزاة الذين عسكرت جيوشهم في بعض أقطار العروبة وأنزلت بها الهون، ووقفت على حدود البعض الآخر تتربص به الدوائر.
وكاتب آخر من هذه العصابة يطلب منا بإلحاح: أن ننسى التاريخ؛ لأنه لا يضم إلا رفات الموتى، وأن نتطلع إلى المستقبل فحسب، ونسي هذا الغر أن اليهود في كبد الشرق الأوسط، أقاموا دولتهم بإمداد من التاريخ الموحى، وأنهم جعلوا اسم إسرائيل علما عليها، إنه حلال للناس جميعا أن يستصحبوا تاريخهم في كفاحهم، أما نحن المسلمين فحرام علينا أن نذكر فصلا من هذا التاريخ، وأن نستوحي منه عونا في جهاد وأملأ في امتداد، إنها قومية عبرية لا عربية، تلك التي يبشر بها الملحدون وكارهو الإسلام، ولقد عرف الأولون والآخرون أننا نحن المسلمين أحنى الناس على العروبة وأوصلهم لمجدها، وأخلصهم لقضاياها، وأن هؤلاء القوميين لا خير فيهم، بل إنهم مصدر شر طويل وأذى ثقيل).
انتهى ما أردنا نقله للقراء من كلام الشيخ: محمد الغزالي هاهنا،
وقال أيضا في كتابه المذكور صفحة 347 ما نصه:
الهدم الروحي
يجتهد الاستعمار في صرف المسلمين عن دينهم بكل ما يتاح له من وسائل، وفي جعل حركات التحرر الناشطة في بلادهم مبتوتة العلاقة بالدين، حتى تولد ميتة، أو تحيا عقيمة لا ثمر لها ولا زهر وما من نهضة في الأولين والآخرين إلا ولها دعامة معنوية تقوم عليها، وسناد روحي تتحرك به، ولما كان عمل الدين في هذه الحالة ملأ القلوب بالضمائر الحية، وبنى الأخلاق على الفضيلة، وصبغ الحياة بتقاليد جامعة ومعلومة وواضحة، ورص الصفوف على إحساس مشترك، ودفعها إلى مصير واحد، فإن الاستعمار استهدف إقصاء الدين عن آفاق البلاد كلها، وتكوين أجيال غريبة عنه، إن لم تكن كارهة له.
بل إن ذكر الإسلام أصبح محظورا في المناسبات الجادة، والشئون الهامة، وقد يحوم البعض حوله، ولكنه يوجل من التصريح به، كأن الإسلام مجرم ارتكب ذنبا ثم فر من القضاء الذي حكم بعقوبته، فهو لا يستطيع الظهور في المجتمعات، وربما تلوح له فرصة الظهور متنكرا، تحت اسم مستعار، فيتحرك قليلا هنا وهناك، حتى إذا أحس انكشاف أمره استخفى من الأنظار، يا عجبا، لماذا يلقى الإسلام هذا الهوان كله؟
والجواب: عند الاستعمار الذي يجر خلفه ضغائن القرون الأولى ويضع نصب عينه ألا تقوم للإسلام قائمة في بلاده، فهو حريص على خنقه في ميدان التربية والمعاملات والتشريع، وسائر ألوان الحياة، إنه يطمئن إلى مجتمع واحد، المجتمع الذي مات ضميره، والذي تفسخت أخلاقه، في هذا المجتمع الذي غاصت منه معاني الفضل، واستغلظت فيه غرائز الشره، وزحفت فيه ثعابين الأثرة.(/14)
يستطيع الاستعمار أن يطمئن إلى يومه وغده، فإذا جاء الإسلام ليمسح هذه الأقذار طلب منه على عجل أن يعود إلى وكره ليخفى عن الأعين. إنه اسم لا ينبغي أن يذكر وحقيقة لا يجوز أن تعيش.
هكذا حكم الاستعمار، حتى قيض الله لنا فكرة العروبة عنوانا، نستطيع تحته أن ندفع غوائل الموت، وقد هششنا للفكرة، ورجونا من ورائها الخير، وللعروبة المجردة مثل تعكر على الاستعمار مآربه، إن التعليم في ظل الاحتلال الأجنبي أوجد أناسا تحركهم الشهوات وحدها، أناسا فرغت عواطف اليقين من أفئدتهم فهي هواء، فإذا جاءت إليهم العروبة، فهل يعرفون أن العفة من خلائقها، وأن تقديس العرض من شمائلها، وأن المحافظة على الحريم من صفاتها الباطنة والظاهرة. إن أمثال العرب في الجاهلية تشهد بما لهم من غيرة على نسائهم، فالمثل القائل: (كل ذات صدار خالة) يعني: أن العرب يجعلون في حكم الخالة كل من تلبس ثياب المرأة، فما ينظرون إليها إلا نظرة الاحترام والعفة، وذلك أن الخالة بمنزلة الأم، ويقول الشاعر:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي ... ... حتى يواري جارتي مثواها
ويقول الآخر:
ولا ألقي لذي الودعات سوطي ... ... أداعبه، وريبته أريد...!
يعني: أنه يداعب طفلا مع أمها ابتغاء إثم بالأم نفسها، فهل هذه الشوارع الغاصة بمتتبعي العورات وبغاة الدنية شوارع عربية؟
وهل عرب أولئك الذين ترى الواحد منهم يتأبط ذراع فتاة متبرجة لعوب تسير في وضع يقول لكل ناظر (هيت لك)؟ والعرب الأقدمون كانوا أصحاب كرم غريب، وإيثار لامع، ونهوض بالحق على عض الزمن وشدة الحاجة، واسمع قول عروة بن الورد:
وإني امرؤ عافى إنائي شركة ... ... وأنت امرؤ عافى إنائك واحد
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى ... ... بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أفرق جسمي في جسوم كثيرة ... ... وأحسو قراح الماء والماء بارد
أرأيت صورة الإنسان النبيل، يؤثر غيره بالطعام، ويستعيض برشحات من الماء البارد يصفر بها وجهه، وهو يأبى تضييع من نزلوا به، وحسبه أنه فرق جسمه في جسوم كثيرة.
احتفظ بهذه الصورة، ثم سل نفسك: أمدن عربية هذه التي تراها مزدحمة بأصحاب الفضول من المال النامي. ومع ذلك فقلما تؤوي يتيما، أو تغذو محروما، وما لنا نبحث عن الشمائل العربية المفقودة في بيئات مسخها الاستعمار، وترك عليها طابع الحيوانية والتقطع، إنك ترى الواحد من أولئك يقول: إنه عربي ولغة العرب لا تستقيم على فمه، ومن أعاجيب الليالي أن أسمع المذيع مثلا يقول: يا أخي المواطن، أحنا بنعمل إيه في هذه الأيام، وكان يستطيع أن يقول ما نعمل في هذه الأيام، ولكنه حريص على تخليد لغة الرعاع، والتنكر للغة الفصحى، وهي اللغة التي ترسل بها الإذاعات من جميع محطات العالم لمستمعيها على اختلاف ألسنتهم، إذ أن يخاطب المذيع قومه، في أي عاصمة بلغة غير الفصحى، فهل من مظاهر الوفاء لعروبتنا أن نذيع نحن بلغة الرعاع؟
الواقع: أن الإسلام وحده هو الذي يخلد العروبة لغة وأدبا وخلقا، وأن التنكر لهذا الدين معناه القضاء الحقيقي على العروبة في لغتها وأدبها وخلقها، ولذلك يجب على الدعاة أن يستميتوا في إبراز هذا الاسم بقدر ما يستميت الاستعمار في إخفائه، وأن يذهبوا عنه الوحشة التي صنعها أعداؤه حوله، حتى يصبح مألوفا في الآذان، محببا إلى القلوب، وإظهار هذا الاسم لا يكفي، فما قيمة شكل لا جوهر لها يجب على الدعاة أن يجمعوا الجماهير على تعاليمه وأن ينعشوا أنفسهم بروحه. .
الضمير الديني الخاشي لله، الرحيم بخلقه، المحتفي بالواجبات، النفور من الرذائل، الشجاع في نصرة الحق، المستعد للقاء بالله، المتأسي بصاحب الرسالة، هذا الضمير، يجب أن ندعمه بل أن نوجده في كل طائفة، وأن يربط به إنجاز كل عمل، ونجاح كل مشروع، ومنع كل تفريط، وصيانة كل حق، فالإسلام قبل كل شيء قلب كبير، قلب موصول بالله، يبادر لمرضاته ويتقيه حيث كان، وهذا القلب لا يتكون من تلقاء نفسه، ويستحيل أن يتكون بداهة وسط تيارات الشكوك والتجهيل التي تسلط عليه عمدا ليتوقف ويزيغ، إنه يتكون بأغذية روحية منظمة، تقدم له في برامج التعليم، وفي عظات المساجد، وفي صبغ البيئة بمعان معينة، تساعد على احترام الفضيلة وإشاعتها، ونحن أحوج ما نكون لإنشاء هذه الضمائر في الذراري المحدثة التي عريت عنها، والطبقات الكثيفة التي مردت على العبث والاستخفاف بجميع القيم، إنني أستغرب كيف نشتري آلة ما بأغلى الأسعار، ثم نوقف أمامها عاملا لا يتقي الله، فهي تخرب بين يديه على عجل، أو يقل إنتاجها لو قدر لها البقاء سليمة، إننا لو بذلنا شيئا زهيدا لغرس التدين الحق في قلب هذا العامل لربحنا الكثير، أفلا يبذل المسئولون هذا الشيء بالزهيد، ولو على اعتباره نفقات صيانة للآلة التي اشتريت؟(/15)
إن من حق الله علينا ومن حق بلادنا علينا أن نربي الصغار والكبار باسم الإيمان لابتداء عمل ما، فسوف يتم على خير الوجوه، إن للضمير الديني علاقة راشدة بالسماء، ونواة مباركة في الأرض، وما أصدق قول الأستاذ: أحمد الزين في وصفه:
هو صوت السماء في عالم ال ... ... أرض وروح من اللطيف الخبير
وشعاع تذوب تحت سناه ... ... خدع العيش من رياء وزور
هو سر يحار في كنهه اللب ... ... وتعيا به قوى التفكير
مبلغ العلم أنه روح خير ... ... باطن الشخص ظاهر التأثير
كل حي عليه منه رقيب ... ... حل من قلبه مكان الشعور
حل حيث الأهواء تنزو إلى الإثم ... ... م وتهفو إلى مهاوي الشرور
جامحات أعيت على الناس كبحا ... ... رغم إنذارها بسوء المصير
ثم صاح الضمير فيها نذيرا ... ... فأصاخت إلى صياح النذير
هو روح من الملائك يسمو ... ... بسليل الثرى لعالم نور
قد تولت بالأنبياء عصور ... ... وهو باق على توالى العصور
حافظا في الزمان ما خلفوه ... ... قائما في الصدور بالتذكير
حاملا من شرائع الخير كتبا ... ... قدست من صحائف وسطور
ليس يعفو عن الهنات وإن أن ... ... تملح في اللوم والتعزير
ونحن ننشد هذا الشعر هنا تكريما للأدب العالي، وإلا فلا مجال لقول بعد أن نتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب انتهى المقصود من كلام الغزالي في كتابه: (مع الله) جزاه الله خيرا، ولعظيم فائدته نقلته هاهنا. وأسأل الله عز وجل أن يصلح قلوب المسلمين ويعمرها بتقواه، وأن يمن علينا وعلى جميع شبابنا وسائر إخواننا بالفقه في الدين، والاستقامة على صراط الله المستقيم، فإن ذلك هو سبيل النجاة والفوز بالعزة والكرامة في الدنيا والآخرة، كما قال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وقال تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " والله أعلم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تكميل في المحرم من العام الماضي، أعني: عام 1380 هـ سألني مندوب صحيفة البلاد عن مسائل، بعضها يتعلق بالقومية، فأجبته بما نشر في صحيفة البلاد.
ولتكميل الفائدة للقراء رأيت أن أذكر الأسئلة والأجوبة هاهنا، وهذا نصها:
السؤال الأول: ما رأي فضيلتكم في الدعوة التي تقوم بها بعض الأوساط الخارجية إلى أن القومية العربية وحدها هي الرابطة الأولى بين العرب؟
السؤال الثاني: ما رأي فضيلتكم في الاتجاه الذي يبدو واضحا في هذه الأيام للمقارنة بين القومية والإسلام، والذي يظهر في بعض الجرائد والمجلات بالمملكة؟
السؤال الثالث: بعض المخلصين من الوعاظ يعالجون في وعظهم الأمور البسيطة الفرعية في الدين كطريقة حلاقة الرأس، أو شكل الملابس، في حين أن هناك أمورا هامة تتصل بالعقيدة، تحتاج من هؤلاء المخلصين من الدعاة إلى عناية خاصة لأنها أمور هامة أساسية، فما رأي فضيلتكم في هذا؟
السؤال الرابع: تود جريدة البلاد أن تحمل من فضيلتكم نصيحة إلى قرائها من مختلف الطبقات فما هي؟ .(/16)
الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: لا ريب أن الدعوة إلى أن تكون القومية العربية هي الرابطة الأولى بين العرب، دعوة باطلة لا أساس يؤيدها، لا من العقل ولا النقل، بل هي دعوة جاهلية إلحادية يهدف دعاتها إلى محاربة الإسلام، والتملص من أحكامه وتعاليمه. وقد يدعو إليها من لا يقصد هذا المعنى، وإنما دعا إليها تقليدا لغيره وإحسانا للظن به، ولو عرف حقيقة المقصود منها لحاربها وابتعد عنها، وكل من له أدنى معرفة بتاريخ العرب قبل الإسلام وبعد يعلم إنه لم يكن للعرب كبير قيمة تذكر ولا راية ترهب إلا بالإسلام، وبه فتحوا البلاد وسادوا العباد، وبه كانوا أمة مرهوبة الجانب، محترمة الحقوق مرفوعة الرأس، حتى غيروا فغير عليهم، كما قال الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ الآية. ولا أحب أن أطيل في هذا الميدان؛ لأن الصحيفة لا تتحمل ذلك، والحق في ذلك أوضح من الشمس، لا يرتاب فيه من له أدنى إلمام بحال العرب والإسلام، وما أحسن قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ وقوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ وإذا كان الهدف من الدعوة إلى القومية العربية أن يجتمع العرب، وأن يشتركوا في مصالحهم، وأن ينتصفوا من عدوهم ويطردوه عن بلادهم، فليس هذا هو السبيل إلى هذا الغرض النبيل، وإنما السبيل الوحيد هو الرجوع إلى دينهم الحق، الذي به شرفوا وعرفوا وبرزوا في الميدان، وسادوا الأمم، والتمسك بتعاليمه السمحة وأحكامه الرشيدة، وتحكيمه في كل شيء، والموالاة في ذلك والمعاداة فيه، وبذلك يحصل الاجتماع، وتدرك المصالح وينتصف من الأعداء، ويكون النصر عليهم مضمونا والعاقبة حميدة في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى في محكم التنزيل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وقال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ وقال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا الآية. والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة. وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمة الله عليه في هذا المعنى: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها لقد صدق هذا الإمام في هذه الكلمة القصيرة العظيمة.
اللهم أصلحنا وولاة أمرنا جميعا وسائر المسلمين إنك سميع قريب.
وأما السؤال الثاني فالجواب عنه: أن يقال: إن من أعظم الظلم وأسفه السفه، أن يقارن بين الإسلام وبين القومية العربية، وهل للقومية المجردة من الإسلام من المزايا ما تستحق به أن تجعل في صف الإسلام، وأن يقارن بينها وبينه؟ لا شك أن هذا من أعظم الهضم للإسلام والتنكر لمبادئه وتعاليمه الرشيدة، وكيف يليق في عقل عاقل أن يقارن بين قومية لو كان أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وأضرابهم من أعداء الإسلام أحياء لكانوا هم صناديدها وأعظم دعاتها، وبين دين كريم صالح لكل زمان ومكان، دعاته وأنصاره هم: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق، وعمر ابن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة صناديد الإسلام وحماته الأبطال، ومن سلك سبيلهم من الأخيار؟ لا يستسيغ المقارنة بين قومية هذا شأنها، وهؤلاء رجالها وبين دين هذا شأنه وهؤلاء أنصاره ودعاته، إلا مصاب في عقله، أو مقلد أعمى، أو عدو لدود للإسلام ومن جاء به. وما مثل هؤلاء في هذه المقارنة إلا مثل من قارن بين البعر والدر، أو بين الرسل والشياطين، ومن تأمل هذا المقام من ذوي البصائر، وسبر الحقائق والنتائج، ظهر له أن المقارنة بين القومية والإسلام، أخطر على الإسلام من المقارنة بين ما ذكر آنفا. ثم كيف تصح المقارنة بين قومية غاية من مات عليها النار، وبين دين غاية من مات عليه الفوز بجوار الرب الكريم، في دار الكرامة والمقام الأمين؟
اللهم اهدنا وقومنا سواء السبيل، إنك على كل شيء قدير.(/17)
الجواب على السؤال الثالث: لا ريب أن المرشدين هم أطباء المجتمع، ومن شأن الطبيب أن يهتم بمعرفة الأدواء ثم يعمل على علاجها بادئا بالأهم فالأهم، وهذه طريقة أنصح الأطباء وأعلمهم بالله وأقومهم بحقه وحق عباده، سيد ولد آدم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم فإنه صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله بدأ بالنهي عن أعظم أدواء المجتمع وهو الشرك بالله سبحانه، فلم يزل صلى الله عليه وسلم من حين بعثه الله يحذر الأمة من الشرك ويدعوهم إلى التوحيد إلى أن مضى عليه عشر سنين، ثم أمر بالصلاة، ثم ببقية الشرائع، وهكذا الدعاة بعده: عليهم أن يسلكوا سبيله وأن يقتفوا أثره، بادئين بالأهم فالأهم ولكن إذا كان المجتمع مسلما ساغ للداعي أن يدعو إلى الأهم وغيره، بل يجب عليه ذلل حسب طاقته؛ لأن المطلوب إصلاح المجتمع المسلم وبذل الوسع في تطهير عقيدته من شوائب الشرك ووسائله، وتطهير أخلاقه مما يضر المجتمع ويضعف إيمانه. ولا مانع من بداءته بعض الأوقات بغير الأهم، إذا لم يتيسر الكلام في الأهم، ولا مانع أيضا من اشتغاله بالأهم وإعراضه عن غير الأهم، إذا رأى المصلحة في ذلك وخاف إن هو اشتغل بهما جميعا أن يخفق فيهما جميعا، وهكذا شأن المصلحين والأطباء المبرزين، يهتمون بطرق الإصلاح ويسلكون أنجعها وأقربها إلى النتيجة المرضية، وإذا لم يستطيعوا تحصيل المصلحتين أو المصالح، أو تعطيل المفسدتين، اهتموا بالأهم من ذلك واشتغلوا به دون غيره، ومن تأمل قواعد الشرع وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وسيرة خلفائه الراشدين والأئمة الصالحين، علم ما ذكرته، وعرف كيف يقوم بإرشاد الناس، وكيف ينتشلهم من أدوائهم إلى شاطئ السلامة، ومن صحت نيته وبذل وسعه في معرفة الحق، وطلب من مولاه الهداية إلى خير الطرق، وأنجعها في الدعوة، واستشار أهل العلم والتجارب فيما أشكل عليه، فاز بالنجاح وهدي إلى الصواب، كم قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
الجواب الرابع: نصيحتي لجميع القراء هي: أن يأخذوا بوصية الله سبحانه التي أوصى بها في كتابه الكريم حيث يقول: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ والتقوى كما يعلم القارئ الكريم كلمة جامعة، حقيقتها: أن يتقي العبد غضب الرب وعذابه، بفعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، عن علم وإيمان وإخلاص ومحبة ورغبة ورهبة، وبذلك يفوز بالسعادة وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وهما أنصح به القراء وهو من جملة التقوى، التثبت في الأمور، والتريث في الحكم عليها، إلا بعد دراستها من جميع نواحيها، وبعد التحقق من معناها ومعرفته معرفة تامة بعرض ذلك المعنى على الميزان الشرعي وهو كتاب الله، وما صح من السنة، فما وافق ذلك الميزان قبل، وما خالفه ترك، ويجب أن يكون القارئ في دراسته للأشياء، وعرضه لها على الميزان المذكور، بعيدا كل البعد عن الإفراط والتفريط، متجردا عن ثوبي التعصب والهوى، ومتى سلم من هذه الأمور، ودرس الأمور حق دراستها بإخلاص، وقصد حسن، وفق للحقيقة وفاز بالصواب ، وحمد العاقبة، وكم جرت العجلة على أصحابها وغيرهم من ويلات ومشاكل، تذهب الأيام والليالي وآثارها وتبعتها باقية؟ وكم حصل بسبب التعصب والهوى من فساد ودمار وعواقب لا تحمد؟ نسأل الله السلامة من ذلك. ومما أنصح به القراء أيضا وهو من أهم التقوى دعوة العباد إلى الله سبحانه والتواصي بالحق والصبر عليه، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والتغيير حسب الطاقة، كما في الحديث الصحيح:" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " وأسأل الله للجميع الثبات على الحق والعافية من مضلات الفتن، إنه خير مسئول، وأكرم مجيب، والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(/18)
نقض الحكم لتجاوز الاختصاص القضائي في النوع
د. أحمد بن محمد بن صالح الخضيري 3/4/1426
11/05/2005
نقض الحكم القضائي في الاصطلاح الشرعي: هو إبطاله من قبل القاضي الذي صدر منه الحكم أو غيره ممن له ولاية ذلك عند وجود سببه.
والنقض هو وسيلة إلى إصلاح الأحكام القضائية وردها إلى جادة الصواب، وذلك لأن البشر قد جبلوا على النقص والخطأ والتفاوت في الفهم والإدراك، فقد يخطئ القاضي مثلاً في تقدير الأدلة والنظر في البينات، وقد يلبس عليه فهم الواقعة فيقع حكمه في غير محله، وإذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول عن نفسه: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئًا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار"(1)، فغيره من باب أولى.
وقد يكون القاضي من قضاة الجور فيتعدى في أحكامه ولا يتحرى الصواب مما يجعلها عرضة للنقض.
وعلى هذا فلا يتصور أن تكون جميع أحكام القضاة موافقة للحق والصواب، بل لا بد أن يقع بعضها في الخطأ والبعد عن الصواب، ولا ينكر وقوع هذا من القاضي إذا بذل وسعه واجتهد في تحصيل الحق، بل هو مأجور على اجتهاده، ولكن يتعين المسارعة إلى نقض هذا الحكم والرجوع إلى الحق، وعدم الإصرار على الباطل بعد تبنيه، ونقض الحكم القضائي عند وجود سببه فيه تحقيق للعدل في ا لقضاء الذي أمر الله تعالى به، وانتهاء عن الباطل الذي نهى عنه، فينشأ عن ذلك حفظ حقوق العباد، وصلاح أحوالهم وثقتهم بالقضاء الشرعي الذي لا يقر الباطل ولا يرتضيه.
وأسباب نقض الحكم القضائي كثيرة متنوعة باعتبارات مختلفة، فمنها ما له تعلق بالقاضي الذي أصدر الحكم، ومنها ما له تعلق بالحكم نفسه، ومنها ما له تعلق بطريق الحكم، ونحو ذلك، ومرد هذه الأسباب هو وقوع الخطأ والخلل، قال السبكي: "ونريد أن ننبه هنا على فائدة في نقض الحكم ولا شك أن الحكم إنما ينقض لتبين خطئه"(2)، وقال أيضًا: "واعلم أن مدار نقض الحكم على تبين الخطأ"(3).
وقال ابن القيم: "الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له الحكم إلا بها: معرفة الأدلة، والأسباب، والبينات، فالأدلة تعرفه الحكم الشرعي الكلي، والأسباب تعرفه ثبوته في هذا المحل المعين أو انتفاءه منه، والبينات تعرفه طريق الحكم عند التنازع، ومتى أخطأ في واحد من هذه الثلاثة أخطأ في الحكم، وجميع خطأ الحكام مداره على الخطأ فيها، أو في بعضها"(4).
وقد اجتهدت في استيعاب هذه الأسباب في رسالتي للدكتوراة الموسومة بـ "نقض الأحكام القضائية" وقد حوت دراسة شاملة لموضوع النقض.
ويهمني هنا أن أبين أحد الأسباب المهمة التي ينقض لأجلها الحكم القضائي: وهو تجاوز الاختصاص القضائي في نوع القضايا أو الخصوم.
وفي البداية ينبغي أن نعلم أن الغرض من تخصيص الإمام للقضاة بنوع القضايا أو الخصوم هو المصلحة العامة التي تخدم القضاء والمتقاضين من حيث الإسراع في بت القضايا والتخفيف عن القضاة الذين يشتغلون بالقضايا الكبرى، كما أنه يعين القاضي المختص في بحث ودراسة القضايا التي تدخل في نطاق اختصاصه، واكتساب الخبرة فيها مما يقلل الخطأ، ويؤدي إلى سرعة الفصل في القضايا، فليس في التخصيص إذا تم على وجهه الشرعي مساس بوحدة القضاء ووظيفته، بل هو يخدم القضاء والمتقاضين، ولكن إذا كان المراد بالتخصيص إحالة بعض القضايا أو الخصوم إلى جهات غير شرعية تتولى الفصل فيها فهذا لا يجوز، وهو يضر بالقضاء الشرعي لما يؤدي إليه من انتزاع لبعض أجزائه وإحالتها إلى جهات غير مخولة شرعاً بممارسة عمل القضاء.
وإذا تقرر هذا فإني سأبين في هذه الدراسة نقض حكم القاضي لمخالفة هذا الاختصاص إذا كان الاختصاص قد تم على وجهه الشرعي:
فاختصاص القاضي النوعي -كما أسلفنا- يكون في نوع القضايا، أو نوع الخصوم.
ومن الأمثلة على الاختصاص بنوع القضايا: أن يقلد الإمام القاضي في بعض الأحكام دون بعض، كأن يقلده في الأنكحة دون الأموال، أو في الدماء دون غيرها، أو يقلده في مقدار معين من المال لا يتجاوزه، أو في دعوى معينة فلا يتعداها إلى غيرها، ولو كانت مثلها بحيث تنتهي مهمته بالبت فيها (5).
ومن الأمثلة على الاختصاص بنوع الخصوم: أن يقلد الإمام القاضي على أن يحكم بين شخصين معينين، أو بين قبيلة معينة، أو بين النساء دون الرجال، أو العكس، أو يخصص قاضياً للأحداث، وقاضياً لأهل البادية، وقاضياً لأهل الذمة، ونحو ذلك (6).
وقد يكون الاختصاص في نوع القضايا والخصوم معاً، ومثال ذلك: أن يخصه بالقضاء بين شخصين معينين في خصومة معينة وقعت بينهما، فلا يقضي في غير هذه الخصومة، ولا بين غير هذين الخصمين(7).
وإذا كان نظر القاضي خاصاً بنوع ما مما تقدم فعليه أن يلتزم بذلك، ولا يجوز له أن يحكم خارج اختصاصه الذي حدد له وإلا كان حكمه مستحقاً للنقض؛ لوقوعه فيما لا ولاية له فيه.(/1)
قال السمناني:" وإن عين الموضع والخصوم جاز ذلك، ولم يكن له أن يحكم في غير الموضع، ولا على غير من عين له، وكل ذلك لا خلاف فيه"(8).
وجاء في الفتاوى البزازية(9):"قلد السلطان رجلاً القضاء وشرط عليه أن لا يسمع قضية رجل بعينه يصح الشرط، ولا ينفذ قضاء القاضي على هذا الرجل".
وقال الطرابلسي:"ويجوز استثناء سماع بعض الخصومات، أو سماع خصومة رجل بعينه، ولا يصير قاضياً في المستثنى"(10).
وقال ابن نجيم:"ولو استثنى حوادث فلان: لا يقضي فيها، ولو قضى لا ينفذ"(11).
وقال ابن الغرس:"وإذا قال الإمام للقاضي: لا تقض على فلان، ولا لفلان، ولا في الحادثة الفلانية، فإنه لا يصير قاضياً في ذلك"(12).
وشرحه في المجاني الزهرية(13) بقوله:"حتى لو قضى فيه لا ينفذ قضاؤه".
وجاء في مجلة الأحكام العدلية(14):"وكذلك لو صدر أمر سلطاني بأن لا تسمع الدعوى المتعلقة بالخصوص الفلاني؛ لملاحظة عادلة تتعلق بالمصلحة العامة: ليس للقاضي أن يستمع تلك الدعوى ويحكم بها، أو كان القاضي بمحكمة مأذوناً باستماع بعض الخصومات المعينة، ولم يكن مأذوناً باستماع ما عدا ذلك فله أن يسمع الخصومات التي أذن بها فقط وأن يحكم فيها، وليس له استماع ما عداها والحكم بها".
وقال الخرشي في كلامه عن ولاية القضاء:"وإذا قيل تنعقد عامة وخاصة: يجوز للخليفة أن يستثني على القاضي أن لا يحكم في قضية بعينها، أو لا يحكم بين فلان وفلان"(15).
وجاء في منح الجليل(16):"فلو استثنى في ولايته أن لا يحكم على رجل معين صح ذلك".
وقال القرافي في معرض ذكره لرتب الولاية:"الرتبة العاشرة: الولاية الجزئية المستفادة من القضاة وغيرهم، كمن يتولى العقود والفسوخ في الأنكحة فقط، أو النظر في شفاعات الأيتام، أو عقودهم فقط، فيفوض إليه في ذلك النقض والإبرام على ما يراه من الأوضاع الشرعية، فهذه الولاية شعبة من ولاية القضاء، وله إنشاء الأحكام في غير المجمع عليه، وذلك كله فيما وليه فقط، وما عداه لا ينفذ له فيه حكم البتة"(17).
وقال الماوردي:"وأما القسم الثاني: وهو أن يكون التقليد مقصوراً على بعض أهل البلد دون جميعهم فيجوز إذا تميزوا عن غيرهم، فيقول: قلدتك لتقضي بالبصرة بين العرب دون العجم، ويقلد آخر القضاء بين العجم دون العرب، فيكون كل واحد من القاضيين والياً على من اختص بنظره، فلا يجوز لقاضي العرب أن يحكم بين العجم، ولا لقاضي العجم أن يحكم بين العرب، وليس لواحد منهما أن يحكم بين من ليس من العرب ولا من العجم، كالنبط؛ لخروجهم عن نظر كل واحد منهما"(18).
وقال أيضاً:"ويجوز أن يكون القاضي مقصور الولاية على النظر بين خصمين معينين، فيختص بالنظر بينهما، ولا ينظر بين غيرهما"(19).
وقال أيضاً:"وأما النظر الخاص: فهو أن يقلد النظر في المداينات دون المناكح، والحكم بالإقرار من غير سماع بينة، أو في نصاب مقدر من المال لا يتجاوزه، فهذا جائز، ويكون مقصور النظر على ما قلد"(20).
وقال الكرابيسي(21): "إن القضاء مما إذا خص به، بدليل أنه لو خص ببلد اختص به، فكذلك إذا خص [شخص أو نوع] (22) اختص به"(23).
وقال أبو يعلى: "فإن كانت ولايته خاصة، فهي مقصورة النظر على ما تضمنته، كمن جعل له القضاء في بعض ما قدمناه من الأحكام، أو في الحكم بالإقرار دون البينة، أو في الديون دون المناكح، أو في مقدار من المال فيصح التقليد، ولا يجوز أن يتعداه؛ لأنها ولاية فصحت عمومًا وخصوصًا، كالوكالة"(24).
وقال أيضًا: "ويجوز أن تكون ولاية القاضي مقصورة على حكومة معينة بين خصمين، وتكون ولايته عليهما باقية ما كان التشاجر بينهما باقيًا، فإذا بت الحكم بينهما زالت ولايته، فإن تجددت بينهما مشاجرة أخرى لم ينظر بينهما إلا بإذن مجدد"(25).
وقال الموفق ابن قدامة: "ويجوز أن يجعل حكمه في قدر من المال، نحو أن يقول: احكم في المائة فما دونها، فلا ينفذ حكمه في أكثر منها"(26).
وقد يرى الإمام أن ينهى القاضي ويمنعه من نظر دعوى معينة، وإن كانت مما يندرج في اختصاصه؛ لمصلحة يقدرها، وهذا لا يخلو من أحد حالين:
الحال الأولى:
أن يكون نهي الإمام بعد نظر القاضي في الخصوصة، واتضاح الحق له فيها، فهنا على القاضي أن ينفذ حكمه ويصدره، ولا ينظر إلى هذا النهي(27).
ولا يجوز للإمام أن يتوقف حينئذ عن تنفيذ الحكم، لأنه يعارض الأصل من ضرورة تنفيذ الحكم القضائي وعدم تعطيله.
الحال الثانية:
أن يكون نهيه قبل نظر القاضي في الخصومة وتبين الحق فيها، وهذا له ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن ينهى الإمام القاضي عن سماع دعوى بعينها، فلا يجوز للقاضي حينئذ سماعها، وله أن ينظر فيما عداها مما يماثلها (28).
وفي وجه عند الحنابلة أن له الحكم بها(29).
الصورة الثانية:(/2)
أن ينهى الإمام القاضي عن سماع دعاوى تنتظم في وصف معين، مثل أن ينهاه عن نظر قضايا قتل المسلم للكافر، والحر للعبد، لمصلحة يراها، ويعهد بهذه القضايا إلى غيره، فليس للقاضي حيئنذ أن ينظر فيها، لأنها صارت خارجة عن نظره، وإن كان له أن ينظر في غيرها من قضايا القتل(30).
وبناء على ما تقدم فإن حكم القاضي إذا خالف نهي الإمام في هاتين الصورتين يكون مستحقاً للنقض.
الصورة الثالثة:
أن ينهي الإمام القاضي عن سماع الدعوى؛ لمضي مدة طويلة عليها(31)، وهذا ما يعرف بتقادم الدعوى.
وقد نهي عن سماع الدعوى بسبب التقادم مع عدم العذر؛ لأن ترك الدعوى مع التمكن وفقدان العذر فيه دلالة على عدم الحق ظاهراً، لأن العرف والعادة يمنعان سكوت الشخص عن ملكه زمناً طويلاً(32).
وقد اختلف الفقهاء في تحديد المدة التي لا يجوز نظر الدعوى بعدها.
فذهب الحنفية والشافعية وبعض المالكية إلى القول بالتحديد(33)، ثم اختلفوا في مقدار التحديد فورد عن الحنفية تحديد المدة التي يأمر بها السلطان بخمس عشرة سنة(34)، وعشر سنوات وورد ما هو أقل من ذلك على تفصيل عندهم(35).
وورد عن الشافعية تحديدها بخمس عشرة سنة(36).
وورد عن بعض المالكية تحديد المدة بعشر سنوات(37) وقيل: سبع سنوات فأكثر(38).
والقول الآخر في المسألة: أن تحديد المدة موكول إلى اجتهاد الإمام وهو مذهب الحنابلة(39)، والمذهب عند المالكية(40).
ويظهر لي أن ترك تحديد المدة إلى الإمام أو القاضي هو الأولى؛ لأن لكل مسألة ظروفها وملابساتها، ولأن التحديد ينبغي أن يراعى فيه تفاوت الحقوق، وأنواع الدعاوى، وعرف الناس وعاداتهم، وحال الزمان، وقد اختار هذا الرأي الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- فقال:"ليس هناك مدة معينة يعتبر مضيها مانعاً لسماع الدعاوى فيها، حيث إن هذا خاضع للعرف واعتبار الأحوال"(41).
وهذا الرأي أيضاً هو الذي انتهت إليه هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في قرارها رقم 68 الصادر في 21/10/1399هـ ومما جاء فيه:"وحيث إن المجلس لا يعلم نصاً شرعياً خاصاً في تحديد مدة تملك الشيء المعين الذي بيد إنسان وليس لديه إثبات الملكية سوى طول المدة، وادعى إنسان آخر ملكيته ولديه ما يثبت أنه كان ملكاً له بوسيلة من وسائل الملك الشرعية، ونظراً لأن هذه المسألة من المسائل التي تبنى على العرف وعلى قاعدة سد الذرائع، وأن الحكم في كل صورة من صورها يختلف باختلاف الزمان، والمكان والأشخاص والأحوال فإن المجلس يرى عدم تحديد مدة معينة تكون أساساً يبني عليها القضاة أحكامهم، بل يترك الحكم لاجتهادهم، فإذا عرضت صورة من الصور لواحد منهم اجتهد فيها على حسب اختلاف ظروفها وملابساتها وبناها على القاعدة الشرعية التي يمكن أن تنطبق عليها"(42).
وعلى ضوء ما تقدم فإن القاضي إذا سمع دعوى نهاه الإمام عن سماعها، لمضي مدة طويلة عليها فإن حكمه فيها لا يكون نافذاً لمخالفته تقييد الإمام(43).
ومن الأمثلة على الاختصاص بنوع القضايا في العصر الحاضر ما يفعله ولي الأمر من ترتيب القضاء على درجات، بحيث يكون لقضاة الدرجة الأعلى النظر في أحكام قضاة الدرجة الأولى وتمييزها لإقرارها أو نقض ما يستحق النقض منها وهو ما يعرف بـ "تعدد درجات التقاضي"(44).
فنجد هنا أن قضاة الدرجة الأولى يختصون بنظر القضايا ابتداء، بينما يقتصر نظر قضاة الدرجة الأعلى على تمييز الأحكام والتأكد من صحتها(45).
ومن الأمثلة على ذلك أيضاً في المملكة العربية السعودية اختصاص المحاكم الجزئية بالفصل في قضايا التعزيرات والحدود التي لا إتلاف فيها، وأروش الجنايات التي لا تزيد على ثلث الدية(46)، والحكم في الدعاوى التي لا تزيد قيمتها على عشرة آلاف ريال(47).
واختصاص المحاكم الكبرى بالفصل في قضايا القتل أو الرجم أو القطع أو القصاص فيما دون النفس(48)، وجميع دعاوى العقار، والزوجية والنفقات(49).
ومن الأمثلة على الاختصاص بنوع الخصوم ما سبق أن عمل به في نظام القضاء في المملكة العربية السعودية، وهو ما جاء في قرار مجلس الشورى رقم 303 بتاريخ 2/7/1349هـ من بيان اختصاصات المحكمة المستعجلة الثانية بمكة المكرمة، فقد جاء في المادة الأولى من ذلك القرار "أن للمحكمة المستعجلة الثانية الحق في رؤية جميع الدعاوى الآتية المتصلة بشؤون البادية فيما بينهم"(50).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 6/2622 (6748)، كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم، ومسلم في صحيحه 3/1337 (1713). كتاب الحكم بالظاهر والحق بالحجة.
(2) فتاوى السبكي 2/435.
(3) المصدر نفسه 2/530.
(4) بدائع الفوائد 4/12.(/3)
(5) معين الحكام للطرابلسي 13، الفواكه البدرية 76، درر الحكام 4/543-544، تبصرة الحكام 1/20، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام 85، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي 4/134-135، أدب القاضي للماوردي 1/172-173، روضة الطالبين 11/124، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 68 المغني 14/89-90 كشاف القناع 6/291-292، شرح منتهى الإرادات 3/462-463.
(6) روضة القضاة 1/72-73، معين الحكام للطرابلسي 13، الفتاوى البزازية 5/137، روضة الطالبين 11/124، أدب القاضي للماوردي 1/160.
(7) أدب القاضي للماوردي 1-162-163، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 69، وينظر المدخل للفقه الإسلامي لمحمد سلام مدكور 366.
(8) روضة القضاة 1/73.
(9) 5/137 وينظر 5/138.
(10) معين الحكام للطرابلسي 13.
(11) البحر الرائق 6/282.
(12) الفواكه البدرية 76.
(13) ص: 76.
(14) 4/544 مع درر الحكام.
(15) شرح الخرشي على مختصر خليل 7/144.
(16) 8/281.
(17) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام 85 وينظر تبصرة الحكام 1/201.
(18) أدب القاضي للماوردي 1/160.
(19) المصدر نفسه 1/162-163.
(20) المصدر نفسه 1/172-173.
(21) هو: جمال الإسلام أبو المظفر أسعد بن محمد بن الحسين الكرابيسي النيسابوري، فقيه حنفي، درس في المستنصرية ببغداد، وصنف كتاب الفروق توفي سنة 570هـ. ينظر الجواهر المضية 1/386، الطبقات السنية 2/171، هدية العارفين 1/204.
(22) ذكر المحقق أن في إحدى النسخ :"بشخص أو بنوع" ولعل هذا هو الصحيح.
(23) الفروق للكرابيسي 2/164.
(24) الأحكام السلطانية لأبي يعلى 68.
(25) المصدر نفسه 69.
(26) المغني 14/89، 90.
(27) تبصرة الحكام 1/59، الطريقة المرضية 289، تاريخ قضاة الأندلس للنباهي 67، 235، وينظر للتوسع في هذه المسألة: سلطة ولي الأمر في تقييد سلطة القاضي للدكتور محمد المرزوقي 176، 177.
(28) الفواكه البدرية وشرحه المجاني الزهرية 76، الفتاوى البزازية 5/137، 138، درر الحكام 4/548، شرح الخرشي على مختصر خليل 7/44، الطريقة المرضية 289، المبدع 10/26، الإنصاف 11/169.
(29) المبدع 10/26، الإنصاف 11/169.
(30) معين الحكام للطرابلسي 13، تبصرة الحكام 1/24، الأحكام السلطانية للماوردي 135، 136، روضة الطالبين 11/120، الأحكام السلطانية لأبي يعلى 64.
(31) الدرر المختار وحاشيته رد المحتار 5/419، 420، درر الحكام 4/546، حاشية الجمل على شرح المنهج 5/339، مطالب أولي النهى 6/468، وينظر: المدخل للفقه الإسلامي لمحمد سلام مدكور 366.
(32) الشرح الكبير للدردير 4/234، الطرق الحكمية 125، 126، وينبغي أن يعلم أن الذي يسقط هو حق رفع الدعوى، وليس سقوط الحق المدعى به، لأن الحق لا يسقط بتقادم الزمان. ينظر: رد المحتار 5/420.
(33) الأشباه والنظائر لابن نجيم 272، الدر المختار وحاشيته رد المحتار 5/419، 420، درر الحكام 4/546، حاشية الجمل على شرح المنهج 5/339، مواهب الجليل للحطاب 6/224، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/234، تبصرة الحكام 2/101، 102.
(34) الأشباه والنظائر لابن نجيم 272، الدر المختار وحاشيته رد المحتار 5/419، 420، درر الحكام 4/546.
(35) درر الحكام 4/546-548.
(36) حاشية الجمل على شرح المنهج 5/339.
(37) مواهب الجليل للحطاب 6/224، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/234، تبصرة الحكام 2/101، 102.
(38) مواهب الجليل للحطاب 6/224.
(39) غاية المنتهى 3/413، مطالب أولي النهى 6/468.
(40) مواهب الجليل للحطاب 6/223، 224، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/234، تبصرة الحكام 2/100.
(41) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم 12/441، وينظر في الكتاب نفسه حول هذا الموضوع 12/440-455.
(42) مجلة البحوث الإسلامية عدد 30 ص 71-72.
(43) الدرر المختار وحاشيته رد المحتار 5/419-420، رد المحتار 1/76، درر الحكام 4/546، وينظر المدخل للفقه الإسلامي لمحمد سلام مدكور 366.
(44) ينظر سلطة ولي الأمر في تقييد سلطة القاضي للدكتور محمد المرزوقي 128.
(45) يراعى في ذلك اختلاف أنظمة القضاء من بلد إلى آخر، وما ينشأ عن هذا الاختلاف من وجود تفصيلات معينة.
(46) المادة (128) من نظام الإجراءات الجزائية.
(47)المادة (31) من نظام المرافعات الشرعية.
(48)المادة (129) من نظام الإجراءات الجزائية.
(49)المادة (32) من نظام المرافعات الشرعية.
(50) مجموعة النظم قسم القضاء الشرعي 16، وينظر النظام القضائي الإسلامي للدكتور عبد الرحمن القاسم 556، تخصص القاضي الجنائي وأثره في التفريد القضائي للعقوبات التعزيزية لأحمد الرشودي 125.(/4)
نقض دعاوى
من استدل بيُسر الشريعة
على التيسير في الفتاوى
للدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب
بسم الله الرحمن الرحيم
الطبعة الأولى
1423 للهجرة – 2002 للميلاد
جميع حقوق النشر و التأليف محفوظة للمؤلف
تقديم
الحمد لله و كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
ففي أوج انتشار منهج التيسير في الإفتاء ، عمَد بعض الميسِّرين إلى تكلّف إيجاد مرجعيّة شرعيّة ، و تأصيل منهجيّة فقهيّة فجّةٍ ، تعمَد إلى ما في نصوص الوحيين ، و كلام السابقين ، من أدلّة على أنّ الدين يُسرٌ لا مشقّةَ فيه ، و تتذرّع بها لتبرير منهجها في إختيار أيسر المذاهب ، و الإفراط في التيسير في الفتاوى المعاصرة ، إلى حدٍّ يبلغ حافّة الإفراط ، و يخشى على من وَقَعَ في أن يصير إلى هاوية الانحلال من التكاليف أو بعضها ، أو القول على الله بغير علم ، بتقديمه ما يستحسنه بين يدي الله و رسوله .
و قد تأمّلت أدلّة القوم النقليّة ، فإذا هي آيات مُحكمات ، و أخبار صحيحة ثابتة ، غير أنّي لم أجد فيها دليلاً على ما ذهبوا إليه ، بل بعضها يدلّ على خلاف مذهبهم ، و رأيت من المناسب بيان ما بدا لي في هذا الباب على عُجالةٍ ، في هذه المقالة الوجيزة ، من خلال مقصِدَين و خاتمة .
المقصد الأوّل
نصوص التيسير من الكتاب و السنّة
استدل دعاةُ التيسير بعموم النصوص الدالّة على أنّ التيسير و رَفع المشقّة مقصد من مقاصَد التشريع الإسلامي ، كقوله تعالى :
{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] .
و غفلوا عن الآية التي قَبلَها ، و فيها رَفعُ رُخصة الفطر في رَمضان مع الكفّارة لمن قدِرَ على الصوم ، و هو ما ثبتَ بقوله تعالى في الآية السابقة لها : { وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ البقرة : 184 ] .
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَلَمَة بْن الأَكْوَع أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ { وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِر و يَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَة الَّتِي بَعْدهَا فَنَسَخَتْهَا.
قلتُ : و هذا من قبيل النسخ بالأشد ، و هو من التشديد و ليس من التيسير ، في شيءٍ ، فتأمّل !
و مثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى : { وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] ، متغافلين عن صدر الآية ذاتها ، و هو قوله تعالى : { وَ جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ } مع أنّه لا مشقّة تفوق مشقّة الجهاد و التكليف به ، فبقي أن يُحمل رَفع الحرج على ما رُفِعَ بنصّ الشارع الحكيم سبحانه ، لا بآراء المُيَسّرين .
و من هذا القبيل ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، و أبو داود في سننه , و أحمد في مسنده ، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضى الله عنها ، قَالَتْ : ( مَا خُيِّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يَأْثَمْ ، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ ) .
و ما رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه ، و مسلم في الجهاد و السير عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه , عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : « يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ، و بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا » .
و في روايةٍ للبخاري في كتاب الأدب : « يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ، و سَكِّنُوا و لاَ تُنَفِّرُوا » .
و روى مسلم و أبو داود عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ : « بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا و يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا » .
قلتُ : جميع ما تقدّم من نصوص الوحيَين ، و كثيرٌ غيره ممّا يقرّر قيام الشريعة الغرّاء على اليُسر و نفي الضرر ، و رفع الحَرَج ، فهِمَه الميسّرون على غير وجهه ، و حمّلوه ما لا يحتمل ، متعنّتين في توجيهه لنُصرة شُبهَتهم القاضيةَ بجَعل التيسير في الفتوى منهاجاً رَشَداً ، و فيما يلي نقضُ غَزلهم ، و كشف شبههم إن شاء الله :
أوّلاً : ثمّة فرقٌ لغويٌ بين اليُسر و التيسير ، فاليُسر صفةٌ لازمةٌ للشريعة الإسلاميّة ، و مقصدٌ من مقاصدها التشريعيّة جاء به الكتاب و السنّة ، و أنزله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - و السلفُ الصالحُ منزلَتَه ، أمّا التيسير فهو من فِعل البشر ، و يعني جَعلَ ما ليس بميسَّرٍ في الأصل يسيراً ، و هذا مَوطِنُ الخَلل .
ثانياً : إن اختيار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - للأيسر في كلّ أمرين خُيِّرَ بينهما ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم فيه أربع نكات لطيفةٍ :(/1)
النكتة الأولى : أنَّ الاختيار واقع منه - صلى الله عليه وسلم - فيما خُيّر فيه ، و ليس في كلّ ما أوحيَ إليه أو كُلّف به ، هو أو أمّته ، و مثال ذلك الاختلاف في صيَغ الأذان ، و تكبيرات العيد ، و ما إليه حيث لا يعيبُ من أخَذ بهذا على من أخذَ بذاك من العلماء ، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما .
و الثانيّة : تقييد التخيير بما لم يكُن إثماً ، و لا شكّ أنّ العدول عن الراجح إلى المرجوح ، أو تعطيل ( و من باب أولى رد ) ما ثبت من الأدلّة الشرعيّة إثمٌ يُخشى على صاحبه من الضلال ، فلا وَجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء .
و الثالثةُ : أنّ التخيير المذكور في الحديث يُحمل على أمور الدنيا لا الدِّين ، و هذا ما فهمه أهل العِلم قَبلَنا ، و قدّ أمِرنا بالردّ إليهم ، و منهم الحافظ ابن حجر ، حيث قال رحمه الله في الفتح : ( قولُه بين أمرين : أي من أمور الدنيا. لأن أمور الدين لا إثم فيها ... و وقوع التخيير بين ما فيه إثم و ما لا إثم فيه من قِبَل المخلوقين واضح ، و أمَّا من قبل الله ففيه إشكال ؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائِزَين ) [ فتح الباري : 6 / 713 ] .
و النكتة الرابعة و الأخيرة : أنّ هذا الخبر ما لم يُقيّد بما سبق سيكون معارضاً باختيار النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الأشقَّ على نفسه ، كقيامه الليل حتّى تتشقق قدَماه مع أنّ الله تعالى قد غَفَر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر . قال الحافظ في الفتح : ( لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلاً ، و بين أن لا يُؤتِيَه من الدنيا إلا الكفاف ، و إن كانت السعة أسهل منه ، و الإثم على هذا أمر نسبي ، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له ) [ فتح الباري : 6 / 713 ].
ثالثاً : لا تكليف بدون مشقّة ، و إن كانت المشقّة الحاصلة بكلِّ تكليفٍ بحَسَبه ، و هي متفاوتة ، فإذا جاز لنا تخيّر أيسر المذاهب دفعاً لكلّ مشقّةٍ ، ترتّبَ على ذلك إسقاط كثيرٍ من التكاليف الشرعيّة ...
قال الشاطبي رحمه الله : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [ الموافقات : 2 / 128 ] .
و قال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( لو جاز لكل مشغول و كل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب و اضمحل بالكلية ) [ إعلام الموقعين 2 / 130 ].
و قال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر : ( إنَّ المشقة قد عُلِّقَ بها من التخفيف ما يناسبها ، فإن كانت مشقة مرض و ألم يُضِرُّ به جاز معها الفطر و الصلاة قاعداً أو على جنب ، و ذلك نظير قصر العدد ، و إن كانت مشقّةَ تعبٍ فمصالح الدنيا و الآخرة منوطةٌ بالتعب ، و لا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها و مصالحها بحمد الله و مَنِّه ) [ إعلام الموقعين 2 / 131 ] .
قلتُ : فمن آثر الراحة و الدعةَ في مقام الجدّ و النصَب ، فقد خالف الصواب ، و غَفَل عمّا أريد منه ، و ما أنيط به ، و لو كان في البعد عن الجدّ و الجَهد في الطاعة بدون مرخّصٍ شرعيٍ مندوحةٌٌٌ لغير ذوي الأعذار ، لما قال تعالى لخير خلقه ، و أحبّهم إليه : ( فإِذا فَرَغْتَ فانْصَبْ ) [ الانشراح : 7 ] .
رابعاً : ما ورد في التحذير و التنفير من التشديد و التعسير و المشاقّة و التنطّع ، و التعمّق - و ما إلى ذلك - على النفس و الغير ، لا يدلُّ على التخيير ( أو التخيُّر ) في الأحكام الشرعيّة ، لدلالة النصوص على التكليف بالأشدّ في مواضع كثيرة ، و لأنّ النسخ بالأشد ممّا جاءت به الشريعة بالاتفاق ، فضلاً عن حمل جمهور أهل العلم لنصوص النهي عن التنطّع و نحوه على ما كان فيه مجاوزة للمشروع ، كالوصال في الصيام ، فهو ممّا نُهي عنه ، و إن كان مقدوراً عليه بدون مشقّة ، بخلاف الصوم المشروع فلا يسقط عمّن وجَبَ عليه حتى و إن ثبتت مشقّته ، ما دام مقدوراً عليه ، و قد تقدّم ذكر بعض أقوال أهل العلم في أنّ الأصل في التكليف ، أنّه قائمٌ على المشقّة المقدور عليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : ( التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ، و لا مستحب ، بمنزلة الواجب و المستحب في العبادات ، و تارةً باتخاذ ما ليس بمُحرَّم ، و لا مكروه ، بمنزلة المحرم و المكروه في الطيبات ، و عُلِّل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى ، شَدَّد الله عليهم لذلك ، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة ، و في هذا تنبيه على كراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لِمِثْل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة ، و إن كان كثير من عُبَّادِنا قد وقعوا في بعض ذلك ، متأولين معذورين ، أو غير متأولين و لا معذورين ) [ اقتضاء الصراط : 1/103 ] .(/2)
و قال ابن القيّم رحمه الله : ( نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشديد في الدين ، و ذلك بالزيادة على المشروع ، و أخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه ؛ إما بالقدر ، و إمَّا بالشَرْع ؛ فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل ، فيلزمه الوفاء به ، و بالقدر كفعل أهل الوسواس ، فإنهم شدَّدوا على أنفسهم ، فشُدِّدَ عليهم القدر ، حتى استحكم ذلك ، و صار صفةً لازمة لهم ) [ إغاثة اللهفان : 1/132 ] .
و لا يقال : إنّ أحكام الشريعة تتدرّجُ من الأشدّ إلى الأيسَر ، و لا من الأيسر إلى الأشد ، باضطراد ، لأنّها اشتملت على الأمرين معاً ، و هذه المسألة مبسوطة في مباحث النسخ في كتب الأصول ، و الأمثلة عليها كثيرة من الكتاب و السنّة ، و من استقرأها وقفَ على حقيقةٍ مفادها أنّ التدرّج من الأيسر إلى الأشدّ هو الغالب في النَسخ ، و هو ما يصلحُ دليلاً على نقيض ما ذهَب إليه دعاة التيسير ، و مؤصّلوه في هذا الزمان .
لقد جاء الشرع بالتشديد بعد الترخيص في مواضع منها ما تقدّم ذِكره من إيجاب الصيام على كلّ مكلّّف بعد أن كان على التخيير في حق من يطيقه .
و نحو ذلك ما جاء في تحريم الخمر من التدرّج من الأيسر إلى الأشد ، حيث كان مباحاً على الأصل ، ثمّ نزلت الآية لتفيد كراهته بالإشارة على رُبُوِّ إثمه على نفعه ، ثمَّ حرّم أثناء الصلاة خاصّة ، ثمّ نزل تحريمه في الكتاب ، و حدُّ شاربه في السنّة .
و كذلك الحال في تشديد حدّ الزنا من الإيذاء باللسان و اليد ، إلى حبس الزواني في البيوت حتى يأتيهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلاً ، ثمّ الجلد للبكر ( و التغريب في بعض المذاهب ) ، و الرجم للمحصن .
و نحوه ما كان من النهي عن الجهاد في أوّل الأمر ، ثمّ الإذن فيه ، ثم إيجابه على غير ذوي الأعذار بعد الهجرة .
و الأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرّج في التشريع من الأيسر إلى الأشدّ كثيرة ، و لو أردنا تتبُّعَها ، وذِكرَ أدلّتها و ما يتفرّع عنها من مسائل و أحكام ، لطال بنا المقام ، قبل أن نصير إلى التمام (1) .
و هذا يدلّ على نقيض ما تذرّع به الميسِّرون ، يسَّر الله لنا و لهم سُبُلَ الهدى ، و وقانا مضلات الهوى و موارد الردى .
فإذا أضيف إليه ما قرّرناه آنِفاً ، من بُطلان استدلالهم بنصوص الوحيين على الجنوح إلى التيسير على وجه التخيير ، ظهر لنا الحق الصريح ، و هو إغلاق باب الاجتهاد في مورد النص الصحيح ، و وجوب الردّ إلى الله تعالى و رسوله على وجه التسليم و القبول ، و الله أعلَم و أحكَم .
المقصِِِد الثاني
أقوال السلف في اختيار أيسَر المذاهب
تذرّع دعاة التيسير في العصر الحديث بما روي عن السلف و الأئمة المتّبعين بإحسان ، من استحباب الأخذ بالرُخص .
و من ذلك ، قول قتادة رحمه الله : ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) [ انظره في : تحفة المولود ، ص : 8 ] .
و قول سفيان الثوري رحمه الله : ( إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و قول شيخ الإسلام ابن تيميّة : ( إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصداً العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنّه يثاب على ذلك ) [ مجموع الفتاوى : 7 / 48 ] .
و قول ابن القيّم : ( الرخص في العبادات أفضل من الشدائد ) [ شرح العمدة : 2 / 541 ] .
و قول الكمال بن الهمّام في التحرير : ( إنّ المقلّد له أن يقلّد من يشاء ، و إن أخذ العاميّ في كلّ مسألة بقول مجتهد أخفّ عليه ، لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل .
و كون الإنسان يتتبّع ما هو الأخفّ عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ، ما علمت من الشرع ذمّه عليه ، و كان صلى الله عليه وسلّم يحبّ ما خفّف عن أمّته ) .
و قول الشاطبي : ( المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، و لا يميل إلى طرف الانحلال ، و الدليل على صحة هذا أنَّه الصراط المستقيم ، الذي جاءت به الشريعة ، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف ، الحملُ على التوسط من غير إفراطٍ و لا تفريطٍ ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ، و لذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين ) [ الموافقات : 4 / 285 ] .
إلى غير ذلك ممّا وقفوا عليه فاحتجّوا به ، أو غاب عنهم فأغفلوه .
__________
(1) 1 ) كان التدرّج في التشريع في زمن الوحي ، و انقطع بانقطاعه ، حيث أكمَلَّ الله دينه ، و أتمّ على عباده نعمته ، فقال : ( اليوم أكملتُ لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً ) فليس لأحد بعد ذلك أن يجاري الشارع الحكيم سبحانه في التدرّج في تبليغ حكم الله تعالى ، و حُكمِ رسولِه لحديثي العهد بالإسلام أو التوبة ، إذ إنّ الأحكام قد استقرّت على ما قضى الله و رسوله ، و بالله العصمة .(/3)
و لو تأمّلنا ما أوردناه ( و لا أعلَم لهم استدلالاً بغيره من أقوال الأئمّة ) لما رأينا فيه دليلاً على التيسير الذي يُدندنُ حَوله المعاصرون ، فقتادةُ يدعوا إلى الترخّص حيث شرع الله الرخصة ، فيقول : ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) ، و لا يقول : رخِّصوا باستحسانكم ، أو لمجرّد التخفيف عن العباد أو مسايرتهم .
و ابن تيميّة يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام ، و ليس الإفتاء بعدَم حُرمةِ الحرَام أصلاً ، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أو مجرّد الكراهة ، و إن ضَعُفَت حُجّته ، و وَهت شُبهته .
أمّا ابن القيّم فكلامه في الرخص في العبادات ، و هذا لا خلاف فيه ، خلافاً لدُعاة التيسير الذين وقعوا في تحليل الحرام ، و نفي الكراهة عن المكروه ، و شتّان ما بين المذهبين .
و ما يُروى عن سفيان رَحمه الله لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب ، أو تحليل المحرّم ، و لكنّه موجّه إلى ما ينبغي أن يفتيَ به العالم من وَقع في حرَج متيقّن ليعينه على القيام بما وَجَبَ عليه ، لا ليُسقِطه عنه ، و ذلك كثيراً ما يَقَع في باب الكفّارات ، و أداء النذور و نحوها .
و ما روي عن ابن عيينة ، قال به غيره ، و لكنّهم تحوّطوا في ضبط صوَره بالتمثيل له .
قال النووي : ( و أما من صحَّ قصدُه , فاحتَسَبَ في طلب حيلةٍ لا شُبهةَ فيها , لتخليصٍ من ورطة يمينٍ و نحوها , فذلك حسن جميل ، و عليه يُحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا , كقول سفيان : إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و ننبّه هنا إلى أنّ ما رويَ عن السلف الصالح ، في الحث على التمسّك بالعزائم ، و التحذير من الترخّص المجرّد عن الدليل ، أضعاف ما روي عنهم في التيسير و الترخيص ، و العدل أن يُجمَع بين أقوالهم ، لا أن يُسقَط بعضها ، أو يُضرَبَ بعضُها ببَعضٍ .
و ربّما اتّضحت الصورة أكثر إذا قرّبناها بالتمثيل لما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ، فإذا رَجَعنا إلى سيَرِهِم وقفنا على معالم منهجهم في التشديد و التيسير على النفس و الغير ، و من أبرز تلك المعالم :
أوّلاً : تشديد العالم على نفسه أكثر ممّا يشدد على غيره .
و لهذا المَعلَم ما يشهد له من السنّة ، حيث أرشَد إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه معاذ بنَ جبل رضي الله عنه ، حين أمرَه بالإيجاز إذا أمَّ الناسَ في الصلاة ، و يقتضي هذا الترخيص له في الإطالة إذا صلى فذاً ، كما في الصحيحين و غيرهما .
ثانياً : عُرِف عن السلف الصالح ، من الصحابةِ الكرام و من بَعدَهُم التشديد على الناس فيما تساهلوا فيه ، و هذا خلاف ما عليه ميسِّرة العصر ، من التيسير فيما كثُر وقوع الناس فيه .
و من ذلك قول عمر الفاروق رضي الله عنه : ( فلو أمضيناه عليهم ) حينما حكمَ بإيقاع طلاق المجلس ثلاثاً ، و أمضاه على الناس ، لأنّهم استعجلوا بعد أن كانت لهم فيه أناة .
و كذلك تضمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للصنّاع ، بعد أن فسدت الذمم و تغيرت النفوس .
ألا ترى أنّ عمرَ و عليَّ رضي الله عنهما قد بالغا في التشديد في هاتين المسألتين ، استحساناً ، رغم وجود ما يراه الميسِّرون المعاصرون مقتضياً للتيسير ، و مستلزماً للتخفيف مراعاةً ظروف المجتمع ، و رفعاً للحَرَج عن الناس .
ثالثاً : أنّ من السلف من كان يفتي بالفتوى ، أو يقضي بالقضاء ، ثمّ يرجع عنه إذا بلغه ما هو أقوى منه دليلاً و أقوَم سبيلاً ، إذ إنّ العبرة عنهم بما جاء من عند الله ، و ثبت عن رسول الله ، و ليس بالتيسير أو التشديد .
أخرج مسلم في كتاب الحج من صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : ( أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجُل : رويدك بعض فتياك ، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك ، فقال : يا أيها الناس : من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد ، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا ، قال : فقدم عمر ، فذكرت ذلك له ، فقال : أن تأخذ بكتاب الله فإن الله تعالى قال : { وَ أَتِمُّوُا الحَجَّ و العُمْرَةَ لله } [ البقرة: 196 ] ، و أن تأخذ بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحل حتى نحر الهدي ) .
و الأمثلة غير هذا في رجوعهم إلى الحقّ كثيرة ، فهل في دعاة اليوم من يلزم غرزَ السابقين ، و ينحو نحوَهُم ، فيقف عند الدليل ، و يرجع إليه إن بلغه ، و لو بعد حين ، و لا يجد غضاضةً في أن يقول : ( تلك على ما قضينا ، و هذه على ما نقضي ) ؟
رابعاً : كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يدورون مع الدليل حيثُ دارَ ، فمنهم الميسِّر و منهم المشدد ، و لكن عن علم و بصيرة و دليل .
و كلُّهُم مِنْ رسولِ اللهِ مُقْتَبِسٌ
غرفاً مِنَ البَحرِ أو رَشْفاً مِنَ الدِيَمِ(/4)
و إن كان فيهم من يلتزم في عمله الأحوط في مقابل من يجنح إلى الأيسر ، و لكنّ الحامل لكلٍّ منهما على مذهبه لا يخرج عن الاستدلال بما ثبت عنده عن نبيِّ الهُدى - صلى الله عليه وسلم - .
و يحسن التمثيل لاختلاف آراء الصحابة في هذا الأمر بما كان عليه الصاحبان الإمامان : عبد الله بن عبّاس ، و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم ، فقد كان ( أحدهما يميل إلى التشديد و الآخر إلى الترخيص و ذلك في غير مسألة ، و عبد الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك ، و كان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد ، و كان يمنع من دخول الحمام ، و كان إذا دخله اغتسل منه ، و ابن عباس كان يدخل الحمام ، و كان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربةٍ للوجه ، و ضربةٍ لليدين إلى المرفقين ، و لا يقتصر على ضربة واحدة ، و لا على الكفين ، و كان ابن عباس يخالفه ، و يقول : التيمم ضربةٌ للوجه ، و الكفين ، و كان ابن عمر يتوضأ من قُبلةِ امرأتِه ، و يُفتي بذلك ، و كان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى ، و كان ابن عباس يقول : ما أبالي قبَّلتُها أو شممت ريحاناً ، و كان يأمر من ذكر أن عليه صلاة و هو في أخرى أن يُتِمَّها ، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها ، ثم يعيد الصلاة التي كان فيها... و المقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد و الاحتياط ) [ زاد المعاد : 2 / 47 و 48 ] .
قلتُ : و مع كلِّ ما كان يذهب إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من التشديد و لزوم الأحوَط ، لم يغمز قناته أحدٌ من السلف أو الخلف ، و لم يصمه أحدٌ بوصمة التعسير ، على وجه التخطئة و التنفير ، بل غاية ما ذَهَبَ إليه مخالفوه هو عدَم موافقته في تشديداته ، مع اعتبارها أمارةً على وَرَعه و حُسن اتّباعه ، و عُذر مَن ذهبَ مذهبَه من الأتباع ما داموا يدورون مع الدليل مدارَه .
و لم يكن يسعهم حتى تمني خلافه فضلاً عن تبريره أو تسويغ القول و العمل به .
قال أبو عبد الله الزركشي [ في المنثور : 1 / 20 ، 21 ] و هو يُعدِّدُ أنواع التمني و يعرض حكم الشرع في كلٍّ منها : السابع : تمني خلاف الأحكام الشرعية لمجرد التشهي ... قال الإمام الشافعي في ( الأم ) و قد روى عن عمر : ( لا يُسترق عربي ) قال الشافعي رحمه الله : لولا أنَّا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هذا هكذا ، و كأنه أراد تغير الأحكام و لم يرد أن التمني كله حرام ) .
قلت : فلله درّهم ما أبرَّهم ، و ما أنبلهم حيث لا يسوّغون مجرّد كون الحرام حلالاً ، فضلاً عن تسويغه ، و الإفتاء بحلّه ، و لو كان بليّ أعناق النصوص ، و حشد الشواهد و الشواذ من كلّ رطبٍ و يابِسٍ ، من زلاّت المتقدّمين ، و هفولت المتأخّرين ، و سقطات المُتابِعين .
إنّها و الله الخشية من العَبدِ للمعبود ، فمن أو تِيَها فقد أوتِيَ خيراً كثيراً ، و هل العِلمُ إلاّ الخشية ، و ما مثل من كثر عِلمُه و قلّت خشيته إلا كمثل التاجر المدين ، تكثر بين يديه العروض ، ليس له منها شيء .
خاتمة
و بعد ، فقد آل بنا البحث عند ختامه إلى الحديث عن الخشية ، و هي جماع صفاة العالم الرباني ، تسوقه إلى الحقّ ، و تأطُرُه عليه أطراً .
قال صاحب الآداب الشرعيّة : ( و نقل المروزي عن أحمد أنه قيل له : لمن نسأل بعدك ؟ فقال: لعبد الوهاب يعني الوراق ، فقيل إنه ضيق العلم فقال : رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق .... و قال الأوزاعي كنا نمزح و نضحك ، فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم ... و روى ابن بطة عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى : إن الفقه ليس بسعة الهذر و كثرة الرواية إنما الفقه خشية الله ... و قال الأوزاعي : بلغني أنه يقال : ويل للمتفقهين لغير العبادة , والمستحلين المحرمات بالشبهات ... و قال الشافعي رضي الله عنه : زينة العلم الورع و الحلم ، و قال أيضا لا يجْمُل العلم ، و لا يحسن إلا بثلاث خلال : تقوى الله , و إصابة السنة , و الخشية ) .
فما أحرى العاملين للإسلام ؛ دعاةً و فقهاء و مُفتين إن يقفوا على الحقّ ، و يقولوا به ، و يردّوا عِلمَ ما اختُلِفَ فيه إلى عالمه .
لتكون السبيل محجّةً بيضاء ؛ كتاباً و سنةً ، مع سلامةٍ في الصدر و المنهج .
ففي ذلك السلامة ، و النجاة من الندامة ، و هذا غاية ما أردت بيانه في رسالتي هذه ، باذلاً في طلب الحق و تقريبه للخلق وسعي ، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، و إن أخطأتُ فمِن نفسي و من الشيطان ، و اللهَ تعالى أسألُ أن يغفر زلّتي ، و يقيل عثرتي .
و أفوّض أمري إلى الله ، إنّ الله بصير بالعباد
و الحمد لله ربّ العالمين
و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد ، و آله ، و صحبه أجمعين
و كتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
( الملقّب بالشريف )
دَبْلِن ( إيرلندا ) في غرّة جمادى الآخرة عام 1423 للهجرة
الموافق العاشر من يوليو ( تمّوز ) عام 2002 للميلاد
فهرس
الموضوع الصفحة
* * *(/5)
نقض دعاوى من استدل بيُسر الشريعة
على التيسير في الفتاوى
تأليف
الدكتور أحمد بن عبد الكريم نجيب الشريف
الطبعة الأولى
1423 للهجرة – 2002 للميلاد
جميع حقوق النشر و التأليف محفوظة للمؤلف
للحصول على نسخه من الكتاب
تقديم
الحمد لله و كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
ففي أوج انتشار منهج التيسير في الإفتاء ، عمَد بعض الميسِّرين إلى تكلّف إيجاد مرجعيّة شرعيّة ، و تأصيل منهجيّة فقهيّة فجّةٍ ، تعمَد إلى ما في نصوص الوحيين ، و كلام السابقين ، من أدلّة على أنّ الدين يُسرٌ لا مشقّةَ فيه ، و تتذرّع بها لتبرير منهجها في إختيار أيسر المذاهب ، و الإفراط في التيسير في الفتاوى المعاصرة ، إلى حدٍّ يبلغ حافّة الإفراط ، و يخشى على من وَقَعَ في أن يصير إلى هاوية الانحلال من التكاليف أو بعضها ، أو القول على الله بغير علم ، بتقديمه ما يستحسنه بين يدي الله و رسوله .
و قد تأمّلت أدلّة القوم النقليّة ، فإذا هي آيات مُحكمات ، و أخبار صحيحة ثابتة ، غير أنّي لم أجد فيها دليلاً على ما ذهبوا إليه ، بل بعضها يدلّ على خلاف مذهبهم ، و رأيت من المناسب بيان ما بدا لي في هذا الباب على عُجالةٍ ، في هذه المقالة الوجيزة ، من خلال مقصِدَين و خاتمة .
المقصد الأوّل
نصوص التيسير من الكتاب و السنّة
استدل دعاةُ التيسير بعموم النصوص الدالّة على أنّ التيسير و رَفع المشقّة مقصد من مقاصَد التشريع الإسلامي ، كقوله تعالى :
{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] .
و غفلوا عن الآية التي قَبلَها ، و فيها رَفعُ رُخصة الفطر في رَمضان مع الكفّارة لمن قدِرَ على الصوم ، و هو ما ثبتَ بقوله تعالى في الآية السابقة لها : { وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ البقرة : 184 ] .
رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ سَلَمَة بْن الأَكْوَع أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ { وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } ، كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِر و يَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَة الَّتِي بَعْدهَا فَنَسَخَتْهَا.
قلتُ : و هذا من قبيل النسخ بالأشد ، و هو من التشديد و ليس من التيسير ، في شيءٍ ، فتأمّل !
و مثل ذلك استدلالهم بقوله تعالى : { وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] ، متغافلين عن صدر الآية ذاتها ، و هو قوله تعالى : { وَ جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ } مع أنّه لا مشقّة تفوق مشقّة الجهاد و التكليف به ، فبقي أن يُحمل رَفع الحرج على ما رُفِعَ بنصّ الشارع الحكيم سبحانه ، لا بآراء المُيَسّرين .
و من هذا القبيل ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، و أبو داود في سننه , و أحمد في مسنده ، عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضى الله عنها ، قَالَتْ : ( مَا خُيِّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا ، مَا لَمْ يَأْثَمْ ، فَإِذَا كَانَ الإِثْمُ كَانَ أَبْعَدَهُمَا مِنْهُ ) .
و ما رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه ، و مسلم في الجهاد و السير عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه , عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : « يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ، و بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا » .
و في روايةٍ للبخاري في كتاب الأدب : « يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا ، و سَكِّنُوا و لاَ تُنَفِّرُوا » .
و روى مسلم و أبو داود عَنْ أَبِى مُوسَى رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَعَثَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ : « بَشِّرُوا و لاَ تُنَفِّرُوا و يَسِّرُوا و لاَ تُعَسِّرُوا » .
قلتُ : جميع ما تقدّم من نصوص الوحيَين ، و كثيرٌ غيره ممّا يقرّر قيام الشريعة الغرّاء على اليُسر و نفي الضرر ، و رفع الحَرَج ، فهِمَه الميسّرون على غير وجهه ، و حمّلوه ما لا يحتمل ، متعنّتين في توجيهه لنُصرة شُبهَتهم القاضيةَ بجَعل التيسير في الفتوى منهاجاً رَشَداً ، و فيما يلي نقضُ غَزلهم ، و كشف شبههم إن شاء الله :
أوّلاً : ثمّة فرقٌ لغويٌ بين اليُسر و التيسير ، فاليُسر صفةٌ لازمةٌ للشريعة الإسلاميّة ، و مقصدٌ من مقاصدها التشريعيّة جاء به الكتاب و السنّة ، و أنزله النبيّ صلى الله عليه وسلم و السلفُ الصالحُ منزلَتَه ، أمّا التيسير فهو من فِعل البشر ، و يعني جَعلَ ما ليس بميسَّرٍ في الأصل يسيراً ، و هذا مَوطِنُ الخَلل .
ثانياً : إن اختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم للأيسر في كلّ أمرين خُيِّرَ بينهما ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدّم فيه أربع نكات لطيفةٍ :(/1)
النكتة الأولى : أنَّ الاختيار واقع منه صلى الله عليه وسلم فيما خُيّر فيه ، و ليس في كلّ ما أوحيَ إليه أو كُلّف به ، هو أو أمّته ، و مثال ذلك الاختلاف في صيَغ الأذان ، و تكبيرات العيد ، و ما إليه حيث لا يعيبُ من أخَذ بهذا على من أخذَ بذاك من العلماء ، لثبوت الروايات بالأمرين كليهما .
و الثانيّة : تقييد التخيير بما لم يكُن إثماً ، و لا شكّ أنّ العدول عن الراجح إلى المرجوح ، أو تعطيل ( و من باب أولى رد ) ما ثبت من الأدلّة الشرعيّة إثمٌ يُخشى على صاحبه من الضلال ، فلا وَجه لاعتباره من التيسير المشروع في شيء .
و الثالثةُ : أنّ التخيير المذكور في الحديث يُحمل على أمور الدنيا لا الدِّين ، و هذا ما فهمه أهل العِلم قَبلَنا ، و قدّ أمِرنا بالردّ إليهم ، و منهم الحافظ ابن حجر ، حيث قال رحمه الله في الفتح : ( قولُه بين أمرين : أي من أمور الدنيا. لأن أمور الدين لا إثم فيها ... و وقوع التخيير بين ما فيه إثم و ما لا إثم فيه من قِبَل المخلوقين واضح ، و أمَّا من قبل الله ففيه إشكال ؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائِزَين ) [ فتح الباري : 6 / 713 ] .
و النكتة الرابعة و الأخيرة : أنّ هذا الخبر ما لم يُقيّد بما سبق سيكون معارضاً باختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم الأشقَّ على نفسه ، كقيامه الليل حتّى تتشقق قدَماه مع أنّ الله تعالى قد غَفَر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر . قال الحافظ في الفتح : ( لكن إذا حملناه على ما يفضي إلى الإثم أمكن ذلك بأن يخيره بين أن يفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى مع الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلاً ، و بين أن لا يُؤتِيَه من الدنيا إلا الكفاف ، و إن كانت السعة أسهل منه ، و الإثم على هذا أمر نسبي ، لا يراد منه معنى الخطيئة لثبوت العصمة له ) [ فتح الباري : 6 / 713 ].
ثالثاً : لا تكليف بدون مشقّة ، و إن كانت المشقّة الحاصلة بكلِّ تكليفٍ بحَسَبه ، و هي متفاوتة ، فإذا جاز لنا تخيّر أيسر المذاهب دفعاً لكلّ مشقّةٍ ، ترتّبَ على ذلك إسقاط كثيرٍ من التكاليف الشرعيّة ...
قال الشاطبي رحمه الله : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [ الموافقات : 2 / 128 ] .
و قال الإمام شمس الدين ابن القيّم رحمه الله : ( لو جاز لكل مشغول و كل مشقوق عليه الترخيص ضاع الواجب و اضمحل بالكلية ) [ إعلام الموقعين 2 / 130 ].
و قال أيضاً في مَعرض كلامه عن رُخَص السفَر : ( إنَّ المشقة قد عُلِّقَ بها من التخفيف ما يناسبها ، فإن كانت مشقة مرض و ألم يُضِرُّ به جاز معها الفطر و الصلاة قاعداً أو على جنب ، و ذلك نظير قصر العدد ، و إن كانت مشقّةَ تعبٍ فمصالح الدنيا و الآخرة منوطةٌ بالتعب ، و لا راحة لمن لا تعب له بل على قدر التعب تكون الراحة فتناسبت الشريعة في أحكامها و مصالحها بحمد الله و مَنِّه ) [ إعلام الموقعين 2 / 131 ] .
قلتُ : فمن آثر الراحة و الدعةَ في مقام الجدّ و النصَب ، فقد خالف الصواب ، و غَفَل عمّا أريد منه ، و ما أنيط به ، و لو كان في البعد عن الجدّ و الجَهد في الطاعة بدون مرخّصٍ شرعيٍ مندوحةٌٌٌ لغير ذوي الأعذار ، لما قال تعالى لخير خلقه ، و أحبّهم إليه : ( فإِذا فَرَغْتَ فانْصَبْ ) [ الانشراح : 7 ] .
رابعاً : ما ورد في التحذير و التنفير من التشديد و التعسير و المشاقّة و التنطّع ، و التعمّق - و ما إلى ذلك - على النفس و الغير ، لا يدلُّ على التخيير ( أو التخيُّر ) في الأحكام الشرعيّة ، لدلالة النصوص على التكليف بالأشدّ في مواضع كثيرة ، و لأنّ النسخ بالأشد ممّا جاءت به الشريعة بالاتفاق ، فضلاً عن حمل جمهور أهل العلم لنصوص النهي عن التنطّع و نحوه على ما كان فيه مجاوزة للمشروع ، كالوصال في الصيام ، فهو ممّا نُهي عنه ، و إن كان مقدوراً عليه بدون مشقّة ، بخلاف الصوم المشروع فلا يسقط عمّن وجَبَ عليه حتى و إن ثبتت مشقّته ، ما دام مقدوراً عليه ، و قد تقدّم ذكر بعض أقوال أهل العلم في أنّ الأصل في التكليف ، أنّه قائمٌ على المشقّة المقدور عليها .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله : ( التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ، و لا مستحب ، بمنزلة الواجب و المستحب في العبادات ، و تارةً باتخاذ ما ليس بمُحرَّم ، و لا مكروه ، بمنزلة المحرم و المكروه في الطيبات ، و عُلِّل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى ، شَدَّد الله عليهم لذلك ، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة ، و في هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لِمِثْل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة ، و إن كان كثير من عُبَّادِنا قد وقعوا في بعض ذلك ، متأولين معذورين ، أو غير متأولين و لا معذورين ) [ اقتضاء الصراط : 1/103 ] .(/2)
و قال ابن القيّم رحمه الله : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين ، و ذلك بالزيادة على المشروع ، و أخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه ؛ إما بالقدر ، و إمَّا بالشَرْع ؛ فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل ، فيلزمه الوفاء به ، و بالقدر كفعل أهل الوسواس ، فإنهم شدَّدوا على أنفسهم ، فشُدِّدَ عليهم القدر ، حتى استحكم ذلك ، و صار صفةً لازمة لهم ) [ إغاثة اللهفان : 1/132 ] .
و لا يقال : إنّ أحكام الشريعة تتدرّجُ من الأشدّ إلى الأيسَر ، و لا من الأيسر إلى الأشد ، باضطراد ، لأنّها اشتملت على الأمرين معاً ، و هذه المسألة مبسوطة في مباحث النسخ في كتب الأصول ، و الأمثلة عليها كثيرة من الكتاب و السنّة ، و من استقرأها وقفَ على حقيقةٍ مفادها أنّ التدرّج من الأيسر إلى الأشدّ هو الغالب في النَسخ ، و هو ما يصلحُ دليلاً على نقيض ما ذهَب إليه دعاة التيسير ، و مؤصّلوه في هذا الزمان .
لقد جاء الشرع بالتشديد بعد الترخيص في مواضع منها ما تقدّم ذِكره من إيجاب الصيام على كلّ مكلّّف بعد أن كان على التخيير في حق من يطيقه .
و نحو ذلك ما جاء في تحريم الخمر من التدرّج من الأيسر إلى الأشد ، حيث كان مباحاً على الأصل ، ثمّ نزلت الآية لتفيد كراهته بالإشارة على رُبُوِّ إثمه على نفعه ، ثمَّ حرّم أثناء الصلاة خاصّة ، ثمّ نزل تحريمه في الكتاب ، و حدُّ شاربه في السنّة .
و كذلك الحال في تشديد حدّ الزنا من الإيذاء باللسان و اليد ، إلى حبس الزواني في البيوت حتى يأتيهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلاً ، ثمّ الجلد للبكر ( و التغريب في بعض المذاهب ) ، و الرجم للمحصن .
و نحوه ما كان من النهي عن الجهاد في أوّل الأمر ، ثمّ الإذن فيه ، ثم إيجابه على غير ذوي الأعذار بعد الهجرة .
و الأمثلة غير ما ذكرنا على أن الشرع الحنيف جاء بالتدرّج في التشريع من الأيسر إلى الأشدّ كثيرة ، و لو أردنا تتبُّعَها ، وذِكرَ أدلّتها و ما يتفرّع عنها من مسائل و أحكام ، لطال بنا المقام ، قبل أن نصير إلى التمام (1) .
و هذا يدلّ على نقيض ما تذرّع به الميسِّرون ، يسَّر الله لنا و لهم سُبُلَ الهدى ، و وقانا مضلات الهوى و موارد الردى .
فإذا أضيف إليه ما قرّرناه آنِفاً ، من بُطلان استدلالهم بنصوص الوحيين على الجنوح إلى التيسير على وجه التخيير ، ظهر لنا الحق الصريح ، و هو إغلاق باب الاجتهاد في مورد النص الصحيح ، و وجوب الردّ إلى الله تعالى و رسوله على وجه التسليم و القبول ، و الله أعلَم و أحكَم .
المقصِِِد الثاني
أقوال السلف في اختيار أيسَر المذاهب
تذرّع دعاة التيسير في العصر الحديث بما روي عن السلف و الأئمة المتّبعين بإحسان ، من استحباب الأخذ بالرُخص .
و من ذلك ، قول قتادة رحمه الله : ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) [ انظره في : تحفة المولود ، ص : 8 ] .
و قول سفيان الثوري رحمه الله : ( إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و قول شيخ الإسلام ابن تيميّة : ( إذا فعل المؤمن ما أُبيح له قاصداً العدول عن الحرام لحاجته إليه فإنّه يثاب على ذلك ) [ مجموع الفتاوى : 7 / 48 ] .
و قول ابن القيّم : ( الرخص في العبادات أفضل من الشدائد ) [ شرح العمدة : 2 / 541 ] .
و قول الكمال بن الهمّام في التحرير : ( إنّ المقلّد له أن يقلّد من يشاء ، و إن أخذ العاميّ في كلّ مسألة بقول مجتهد أخفّ عليه ، لا أدري ما يمنعه من النقل أو العقل .
و كون الإنسان يتتبّع ما هو الأخفّ عليه من قول مجتهد مسوغ له الاجتهاد ، ما علمت من الشرع ذمّه عليه ، و كان صلى الله عليه وسلّم يحبّ ما خفّف عن أمّته ) .
و قول الشاطبي : ( المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة ، و لا يميل إلى طرف الانحلال ، و الدليل على صحة هذا أنَّه الصراط المستقيم ، الذي جاءت به الشريعة ، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلف ، الحملُ على التوسط من غير إفراطٍ و لا تفريطٍ ، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع ، و لذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموما عند العلماء الراسخين ) [ الموافقات : 4 / 285 ] .
إلى غير ذلك ممّا وقفوا عليه فاحتجّوا به ، أو غاب عنهم فأغفلوه .
و لو تأمّلنا ما أوردناه ( و لا أعلَم لهم استدلالاً بغيره من أقوال الأئمّة ) لما رأينا فيه دليلاً على التيسير الذي يُدندنُ حَوله المعاصرون ، فقتادةُ يدعوا إلى الترخّص حيث شرع الله الرخصة ، فيقول : ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) ( ابتغوا الرخصة التي كَتَب الله لكم ) ، و لا يقول : رخِّصوا باستحسانكم ، أو لمجرّد التخفيف عن العباد أو مسايرتهم .(/3)
و ابن تيميّة يذكر الاستغناء بالحلال عن الحرام ، و ليس الإفتاء بعدَم حُرمةِ الحرَام أصلاً ، أو اختيار قول من يعدل عن التحريم إلى التحليل أو مجرّد الكراهة ، و إن ضَعُفَت حُجّته ، و وَهت شُبهته .
أمّا ابن القيّم فكلامه في الرخص في العبادات ، و هذا لا خلاف فيه ، خلافاً لدُعاة التيسير الذين وقعوا في تحليل الحرام ، و نفي الكراهة عن المكروه ، و شتّان ما بين المذهبين .
و ما يُروى عن سفيان رَحمه الله لا يؤخذ منه الترخيص بإسقاط الواجب ، أو تحليل المحرّم ، و لكنّه موجّه إلى ما ينبغي أن يفتيَ به العالم من وَقع في حرَج متيقّن ليعينه على القيام بما وَجَبَ عليه ، لا ليُسقِطه عنه ، و ذلك كثيراً ما يَقَع في باب الكفّارات ، و أداء النذور و نحوها .
و ما روي عن ابن عيينة ، قال به غيره ، و لكنّهم تحوّطوا في ضبط صوَره بالتمثيل له .
قال النووي : ( و أما من صحَّ قصدُه , فاحتَسَبَ في طلب حيلةٍ لا شُبهةَ فيها , لتخليصٍ من ورطة يمينٍ و نحوها , فذلك حسن جميل ، و عليه يُحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا , كقول سفيان : إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة , فأما التشديد فيُحسنه كل أحد ) [ آداب الفتوى للنووي ، ص : 37 ] .
و ننبّه هنا إلى أنّ ما رويَ عن السلف الصالح ، في الحث على التمسّك بالعزائم ، و التحذير من الترخّص المجرّد عن الدليل ، أضعاف ما روي عنهم في التيسير و الترخيص ، و العدل أن يُجمَع بين أقوالهم ، لا أن يُسقَط بعضها ، أو يُضرَبَ بعضُها ببَعضٍ .
و ربّما اتّضحت الصورة أكثر إذا قرّبناها بالتمثيل لما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين ، فإذا رَجَعنا إلى سيَرِهِم وقفنا على معالم منهجهم في التشديد و التيسير على النفس و الغير ، و من أبرز تلك المعالم :
أوّلاً : تشديد العالم على نفسه أكثر ممّا يشدد على غيره .
و لهذا المَعلَم ما يشهد له من السنّة ، حيث أرشَد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه معاذ بنَ جبل رضي الله عنه ، حين أمرَه بالإيجاز إذا أمَّ الناسَ في الصلاة ، و يقتضي هذا الترخيص له في الإطالة إذا صلى فذاً ، كما في الصحيحين و غيرهما .
ثانياً : عُرِف عن السلف الصالح ، من الصحابةِ الكرام و من بَعدَهُم التشديد على الناس فيما تساهلوا فيه ، و هذا خلاف ما عليه ميسِّرة العصر ، من التيسير فيما كثُر وقوع الناس فيه .
و من ذلك قول عمر الفاروق رضي الله عنه : ( فلو أمضيناه عليهم ) حينما حكمَ بإيقاع طلاق المجلس ثلاثاً ، و أمضاه على الناس ، لأنّهم استعجلوا بعد أن كانت لهم فيه أناة .
و كذلك تضمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للصنّاع ، بعد أن فسدت الذمم و تغيرت النفوس .
ألا ترى أنّ عمرَ و عليَّ رضي الله عنهما قد بالغا في التشديد في هاتين المسألتين ، استحساناً ، رغم وجود ما يراه الميسِّرون المعاصرون مقتضياً للتيسير ، و مستلزماً للتخفيف مراعاةً ظروف المجتمع ، و رفعاً للحَرَج عن الناس .
ثالثاً : أنّ من السلف من كان يفتي بالفتوى ، أو يقضي بالقضاء ، ثمّ يرجع عنه إذا بلغه ما هو أقوى منه دليلاً و أقوَم سبيلاً ، إذ إنّ العبرة عنهم بما جاء من عند الله ، و ثبت عن رسول الله ، و ليس بالتيسير أو التشديد .
أخرج مسلم في كتاب الحج من صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : ( أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجُل : رويدك بعض فتياك ، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك ، فقال : يا أيها الناس : من كنا قد أفتيناه فتيا فليتئد ، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا ، قال : فقدم عمر ، فذكرت ذلك له ، فقال : أن تأخذ بكتاب الله فإن الله تعالى قال : { وَ أَتِمُّوُا الحَجَّ و العُمْرَةَ لله } [ البقرة: 196 ] ، و أن تأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى نحر الهدي ) .
و الأمثلة غير هذا في رجوعهم إلى الحقّ كثيرة ، فهل في دعاة اليوم من يلزم غرزَ السابقين ، و ينحو نحوَهُم ، فيقف عند الدليل ، و يرجع إليه إن بلغه ، و لو بعد حين ، و لا يجد غضاضةً في أن يقول : ( تلك على ما قضينا ، و هذه على ما نقضي ) ؟
رابعاً : كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يدورون مع الدليل حيثُ دارَ ، فمنهم الميسِّر و منهم المشدد ، و لكن عن علم و بصيرة و دليل .
و كلُّهُم مِنْ رسولِ اللهِ مُقْتَبِسٌ *** غرفاً مِنَ البَحرِ أو رَشْفاً مِنَ الدِيَمِ
و إن كان فيهم من يلتزم في عمله الأحوط في مقابل من يجنح إلى الأيسر ، و لكنّ الحامل لكلٍّ منهما على مذهبه لا يخرج عن الاستدلال بما ثبت عنده عن نبيِّ الهُدى صلى الله عليه وسلم .(/4)
و يحسن التمثيل لاختلاف آراء الصحابة في هذا الأمر بما كان عليه الصاحبان الإمامان : عبد الله بن عبّاس ، و عبد الله بن عمر رضي الله عنهم ، فقد كان ( أحدهما يميل إلى التشديد و الآخر إلى الترخيص و ذلك في غير مسألة ، و عبد الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك ، و كان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد ، و كان يمنع من دخول الحمام ، و كان إذا دخله اغتسل منه ، و ابن عباس كان يدخل الحمام ، و كان ابن عمر يتيمم بضربتين ضربةٍ للوجه ، و ضربةٍ لليدين إلى المرفقين ، و لا يقتصر على ضربة واحدة ، و لا على الكفين ، و كان ابن عباس يخالفه ، و يقول : التيمم ضربةٌ للوجه ، و الكفين ، و كان ابن عمر يتوضأ من قُبلةِ امرأتِه ، و يُفتي بذلك ، و كان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى ، و كان ابن عباس يقول : ما أبالي قبَّلتُها أو شممت ريحاناً ، و كان يأمر من ذكر أن عليه صلاة و هو في أخرى أن يُتِمَّها ، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها ، ثم يعيد الصلاة التي كان فيها... و المقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد و الاحتياط ) [ زاد المعاد : 2 / 47 و 48 ] .
قلتُ : و مع كلِّ ما كان يذهب إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من التشديد و لزوم الأحوَط ، لم يغمز قناته أحدٌ من السلف أو الخلف ، و لم يصمه أحدٌ بوصمة التعسير ، على وجه التخطئة و التنفير ، بل غاية ما ذَهَبَ إليه مخالفوه هو عدَم موافقته في تشديداته ، مع اعتبارها أمارةً على وَرَعه و حُسن اتّباعه ، و عُذر مَن ذهبَ مذهبَه من الأتباع ما داموا يدورون مع الدليل مدارَه .
و لم يكن يسعهم حتى تمني خلافه فضلاً عن تبريره أو تسويغ القول و العمل به .
قال أبو عبد الله الزركشي [ في المنثور : 1 / 20 ، 21 ] و هو يُعدِّدُ أنواع التمني و يعرض حكم الشرع في كلٍّ منها : السابع : تمني خلاف الأحكام الشرعية لمجرد التشهي ... قال الإمام الشافعي في ( الأم ) و قد روى عن عمر : ( لا يُسترق عربي ) قال الشافعي رحمه الله : لولا أنَّا نأثم بالتمني لتمنينا أن يكون هذا هكذا ، و كأنه أراد تغير الأحكام و لم يرد أن التمني كله حرام ) .
قلت : فلله درّهم ما أبرَّهم ، و ما أنبلهم حيث لا يسوّغون مجرّد كون الحرام حلالاً ، فضلاً عن تسويغه ، و الإفتاء بحلّه ، و لو كان بليّ أعناق النصوص ، و حشد الشواهد و الشواذ من كلّ رطبٍ و يابِسٍ ، من زلاّت المتقدّمين ، و هفولت المتأخّرين ، و سقطات المُتابِعين .
إنّها و الله الخشية من العَبدِ للمعبود ، فمن أو تِيَها فقد أوتِيَ خيراً كثيراً ، و هل العِلمُ إلاّ الخشية ، و ما مثل من كثر عِلمُه و قلّت خشيته إلا كمثل التاجر المدين ، تكثر بين يديه العروض ، ليس له منها شيء .
خاتمة
و بعد ، فقد آل بنا البحث عند ختامه إلى الحديث عن الخشية ، و هي جماع صفاة العالم الرباني ، تسوقه إلى الحقّ ، و تأطُرُه عليه أطراً .
قال صاحب الآداب الشرعيّة : ( و نقل المروزي عن أحمد أنه قيل له : لمن نسأل بعدك ؟ فقال: لعبد الوهاب يعني الوراق ، فقيل إنه ضيق العلم فقال : رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق .... و قال الأوزاعي كنا نمزح و نضحك ، فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم ... و روى ابن بطة عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى : إن الفقه ليس بسعة الهذر و كثرة الرواية إنما الفقه خشية الله ... و قال الأوزاعي : بلغني أنه يقال : ويل للمتفقهين لغير العبادة , والمستحلين المحرمات بالشبهات ... و قال الشافعي رضي الله عنه : زينة العلم الورع و الحلم ، و قال أيضا لا يجْمُل العلم ، و لا يحسن إلا بثلاث خلال : تقوى الله , و إصابة السنة , و الخشية ) .
فما أحرى العاملين للإسلام ؛ دعاةً و فقهاء و مُفتين إن يقفوا على الحقّ ، و يقولوا به ، و يردّوا عِلمَ ما اختُلِفَ فيه إلى عالمه .
لتكون السبيل محجّةً بيضاء ؛ كتاباً و سنةً ، مع سلامةٍ في الصدر و المنهج .
ففي ذلك السلامة ، و النجاة من الندامة ، و هذا غاية ما أردت بيانه في رسالتي هذه ، باذلاً في طلب الحق و تقريبه للخلق وسعي ، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، و إن أخطأتُ فمِن نفسي و من الشيطان ، و اللهَ تعالى أسألُ أن يغفر زلّتي ، و يقيل عثرتي .
و أفوّض أمري إلى الله ، إنّ الله بصير بالعباد
و الحمد لله ربّ العالمين
و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد ، و آله ، و صحبه أجمعين
--------------------(/5)
(1) كان التدرّج في التشريع في زمن الوحي ، و انقطع بانقطاعه ، حيث أكمَلَّ الله دينه ، و أتمّ على عباده نعمته ، فقال : ( اليوم أكملتُ لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً ) فليس لأحد بعد ذلك أن يجاري الشارع الحكيم سبحانه في التدرّج في تبليغ حكم الله تعالى ، و حُكمِ رسولِه لحديثي العهد بالإسلام أو التوبة ، إذ إنّ الأحكام قد استقرّت على ما قضى الله و رسوله ، و بالله العصمة .
و كتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
( الملقّب بالشريف )
دَبْلِن ( إيرلندا ) في غرّة جمادى الآخرة عام 1423 للهجرة
الموافق العاشر من يوليو ( تمّوز ) عام 2002 للميلاد
http://www.saaid.net/Doat/Najeeb
alhaisam@msn.com(/6)
نقل الميت إلى مقبرة أخرى
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ...
التاريخ ... 23/11/1423هـ
السؤال
السلام عليكم.
أرجو الإفادة في المسألة الآتية:
توفيت والدة زوجي منذ عدة أيام وتم دفنها في المقابر الخاصة بأهلها– أي الخاصة بوالدها وإخوانها- وكانت قد أوصت بدفنها في المقبرة الخاصة بزوجها، مع العلم أن زوجها ما زال على قيد الحياة ولم يتم شراء مقبرة تكون ملكه بعد، وأن الإجراءات اللازمة لشراء المقبرة قد تستغرق فترة من الزمن، فهل يجوز نقل جسدها بعد إتمام شراء المقبرة المذكورة؟ وهل يجوز البناء على المقابر بغرض حمايتها من السرقة؟ (الأمر الذي قد انتشر في مصر).
الجواب
لا أثر لهذه الوصية من المرأة التي دفنت في مقبرة غير ما أوصت به، ولا يجوز نقل جسدها بعد شراء المقبرة الخاصة بزوجها التي لم توجد بعد، ونقل الميت من قبر إلى آخر لا يجوز إلا إذا كان لذلك مبرر شرعي كأن يلحق القبر ضرر كوصول المجاري إليه أو أصبح في طريق عام للناس لا مندوحة لهم أن يطرقوه ويسلكوه ونحو ذلك وما ذكر في السؤال لا يبرر جواز النقل.
أما البناء على القبور مجتمعة بسور واحد حماية أن يلحقها أذى من الناس أو الدواب فجائز شرعاً، أما البناء على القبر بناء يميزه عن القبور الأخرى بطين أو إسمنت أو رخام ونحوه فحرام لا يجوز فإن القباب والمشاهد أكبر ذريعة إلى الشرك الأكبر عياذاً بالله وقد قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:"....اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" الموطأ (1/172).(/1)
نكاح المتعة بين الفقه السنّي والفقه الشيعي
خالد بن عبد العزيز السيف 14/5/1427
10/06/2006
توطئة
علاقة الذكر بالأنثى بكل أبعادها وتفاصيلها كانت حاضرة في الخطاب الإسلامي والتشريع القرآني على وجه الخصوص، فمن لباس المرأة إلى النظر في حقوقها، والعلاقة المتبادلة بينها وبين الرجل، سواء كانت علاقة شرعية كعقود الأنكحة الأولية، أم كانت غير شرعية قد تنشأ بينهما.
وهذه التشريعات القرآنية جاءت واضحة مفصلة، سواء ما كان منها متعلقاً بالحقوق الزوجية والأسرية، كالمهور، والعشرة الزوجية، والطلاق والعِدد، أو ما كان منها متعلقاً بالحقوق الأخرى، كالميراث والولاية وغيرها، وما جاء في الحديث النبوي فالأمر فيه أكثر تفصيلاً وبياناً، وهذه التشريعات الإسلامية جاءت لتؤكد اهتمام الإسلام بالعلاقات المتبادلة بين الرجل والمرأة، وعلى قمة هرمها العلاقة الزوجية وما يصح منها وما لا يصح.
وقد جاء الإسلام بالحث على الزواج الشرعي، وحث عليه لما فيه من المصالح العظيمة، ولما فيه من السكن والمودة والنسل، ولهذا رتب الشارع على هذا العقد العظيم أموراً عظيمة ً، كالميراث والعدة وغيرها من الحقوق المتبادلة بين الزوجين.
المتعة في المدونات السنية
نكاح المتعة هو: أن يتزوج الرجل المرأة مدة محدودة، مؤقتة بوقت معين، تنتهي علاقتهما بانقضاء هذه المدة، وهذا النوع من النكاح عده العلماء من الأنكحة الفاسدة، واتفق الأئمة الأربعة على تحريمه كما نقل عنهم ذلك الإمام ابن تيمية (1)، وهذا النكاح كغيره من الأنكحة الفاسدة، والتي تقوم على إسقاط شرط من شروط النكاح أو تغيير حكم ثابت في الشرع أو غير ذلك من مفسدات عقود الأنكحة . ويفرق أهل السنة بين إسقاط شرط من شروط النكاح حتى لو كان بتراضي الزوجين ؛ أو إسقاط حق من الحقوق المتبادلة بين الزوجين باتفاقهما وتراضيهما وسيأتي بيان ذلك قريباً .
والجدل الحاصل في نكاح المتعة بين أهل السنة والشيعة سببه أن النبي –صلى الله عليه وسلم - رخص في نكاح المتعة في وقت من الأوقات ثم حرمها، فاستمر الشيعة على عدم النسخ، وأجرى أهل السنة نسخ الحكم كما صحت الأحاديث به، على أن هناك فروقاً في جوهرية انعقاد زواج المتعة على القول بجوازه عند أهل السنة والشيعة سيأتي بيانه.
ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه - قال: "كنا نغزو مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم - ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا رسول الله –صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ثم أمرنا أن ننكح المرأة في الثوب إلى أجل" (2)، وقولهم للنبي –صلى الله عليه وسلم -: "ألا نستخصي؟" دليل على أن المتعة كانت محظورة قبل أن يباح لهم الاستمتاع بها، ولو لم تكن محظورة لم يكن لسؤالهم هذا معنى، ثم رخص لهم في الغزو أن ينكحوا المرأة بالثوب إلى أجل، ثم نهى عنها عام خيبر، فقد جاء عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- أن النبي–صلى الله عليه وسلم - "نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية" (3)، ثم أذن فيها عام الفتح، ثم حرمها بعد ثلاث إلى يوم القيامة، فقد جاء في صحيح مسلم أيضاً عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزى مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة، فقال: "يا أيها الناس، إني كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فيخلِّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" (4)، وهذا التحريم كان نهائياً، بدليل قوله –صلى الله عليه وسلم -: "وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة"، وقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- :"لا أعلم شيئاً أحله الله ثم حرمه ثم أحله ثم حرمه إلا المتعة" (5).(/1)
ومما يدل أيضاً على تحريم المتعة قوله تعالى: "والذين هم لفروجهم حافظون*إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين" [سورة المؤمنون: 4-5 ، المعارج: 29-30] في موضعين من القرآن، ولم يذكر الله تعالى زواج المتعة, ولو كان حلالاً لذكره هنا، وقال تعالى أيضا: "ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات.." إلى أن قال: "ذلك لمن خشي العنت منكم" [سورة النساء:25]، أي أن من لم يستطع نكاح الحرة فلينكح الأمة, ولو كانت المتعة جائزة لأرشد إليها، فهي خير من نكاح الأمة، لأن نكاح الأمة يسبب رق الأولاد منها، وخاصة بعد أن ذكر العنت وهو المشقة مع عدم الزوجة، وقال تعالى أيضاً: "وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله" [سورة النور:33]، ولو كانت المتعة جائزة لأرشد إليها حتى يتيسر النكاح المعروف, وقال تعالى في سياق تعدد الزوجات: "..فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم.."[سورة النساء:3]، فمن خاف عدم العدل فليتزوج واحدة أو يستمتع بما ملكت يمينه، ولو كانت المتعة حلالاً لذكرها الله سبحانه في هذا الموضع.
ولم يُروَ في جواز المتعة عن أحد من العلماء ممن يعتد به إلا ما روي عن ابن عباس –رضي الله عنه-، وقد فهم ابن عباس أن الرخصة باقية للمضطر, فعن أبي جمرة قال: "سمعت ابن عباس –رضي الله عنه- يسأل عن متعة النساء فرخص فيها، فقال له مولى له: إن ذلك في الحال الشديدة، وفي النساء قلة ونحوه ، فقال ابن عباس: نعم" كما جاء ذلك عند البخاري، ومع أن ابن عباس لم يحكم بإباحتها مطلقاً وأنه قال هي للمضطر، وقد قيل لابن عباس: "لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء"، يعني المتعة، فقال: "والله بهذا أفتيت وما هي إلا كميتة لا تحمل إلا للمضطر" (6).
ولكن كبار الصحابة عارضوه في قوله هذا, ولم يعتبروا فتواه، وأنكروا عليه بشدة، كعلي بن أبي طالب –رضي الله عنه -، وقد قيل له: "إن ابن عباس لا يرى في متعة النساء بأساً"، فقال:"إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - نهى عنها يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الإنسية"، كما جاء ذلك في البخاري، وكذلك أنكر عليه عبد الله بن عمر –رضي الله عنه-، ونقل الترمذي والطبراني أنه رجع عن فتواه هذه أخيراً .
وقد نقل ابن حجر أيضاً أنه رُوِيَّ رجوعه عن فتواه هذه (7), ونقل القرطبي عن ابن العربي جزمه بثبوت رجوع ابن عباس عن فتواه في المتعة (8), وذكر الترمذي بعد حديث علي المعروف في النهي عن المتعة قال: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم - وغيرهم, وإنما روي عن ابن عباس شيء من الرخصة في المتعة ثم رجع عن قوله، حيث أُخبر عن النبي–صلى الله عليه وسلم -" (9).
وقد يكون ابن عباس قبل رجوعه لم يبلغه المنع، حيث كان يبيح متعة النساء ولحوم الحمر الأهلية جميعاً، كما ذكر ابن تيمية (10)، أو فهم من المنع فهماً آخر, وهذا وارد في غالب النصوص واختلاف الصحابة موجود ، ولكن العبرة بما وافق النص، وقد انعقد الإجماع بعد ابن عباس على تحريمها من جمع من العلماء، وحكاه غير واحد من أهل العلم، منهم الخطابي، والقاضي عياض، وابن عبد البر، وغيرهم كثير، والعبرة بالدليل وما عليه جماعة الأمة (11).
والمتعة التي كانت في صدر الإسلام متحققة فيها شروط النكاح الشرعي المعروفة، وهي تعيين الزوجين ورضاهما وتوفر الولي والإشهاد، إلا أن نكاح المتعة يزيد عليه بتحديد مدة للنكاح وأن النكاح ينفسخ بانقضائها، وقد يلتبس نكاح المتعة المنسوخ في أول الإسلام مع ما عليه المذهب الشيعي، لكن المذهب الشيعي لا يشترط الولي ولا الإشهاد على النكاح، وهذا لم يكن موجوداً قط في الإسلام، وقد قال الإمام القرطبي: "من قال المتعة أن يقول لها: أتزوجك يوماً ـ أو ما شابه ذلك ـ على أنه لا عدة عليك ولا ميراث بيننا ولا طلاق ولا شاهد يشهد على ذلك؟! وهذا هو الزنا بعينه، ولم يبح قط في الإسلام"، وقال أيضاً وكل ما حكي عن أن نكاح المتعة قبل النسخ كان بلا ولي ولا شهود ففيه ضعف" (12).
وقد قال الله تعالى في أمر الولي: "وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم.." [سورة النور (32)]، وقال: "فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن.." [سورة البقرة: 232]، ولو لم يكن للأولياء حق الولاية لما خوطبوا بذلك، وقد قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في هاتين الآيتين: إنهما أصرح آيتين في اعتبار الولي في النكاح (13).(/2)
وأما في السنة، فأحاديث اشتراط الولي في النكاح كثيرة، منها ما جاء في السنن عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي –صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، وإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" (14)، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوج، أو زوّج أحداً بدون ولي .
وشرط الولي في النكاح، هو: مذهب الإمام الشافعي، ومالك، وأحمد، والشعبي، والزهري، وجماهير أهل العلم (15).
وأما بالنسبة للإشهاد على النكاح فمن العلماء، -كالإمام مالك رحمه الله تعالى – من صحح النكاح بغير شهود إذا أُعلن، بناءً على أن الزيادة في حديث: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" لا تصح (16)، وأن الإشهاد لا يشترط بعينه، فإما الإشهاد وإما إعلان النكاح، ولأن الحكمة من الإشهاد التفريق بين النكاح الصحيح، والسفاح المبني على الخفية ، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (17).
ومن العلماء من اشترط الإشهاد كالشافعي ، والمشهور عن الإمام أحمد، وجماهير أهل العلم . على أن جميع العلماء الذين اشترطوا الإشهاد أو لم يشترطوه اتفقوا على أنه لا يجوز نكاح السر (18)، ولذلك جاء ت الأحاديث بالأمر بإعلان النكاح حتى يفترق عن السفاح ، كما جاء عن النبي صلى الله غليه وسلم :" أعلنوا هذا النكاح، واضربوا عليه بالدف " (19) .
وعلى جميع الأحوال فالمتعة التي كانت في صدر الإسلام مع أنها قد اكتملت فيها شروط النكاح الشرعي، إلا أن الترخيص فيها جاء على نطاق ضيق، وفي السفر لا في الحضر، كما تشهد بذلك الأحاديث الصحيحة.
المتعة في المدونات الشيعية
كثرت المرويات في المدونات الشيعية حول المتعة، فمنها ما يتعلق بفضيلتها وأجر المتمتع، ومنها ما يتعلق بأحكامها، والقارئ في تلك المدونات يذهل من كثرة المرويات في أمر المتعة، حتى إنه يحتار أي المرويات أبلغ في صراحتها في الدلالة على المذهب، وهذه المرويات أشهر من أن تذكر، ولذا فسأكتفي بالإحالة عليها في الحاشية، خصوصاً ما يتعلق منها بالنواحي التشريعية ومن المدونات الشيعية نفسها .
فالمتعة عند الشيعة تختلف اختلافاً تاماً عما كان عليه الأمر في صدر الإسلام، فلا يلزم في المتعة الشيعية شهود، ولا إعلان، ولا ولي، ولا يشترط فيها عندهم سوى تسمية المهر، وذكر الأجل وصيغة الإيجاب والقبول (20).
ويجوز على المذهب الشيعي التمتع بذات الزوج! وسؤالها هل لها زوج ليس شرطاً في الصحة ، وسؤالها بعد العقد مكروه (21)،ويجوز التمتع بالزانية أيضاً، كما نص على ذلك الإمام الخميني (22)، مخالفين بذلك قول الله عز وجل: "الزاني لا ينكِح إلا زانيةً أو مشركةً والزانية لا ينكِحها إلا زانٍ أو مشركٌ وحُرم ذلك على المؤمنين" [سورة النور: 3]، وأيضاً يجوز التمتع بالصغيرة دون تسع سنين، بشرط عدم الإيلاج (23).
وليس للرجل حد في عدد النساء اللاتي يجوز له التمتع بهن، بل له عدد غير محصور من النساء، والمتعة عند الشيعة أقرب إلى الزنا والدعارة، منها إلى أحكام الشريعة الإسلامية، بل إن الزنا غالباً ما يكون عن عوض وعن تراضٍ بين الطرفين، فلا يمكن والحالة هذه التفريق بين الزنا وبين المتعة التي رتب المذهب الشيعي عليها الفضائل العظيمة.
وتوسعُ المذهبِ الشيعي في أمر المتعة راجع إلى اعتبارات عديدة، من أهمها والمتعلق بهذا السياق: حضور الطرح الجنسي في المدونات الشيعية بشكل ظاهر، والمتعة حلقة في هذه المنظومة الجنسية التي يفترض أن يُنزه عنها فقه آل البيت.
فالتوسع في الجانب الجنسي لدى الشيعة في مدوناتهم ظاهر، فمن ذلك إجازة المذهب الشيعي وطأ المرأة في الدبر (24)، وأما وطأ الحائض، فالأفضل أن يكفر عن وطئها في الحيض مع علمه بذلك (25)، أما الأجنبيات فيجوز عندهم النظر إلى الحسناوات من النساء (26)، ويجوز أيضاً النظر إلى نساء أهل الذمة لأنهن بمنزلة الإماء، لكن يشترط عدم التلذذ!! (27)، وأما النظر إلى أجساد السافرات المتبذلات فيجوز، لكن بشرط عدم التلذذ أيضاً !! ولا فرق في الحكم بين الأعضاء المنظور إليها، ولا فرق أيضاً بين الكافرات وغيرهن (28)، ولا بأس بالخلوة بالمرأة الأجنبية بشرط أمن الفساد (29)، ويجوز على المذهب الشيعي أيضاً إعارة الفرج (30).(/3)
وهذه المرويات تزخر بها كتب الشيعة، وإن كان بعض فقهائهم يضعفها، إلا أن تواردها على الفقه الشيعي سواء الشعبي منه أم النخبوي، يشكل ضغطاً لا شعورياً في التوسع في أمر الأبضاع والفروج، والميل إلى ترجيح مسائل من هذا النوع، مما يصعب على المتجرد القول به، كبعض ما ذكر من الأحكام المتعلقة بنكاح المتعة، أضف إلى ذلك مسألة حظ النفس وحب اللذة، والذي يمارس دوره أحياناً في توجيه الترجيح الفقهي إلى ما تنزع إليه الغريزة، وقد كشف بعض علماء الشيعة التصحيحيين جوانب مظلمة من الممارسات الجنسية، والتي تمارس باسم المتعة، وبممارسة فقهاء الشيعة أنفسهم (31).
موازنة
مما سبق بيانه حول نكاح المتعة عند السنة والشيعة، يتبين لنا إلى أي حد يفترق العقدان، بل نستطيع أن نقول: هما من باب المشترك اللفظي الذي لايشترك إلا في الاسم فقط، أما الحقيقة فمتباعدان جداً.
ومع أن الفقه الشيعي استغنى بما يرويه عن أئمة آل البيت في المتعة، إلا أنه ربما شوش على بعض السنة في إباحة المتعة في القرآن، وذلك في قوله تعالى: "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن.." [سورة النساء: 24] ، على أن هذا الحرف من القرآن يبيح المتعة، وهذا الاستدلال فيه نظر، ويتبين فساد هذا الاستدلال عندما نطلع على الآية كاملة، يقول الله تعالى: "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليماً حكيماً*ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من عض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أُحصِنَّ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم" [سورة النساء: 24ـ25]، فالأجور المقصود بها المهور، كما جاء في غير آية من القرآن، كقوله تعالى في شأن جواز نكاح الكتابيات : " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين " [ المائدة : 5 ] وقال تعالى أيضاً : " يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن ... " [ الأحزاب : 50 ] وقال تعالى في شأن المهاجرات : " يا أيها الذين امنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ..." [ الممتحنة : 10 ] فرتب الله سبحانه وتعالى النكاح على دفع الأجور، وهي: المهور، وطريقة التقديم والتأخير جائزة في اللغة، ويكون المعنى فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم بهن أي إذا أردتم ذلك، كما في قوله تعالى : " إذا قمتم إلي الصلاة فاغسلوا … " وها معروف في اللغة .
ومما يبين أن القول في الآية "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن " لا يعني المتعة كما هي عند الشيعة، بل المقصود به النكاح الشرعي المعروف ، ولذلك قال في الآية التي بعدها وفي نفس السياق :" فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف .." ومعلوم أن النكاح بإذن الأهل، هو: النكاح الشرعي المعروف، الذي لا ينعقد إلا بالولي والشاهدين ، وأما نكاح المتعة فلا يلزم إذن الأهل، ولا يلزم الشهود والإعلان، كما مر تقريره عند علماء الشيعة . ومعنى الآية فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح، فآتوهن أجورهن، أي مهورهن فإذا جامعها مرة واحدة فقد وجب المهر كاملا ( كما ذكره القرطبي (32)، أما إذا طلقها قبل أن يستمتع بها ـ أي يجامعها ـ فلها نصف الأجر أي نصف المهر كما قال تعالى :" وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح .." [ البقرة : 237 ] .
ولهذا فاستدلال الشيعة بهذه الآي ليس في محله، والمتعة التي كانت في صدر الإسلام كانت بولي وشهود، ولا ينعقد النكاح إلا بذلك، كما سبق بيانه والاستدلال عليه، ولم يوجد في الإسلام متعة دون ولي أو إشهاد ، أما متعة الشيعة فلا يجب فيها إلا تسمية المهر والأجل، دون ولي ودون إشهاد، وكانت عدة المطلقة من نكاح المتعة، حيضة واحدة، كما هو رأي ابن عباس، وهو الذي كان يقول بها قبل رجوعه (33)، أما متعة الشيعة فالظاهر من سياق أحكامها ألا عدة فيها على المطلقة.(/4)
وبهذا يسقط ادعاء كل من ادّعى أن أهل السنة يمارسون نكاح المتعة مع حذفهم لكلمة (متعة) لما تثيره من حساسية، معتبرين أن الزواج الذي يتفق فيه الطرفان على التنازل عن بعض الحقوق، والذي أجازه المجمع الفقهي في دورته الثامنة عشرة هو زواج المتعة، وهذه مراوغة في التوصيف، تحاول تمرير التشويش، تحت غطاء التدليس (34).
أخيراً
المتعة الشيعية لا يمكن تمييزها من الزنا، إلا بأنها مشروعة من قبل فقهائهم، ومدعمة بمرويات عن آل البيت، مع أن علماء أهل البيت والأئمة منهم أجل وأرفع من أن يجيزوا هذه الصورة البعيدة عن تشريعات الإسلام، خصوصاً المتقدمين منهم، وعلى رأسهم علي –رضي الله عنه- وابناه الحسن والحسن، وابناه محمد وجعفر الصادق، وهؤلاء من أكابر الأئمة، وبعضهم من رجال البخاري ومسلم، فالأولى بفقهاء الشيعة أن ينزهوا الأئمة عن هذه المرويات المكذوبة عليهم قطعاً.
مع العلم أنه قد روي عن الأئمة من آل البيت ما يحرم نكاح المتعة، ومسألة المتعة كغيرها من المسائل في الفقه الشيعي التي تتضارب فيها المرويات، فقد جاء عن الإمام الصادق في المتعة قال: "ذلك زنا"، وعن الباقر قال: "هي الزنا بعينه"، وروى الكليني بإسناده عن المفضل ابن عمر قال سمعت أبا عبد الله يقول: "دعوها، أما يستحي أحدكم أن يُرى في موضع العورة، فيُحمل ذلك على صالحي إخوانه وأصحابه" (35)، وعن الصادق أيضاً أنه سئل عن المتعة فقال: "وما تفعلها عندنا إلا الفواجر" (36)، والزيدية يظهرون القول بالتحريم، فقد جاء عن الإمام زيد عن آبائه عن أمير المؤمنين قال: "حرم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة" (37)، وقد أظهر الإمام علي تحريم المتعة، خصوصاً أيام خلافته، وهو مبسوط اليد ولا يمكن أن يكون ذلك تقية.
والدليل القطعي على حرمة نكاح المتعة عند أهل الدليل من الشيعة، أن الأئمة من آل البيت لم يكن واحد منهم ابن متعة، ولا أحد من أولادهم أو ذرياتهم، وذلك على امتداد مدة زمنية تصل إلى ثلاثة قرون، مع أنهم عقدوا مئات الزيجات وأنجبوا منها مئات الأولاد ذكوراً وإناثاً، وكتب الأنساب مع حرصها على ذكر الأئمة وتعداد زوجاتهم وذراريهم لم تذكر أن واحداً منهم كان ابن متعة، أو أنه تمتع بفلانة، مع أنهم كانوا ينصّون على أن أم فلان كانت حرة، أو أم ولد، ولو كانت المتعة جائزة لمارسها الأئمة، خصوصاً مع ما روي عنهم في فضائلها، كما ورد عنهم أن من تمتع أربع مرات كانت درجته كدرجة الرسول –صلى الله عليه وسلم -، أيضاً فإن المرويات لم تذكر عن أحد أنه تمتع بامرأة من آل البيت.
مع أنه من الملاحظ بشكل عام أن من يفتي بجواز المتعة ويعدد فضائلها لا يرضاها لبناته وأخواته، بل قد يكون طلب ذلك مما يثير الصراع ويؤجج العداوة، مع أنهم يروون فيها الفضائل العظيمة!
وعلى هذا فالمهمة تقع على عواتق علماء الشيعة في تنزيه علماء آل البيت عن الروايات المكذوبة في المتعة وغيرها، والتجرد في الترجيح وإبعاد حظوظ النفس في تتبع ما يصح من الدليل
ومما يبرر حضور القول بجواز المتعة أنه يمكن أن يوصف به نوع من إثبات الهوية، ومعروف في الفقه الشيعي وجاهة الآراء المخالفة لأهل السنة وتقديمها، فمجرد المخالفة قرينة إيجابية في الترجيح بين الروايات والآراء، وحيث إن ما اشتهر به المذهب السني من القول بحرمتها كان إثباتها من الطرف الشيعي نوعاً من المخالفة، لإثبات الهوية، أكثر من كونه تمسكاً بالدليل، ولذلك ظهرت بعض الروايات عن الإمام جعفر الصادق أنه قال : " ليس منا من لم يؤمن بكرتنا ويستحل متعتنا " (38)، كنتيجة للصراع الدائر بين السنة والشيعة، طبعاً هذا يقال في اللاشعور الشيعي، فيبقى القول بجواز المتعة هو الظاهر المشهور، ونزل القول بالتحريم من المتن إلى الهامش .
________________________________________
(1) انظر: مجموع الفتاوى 32/107.
(2) أخرجه مسلم في النكاح باب نكاح المتعة ح (1404)
(3) أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة خيبر ح(3979)، ومسلم في النكاح، باب نكاح المتعة ح(1407) وغيرهما، مع أن حديث علي مروي في المدونات الشيعية.وسيأتي بيانه .
(4) أخرجه مسلم في النكاح باب نكاح المتعة ح(1406)
(5) انظر: المغني 10/47.
(6) انظر: فتح الباري (9/171)، وانظر البيهقي في النكاح: باب نكاح المتعة (7/205).
(7) انظر: فتح الباري (9/173).
(8) انظر: الجامع في أحكام القرآن للقرطبي (5/87).
(9) انظر : سنن الترمذي (3/430).
(10) انظر : مجموع الفتاوى (33/96).
(11) انظر : فتح الباري (9/173) .
(12) انظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي(5/87) .
(13) انظر : حاشية الروض المربع (6/462).
(14) أخرجه أبو داود في النكاح باب في الولي ح(2083) والترمذي في النكاح باب ما جاء لا نكاح إلا بولي ح(1102) وابن ماجة في النكاح باب لا نكاح إلا بولي ح(1879)، وصححه ابن حبان 9/384 والحاكم (2/182) وابن حجر في التلخيص (2/156 ، 157).(/5)
(15) انظر : حاشية الروض المربع (6/262).
(16) انظر : نصب الراية (3/181) .
(17) انظر : مجموع الفتاوى (32/127).
(18) انظر : بداية المجتهد ونهاية المقتصد ( 2/ 20) .
(19) أخرجه الترمذي في النكاح باب ما جاء في إعلان النكاح ح(1089)
(20) انظر: جامع الأحكام الشرعية (410)
(21) انظر: وسائل الشيعة للعاملي (14/457). تحرير الأحكام للعلامة الحلي (3/522 ، 523) .
(22) انظر: تحرير الوسيلة للخميني (2/292). تحرير الأحكام للعلامة الحلي (3/519) .
(23) انظر: جامع الأحكام الشرعية (405)، وقد أجاز الخمنيني ذلك ومارسه فعلياً لما كان في العراق، بل إنه أجاز التمتع حتى بالرضيعة! انظر: لله ثم للتاريخ للسيد حسن الموسوي ( 35 ).
(24) نظر: المسائل المنتخبة للسستاني (42).
(25) انظر: المسائل المنتخبة للسستاني (42).
(26) انظر نهاية المرام للسيد محمد العاملي( 56 ،58) .
(27) انظر: نهاية المرام للسيد محمد العاملي (53 )
(28) انظر: المسائل المنتخبة للسستاني المسألة (404).
(29) انظر: المسائل المنتخبة للسستاني المسألة (406).
(30) انظر: المقنع للشيخ الصدوق (308) ، المبسوط للشيخ الطوسي( 4/246) .
(31) انظر ما كتبه السيد حسين الموسوي وهو من علماء النجف في كتابه : لله ثم للتاريخ ، وأيضاً ما كتبه الإمام محب الدين عباس الكاظمي في كتابه : سياحة في عالم التشيع ، وأيضاً ما كتبه موسى الموسوي في كتابه الشيعة والتصحيح وغيرهم كثير .
(32) انظر : القرطبي في أحكام القرآن ( 5/ 129) .
(33) نظر: الجامع لأحكام القرآن (5/87).
(34) انظر ما ادعاه حسن الصفار في جريدة الوطن عدد: ( 2049 ) في 12/4/1427 هـ
(35) انظر:خلاصة الإيجاز للشيخ المفيد 57 ، جواهر الكلام للشيخ الجواهري (30/ 151).
(36) انظر: زواج المتعة للشيخ جعفر مرتضى (2/ 133) ، وسائل الشيعة للحر العاملي(21/ 30) .
(37) انظر : وسائل الشيعة (21/12).
(38) انظر : من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق (3/458).(/6)
نماذج تاريخية ومعاصرة من مآسي الافتراق
د. محمد حسن عقيل موسى الشريف*
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن قضية الافتراق قضية مزعجة مؤرقة، مؤلمة مقلقة، وذلك لأنها تفصم العروة الوثقى، وتهدم الآمال العظمى، وتبعد النصر، وتزيد القهر، والافتراق مرض مهلك، ومسلك مربك، نهى عنه الشارع في الكتاب الكريم والسنة الشريفة المطهرة المكملة للتنزيل، والتاريخ شاهد على ذلك وبإيضاحه كفيل، وقد كثرت الكتابات التي تتحدث عن الافتراق ومحاذيره، ومشكلاته وعواقبه، وقد ذكر علماء المسلمين من القواعد الضابطة، والإشارات الهادية، للتخلص من هذه المشكلات وتجاوز تلك العقبات وضبط هذه المسالة ما يملأ رَف مكتبة! لكن أين المستجيب؟
لذلك سأسلك في هذه الرسالة مسلكاً آخر عملياً؛ وهو أن أذكر الوقائع التاريخية المعاصرة التي ابتلينا فيها بالافتراق، وترتب على ذلك مآسٍ محزنة، فلعل سوق تلك الأحداث يُوقظ الضمائر، ويهز المشاعر،ويلهب النفوس، ويشد العزائم حتى نخرج من هذا التيه، ونفارق هذا الطريق المعوج.
وأوردت بعض ما وقفت عليه من هذه الوقائع مرتباً مهذباً، واستثنيت ما جرى بين الصحابة، وما وقع لتلك العصابة رضي الله عنها وأرضاها؛ وذلك لأن الكف عما شجر بينها من أصول الدين، والسكوت عما حصل منهم في الفتنة من الكمال المتين، وهذا من طريقة السلف الكرام ألا يخوضوا فيما حدث بين أولئك العظام، أما من دونهم فقد ذكرت لهم وقائع وأحداثاً، وطرائق وأفعالاً تبيِّن شؤم الافتراق، وتنفِّر من تبعات نتائجه، لعله أن يهتدي بها أولو الألباب، ويرتدع بها سالكو هذه المسالك الصعاب.
هذا وقد قسمت البحث إلى أربعة مباحث وذيلت بخاتمة فيها النتائج والتوصيات، والمباحث هي:
المبحث الأول: المآسي المترتبة على الخلاف المذهبي الفقهي.
المبحث الثاني: المآسي المترتبة على الخلاف العقدي.
المبحث الثالث: المآسي المترتبة على الفرقة في العصر الحديث من القسمين السابقين.
المبحث الرابع: المآسي المترتبة على الفرقة السياسية.
والله تعالى أسأل التوفيق من الزلل، وإن كان من خطأ فمني ومن الشيطان، وإن كان من صواب فمن الله العظيم، وبه أستعين، وبحبله أستمسك فهو متين، وصلوات ربي على المختار من كنانة والمبعوث من تهامة، ومن له الفخر والعز آية وعلامة، وآله الأطهار، وأصحابه الأبرار، وتابعيهم إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.
المبحث الأول
المآسي المترتبة على الخلاف المذهبي الفقهي
من رحمة الله تعالى بالأمة أن نوَّع أفهام علمائها، وفاوت بين مداركهم، ففهم هذا من النص ما لم يفهم ذاك، وصحح هذا شيئاً لم يصححه ذاك، وكان خلافهم في الجملة رحمة، ودلالة على سعة هذه الشريعة، وكمال هذه الطريقة، وأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأنه الدين الحق بين الأديان، فمهما اختلف العلماء فهم يرجعون إلى أصل واحد ويستمسكون بعروة وثيقة. وعلى هذا مضى الصدر الأول رضي الله عنهم في المسائل الفقهية والخلافات الفرعية المذهبية، فقد اختلفوا ولكن لم يتركوا الوئام، وتنوعت أفهامهم وفتاواهم وما تفرقت منهم القلوب وما مسهم من الخلاف سقام، وكان كلٌ من كبارهم يمثل اتجاهاً في الاستنباط والتفكير تحوَّل فيما بعد إلى مدرسة لها أتباع وتنظير، فابن عباس له اتجاه، وابن عمر له مسلك آخر، وابن مسعود له طريق ثالثة، وغيرهم رضي الله عنهم سلك مسالك أخرى، ولم يعب واحد منهم الآخر، ورضي كلٌ بما قسم له من الفهم والاستنباط، وهذا هو المسلك الحميد والرأي السديد، وكان خلافهم لنا توسعة، وبنا ورحمة، وعلينا بركة كما قال القاسم بن محمد بن أبي بكر رحمه الله وهو أحد فقهاء المدينة السبعة: "اختلاف الصحابة رحمة"([1])، ثم ما برح الخلاف يفقد آدابه، ويتنكب الطرق السليمة حتى صار علينا عيباً، وبنا شيناً، وأصبح مؤدياً للافتراق، جالباً للبغضاء، محركاً لإحن الصدور، ذاهباً بألباب ذوي العقول، ولا أدري والله ماذا أقول.
وللتاريخ البعيد والقريب شواهد على ما تردى إليه أمر الخلاف المذهبي ومآسي كثيرة مسطورة، وأفعال مكتوبة منكورة، لم نراع فيها الخلاف، ولم نرتق فيها إلى مرتبة الأخوة التي عبر عنها الشافعي الإمام بقولة رائعة، فعن يونس الصدفي ــ وهو أحد أئمة المصريين وعقلائهم ــ قال:
"ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال يا أبا موسى: ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة"([2]).
وقال الإمام الذهبي تعليقاً على هذا الكلام النفيس: هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون.
ومن الأمثلة على الخلاف الذي لم يراع فيه الأدب، وجانب الصواب ولازمه الغضب ما يلي:(/1)
- لما دخل الشافعي مصر أتاه أصحاب مالك مقبلين هاشين، لأنه كان تلميذ مالك ولم يظنوا أنه يخالف مالكاً في شيء! فلما رأوه مستقل الفكر، واسع العلم، يخالف مالكاً في أشياء جفوه! وتنكروا له! بل أن العالم الكبير أشهب بن عبد العزيز المالكي المصري كان يقول في سجوده:
اللهم أمت الشافعي؛ لا يذهب علم مالك!([3])
وهذه إحدى العجائب والغرائب الدالة على ضيق الصدر بالخلاف وعدم تقبل الرأي الآخر.
- وهذا بَقيّ بن مَخْلَد، العالم الأندلسي الكبير المتوفى سنة 276 رحمه الله تعالى، كان قد أخذ الحديث من المشرق ودخل به الأندلس ونشره نشراً عظيماً وهاجم به شيوخ الأندلس، فثاروا عليه، لأن علمهم إنما كان بمسائل مالك، وكان بقي يفتي بالأثر فخالفهم في الفتيا مخالفة عظيمة، فعقدوا له المجالس، وبدّعوه، ونسبوه إلى الزندقة، وإلى أشياء أخرى([4])، وكان ذلك في حقه مخالفة تامة لآداب الخلاف، وبعداً كاملاً عن الوئام والوفاق الذي ينبغي أن يكون في مثل هذه الأحوال، ومن قرأ سيرته عرف عظم أحواله وبراءته مما نُسب إليه.
- وهذا الخلاف بين الحنفية و الشافعية، الذي كان له صور كثيرة من أشدها على النفوس وأمرِّها ما ذكره ياقوت الحموي صاحب كتاب "معجم البلدان" الشهير حيث تكلم فيه عن مدينة أصفهان وذكر مجدها القديم ثم قال:
"وقد فشا فيها الخراب في نواحيها لكثرة الفتن، والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين، فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى، وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إلٌ ولاذمة، وكذلك الأمر في رساتيقها وقراها"([5]) وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقال عن الري بعد مروره بها سنة 617 ومشاهدته خرابها:
"وقعت العصبية بين الحنفية والشافعية، ووقعت الحروب بينهم، كان الظفر في جميعها للشافعية؛ هذا مع قلة عدد الشافعية، وكان أهل الرستاق –وهم الحنفية – يجيئون إلى البلد بالسلاح الشاكي([6]) ويساعدون أهل نحلتهم فلم يغنهم ذلك شيئاً حتى أفنوهم.."([7])!
ولا أريد أن أذكر أكثر من هذا، فحسبك به دلالة على شؤم الافتراق، وأثره البالغ في إضعاف الأمة وإذهاب ريحها، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
المبحث الثاني
المآسي المترتبة على الخلاف العقديّ
وهذا الافتراق هو الأقسى والأقوى أثراً، وهو الأنكى في الأمة، وينقسم إلى افتراق عقدي بين أهل السنة أنفسهم، وافتراق بين أهل السنة وغيرهم من طوائف وفرق المسلمين، والافتراق في القسم الأول أصعب على النفس وأشد وأقسى؛ وذلك أن أهل السنة كان ينبغي لهم أن يكونوا يداً واحدة على من سواهم، فلما حصلت هذه الفرقة أدت إلى تمزق في الصف، وانقسام في الجبهة الواحدة، وتجرأ عليهم غيرهم من أعدائهم وخصومهم وضعفت الأمة تبعاً لذلك.
ومن أمثلة القسم الأول ــ أي الفرقة بين أهل السنة أنفسهم ــ ما يلي:
(1) الخلاف بين الحنابلة والأشاعرة:
وهذا أدي إلى تصدع مريع، وخلاف طويل، بل أدى إلى فرقة خطيرة تركت أسوأ الآثار في المجتمع المسلم، ومن أمثلة ذلك:
ما حصل للإمام الكبير أبي نُعيم الأصبهاني؛ أحمد بن عبد الله، الثقة، شيخ الإسلام المتوفى سنة 430، والذي كان من حفاظ الدنيا، فقد هُجر بسبب المذهب، وقام إنسان مرة في مجلس تحديث يعلن عن مجلس أبي نعيم الأصبهاني فقام إليه أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام وكاد الرجل يقتل([8])!
وصدق الذهبي حين علق على الحادثة قائلاً:
"ما هؤلاء بأصحاب الحديث، بل فجرة جهلة، أبعد الله شرهم"([9]).
وقال الذهبي:
"كان بين الأشعرية والحنابلة تعصب زائد يؤدي إلى فتنة، وقيل وقال، وصداع طويل"([10]).
وهذا العالم العلامة الأصولي، شيخ القراء أبو عبد الله محمد بن عتيق التميمي القيرواني المعروف بابن كُدِّية الذي كان متعصباً لمذهب الأشعري، جرت بينه وبين الحنابلة فتن وأوذي غاية الإيذاء"([11]).
وهذا العالم الواعظ أبو بكر عتيق البكري المغربي الأشعري، المتوفى سنة 476، كان قد قدم بغداد، فجلس الناس إليه وامتلأ المجلس، فذكر الحنابلة وحطَّ عليهم، وبالغ، ونبزهم بالتجسيم، فهاجت الفتنة، وكفَّر هؤلاء هؤلاء، والطريف أنه لما عزم البكري على التحديث بجامع المنصور قال نقيب النقباء: قفوا حتى أنقل أهلي فلا بد من قتل ونهب! ثم أغلقت أبواب الجامع، وصعد البكريّ وحوله الأتراك بالقسيّ! إلى آخر القصة المحزنة([12]).
ومن الأمثلة أيضاً على الخلاف بين أهل السنة ما وقع بين أبي نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم بن هوازن القشيري الأشعري وهو ابن الإمام أبي القاسم القشيري، المتوفى سنة 514 رحمه الله تعالى، وبين الحنابلة، فقد ورد بغداد سنة 469، وجلس في المدرسة النظامية، وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، ومال لنصرته الإمام أبو إسحاق الشيرازي وجماعة، فوقعت الفتنة، وقتل أناس وجرح آخرون! وحصلت مأساة انتهت بتسكين الفريقين وإخراج القشيري من بغداد إلى نيسابور([13]).(/2)
ومن المآسي الكبيرة ما وقع لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري الحنبلي عبد الله بن محمد بن علي، حيث قدم السلطان الكبير السلجوقي ألب أرسلان إلى هراة ــ بأفغانستان الآن ــ فاجتمع عنده مشايخ البلد ورؤساؤه، وحدَّثوه أن الأنصاري مجسم، وأنه يعبد صنماً يزعم أن الله تعالى على صورته ــ وكانوا قد تمالأوا على وضع صنم في قبلة محراب أبي إسماعيل في داره ــ فبعث السلطان جماعة إلى دار أبي إسماعيل استخرجوا الصنم من قبلة محرابه، وكان صنماً صغيراً من نحاس دسوه تحت سجادته، فغضب السلطان غضباً عظيماً وأحضر أبا إسماعيل وواجهه قائلاً: "ما هذا؟ قال: هذا صنم يعمل من الصُفْر شبه اللعبة. فقال: لست عن هذا أسألك. فقال: عن ماذا يسأل السلطان؟ قال: إن هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا الصنم, وأنك تقول أن الله على صورته، فقال الأنصاري: سبحانك هذا بهتان عظيم، بصوت جَهْوري وصولة، فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه، فأمر به فأخرج إلى داره مكرماً، وقال لهم: اصدقوني القصة أو أفعل بكم وأفعل، وذكر تهديداً عظيماً، فقالوا: نحن في يد هذا الرجل في بليّة من استيلائه علينا بالعامة وأردنا أن نقطع شرّه عنا، فصرفهم السلطان إلى منازلهم بعد إهانتهم وأخذ غرامة منهم مبلغاً عظيماً من المال يؤديه إلى خزانة السلطان عقاباً لهم على جنايتهم([14]).
وفي ذلك الخلاف وتلك الفرقة يقول الإمام الذهبي رحمه الله:
"ينبغي للمسلم أن يستعيذ من الفتن، ولا يَشْغب بذكر غريب المذاهب لا في الأصول ولا في الفروع، فما رأيت الحركة في ذلك تحصل خيراً، بل تثير شراً وعداوة ومقتاً للصلحاء والعباد من الفريقين، فتمسَّك بالسنة، والزم الصمت، ولا تخض فيما لا يعنيك، وما أشكل عليك فردَّه إلى الله ورسوله، وقف وقل: الله ورسوله أعلم"([15]).
وهذا نص ثمين يلخص فيه الذهبي الآثار السيئة للخلاف والافتراق، ويذكر العلاج الناجح.
(2) الخلاف بين أهل الحديث:
ومن أمثلة ذلك أيضاً ما جرى بين الإمام البخاري رحمه الله تعالى وبعض علماء عصره وعلى رأسهم الإمام محمد بن يحيى الذُهْليّ الذي حسد الإمام البخاري على اجتماع الناس عليه، واتهمه بالقول بمسألة: لفظي بالقرآن مخلوق ــ وهي مسألة دقيقة، أُخذ بها البخاريّ بغير وجه حق ــ وهذا أحد تلاميذ البخاري يقول له: يا أبا عبد الله أيش الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى؟ كل من يختلف إليك يُطرد، فقال البخاري رحمه الله تعالى: كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء. فقال له التلميذ: هذه المسألة التي تحكى عنك؟ قال: يا بني هذه مسألة مشؤومة، رأيت أحمد بن حنبل، وما ناله في هذه المسالة، وجعلت على نفسي ألاّ أتكلم فيها.
ثم انتهى بالبخاري الأمر إلى أن أخرج من نيسابور ولم يشيعه إلا واحد فقط([16]). ومات غريباً وحيداً رحمه الله تعالى، ألا قبَّح الله الفرقة والاختلاف.
وما أحسن الذهبي عندما قال: "السكوت عن توسع العبارات أسلم للإنسان"([17]).
(3) الخلاف في العصر الحديث:
وهو بلاء وأي بلاء؛ إذ في الوقت الذي يجتمع فيه أعداء الإسلام على حربه وتحطيمه نجد بين صفوفنا من يساهم في تلك الحروب ويؤجج نارها ويعظم شررها، ولعلي أقتصر في ذكر الطعن العقديّ في العصر الحديث على مثال واحد، وهو الأستاذ حسن البنا ــ رحمه الله تعالى ــ حيث إن بعض من زعم أنه يريد الحق ويرد الباطل قام بالتشنيع على هذا الأستاذ الذي ما سمح الزمان بمثله في مجموع خصاله وآثاره في العصر الحديث، فصار ينال منه ويتهم عقيدته اتهاماً عجيباً باطلاً، والناظر إلى تلك الأقوال يعلم بطلانها لكني أردت بالوقوف عليها بيان حجم المأساة التي أوصلنا أنفسنا بأيدينا إليها:
هذا الرجل قد وُجِّهت إليه سهام مغرضة واتهم في عقيدته بغير حق، كيف لا وهو القائل:"العقيدة أساس العمل"([18]).
وهو القائل أيضاً: "ونحن نعتقد أن رأي السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني([19]) إلى الله تبارك وتعالى أسلم وأولى بالاتباع حسماً لمادة التأويل والتعطيل، فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان، وأثلج صدره برد اليقين فلا تعدل به بديلاً.."([20]). فماذا بعد هذا يا عباد الله!
وقد قال أيضاً: " وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يليق بذلك من المتشابه نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل "([21]).
وقال أيضاً وكل بدعة في دين الله لا أًصل لها ــ استحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة فيه أو النقص منه ــ ضلالة تجب محاربتها.."([22]).
وقال أيضاً: "لكن الاستعانة بالمقبورين أياً كانوا، ونداءهم لذلك وطلب الحاجات منهم عن قرب أو بعد، والنذر لهم، وتشييد القبور، وإضاءتها، والتمسح بها، والحلف بغير الله، وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال سداً للذريعة"([23]).(/3)
وهذا اتهام آخر عجيب لا أدري وجهه، يقول فيه صاحبه ناعياً على البنا دعوته للجهاد: "قلنا: أي جهاد الذي دعا إليه البنا إذا كان قد أقرَّ الشرك الأكبر المخرج من الملة"([24]).
كيف لعاقل أن يصدق أن البنا أقرَّ الشرك الأكبر؟ إن هذا لشيء عجيب!
ثم يتهم البنا بأنه صوفيّ وأنه بهذا قد ثُلم توحيده، وأتى ببعض ما ظنه شواهد على هذا!
هذا ولقد انبرى شيخ فاضل([25]) للدفاع عن البنا فقال لهذا المتهم: "فأنا أنصحك أيها الشيخ أن تصون لسانك وقلمك عن الوقيعة في هذا الداعية الذي نفع الله به".
فما كان منه إلا أن شن عليه غارة عظيمة، وعدّه صاداً عن سبيل الله بهذه النصيحة، وعدّه خاذلاً للحق، متظاهراً مع أهل الباطل، ثم اتهمه بأنه بدفاعه عن البنا قد خدش توحيده! وقدح فيه، وأمره بالتوبة، ثم أفحش القول في البنا باتهامه أنه فعل الشرك الأكبر وأقر فاعليه عليه([26]).
وكل تلك الغارة الهائلة بسبب أمور في التصوف ابتدأ بها البنا حياته، مثل الكثرة الكاثرة من صالحي العالم الإسلامي الذين يحيط بهم التصوف من كل جوانبهم([27])، لكن هذا المتهم لم ينظر في أقوال البنا في الصوفية حيث قال بعد كلام عن الصوفية الأولى مادحاً لها ــ كما مدحها شيخا الإسلام من قبل: ابن تيمية وابن القيم ــ: "لكن فكرة الدعوة الصوفية لم تقف عند حدود علم السلوك والتربية، ولو وقفت عند هذا الحد لكان خيراً لها وللناس، ولكنها جاوزت ذلك بعد العصور الأولى إلى تحليل الأذواق والمواجد، ومزج ذلك بعلوم الفلسفة والمنطق ومواريث الأمم الماضية وأفكارها، فخلطت بذلك الدين بما ليس منه، وفتحت الثغرات الواسعة لكل زنديق أو ملحد أو فاسد الرأي والعقيدة ليدخل من هذا الباب باسم التصوف والدعوة إلى الزهد والتقشف.. وأصبح كل ما يكتب أو يقال في هذه الناحية يجب أن يكون محل نظر دقيق من الناظرين في دين الله والحريصين على صفائه ونقائه..".
فهل بعد هذا الإيضاح والبيان مزيد؟
وفي النهاية أقرر أن البنا ليس بمعصوم، وأنه قد أخطأ في أقوال وأفعال لكن ذلك الخطأ لا يخرجه عن كونه قدوة يُقتدى بها، وعلماً من أعلام الإسلام في العصر الحديث، والله تعالى أعلم([28]).
وأظن ــ والله تعالى أعلم ــ أنه لو جُمعت جهود الإخوان والسلفيين وصُبَّت في بوتقة واحدة لتغير وجه التاريخ في العصر الحديث، ولما استطاع أعداؤنا أن يتجرأوا علينا كما هو حاصل اليوم،لكن كان الذي خاف الصالحون أن يكون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
القسم الثاني: الفرقة بين أهل السنة ومن سواهم:
ومن أمثلة ذلك الخلاف:
(1) الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة:
وللمعتزلة أصول عقدية لا يسعنى إيرادها في هذا البحث الموجز، لكني سأذكر قضية خلق القرآن التي أثارها المعتزلة بمساعدة الخليفة العباسي المأمون، وثارت على إثرها فتن طويلة استمرت زمان المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل الذي أمر برفع هذه الفتنة عن الناس، وقتل بسببها الشهيد العالم أحمد بن نصر الخزاعي مظلوماً، ومات علماء في السجون وهم مقيدون([29])، وامتحن الإمام أحمد على جلالته وضُرب وسُجن وأُلقي في القيود، وتشدد المعتزلة في هذه القضية حيث إنهم في زمان الواثق بالله العباسي تنمروا للناس، وامتحنوا الأئمة والمؤذنين، وامتحنوا العوام، ومن العجائب أن الواثق بالله العباسي افتدى أربعة آلاف وستمائة أسير مسلم من الروم فقال وزيره المعتزلي المشهور أحمد بن أبي دُؤاد: من لم يقل القرآن مخلوق فلا تَفكّوه([30])!
ومن أمثلة ما حصل بينهما أيضاً:
لما وصل شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي الأنصاري الحنبلي إلى بَلْخ ــ وهي في أفغانستان اليوم ــ وصل محمولاً على أعناق الرجال، فلما أراد أن يدخل إلى بلخ خرج أهلها إليه، وهمُّوا برجمه، لولا أن الله قيض له من دافع عنه وردَّ عنه كيدهم، وإنما هموا به لأنهم كانوا معتزلة شديدي الاعتزال، وكان شيخ الإسلام مشهوراً في الأفاق بالحنبلة والشدة في السنة([31]).
(2) الخلاف بين أهل السنة والشيعة:
وهذا أيضاً أدى إلى نتائج صعبة وخيمة وحروب كثيرة، فمن ذلك:
(أ) ما وقع في بغداد مراراً بين الفريقين، فمن ذلك ما نقله ابن الأثير في كامله في حوادث سنة 443، حيث ذكر أن الفتنة وقعت بين السنة والشيعة، وعظمت أضعاف ما كانت قديماً، وسببها أن أهل الكرخ ــ محلة ببغداد فيها الشيعة ــ عملوا أبراجاً كتبوا عليها بالذهب: محمد وعلي خير البشر، وأنكر أهل السنة هذا، ثم حصلت أمور أدت إلى قتال ونهب بسبب مقتل هاشمي من أهل السنة، فقصد الناس المشهد ونهبوا ما فيه، وأضرموا حريقاً أتى على كثير من قبور الأئمة، فقصد الشيعة إلى خان الفقهاء الحنفيين فنهبوه، وقتلوا مدرس الحنفية أبا سعد السرخسيّ، وأحرقوا الخان ودور الفقهاء([32]).(/4)
(ب) ومما لا ينبغي أن ينسى ما اقترفه الوزير الرافضي ابن العلقمي في بغداد سنة 658، حين سَوّل لهولاكو اقتحام بغداد وكاتبه وأطمعه في العراق، وهذا بسبب نقمته على أهل السنة حين وقعت الفتنة المهولة ببغداد بين السنة والرافضة، فقُتل بسبب صنيعه هذا من الناس ببغداد فوق المليون شخص([33])! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
(ج) ولا ينسى ما فعلته الدولة الصفوية الشيعية في إيران من طعن الدولة العثمانية من الخلف في أشد الأوقات وأصعبها؛ حال اشتغال الدولة العثمانية بفتوح أوروبا، وذكر الحروب التي جرت بينهما أمر صعب مؤلم لا يحتمله هذا البحث، ولا تطيقه النفوس المتطلعة إلى الوئام والاجتماع([34]).
(د) الفتن بين السنة والزيدية:
وهي فتن كثيرة متعددة كانت تجري في اليمن، لكني سأجتزئ منها واحدة فقط ذكرها الإمام الشوكاني ــ رحمه الله تعالى ــ متحدثاً عنها، وقد ذكر فتناً كثيرة كانت تجري في صنعاء بسبب التعصب الشيعي، وقد بيَّن الشوكاني ذلك أثناء ترجمته لأحد علماء الفرائض والرياضيات في صنعاء:
السيد يحيى بن محمد الحوثي ثم الصنعاني، ولد تقريباً سنة 1160، ونشأ بصنعاء فاشتغل بعلم الفرائض والحساب والضرب والمساحة، ففاق في ذلك أهل عصره وتفرد به ولم يشاركه فيه أحد، وصار الناس عيالاً عليه في ذلك ولم يكن له بغير هذا العلم إلمام، مع أنه قد توجه إلى الطلب، ولكن كان كل حظه في هذا العلم، وهو رجل خاشع متواضع كثير الأذكار سليم الصدر إلى غاية يعتريه في بعض الأحوال حدة مفرطة، وقد كان حصل معه جنون في أيام شبابه ثم عافاه الله من ذلك، وما زال مواظباً على الخير لكنه قليل ذات اليد بما يضيق صدره لذلك مع كثرة عائلته ويسر الله له ما يقوم به بعد مزيد امتحان، وهو شيخي أخذت عنه علم الفرائض والوصايا والضرب والمساحة.
وفي شهر رمضان سنة 1216 ثارت بسببه فتنة عظيمة بصنعاء وذلك أن بعض أهل الدولة ممن يتظهر بالتشيع مع الجهل المفرط والرفض باطناً أقعد صاحب الترجمة على الكرسي الذي يقعد عليه أكابر العلماء المتصدرون للوعظ، وأمره أن يملي على العامة كتاب "تفريج الكروب" للسيد إسحاق بن يوسف المتوكل، وهو في مناقب علي كرم الله وجهه، ولكن لم يتوقف صاحب الترجمة على ما فيه بل جاوز ذلك إلى سبِّ بعض السلف مطابقة لغرض من حمله على ذلك لقصد الإغاظة لبعض أهل الدولة المنتسبين إلى بني أمية، كل ذلك لما بين الرجلين من المنافسة على الدنيا والمهافتة على القرب من الدولة وعلى جمع الحطام، فكان صاحب الترجمة يصرخ باللعن على الكرسي فيصرخ معه من يحضر لديه من العامة وهم جمع جم، وسبب حضورهم هو النظر إلى ما كان يسرج من الشمع وإلى الكرسي لبعد عهدهم به وليسوا ممن يرغب في العلم، فكان يرتج الجامع ويرتفع الصراخ ومع هذا فصاحب الترجمة لا يفهم ما في الكتاب لفظاً ولا معنى بل يصحِّف تصحيفاً كثيراً ويلحن لحناً فاحشاً، ويعبِّر بالعبارات التي يعتادها العامة ويتحاورون بها في الأسواق، وقد كان في سائر الأيام يجتمع معهم ويملي عليهم في مسجد الإمام صلاح الدين فأراد أن يكون ذلك في جامع صنعاء الذي هو مجمع الناس ومحل العلماء والتعليم لقصد نشر اللعن والثلب والتظاهر به، فلما بلغ ذلك مولانا خليفة العصر حفظه الله جعل إشارة منه إلى عامل الأوقاف، السيد إسماعيل بن الحسن الشامي أن يأمر صاحب الترجمة أن يرجع إلى مسجد صلاح الدين، فأمر السيد المذكور الفقيه أحمد بن محسن حاتم رئيس المأذنة أن يبلغ ذلك إلى صاحب الترجمة فأبلغه.(/5)
فحضر العامة تلك الليلة على العادة ومعهم جماعة من الفقهاء الذين وقع الظلم بهذا الاسم بإطلاقه عليهم فإنهم أجهل من العامة، فلما لم يحضر صاحب الترجمة في الوقت المعتاد لذلك وهو قبل صلاة العشاء ثاروا في الجامع ورفعوا أصواتهم باللعن ومنعوا من إقامة صلاة العشاء، ثم انضم إليهم من في نفسه دَغَلٌ للدولة أو متستر بالرفض، ثم اقتدى بهم سائر العامة فخرجوا من الجامع يصرخون في الشوارع بلعن الأموات والأحياء وقد صاروا ألوفاً مؤلفة، ثم قصدوا بيت الفقيه أحمد حاتم فرجموه، ثم بيت السيد إسماعيل بن الحسن الشامي فرجموه، وأفرطوا في ذلك حتى كسروا كثيراً من الطاقات ونحوها، وقصدوه إلى مدرسة الإمام شرف الدين يريدون قتله فنجاه الله وهرب من حيث لا يشعرون، وقد كانوا أيضاً قصدوا قتل الفقيه أحمد حاتم فهرب من الجامع إلى بيتي، ونحن إذ ذاك نملي في شرحي للمنتقى مع حضور جماعة من العلماء، ثم بعد ذلك عزم هؤلاء العامة وقد تكاثف عددهم إلى بيت السيد علي بن إبراهيم الأمين ورجموه وأفزعوا في هذه البيوت أطفالاً ونساءً وهتكوا حرماً، وكان السبب في رجمهم بيت السيد المذكور أنه كان في تلك الأيام يتصدر للوعظ في الجامع ولم يكن رافضياً لعاناً، ثم عزموا جميعاً وهم يصرخون إلى بيت الوزير الحسن بن عثمان العلفي وإلى بيت الوزير الحسن بن علي حنش، والبيتان متجاوران فرجموهما، وسبب رجم بيت الأول كونه أموي النسب ورجم بيت الآخر كونه متظهراً بالسنة متبرياً من الرفض، فأما بيت الفقيه حسن حنش فصعد جماعة من قرابته على سطحه ورجموهم حتى تفرقوا عنه وأصابوا جماعة منهم، أما بيت الفقيه حسن عثمان فرجموه رجماً شديداً واستمروا على ذلك نحو أربع ساعات حتى كادوا يهدمونه وشرعوا في فتح أبوابه ووقع الرمي لهم بالبنادق فلم ينكفوا لكونه لم يظهر لذلك فيهم أثر إذ المقصود بالرمي ليس إلا مجرد الإفزاع لهم، ثم بعد ذلك غار بعض أولاد الخليفة حفظه الله وبعض أصحابه فكفوهم فانكفوا وقد فعلوا ما لا يفعله مؤمن ولا كافر.
وفي اليوم الآخر أرسل الخليفة حفظه الله للوزير والأمراء وقد حصل الخوف العظيم من ثورة العامة وطال الترادد والمشاورة بينهم ومن بعد ذلك أرسل لي حفظه الله فوصلت إليه حفظه الله فاستشارني فأشرت عليه أن الصواب المبادرة بحبس جماعة من المتصدرين في الجامع للتشويش على العوام وإيهامهم أن الناس فيهم من هو منحرف عن العترة وأن التظاهر بما يتظاهرون به من اللعن ليس المقصود به إلا إغاظة المنحرفين ونحو هذا من الخيالات التي لا حامل لهم عليها إلا طلب المعاش والرياسة والتحبب إلى العامة، وكان من أشدهم في ذلك السيد إسماعيل بن عز الدين النعمي، فإنه كان رافضياً جلداً مع كونه جاهلاً مركباً وفيه حدة تفضي به إلى نوع من الجنون، وصار يجمع مؤلفات من كتب الرافضة ويمليها في الجامع على من هو أجهل منه ويسعى في تفريق المسلمين ويوهمهم أن أكابر العلماء وأعيانهم ناصبة يبغضون علياً كرم الله وجهه، بل جمع كتاباً يذكر فيه أعيان العلماء وينفر الناس عنهم، تارة يسميهم سنية وتارة يسميهم ناصبة، ومع هذا فهو لا يدري بنحو ولا صرف ولا أصول ولا فروع ولا تفسير ولا حديث بل هو كصاحب الترجمة في التعطل عن المعارف العلمية لكن صاحب الترجمة يعرف فناً من فنون العلم كما قدمنا وأما هذا فلا يعرف شيئاً إلا مجرد المطالعة لمؤلفات الرافضة الإمامية ونحوهم الذين هم أجهل منه، ويشبه الرجلين رجل آخر هو أحد عبيد مولانا الإمام حفظه الله اسمه ضرغام رأس ماله الاطلاع على بعض كتب الرافضة المشتملة على السب للخلفاء وغيرهم من أكابر الصحابة فصار هذا يقعد في الجامع ويملي سب الصحابة على من هو أجهل منه، هذه الأمور هي سبب ما قدمنا ذكره.(/6)
فلما أشرت على مولانا الإمام حفظه الله بحبس هؤلاء وجماعة ممن يماثلهم حصل الاختلاف الطويل العريض في مقامه الشريف بين من حضر من أولاده ووزرائه، ومنشأ الخلاف أن من كان منهم مائلاً إلى الرفض وأهله فهو لا يريد هذا، ومن كان على خلاف ذلك فهو يعلم أنه الصواب وأنها لا تندفع الفتنة إلا بذلك فصمم مولانا حفظه الله على حبس من ذكر، ثم أشرت عليه حفظه الله أن يتتبع من وقع منه الرجم ومن فعل تلك الأفاعيل فوقع البحث الكلي منه ومن خواصه فمن تبيَّن أنه منهم أودع الحبس والقيد وما زال البحث بقية شهر رمضان حتى حصل في الحبس جماعة كثيرة، فلما كان رابع شوال طلب الإمام حفظه الله الفقهاء المباشرين للرجم فبطحوا تحت طاقته وضربوا ضرباً مبرحاً ثم عادوا إلى الحبس، ثم طلب في اليوم الثاني سائر العامة من أهل صنعاء وغيرهم المباشرين للرجم ففعل بهم كما فعل بالأولين وضربت المدافع على ظهور جماعة منهم، ثم بعد أيام جعلوا في سلاسل حديد وأرسل بجماعة منهم إلى حبس زيلع وجماعة إلى حبس كرمان، وفيهم ممن لم يباشر الرجم السيد إسماعيل بن عز الدين النعمي المتقدم وسبب ذلك أنه جاوز الحد في التشديد في الغرض كما قدمنا، وأما صاحب الترجمة ومن شابهه في هذا المسلك فإنه حبس نحو شهرين ثم أطلق هو ومن معه، وبالجملة فهذه فتنة وقى الله شرها بالحزم الواقع بعد أن وجلت القلوب وخاف الناس واشتد الخطب وعظم الكرب وشرحها طويل، وبعد هذه الواقعة بنحو سنة عوَّل صاحب الترجمة في أن يكون أحد أعوان الشرع ومن جملة من يحضر لدي فأذنت له وصار يعتاش بما حصل له من أجرة تحرير الورق وذلك خير له مما كان فيه إن شاء الله([35]).
المبحث الثالث
المآسي المترتبة على الفرقة في العصر الحديث من القسمين السابقين
وفي هذا العصر تأجج الخلاف وعظُم بين أفراد الأمة، هذا الخلاف الذي له جذور تاريخية، ومؤثرات عصرية، من أهمها قوة وسائل الإعلام التي ربطت بين أرجاء العالم الإسلامي فأصبحت الفتاوى المختلفة، والتقريرات المؤثرة من المحيط إلى المحيط تنتقل في اليوم نفسه، أحياناً، إلى المسلمين مسببة لهم كثيراً من البلبلة وعدم الاتفاق نظراً لاختلاف المدارس الفقهية والعقدية التي كانت محصورة، فيما مضى، في مجتمعات محدَّدة ومعروفة، وإن كُتِب لها الانتشار فإنه في حدود ضيقة، وفي أوساط علمية محددة، وليس بين عوام المسلمين كما يحصل اليوم.
ويؤجج هذا الخلاف أيضاً، بروز كثير من الناشئة الذين ليس عندهم العلم الكافي ولا الخبرة للتصدي لأمر عظيم ألا وهو التوجيه الإسلامي للمجتمع في كل مناحيه وليس في الفتاوى فحسب، فكان مما صنعه هؤلاء الناشئة أن ساهموا،بقوة، في تعميق الخلاف بين المسلمين بل إثارة جذور الخلاف الماضي الذي ظُن أنه قد فرغ من البحث فيه.
كل ذلك أدى إلى أن يفزع العلماء والمفكرون إلى كتابة عشرات الأبحاث التي عالجت، على الورق، كثيراً من الجوانب المهمة، ولا زالت تلك الأبحاث بحاجة إلى التطبيق العلمي الذي، بدون تشاؤم، يتعثر كثيراً نتيجة لعوامل كثيرة لا سبيل لذكرها في هذا البحث الموجز.
وإليك، أخي القارئ، بعض الوقائع المؤلمة التي تشي بما عليه مجتمعنا من سوء تطبيق، في أحيان كثيرة، لهذا الأدب الرفيع، أدب الخلاف، وغرضي من ذكر هذه الوقائع أن نعتبر بها فنعف عن أمثالها ونزجر من يجرؤ على ارتكابها:
(1) إمام في مسجد يتقدم ليؤمَّ الناس فيأتي شخص من خلفه ليعيقه عن التقدم بطريقة فظة، غليظة، ويأخذ مكانه إماماً للناس بحجة أنه أولى منه بالإمامة، علماً بأنه لا يحفظ القرآن، وذلك الإمام المنحَّى هو الحافظ المجيد، وقد تم ذلك نظراً للخلاف بينه وبين الإمام في بعض الجوانب التي ظن أنه لا يسوغ غفرانها والمسامحة فيها، أما حال المصلين وما سيحدثه ذلك التصرف فيهم وفيمن سمع الحادثة فذلك آخر اهتمامات ذلك الرجل المريض.
(2) رجل يشي باجتماع بريء لأحد التجمعات الإسلامية التي اختلف معها اختلافاً لا يؤديه إلى فعل ذلك شرعاً وعقلاً، ولكن أدب الخلاف اضمحل عنده ووصل إلى درك سحيق جعله يرتكب تلك الفعلة الدنيئة عرفاً، الآثمة شرعاً.
(3) رجل تتلمذ على شيخ، درس القرآن وبعض العلوم على يديه، فهو إذاً شيخه وأستاذه، فكان أن اختلف معه في مسألة، قد فرغ من أنه يسوغ فيها الخلاف، فما كان منه إلا أن نفض يديه من أستاذه وشيخه وأصبح همه الوحيد هو التشهير به عند الخاصة والعامة، بل سعى بكل جهده أن يخرج أستاذه من مسجده الذي هو إمامه فتكللت مساعيه، غير الحميدة، بالنجاح.(/7)
(4) اتفق مجموعة من صالحي الدعاة مع مدير مدرسة أن يتخذوا من مدرسته مركزاً صيفياً لاستيعاب الطلاب وحفظهم من الزيغ والملل، فما كان من فئة مريضة إلا أن حذرت المدير من إخوانهم الذين اختلفوا معهم في بعض الجوانب التي يسوغ فيها الخلاف، وخوَّفته عاقبة ضلال إخوانهم، وتأثيرهم السيئ على الطلاب في زعمهم وهو محض افتراء، فتوجس المدير خوفاً، ومعه كل الحق في الخوف على الطلاب الذين هم أمانة في عنقه يُسأل عنها يوم القيامة، وقام بسحب موافقته السابقة، وأوكل إدارة المركز لمن وشوا بإخوانهم ظلماً وبهتاناً، فهل رأيتم كيف يصل الأمر بمن فرَّط في مراعاة أدب الخلاف؟
(5) سئل رجل عن رأيه في الإمام الفلاني، فأبدى ما يفهم منه أنه مبتدع، وعندما سئل عن السبب قال: إنه قد (شمَّ) من حديثه البدعة! وكان هذا هو السبب لهذه الوصمة لا غير، وهذا الرجل المسؤول مقدَّم عند بعضهم مسموع الكلمة فيهم.
فبربكم هل سمعتم عن جرح مبني على مثل هذا الهراء؟
(6) دافع عالم فاضل عن فئة أخطأت بعض معالم المنهج الصحيح، ولكنها لا زالت في دائرة السنة والجماعة، وكان دفاعه ذلك بسبب أن واحداً من المشايخ أفرط في ذمهم إلى الغاية، فظن المفرط أن هذا العالم منهم فأكد له أنه على خلاف ذلك، وأنه لا يسلك مسلكهم، فلم يعتمد إلا ما ظنه وارتآه، فسلك في الوشاية بهذا الفاضل مسالك أدت إلى إبعاده عن مواقع قيادية في حياته العلمية.
(7) رجل تقدم لامتحان إلى لجنة من اللجان، فسئل: أين حفظت القرآن؟ ومن هم رفقتك؟ فلما أجاب ظن به أنه مبتدع لسوء ظن اللجنة بذلك المسجد وأهله، فحُرم من الغرض الذي أداه إلى المثول أمام تلك اللجنة الظالمة له بظنها الخاطئ فيه أنه من أهل البدع!
(8) وآخر تقدم لجامعة من الجامعات، فلما علم بعض إداريَّيها أنه مزكَّى من طرف فلان ظُنّ به أنه مبتدع، وحُرِم من القبول لأول الأمر، ولم يسمح له بالانتظام في سلك تلك الجامعة إلا بعد لأي شديد.
(9) عالم يحاضر في جمع، ثم بعد الفراغ من محاضرته يتوجه ذلك الجمع إلى المسجد لأداء الصلاة، وبعد الفراغ يفاجأ الجمع بمن يقوم مندداً بهذا العالم مبيناً مساوئه، في زعمه، فيتأثر ذلك العالم ويبكي، فيقوم عالم آخر ليدافع، فيكاد ذلك الاشتباك يفسد الجو العلمي الإيماني الذي عاشه ذلك الجمع المدهوش بما حدث لشيخه.
(10) شاب في مقتبل العمر يحضر محاضرة لشيخ معروف، فيسأل ذلك الشيخ بعد نهاية المحاضرة سؤالاً في القضاء والقدر، فيجيب الشيخ بما قرره أهل السنة والجماعة في هذا، فما كان من ذلك الشاب إلا أن قام في وسط الجمع ليعلن أنه لم يفهم جواب الشيخ، فأعاد الشيخ تقريره للمسألة، ففوجئ الحاضرون بالشاب يقرر أنه لم يفهم المسألة لأن الشيخ لم يقرر مذهب أهل السنة والجماعة فيها، ولم يشرحها بطريقة الشيخ الفلاني.
والشاب على الحقيقة، لم يفهم المسألة، وإنما أساء الأدب في الخطاب، والمسألة أكبر منه.
(11) رجل التزم منذ مدة وجيزة، فيأتي به الثناء الكاذب والتعالم إلى موقع يحاسب فيه أئمة وخطباء ويقوِّمهم، وبعضهم قد التزم الإسلام قبله بثلاثين سنة، فيكتب فيهم تقاريره بأنهم مبتدعة أو ضُلال أو جهلة، وهو، المسكين، لا يدري بأنه جاهل قد استدرج إلى هذه الهوة السحيقة، فنكب به عدد من الأئمة أولي الفضل، ممن أجَّلوا محاسبته حتى يمثلوا معه أمام ملك الملوك سبحانه.
(12) رجل من المتعالمين قد حقق بعض المخطوطات وصنف بعض التصانيف، اعتاد فيها أن يتناول علماء الأمة الذين مضوا باللمز والإساءة، فيصف هذا بأن عقيدته فاسدة جداً، وآخر بأنه جهمي جلد، وآخر بأنه بدت منه الزندقة، أو تجده يدعو على العلماء، أو يمتنع من الترحم عليهم بدعوى أنهم أهل بدع، أو يقلل من شأنهم، والخطير في هذا الأمر أن علماء الأمة وعقلاءها لم يحرِّكوا ساكناً للحد من سفاهة هذا الرجل وقلة أدبه والتقليل من خطره على النشء، إذ هو، كما يُذكر، قدوة لبعض جهلائهم وأغرارهم.
كانت تلك بعض الصور التي لا يستطيع القلب أن يسترسل في بيانها وجلب المزيد منها، ولولا الحاجة إلى التنبيه عليها بذكرها ما أتيت بها، لكني أزعم أن هذا الخلاف المتأجج الموجود في الساحة اليوم أدى إلى نتيجة سيئة وهي تأخير الصحوة عن بلوغ آمالها وأغراضها وزرع في الأمة بذور الفراق المذموم، والإحن التي تشتعل بها القلوب والصدور، والله المستعان.
المبحث الرابع
المآسي المترتبة على الفرقة السياسية(/8)
وهو بسبب ما كان من استئثار بعض الحكام بجهته أو مدينته، ورضاه بها عن الاجتماع الإسلامي، والأدهى من ذلك والأمرّ أن صار بعض الحكام يكيد للآخر، ويرضى أن يخدش دينه بمعاونة الكافرين على أخيه المسلم، وهذا من المصائب والدواهي التي ابتليت بها الأمة الإسلامية منذ تسعة قرون إلى الآن، والأمثلة على ذلك كثيرة لا تكاد تنتهي، لكن أجتزئ منها قديماً ما حصل في الأندلس، وهو الذي بأيدينا فقدناه، وبمعاصينا نكبناه، والحديث فيما حصل فيه من فرقة بين حكامه يطول لكن قد يسأل سائل:
ألم يكن هناك دعاة لدين الله تعالى يحذرون الحكام المسلمين من الخلاف وينبهونهم إلى ما سيحل من العقاب؟ وهذا سؤال في محله، والجواب: بلى كان هناك دعاة إلى الاجتماع والاتحاد ولكن الحكام لم يكونوا متعاطفين مع تلك الدعوة؛ لأن معناها التنازل عما هم فيه من الترف والنعيم والتسليم لخليفة واحد لا يرضونه ولا يريدون حكمه.. هذا مع ما جُبلت عليه نفوسهم من حب المعاصي والخيانة وتذبذب الولاء والبراء.
وفي تاريخنا الإسلامي مثل مضيء لداعية من الدعاة لم يعجبه موقف الحكام الأندلسيين من سكوتهم على الخطر المنذر بالنهاية فـ "رفع صوته بالاحتساب، ومشى بين ملوك أهل الجزيرة لصلة ما انبتّ([36]) من تلك الأسباب، فقام مقام مؤمن آل فرعون لو صادف أسماعاً واعية، بل نفخ في عظام ناخرة، وعطف على أطلال داثرة، بيد أنه([37]) كلما وفد على ملك منهم في ظاهر أمره لقيه بالترحيب، وأجزل حظه في التأنيس والتقريب، وهو في الباطن يستجهل نزعته، ويستثقل طلعته، وما كان أفطن الفقيه رحمه الله بأمورهم، وأعلمه بتدبيرهم، لكنه كان يرجو حالاً تثوب([38]) ومذنباً يتوب"([39]).
كان هذا الفقيه هو أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى، ولكنه كما قال المقري: " لم يفد شيئاً، فالله تعالى يجازيه عن نيته"([40])، واستمر رحمه الله تعالى في دعوته تلك ثلاث عشرة سنة حتى "توفي بالمرية سنة 474، وكان جاء إلى المرية سفيراً بين رؤساء الأندلس يؤلفهم على نصرة الإسلام ويروم جمع كلمتهم مع جنود ملك المغرب المرابطين على ذلك فتوفي قبل تمام غرضه رحمه الله"([41]).
ولم يكن في الساحة وحده رحمه الله تعالى بل كان معه نجوم هو شمسهم منهم أبو حيان، وأبو الحزم جَهْور بن محمد بن جهور، وابن حزم، والإلبيري، والعسال الطليطلي، وابن عبد البر، كل هؤلاء شاركوا في جهود الإنقاذ والدعوة إلى الاتحاد والحذر من الخطر القائم، شاركوا بشعرهم وكتابتهم ودروسهم([42]).
لكن كل ذلك لم يُفد، واجتاحت النصارى بلاد الأندلس بلداً بلداً، والأمثلة على المآسي المترتبة على ما حصل من فرقة أكثر من أن تحصر لكن ليسمح لي القارئ بإيراد بعض الأمثلة التي تؤذي القلوب وتُهْمي العيون لكن لا بد حتى تُعرف المأساة المترتبة على الافتراق من ضياع الأوطان بل الدين والعياذ بالله:
(1) بعد أخذ النصارى ــ لعنهم الله ــ طليطلة، شرعوا في تغيير الجامع إلى كنيسة بعد شهرين مع أن نصوص تسليم المدينة قد نُص فيها على "أن يحتفظ المسلمون إلى الأبد بمسجدهم الجامع"، ولما ذهب النصارى إلى الجامع لم يجدوا فيه إلا "الشيخ الأستاذ المغامي آخر من صدر عنه، واعتمده في ذلك اليوم ليتزود منه.. وبين يديه أحد تلامذته يقرأ، فكلما قالوا له: عجل، أشار هو إلى تلميذه بأن أكمل، ثم قام ما طاش ولا تهيب، فسجد فيه واقترب، وبكى عليه ملياً وانتحب، والنصارى يعظمون شأنه ويهابون مكانه، لم تمتد إليه يد، ولا عرض له بمكروه أحد"([43]).
(2) وبعد سقوط بَرْبَشْتْرُ قدر عدد الأسرى والقتلى ما بين خمسين إلى مائة ألف شخص، "وحصل للعدو من الأموال والأمتعة ما لا يحصى، حتى إن الذي خص بعض مقدمي العدو، هو قائد خيل رومة، نحو ألف وخمسمائة جارية أبكاراً، ومن أوقار([44]) الأمتعة والحلي والكسوة خمسمائة جمل، واقتسم الفرنجة الناس وأخذ كل واحد منهم داراً بمن فيها من أهلها، وكان الفرنج ــ لعنهم الله تعالى ــ يفتضون البكر بحضرة أبيها، والثيب بعين زوجها وأهلها، وجرى من هذه الأحوال ما لم يشهد المسلمون مثله قط فيما مضى من الزمان، ومن لم يرض منهم أن يفعل ذلك في خادم أو ذات مهنة أعطاهن خدمه وغلمانه يعيثون فيهن عَيْثة، وبلغ الكفرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة، ولما عزم ملك الروم على القفول إلى بلده تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثيبات ذوات الجمال ومن صبيانهم الحسان ألوفاً عدة حملهم معه ليهديهم إلى من هم فوقهم"([45]).
وأورد ابن حيان ــ رحمه الله تعالى ــ قصة تبكي القارئ وتذهل العاقل، وحاصلها أن تاجراً من تجار اليهود جاء بربشتر ليفتدي بعض بنات ذوي الوجوه المسلمين ممن نجين من الحادثة، وكن تلك البنات قد وقعن في سهم رجل من النصارى يعرفه، فقال:(/9)
"فهديت إلى منزله فيها، واستأذنت عليه فوجدته جالساً مكان رب الدار، مستوياً على فراشه، رافلاً في نفيس ثيابه، والمجلس والسرير كما خلفهما ربهما يوم محنته لم يغير شيئاً من رياشهما وزينتهما، ووصائفه مضمومات الشعور، قائمات على رأسه، ساعيات في خدمته، فرحب بي وسألني عن قصدي.. فأشرت إلى وفور ما أبذله في بعض اللواتي على رأسه وفيهن كانت حاجتي، فتبسم وقال بلسانه: ما أسرع ما طمعت فيما عرضناه لك، أعرض عمن هنا وتعرَّض لمن شئت ممن صيرته لحصني من سبيي وأسراي أُقارِبْك فيمن شئت منهم.
فقلت له: أما الدخول إلى الحصن فلا رأي لي فيه، وبقربك أنست، وفي كنفك اطمأننت، فسُمْني ببعض من هنا فإني أصير إلى رغبتك.
فقال: وما عندك؟ قلت: العين الكثير الطيب، والبَزّ الرفيع الغريب، فقال، كأنك تشهيني ما ليس عندي،يا مَجّة، ينادي بعض أولئك الوصائف، يريد "يا بهجة" فغيَّره بعجمته، قومي فاعرضي عليه ما في ذلك الصندوق، فقامت إليه وأقبلت بِبَدَر([46]) الدنانير وأكياس الدراهم وأسفاط الحلي، فكُشف وجعل بين يدي العلج([47]) حتى كادت تواري شخصه، ثم قال لها: أدني إلينا من تلك التخوت، فأدنت منه عدة من قطع الوشي والخز والديباج الفاخر مما حار له ناظري وبهت، واسترذلت ما عندي.
ثم قال لي: لقد كثر هذا عندي حتى ما ألذ به، ثم حلف بإلهه أنه لو لم يكن عنده شيء من هذا ثم بذل له بأجمعه في ثمن تلك ما سخت بها يداه، فهي ابنة صاحب المنزل، وله حسب في قومه، اصطفيتها لمزيد جمالها لولادتي حسبما كان قومها يصنعون بنسائنا نحن أيام دولتهم، وقد رُدّ لنا الكرة عليهم فصرنا فيما تراه، وأزيدك بأن تلك الخودة الناعمة([48]) ــ وأشار إلى جارية أخرى قائمة إلى ناحية أخرى ــ مغنية والدها التي كانت تشدو له على نشواته إلى أن أيقظناه من نوماته، يافلانة، يناديها بلكنته، خذي عودك فغني زائرنا بشجوك.
قال: فأخذت العود، وقعدت تسويه وإني لأتأمل دمعها يقطر على خدها، فتسارق العلج مسحه واندفعت تغني بشعر ما فهمته أنا فضلاً عن العلج، فصار من الغريب أن أظهر الطرب منه، فلما يئست مما عنده قمت منطلقاً عنه، وارتدت لتجارتي سواه، واطلعت لكثرة ما لدى القوم من السبي والمغنم على ما طال عجبي به"([49]).
وكفى بهذه القصة دليلاً على ما أصاب المسلمين من الذل، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
يا غافلاً وله في الدهر موعظة
إن كنت في سِنة فالدهر يقظان
وماشياً مرحاً يلهيه موطنه
أبعد حمص([50]) تغر المرء أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمها
ومالها مع طول الدهر نسيان
ياراكبين عتاق الخيل ضامرة
كأنها في مجال السبق عقْبان([51])
وحاملين سيوف الهند مرهفة
كأنها في ظلام النقع نيران
وراتعين وراء البحر في دَعَة
لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس
فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم
قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم
وأنتمُ يا عباد الله إخوان
ألا نفوسٌ أبيّات لها همم
أما على الخير أنصار وأعوان
يا من لذلة قوم بعد عزهمُ
أحال حالهمُ كفر وطغيان
بالأمس كانوا ملوكاً في منازلهم
واليوم هم في بلاد الكفر عبدان
فلو تراهم حيارى لا دليل لهم
عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم عند بيعهم
لهالك الأمر واستهوتك أحزان
يا رُبَّ أمٍ وطفل حِيل بينهما
كما تفرق أرواح وأبدان
وطَفْلة مثل حسن الشمس إذ طلعت
كأنما هي ياقوت ومرجان([52])
يقودها العلج للمكروه مكرهة
والعين باكية والقلب حيران
لمثل هذا يذوب القلب من كمدإن كان في القلب إسلام وإيمان([53])
(3) وبعد سقوط غرناطة يحدثنا التاريخ عن هذا المشهد:
"صعد الكردنال إلى إحدى الأبراج بالقصر (قصر الحمراء) ونصب فوقه صليباً كبيراً من فضة ولواء الملكية المسيحية.. وما إن أبصرت الملكة الصليب منصوباً فوق قصر الحمراء حتى انحنت نحو الأرض واقفة على ركبتيها وهي تصلي وتوجه الشكر إلى ربها، أثار المشهد الحماس في نفوس أعضاء حاشيتها فعكفوا يرتلون الأناشيد الدينية. عند ذلك بدأ فيرديناند وبعض علية القوم وأعيانهم، يزحفون نحو غرناطة، ولما دخلوا تقدم نحوه أبو عبد الله (ملك غرناطة) ممتطياً جواده ولما دنا من فرناندو تهيأ للنزول عن صهوته ليقدم التحية إلى الملك النصراني لكن هذا الأخير أومأ إليه ألا يفعل، شفقة عليه، فقبّل أبو عبد الله ــ مع ذلك ــ ذراع فيرديناند اليمني وقدم إليه مفاتيح القصر"([54]).
وهذا الذل الذي قبل به أبو عبد الله الصغير كان رجاء أن يوفي النصارى بوعودهم للمسلمين بالحفاظ على شعائر الإسلام وحرية التدين، فماذا حدث بعد هذه الذلة وهذا التنازل للنصارى؟
لا تسأل بعد ذلك عما حدث من الملكين فرديناند وإيزابيلا من نكث الوعود وإحراق كتب المسلمين([55]) لإزهاق الحضارة الإسلامية، ومن فرض التعميد على الأطفال، ومن منع أداء شعائر الإسلام، ومن منع التسمي بأسماء عربية، ومن منع الختان، ومن منع التحدث بالعربية، إلخ..(/10)
"ثم بعد ذلك دعاهم (أي ملك غرناطة النصراني) إلى التنصير وأكرههم عليه وذلك في سنة أربع وتسعمائة فدخلوا في دينه كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبقَ من يقول فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله جهراً إلا من يقولها في قلبه أو خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان، وفي مساجدها الصور والصلبان بعد ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية وكم فيها من قلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعدومين، ومن قلوبهم تشتعل ودموعهم تسيل سيلاً غزيراً مدراراً، وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ويأكلون الخنزير ويشربون الخمر.. فلا يقدرون على منعهم.. ومن فعل ذلك عوقب أشد العقاب، فيالها من فجيعة ما أمرها، ومصيبة ما أعظمها"([56]).
الافتراق السياسي في العصر الحديث:
وأما ما حصل من خلاف بين كثير من زعماء الأمة الإسلامية في العصر الحديث فهو أمر مؤسف، ومازال الخلاف مستحكماً بين بعضهم حتى حصل المحذور، وتقاتل بعضهم مع بعض، وأذهبوا شوكتهم، وأضعفوا قوتهم، وداخلهم العدو الكافر، ووطئ بأقدامه الدنسة عدداً من بلدانهم، وما كان ليطمع في هذا لولا الفرقة التي وقعت بين بعض حكامهم، وهذا العدو اليهودي الماكر يهدم البيوت، ويقتل الرجال والنساء والأطفال، وصيحاتهم تتعالى ولا مجيب، وما يحصل في الشيشان وكشمير والعراق من مآسٍ يشيب لهولها الولدان، كل ذلك لأسباب على رأسها الفرقة السياسية والخلاف المستحكم بين كثير من رؤوس الأمة الإسلامية، وقد كان ما خاف الصالحون أن يكون فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن أنكى وأشد الأمور على النفوس ما حدث في العصر الحديث من افتراق سياسي في أفغانستان بين الأحزاب المختلفة بعد سقوط كابول ودخول المجاهدين، وكانت الدولة الإسلامية قاب قوسين أو أدنى منهم، ولكنهم ضيعوها بسبب ما حدث بينهم من نزاع خطير أدى إلى قيام حرب حقيقية بينهم، والتراشق بآلاف الصواريخ، ومقتل آلاف الناس، كل ذلك بسبب السعي إلى الزعامة والتفرد، والمطامع الدنيوية، وهذا هو الذي أضاع المشروع الإسلامي الذي كان ينتظره مئات الملايين من المسلمين، وضحوا في سبيله بالغالي والنفيس على مدار اثنتي عشرة سنة أو أكثر من عمر الجهاد، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
الخاتمة
وفيها النتائج والتوصيات
ها قد حان أوان ختم هذا البحث الموجز، وقد ظهر في هذا البحث جملة من النتائج أوجزها في الآتي:
(1) إن الخلاف الذي يؤدي إلى الافتراق لهو شر محض، ونكاية في هذه الأمة، وإذهاب لقوتها وريحها، وإطماع للأعداء فيها، وقد ظهر هذا جلياً في مبحث الافتراق السياسي.
(2) قد ترتب على هذا الخلاف ومن ثم الافتراق قتلٌ للعلماء والصلحاء، وإهانة للعباد والزهاد، وتشكيك في الدعاة والعاملين، وفي هذا شر مبين، وزرعٌ للإحن والبغضاء مبير.
(3) إن هذا الخلاف أدى إلى ضعف التوجه نحو الفتوحات ونشر الإسلام في العالمين؛ إذ انشغل صفوة الناس بتلك الفرقة المبيرة والمحنة الكبيرة، وانظر إلى هذا النص الثمين في وصف أثر مهم ترتب على خلاف الصحابة فيما بينهم ــ رضي الله عنهم ــ قاله أحد السلف:
"لما قتل عثمان ووقع الاختلاف لم يكن للناس غزوٌ حتى اجتمعوا على معاوية فأغزاهم مرات"([57]).
فقد تُرك الجهاد والغزو مدة الفتنة، وتلك بلية عظيمة؛ إذ كان الفتح الإسلامي نشطاً ممتداً يصاحبه حماس كبير، حتى إذا وقعت الفتنة هدأ كل ذلك، وفاتنا ما هنالك.
(4) إن الافتراق يترك في نفوس الدعاة والعاملين والشباب المقبلين آثاراً من الإحباط مريرة، وشعوراً بالإخفاق وتلك جريرة وأية جريرة، ذلك أن هؤلاء إذا اطلعوا على ذلك الاختلاف ــ بَلْهَ المشاركة فيه ــ حصل لهم نوع من الامتعاض والشعور بتأخر النصر، وهذه بلية عظيمة؛ إذ على مثل هؤلاء بعد الله تعالى نعوّل، وفيهم نؤمِّل ما نؤمِّل.
(5) الخلاف في العصر الحديث ورث الخلاف الذي كان منتشراً زمان السلف والخلف، لكن لم يعد في هذا العصر خلاف مذاهب فقهية ــ إلاّ قليلاً ــ بل صار خلافاً بين الجماعات الإسلامية المتعددة التي ما قامت كلها إلا لنصرة الإسلام! فهذه مفارقة عجيبة ومناقضة غريبة.
(6) الخلاف بين أهل السنة أنفسهم أذهب شوكتهم، ومهَّد لطمع المبتدعة فيهم، ومن ثم طمع الكافرين في ديارهم وأموالهم، وما حصل في أفغانستان مثال واضح لما ذكرته، والله المستعان.
التوصيات
أما التوصيات التي أوصي نفسي وإخواني بها فهي الآتي:
(1) التزام تقوى الله تعالى والخوف من عقابه إذا افترقنا وذهبت ريحنا، وضعفت شوكتنا، وسؤال الله تعالى لنا والحالة هذه غير مستبعد عما فرطنا فيه وسلكنا غير المسلك الأحمد.
(2) أن تربَّى الأجيال على حب الوفاق والوئام، وبغض الافتراق، وأن يوقفوا على مثل هذه النصوص، وأن يعذر بعضهم بعضاً في الخلاف السائغ لئلا يكونوا للأعداء كالطعام السائغ.(/11)
(3) إنشاء هيئات دعوية يصدر عنها قرارات تصب في مصلحة الدعوة الإسلامية، فكما للفقه مجامع وهيئات، وللحديث والعقيدة والتاريخ جمعيات، فينبغي أن يكون للدعوة هيئات ومجامع وجمعيات يجتمعون فيها وينسقون فيما بينهم فيما يخدم أغراض الدعوة الإسلامية ومقاصدها، ويصدرون في كل ذلك عن نية صالحة وعمل مبارك.
(4) إعادة كتابة الأحداث المؤرقة والفتن التي حدثت في التاريخ الإسلامي كتابة تربوية تقف على مواطن الزلل وتنتقدها وتقومها، وتظهر العيب ليتجنبه الناس، وتبين زلل الأوائل ليتحاشاه الأواخر، وقد قالت العرب قديماً: السعيد من اتعظ بغيره لا من وُعظ به غيره، وهذا يستلزم إعداد أساتذة يحسنون قراءة التاريخ وفي الوقت نفسه يكونون مسلحين بالعلم الشرعي العاصم عن الزلل أو الميل عن القصد.
(5) نشر أدب الخلاف على رؤوس الناس في المنابر والمجامع ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، والإكثار من ذلك حتى يصير خلقاً مشاعاً معتاداً بين الناس، وربط كل ذلك بالإسلام وتعاليمه ليصير مراعاة أدب الخلاف عبادة وتقرباً إلى الله تعالى.
(6) الأخذ على يد كل مفسد يريد شق صف المسلمين والنيل من دعاتهم وعلمائهم وفضلائهم، وفضحه بين الناس حتى يرتدع عن ضلاله، ويعود إلى رشده، وعدم السماح له بنشر ما تريده نفسه الأمارة بالسوء بين الناس.
(7) جمع الجماعات الإسلامية في جبهة واحدة، ورص صفوفهم وتوجيه جهودهم إلى هدف سام واحد، إذ أن الخلاف المستحكم بينهم اليوم أثر كثيراً على مسيرة الدعوة الإسلامية التي لا أظن أنه يكتب لها النجاح الكامل إلا بالاجتماع والاتفاق، خاصة أن هذا الخلاف قد حل محل الخلاف الذي كان شائعاً بين أسلافنا نصرة للمذاهب الفقهية، وتضخم ليكون أكبر عقبة أمام انتشار الإسلام في الخافقين، والله المستعان.
([1]) نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء: 2/579، والسير من تأليف الحافظ الذهبي، رحمه الله تعالى. والنزهة لواضع هذا البحث، نشر دار الأندلس الخضراء، جدة.
([2]) المصدر السابق: 2/846.
([3]) نزهة الفضلاء: 2/851.
([4]) نزهة الفضلاء: 2/1086.
([5]) تحاسد العلماء، لعبد الله بن حسين الوجان: 250ــ251، نقلاً عن معجم البلدان: 1/273، طبعة الخانجي والرستاق.
([6]) أي تامّي السلاح.
([7]) المصدر السابق، نقلاً عن معجم البلدان: 4/355.
([8]) نزهة الفضلاء: 3/1349.
([9]) المصدر السابق.
([10]) المصدر السابق.
([11]) المصدر السابق: 4/1495.
([12]) المصدر السابق: 30/1442.
([13]) تحاسد العلماء: 273 وما بعدها، نقلاً عن ذيل طبقات الحنابلة: 19 ــ 23.
([14]) تحاسد العلماء:489-490.
([15]) نزهة الفضلاء: 4/1538.
([16]) المصدر السابق: 3/1017.
([17]) المصدر السابق: 3/1253.
([18]) رسائل الإمام البنا: 270.
([19]) أي العلم بكيفيتها وليس بمعانيها كما ذهب إليه بعض المغرضين في اتهاماتهم.
([20]) رسائل الإمام البنا: 330.
([21]) المصدر السابق: 269.
([22]) المصدر السابق: 270.
([23]) المصدر السابق.
([24]) المورد العذب الزلال:143.
([25]) هو الشيخ عبدالله بن جبرين حفظه الله تعالى.
([26]) المصدر السابق.
([27]) انظر لفهم هذه المسألة بالتفصيل وإعذار من نشأ في العالم الإسلامي محاطاً به التصوف من كل جانب سبيلاً أوحد في كثير من الأحيان خاصة في زمن البنا وقبله. انظر كتاب "العاطفة الإيمانية وأهميتها في الأعمال الإسلامية" لواضع هذه الرسالة ص 76 ــ 95.
([28]) قد زكى الشيخ عدد من أئمة السلفيين في العصر الحديث مثل الشيخ ابن جبرين كما مر سابقاً، ومثل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي الذي أهدى إليه كتابين له:"تنزيه الدين وحملته مما افتراه القصيمي في أغلاله"، و"القواعد الحسان لتفسير القران" وكتب عليه: إهداء إلى فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا، وغيرهما من الرجال المنصفين.
([29]) منهم الإمام البويطي الذي مات مسجوناً مقيداً سنة 231، انظر "نزهة الفضلاء": 2/ 982.
[30] ) "نزهة الفضلاء": 2/ 881.
([31]) تحاسد العلماء: 490 ــ 491.
([32]) تحاسد العلماء: 251 ــ 252، نقلاً عمن نقل عن الكامل: 9/251.
([33]) نزهة الفضلاء: 4/1724.
([34]) انظر في المسألة السابقة رسالة: الصفويون والدولة العثمانية، للأستاذ علوي عطرجي، نشر دار الأندلس الخضراء بجدة.
([35]) البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، للإمام الشوكاني: 2/ 344 ــ 348.
([36]) انبت: انقطع.
([37]) أي لكنه.
([38]) أي ترجع.
([39]) التاريخ الأندلسي لعبد الرحمن الحجي: 339 نقلاً عن: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، لابن بسام.
([40]) المرجع السابق.
([41]) المرجع السابق: 343، نقلاً عن: ترتيب المدارك، للقاضي عياض.
([42]) انظر المرجع السابق: 344 ــ 347.
([43]) التاريخ الأندلسي: 334، نقلاً عن: الذخيرة في محاسن الجزيرة، وغيرها.
([44]) أحمال.
([45])نفح الطيب للمقّري: 6/239 ــ 240 بتصرف.
([46]) أوعية.(/12)
([47]) النصراني الكافر.
([48]) أي الفتاة الشابة الناعمة.
([49]) نفح الطيب: 6/240 ــ 242 بتصرف.
([50]) حمص هي: إشبيلية سميت بذلك لشبهها بحمص.
([51]) جمع عقاب وهو طائر معروف.
([52]) الطَفْلة: الفتاة الناعمة البيضاء.
([53]) من فصيدة لأبي البقاء الرندي يرثي فيها الأندلس، وطالعها كاملة في: نفح الطيب: 6/279ــ281.
([54]) الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب:55، نقلاً عن: محنة العرب في الأندلس.
([55]) جمع ما يقارب من مليون كتاب مخطوط من المكتبات العامة والمكتبات الخاصة وأحرقت بأمر أحد الكرادلة السفلة في ميدان غرناطة، وكان هذا العدد من الكتب يفوق كافة الكتب الموجودة في مكتبات أوروبا بكاملها، بل لم تكن في أوروبا آنذاك مكتبة واحدة تمكنت من جمع عشرة آلاف مجلد. موقف الدولة العثمانية: 40، نقلاً عن: تاريخ الدولة العثمانية، لمؤلفه يلماز أوزوتا.
([56]) الأندلسيون وهجراتهم إلى المغرب: 56 ــ 57 بتصرف يسير.
([57]) نزهة الفضلاء: 1/354.(/13)
نماذج قرآنية للقيادة المسؤولة (1)
... في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
للإمام العلاّمة: عبد الحميد بن محمد ابن باديس الصنهاجي
إعداد وتقديم د.البشير صوالحي
الحلقة الأولى
ينقلنا الإمام ابن باديس في تفسيره الجليل إلى عالم عجيب, تمتزج فيه المعجزة الإلهية في روعة انتقائه للأنبياء الأصفياء مع عجائب الخلقة في الأنفس والآفاق, مع ما يطبع ذلك من صور الانسجام والتفاعل بين مخلوقات الله,وقدرتها على التكامل في أداء مهمتها الرسالية, واستعدادبعضها لقبول سنة التسخير, في مقابل خدمة صاحب الرسالة الخالدة.
والآيات التي بين أيدينا, تعبر عن نموذجين رائعين للقيادة, نموذج بشري تمثله النبوة في أرقى تألقها ونجاحها, حين تخط طريقها بحزم في التمكين لدين الله مع حسن استخدامها لهيبة السلطان ,ونموذج غير بشري يمثله عالم النمل الذي فطر على الترتيب والتدبير,وهو في ذلك ملتزم بأوامر قيادته,حريص على سلامة أفراده ,وهذه هي قمة الشعور بالمسؤولية في موقع المسؤولية,وأفضل مثال لإحياء روح النظام والانضباط الذي يحقق سنة النهوض والبقاء , حتى عند من لا يدرك أهميته إلا بالفطرة من غير البشر.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِين} (النمل: 15).
(علماً) نوعا عظيماً ممتازاً من العلم جمعا به بين الملك والنبوة، وقاما بأمر الحكم والهداية. (وقالا) قولهما متسبب وناشيء عن العلم، لكنه لو قيل: "فقالا" بالفاء، لما أفاد أن غير القول تسبب منهما عن العلم. ولماّ عطف بالواو دل على أن هنالك أعمالاً كثيرة كانت منهما في طاعة الله وشكره، نشأت عن العلم وعليها عطف قولهما هذا.
(فضلنا) أعطانا ما فقنا به غيرنا. (على كثير) فهنالك كثير لم يفضلا عليه ممن ساواهما أو فاقهما. (من عباده المؤمنين) ففضلا بين أهل الفضل، فكانا من أفضل الفاضلين، وذلك بما أعطيا من النبوة وملكها.
يخبرنا الله – تعالى – عما أعطى لهذين النبيين الكريمين من هذا الخير العظيم، وعما كان منهما من الشكر له، والمعرفة بعظيم قدر عطائه، وإظهار السرور به، مع الاعتراف لغيرهما بما كان من مثله أو نحوه، ومن إعلانهما ما كان لله عليهما من نعمة التفضيل العظيمة بحمده والثناء عليه.
تنويه وتأصيل:
قد ابتدأ الحديث عن الملك العظيم بذكر (العلم)، وقدمت النعمة به على سائر النعم، تنويهاً بشأن العلم، وتنبيهاً على أنه هو الأصل الذي تنبني عليه سعادة الدنيا والأخرى، وأنه هو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا، وأن الممالك إنما تنبني عليه وتشاد، وأن الملك إنما ينظم به ويساس، وأن كل ما لم يبن عليه فهو على شفا جرف هار، وأنه هو سياج المملكة وذرعها، وهو سلاحها الحقيقي، وبه دفاعها، وأن كل مملكة لم تكحم به فهي عرضة للانقراض والانقضاض:
قال أبو الطيب المتنبي:
أعلى الممالك ما يبنى على الأسَلِ والطعن عند محبيهنّ كالقبَلِ
نعم إن محبي الممالك الصادقين في محبتها، والذين تصلح لهم ويصلحون لها، هم الذين يستعذبون في سبيلها الموت، ويكون الطعن عندهم مثل القبل على ثغور الحسان. فأما الممالك التي تبنى على السيف فبالسيف تهدم، وما يشاد على القوة فبالقوة يؤخذ. وإنما أعلى الممالك وأثبتها ما بني على العلم، وحمي بالسيف. وإنما يبلغ السيف وطره ويؤثر أثره، إذا كان العلم من ورائه.
ولكن أبا الطيب – شاعر الرجولة والبطولة، وشاعر المعارك والمطامع – لا يرى أمامه إلا الحرب، وآلات الطعن والضرب فلا يمكن أن يقول – وقد غمرته لذة الانتصار، واستولت نشوة الغلب والظفر على لبه وخياله – إلا ما قال.
فقه وأدب:
يجوز لمن أنعم الله عليه بنعمه وفضله بفضيلة أن يفرح بتلك النعمة ويظهر فرحه بها، في معرض حمد الله عليها، من حيث أنها كرامة من الله، لا من حيث أنها مزية من مزاياه فاق بها سواه، مثل فعل هذين النبيين الكريمين، وكما قال تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} (يونس: 58).
وكثيراً ما يكون التفات المرء إلى نفسه حاجباً له عن غيره، فيذكر من شأنه ما أفرحه، ويسكت عن غيره، وفيهم من هو مثله ومن يفوقه، فقد يجر هذا إلى عجب بنفسه، وغمط لحق من عداه.
فلهذا كان من أدب مقام الفرح بنعمة الله وحمده عليها، ذكر نعمته العامة عليه وعلى غيره، والإشارة إلى من فضلوا عليه؛ فيكبح من نفسه بتذكيرها بقصورها، ويرضى الله باعترافه لذي الفضل بفضله، وحكمة الله وعدله، وبوقوفه كواحد ممن أنعم عليهم من عباده.
إرشاد وإشادة:(/1)
أذكار الأنبياء – صلوات الله عليهم – من حمد وتسبيح وتهليل وغيرها أفضل الأذكار، وأجمعها وأسلمها. وقد اشتمل الكتاب العزيز على كثير منها. فعلى المسلم الحريص على الخير بها علماً وعملاً، فقد رأيت ما يحف بإظهار الفرح بنعمة الله من مخاطر إذا لم يتنبه لها، وقد جاء هذا الحمد النبوي محصلا للقصد، سالماً من كل خطرة بعباراته الموزونة الشاملة، التي لا يصدر مثلها إلا منهم لكمال علمهم وأدبهم، عليهم الصلاة والسلام.
الآية الثانية
{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (النمل: 16).
(الإرث) انتقال ما كان للميت إلى الحي، فيقوم فيه الوارث مقام الموروث، سواء أكان مالاً أو ملكاً أو علماً أو مجداً. والمراد هنا الملك والنبوة. (علمنا) أعطينا العلم، ولم يذكر المعلم – وهو الله – للعلم به فإن هذا التعليم ليس من معتاد البشر، ولا من طرقهم.
(منطق الطير) نطقها وهو تصويتها، وقد يطلق النطق على كل ما يصوت به الحيوان، فالحيوان ناطق، والجماد صامت.
(وأوتينا) أعطينا، والنون في الفعلين للعظمة إذ هي حالته التي هو عليها. (من كل شيء) هو على معنى التكثير، أو على معنى العموم الحقيقي، فيما تقتضيه تلك العظمة، مما يؤتاه الأنبياء والملوك. (الفضل) الزيادة. (المبين) الظاهر الذي لا خفاء به.
المعنى:
قام سليمان مقام أبيه داود عليهما الصلاة والسلام، فكان في بني إسرائيل من بعد نبياً ملكاً. وأراد سليمان أن يشهر نعمة الله عليه وينوه بها ويدعو قومه إلى الإيمان به وطاعته؛ فدعا الناس وذكر لهم ما خصه الله به من علم منطق الطير، وعظائم الأمور، مما هو خارق للعادة معجز للبشر، آية على نبوته. وتحداهم بذلك الفضل الذي امتاز به عن جميع الناس، وهو مشاهد لهم لا يمكنهم إنكاره كما لا تمكنهم معارضته.
فقه وتحقيق:
من ميزة الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – أنهم يخرجون من الدنيا دون أن يعلقوا بشيء منها، فلا يورثون ديناراً ولا درهماً وإنما يورثون العلم. وفي الصحيح "إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة". فلم يرث سليمان من داود مالاً، وإنما ورث ما نوه به من العلم والملك، وما دل عليه ذلك من النبوة، وقد خصصه الله بذلك دون بقية إخوته.
تفرقة:
الشيء الموروث إن كان من أمور الدنيا وأعراضها ومتناولات الأبدان ومتصرفاتها، فإنه ينتقل بذاته من الميت إلى الحي، وينقطع عنه ملك الميت. وما كان من صفات الروح فإنه لا يفارق الميت – لبقاء الروح – وإنما يقوم الحي مقام الميت في أداء ما كان يؤديه الميت من أعمال بمثل متصفاً بمثل ما كان متصفاً به الميت، ومتحلياً بمثل حليته. فإرث سليمان للملك هو من المعنى الأول فداود بعد موته لم يبق ملكاً، وإرثه للعلم والنبوة هو من المعنى الثاني فداود بعد موته على علمه ونبوته.
تفرقة أخرى:
إذا كان الموروث مالاً فإنه يستحق بالقرابة شرعاً. وإذا كان علماً أو نبوة أو ملكاً فإنها لا تستحق بها.
فلم يرث سليمان من داود ما ورثه منه لأنه ابنه، وإنما كان ذلك تفضلاً من الله ونعمة، ولهذا لما دعا سليمان الناس لم يذكر لهم أبوة داود، وإنما ذكر لهم ما كان به أهلاً لمقامه، مما خصه الله به من علم وقوة، ومظاهر الملك ومعجزة النبوة.
عجائب الخلقة وحكمة العربية:
للحيوانات كلها فهم وإدراك وأصوات تدل بها على ما في نفسها، وتتفاهم بها أجناسها بعضها عن بعض. ومن تلك الأصوات ما يكون أخفى من أن يصل إليه سمعنا؛ ومنها ما نسمعه، ومما نسمعه ما نفهم مرادها به ومنه ما لا نفهمه، فلا نسمع صوت النملة ولكننا نسمع صوت الهرة –مثلا- ونميز بين صوتها الذي تدل به على غضبها، وصوتها الذي تدل به على طلبها.
وفي مملكة النمل ومملكة النحل – مثلا – من النظام والترتيب والتقدير والتدبير، ما لا يبقى معه شك فيما لهذه الحيوانات من إدراك وتمييز، وما بينها من تفاهم، بل كثير من الحيوانات تصير بالترويض تفهم عنا كثيراً من العبارات والإشارات، وتأتي بالأعمال العجيبة طبق ما يراد منها تدل عليه فهذا أصل ما بلغت إليه من إدراكها ونطقها اللذين أخبر بهما القرآن. وتلك الغاية من الإدراك والنطق، لا سبيل لنا إليها لاختلاف الخلقة وجهل مدلولات الأصوات. وقد أدركها سليمان – عليه السلام- بتعليم من الله كرامة له، وآية على نبوته، ومعجزة للناس.
فمن حكمة اللغة العربية الشريفة، ان سمت أصوات الحيوانات نطقاً، كما سمت –في المتعارف- اللفظ الذي يعبر به عما في الضمير نطقاً، لأن الأصوات لغير الإنسان تقوم مقام الألفاظ للإنسان، فهي طريق تفاهمها وطريق فهم ما يمكن للإنسان فهمه عنها. فلله هذه اللغة ما أعمق غورها! وما أدق تعبيرها.
نظر وإيمان:(/2)
قد شوهد بالعيان في أنواع من الحيوانات: حسن تدبيرها لأمر معاشها، ودقة سعيها في جلب منافعها، ودفع مضارها، فمن الجائز أن يصل إدراكها بالفطرة إلى ما وراء ذلك من وجود خالقها ورازقها. وهذا هو الذي أخبرنا به القرآن في هذه الآيات من أمر النملة وأمر الهدهد الآتيين من بعد. فنحن مؤمنون لجوازه عقلاً، وثبوته سمعاً، مثل السمعيات.
تمييز:
قد شارك الحيوان الإنسان في الإدراك والتمييز، وبلغ إدراكه إلى معرفة وجود خالقه ورازقه، ولكن الإنسان يمتاز عنه بقوة التحليل والتركيب لكل ما يصل إليه حسه وإدراكه، وتطبيق ذلك على كل ما تمتد إليه قدرته ويكون في متناول يده، فمن ذلك التركيب والتحليل والتطبيق تغلب على عناصر الطبيعة، وتمكن من ناصيتها، واستعمال حيوانها وجمادها في مصلحته، ورقي أطوار التقدم في حياته، ولفقدان الحيوان – غير الإنسان – هذه القوة بقي في طور واحد من حياته ومعيشته.
فإدراك الحيوان فطري إلهامي بعطاء من أول الخلقة، والإنسان يعطي أصل الإدراك الإجمالي، ثم بتلك القوة يتسع أفق إدراكه، ويستمر في درجات التقدم. وهذه القوة التي يمتاز بها الإنسان هي العقل، وهي التي ساد بها هذا العالم الفاني.
توجيه:
ذكر سليمان عليه منطق الطير، وهو قد علم منطق غير الطير أيضا فقد فهم نطق النملة، ذلك لأن الحيوانات – غير الإنسان- مراتب: الزاحفة، والماشية، والطائرة، أشرفها الطائرة، فاقتصر على الطير تنبيهاً بالأعلى على الأدنى.
تنزيه وتبيين:
عبر سليمان عليه السلام عن نفسه بنون العظمة، ونوه بذلك الفضل المبين، وما كان عليه السلام ليتعظم بسلطان، ولا ليتطاول بفضل؛ فالأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- اشد الخلق تواضعاً لله وأرحمهم بعباده.
وإنما أراد تعظيم نعمة الله في عيون الناس، وتفخيم ملك النبوة في قلوب الرعية، ليملأ نفوسهم بالجلال والهيبة، فيدعوهم ذلك إلى الإيمان والطاعة، فينتظم الملك، ويهنأ العيش، وتمتد بهم أسباب السعادة إلى خير الدنيا والآخرة، وهذا هو الذي توخاه سليمان عليه السلام من المصلحة بإظهار العظمة.
ولذا لم يقل: (علمت). ولا (لي) و(عندي كل شيء). ولم يقل (فضلي) فهو فضل من علمه وآتاه فضله به عمن سواه.
ترغيب واقتداء:
يذكر الله - تعالى - لنا في شأن هذا النبي الكريم ما أعطاه من علم، وما مكنه منه من عظيم الأشياء. ترغيباً لنا في طلب العلم، والسعي في تحصيل كل ما بنا حاجة إليه من أمور الدنيا. وتشويقاً لنا إلى ما في هذا الكون من عوالم الجماد، وعوالم الأحياء. وبعثا لهممنا على التحلي بأسباب العظمة من العلم والقوة. وحثاً لنا على تشييد الملك العظيم الفخم على سنن ملك النبوة.
فقد كان سليمان عليه السلام نبياً، وما كان ملكه ذلك بإذن الله ورضاه، فهو فيما ذكره الله من أمره قدوة وأي قدوة مثل سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمع
في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
للإمام العلاّمة: عبد الحميد بن محمد ابن باديس الصنهاجي
الحلقة الثانية
إعداد وتقديم د.البشير صوالحي
الآية الثالثة: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (النمل: 17).
(الحشر) الجمع من أماكن متفرقة. (جنوده) هو المنتظمون في سلك عسكريته، فجمعوا له عند الحاجة إليهم في سفر أراده. (يوزعون) يكفون عن الخروج عن النظام في السير، فيمنع أولهم من سبق آخرهم، وآخرهم من التأخر عن سابقهم، ويمنعون من الخروج عن الصفوف إلى اليمين أو الشكال، لأن وزعه عن الشيء معناه كفه عنه.
وفي ترتيب الجنود في الذكر مراعاة الأقوى، وأعلاهم في ذلك الجن، ثم الإنس، ثم الطير وفاعل (حشرهم) الأعوان الحاشرون. وفاعل (وزع) هم الضباط المنظمون.
المعنى:
كان لسليمان ـ عليه السلام ـ من الجن والإنس والطير جنود معينون معروفون يتركب منهم عسكره. يكونون متفرقين، فإذا عرض أمر جمعهم. وكان له أعوان يعرفون أولئك الجنود ويعرفون أماكنهم، فهم الذين يجمعونهم عند الحاجة إليهم. فأراد سليمان أن يسافر، فأمر أعوانه بجمع الجنود فجمعوهم له. فلما اجتمعوا تولى رؤساؤهم تنظيمهم فساروا مع سليمان في كثرة ونظام، يتولى أولئك الرؤساء تنظيمهم في سيرهم ويمنعونهم من الخروج عن النظام.
تفصيل:
كما أن للإنس من يعرفهم من أعوان سليمان ومن ينظمهم من رؤسائهم، كذلك يكون للجن، وكذلك يكون للطير. وسلطة سليمان على الجن وتسخيره لهم وسلطته على الطير وفهمه لها وفهمها عنه معجزة له، وخصوصية ملك لم ينبغ لأحد من بعده!!
تاريخ وقدرة:
تفيدنا الآية صورة تامة لنظام الجندية في ملك سليمان.
فقد كان الجنود يسرحون من الخدمة ويجمعون عند الحاجة.
وكانت أعيانهم معروفة مضبوطة.
وكانت لهم هيئة تعرفهم وتضبطهم وتجمعهم عند الحاجة.
وكان لهم ضباط يتولون تنظيمهم.
وكان النظام محكماً لضبط تلك الكثر ومنعها من الاضطراب والاختلال والفوضى.(/3)
تعرض علينا الآية هذه الصورة التاريخية والواقعية تعليماً لنا، وتربية على الجندية المضبوطة المنظمة.
ولا شك أن الخلفاء الأولين قد عملوا على ذلك في تنظيم جيوشهم، إن مثل هذه الآية كان له الأثر البليغ السريع في نفوس العرب لما أسلموا. فسرعان ما تحولوا إلى جنود منظمة مما لم يكن معروفاً عندهم في الجاهلية
وبقيت الآية على الدهر مذكرة لنا بأن النظام أساس كل مجتمع واجتماع، وأن القوة والكثرة وحدهما لا تغنيان بدون نظام، وأن النظام لا بد له من رجال أكفاء يقومون به ويحملون الجموع عليه، وأولئك هم الوازعون.
طبيعة وشريعة:
في عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان نجد الطبيعة – بصنع الله – تستخلص الأعلة من الأدنى، والأقوى من الأضعف، فتجد الممتاز من أصل الخلق وبانتخاب الطبيعة في هذه العوالم الثلاث، كما تجد الذهب في المعدن وتجد الزهر والثمر في النجم والشجر، وتجد الملكة من النمل والنحل مثلاً.
فالإنسان لم يخرج عن هذا القانون الطبيعي. ففيه الممتازون الذين يحتاج إليهم النوع الإنساني في صلاح حاله ومآله.
ومنهم الذين يتولون حكمه وتنظيمه في أممه ومجتمعاته وجماعاته؛ فالهيئة الحاكمة والأفراد المنظمون والقادة المسيرون من ضروريات المجتمع الإنساني ومقررات الشرع الإسلامي، ومثل ما في هذه الآية من أمر الوازعين. ولما ولي الحسن البصري القضاء قال: لا بد للسلطان من وزعة أي أعوان يكفون الناس عن الشر والفساد، ويتولون تربيتهم وتنظيمهم. وفي رواية: لا بد للناس من وازع – أي كاف – يكف بعضهم عن بعض، وهو الحاكم وأعوانه.
وفي حديث ذكره أهل الغريب: من يزع السلطان وعقابه الدنيوي أكثر ممن يكفهم عن الشر الوعد والوعيد في القرآن {وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس}.
الآية الرابعة: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (النمل: 18).
(أتوا على وادي النمل) هبطوا إليه من مكان أعلى منه، وهو بالشام أو بالحجاز، لم تتوقف العبرة على تعيينه فلم يعين، وأضيف للنمل لكثرته فيه. (نملة) لفظها مؤنث، ومعناها محتمل مثل شاة وحمامة. (مساكنكم) هي قرى النمل التي يسكنها تحت وجه الأرض، المحكمة الوضع والتركيب والتقسيم. ولذلك قيل فيها: مساكن، ولم يقل غيران.
(لا يحطمنكم) لا يكسرنكم بالحوافر والأقدام. (لا يشعرون) لا يحسون بوجودكم. الإتيان بـ"إذا وجوابها، لإفادة أن قولها كان بسبب إتيانهم عند أول ما أتوا.
(لا يحطمنكم) نهتهم عن أن يحطمهم، والحطم ليس من فعلهم حتى ينهوا عنه، وإنما المعنى: لا تكونوا خارج مساكنكم فيحطمكم، فنهتهم عن السبب والمراد النهي عن السبب، لما في ذلك من الإيجاز المناسب لسرعة الإنذار لسرعة النجاة، ولما في ذكر المسبب – وهو الحكم – من التخويف الحامل على الإسراع إلى الدخول.
والجملة مؤكدة للأولى كأنها قالت: ادخلوا مساكنكم لا تبقوا خارجها، ونظير التركيب في التعبير المسبب عن المسبب: لا أرينك ههنا؛ أي لا تكن هنا فأراك.
المعنى:
سار سليمان – عليه السلام – في تلك الجنود العظيمة يحيط به الإنس والجن وتظللهم الطير، حتى هبطوا على وادي النمل، فرأتهم كبيرة النمل وقائدته، فصاحت في نبي جنسها، فنادتهم للتنبيه، وأرشدهم إلى طريق النجاة: بأمرهم الدخول في مساكنهم، وحذرتهم من الهلاك بحطم سليمان وجنوده لهم (عدم) شعورهم منهم، فلا يكون اللوم عليهم، وإنما اللوم على النمل إذ لم يسرع بالدخول.
عبرة وتعليم:
عاطفة الجنسية غريزة طبيعية:
فهذه النملة لم تهتم بنفسها فتنجو بمفردها. ولم ينسها هول ما رأت من عظمة ذلك الجند إنذار بني جنسها، إذ كانت تدرك بفطرتها أن لا حياة لها بدونهم، ولا نجاة لها إذا لم تنج معهم، فأنذرتهم في أشد ساعات الخطر ابلغ الإنذار. ولم ينسها الخوف على نفسها وعلى بني جنسها من الخطر الداهم، أن تذكر عذر سليمان وجنده.
فهذا يعلمنا أن لا حياة للشخص إلا بحياة قومه، ولا نجاة لهم إلا بنجاتهم، وأن لا خير لهم فيه إلا إذا شعر بأنه جزء منهم. ومظهر هذا الشعور أن يحرص على خيرهم كما يحرص على نفسه، وألا يكون اهتمامه بها دون اهتمامه بهم.
واجب القائد والزعيم:
هذه النملة هي كبيرة النمل، فقد كان عندها من قوة الاحساس ما أدركت به الخطر قبل غيرها، فبادرت بالإنذار. فلا يصلح لقيادة الأمة وزعامتها إلا من كان عنده من بعد النظر، وصدق الحدس، صائب الفراسة، وقوة الإدراك للأمور قبل وقوعها، ما يمتاز به عن غيره، ويكون سريع الإنذار بما يحس وما يتوقع.
عظة بالغة:
هذه نملة وفت لقومها، وأدت نحوهم واجبها!! فكيف بالإنسان العاقل فيما يجب عليه نحو قومه؟!(/4)
هذه عظة بالغة لمن لا يهتم بأمور قومه، ولا يؤدي الواجب نحوهم، ولمن يرى الخطر داهما لقومه، فيسكت ويتعامى، ولمن يقود الخطر إليهم ويصبه بيده عليهم. آه ما أحوجنا – معشر المسلمين – إلى أمثال هذه النملة!
الآية الخامسة: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النمل: 19).
(التبسم) انفراج الشفتين على الأسنان، وقد يكون للسخرية، وقد يكون للضحك، وهو الأكثر، وهو بدايته؛ ولهذا قيد بـ"ضاحكاً".
(أوزعني أن أشكر) ألهمني شكر نعمتك. وتحقيقه في اللغة والتصريف، أنك تقول وزعت الشيء، أي كففته وأوزعني الله الشيء، أي جعلني أزع ذلك الشيء أي أكفه. كما يقول ركبت الفرس وأركبني زيد الفرس، أي جعلني أركبه، فأوزعني شكر نعمتك: أي اجعلني أزع أي أكف شكر نعمتك، أي أمنعه من أن يذهب عني وينفلت مني، فالمقصود: اجعلني ملازماً لشكرك فلا أنفك لك شاكراً.
(نعمتك) عام يشمل كل نعمة لله عليه وعلة والديه.
(وأن أعمل) معطوف على (أن أشكر) فيقدر مثل تقديره.
(ترضاه) وصف مؤكد وقد يكون للتقييد على ما سيأتي، لأن العمل الصالح يرضى عنه الله، وإنما ذكر الوصف، ليفيد أن رضى الله مقصود بالعمل الصالح.
(أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) اجعلني معهم. أكمل الصالحين الأنبياء والمرسلون صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
وتحقيقه: أن الصالحين بما امتازوا به من كمال صاروا كأنهم في حمى خاص بهم، لا يدخل عليهم فيه إلا من كان مثلهم، فلهم مقامهم في الرفيق الأعلى، ولهم منازلهم في الجنة، ولهم ذكرهم الطيب عند الله وعند العباد. وهذه المنازل والمقامات لا يدخلها العبد إلا برحمة من الله بتيسير لأسبابها، وتفضل عظيم.
المعنى:
لما سمع سليمان – عليه الصلاة والسلام – كلام النملة تَبَسّمَ تَبَسُّمَ السرور والتعجب من قولها، وطلب من ربه – تعالى – أن يلهمه شكر ما أنعم به عليه وعلى والديه، وأن يلهمه عملاً صالحاً ينال به رضاه، وطلب منه تعالى أن يجعله في الصالحين، بأن يثبت اسمه بينهم، ويقرن ذكره بذكرهم، ويلحقه بهم، ويسكنه الجنة معهم، بما يغمره به من رحمته وفضله وإحسانه.
توجيه:
وصدور ذلك الإنذار البليغ من مثل تلك النملة في ضعفها وصغرها طريف مستظرف، ككل شيء يصدر من حيث لا ينتظر صدوره منه، فهذا مبعث تعجب سليمان عليه السلام. وشهادة النملة له ولجنوده بأنهم لو وطئوا النمل لوطئوه عن غير شعور، فهم لرحمتهم وشفقتهم وارتباطهم بزمام التقوى وأخذهم بالعدل لا يتعمدون التعدي على أضعف المخلوقات العجماء. هذه الشهادة أدخلت السرور على سليمان عليه السلام لما دلت عليه من ثبوت هذا الوصف العظيم له ولجنده، وظهوره منهم واشتهارهم به. كما بعث سروره شعوره بما آتاه الله من الملك العظيم والعلم الذي لم يؤته غيره، حتى فهم ما همست به النملة، وهي من الحكل الذي ليس له صوت يستبان في حال من الأحوال.
أدب من سرّته النعمة:
نعم الله على العبد تدخل عليه السرور بجبلة الفطرة، والفرح بنعمة الله من الاعتراف بفضله والإكبار لنواله. ومن أدب العبد – حينئذ – أن يسأل الله التوفيق لشكر تلك النعمة بصرفها في الطاعة والتوفيق بشكرها، بما يقوم به من أعمال صالحة في رضى الله، كما فعل سليمان عليه السلام. إذا أنعم الله على الأبوين بنعمة الإيمان والصلاح، فهي نعمة على ولدهما إذا اتبعهما، وتكون تلك النعمة من الله عليهما سيما في حسن تربيتهما له وتوجيهه في الوجهة الصالحة.
كما أن نعمة الله على الولد هي نعة على والديه فهو من أثرهما، ومثل حسناته في كيزانهما، لأنهما أصل ذلك وسببه، ويدعو له الناس، فيدعون لهما ويدعو هو لهما، وقد يؤذن له فيشفع لهما. فالنعمة على الوالد هي نعمة مزدوجة بينهما، ولهذا ذكر سليمان عليه السلام نعمة الله على والديه مع نعمته عليه.
الغاية المطلوبة:
إن شعور العبد برضى الله عنه، هو أعظم لذة تعجز عن تصويرها الألسن. وإحلال الرضوان على أهل الجنة أكبر من كل ما في الجنة من نعيم؛ فالغاية التي يسعى إليها الساعون ويعمل لها العاملون هي رضى الله. فالعمل الصالح ترتضيه العقول، وتستعذبه الفطر، ولكنه لا يفيد صاحبه إذا لم يبغ به مرضاة الله، ولهذا قال سليمان – عليه السلام - (ترضاه).
جمع وتحقيق:
قال الله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملونC (النحل: 32) فأفاد أن الأعمال سبب في دخول الجنة. وفي هذه الآية: {وأدخلني برحمتك} فأفاد أن الدخول بالرحمة ولا منافاة ما بينهما. فالأعمال سبب شرعي لدخول الجنة، والهداية إليه والتوفيق فيه وقبوله هو رحمة من الله جزاء؛ لأنه لا ينتفع به؛ إذ هو الغني عن خلقه، وإنما تفضل فجعله سببا في نيل ثوابه، ثم تفضل فجعل الجزاء مضاعفاً إلى عشرة أضعاف كثيرة، إلى الموفي للصابرين أجرهم بغير حساب.(/5)
دقيقة روحية:
إن الأرواح النورانية الطاهرة السامية لا لذة لها حقيقية في هذا العالم الفاني المادي المنحط، وإنما لذتها الحقيقية في عالمها العالي الأقدس، وفي الرفيق الأعلى الأطهر، وفي معاشرة أمثالها من النفوس الطيبة الزكية، في ذلك القدس الأسنى، فهي دائمة الشوق إليه، والانجذاب نحوه.
ولذا كان من دعوات الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – الدخول في الصالحين واللحوق بهم؛ مثل قول سليمان هنا، وقول إبراهيم: {رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين} (الشعراء: 83). وقول يوسف: {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} (يوسف: 101).
وفقنا الله لشكر ما مَنَّ به من سابق النعمة، وللقيام فيما بقي من العمر بواجب الخدمة وختم لنا باللحوق بعباده الصالحين آمين.(/6)
نماذج مؤمنة ونماذج كافرة
رئيسي :المنهج :السبت 9 رمضان 1425هـ - 23 أكتوبر 2004 م
في ثنايا التوجيهات والتشريعات القرآنية- ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية- يجد الناظر في هذه التوجيهات منهجًا للتربية، قائمًا على الخبرة المطلقة بالنفس الإنسانية ومساربها الظاهرة والخفية; يأخذ هذه النفس من جميع أقطارها، كما يتضمن رسم نماذج من نفوس البشر واضحة الخصائص، جاهرة السمات حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص والسمات أنه يرى ذوات بعينها تدب في الأرض وتتحرك بين الناس، ويكاد يضع يده عليها وهو يصيح هذه هي بعينها التي عناها القرآن.
وفي هذا الدرس نجد الملامح الواضحة لنموذجين من نماذج البشر :
الأول: نموذج المرائي الشرير، الذلق اللسان الذي يجعل شخصه محور الحياة كلها: والذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره، فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله؛ لم يرجع إلى الحق، ولم يحاول إصلاح نفسه، بل أخذته العزة بالإثم، واستنكف أن يوجه إلى الحق والخير، ومضى في طريقه يهلك الحرث والنسل.
والثاني: نموذج المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه كلها لمرضاة الله، لا يستبقي منها بقية، ولا يحسب لذاته حسابًا في سعيه وعمله.
وعقب عرض هذين النموذجين؛ نسمع هتافًا بالذين آمنوا ليستسلموا بكليتهم لله دون ما تردد، ودون ما تجربة لله بطلب الخوارق والمعجزات كالذي فعلته بنو إسرائيل حين بدلت نعمة الله عليها وكفرتها. ويسمى هذا الاستسلام: دخولًا في السلم، فيفتح بهذه الكلمة بابا للتصور الحقيقي الكامل لحقيقة الإيمان بدين الله، والسير على منهجه في الحياة كما سنفصل .
وفي مواجهة نعمة الإيمان الكبرى وحقيقة السلام التي تنشر ظلالها على الذين آمنوا يعرض سوء تصور الكفار لحقيقة الأمر، وسخريتهم من الذين آمنوا بسبب ذلك التصور الضال، ويقرر إلى جانب ذلك حقيقة القيم في ميزان الله :{...وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...[212]}[سورة البقرة].
يلي هذا تلخيص لقصة اختلاف الناس، وبيان للميزان الذي يجب أن يفيئوا إليه ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وتقرير لوظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويتطرق من هذا إلى ما ينتظر القائمين على هذا الميزان من مشاق الطريق; ويخاطب الجماعة المسلمة فيكشف لها عما ينتظرها في طريقها الشائك من البأساء والضراء والجهد الذي لقيته كل جماعة نيطت بها هذه الأمانة من قبل؛ كي تعد نفسها لتكاليف الأمانة التي لا مفر منها، وكي تقبل عليها راضية النفس مستقرة الضمير; تتوقع نصر الله كلما غام الأفق وبدا أن الفجر بعيد.
الدرس الأول: نموذج المنافق الكاذب، والمؤمن الصالح:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ[204]وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ[205]وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ[206]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[207]}[سورة البقرة].
هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة السعادة والطهارة على الناس..هذا الذي يعجبك حديثه، تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الصلاح {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}. زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيدًا للتجرد والإخلاص، وإظهارًا للتقوى وخشية الله {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار.. هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره.. هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان.
حتى إذا جاء دور العمل ظهر المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وإذا انصرف إلى العمل كانت وجهته الشر والفساد في قسوة وجفوة ولدد تتمثل في: إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد ولا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس .(/1)
ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}. إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض، وأهلك الحرث والنسل، ونشر الخراب والدمار، وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد.. إذا فعل هذا كله، ثم قيل له: اتق الله تذكيرًا له بخشية الله والحياء منه، والتحرج من غضبه؛ أنكر أن يقال له هذا القول، واستكبر أن يوجه إلى التقوى، وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب، وأخذته العزة لا بالحق ولكن بالإثم، فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به وأمام الله بلا حياء منه، وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه! ويتظاهر بالخير والإخلاص والاستحياء.
إنها لمسة تكمل ملامح الصورة وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها، وتدع هذا النموذج حيًا يتحرك، تقول في غير تردد: هذا هو هذا هو الذي عناه القرآن وأنت تراه أمامك ماثلًا في الأرض الآن، وفي كل آن.
وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم، واللدد في الخصومة، والقسوة في الفساد، والفجور في الإفساد.. في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}. حسبه ففيها الكفاية.. جهنم التي وقودها الناس والحجارة.. جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون.. جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة.. جهنم التي لا تبقي ولا تذر.. جهنم التي تكاد تميز من الغيظ.. حسبه جهنم ولبئس المهاد. ويا للسخرية القاصمة في ذكر المهاد هنا، ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء.
ذلك نموذج من الناس.. يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} ويشري هنا معناها يبيع، فهو يبيع نفسه كلها لله، ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله.. ليس له فيها شيء، وليس له من ورائها شيء.. بيعة كاملة لا تردد فيها، ولا تلفت، ولا تحصيل ثمن، ولا استبقاء بقية لغير الله.
يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا ليعتقها ويقدمها خالصة لله، فهو يضحي بكل أعراض الحياة الدنيا، ويخلص بنفسه مجردة لله، وقد ذكرت الروايات سببًا لنزول هذه الآية، قال ابن كثير في التفسير:' قال ابن عباس، وأنس، وسعيد بن المسيب، وأبو عثمان النهدي، وعكرمة، وجماعة: نزلت في صهيب بن سنان الرومي، وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله; فأنزل الله فيه هذه الآية ; فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة، فقالوا له: ربح البيع، فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك، فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية ويروى أن رسول الله ص قال له: [رَبِحَ الْبَيْعُ صُهَيْبَ]' .اهـ
وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث، أو أنها كانت تنطبق عليه؛ فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد: وهي ترسم صورة نفس، وتحدد ملامح نموذج من الناس، ترى نظائره في البشرية هنا وهناك.
والصورة الأولى: تنطبق على كل منافق مراء، ذلق اللسان، فظ القلب، شرير الطبع، شديد الخصومة مفسود الفطرة.
والصورة الثانية: تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان، متجرد لله، مرخص لأعراض الحياة.
وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس; يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان، ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول، وطلاوة الدهان، وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة والنبرة المتصنعة، والنفاق والرياء، والزواق، كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان.
الدرس الثاني: دعوة لصدق الإلتزام بالإسلام وتحذير من الشيطان: وفي ظلال نموذج النفاق الفاجر ونموذج الإيمان الخالص يهتف بالجماعة المسلمة باسم الإيمان الذي تعرف به للدخول في السلم كافة، والحذر من اتباع خطوات الشيطان، مع التحذير من الزلل بعد البيان:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[208]فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[209]}[سورة البقرة].(/2)
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان، هذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة، وأول مفاهيم هذه الدعوة: أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم.. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور، أو شعور، ومن نية، أو عمل، ومن رغبة، أو رهبة لا تخضع لله، ولا ترضى بحكمه وقضاه.. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية، الاستسلام لليد التي تقود خطاهم، وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد، وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن، وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية، وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا; ليخلصوا ويتجردوا، وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم في غير ما تلجلج، ولا تردد، ولا تلفت.
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلام، كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار، لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال: سلام مع النفس والضمير، سلام مع العقل والمنطق، سلام مع الناس والأحياء، سلام مع الوجود كله. وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه ونصاعة هذا التصور وبساطته إنه إله واحد يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه; فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل، ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك- كما كان في الوثنية والجاهلية-، إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة، وهو إله قوي قادر عزيز قاهر فإذا اتجه إليه المسلم؛ فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود، وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح، ولم يعد يخاف أحدًا، أو يخاف شيئا، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر، ولم يعد يخشى فوت شيء، ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء، وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم وضمان من الهوى وضمان من البخس.
ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان، وهو رب رحيم ودود منعم وهاب، غافر الذنب، وقابل التوب، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، فالمسلم في كنفه آمن، آنس، سالم غانم مرحوم، إذا ضعف مغفور له متى تاب، وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام ; فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب وبين الخالق والكون وبين الكون والإنسان.
ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنه مخلوق ليعبد الله من شأنها أن ترفع ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته، فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله; وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه; وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض، وتحقيق منهج الله فيها، فأولى به ألا يغدر ولا يفجر; وأولى به ألا يغش ولا يخدع; وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر; وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة، ولا وسيلة خسيسة، وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور، فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة، والعمل الدائب في حدود الطاقة.
ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق، فهو يعبد في كل خطوة; وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعدًا إلى الله في كل نشاط، وفي كل مجال. وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله في طاعة الله؛ لتحقيق إرادة الله، وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة، والسلام، والاستقرار، والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق، وبلا قنوط من عون الله ومدده، وبلا خوف من ضلال القصد، أو ضياع الجزاء، ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى، وهو يقاتل أعداء الله وأعدائه، فهو إنما يقاتل لله وفي سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، ولا يقاتل لجاه، أو مغنم، أو نزوة، أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.(/3)
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله قانونه قانونه، ووجهته وجهته، فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد، ولا بعثرة للطاقة، وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى الله، وهو معها يتجه إلى الله، والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة، ولتصحيح الفطرة لا تتجاوز الطاقة، ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه، ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء، ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة، ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه، يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام.
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة، وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان، هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي، والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة، التصورات المختلة الموازين.. إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان، وطمأنينة العقيدة، فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار..{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[208]فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[209]}[سورة البقرة].
ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة، حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان، فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان:
إما الدخول في السلم كافة.. وإما اتباع خطوات الشيطان، إما هدى، وإما ضلال.. إما إسلام، وإما جاهلية، إما طريق الله، وإما طريق الشيطان، وإما هدى الله، وإما غواية الشيطان.
وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه فلا يتردد، ولا يتحير بين شتى السبل، وشتى الاتجاهات.. إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدًا منها، أو يخلط واحدًا منها بواحد كلا.. إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر، ومن كل منهج آخر، ومن كل شرع آخر.. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان.. ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بَيْنَ بَيْنَ، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك، إنما هناك حق وباطل، هدى وضلال، إسلام وجاهلية، منهج الله أو غواية الشيطان، والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة، ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة التي لا ينساها إلا غافل، والغفلة لا تكون مع الإيمان، ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان
}فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وتذكيرهم بأن الله عزيز يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة، وأنهم يتعرضون لقوة الله حين يخالفون عن توجيهه، وتذكيرهم بأنه حكيم فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير، وما نهاهم عنه هو الشر، وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره، ولا ينتهون عما نهاهم عنه، فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام .
الدرس الثالث: ميزان المؤمنين، وميزان الكفار في وزن القيم والأشخاص:
وفي ظل هذا التحذير من التلكؤ في الاستجابة، والتبديل بعد النعمة يذكر حال الذين كفروا، وحال الذين آمنوا، ويكشف عن الفرق بين ميزان الذين كفروا، وميزان الذين آمنوا للقيم والأحوال والأشخاص:
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[212]}[سورة البقرة].(/4)
لقد زينت للذين كفروا هذه الحياة الدنيا بأعراضها الزهيدة، واهتماماتها الصغيرة، زينت لهم فوقفوا عندها لا يتجاوزونها، ولا يمدون بأبصارهم إلى شيء وراءها، ولا يعرفون قيمًا أخرى غير قيمها. والذي يقف عند حدود هذه الحياة الدنيا لا يمكن أن يسمو تصوره إلى تلك الاهتمامات الرفيعة التي يحفل بها المؤمن ويمد إليها بصره في آفاقها البعيدة، إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها، لا لأنه أصغر منها همّة، أو أضعف منها طاقة، ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها، ولكن لأنه ينظر إليها من عَلٍ مع قيامه بالخلافة فيها، وإنشائه للعمران والحضارة وعنايته بالنماء والإكثار، فينشد من حياته ما هو أكبر من هذه الأعراض وأغلى، ينشد منها أن يقر في الأرض منهجًا، وأن يقود البشرية إلى ما هو أرفع وأكمل، وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس؛ ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع، وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود، الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف، وضخامة الاهتمام، وشمول النظرة.
وينظر الصغار الغارقون في وحل الأرض المُسْتَعْبَدُونَ لأهداف الأرض، ينظرون للذين آمنوا فيرونهم يتركون لهم وحلهم وسفسافهم ومتاعهم الزهيد، ليحاولوا آمالًا كبارًا لا تخصهم وحدهم ولكن تخص البشرية كلها، ولا تتعلق بأشخاصهم إنما تتعلق بعقيدتهم، ويرونهم يعانون فيها المشقات، ويقاسون فيها المتاعب، ويحرمون أنفسهم اللذائذ التي يعدها الصغار خلاصة الحياة، وأعلى أهدافها المرموقة.
ينظر الصغار المطموسون إلى الذين آمنوا في هذه الحال، فلا يدركون سر اهتماماتهم العليا؛ عندئذ يسخرون منهم يسخرون من حالهم، ويسخرون من تصوراتهم ويسخرون من طريقهم الذي يسيرون فيه:{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}. ولكن هذا الميزان الذي يزن الكافرون به القيم ليس هو الميزان.. إنه ميزان الأرض، ميزان الكفر، ميزان الجاهلية، أما الميزان الحق فهو في يد الله سبحانه، والله يبلغ الذين آمنوا حقيقة وزنهم في ميزانه:{وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
هذا هو ميزان الحق في يد الله، فليعلم الذين آمنوا قيمتهم الحقيقية في هذا الميزان، وليمضوا في طريقهم لا يحفلون سفاهة السفهاء، وسخرية الساخرين، وقيم الكافرين.. إنهم فوقهم يوم القيامة، فوقهم عند الحساب الختامي الأخير، فوقهم في حقيقة الأمر بشهادة الله أحكم الحاكمين، والله يدخر لهم ما هو خير وما هو أوسع من الرزق، يهبهم إياه حيث يختار، في الدنيا، أو في الآخرة، أو في الدارين، وفق ما يرى أنه لهم خير،{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وهو قد يعطي الكافرين زينة الحياة الدنيا؛ لحكمة منه، وليس لهم فيما أعطوا فضل، وهو يعطي المختارين من عباده ما يشاء في الدنيا، أو في الآخرة، فالعطاء كله من عنده، واختياره للأخيار هو الأبقى والأعلى .
وستظل الحياة أبدا تعرف هذين النموذجين من الناس:
تعرف المؤمنين الذين يتلقون قيمهم وموازينهم وتصوراتهم من يد الله; فيرفعهم هذا التلقي عن سفساف الحياة، وأعراض الأرض، واهتمامات الصغار، وبذلك يحققون إنسانيتهم، ويصبحون سادة للحياة لا عبيدًا للحياة.
كما تعرف الحياة ذلك الصنف الآخر الذين زينت لهم الحياة الدنيا، واستعبدتهم أعراضها وقيمها، وشدتهم ضروراتهم وأوهاقهم إلى الطين فلصقوا به لا يرتفعون.
وسيظل المؤمنون ينظرون من عَلٍ إلى أولئك الهابطين، مهما أوتوا من المتاع والأعراض على حين يعتقد الهابطون أنهم هم الموهوبون، وأن المؤمنين هم المحرومون، فيشفقون عليهم تارة، ويسخرون منهم تارة، وهم أحق بالرثاء والإشفاق.
الدرس الرابع: الإبتلاء والمحن سنة الدعوات:
هذه التوجيهات التي تستهدف إنشاء تصور إيماني كامل ناصع في قلوب الجماعة المسلمة تنتهي بالتوجه إلى المؤمنين، الذين كانوا يعانون في واقعهم مشقة الاختلاف بينهم وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، وما كان يجره هذا الخلاف من حروب ومتاعب وويلات، يتوجه إليهم بأن هذه هي سنة الله القديمة في تمحيص المؤمنين وإعدادهم ليدخلوا الجنة، وليكونوا لها أهلا:(/5)
أن يدافع أصحاب العقيدة عن عقيدتهم، وأن يلقوا في سبيلها العنت والألم والشدة والضر، وأن يتراوحوا بين النصر والهزيمة، حتى إذا ثبتوا على عقيدتهم؛ لم تزعزعهم شدة، ولم ترهبهم قوة، ولم يهنوا تحت مطارق المحنة والفتنة، استحقوا نصر الله؛ لأنهم يومئذ أمناء على دين الله، مأمونون على ما ائتمنوا عليه، صالحون لصيانته والذود عنه، واستحقوا الجنة؛ لأن أرواحهم قد تحررت من الخوف، وتحررت من الذل، وتحررت من الحرص على الحياة، أو على الدعة والرخاء، فهي عندئذ أقرب ما تكون إلى عالم الجنة، وأرفع ما تكون عن عالم الطين {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[214]}[سورة البقرة].
هكذا خاطب الله الجماعة المسلمة الأولى، وهكذا وجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته سبحانه في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته، وهو خطاب مطرد لكل من يختار لهذا الدور العظيم، وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه، من الرسول الموصول بالله والمؤمنين الذين آمنوا بالله ،إن سؤالهم متى نصر الله ليصور مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة، ولن تكون إلا محنة فوق الوصف تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال المكروب: متى نصر الله؟
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة عندئذ تتم كلمة الله، ويجيء النصر من الله:{أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}. إنه مدخر لمن يستحقونه، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية، الذين يثبتون على البأساء والضراء، الذين يصمدون للزلزلة، الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله وعندما يشاء الله .
وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى نصر الله، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله، بهذا يدخل المؤمنون الجنة، مستحقين لها، جديرين بها بعد الجهاد والامتحان والصبر والثبات، والتجرد لله وحده والشعور به وحده، وإغفال كل ما سواه، وكل من سواه.. إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوة ويرفعها على ذواتها ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقا وقوة وحيوية فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجًا كما وقع وكما يقع في كل قضية حق يلقي أصحابها ما يلقون في أول الطريق حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم وناصرهم أشد المناوئين وأكبر المعاندين.
على أنه حتى إذا لم يقع هذا يقع ما هو أعظم منه في حقيقته.. يقع أن ترتفع أرواح أصحاب الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة والحرص على الحياة نفسها في النهاية، وهذا الانطلاق كسب للبشرية كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء، كسب يرجح جميع الآلام، وجميع البأساء والضراء التي يعانيها المؤمنون والمؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته، وهذا الانطلاق هو المؤهل لحياة الجنة في نهاية المطاف، وهذا هو الطريق.. هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل.. هذا هو الطريق: إيمان وجهاد، ومحنة وابتلاء، وصبر وثبات، وتوجه إلى الله وحده، ثم يجيء النصر.. ثم يجيء النعيم.
من كتاب:'في ظلال القرآن' للأستاذ/ سيد قطب رحمه الله(/6)
نماذج من قوة تأثير النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن
(تأثر بعض زعماء قريش / تأثر وفد النصارى )
لقد كان كثير من المشركين مقتنعين بأن ماجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وأنه من عند الله تعالى, ولقد كانوا على يقين بأن القرآن كلام الله تعالى وأنه ليس من كلام البشر , ولكن كان يمنع من أصرَّ منهم على الكفر من الدخول في الإسلام هواهم المنحرف , ولقد اعترف بعضهم بنداء عقولهم نحو الاعتراف بصدق النبي صلى الله عليه وسلم كما اعترفوا بأن هوى أنفسهم قد غلبهم فأصروا على ماهم فيه من الباطل .
ومما جاء في هذا المعنى ما أخرجه محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى من حديث الإمام الزهري أنه حَدَّث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته , فأخذ كل رجل منهم مجلسًا ليستمع فيه ,وكلٌّ لايعلم بمكان صاحبه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا , وقال بعضهم لبعض : لاتعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه, فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا , فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة .
ثم انصرفوا فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه , فباتوا يستمعون له , حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض : لانبرح حتى نتعاهد أن لانعود , فتعاهدوا على ذلك , ثم تفرقوا .
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف مايراد بها وسمعت أشياء ماعرفت معناها ولامايراد بها , فقال الأخنس : وأنا والذي حلفت به كذلك .
قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم مارأيك فيما سمعت من محمد ؟
فقال : ماذا سمعت ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف , أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا , حتى إذا تحاذينا على الرّكَب وكنا كفَرسَي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه ؟ والله لانؤمن به أبدًا ولانصدقه , فقام عنه الأخنس وتركه ([1]) .
في هذا الخبر مثلٌ من قوة تأثير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم على السامعين , فهؤلاء فطاحلة الكفر يتسللون سرّا ليستمع كل واحد منهم قراءته ليلاً , مدفوعين إلى هذه المغامرة بما أُخذُوا به من جاذبية بيانه وهيئته الأخاذة وهو يتلو كتاب الله تعالى وبما يحتوي عليه هذا الكتاب العظيم من إعجاز في بيانه ومحتواه .
وبعد أن استمع هؤلاء النفر لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم وقعوا في صراع نفسي بين تغليب منطق العقل وتغليب منطق الهوى والعاطفة , ثم قرروا تغليب جانب الهوى والعاطفة في النهاية ([2]) .
وهذا نوع من السفول في التفكير والانحطاط في درجات الإنسانية حيث ينحدر الإنسان إلى خلائق البهائم العجماوات , ويعطلُ الاستفادة من عقله الذي وهبه الله إياه في أقدس وأعظم أمر يجب أن يفكر فيه وهو مستقبله بعد الموت .
وفي هذا الخبر مثل من الاعتراف بالحق ثم الإصرار على الباطل , وهذه نهاية الصراع بين منطق الهوى ومنطق العقل, وإذا انحط الإنسان إلى هذا الدرك أصبح مختومًا على قلبه فلا يدرك غالبًا إلا ما يتلاءم مع هواه , ولهذا يصدر من مثل هذا كثير من السلوك الذي يزدريه أهل العقل السليم.
وفي هذا الخبر بيان سبب من أهم أسباب الضلال , وهو الاعتصام بالمجد الدنيوي واعتبار الجاه والمنزلة في الدنيا هدفًا يُسعى إليه , فإذا استقر ذلك في القلب أصبح عقيدة يسعى صاحبها لتنميتها والدفاع عنها . وأصبح تفكيره محصورًا فيها مصروفًا عن سماع الحق والتفكير فيه, وبهذا يكون الجاه والمجد الدنيوي من أعظم الأوثان التي تصرف عن عبادة الله تعالى .
ومن أمثلة قوة تأثير النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ما أخرجه الإمام البيهقي من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رقَّ له .
فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: ياعم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً , قال: لم ؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمدًا لتعرض لما قبلَه , قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً , قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له , قال: وماذا أقول فيه فو الله مافيكم رجل أعلم بالأشعار مني, ولا أعلم برجزه ولابقصيده مني , ولا بأشعار الجن , والله مايشبه الذي يقوله شيئًا من هذا , ووالله إن لقَوْله الذي يقول حلاوة وإن عليه لطلاوة , وإنه لمثمر أعلاه , مغدق أسفله , وإنه ليعلو وما يُعْلَى , وإنه ليحطم ماتحته .(/1)
قال : لايرضى عنك قومك حتى تقول فيه , قال فدعني أفكِّرْ فيه , فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره , فنزلت (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (سورة المدثر آية 11 )، ثم ذكر طرقًا أخرى مرسلة وقال: وكل ذلك يؤكد بعضه بعضا ([3]) .
وقد جاء في رواية مقاربة أخرجها ابن إسحاق رحمه الله أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سِنٍّ فيهم , وقد حضر الموسم فقال: يامعشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا , فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا ولاتختلفوا فيكذِّب بعضكم بعضًا ويرد قولكم بعضه بعضًا .
فقالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا فيه رأيًا نقول به , فقال: بل أنتم فقولوا أسمع .
فقالوا : نقول : كاهن , فقال: ماهو بكاهن , لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولاسجعه.
فقالوا : فنقول : مجنون , فقال : ماهو بمجنون , ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولاتخالجه ولاوسوسته.
قالوا : فنقول شاعر , قال : ماهو بشاعر , لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر .
قالوا : فنقول ساحر , قال : فما هو بساحر , لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولاعقدهم .
قالوا : ماتقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : والله إن لقوله طلاوة وإن أصله لَعَذْق ([4]) وإن فرعه لجناة, وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عُرف أنه باطل , وإن أقرب القول لأن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وعشيرته , فتفرقوا عنه بذلك , فجعلوا يجلسون بسُبُل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره .
فأنزل الله عز وجل في الوليد بن المغيرة وفي ذلك من قوله
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) (11 )(وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً) (12 )(وَبَنِينَ شُهُوداً) (13 )(وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً) (14 )(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) (15 )(كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيداً) (16 )(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) (17 )(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) (18 )(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (19 )(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) (20 )(ثُمَّ نَظَرَ) (21 )(ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) (22 )(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) (23 )(فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (24 )(إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (25 )(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) (26 )(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ) (27 )(لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ) (28 )(لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ) (29 )(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) (30 )[سورة المدثر] ([5])
قال ابن إسحاق : وأنزل الله عز وجل في النفر الذين كانوا معه يصنِّفون له القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما جاء به من عند الله (كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ) (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ)(عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الحجر : 90-93] .
قال ابن إسحاق : فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لقوا من الناس, وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها ([6]) .
وقوله : " وإن أصله لعذق" قال السهيلي : وقول الوليد : "إن أصله لعذق وإن فرعه لجناة" استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وقوي وطاب فرعها إذا جني , والنخلة هي العذق بفتح العين, ورواية ابن إسحاق أفصح من رواية ابن هشام لأنها استعارة تامة يشبه آخر الكلام أوله, ورواية ابن هشام : إن أصله لغَدَق , وهو الماء الكثير ([7]) .
وماجاء في رواية البيهقي من قوله "لمغدق" لعلها لغدق كما جاء في الرواية التي حكاها ابن هشام.
وهكذا تبين لنا من هذا الخبر عظمة النبي صلى الله عليه وسلم وقوته في التأثير بالقرآن على سامعيه , فالوليد ابن المغيرة كبير قريش ومن أكبر سادتهم , ومع مايحصل عادة للكبراء من التكبر والتعاظم فإنه قد تأثر بالقرآن ورق له واعترف بعظمته ووصفه بذلك الوصف البليغ المؤثر .
وفي هذا الخبر بيان لصورة من صور المكر الذي كان يقوم به فرعون هذه الأمة أبو جهل من التنفير عن الإسلام فكان كلما رأى رجلاً من أشراف قريش قد مال إلى الإسلام ابتكر من أنواع المكر ما يستطيع به التأثير عليه لإدراكه بأن موازين القوى تتغير بانضمام عدد من الأشراف إلى الإسلام , وقد كان الوليد بن المغيرة من أكابر قريش سنًّا ومنزلة , وقد أظهر إعجابه بما سمع من القرآن ووصفه بذلك الوصف البليغ الذي صدر منه وهو في حال استجابة لنداء العقل وتحرر من نداء العاطفة , فلما دخل في تفكيره كلام أبي جهل غلب عليه نداء العاطفة ففضل البقاء على ميراث الآباء والأجداد وإن كان ضلالاً , وحجب نداء العقل السليم والتفكير المتزن .(/2)
وفي هذا الخبر بيان أثر دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم البالغ على الكفار , حيث حملهم ذلك على الخروج عن مألوف العقلاء , ولاشك أن سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكيم وطهارة سمعته من أي شائبة من الرذائل بعد توجيه الله سبحانه إياه , حمل الكفار على اختلاق تُهَم لا أصل لها فعقدوا لذلك مجلسًا أعلى لتزوير الحقائق , ثم صاروا يفندونها لوضوح بطلانها ورثاثة نسيجها .
وقد استقر رأيهم على اتهام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر مع اعترافهم بِبُعْد مابين فحوى كلامه والسحر, إلا أنهم بعد إ عمال الفكر وجدوا نوع تشابه بين أثر دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومايحدثه السحر من التفريق بين الرجل وابنه وزوجه وعشيرته , فتنفسوا الصعداء مما كان يعانون منه من الضيق وانغلاق الفكر , فأجمعوا على اتهامه بالسحر وهم يعلمون أن هناك فرقًا بين أثر دعوة الحق وأثر السحر الباطل , إلا أنهم لفرط عداوتهم وإفلاس حجتهم تعلقوا من ذلك بأوهى من خيوط العنكبوت .
وهكذا أهل الباطل في كل زمن ماهرون في إلصاق التهم المزيفة بالدعاة إلى الله تعالى , ولكن سرعان ماينكشف باطلهم ويبطل كيدهم لأنهم مهما عملوا لايملكون الهيمنة على عقول الناس, فإذا قارن العقلاء بين نصاعة دعوة الحق وطهارة دعاته من الرذائل , وسمو مقاصدهم , وطموحهم دائمًا نحو المعالي من صالح الأعمال تبين لهم الصفو من الكدر , وزاد تعلقهم بدعاة الحق والتزامهم بتوجيهاتهم الحكيمة .
وفي هذا الخبر مثل من نشاط دعاة الباطل في نشر باطلهم وحمايته مع أنهم لايرجون من ورائه إلا متاع الدنيا ومجدها الزائل , وهذا دافع لأهل الحق إلى أن يضاعفوا من جهدهم في نشر حقهم والدفاع عنه , لأنهم يرجون من الله مالا يرجو أولئك الكفار .
ولئن كانت العاقبة التي يرجوها الكفار من هذه التضحية هي التمكين في الأرض فإن ذلك يحصل للمؤمنين إذا أخلصوا في دعوتهم كما وعدهم الله تعالى , مع ماأعده الله لهم في الآخرة من النعيم المقيم والنجاة من العذاب الأليم .
ومن أمثلة قوة تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ماكان من وفد النصارى الذين أسلموا لما سمعوا القرآن .
قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة , فوجدوه في المسجد , فجلسوا إليه وكلموه وسألوه , ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة , فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا , دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل وتلا عليهم القرآن , فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع , ثم استجابوا له , وآمنوا به , وصدقوا وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره .
فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش , فقالوا لهم : خيَّبكم الله من ركْب! بعثكم مَنْ وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل , فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم , وصدقتموه بما قال ! مانعلم ركبًا أحمق منكم – أو كما قالوا – فقالوا لهم : سلام عليكم , لانجاهلكم , لنا مانحن عليه ولكم ما أنتم عليه , لم نأل أنفسنا خيرًا ([8]) .
وهكذا لما كان هؤلاء النصارى قد تجردوا من الهوى المنحرف , وأقبلوا وهم يريدون معرفة الحق الذي تحدثت عنه كتب أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام ورأوا هذا الحق متمثلاً ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم قد تأثروا بسماع القرآن وبكوا خشوعًا لله تعالى وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم وعرفوا يقينًا أنه النبي الذي بشر به أنبياؤهم عليهم الصلاة والسلام .
ولكن طغاة المشركين لم يعجبهم هذا الموقف , ولما كانوا مفلسين في مجال الحجة فإنهم لم يحاولوا إقناع أولئك النصارى بالعدول عن الإسلام ليقينهم بالفشل في ذلك , ولكنهم حاولوا إفراغ ما في نفوسهم من الحقد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دعوته فسخروا من ذلك الوفد وانتقصوهم , ولما كان أولئك النصارى قد جمعوا بين تهذيب دينهم السابق وما وقر في نفوسهم من اليقين بدين الإسلام فإنهم لم ينزلوا إلى مستوى أولئك المتجبرين المستكبرين بل خاطبوهم بهدوء وسكينة وأشعروهم بأنهم على قناعة تامة بما آمنوا به .
-------------
([1] ) سيرة ابن هشام 1/321 , دلائل النبوة للبيهقي 2/206 , البداية والنهاية 3/62 , وذكره الصالحي من رواية الحافظ محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات عن الزهري عن سعيد بن المسيب وصحح إسناده , سبل الهدى والرشاد 2/352 .
([2] ) يعني في نهاية هذه القصة , وينبغي أن يعلم أن أبا سفيان قد أسلم يوم فتح مكة .
([3] ) دلائل النبوة للبيهقي 2/198 , وذكره الحافظ ابن كثير من رواية البيهقي – البداية والنهاية 3/59. وأخرجه الحاكم من حديث ابن عباس وقال : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه , وأقره الحافظ الذهبي – المستدرك2/506 .(/3)
([4] ) قال ابن هشام : ويقال : لغَدَق .
([5]) المدثر 11 – 30 , وقوله تعالى : (وحيدًا) يعني إن الله تعالى خلق الوليد بن المغيرة وحيدًا لا مال له ولا ولد فرزقه الله المال والولد وفي هذا تبكيت له على كفران النعمة . وقوله (صعودا) يعني عذابا شاقًا .
وقوله (فقتل كيف قدَّر) يعني قاتله الله ما أسوأ تفكيره فهو تعجب إنكاري من تقديره الفاسد .
وقوله ( ثم عبس ) يعني قطب وجهه (وبسر) زاد وجهه تقطيبًا وهو يستلهم فكره المعوج ليسعفه بما يفتري به على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[6] ) سيرة ابن هشام 1/268 , وأخرجه الحافظ البيهقي من طريق ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس .. وذكر مثله – دلائل النبوة 2/99 – 200 .
([7] ) الروض الأنف 3/79 .
([8] ) سيرة ابن هشام 2/412 – 413.(/4)
نموذج من الشباب في الدول النائمة
لن أنسى هذا اليوم ما حييت....لن أنسى نقاش طال ساعة أو ربما أكثر مع فتاة أكثر ما يأسفني القول عنها أنها فتاة شرقية مسلمة.
أسأل نفسي وأستغرب كيف لأنسان ذلك الذي خلق على الفطرة نقيا أن تدنسه الحياة هكذا..؟؟؟ كيف لإنسان رزقه الله العقل أن يكون مستوى تفكيره لا يتجاوز مستوى الحذاء؟؟
أتدرونا ما معنى أن تخاطب إنسان وفي لحظة ينتابك شعور أنك لوكنت تكلم حيوان لكان فهم.
اليوم اتصلت بى احدى الأخوات التي تشارك في عمل تحت عنوان" فلنقتحم عليهم الشات" وهو بمثابة عمل دعوي يحاول أن يقنع الشباب الخروج من الشات والمشاركة في منتديات اسلامية.
اتصلت بي وهي قائلة: أرجوكي أدخلي على هذا الموقع في بنت أرجوكي كلميها .
رحبت بهذا العمل وسألتها على الإسم المستعار ففجئت لا بل أكثر صدمت إذا صح التعبير وتعجبت كيف أن فتاة تتجرد من الحياء إلى هذه الدرجة؟؟؟ كيف؟؟؟
والله للحياء وحده يمنعني من أن أردده على مسامعكم.
دخلت بعد أن توكلت على الله وأنا أسأله أن ييسر أمري ويحل عقدة من لساني لتفقها قولي.
أول ماسألتها سألت عن ان كانت مسلمة؟
فأجابت بكل سرعة: نعم
وتمنيت للحظة أن تقول لا ولا أعرف لماذا يمكن لكي لا أحس بمرارة ما وصلت إليه بعض الفتيات
نشدتها بالله أن تعطيني مبرر فقط ...سبب فقط لا غير لإخيارها ذلك الإسم
فجاوبتني بكل وقاحة: لأن الشباب هكذا يريدون
ولم أحس إلا بنفسي أتكلم وأتكلم قال الله...قال الرسول
حولت جاهدة أن أستفزها...أن أحرك فيها ما مات
لكنها كانت باردة الأعصاب...برودة تشبه برودة الموت كانت لا تحركها كلماتي
نعتها بنعوت تحرك داخل أي فتاة الرغبة في الرجوع عفيفة...أخبرتها أنها سلعة رخيصة تبيع نفسها بنفسها لشباب أكثر منها رخص وتفاهة.
أن التكلم معها لا يختلف عن تصف مجلة اباحية ...
كانت صامتة وخطر على بالي للحظة أن ما أسكتها هو الرغبة في سماع المزيد
ثم فاجئتني بقولها: أنا لست مقتنعة بقولك بالعكس كلما كانت الفتاة متحررة... وكلما تجردت من الحياء أحبها الشباب أكثر والدليل أن الآن جميع شباب الشات يودون مكالمتي بمجرد أن قرؤوا إسمي.
وحلفتها بالله إذا كان هذا شيء يفتخر به...أي افتخار هذا وكل قيمتك كفتاة اختزلت في شيء تافه اسمه غريزة...أي افتخار أن تكون الفتاة مجرد جسم تحوم حوله الذئاب وماذا تفعل الذئاب غير اشباع غريزتها الحيوانية.
أخبرتها أن قيمتها في احترام الناس لها..في النظر إليها أنها إنسانة لها عقل لا جسم فقط وأنها وقتها فقط ستحترم نفسها.
لكن عبثا أحاول
سألتها إذا كانت تعرف أن هذا حرام؟؟
ولا أعرف هل أنها فتاة غبية أو أنها تصطنع الغباء جاوبتني بالحرف: أنا لا أتكلم على العام بل أتكلم على الخاص ثم أنتقل على المسنجر ولا أضن أنني أضر أحد فأنا فقط أستمتع وأمتع...فأين الضرر؟؟ ومن أضر؟؟؟؟ وأين الحرام في الأمر؟؟
اااااااااااه رب عذر أقبح من ذنب ....
قلت لها سألتك بالله ماذا ستفعلين إذا قرأ أحد ما تكتبن؟
فأجابت: لا أحد يراقبني فأنا أتكلم مع الشاب وحده
فقلت لها: لعنك الله كيف تخشين الناس ولا تخشين الله وهو الذي يراك...كيف لا تخشين الله وهو الذي يشهد على ما تكتب يداكي؟؟
كيف تجعلين الله أهون الناظرين إليكي؟؟
قالت: الله غفور رحيم
فقلت لها: من أنساكي أنه شديد العقاب
وبعد وبعد اتستوقفتني قائلة: أختي ....الله يصونك والله يزيدك من عفافه ويهديك أكثر وإدخلي إنتي الجنة ولا يهمك مين يدخل النار.
طلبت منها أن تخرج معي وأن نتكلم خارج الشات
فرفضت وقالت: أرجوكي أتركيني الآن فالضغط عليا كثير والعديد يريد مكالمتي
أخرجي أنتي فمكانك ليس هنا
فقلت لها: ولا مكانك أنتي لأن هذا المكان شبيه ببيوت الدعارة
فرفضت وقالت لي: أتعجب كيف أنك تعيشين في تونس ولست في أفغانستان
فقلت لها: أنا فتاة مسلمة قبل أن أكون عربية ما يحركني إسلامي حتى ولو كنت في أمريكا أو سويد سأظل أنا. أولى عليا أنا أن استغرب كيف أنك مسلمة وتعشين في بلاد مسلمة ولست في بلاد غربية.
وخرجت لكنني وضعت بين يديها اميلي وطلبت منها أن تتصل بي إذا أرادت
وخرجت وأنا أنعي فاطمة الزهراء ...أنعي عائشة وأسماء...أنعي نساء عرفت الإسلام وعاشت من أجل الإسلام.
وجلست لحظات أقرأ ما يكتب على العام فوجدت شباب تافه....شباب مخدر لا يفقه ما يدور حوله.
ووجدت نفسي كالعادة تثور دمائي الشرقية بداخلي وطلبت منهم أن يرفعوا مستواهم وأنه عار عليهم أن يكونوا من المسلمين ولا يشغلهم أمر الأمة لا يلفت انتباهمم ما يجري في فلسطين..لا يثيرهم ما يحصل اليوم في لبنان
وفجأة تلقيت الصفعة الثانية حين قال لي أحد الشباب: أرجوكي أخرجي فالشات مكان فرفشة وهزار وممنوع دخول المثقفين.
لا أفهم والله لماذا لا يستغل شبابنا الشات لتحاور لتكلم في أشياء أهم من الترهات التي تردد كل يوم.
يا خسارة اليوم بالذات تأكدت إنه مازال كثير لكي تتحرر فلسطين والعراق.(/1)
والله ان ماحصل اليوم لأبكاني...بكيت حين تذكرت العذاب الذي عاناه حبيبي رسول الله صلوات ربي عليه حتى تكون هذه الفتاة مسلمة ويكون أولائك الشباب مسلمين
بكيت الصحابة..بكيت الشهداء...وبكيت مجاهدينا اليوم في كل مكان.
يا درةً حُفظت بالأمس غالية واليومَ يبغونها للهو واللعبِ
يا حرةٍ قد أرادوا جعلها أمة غريبة العقل غريبة النسبِ
هل يستوى مَنْ رسولُ الله قائدهُ دوماً ، وآخَرُ هاديهِ ، أبو لهبِ
وأين مَنْ كانت الزهراءُ أُسوتها ممَنْ تقفت خُطى حمالة الحطبِ
فلا تبالي بما يلقون من شيه وعندك الشرع إن تدعيه يستجب
سليه من أنا ؟ من أهلي ؟ لمن نسبى للغرب أم أنا للإسلام والعرب؟
لمن ولائي؟ لمن حبي؟ لمن عملي؟ لله أم لدعاة الإثم والكذبِ ؟
هما سبيلان يا أختاه مالهما من ثالث ، فأكسبي خيراً أو اكتسبي
سبيل ربك ، والقرآن منهجه نورٌ من الله لم يحجب ولم يغب
فاستمسكي بعرى الإسلام وارتفعي بالنفس من حمأة الفجار واجتنبي
صوني حياءك ،صوني العرض لا تهني وصابرى ، واصبري لله واحتسبي
شعر الشيخ محمد حسان
اللهم اصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أعمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها ميعادنا وأجعل الحياة زيادة في كل خير وأجعل الموت راحة من كل شر اللهم اني أعوذ بك من شر سمعي ومن شر بصري ومن شر لساني ومن شر قلبي
اللهم آمين(/2)
نهاية الأحمدية القاديانية عام 2008م
(أحقاً هو نبي ؟!)
أ . د . إبراهيم محمد خان
إن مبتدع هذا الإدعاء هو غلام ميزرا أحمد مؤسس الطائفة القاديانية نسبة إلى قاديان والسبب الذي دعاه إلى ابتداع هذه المقولة هو إدعاؤه أنه هو المسيح الموعود، الذي تحدث عنه القرآن الكريم والأحاديث النبوية المطهرة ، فحسب فكرنا الإسلامي المسيح قد رُفع بالجسد إلى السماء . وهناك شبه إجماع على أنه سوف يأتي مرة ثانية قبل قيام الساعة لُيطبق هذه النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على نفسه، . وحتى يستطيع غلام أحمد إدعاء المهدية وأنه المسيح الموعود كان يجب أن يموت المسيح ويُدفن ويكون له قبر معروف وبهذا يستطيع أن يفسر عودة المسيح ثانية، بأنها عودة روحية، وليس مجيئاً حرفياً للمسيح، وهكذا روج لمقولة القبر بعد أن أفاق من إغمائه(1) وفر إلى الهند، "إن المسيح صُلب ولكنه لم يمت على الصليب، بل أغمي عليه فقط ودُفن ثم خرج من وعاش هناك حتى بلغ وأعلن أن قبره موجود في سرنجار في كشمير.120 عاماً من عمره، ثم مات ودفن.
وقد كتب الشيخ عبد الوهاب النجار: "يوجد رأي في في مسألة المسيح جاء به غلام أحمد القادياني، وهو من بلدة قاديان في الهند. قال: إن المسيح أنجاه الله من كيد اليهود فذهب إلى بلاد الهند واستقر في بلدة كشمير في شمال الهند بسفح جبال همالايا، وأقام هناك إلى أن وفاه أجله ودُفن في تلك البلاد بقرب بلدة سرنجار وله قبر معروف. هذا الرجل أدعى أنه المسيح الموعود بمجيئه. ولكن كيف يكون هو المسيح، وهو معروف بأنه غلام أحمد القادياني، معروف النسب ومعروف الأسرة؟ فذهب إلى تأويل الأمر، على أن المسيح مات ولا يمكن أن يأتي، ولما كانت الأحاديث دالة على أنه سيأتي في آخر الزمان. قال: أنا المسيح بمعنى أني آت بهديه وتعاليمه من بث السلام والرحمة والتعاطف والمحبة... وفي رأيي أن دعواه مجئ المسيح إلى الهند أمر يحتاج إلى بحث واف وتحقيق دقيق، ولا يمكن تصديقه إلا بظهور الأمر ظهوراً بيناً وثبوته ثبوتاً قاطعاً لكل شبهة، ولو ثبت ذلك ما أفاده شيئاً، لأننا إذا تمشينا مع الأحاديث وجدنا فيها علامات منها أنه يقتل الدجال.. وهذا لم يحصل من ذلك الرجل" (2)
فمن هو هذا الغلام؟
غلام ميرزا أحمد، وُلد في قرية قاديان في أقليم البنجاب، سنة 1839 أو 1840م وإلى قاديان نُسب مذهبه، فدعي القاديانية أو الأحمدية، نسبة إليه هو. بعد وفاة الغلام أحمد تولى الخلافة أستاذه الحكيم نور الدين، ثم تنازعها بعد وفاته بشير الدين محمود (نجل الغلام)، والمولوى محمد علي، الذي قاد جناح المعارضة، وقد بايعته الأغلبية وانتقل إلى لاهور. وهناك أسس الشعبة اللاهورية. وبعد انقسام الهند تركوا الهند إلى باكستان، لأن قاديان مسقط رأس الغلام وقعت فى حدود باكستان، لذلك أمر بشير الدين أتباعه بتركها والذهاب إلى باكستان، حيث أسس مدينة جديدة أسماها "الربوة" وأدّعى أنها هي التي ورد ذكرها في القرآن "كمثل جنة بربوة" البقرة 265، و"إلى ربوة ذات قرار معين" المؤمنون 50.
وفي عامي 1939/1940م حاولت جماعة لاهور أن تنال تأييد الجامع الأزهر لدعوتها فبعثت بطالبين وألحفتهما بكلية أصول الدين، وحاول هذان الطالبان نشر كتابين باسميهما تحت ستار الإسلام، أحدهما سمياه "تعاليم أحمدية" والثاني "الأحمدية كما عرفتها". وهذان الكتابان كانا بداية نشر تعاليم القاديانية في مصر بتعاليم القاديانية. فلما علم شيخ الجامع الأزهر بأمر هذين الطكالبين شكل لهما لجنة للتحقيق معهما والتحقق من مذهبهما وكانت هذه اللجنة برئاسة الشيخ عبد المجيد اللبان عميد كلية أصول الدين وقتها. وكتبت اللجنة في قراراتها".. إن القاديان كافرون"، وفصل الطالبان من الكلية واعتبرا ملحدين. ونشرت عنهما الصحف المصرية. ومن هنا استمر استبعاد القاديانيين والأحمديين من الدراسة في الأزهر.(3)
مختصر العقيدة القاديانية(4)
يعتقد القاديانيون:
1 - أن لهم إلهاً يتصف بصفات البشر.
2 - أن الأنبياء والرسل يبعثون إلى يوم القيامة.
3 - أن غلام أحمد نبي الله ورسوله والمسيح الموعود.
4 - أن غلام أحمد يُوحي إليه عن طريق الملاك جبرائيل.
5 - أنهم أصحاب دين جديد منفصل عن الأديان كلها، وأن لهم شريعة جديدة.
6 - أنهم أمة جديدة ولها كتاب مُنزل اسمه "الكتاب المبين".
7 - إلغاء عقيدة الجهاد.
8 - أن كل إنسان كافر حتى يدخل القاديانية.
9 - حجهم هو حضور المؤتمرالسنوي في قاديان التي لها مكانة مكة، بل هي أفضل منها.
ادّعاء غلام أحمد النبوة:
مر هذا الادعاء بمراحل ثلاث:
1 - المرحلة الأولى: بدأ الغلام دعوته بأنه مجدد، وأن العناية الإلهية، قد اختارته ليجدد للأمة أمور دينها، ولم لا أو ليست الأمة كلها تعتقد أن الله يبعث على كل رأس قرن من يجدد لها دينها(5)(/1)
وفي هذه المرحلة نفى أنه نبي، وقال: :إني ما أدعيت النبوة قط، ولا قلت لهم إني نبي، ولكنهم تعجلوا وأخطأوا فهم قولي.. وإني ما قلت للناس سوى ما كتبت في كتبي أي أني محدث وأن الله يكلمني كما يكلم المحدثين(6). وقال: "لا نقول بوحي النبوة، ولكن نقول بوحي الولاية الذي يتلقاه الأولياء.. وبالجملة ليست هنا أيضاً دعوى النبوة وانما دعوة الولاية والتجديد(7)
2 - المرحلة الثانية: ادعاؤه أنه المسيح الموعود
في المرحلة الأولى من أطوار دعوته كان الغلام أحمد يؤمن أن عيسى قد رفع إلى السماء حياً، وأن رفعه إلى السماء وعودته مرة أخرى لا تقتصر شواهده على ما ذكره الإنجيل، إنما قام على ذلك في الإسلام شواهد أقواها وأهمها عنده التواتر، وهو أن الأمة الإسلامية قد تناقلت هذه العقيدة جماعة عن جماعة إلى النبي، ولكنه عاد وناقض نفسه قائلاً: :فمن سوء الأدب أن يقال أن عيسى (ع) ما مات.. بل هو توفى كمثل أخوته، ومات كمثل أهل زمانه، وأن عقيدة رفعه قد جاءت في المسلمين من الملة النصرانية(8).
وفي أخر المرحلة الأولى جاءت إلى الغلام رسالة من صديق عمره الحكيم نور الدن يعرض عليه فيها أن يدعى أنه المسيح الموعود، وأنه لو فعل ذلك لاستقبله الناس بالتجلة والأكبار وأن الأحاديث الواردة في عيسى ورفعه ونزوله من السماء، بل والآيات القرآنية يمكن تأويلها بما يناسب دعوته. وقد انزعج الغلام انزعاجاً شديداً من هذا العرض وأدرك أنه ربما يعجل بسمعته، بل ربما يؤدي بحياته كلها، وأنه من الأفضل له أن يؤثر السلامة وأنه يكفيه من الناس ثقتهم به على أنه ولي مجدد مُلهم من ربه، ولقد عبر الغلام عن خلجات نفسه، ومكنون صدره في رسالته التي بعث بها إلى الحكيم نور الدين، والتي أسماها "الخالدة" وقال فيها: "لقد تساءل الأستاذ الكريم ما المانع من أن يدّعى هذا العاجر أنه مثيل المسيح وينحني في مصداق الحديث الذي جاء فيه أن المسيح ينزل في دمشق، وأي خطر في ذلك؟ فليعلم الأستاذ الكريم أن العاجز ليست له حاجة أن يكون مثيل المسيح، أن همه الوحيد أن يدخله الله في عباده المتواضعين المطيعين". ولكن نتيجة لخياله المريض وأحلامه الجامحة ودهاء الحكيم نو الدين، وتشجيع الإنجليز، أعلن أنه المسيح الموعود الذي بعثه الله من جديد" (9).
وفي البداية قال: إنه مثيل المسيح، وأنه لا مانع أن يأتي بعده عشرات المسحاء " أنا أدعيت أني مثيل المسيح، لا المسيح الموعود كما ظنه السفهاء... أنا لا أدعي قطعاً بأني المسيح بن مريم، بل الذي يقول هذا عني هو مفتر كذاب ودعواى أني مثيل المسيح تعني أن فيّ بعض خصال المسيح(ع) الروحانية وعاداته وأخلاقه التي أودعها الله في خُلقي، وأكد هذه بالقول: :أنا ما أدعيت بأني أنا المسيح الموعود، ولا يكون بعدى مسيح آخر بل أعتقد وأكرر هذا القول بأنه من الممكن أن يجئ بعدي لا المسيح الواحد بل عشرات آلاف"(10) ثم بعد ذلك قال إنه المسيح الموعود "أقسم بالله الذي أرسلني والذي لا يفترى عليه إلا الملعونون، أنه أرسلني مسيحاً موعوداً (11)
وأن "دعواى أني أنا هو المسيح الموعود الذي أُخبر عنه في جميع الكتب المقدسة بأنه سيظهر أخر الزمان"(12) وأعلن: "أن الله بعث من هذه الأمة المسيح الموعود الذي هو أعلى شأناً من المسيح السابق وسمي هذا المسيح غلام أحمد"(13) وقد كرر هذا الإدعاء كثيراً جداً في كتبه وخطبه ونكتفي بما سبق.
3 - المرحلة الثالثة: ادعاء النبوة:
قبل سنة1900م إنكر الغلام أنه نبي إنكاراً تاماً، ففي سنة 1892م كتب: "إني التمس من جميع المسلمين، أن الكلمات التي وردت في كتب هذا العاجز (كفتح الإسلام، وتوضيح المرام، وإزالة الأوهام)، مثل: المحدث نبي ببعض معانيه، أو المحدثية نبوة ناقصة أو المحدثية نبوة جزئية" فليست هذه الكلمات بمحمولة على معانيها الأصلية، بل استعملت بسذاجة على وجوهها اللغوية، وألا فأني لا أدعي النبوة الحقيقة أبداً.. لهم أن يفهموا كلمة "المحدث" مكان النبي في كل موضع.. وليصوروها -أي كلمة النبي- منسوخة"(14)
وقال: "لا شك أن الإلهام الذي أنزله الله على هذا العبد قد استعملت فيه بكثرة كلمات النبي، والرسول، والمرسل بالنسبة لهذا العاجز، فليست هي بمحمولة على معانيها الأصلية... ولكن الله إذا شاء خاطب أحداً بكلمة النبي أو الرسول بمقتضى المعاني المجازية"(15)
ونفى أن تكون النبوة والرسالة بالمعنى الحقيقي "إنه وإن كان ألهم العاجز بالتواترخلال العشرين سنة الماضية، وقد وردت في هذا الإلهام كلمات الرسول أو النبي ولكنه يخطئ من يظن أن المراد بهذه النبوة والرسالة، النبوة والرسالة الحقيقيتين(16)(/2)
وأوضح أن المحدث أيضاً نبي ببعض معانيه، وإن لم تكن له النبوة التامة ولكنه نبي بصفة جزئية لأنه مُشرف بكلام الله، وهو يطلع على الأمور الغيبية ويُحفظ وحيه أيضاً كوحي الأنبياء من تدخل الشيطان" (17) وصرح أن استعمال كلمة النبي على غير معناها الحقيقي لا يستلزم الكفر "إن هذا العاجز ما إدعى النبوة أو الرسالة الحقيقية في حياته، ولا يستلزم الكفر أن يستعمل المرء كلمة على وجه غير حقيقي، ويستعملها مع الناس على معناها الشامل من جهة اللغة" (18)
وفي سنة 1900م بدأ أصحابه المقربون منه يتحدثون عنه باعتبار أنه نبي هذه الأمة الجديد الذي أصطفاه الله محل وحيه ورسالته، كما جاء في خطبة الجمعة في 7/8/ 1900م للمولوي عبد الكريم، أمام مسجد دلهي وأحد أتباع الغلام. وفسرت النبوة في هذه المرحلة على أنها نبوة ناقصة أو نبوة ظلية، فقد قال بشير الدين محمود: "إذا قيل إنه نبي فإنما نبوة جزئية أو نبوة ناقصة"(19)
وفي سنة 1901مأعلن الغلام أنه نبي مثل سائر الأنبياء، وأنه يوحى إليه، وملك الوحي هو جبرائيل، وقد كثرت أقواله التي تؤيد وتؤكد بنوته مثل "هو الإله الحق الذي أرسل رسولاً في قاديان" (20)
"أنا رسول ونبي، أي أنني باعتبار الظلية الكاملة مرآة فيها انعكاس كامل للصورة المحمدية والنبوة المحمدية" (21)
" والذي نفسي بيده أنه أرسلني وسماني نبياً" (22)
وأعلن "أن زهاء مائة وخمسين بشارة من الله وجدتها صادقة إلى وقتنا هذا، فلماذا أنكر اسمي نبياً ورسولاً، وبما أن الله هو الذي سماني بهذه الأسماء فلماذا أنكرها أو لماذا أخاف غيره؟" (23)
وقد حاول أن يرد على التعارض في أقواله "قبل بضع أيام اعترض مخالف على رجل من أتباعي بأن الذي بايعته يدعي أنه نبي ورسول، فأجابه بالنفي المحض، مع أن هذا الجواب غير صحيح، والحق أن وحي الله الظاهر الذي ينزل علىّ جاء فيه لفظ رسول ومرسل ونبي، وليس مرة واحدة بل مئات المرات. فكيف يصح هذا الجواب"(24).
القاديانية نحلة منشقة على الإسلام، ويرى د. عوف أنها "نحلة اتسمت بالكفر، ولكنها أخفت حقيقتها، وظهرت ببدع لم تكن ضمن أفكار المسلمين، فلطخت بها تاريخها وهذه البدع لفظها العلماء والمفكرون المسلمون، وانصاع لها الدهماء وطلاب المنافع منساقين في تيارها ومضلين ببريقها، بدأت هذه الفرقة تستقطب حولها كل من ضعف إيمانه ووهنت عقيدته وأخذ دعاة القاديانية يبثون فيهم آراءهم وينفثون في نفوسهم أفكارهم البراقة والخادعة"(25)
بل أن الأمة الإسلامية قد أجمعت على أن الذين يتبعون ميزرا غلام أحمد -سواء أكانوا يؤمنون بنبوته أم أكانوا يعتبرونه مصلحاً أو زعيماً دينياً في أي صورة من الصور- خارجون عن دائرة الإسلام(26)
بعض الأمور التي خالفت فيها القاديانية الإسلام:
1 - إدعاء النبوة:
حسب المفهوم الإسلامي، أنه لا نبوة بعد محمداً صلى الله عليه وسلم ، ففي القرآن الكريم محمد هو خاتم الأنبياء "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين" الأحزاب 40.
وفي الأحاديث النبوية نجد:
- قال المصطفى صلى الله عليه وسلم "إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي" رواه الترمذي.
- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "كانت بني إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي" صحيح البخاري.
- قال محمد: "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريباً من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله" صحيح البخاري وصحيح مسلم.
- "إنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي" صحيح مسلم.
وهناك تفاصيل كثيرة حول هذا الموضوع، ليس هنا مكانها، فليرجع إليها من يريد الاستزادة.
2 - إدعاء أنه المسيح الموعود:
كان الغلام في المرحلة الأولى يدّعي أنه مجدد ومحدث، وأن المسيح ُرفع إلى السماء وسيأتي ثانية، ثم في المرحلة الثانية ادعى أنه المسيح الموعود، "ولما سأله رجل: ما هذا التناقض الذي نراه في عباراتك، فحيناً تكتب عن نفسك أنك لست نبياً وحيناً تعتبر أنك أعلى شأناً من المسيح الموعود؟ فأجابه قائلاً: أعلم أن هذا التناقض هو مثل ما كنت كتبت في (براهين أحمدية) أن المسيح بن مريم ينزل من السماء، إلا أنني كتبت فيما بعد أن المسيح الموعود هو أنا فلم يكن سبب هذا التناقض إلا أن الله سماني عيسي في (براهين أحمدية). وقال لي: " إن الله ورسوله قد أخبرا بمجيئك، ولكن لما كانت جماعة من المسلمين تعتقد كما كنت أعتقد أن سيدنا عيسى ينزل من السماء، أحببت أن لا أحمل وحي الله على ظاهره، بل أوّلته وجعلت اعتقادي كعامة المسلمين ونشرته في (براهين أحمدية)، ولكن سرعان ما نزل عليّ الوحي كالمطر الغزير في هذا الصدد أن المسيح الموعود هو أنت نفسك، وظهرت معه مئات الآيات، وصدقتني السماء والأرض، وأخبرتني آيات الله البينات على أنني هو المسيح الموعود في آخر الزمان، وأن اعتقادي سابقاً هو ما كتبته في (براهين أحمدية)"(27)(/3)
وقد أكد هذا الكلام مرة أخرى محدداً مدة غفلته "بقيت إلى اثنتي عشر سنة غافلاً كل الغفلة عن أن الله قد خاطبني بالمسيح الموعود بكل إصرار وشدة في (البراهين الأحمدية) وما زلت على عقيدة نزول عيسى العامة، ولكن لما انقضت اثنتا عشر سنة آن أن تنكشف عليّ العقيدة الثانية فتواتر عليّ الإلهام أنك أنت المسيح الموعود"(28). وهو بهذا الإدعاء خالف شبه إجماع إسلامي، وعقيدة ثابتة في القرآن والأحاديث "فلقد ثبت قطعياً في ضوء الكتاب والسنة وإجماع الأمة وضوء عقائد ميرزا غلام أحمد وأحواله الشخصية أن الميرزا ليس هو المسيح الذي وُعد به عند قرب الساعة، وأن الاعتراف بكونه المسيح الموعود تكذيب للقرآن الكريم والسنة المتواترة وإجماع الأمة، والذين يعتبرون الميرزا المسيح الموعود فهم كفار وخارجون عن دائرة الإسلام" (29).
3 - إلغاء الشريعة:
لقد نادى الغلام بإلغاء شريعة الجهاد. ويرى د. طه الدسوقي "كانت مهمة المتنبى الجديد الذي صنعه الإنجليز في الهند أن يقوم بزعزعة هذا التشريع وإضعافه، فإذا كان تشريع الجهاد قد ارتبط بعقيدة دينية، فإن من الممكن في تصور الحكومة الإنجليزية أن تتبدل هذه العقيدة على أساس ديني أيضاً.. ولذلك كان القرار أن يقوم غلام أحمد القادياني بإعلان أن الله قد أوحى إليه باعتبار أنه نبي هذه الأمة الجديدبالغاء فكرة الجهاد"(30)
وقد كتب الغلام "اليوم ألغي حكم الجهاد بالسيف، ولا جهاد بعد هذا اليوم، فمن يرفع بعد ذلك السلاح على الكفار ويُسمي نفسه غازياً، يكون مخالفاً لرسول الله، الذي أعلن قبل ثلاثة عشر قرناً بالغاء الجهاد في زمن المسيح الموعود وأنا المسيح الموعود ولا جهاد بعد ظهوري الآن، فنحن نرفع علم الصلح وراية الأمان(31)
وهاجم عقيدة الجهاد قائلاً: "إن هذه الفرقة -القاديانية- لا تزال تجتهد ليلاً ونهاراً لقمع العقيدة النجسة، عقيدة الجهاد من قلوب الناس"(32)
ودعا إلى ترك الجهاد: "اتركوا الآن فكرة الجهاد، لأن القتال قد حُرم وجاء الأمام والمسيح ونزل نور من السماء. فلا جهاد، بل يجاهد في سبيل الله هو عدو الله ومنكر النبي(33). وقال: "لا يوجد في هذه الفرقة -القاديانية- جهاد بالسيف ولا ينتظر له، بل هذه الفرقة المباركة لا تجيز تعليم الجهاد سراً ولا علانية، وهي ترى أن الحروب لنشر الدين محرمة قطعاً" (34)
يقول د. عوف: "لقد ألغى شريعة الجهاد، لأن وجوده يعتمد على وجود الاحتلال البريطاني" وقد كتب الغلام في (نور الحق) "ولا يجوز لمسلم أن يقاتل ضد هذه الحكومة مهما كان"، وقال: في (تبليغ الرسالة) "إني من أول عهد عمري إلى هذا الوقت وهو قرآبة ستين عاماً اشتغل في هذا الأمر المهم بلساني وقلمي لأجذب قلوب المسلمين نحو الحكومة البريطانية العظمى، كما أبذر في قلوبهم بذور الحب الصادق والصداقة المباركة، كما أبعد وأزيل من قلوب بعض الذين لا يعقلون عقيدة الجهاد الخاطئة، التي تعكر من الصفاء وتضع العقبات في سبيل العلاقات البرئية والاخلاص مع الحكومة البريطانية"(35)
وبالغائه شريعة الجهاد يكون قد خالف كثيراً من النصوص القرآنية التي تحض على الجهاد في سبيل الله مثل: "وقاتلوهم حتى لا تكون قتنة ويكون الدين لله " البقرة 193 وأيضاً خالف الأحاديث النبوية مثل: "لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة" رواه مسلم
4 - إلغاء فريضة الحج:
يضع القادينيون مدينة القاديان في مرتبة واحدة مع المدينة المنورة، ومكة المكرمة، بل يرون أنها أفضل وأن أرضها أرض حرام وتقام فيها شعائر الله. وقد أعلن الخليفة الثاني (نجل الغلام): "أقول لكم صدقاً أن الله أخبرني بأن أرض قاديان ذات بركة، وتنزل فيها نفس البركات التي تنزل في مكة المكرمة والمدينة المنورة"(36)
ومن معتقداتهم أن الحج هو الحضور السنوي في قاديان، يقول الغلام: "إن مؤتمرنا االسنوي هو الحج، وأن الله اختار المقام لهذا الحج القاديان"(37)
ويرى أحد أتباعه: "الحج إلى مكة بغير الحج إلى قاديان هو حج جاف خشيب، لأن الحج إلى مكة لا يؤدي رسالته ولا يفي بغرضه"(38)
وهو بهذا قد خالف العقيدة الإسلامية في أحد أركانها الخمسة. وخالف النصوص القرآنية: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" آل عمران93. وأيضاً "وأتموا الحج والعمرة لله" البقرة 196، وأيضاً "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق. الحج 27
يضاف إلى هذا الأحاديث النبوية الكثيرة التي تتحدث ضرروة الحج وفوائده.
موقف القاديانية من المسلمين:(/4)
1 - تكفيرهم للمسلمين: لقد كفر القاديانيون المسلمين لأنهم لم يؤمنوا بنبوة الغلام، حسبما علّم بذلك الغلام وخلفاؤه من بعده، فقد صرح الغلام أحمد بأن: "الذي لايؤمن بي لا يؤمن بالله ورسوله"(39) وأعلنها خليفته الميرزا بشير الدين "أن جميع المسلمبن الذين لم يشتركوا في مبايعة المسيح الموعود كافرون خارجون عن دائرة الإسلام(40) وقال أيضاَ: "لقيني رجلاً في لكنهو وسأل بأنه قد اشتهر في الناس بأنكم تكفرون المسلمين الذين لم يعتنقوا القاديانية، فهل هذا صحيح؟ فقلت له: نعم، لا شك بأننا نكفرهم"(41)
وهم يكفرون المسلمين ليس فقط بسبب عدم الإيمان بنبوة الغلام، فقد نُشرت لخليفة القاديانية في جريدة الفضل في 21/ 8/ 1927م مقالة بعنوان: "نصائح للطلاب" جاء فيها: "قد قال المسيح الموعود، إن إسلامهم -أي المسلمين- غير إسلامنا وإلههم غير إلهنا وحجهم غير حجنا، وهكذا نخالفهم في كل شئ"(42). وجاء في نفس الجريدة في 30/7/ 1931م من الخطأ الظن بأننا لا نخالف المسلمين إلا في مسألة وفاة المسيح، أو غيرها من المسائل الأخرى بل أننا نخالفهم في ذات الله وفي الرسول والقرآن والصلاة والحج والزكاة (43) ونتيجة لهذا التفكير أمر الغلام وخلفاؤه أتباعهم بما يلي:
أ- عدم الصلاة خلف غير الأحمديين:
قال الغلام: "إن المكفرين ومن يختار طريق التكذيب قوم هالكون، فلا يستحقون أن يصلي خلفهم أحد من جماعتي، وهل يصلي الحي وراء الميت؟ فأعلموا أنه حرام عليكم قطعياً، كما أخبرني الله أن تصلوا خلف كل مكفر أو مكذب أو متردد، وليكن أمامكم منكم وإلى هذا جاءت الإشارة في حديث البخاري "أمامكم منكم" أي عندما ينزل المسيح فعليكم أن تفارقوا جميع الفرق التي تدعي الإسلام(44). وأعلن أن هذا حكم الله "هذا هو مذهبي المعروف: أنه لا يجوز لكم أن تصلوا خلف غير القاديانيين مهما يكن ومن يكن، ومهما يمدحه الناس، فهذا حكم الله وهذا ما يريده الله(45). وقال خليفته الثاني: "لا يجوز لأحد أن يصلي خلف غير القادياني والناس يكررون هذا السؤال، هل تجوز الصلاة خلفهم أم لا؟ فاقول وأقول: مهما تسألوني أنه لا يجوز للقادياني أن يصلي خلف غير القادياني(46)
ب - منع الأحمديات من الزواج بغير الأحمديين:
قال الميرزا محمود: "لا يجوز لأي قادياني أن ينكح ابنته من غير القادياني، لأن هذا أمر من المسيح الموعود، أمر مؤكد(47). بل أن هذا يؤدي إلى الخروج من الجماعة: "من ينكح ابنته من غير القادياني فهو خارج من جماعتنا مهما يدعي القاديانية، وأيضاً لا ينبغي لأحد من أتباعنا أن يشترك في مثل هذه الحفلات"(48)
وقال ميرزا بشير الدين: "إن حضرة المسيح الموعود قد غضب غضباً شديداً على أحمدي أراد أن يزوج ابنته غير أحمدي، وقد سأله الرجل مراراً وقدم إليه أعذاراً ولكنه أجابه قائلاً: أبق ابنتك عندك ولا تزوجها غير أحمدي، فزوجها الرجل غير أحمدي بعد وفاته، فعزله الخليفة الأول عن إمامة الأحمديين وأخرجه من الجماعة ولم يقبل توبته مدة خلافته ستة سنوات مع أنه تاب مراراً، والآن قبلت توبته بعدما جربت عليه صدقاً"(49) ثم قال: ليس من عادتي إخراج أحد من الجماعة ولكن من يخالف هذا الحكم اطرده من الجماعة(50)
جـ - عدم الصلاة على موتى غير الأحمديين
قال الخليفة الثاني: "لا تشاركوا المسلمين في حفلات الزواج ولا غيرها، ولا تصلوا على جنائزهم، لأنه ليس لنا أي علاقة بهم، وبعد أن قطعت الروابط والصلات ولم يعد يهمنا ما يهمهم، فمن أين لنا أن نصلي على أمواتهم"(51)
والغلام نفسه لم يصل على ابنه الحقيقي، لأنه لم يؤمن به ومات على حالة الإسلام(52). "وتمسكاً بهذه العقيدة وأمتثالاً لحكمها، لم يشارك محمد ظفر الله خان وزير خارجية باكستنان -في ذلك الوقت- في صلاة الجنازة على مؤسس باكستان محمد جناح، وعندما سُئل لماذا لم تصل على مؤسس باكستان؟ أجاب قائلاً: إما تعتبروني وزيراً مسلماً للدولة الكافرة، أو موظفاً كافراً للحكومة المسلمة"(53)
وكتبت إحدى الصحف: "يتعجب بعض الناس من صنيع ظفر الله خان هذا، ولكن الحق أنه لا مجال فيه للتعجب، لأن الذي فعله كان نتيجة حتميه للدين الذي اختاره، وأن دينه ومذهبه وعقائده وأفكاره وأمته، كل ذلك لا يختلف عن المسلمين فحسب، بل يضادهم. فكيف كان له أن يصلي على القائد الأعظم صلاة الجنازة"(54)
موقف المسلمين من القاديانية(55)
يرى د. محمد أقبال: "إن كل مجتمع ينفصل عن الإسلام وله طابع ديني يقوم على أساس نبوة جديدة، ويعلن كفر جميع المسلمين الذين لا يصدقون بهذه النبوة المزعومة يجب أن ينظر إليهم المسلمون كخطر جدي على سلامة الإسلام"
نتيجة لمخالفة القاديانية للعقيدة الإسلامية، وتكفير القادينيين للمسلمين صدرت الفتاوى باعتبار القاديانية فئة ضالة خارجة عن دائرة الاسلام، وتم اعتبارها أقلية كافرة غير مسلمة.(/5)
- ففي رجب سنة 1363 هـ اجتمع علماء جميع الفرق الإسلامية في شبه القارة الهندية ونشروا فتوى تكفير قاديان" وقد أجمع علماء الفرق والمراكز الدينية على تكفير القاديانيين واخراجهم من دائرة الاسلام، ونشرت "مؤسسة مكة للطباعة والأعلام" فتاوي علماء الحرمين الشريفين وبلاد الشام" وجاء فيها "لا شك أن أذنابه -الغلام أحمد- من القادينية واللاهورية كلهم كافرون".
- وفي سنة 1953م انعقد مؤتمر كبار العلماء المندوبين عن جميع الفرق الاسلامية للبحث في دستور باكستان وكان ضمن التعديلات المقترحة اعتبار القاديانية أقلية غير مسلمة.
- وفي أبريل سنة 1974 م انعقد مؤتمر كبير في مكة وحضره مندوبو 144 جمعية إسلامية، وهذا نص القرار الذي اتخذوه "القاديانية نحلة هدامة تتخذ من اسم الإسلام شعاراً لستر إغراضها الخبيثة، وأبرز مخالفتهم للإسلام إدعاء زعيمها النبوة، وتحريف النصوص القرآنية، وابطالهما للجهاد. القاديانية ربيبة الاستعمار البريطاني ولا تظهر إلا في ظل حمايته، تخون القاديانية قضايا الأمة الإسلامية، وتقف مواليه للاستعمار والصهيونية، تتعاون مع القوى المناهضة للإسلام، وتتخذ من هذه القوى واجهة لتحطيم العقيدة الإسلامية وتحرفها". ولمقاومة خطرها قرر المؤتمر:
1 - قيام كل هيئة إسلامية بحصر النشاط القادياني في معابدهم ومدارسهم وملاجئهم وكل الأمكنة التي يمارسون فيها نشاطهم الهدام في منطقتها، وكشف القاديانيون والتعريف بهم للعالم الإسلامي تفادياً للوقوع في حبائلهم.
2 - إعلان كفر هذه الطائفة وخروجها على الإسلام.
3 - عدم التعامل مع القاديانيين أو الأحمديين، ومقاطعتهم اقتصادياً واجتماعياًوثقافياً وعدم التزاوج منهم، وعدم دفنهم في مقابر المسلمين باعتبارهم كفاراً.
4 - مطالبة الحكومات الإسلامية بمنع كل نشاط لأتباع ميرزا أحمد مدعي النبوة واعتبارهم أقلية غير مسلمة، ويمنعون من تولى الوظائف الحساسة للدولة.
5 - نشر مصورات لكل التحريفات القاديانية في القرآن الكريم، مع حصر الترجمات القاديانية لمعاني القرآن والتنبيه عليها ومنع تداولها
وفي 15/7/1978 م "استعرض مجلس المجمع الفقهي المنعقد بمكة المكرمة، موضوع القاديانية التي ظهرت في الهند، والتي تُسمي أيضاً بالأحمدية.. وقرر المجلس بالأجماع اعتبارها عقيدة خارجة عن الإسلام خروجاً كاملاً، وأن معتنقيها كفار مرتدون عن الإسلام، وإن تظاهرأهلها بالإسلام، إنما هو للتضليل والخداع، ويعلن مجلس المجمع الفقهي أنه يجب على المسلمين حكومات وعلماء وكتاب ومفكرين ودعاة وغيرهم مكافحة هذه النحلة الضالة وأهلها في كل مكان من العالم وبالله التوفيق"(56)
في سنة 1925 صدرت فتوى من مشيخة الأزهر إلى الجمارك بمنع دخول ترجمة معاني القرآن لمحمد علي اللاهوري، بل طالبت بأحراقها. جريدة الأخبار في 16/4/1925. "دراسة حول ترجمة القرآن" ص14
القاديانية واللاهورية(58)
إن جماعة القادينيين اللاهورية (نسبة إلى لاهور بباكستان) كثيراً ما تدعى أنها لا تؤمن بنبوة ميرزا غلام أحمد، بل تراه المسيح الموعود والمهدى والمجدد، إذن فهي لا تخالف عقيدة ختم النبوة فلا يقع عليها الكفر، وخلاصة الجواب أن من يثبت دعواه بنبوة كاذبة، فكما أن الإيمان بنبوته كفر، فإن تصديقه واعتباره واجب الطاعة كفر صريح أيضاً، فضلاً عن اعتباره المسيح الموعود والمهدي المجدد والمحدث صاحب الإلهام. إن إدعاء شخص النبوة ينشأ عنه مذهبان متضادان، مذهب من يصدقه ومذهب من يكذبه، ويعتبر المصدقون أتباع دين والمكذبون أتباع دين آخر، وقد ثبت أن ميرزا غلام أحمد القادياني أدعي النبوة بلا ريب، فكل من اتخذوه إماماً من الفرق قد دخلوا في زمرة واحدة سواء سموه نبياً أو المسيح الموعود أم المهدي المعهود أم المجدد.
وقد اعترف محمد علي قائد جناح اللاهوري بنبوة الغلام، ففي 13 مايو سنة 1904م قدم محمد علي (مؤسس الجناح اللاهوري من القاديانية) بياناً أمام محكمة محافظة (غورد أسفور) في الهند، حاول فيه أن يثبت أن من يكذب الميرزا المتنبئ فهو كذاب، وقال: "إن من يكذب مدعي النبوة فهو كاذب، والميرزا مدعي النبوة، فمريدوه يرونه صادقاً في دعواه وأعداؤه يرونه كاذباً"(59).
وفي 16 أكتوبر سنة 1913 م نشرت صحيفة الجماعة اللاهورية "بيجام صلح" ما اسمته بياناً عن الجماعة كلها، جاء فيه "نحن نرى أن حضرة المسيح الموعود والمهدي المعهود نبي هذا العصر ورسوله"(60).(/6)
فإذا درسنا عقائد الجماعة اللاهورية التي تم نشرها بعد سنة 1914 م لوجدنا أن موقفهم هذا كان محض حيلة ولا فرق حقيقة بينهم وبين الجماعة القاديانية، فالجماعة القاديانية تعتبر إلهام الميرزا حجة شرعية يجب إتباعها ويراه هؤلاء واجب الإتباع، وكما أن أولئك يصدقون جميع أفكار الميرزا، كذلك يراه هؤلاء واجب التصديق، وكما أن أولئك يرون كتبه سنداً إلهامياً وحجة شرعية، كذلك هؤلاء يرونها مصادر دينية، وكما أنهم يكفرون مخالفي الميرزا كذلك هؤلاء يقولون بتكفير من يكفر الميرزا أو يكذبه، وإنما الفرق هو أن الجماعة القاديانية تجيز إطلاق لفظ النبي على الميرزا بالمعنى الاصطلاحي والجماعة اللاهورية تجيز استعماله على سبيل المجاز.
• توجان فيصل: مذيعة تليفزيون سابقة ونائبة في البرلمان الأردني -أول نائبة برلمانية في تاريخ الأردن- كان المتطرفون قد رفعوا دعوى تفريق بينها وبين زوجها باعتبارها مرتدة. (روز اليوسف 26/6/1995. عدد رقم 3498 لسنة 70).
¨ الأهالي. عدد خاص رقم 3. يونية 1995 ص27
مفهوم جماعة لاهور عن نبوة الميرزا غلام أحمد
إن الجماعة اللاهورية، وإن كانت تدّعي أنها لا تعتبر الميرزا نبياً، بل تراه مجدداً، إلا انها تعني من لفظ "المجدد" عين ما تقصد به الجماعة القاديانية من لفظ "النبي".
يقول محمد على: "إن نوعاً من أنواع النبوة هو ما يُعطى المحدث، وكما في (توضيح المرام) أنها من المبشرات• (61). ويرى ؛ إن النبوة التي يقال لها النبوة الظلية أو النبوة المحمدية هي نبوة المبشرات(62). ويؤكد نبوة الغلام بقوله: "إن المسيح الموعود في كتاباته السابقة واللاحقة قرر أصلاً واحداً وهو أن باب النبوة مسدود، غير أن نوعاً من النبوة يمكن الحصول عليه، ولا نقول إن باب النبوة مفتوح، بل نقول: إن باب النبوة مسدود ، غير أن نوعاً من النبوة ما زال باقياً ويستمر إلى يوم القيامة، ولا نقول إنه يمكن لشخص أن يصير نبياً، بل نقولك إن نوعاً من النبوة يمكن الحصول عليه.. وهو الذي ُسمي بالمبشرات في مكان، وبالنبوة الجزئية في مكان آخر وبالمحدثية في موضع وبكثرة المكالمة في موضع آخر"(63)
• من الأحاديث المتواترة قول الرسول: إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي (فيقال أن ذلك شق على الناس). فقال: ولكن المبشرات، قالوا: يارسول الله وما المبشرات. قال:رؤيا الرجل المسلم، وهو جزء من أجزاء النبوة الرؤيا الحسنة أو الرؤيا الصالحة. وفي حديث آخر رؤي عن عائشة قولوا إنه خاتم الأنبياء ولا تقولوا لا نبي بعده (الدر المنثور للسيوطي. ومجمع البحار) وعلى هذين الحديثين استند الغلام في إدعائه النبوة.
- قد تبين من هذا أن الخلاف بين الجماعتين هو خلاف لفظي فقط، فالجماعة اللاهورية، وإن كانت ُتسمي الميرزا بلقب المسيح الموعود والمجدد، غير أنها تعني من هذه الكلمات نفس المعنى الذي تعنيه الجماعة القاديانية من لفظ النبي، ولقد صدق محمد إقبال إذ يقول: "إن حركة الأحمدية تنقسم إلى قسمين، يسميان بالقادديانية واللاهورية، فالأولى منها تعتبر الميرزا نبياً، والثانية ترى اعتقاداً أو مصلحة أن تقدم القاديانية في صورة خفية".
يرى د. طه الدسوقي أنه: "لم ينخدع المسلمون بهذا الفرع اللاهورى، ولكن كشف الله عن بصيرة الأمة فأدركت أن هذه حيلة من حيل المخططين للقاديانية، حيث أنه يرى أن هذه خطة وضعها الإنجليز لمحمد علي كي يفسر الدين الجديد بحيث يكون أكثر ملاءمة مع مشاعر الأمة، مع الإبقاء على الاتجاه الأساسي بعد رد الفعل العنيف الذي حدث حين أدعى الغلام أحمد النبوة"(64)
اللاهورية وتكفير المسلمين:
تزعم الجماعة اللاهورية أنها لا تكفر غير الأحمديين، بل تراهم فاسقين، ولكن الأمر ليس كذلك فقد ألف محمد على كتاباً في هذه المسألة وسماه "رد تكفير أهل القبلة"(65) وقسم فيه من لا يعتبر الميرزا غلام أحمد المسيح الموعود إلى قسمين:
الأول: الذين لا يبايعون ميرزا غلام أحمد، ولا يكفرونه ولا يكذبونه، فهؤلاء هم الفاسقون عنده، وليسوا بكافرين.
الثاني: الذين يكفرون الميرزا ويكذبونه، فهم كفار في رأيه، وفيهم يقول: كأن الذين ويكفرونه داخلون في قسم واحد وحكمهم واحد، والمنكرون الآخرون لهم حكم آخر" ثم يبين حكم القسم الأول: "إن حضرة المسيح الموعود لم يعتبر إنكاره أو إنكاردعواه سبباً للكفر، وإنما سبب التكفير، أنه كفّره مفترياً، فعاد عليه الكفر بناء على الحديث الذي يرد الكفر على المكفر إذا لم يكن هو كافراً" ويضيف: " لأن المكفر والمكذب متساويان، أي أن من يكفر الميرزا ومن يكذبونه متساويان، أي أن كلاهما يكفرانه لذلك فكلاهما دخل في دائرة الكفر في ضوء هذا الحديث".
ويقول مناظر الجماعة اللاهورية المشهور "أختر حسين كيلاني": "إن الذين يكذبون الميرزا تعود عليهم فتوى الكفر، كما قال الميرزا في حقهم، لأنهم يكفرونه على أنه مفتر حقيقة"(66).(/7)
قد وضح مما سبق أن الجماعة اللاهورية تعتبر من يكذّب الميرزا في دعواه أو يكفره فهو كافر، والذين يسلمون من فتوى الكفر عند الجماعة اللاهورية (وهم فاسقون فقط) هم الذين لا يكذبون الميرزا ولا يكفرّونه من غير الأحمديين وكم من المسلمين في العالم الاسلامي لا يكذبون الميرزا؟ والحق أن كل مسلم لا يعتبر الميرزا نبياً أو المسيح الموعود فهو يكفرّه. إذن كل هؤلاء داخلون في فتوى الكفر عند الجماعة اللاهورية أيضاً، لأن عدم الاعتراف بالميرزا المسيح الموعود وتكذيبه شئ واحد، وفي ذلك يقول الغلام نفسه "الذي لا يؤمن فإنه لا يؤمن لأنه يعتبرني مفترياً(67).
لقد أدعى الغلام أنه مجدد ومحدث وأنه المسيح الموعود ثم أدعى النبوة، وهذه الإدّعاءات تحتاج إلى أدلة تؤكد صدقها، وإذ نضع الغلام أمام بعض الأدلة التي استشهد بها نرى كذبه واضحاً وبهتانه بيناً:
1 - المعجزات:
إن "المعجزة لغة مأخوذة من العجز، وهو عدم القدرة على فعل الشيئ، وأما في اصطلاح جمهور المتكلمين، فتعرف بأنها: أمر خارق للعادة ويُظهر الله على يد مدعي النبوة تصديقاً له في دعواه" (68).
وقد قال الغلام: "إن معجزاتي قد أربت على ألف ألف معجزة"، ولست أدري ما هي هذه المعجزات ولكن من معجزاته التنبؤ بالكسوف والخسوف، وكان الإنجليز يمدونه بحسابات هذه الظواهر الفلكية التي لم تكن معروفة في الهند آنذاك" (69).
2 - النبوة عنه في الكتب السابقة:
لقد حاول الغلام أن يجد لنفسه سنداً في الكتب السابقة له، فكما أن المسيح تفرد بأن التوراة قد بشرت بمجيئه، هكذا أراد الغلام أن يثبت أن الكتب المقدسة قد بشرت بمجيئه، فقال: "أنا الذي جئت مصدقاً للبشائر"(70). وقال: "أعزائي، لقد أدركتم الزمن الذي بشر به جميع الأنبياء، وقد رأيتم ذلك الشخص أي المسيح الموعود الذي كان عدد كبير من الأنبياء يتمنى زيارته"(71).
وعندما انتشر وباء الطاعون استغل هذا الحادث وأعلن: "إن في القرآن الكريم وبعض صحف التوراة هذا الخبر ، بأنه سيقع في زمن المسيح الموعود وباء الطاعون، وكذلك أخبر المسيح أيضاً عن هذا الحادث في الإنجيل"(72).
وقد طبق كثير من النصوص القرآنية على نفسه(73) مثل:
"وما أرسالناك إلا رحمة للعالمين" الأنبياء 107
"وما ينطق عن الهوى، إنه هو إلا وحي يوحى" النجم 3
"وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً" الأحزاب 46
"قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني" آل عمران 31
" إن الذين يبايعونك، إنما يبايعون الله" الفتح 10
" إن فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" الفتح 1
" يس. والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين" يس1
أما النص القرآني الذي استند عليه كثيراً هو وأتباعه ما جاء في سورة الصف 6 "ومبشراً برسول يأتي بعدي اسمه أحمد". فقد قال الغلام: "إن الآية تبشر بمجيئ وأن المراد من أحمد هو أنا"(74).
وقال الخليفة الثاني الميرزا بشير الدين محمود: أكان أحمد اسم المسيح الموعود أم اسم محمد؟ وهل آية سورة الصف التي بشرت برسول اسمه أحمد هي في حق محمد أم في حق المسيح الموعود؟ إن عقيدتي أنها في حق المسيح الموعود وهو نفسه أحمد(75). ولقد ألقى أحد دعاة القاديانية وهو سيد زين العابدين ولى الله شاه، كلمة في مؤتمر القاديان السنوي سنة 1934 م وعنوانها "اسمه أحمد" قال فيها: إن المراد من هذه الآية هو ميرزا غلام أحمد، وليس محمد(76).
وهناك نص آخر استشهد به الغلام، حيث قال: "أُخبرت بأن خبرك موجود في القرآن والحديث، وأنت المصدق لهذه الآية (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله" (77).
أما بالنسبة لاستشهاد القادياني بنصين من الكتاب المقدس كنبوة عن انتشار الطاعون في قاديان في زمن المسيح الموعود، نجد أنه لا علاقة لهما البتة لا بالقاديان ولا بالطاعون.
3 - التنبؤ أو الاخبار بالغيب:
يقول الغلام: "ومن آيات صدقي أن الله أظهرني على كثير من أمور الغيب وهو لا يظهر على غيبه أحداً إلا الذين هم يرسلون" (78). وهو يجعل النبوات أعظم محك لصدقه " فليعلم المنكرون أنه ليس هناك محك امتحاننا وميزان صدقنا وكذبنا أعظم من النبوات" (79).
في ضوء هذا نسجل هنا نبوات(80) الغلام ، ومنها يتضح بالدليل القاطع كذب هذا المتنبئ:
النبوة الأولى:(/8)
إن رجلاً مسيحياً اسمه عبد الله آثم ناظر الغلام في مدينة أمرتسر بالهند سنة 1893 م، وبعد نقاش طويل لم يصلا إلى نتيجة ولم يفز واحد منها على الآخر، رغم إدعاء الغلام بأنه مؤيد بوحي إلهي وأراد أن يلعب لعبة حتى يغسل عنه العار الذي لحقه بعدم فوزه على رجل نصراني عادي، فأعلن في صباح الخامس من يونيو سنة 1893م: "ما فتح الله عليّ الليلة هو هذا، أني حينما تضرعت وابتهلت أمام الله عز وجل ودعوت منه بأن يفصل في هذا الأمر، فأعطاني آية بأن الكذاب يموت في خمسة عشر شهراً بشرط أن لا يرجع إلى الحق، والصادق يُكرم وُيوقر، وإن لم يمت الكذاب في خمسة عشر شهراً، ولم يتحقق ما قلت أكون مستعداً لكل جزاء، يسود وجهي وأذلل، ويجعل في جيدي حبل وأشنق، وأنا أقسم بالله العظيم أن يقع ما قلت، ولا بد أن يقع"(81).
فهل تحققت هذه النبوة؟ وهل مات عبد الله آثم؟ نرى هذا في خطاب أُرسل للغلام: "مولانا المكرم، سلمكم الله. السلام عليكم ورحمة الله. اليوم سبعة من سبتمبر، وكان ميعاد النبوة الأخيرة 5 سبتمبر، وما أبحث في ألفاظ النبوة ولكن ألفاظ الإلهام التي ذكرتم (وإن لم يمت الكذاب في مدة خمسة عشر شهراً، ولم يتحقق ما قلت أكون مستعداً...) والآن ولم تتحقق هذه النبوة، وعبد الله آثم سالم، صحيح، حي، ولم يمكن ولا أظن أنه يمكن التأويل في هذه النبوة...." محمد علي خان(82).
وقد كتب عبد الله آثم في جريدة "وفادار" بعد عشرة أيام من انقضاء المدة المعهودة "أنا ألفت نظركم إلى نبوة الغلام عن موتي، وأخبركم بأني صحيح سالم بفضل الله، وأني سمعت بأن الغلام يقول: إني رجعت عن المسيحية، فأعلن أن هذا كذب، كنت مسيحياً، ولا زلت مسيحياً كما كنت، وأشكر الله على أنه جعلني مسيحياً" (83).
وهكذا ثبت كذب الغلام في نبوته هذه وسقط في الامتحان الذي وضعه لنفسه.
النبوة الثانية:
قال الغلام بصدد هذه النبوة: "فليعلم المخالفون أنه لا يوجد معيار أحسن وأصلح لختيار صدقنا وكذبنا من هذه النبوة"(84). وهاك هذه النبوة:
إن رجلاً من أقربائه اسمه "أحمد بك" جاء إلى الغلام لمساعدته في أمر ما، فقال له الغلام: أساعدك بشرط أن تزوجني ابنتك "محمدي بيجوم" وكان عمره آنذاك فوق الخمسين، فأبى أحمد بك، أن يقبل هذا الشرط، فجن الغلام، وبدأ يهدده. وتنبأ قائلاً: "إن الله أظهر عليّ بصورة النبوة، بأن الابنة الكبيرة لأحمد بك ترد لي مع أن أهلها يخالفون ويخالفون ولكن الله يزوجها لي ويرفع الحواجز، ولا يستطيع أحد أن يحول دون تحقق هذا"(85).
وقال : "إن زواجها أمر متحقق، وأنا أقسم بربي أن هذا صدق، ولا تستطيعون أن تحولوا دون وقوعه، وقد قال الله عز وجل: "زوجناكها نحن بأنفسنا ولا يستطيع أحد أم أن يبدل كلماتي"(86).
وأعلن: "إن نفس النبوة، وهي زواج هذه المرأة مني، تقدير مبرم، والتقدير لا يزول بحال من الأحوال، لأنه قد وجدت في الإلهام هذه الفقرة ولا تبديل لكلمات الله". فمعناه أن نبوتي هذه لا بد لها أن تتحقق، لأن عدم تحقيقها يبطل كلام الله"(87).
وأعلن أن هذه النبوة هي وعد الله له: "إن لم يتحقق هذا النبأ فأكون أخبث الخبثاء، أيها الحمقى هذا ليس افتراء من إنسان، ولا لعبة خبيث مفتري، بل هذا وعد الله الحق، الإله الذي لا تبديل لكلماته. والرب الذي لا مانع لإرادته"(88). وفي أثناء هذا بدأ الغلام محاولاته، بالوعد والوعيد، فكتب إلى أحمد بك: "أخي الكريم أحمد بك، سلمه الله تعالى، الآن فرغت من المراقبة فغشيني النوم ورأيت أن الله يأمرني بأن أطلعك على أن تزوجني ابنتك الكبرى البكر، لكي تستحق خيرات الله وبركاته وأنعامه وأكرامه، ويفرج عنك الكرب والمصائب، وأن ما أعطيتني ابنتك فتكون مورد عتاب وعقاب، وبلغتك ما أمرني الله لكي تحصل على انعامه وأكرامه ويفتح عليك خزائن النعم... وأيضاً أنا مستعد أن أوقع على الوثيقة التي جئت بها إليّ، وفوق ذلك كل ممتلكاتي لك ولله، وأيضاً أنا مستعد أن أشفع لابنك عزيز بك" للحصول على وظيفة في البوليس، كما سازوجه بابنة غني كبير من مريدىّ"(89).
وكتب إليه رسالة أخرى: "إن أعطيتني ابنتك وزوجتني إياها أعطيك نصيباً كبيراً من عقاري وبستاني، وأعطي لابنتك ثلث ما أملك، وأنا صادق فيما أقول، وأعطيك كل ما تطلب وتسأل، ولا تجد رجل واصل رحم مثلي" (90).
وحينما رأى أن هذه التحريضات والترغيبات لم تثمر شئياً، بدأ يتذلل أمام أحمد بك ويسترحم، فكتب إليه كتاباً جاء فيه: "أنا أرجو منكم بكل أدب وعجز أن تقبلوا زواج ابنتكم مني، لأن هذا الزواج يكون موجباً للبركات، ويفتح عليكم أبواب الرحمة التي لا تتصورون.. ولعلكم تعرفون بأن هذه النبوة قد اشتهرت في ىالآف من الناس، بل مئات الآلوف، والعالم ينظر إلى تحقق هذه النبوة وألوف من رجال الدين المسيحي يتمنون بأن لا تتحقق هذه النبوة حتى يضحكوا علينا، ولكن الله يذلهم وينصرني.. لذلك أرجة أن تساعدوني في تحقيق هذه النبوة"(91).(/9)
وكتب إلى ابنيه سلطان أحمد، وفضل أحمد، بأن يساعداه في هذا الأمر، لأن ابنه فضل كان متزوجاً ابنة أخت أحمد بك، وابنه سلطان كان له قرابة مع أحمد بك من جهة أمه، كما كتب إلى زوجته أم سلطان وفضل بأن تسعى هي أيضاً بدورها وكتب متوعداً: "إن تزوجت ابنة أحمد بك من أحد غيري، ففي نفس ذلك اليوم يكون سلطان أحمد محروماً من أرثي، ولا يكون له أي علاقة بي، وأيضاً تكون أمه مطلقة، وأما ابني فضل فيكون أيضاً محروماً من أرثي إن لم يطلق زوجته التي هي ابنة أخت أحمد بك ولا يكون له أي علاقة بي كأخيه سلطان"(92).
ولكن الله يفعل ما يشاء، فزُوجت (محمدي بيجوم) ابنة أحمد بك لرجل يدعى "سلطان بك" ولكن الغلام ما انقطع عن تماديه، وأصر أنه مهما يكن فإن "محمدي بيجوم" تُزوج له، لأنها زُوجت له في السماء، أما زوجها سلطان بك فسوف يموت "هذا صحيح بأن "محمدي بيجوم" ما زوجت لي، ولكنها قطعياً سوف تزوج لي كما ذكرت النبوة، وأن الناس استهزوا بي لعدم تحقق هذا النبأ، النبأ الذي ما تنبأت به من عند نفسي، بل أُخبرت عنه بعد وحي من الله، وأقول صدقاً أنه يأتي يوم تنحنى فيه رؤوس هؤلاء المستهزئين من الندم، وأن المرأة لا تزال على قيد الحياة حتى ترجع إليّ وتزوج لي، أنا أؤمن بهذا إيماناً جازماً لأن وعد الله لا يخلف"(93).
وكتب "أنا تضرعت أمام الله وابتهلت، فألهمت، سوف أريهم آياتي بأن هذه المرأة تثبت ويموت زوجها وأبواها خلال ثلاث سنوات، ثم ترجع هذه المرأة إليّ ولا يكون أحد يستطيع المنع" (94). وطال الآمد ولم يمت زوج "محمدي بيجوم" ولم ترجع إليّ الغلام أحمد المتنبي الكاذب، وقد استمرت محاولته لتحقيق هذه النبوة لمدة اثنتين وعشرين سنة (1886 - 1908) حتى مات، وأما محمدي بيجوم، فقد ماتت سنة 1966م، وعاش زوجها أربعين سنة بعد الغلام ومات سنة 1948م وهكذا ثبت كذب الغلام أيضاً في هذه النبوة.
النبوة الثالثة:
وهي عدة نبوات معاً تتعلق بانجابه ولداً
فقد تنبأ مرة وامرأته حبلى: "الحمد لله الذي وهبني على الكبر أربعة من البنين، وبشرني بخامس"(95). وقد كان هذا الإلهام في أول يناير سنة 1903 وفي 28/ 1/ 1903م وضعت امرأته بنتاً، وماتت بعد أشهر قليلة.
ومرة أخرى حبلت امرأته، فتنبأ "يولد ابن الكرام، وله طراز جميل"(96). وبعد ذلك بشهر في 24/6/1904م وضعت زوجته بنتاً.
وأعلن مرة ثالثة في 16/9/1907م "إنا نبشرك بغلام حليم (97). وفي أكتوبر سنة 1907 أعلن "سأهب لك غلاماً ذكياً، ربي هب لي ذرية طيبة، إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى" (98). وفي 26/5/1908م مات الغلام، ولم ُينجب هذا الولد. فماذا نقول أمام هذا الفشل الذريع لنبوات الغلام.
النبوة الرابعة
في 20/2/1886م، أعلن الغلام "إن الله بشرني بأن يكون لي ذرية كثيرة من النسوة ذوات البركات اللاتي أتزوج بعضهن بعد هذا الإلهام(99). ووضح هذه العبارة بقوله: "إني أعلنت في فبراير سنة 1886 بعد الإلهام من الله بأنه بشرني بالزواج بعد هذا الإعلان وسوف أتزوج نسوة ذوات يمن وبركات ويولد منهن أولاد" (100). والواقع والتاريخ يؤكد أن غلام أحمد ما تزوج بعد هذا الإعلان أي امرأة.
وهكذا مرة تلو الأخرى يُثبت عدم صدق الغلام في إدعائه النبوة.
* النبوة الخامسة:
في 14/6/1899م وُلد له ولد اسماه "مبارك" وبعد ولادته تنبأ قائلاً: "إن هذا الولد من نور، ومصلح موعود، وصاحب العظمة والدولة، ومسيحي النفس ويشفي الأمراض، وكلمة الله، وسعيد الحظ. وهذا يشتهر في أنحاء العالم وأطرافه، ويفك الأسارى، ويتبرك به الأقوام(101).
وفي سنة 1907 مرض هذا الولد، فاضطرب الغلام، وفي 27/8/1907م حين خف من مرضه، تنبأ الغلام "الهمني الله بأنه قبل الدعاء وذهب المرض" (102).
ولكن عاد المرض من جديد ومات المصلح الموعود في 16/9/1907م، وربما يكون هذا هو الابن الذي قال فيه: "إنما نبشرك بغلام اسمه عنموايل ومن المقربين، وهو نور مبارك ومن المقربين، يعالج كل عليل ومرض وكان بأنفاسه من الشافين، وأنه آية من آياتي، وليجئ الحق بمجئيه، ويزهق الباطل بظهوره، ولبعث أصحاب القبور من القبور، فهو كلمة الله، ويظهر بظهوره جلال رب العالمين" (103).
النبوة السادسة:
تنبأ الغلام أنه لا يقع الطاعون في القاديان "هو الإله الحق الذي أرسل رسوله في القاديان، وهو يحفظ القاديان من الطاعون، ولو يستمر الطاعون إلى سبعين سنة، لأن القاديان مسكن رسوله، وفي هذا آية للغلام(104). ولكن الطاعون دخل القاديان، ففي رسالة إلى صهره محمد على خان "إن الطاعون ههنا في منتهى الشدة، يبتلى الإنسان فيموت بعد ساعات والله يعلم متى ينتهي هذا الابتلاء"(105). ليس هذا فحسب، بل دخل الطاعون بيته، الذي قال فيه: "إن بيتي كسفينة نوح من دخله حفظه الله من كل الآفات والمصائب"(106).(/10)
كتب الغلام: "دخل الطاعون حتى بيتنا، فابتلت غوثان الكبيرة(زوجته)، فأخرجناها من البيت، كما أُبتلى الأستاذ محمد دين، فأخرجناه أيضاً. واليوم ابتليت به امرأة أخرى كانت نازلة في بيتنا وجاءت من دلهي.. ومرضت أنا أيضاً حتى ظنت أنه ليس بيني وبين الموت إلا دقائق"(107).
هذه بعض نبوات الغلام أحمد التي منها ثبت كذب دعوته، ومن كان كاذباً لا يصح أن يكون نبياً وأن يدعو إلى دين جديد.
القاديانية والهندوسية:
كان الغلام داهية ماكراً، لذلك رأي أنه ليس من مصلحتة ولا مصلحة القاديانية كمذهب أن يتجاهل الهندوس، ولا سيما أنهم يشكلون أغلبية لا يستهان بها في الهند، لذا فقد مدح أحد آلهتهم وهو "كرشنا" وقال: "إن القديس كرشنا كان نبياً، وينزل عليه روح القدس، وأنه قام بتطهير الأرض من الأريين" (108). وقد إدعى الغلام أن الله وعد "كرشنا" بأنه سيظهر في الأيام الأخيرة. وقد تحقق الوعد فيه هو "إنه كان نبياً حقيقياً في عصره، وكان مليئاً بحب الله، وكان يصادق لأعمال الخير، ويعادي لأعمال الشر، وأن الله وعده بأنه سيظهره في الأيام الأخيرة وأن الله حقق وعده في شخصيتي أنا " (109). ثم أضاف: "أنني لست مبعوثاً لإصلاح المسلمين فقط، بل لإصلاح الهندوس والمسيحيين. وفي نفس الوقت أنني مبعوث إلى الهنادكة. وقد أعلنت منذ حوالى عشرين سنة بأنني مرسل لتطهير الأرض من الذنوب التي ملئت بها، إنني بشكل المسيح بن مريم، وفي صورة القديس كرشنا، وبمعنى آخر أنني القديس كرشنا فعلاً من الناحية الروحية".
ويؤكد هذه المقولة المولوى محمد علي اللاهورى: "إن الله قد وعد الهندوس بأن يرسل قديساً أخر الزمان وأنه حقق وعده بإرسال النبي المقدس الميرزا غلام أحمد إلى أرض الهند"(110).
لقد حاول الغلام وأتباعه الحصول على دعم الهندوس وتأييدهم، ونجحوا في ذلك وقد ظهر هذا التأييد بوضوح في عدة مقالات كتبها رئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو وكانت تدور حول القاديانية من الفرق الإسلامية، فلماذا يصر المسلمين علىفصلها عن الإسلام. رداً على مقالات د. محمد إقبال التي أثبت فيها أن القاديانية فئة كافرة ولا علاقة لها بالإسلام.
القاديانية والصهيونية: (111)
- كتبت صحيفة "الفضل" القاديانية: "لئن كان اليهود لا يستحقون تولى بيت المقدس لأنهم ينكرون رسالة محمد، والمسيحيون لا يستحقون لأنهم أنكروا رسالة محمد، فغير الأحمديين (المسلمون) لا يستحقون توليته يقيناً".
- لقد أسس المركز القادياني في فلسطين المولوى جلال الدين شمس سنة 1928م، ويقع في حيفا، وبه مسجد ومقر البعثة ومكتبة عامة ومكتبة تجارية ومدرسة، ويصدر مجلة شهرية باسم (البشرى) باللغة العربية، وقد قام المركز بترجمة كثير من مؤلفات الغلام أحمد.
- ذكر "دوست محمد شاهد" في كتابه "تاريخ أحمديه" ان ميرزا بشير الدين محمود أقام في فلسطين سنة 1924م بعد صدور وعد بلفور سنة 1917م بإنشاء دولة إسرائيل ولما قامت دولة إسرائيل سنة 1948م طردت سكان فلسطين الأصليين، بينما سُمح للقاديانيين بالإقامة والتبشير دون مسهم بأي أذى وقد قال بشير الدين محمود: "لا شك أنه ليست لنا مكانة في البلاد العربية مثل مكانتنا في البلاد الأوربية والافريقية، ومع ذلك فقد حصل نوع من المكانة، وهو أنه لا يسمح لأحد بالإقامة في قلب فلسطين غير الأحمدي"(112)
وكيف لا تتمتع القاديانية بهذه المكانة، وقد قام خليفتها الثاني ميرزا محمود بتأييد إقامة الدولة الصهيونية في فلسطين(113).
والسؤال الآن لماذا تسمح إسرائيل بإقامة المراكز التبشيرية القاديانية فيها، وتسمح بنشر المطبوعات القاديانية؟ من المؤكد أن لإسرائيل مصلحة في ذلك. قال د.محمد إقبال: "إن الميرزائية تشمل عناصر يهودية، كأن هذه الحركة راجعة إلى اليهودية.
وكلمة أخيرة :
هذه هى حقيقة القاديانية أوضحناها لأنهم يزعمون عكس ما يبطنون ، ويكيدون للإسلام ويظهرون فى مظهر المدافعين عنه !! يعتقدون أنهم بجدالاتهم مع زكريا بطرس القسيس النصرانى البذئ ، فإنهم بذلك ، أتوا بما لم يأت به أحداً من العالمين ، أو كما يقول الشاعر :
إنى وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل .
يا أتباع الأحمدية القاديانية ردودكم على زكريا بطرس ، مجرد مسلسل لكسب تعاطف المسلمين السذج ، وفى ذات الوقت تضعون سمومكم فى الردود على زكريا بطرس ، مثل القول بوفاة المسيح ، وأنه عُلق على الصليب ، وأنه موجود فى كشمير .... إلخ هذه التُرهات .
إننا من الآن فصاعداً ، سندعو لبدء الاحتفال بمرور مائة عام على عودة الخلافة المزعومة التى يتحدثون عنها والتى بدأت فى العام 1908م وستُكمل عامها المائة فى العام 2008م ، واحتفالنا سيكون بفضح الأحمدية القاديانية ، حتى نستأصل شأفتها وزفرتها من العالم الإسلامى .(/11)
ونبشر أتباع الميرزا غلام أنه يجرى الآن التحضير لإنشاء قناء فضائية تتبع مذهب أهل السنة لتوضيح كفرهم الصريح ، وافتراءهم على الإسلام ، واجتراءهم على نصوص القرآن الكريم ، وستُبث هذه القناة بإذن رب العالمين خلال عامين ، وربما يبدأ البث فى أواسط العام 2008م ليكون عاماً نحساً على أتباع الغلام ، وليكون مشاركةً من أهل السنة للأحمديين فى الاحتفال بعودة الخلافة الراشدة !!!
ولا يفوتنى أن أتقدم بشكرى العميق لكلاً من الأستاذ الكبير / فؤاد العطار ، والذى أزال الأقنعة عن وجوه الأحمدية الضالة ، وكان لكتاباته بالغ التأثير فى المخدوعين بالغلام القاديانى ، فله كل التقدير .
و للأستاذ العزيز / محمود القاعود ، والذى ساهم فى حملة كشف وتوضيح واسعة لحقيقة الأحمدية القاديانية ، وبيان كفرها وضلالها ، إلى أن اتحفنا بمقاله الرائع : ( التفسير العبيط عند أتباع الغلام السليط ) ، فله كل التقدير .
بقى أن أدعو أتباع الميرزا أن يبينوا رأيهم فى :
1- العمليات الاستشهادية التى تقوم بها المقاومة الفلسطينية الباسلة وينتج عنها هلاك الصهاينة المجرمين
2- المقاومة العراقية وقتل الأمريكان المحتلين الغاصبين
3- تكفير أهل السنة والجماعة واعتبارهم كفار بالنبى الكذاب الميرزا القاديانى
4- عدم نشر سيرة الميرزا التى كتبها ابنه ، وكتابة سيرة أخرى بعنوان ( السيرة المُطهرة ) كتبها ( مصطفى ثابت )
ونسأل الله رب العالمين أن يكون العام 2008م عام نهاية القاديانية الضالة من الوجود ، وأن يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر نظير إجرامهم بحق الإسلام والمسلمين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
المراجع
1- موت أم إغماء. د. فريز صموئيل.
2 - قصص الأنبياء. الشيخ عبد الوهاب النجار. ص509-511.
3 - القاديانية الخطر الذي يهدد الإسلام. د. احمد عوف. ص52-53.
4 - القاديانية دراسات وتحليل. إحسان الهي ظهير. ط19 سنة 1983. ص117.
5 - القاديانية ومصيرها في التاريخ. د. طه الدسوقي. ط1 سنة1989. ص118.
6 - حمامة البشرى. للغلام احمد. ص69، عن المرجع السابق ص119.
7 - تبليغ الرسالة. للغلام أحمد. حـ2 ص302. عن المرجع السابق .
8 - المرجع السابق. ص127-133.
9 - إزالة الأوهام للغلام. المرجع السابق. ص296.
10 - المرجع السابق.
11 - تبليغ الرسالة. للغلام أحمد. جـ10 ص18، عن القاديانية لظهير. ص119.
12 - تحفة كوكرة. للغلام أحمد. ص125، عن القاديانية ومصيرها ص13.
13 - دافع البلاء. للغلام ص3، عن موقف الأمة الإسلامية من القاديانية. ص14.
14 - بيان للميرزا غلام ألقاه في 23/2/1892م، تبليغ الرسالة. جـ2.
ص95 للغلام، عن القاديانية ومصيرها. ص145.
15 - السراج المنير. للغلام. ص242. عن المرجع السابق. ص146.
16 - رسالة للغلام في جريدة الحكم القاديانية في 17/8/1899م، عن القاديانية ومصيرها. ص147.
17 - توضيح المرام. للغلام ص28. عن المرجع السابق.
18 - مصير آثم. للغلام ص27. عن المرجع السابق.
19 - القاديانية ومصيرها. ص53.
20 - دافع البلاء. للغلام. ص11 ط3 قاديان،عن موقف الأمة الإسلامية. ص10-11.
21- نزول المسيح. للغلام. هامش ص3 ط قاديان سنة 1909م. عن المرجع السابق.
22 - تتمة حقيقة الوحي. للغلام. ص38 ط قاديان سنة 1934م. عن المرجع السابق.
23 - أيك غلطي كازالة. للغلام. ص8 ط قاديان سنة 1901م. عن المرجع السابق.
24 - المرجع السابق.
- القاديانية الخطر القادم الذي يهدد الإسلام. ص7.
26 - موقف الأمة الإسلامية من القاديانية. ص5.
27 - حقيقة الوحي. للغلام ص149. ط قاديان سنة 1934، عن موقف الأمة. ص13.
28 - الإعجاز المحمدي. للغلام ص7، عن ما هي القاديانية لأبي الأعلى المودودي. ص22-23.
29 - موقف الأمة الإسلامية. ص26.
30 - القاديانية ومصيرها في التاريخ. ص166-167.
31 - الأربعين. للغلام. ص47.
32 - المرجع السابق. ص15.
33 - تبليغ الرسالة. للغلام. جـ4 ص49، عن القاديانية لظهير. ص119.
34 - ترياق القلوب. للغلام. ص332، عن موقف الأمة. ص106.
35 - القاديانية الخطر الذي يهدد الإسلام. ص975، دفاع عن العقيدة والشريعة. للشيخ محمد الغزالى. ص248-249.
36 - أنوار الخلافة. للغلام. ص17، عن القاديانية لظهير. ص111، 112، 116.
37 - بركات الخلافة. للغلام. ص5-7.
38 - القاديانية ومصيرها. ص184.
39 - حقيقة الوحي. للغلام. ص63. عن القاديانية لظهير. ص34.
40 - مرآة الصدق. لميرزا بشير الدين ص25، عن دفاع عن العقيدة. ص245.
41 - أنوار الخلافة. لميرزا محمود أحمد. عن القاديانية لظهير. ص35.
42 - دفاع عن العقيدة والشريعة. ص246.
43 - المرجع السابق.
44 - تحفة لوكرة. ص28، عن موقف الأمة. ص31.
45 - جريدة الحكم القاديانية. في 10/12/1904م، عن القاديانية لظهير. ص36.
46 - أنوار الخلافة. ص89، عن القاديانية لظهير.
47 - بركات الخلافة. ص75، عن القاديانية لظهير. ص43.
48 - جريدة الفضل القاديانية 23/5/1931م، عن القاديانية لظهير.(/12)
49 - أنوار الخلافة. ص94، عن موقف الأمة. ص31-32.
50 - كلمة الفضل. ص ، عن القاديانية لظهير. ص43.
51 - جريدة الفضل 18/6/1916م، عن القاديانية لظهير. ص39.
52 - أنوار الخلافة. ص91، عن القاديانية لظهير. ص40.
53 - صحيفة رفيندار لاهور 28/2/1950م، عن موقف الأمة. ص33.
54 - موقف الأمة الإسلامية. ص67-70.
55 - المرجع السابق.
56 - جريدة المدينة في9/3/79م، عن أباطيل القاديانية في الميزان. ص111-112.
57 - جريدة الأخبار القاهرية 28/5/1990م. ص2.
58 - موقف الأمة الإسلامية. ص36-45.
59 - مجلة فرقان الهندية، يناير سنة 1942م قاديان.
60-64 النبوة في الإسلام. محمد علي. ط لاهور. ص150،182، 153.
65 - رد تكفير القبلة. محمد على. ط سنة 1926م. ص29-30.
66 - مباحثة راو لبندي. ط قاديان. ص251.
67 - حقيقة الوحي. ط 1907م. ص163.
68- في العقيدة الإسلامية والأخلاق. د. عوض حجازي.
69 - القاديانية الخطر الذي يهدد. ص27-28.
70 - الأربعين للغلام ص28، 74، عن موقف الأمة. ص49-51.
71 - المرجع السابق، عن القاديانية ومصيرها. ص131.
72 - المرجع السابق. وقد كتب قادياني على الهامش أن وقوع الطاعون في زمن المسيح الموعود مذكور في زك 14: 12، مت 24: 8.
73 - الأربعين. للغلام. ص28، 74، 39، حقيقة الوحي. للغلام. ص75، 49، 80، 107، عن موقف الأمة الإسلامية. ص 49-51.
74 - إزالة الأوهام. ص673.
75 - في خطبة له في 17/12/1915م، أنوار الخلافة. ص18.
76 - طبعت تحت عنوان "اسمه أحمد" ص74 قاديان سنة 1934.
77 - أعجاز أحمدي. ص9. عن أباطيل القاديانية. ص44.
78 - الأربعين. للغلام. عن القاديانية الخطر الذي يهدد. ص36.
79 - دافع الوسواس. للغلام. ص228، عن القاديانية ومصيرها. ص74.
80 - هذا الجزء (النبوات) مأخوذ من القاديانية لظهير. ص163-180.
81 - الحرب المقدسة. للغلام. ص188.
82 - مكتوب محمد علي إلى الغلام أحمد. ص100-101. ليعقوب علي.
83 - جريدة وفادار اللاهورية في15/9/1894.
84 - مرآة كمالات الإسلام. للغلام. ص288.
85 - إزالة الأوهام. للغلام. ص396.
86 - الحكم السماوية. للغلام ص40.
87 - اشتهار الغلام. 16/ 10/ 1894.
88 - صميمة أنجام آثم للغلام. ص54.
89 - رسالة الغلام إلى أحمد بك. عن نوشنه غيب. ص100.
90 - مرآة كمالات الإسلام. للغلام. ص573.
91 - كتاب غلام أحمد بك في 17/7/1892م عن كتاب "كلمة فضل رحماني". ص123.
92 - إعلان غلام أحمد بتاريخ 2/5/1891م. عن تبليغ الرسالة" جـ2ص9.
93 - إعلان غلام أحمد الموجود في "منظور إلهي" ص244 للمنظور القادياني.
94 -إلهام الغلام. عن نوشنه غيب.
95 - مواهب الرحمن. للغلام. ص139.
96 - البشرى جـ2. للغلام. ص91.
97 - المرجع السابق. ص136. جريدة بدر القاديانية في16/9/1907م.
98 - المرجع السابق.
99 - تبليغ الرسالة. جـ1. للغلام. ص58.
100 - المرجع السابق.
101 - ترياق القلوب. للغلام. ص43.
102 - جريدة بدر القاديانية في29/8/1907.
103 - القاديانية الخطر. ص29.
104 - دافع البلاء. للغلام. ص10-11.
105 - مكتوبات أحمدية. جـ5. للغلام. ص112-113.
106 - سفينة نوح. للغلام. ص76.
107 - مكتوبات أحمدية. جـ 5. للغلام .ص5.
108 - في خطبة ألقاها في مدينة "سيالكوت" في 2/11/1904م. عن قادياني قول وفعل. جـ2 ص58.
109 - المرجع السابق.
110 - مجلة الأديان عدد 11، عن أباطيل القاديانية. ص34-38.
111 - موقف الأمة الإسلامية. ص117-119.
112 - جريدة الفضل 30/8/1950م.
113 - مجلة الحق عدد2 جـ9، عن تاريخ الأحمدية(/13)
نهاية التاريخ أم نهاية الإنسان أم سقوط حضارة
(1) نهاية التاريخ
الزعم بنهاية التاريخ ، هو ما ادعاه المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما : وهو النائب السابق لمدير مجموعة تخطيط السياسة بوزارة الخارجية الأمريكية
وقدم أطروحته تلك أولا : في محاضرة ألقاها بهذا العنوان " نهاية التاريخ" خلال السنة الدراسية 88\1989 بمركز مختص بالبحث في ( نظرية وتطبيق الديموقراطية بجامعة شيكاغو) ، ثم تحولت المحاضرة إلى مقال شهير بمجلة ناشيونال إنتيريست ، ثم تحولت إلى كتاب نشرته دار النشر فيريبريس ، وقام بترجمة الكتاب إلى العربية الدكتور حسين أحمد أمين ونشره " مركز الأهرام للترجمة والنشر " ، الطبعة الأولى 1993
وقد ذهب المؤلف في كتابه إلى أن الديموقرطية الليبرالية تشكل " نقطة النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسانية ، والصورةَ النهائية لنظام الحكم البشري وبالتالي فهي تمثل نهاية التاريخ " ، وبعبارة أخرى فإنه – كما يقول فوكوياما – إنه بينما شابت أشكالَ الحكم السابقة عيوبٌ خطيرة أدت إلى سقوطها فإن الديموقراطية الليبرالية يمكن القول بأنها خالية من مثل تلك التناقضات الأساسية الداخلية
ولم يكن يقصد فوكوياما بنهاية التاريخ نهاية وقوع الأحداث ، بما في ذلك الأحداث الخطيرة والجسام ، وإنما يقصد ( التاريخ من حيث هو عملية مفردة متلاحمة وتطورية ، لتجارب كافة الشعوب في جميع العصور ) ص8
وقد ارتبط هذا الفهم للتاريخ من قبل بكل من الفيلسوف الألماني هيجل ، وماركس ، فعند هذين المفكرين : أن ثمة تطورا متلاحما للمجتمعات البشرية من مجتمعات قبلية بسيطة قائمة على العبودية وزراعة الكفاف ، إلى مختلف أشكال الحكومات الدينية والملكية والأرستوقراطية الإقطاعية ، وانتهاء بالديموقراطية الليبرالية الحديثة والرأسمالية القائمة على التكنولوجيا عند هيجل ، والشيوعية من بعد ذلك عند ماركس .
كان في اعتقاد كل من هيجل وماركس أن تطور المجتمعات ليس إلى ما لانهاية ، بل إنه سيتوقف حين تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع يشبع احتياجاتها الأساسية والرئيسية وهكذا افترض الاثنان أن للتاريخ نهاية : هي عند هيجل الدولة الليبرالية ، وعند ماركس المجتمع الشيوعي ، وليس معنى هذا أن تنتهي الدورة الطبيعية للحياة والأحداث وإنما يعني هذا أنه لن يكون ثمة مجال لمزيد من التقدم في تطور المبادئ والأنظمة الأساسية ، وذلك لأن كافة المسائل الكبيرة حقا ستكون قد حلت . ص 9
ثم يصل فوكوياما إلى أن يقول في كتابه : إن لنا ونحن نودع القرن العشرين أن نعود إلى تأكيد ما قرره هيجل من قبل وهو : أن تاريخ البشرية يتجه بالشطر الأعظم من البشرية صوب الديموقراطية الليبرالية كنهاية للتطور التاريخي ، وذلك لسببين : الأول يتصل بالاقتصاد ومن ثم بالعلوم الطبيعية الحديثة ، والثاني يتصل بما يسمى " الصراع من أجل الاعتراف ونيل التقدير والاحترام "ص 9، فالبشر لا يرغبون في الرفاهية المادية فحسب ، وإنما يسعون إلى الاعتراف بمكانتهم وكرامتهم من جانب غيرهم من البشر .
فمن ناحية السبب الأول : نجد أن المبادئ الليبرالية في الاقتصاد – أي السوق الحرة – قد انتشرت ونجحت في خلق مستويات من الرخاء المادي لم نعهدها من قبل سواء في الدول المتقدمة أو العالم الثالث .
ولذلك أثره الكبير في استقرار الديموقراطية على أساس فرضيات ثلاثة تقوم عليها السياسة الخارجية الأمريكية : الفرضية الأولى : ( أن الديموقراطيات الليبرالية لا تميل إلى محاربة بعضها ) ولذلك له أثره الكبير في توسيع دائرة منطقة السلم في العالم ، الفرضية الثانية أنه ليس هناك مثال تاريخي واحد لأية دولة ديموقراطية ارتدت إلى السلطوية بعد وصول مستوى الفرد فيها إلى ما فوق مستوى 6 آلاف دولار من الناتج المحلي لسنة 1992 ، والفرضية الثالثة : أن أفضل طريقة لتشجيع النمو الاقتصادي هي دمج الدولة دمجا كاملا في النظام الرأسمالي الليبرالي للتجارة والاستثمار ) .
وتأتي هنا أهمية التقدم العلمي ( حيث تخلق آفاقا متجانسة من إمكانات الإنتاج الاقتصادي ، فالتكنولوجيا تتيح إمكانية تراكم الثروة بغير حدود ، وتتيح بالتالي إمكانية إشباع قدر متزايد دوما من الرغبات الإنسانية ، ولا شك في أن هذه العملية تضمن تجانسا متزايدا بين كافة المجتمعات البشرية بغض النظر عن أصولها التاريخية أو تراثها الحضاري .. وقد زادت الروابط التي تربط بين مثل هذه المجتمعات بفضل الأسواق العالمية وانتشار الثقافة الاستهلاكية في العالم كله ) ص 11
غير أن هذا العامل الاقتصادي لا يكفي وحده للوصول إلى نهاية التاريخ من وجهة نظر الديموقراطية الليبرالية ، لأنه ( ثمة حالات عديدة أمكن فيها للدول الديكتاتورية الوصول إلى معدلات نمو اقتصادي لم تتمكن المجتمعات الديموقراطية من تحقيقها ) ص 11 وذلك لأن الإنسان عند فوكوياما ( ليس مجرد حيوان اقتصادي ) ص 12(/1)
ومن هنا يتبين لفوكوياما أهمية العنصر الثاني الذي يحرك التاريخ وهو الرغبة الأساسية لدى الإنسان في الحصول على اعتراف الغير به واحترامه ، وهو الأمر الذي لا يوفره التقدم الاقتصادي في ظل الدول الديكتاتورية ، فكانت نهاية التاريخ من ثم لا يمكن أن تتم في ظل التصور الماركسي ، وكان لابد من توقعها في ظل تحقيق المجتمعات الديموقراطية الليبرالية بزعم أنها هي التي تحقق العنصرين معا : التقدم الاقتصادي ، والحصول على الإحساس بالرضا وعزة النفس .
هذا الأمر هو الذي جعل فوكوياما يعود إلى هيجل ونظريته غير المادية في التاريخ القائمة على أساس " الصراع من أجل نيل التقدير والاحترام " ص12 وذلك بالوصول إلى الديموقراطية اللليبرالية . كما يعود في نفس الوقت إلى ذلك الجانب الذي سماه أفلاطون : الثيموس ( أي الهمة أو الشجاعة أو القوة الغضبية ) ضمن الجوانب الثلاثة عنده للإنسان : العقل والشهوة والقوة الغضبية ص 13 .
ثم هو يبني أطروحته على اتجاه الاقتصاد العالمي في طريق العولمة : ويقررأنها – أي العولمة وجدت لتبقى لأسباب ثلاثة :
أولا : لأنه – كما يقول ( لم يبق هناك نموذج تنمية كبديل عملي يعد بنتائج أفضل من العولمة حتى بعد أزمة الدول الأسيوية عام 1997\1998 ) طبقا لما صرح له به بعض زعماء الحركة الاقتصادية النامية في سنغافورة وماليزيا من أنهم أصبحوا يفضلون نمط السياسة القائمة على الحقوق الذي هو سمة من سمات الغرب " يفضلونه على نمط السياسة القائمة على الدكتاتورية الأبوية كسمة من سمات الثقافة الأسيوية
السبب الثاني : في عدم احتمال نقض العولمة هو : أن مشاكل عدم المساواة الاقتصادية التي يسعى اليسار إلى حلها لا يمكن حلها في الوقت الراهن إلا على أساس من المستوى العالمي
السبب الثالث : أن العولمة المعاصرة تلقى الدعم من تكنولوجيا المعلومات التي نشرت التليفون والفاكس والراديو والتليفزيون والإنترنيت في أقصى بقاع الأرض . .
وليس معنى ذلك عند فوكوياما ( أن الديموقراطيات الراسخة المعروفة في زمننا هذا كالولايات المتحدة أو فرنسا او سويسرا لا تعرف الظلم أو المشكلات الاجتماعية الخطيرة ، غير أن هذه المشكلات هي في ظني – حسب تعبيره – وليدة قصور في تطبيق المبدأين التوأم : الحرية والمساواة ، اللذين قامت الديموقراطية على أساسهما ولا تتصل بعيوب في المبدأين نفسيهما ) ص 8
تعليق (1) : وهنا نجد أن فوكوياما يتناسى أن الديموقراطية الحديثة لم تقم على أساس هذين المبدأين الحرية والمساواة فحسب : ولكن بضميمة العلمانية إليهما ، ومن هنا يصح لنا أن نتوقع مجييء العيوب من هذا المبدأ الثالث نفسه
تعليق (2) : إذا كان هذا الاعتذار - عدم القصور في المبدأ نفسه - مقبولا في شأن إخفاق الديموقراطية الحديثة إلى حد أنها كما يقول فوكوياما نفسه ( قد ترتد إلى أشكال أخرى للحكم أكثر بدائية كالحكومة الدينية أو الديكتاتورية العسكرية ) ص 8 .. فهل يقبل العلمانيون هذا الاعتذار عندما يقال في شأن النظام الإسلامي ؟
تعليق (3) : بالرغم من تصريح فوكوياما بأن الإنسان ليس حيوانا اقتصاديا ،وإنما هو يحتوي على الرغبة في اعتراف الآخر به ( انطلاقا من الثيموس الأفلاطوني ومطلب الاعتراف عند هيجل ) فإننا نحن نرى أن الأمر مع ذلك ما يزال يتحرك في النطاق المادي ، ولا يمكن تحقيق الشعور بالاحترام إلا من خلال تحقيق رغبة الإنسان في التطلع للحصول على الرضا من خلال رغبته في الاتصال بالأعلى ، بالله والآخرة ، وإذن فلا ينتهي التاريخ إلا باستسلام الإنسانية كلها للدين الذي يشبع هذه الرغبة ، و ذلك ما تنبأ به محمد صلى الله عليه وسلم في قوله من علامات الساعة ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها ) رواه البخاري وغيره .
تعليق (4) : ارتبط هذا الفهم للتاريخ بكل من الفيلسوف الألماني هيجل ، وماركس ، فعند هذين المفكرين : أن ثمة تطورا متلاحما للمجتمعات البشرية من مجتمعات قبلية بسيطة قائمة على العبودية وزراعة الكفاف ، إلى مختلف أشكال الحكومات الدينية والملكية والأرستوقراطية الإقطاعية وانتهاء بالديموقراطية الليبرالية الحديثة والرأسمالية القائمة على التكنولوجيا .
تعليق (5) : نرى أن هذا التاريخ بهذا المفهوم الدنيوي البحت نظرية قابلة للجدل ، إذ أين المسار الديني الخاضع لقيومية الآخرة عند من يعتقد كونه عاملا أساسيا لا يزول ؟(/2)
تعليق (6) : كان في اعتقاد كل من هيجل وماركس أن تطور المجتمعات ليس إلى ما لانهاية ، بل إنه سيتوقف حين تصل البشرية إلى شكل من أشكال المجتمع يشبع احتياجاتها الأساسية والرئيسية وهكذا افترض الاثنان أن للتاريخ نهاية : هي عند هيجل الدولة الليبرالية ، وعند ماركس المجتمع الشيوعي ، وليس معنى هذا أن تنتهي الدورة الطبيعية للحياة والأحداث وإنما يعني هذا أنه لن يكون ثمة مجال لمزيد من التقدم في تطور المبادئ والأنظمة الأساسية ، وذلك لأن كافة المسائل الكبيرة حقا ستكون قد حلت ص 9
تعليق : ونحن نقول إن هذا يتوقف على وجهة النظر القيمية : إذ أين تأثير مسار القيم الأخروية عند من يؤمن بها وينتظر عندئذ مستقبلا لتحقيقها ؟
( 7) ثم يؤكد فوكوياما في كتابه : أن لنا ونحن نودع القرن العشرين أن نعود إلى تأكيد ما قرره هيجل من قبل : أن تاريخ البشرية يتجه بالشطر الأعظم من البشرية صوب الديموقراطية الليبرالية
تعليق : ونحن نرى أن هذا التأكيد ينطلق من تقدير مفعم بالذاتية ، وهي ذاتية ليست مقدسة ، ولا محصنة ضد الجدل ، فإذا لم تؤصل على أسباب موضوعية فقد اصبح وخصومه على مفترق طرق منذ البداية .
وما يذكره فوكوياما من أسباب لهذا الاعتقاد يؤكد ذاتيته .
(2)
هل تراجع فوكويوما
في مقاله الأخير الذي أصدره فوكوياما مؤخرا بعنوان ( إعادة نظر في نهاية التاريخ ) وقد نشرته مجلة " الكتب وجهات نظر " في عددها الثامن سبتمبر 1999 بترجمة الأستاذ أحمد محمود . يتساءل فوكوياما في هذا المقال الأخير : هل يعني ذلك من الصحيح أن ما قدمه في كتابه من أن كل شئ في النظام السياسي والاقتصادي الكوني يسير فعلا إلى حالة الاستقرار النهائية ؟ يجيب فوكوياما على هذا السؤال في مقاله الأخير بالنفي ، ولأسباب سياسية واقتصادية إلى الحد الذي يجعله يصرح بسؤال : لماذا كان القول بنهاية التاريخ خطأ إلى حد كبير ؟ ، إنه يصرح بأنه اكتشف أن احتمال كون الإنسانية في هذه المرحلة الديموقراطية الليبرالية القائمة على العولمة الحتمية قد اقتربت من نهاية التاريخ إنما ينشأ فقط في ظل شرطين : أولهما أن التقدم العلمي التكنولوجي له نهاية يتوقف عندها . والثاني : أن الطبيعة البشرية ثابتة لا تتغير تغيرا جذريا . وبما أن هذين الشرطين غير متوفرين : كما تبين له أخيرا فإن احتمال تحقق ما سماه نهاية التاريخ أصبح أمرا مشكوكا فيه كذلك :
أما الشرط الأول فقد أصبح مشكوكا فيه بسبب التقدم العلمي الذي لم يعد له نهاية ملحوظة إلى الحد الذي ينبئ باحتمال أن يخلق نوعا جديدا من البشر ومن ثم ينهار الشرط الثاني الذي افترض ثبات الطبيعة البشرية .
وفي المجال العلمي فهو يقرر أن الإنسانية على شفا انفجار جديد من الابتداع التكنولوجي ، وأنه إذا كان القرن العشرون هو قرن الفيزياء التي كانت منتجاتها النموذجية القنبلة الذرية والترانزستور فإن القرن الواحد والعشرين يبشر بأن يكون هو قرن البيولوجيا أو علم الأحياء .
فإلى حد ما من الممكن اعتبار ما حدث طوال القرن والنصف المنصرمين ثورة في التكنولوجيا الحيوية إذ جاءت لنا بالتطعيمات ضد الجدري وشلل الأطفال مما أدى إلى زيادة متوسطات الأعمار المتوقعة ، والثورة الخضراء في الزراعة والفوائد الأخرى التي لا حصر لها . غير أن اكتشاف تركيب ما يسمى الحمض النووي فتح مجالا أرحب كثيرا في غزو الإنسان للطبيعة . وسوف تجعل أنواعُ التطورات التي يحتمل حدوثها في الجيلين القادمين : تجعل ما حدث في السابق من تقدم تافها إذا ما قورن بها .
وتوحي الأبحاث التي أجريت مؤخرا على الخلايا الموجودة في الأجنة التي لم تتخلق بعد لتصبح أعضاء الطفل المختلفة توحي بأن الشيخوخة وعدم تجديد الخلايا الميتة عمليتان يمكن التحكم فيهما وراثيا ويمكن تشغيلهما أو وقفهما بطريقة متعمدة ، ويعتقد بعض الباحثين في الوقت الراهن – كما يقول – أنه قد يكون من الممكن للعلم أن يمكن بعض البشر من أن يحيوا بشكل معتاد لمدة مائتي أو ثلاثمائة عام ، وربما أطول من ذلك ، وعلى مستوى عال من الصحة .
إن النتيجة الأكثر جذرية للبحث الدائر في مجال التكنولوجيا الحيوية هو احتمال تغيير الطبيعة البشرية ذاتها ليس فقط بالتأثير على الفرد الذي تطبق عليه : وإنما على كل الذرية التالية لهذا الفرد ، فلا تكتفي بنشاطها في الأغراض العلاجية وإنما – وفي ظل عدم وجود اتفاق فيما يتعلق بما يشكل أساس الصحة - : سيصبح في الإمكان أولا إعطاء هرمون النمو لطفل يعاني من القزامة لوجوده في شريحة الشذاذ الذين لا يتجاوزن نسبة خمسة في المائة ليصبح في عداد من يعتبرون أطفالا عاديين ، ثم يصبح بعد ذلك يعطى لطفل في شريحة العاديين ( شريحة الخمسين في المائة ) ليصبح في عداد نموذج جديد من البشر وهكذا تتغير مقاييس أشكال الصحة أساسا بغيثر ضابط أو نهاية(/3)
يقول كثيرون – حسب فوكوياما - : إنه يمكننا أن نرسم خطا بين العلاج المطلوب ، والتحسين المحذور ، وأنه يمكننا أن ندخر الهندسة الوراثية من أجل العلاج - [كما هي الدعوة التي يتبناها في مصر الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء عن طريق إصدار القوانين والمواثيق ] هؤلاء حسب رأي فوكوياما واهمون ، أو هم من غير المهتمين بما يجري في الحياة العلمية في الفترة الأخيرة .
فمما سيمكن تحقيقه في يوم من الأيام : العلاج بالعقاقير الذي يحدث نفس المستوى الأساسي من التأثير على السلوك البشري ، وهناك أعداد لا حصر لها من الحالات التي تمت فيها تهدئة أطفال على قدر كبير من الفوضى أو العنف أو العدوانية بعقار ريتالين .
وبالمثل فإن هناك عقار بروزواك الذي كان له أثر كبير في علاج المرضى الذين يعانون من الاكتئاب ، وهو يؤثر تأثيرا على مستوى السيروتونين في المخ الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالمشاعر الخاصة بالثقة بالنفس والكرامة
وبدلا من السعي – كما كان الأمر يحدث سابقا – إلى التغلب على النفس بكل قلقها ومحدوديتها .. يمكن لنا الآن أن نبتلع حبة دواء فحسب .
ويمكن للعقار الأول أن يقلل من ذكورة الأولاد ، كما يمكنه أن يقلل من أنوثة المرأة – حسب الطلب أو التخطيط المركزي على السواء – ليصل بنا إلى صنف مخنث من البشر ، وهو الهدف الذي تهدف إليه السياسة الجنسية المعاصرة ، تحقيقا لهدف المساواة ، الذي قال نيتشة عنه في الإنسان السوبرمان ( الكل يريدون أن يكونا سواء ، فالكل سواء )
وهذه التطورات التي يشهدها علم العقاقير العصبية تقدم لنا عينة لما سيأتي في القرن الجديد ، وبالتالي سنكتسب القدرة على التحكم في المورثات نفسها ، وبالتالي تغيير مجموعة السلوك التي كان يتم التحكم فيها وفقا لنظام المورثات قبل هذا التعديل .
وأن الأمر يتطور إلى أن يصبح في إمكان هذه التقنيات أن تؤدي إلى : أن تخلق نوعا جديدا من البشر .
وبهذا يكشف فوكوياما عن أن الافتراضين الأساسيين اللذين بنى عليهما أطروحته في نهاية التاريخ : وهما نهائية التقدم العلمي ، وثبات الطبيعة البشرية غير صحيحين : وأنه إذا كان البشر –حسب زعمه قابلين للتشكل بصورة لا نهائية وأن الثقافة تحتوي على إمكانات أكبر في قابلية التشكيل فحينئذ ( يكون جليا أنه ليست هناك مجموعة معينة من المؤسسات السياسية والاقتصادية الليبرالية يمكن أن تصل إلى أن تكون مرضية كل الرضا )
(3)
نهاية الإنسان
لكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد في مقالة فوكويوما الأخيرة
فهو يلاحظ– في صحوة ضمير – :أنه بينما أن للتكنولوجيا الحيوية آثارها المفيدة التي لا يمكن إنكارها فإن كثيرين ينظرون إليها بقدر أكبر كثيرا من الشك ، بل إن مصدر الخطر فيها هو مالها من هذه الآثار المفيدة التي تجعل من غير الممكن الاستغناء عنها .
وفي أوربا وألمانيا على وجه الخصوص جعلهم التراث النازي حذرين بشأن الأبحاث الوراثية والتحكم في الجينات ، وقد حظر الألمان أنشطة مثل أبحاث المورثات ، كما دخلوا في خلافات مع شركات التكنولوجيا الحيوية بشان الأطعمة التي أدخلت عليها تغييرات وراثية .
وفي تكنولوجيا المعلومات : (هناك بعض الاستخدامات التي لن يدافع عنها حتى أكثر المؤيدين لحريتها : مثل عري الأطفال على صفحات الإنترنيت ، - ناهيك عن عري النساء الذي لم يشر إليه فوكوياما – وتداول معلومات صنع القنابل ، وحتى إذا أراد أحد السيطرة ، على استخدامات التكنولوجيا في مجال المعلومات فلن يكون بالإمكان القيام بذلك ، وأية محاولة لفرض قيود على استخدام تكنولوجيا المعلومات في الوقت الراهن سوف يتطلب مستوى من الحكم الكوني الذي لاوجود له حاليا ومن غير المحتمل أن يكون موجودا في أي وقت في المستقبل ) . ( وسوف تواجه المشاكل ذاتها أية محاولة للسيطرة على التكنولوجيا الحيوية فسوف تكون منافعها على قدر كبير بالنسبة لكثير من الناس بحيث سيتم تجاهل الهموم الأخلاقية بشأن مساوئها التي هي في رأيي – حسب تعبير فوكوياما - أشد خطورة بكثير من تكنولوجيا المعلومات .. ) ويقرر أننا قادمون على تطورات ( أكثر جذرية وبالتالي أشد رعبا تكمن في المستقبل ) : وأنه لن يكون بمقدورنا –في مجال الاستنساخ مثلا – أن نفرض قيودا سياسية على البحث العلمي ( وحتى إذا أردنا أن تكون هناك قيود فلن يمكن فرضها )
.(/4)
( وتعني العولمة – عنده - أن أية دولة ذات سيادة تسعى لفرض قيودها على الاستنساخ مثلا أو خلق الأطفال المصمَّمين لن تفلح في ذلك ، فالأزواج الذين يواجهون حظرا يفرضه الكونجرس الأمريكي قد يمكن لبعضهم التسلل إلى جزر الكيمان أو المكسيك .. بل التنافس الدولي قد يدفع الدول إلى تجاهل وخز الضمير ، فإذا بدا أن منطقة أو دولة تنتج أفرادا أسمى وراثيا من خلال قواعدها المتساهلة بشأن التكنولوجيا الحيوية فسوف يكون هناك ضغط على الدول الأخرى لتلحق بها) ويصبح النظام الدولي – القائم على العولمة والذي سمح بانتقال تكنولوجيا المعلومات الخيرة ، غير صالح لمواجهة التكنولوجيا الحيوية الأكثر شرا ( وعندئذ تكون جهود إغلاق الأبواب لا نفع فيها )
ولا يصح لأحد – كما يقول فوكوياما – أن يقلل من شأن النتائج المحتملة لذلك على أي من السياسة والأخلاق ، وإذا بلغ الأمر– كما يقول – فوكوياما – حد أن الطبيعة ليست شيئا وهبنا إياه الرب ، أو ميراثنا الارتقائي ، بل صنعه البشر فحينئذ ندخل مملكة الرب – على حد تعبيره بكل القوى المخيفة للخير والشر التي يوحي بها هذا الدخول .
والمشكلة إذن – كما وضع فوكوياما يده عليها أخيرا في صحوة ضمير – مشكلة أخلاقية .
وسوف نتوقف نحن عند هذه النقطة لنعود إليها ، لكن يبقى أن نسأل عن أطروحته في نهاية التاريخ ما الذي حدث لها بعد هذا التحليل ؟
هنا نجد فوكوياما يحاول بلعبة لفظية إنقاذ أطروحته السابقة في نهاية التاريخ إذ يقول أنه ( سنكون قد انهينا التاريخ البشري بكل تأكيد لأننا سنكون قد ألغينا البشر أنفسهم ، وحينئذ سيبدأ تاريخ ما بعد البشري ) .
(4)
نهاية حضارة
إن ما يسميه فوكوياما نهاية التاريخ البشري والانتقال لما بعد البشري لا يعني غير انهيار البشرية لأسباب أخلاقية كما صرح بذلك ، وليس الوصول بهذه البشرية - كما زعم سابقا - إلى مرحلة الرضا المنبعث من ( الثيموس ) . بل دون أمل فيما يسميه ما بعد البشرية .
إذ ماذا يتبقى بعد هذه النهاية المأساوية لتاريخ البشرية ليقوم عليه تاريخ ما بعد البشرية ؟
وماذا في يد العلم ليبدأ الخطوات الأولى في هذا التاريخ بعد أن تم استبعاد الله – وحاشاه – من الطبيعة ، كما استبعد من البشرية ؟
وقد كان على فوكوياما بدلا من الدخول في ضباب وأسطورية ما بعد البشري – حسب زعمه – أن يتوقف طويلا أمام حقيقة أن تاريخ البشرية يحتاج إلى ما ينقذه :
ونحن نوافق فوكويوما في نظرته اليائسة لمن ينقذ البشرية في مرحلتها الحضارية الأخيرة لكي يعيدها إلى الطريق في سيرها نحو حالة الرضا : نعم نوافقه على ذلك لكن لسبب لم يدركه فوكويوما منذ البداية وهو أن هذه الحضارة إذ ارتكزت على عنصري الاقتصاد ومطلب اعتراف الآخر فقد أهملت منذ البداية عنصر الإيمان بالدين والاعتراف بها أمام الله ، وقامت على العلمانية الأمر الذي جعلها في نهاية تطورها الخاص بها في موقف الإفلاس الأخلاقي إفلاسا لم يعد يمكنها من الإمساك بقشة النجاة من الغرق بالرغم من تفوقها الاقتصادي والعلمي ، بل بسبب تفوقها الاقتصادي والعلمي معا .
هنا نمسك بتلابيب المأساة : وهي مأساة هذا النموذج الغربي للحضارة ، إذ ليس من شك في أن المشروع الذي قامت عليه الحضارة الأوربية المعاصرة في أصل بنيتها منذ بداية النهضة قد استبعد الدين تماماً، وإن كانت تلجأ إليه لأسباب عارضة أحيانا كما هو الحال في صراعها مع المسلمين . وهذه هي مأساة هذه الحضارة بالذات .
كل ذلك يهون ، أو يقاس ـ مع الفارق ـ على آثام حضارات تداعت من قبل ، لكن : ما تصنعه هذه الحضارة من كارثة للأرض : كوكباً ضمن المنظومة الفلكية ؟! لا يقاس عليه شيء .
وأخيرا يأتي مابشرحه فوكوياما من تدمير لتاريخ البشر ، انتظارا لوهم ما بعد البشرية
ومن هنا فقد كان يجدر بفوكوياما أن يتحلى بقدر أكبر من الشجاعة وأن يرتفع إلى مستوى المفكرين الذين ارتفعوا بقامتهم إلى مستوى معالجة هذا الموضوع ، وبدلا من أن يلعب لعبته اللفظية في القول بنهاية التاريخ البشري ليبدأ ما يسميه التاريخ ما بعد البشري : كان عليه أن يعلن بشجاعة نهاية هذه الحضارة لا نهاية التاريخ لتبدأ لا أسطورة ما بعد البشري ولكن : حضارة أخرى تجمع بين تجربة التقدم الاقتصادي وتجربة التقدم العلمي وتجربة التقدم الأخلاقي القائم على الدين .
فهل يصلح ما يسميه هاننجتون " صدام الحضارات " إعادة تأهيل أم هو محض غطاء لسقوط الحضارة(/5)
نهاية فتاة
دار الوطن
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عباده الذين اصطفى.. أما بعد:
فتى ا لأحلام
قالت وهي تذرف دموع الندم: كانت البداية مكالمة هاتفية عفوية، تطورت إلى قصة حب وهمية، أوهمني أنه يحبني وسيتقدم لخطبتي... طلب رؤيتي.. رفضت.. هددني بالهجر! بقطع العلاقة! ضعفت.. أرسلت له صورتي مع رسالة وردية معطرة! توالت الرسائل... طلب مني أن أخرج معه.. رفضت بشدة.. هددني بالصور، بالرسائل المعطرة، بصوتي في الهاتف - وقد كان يسجله - خرجت معه على أن أعود في أسرع وقت ممكن.. لقد عدت ولكن.. عدت وأنا أحمل العار.. قلت له: الزواج.. الفضيحة... قال لي بكل احتقار وسخرية: إني لا أتزوج فاجرة..
أختي الكريمة
أرأيت كيف تكون نهاية هذه العلاقات المحرمة؟
لذا فتنبهي أنت جيدا واحذري كل الحذر من أن تتورطي بشيء من هذه العلاقات، وإياك إياك من أن تغويك إحدى رفيقات السوء، وتجرك إلى شيء من هذه العلاقات الدنيئة، وتزينها لك، وتوهمك بأنه لن يحصل لك كما حصل لغيرك من الفضيحة أو غير ذلك.
إياك إياك أن تصدقي شيئا من ذلك ؛ فإن هذا كله من مكائد الشيطان وألاعيبه، وإلا فإن نهاية العلاقات المحرمة دائما كهذه النهاية المذكورة أو أشد منها.
واحذري أيضا من أن تصدقي أحدا من هؤلاء المجرمين الذين يتلاعبون بأعراض الناس ؛ فإنهم كلهم في النذالة والخيانة والكذب سواء، مهما تظاهر الواحد منهم بصدقه وإخلاصه ث لأن هدف هؤلاء دائما واحد، وهو معروف، ولا يخفى على عاقل. فكم سمعنا وسمع غيرنا عن جرائمهم البشعة مع بعض الفتيات !
ولكن المصيبة أن بعض الفتيات - هداهن الله - لا يتعظن أبدا بما يسمعن من الفضائح التي تحصل لغيرهن، ولا يصدقن ما يقال لهن إلا إذا وقعت الواحدة منهن فريسة لمثل هؤلاء المجرمين، وتورطت معه بمصيبة أو فضيحة، فحينئذ تصحو هن غفلتها، وتندم على عملها هذا أشد الندم، وتتمنى الخلاص من هذه الورطة وهذه الفضيحة ولكن بعد فوات الأوان !... فلماذا كل ذلك؟!
كان الأولى بمن تورطت بمثل ذلك - لو كانت عاقلة -أن تبتعد عن هذا الطريق من أوله، ولا داعي للعناد والمغامرة بمثل هذه الأمور ؛لأن المغامرة بمثل هذه الأمور تعتبر مأمرة بالشرف الذي هو أعز ما لدى المرأة، والذي لو ضاع لا يمكن تعويضه أبدا. ومن هي الفتاة التي تريد أن تفقد أعز ما لديها من خلال نزوة عابرة ؛ لتعيش بعد ذلك بين أهلها ومجتمعها ذليلة حقيرة منكسة الرأس، لا يطلبها أحد، فتعيش بقية عمرها حسيرة كسيرة في بيتها، بينما من هن أصغر منها سنا أصبحن أمهات ومربيات أجيال.
لذا فكوني أنت أختي الكريمة عاقلة، وابتعدي عن مثل هذه العلاقات ؛ لئلا تكوني أنت الضحية القادمة، واعتبري بما حصل لغيرك، ولا تكوني أنت عبرة لغيرك، واعلمي أن الفتاة الأمينة ثمينة؟ فإذا خانت هانت. لذا فأبقي أنت على نفسك عزيزة كريمة، ولا تتسببي في إهانتها وإنزال قدرها وقيمتها.
أختي الكريمة
لا تصدقي أن زواجا يمكن أن يتم عن طريق مكالمات هاتفية عابثة أبدا ؛ لأن لسان حال أهل المعاكسات دائما إذا طلب منهم الزواج هو:
كيف الوثوق بغر وكيف أرضى سبيله من خانت العرض يوما عهودها مستحيلة.
فإذا كان هذا هو الرد غالبا فيجب على كل فتاة عاقلة يهمها شرفها وعفافها أن تبتعد عن مثل هذه العلاقات ؛ لكي لا تضطر لسماع مثل هذا الرد المؤلم، ولكي تحفظ شرفها وكرامتها ما دام الأمر بيدها... ولو فرض و تم الزواج عن طريق العلاقة بالمكالمات الهاتفية، فإن مصيره غالبا إلى الضياع والفشل ؛ لما سيصاحبه بعد ذلك من كثرة الشكوك والاتهامات.
ولا تصدقي أيضا ما يردده أدعياء التقدم أو ما يسمون بدعاة تحرير المرأة من أنه لابد من الحب قبلالزواج، فالحب الحقيقي لا يكون إلا بعد الزواج، وما سواه فهو في الغالب حب مزيف مؤسس على أوهام وأكاذيب لمجرد الاستمتاع وقضاء الوطر، ثم لا يلبث أن ينهار فتنكشف الحقائق ويظهر المستور.
أختي الكريمة
إذا كنت تريدين السعادة في الدنيا والآخرة، وتريدين النجاة من سخطالله وعقابه، والفوز بجنته ورضاه، وأن تعيشي عزيزة كريمة في هذه الدنيا، إذا كنت تريدين كل ذلك فالتزمي بهذه النصائح:
احذري المكالمات الهاتفية؟ فإنها تسجل عند الله تعالى، ويسجلها شياطين الإنس "أدعياء الحب " فيستخدمونها سلاحا للضغط عليك، أو للنيل من سمعتك وعرضك.
احذري التصوير بشتى أنواعه فإنه علاوة على تحريمه ولعن صاحبه؟ فهو من أخطر الأسلحة التي يستخدمها ذئاب البشر لإرغام الضحية وتهديدها وافتراسها.
احذري كتابة الرسائل الغرامية؟ فهي أيضا من وسائلهم في التهديد والضغط. *احذري المجلات والروايات الهابطة والأغاني الماجنة.
احذري أيضا المسلسلات والأفلام الفاسدة المضللة، التي غالبا ما تكون سببا للانحراف والفساد، واستبدلي ذلك بالكتب والمجلات النافعة والأشرطة الإسلامية التي تفيدك دينا ودنيا.(/1)
احذري التبرج والسفور؛ فإن تبرج المرأة دليل على جهلها وضعف إيمانها ونقص في شخصيتها، وهو انحطاط وسقوط اجتماعي ونفسي، ودعوة إلى الفاحشة والفساد، وهو عمل يتنافى مع الأخلاق والآداب الإسلامية. وحافظي على حجابك؟ فإن الحجاب عفة وطهارة، وهو تشريف وتكريم لك، وليس تضييقا عليك كما يزعم أهل الشر والفساد وأعداء الإسلام، وهو أعظم دليل على إيمانك وأدبك وسمو أخلاقك، وهو تمييز لك عن الساقطات المتهتكات.
احذري جميع المعاصي والذنوب ؛ فإنها - والله - سبب زوال النعم وحلول النقم ونزول المصائب، وهي سبب تعاسة الإنسان وشقائه في الدنيا والآخرة.
وأخيرا
تذكري - أختي الكريمة - أنك سترحلين عن هذه الدنيا عما قريب؟ فإن كنت قد ألممت بشيء من الذنوب فبادري بالتوبة النصوح منها قبل أن يحال بينك وبين التوبة؟ فإني والله لك من الناصحين، وعليك من المشفقين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين.(/2)
نهج التعامل مع أهل البدعة في وقت الفتنة ...
...
03-06-2004
إن العلم بأصول التعامل مع أهل الافتراق عن منهج صحابة رسول الله ضرورةٌ يفرضها وجود هذه الفرق، ويحتمها ما يترتب على أسماء الدين وأحكامه من حقوق وواجبات شرعية يأثم المرء بتعطيلها، فضلًا عما يصيبه من ضنك العيش بالتفريط فيها . ولئن كان الحال كذلك في أوقات الأمن والاستقرار، فإنه في حال الفتنة والمحنة آكد، ويدرك هذه الأهمية من أدرك معنى قوله صلى الله عليه وسلم: [بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا]رواه مسلم. وإنما ذلك لعِظم الفتن.
إن قضية التعامل مع أهل البدع تفرض نفسها اليوم في واقعٍ من الفتنة التي يمكن تصويرها من خلال سياقين مؤلمين تعيشهما أمتنا الإسلامية:
فأما الأول: فهو استباحة بيضة بلاد الإسلام استباحةً علنيةً لا لَبس فيها، وضابط ذلك: وجود الكافر الحربي في ديار الإسلام وجوداً علنياً سافراً.
وأما الثاني: فهو استشعار مجتمعٍ مسلم تربُص الكافر الحربي به للانقضاض عليه، واستباحة أراضيه، وأمواله، ودمائه، وأعراضه.
والمصيبة المشتركة بين السياقين في واقعنا المعاصر تتمثل في غياب الإمامة الشرعية الصحيحة عن الساحة السياسية للأمة، تلك الإمامة التي يناط بها عادةً:
المرابطة على ثغر الأمة العقدي من جهة.
وحماية كيان الأمة السياسي من جهة أخرى .
مما يفرز تساؤلات عديدة حول الأولويات والحاجات المفتقر إليها لتحقيق أمن العقيدة، ووحدة الصف السياسي للأمة، حيث إن نفس هذا الكيان الحسي للمجتمع أو البلد؛ أصبح مهدداً بالخطر في هذين السياقين. وأعتقد أن خارطة الأمة الإسلامية من الوضوح بمكان من جهة تحقق هذه السياقات على أرض الواقع بحيث إني سأعمم القول قدر المستطاع؛ ليُتمكن تنزيله على ما يستجد من وقائع مماثلة، وحتى لا نحصر تنزيل أصول وقواعد هذا المنهج في جزئيات ميدانية قابلة للتبدل فيقع الوهم واللبس.
إذا عُلم هذا، فلا بد لنا قبل الخوض في هذا الموضوع من أن نقرر جملةً من الثوابت المتعلقة بالموضوع وإن بدا بعضها بدهياً، فالغرض هنا تقريرها حتى نتحاكم إليها فيما يفرضه الواقع من متغيرات وجزئيات متبدلة، فتكون عوناً لنا على الاستنارة حيث تدلهم الخطوب:
القاعدة الأولى: إن الافتراق أمر ثابت في هذه الأمة لا يجدي جحوده ولا يقلل من خطره إنكاره: والدليل على ذلك قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[115]}[سورة النساء].. فهذا أصلٌ في الافتراق المنهجي العلمي، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[72]}[سورة الأنفال]. فهذا أصل في وقوع المفارقة الحسية ابتداءً، وقوله تعالى :{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ...[9]}[سورة الحجرات] . فهذا أصل في وقوع المفارقة بعد وجود الاجتماع فهو افتراق طارئ .
فاتفق لنا ثلاث صور من المفارقة هي:
المفارقة المنهجية: وضابطها: الاجتماع المنهجي على أصلٍ بدعي مخالف لمنهج الصحابة.
والمفارقة الحسية الأصلية بترك اللحوق بالجماعة ابتداءً: وضابطها: التخلف عن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام مع القدرة عليها .
والمفارقة الحسية الطارئة: وضابطها: البغي على إمام مستقر بتأويل أو شبهة .
وقد يجتمع الافتراق المنهجي والحسي، فتصبح للفرقة المجتمعة على أصل بدعي أو أكثر شوكة تهدد الأمنين العلمي والسياسي لجماعة المسلمين.. وكل هذه الصور موجودة اليوم على مدى الخارطة الإسلامية نسأل الله السلامة والعافية.
القاعدة الثانية: خطر الافتراق علميٌ منهجي أو عمليٌ سياسي وقد يجتمعان: وإن أهمية التمييز بين أنواع الافترق المذكورة آنفاً تتمثل في معرفة مناط الخطر من هذا الافتراق أهو الأمن العقدي العلمي الذي يُخشى أن يفتتن الناس به في دينهم ..أم هو الأمن الحسي الجماعي الذي يُخشى أن يتخطف به الناس من أمنهم واستقرارهم. فهذا الافتراق ليس مسألة جماعة من الناس اختارت لنفسها رأياً، أو طريقاً خاصاً يحتمل السكوت عنه تحت تأثير وَهم حرية الرأي والتعبير، وإنما هو خطر حقيقي يضر بأمن المسلمين علمياً وعملياً .(/1)
فأما الضرر العلمي العقدي: فهو ما يدخل قلوب المسلمين من شبهات تشكك في العقيدة، وتنكت النكت السوداء في القلب، ولقد نبه الله إلى خطورة هذا المسلك حين مارسه طائفة من أعداء الدين الأصليين حين كانت الدعوة في مهدها، تأمل معي قوله تعالى:{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[72]}[سورة آل عمران] . وهكذا أهل الافتراق البدعي يوهمون الانتساب إلى منهج الحق، ويحشدون في التدليل على ذلك حشود متشابه القرآن والسنة الموضوعة إن أعياهم تأويل الصحيحة، فإذا هم يضللون ويلبسون على الناس دينهم؛ لعل الناس يرجعون عن جادة الحق، ويتبعون سُبُل أهل الأهواء .
والغالب في منهج أهل الفرقة والهوى هو لَبس الحق بالباطل كما كان منهج اليهود والنصارى حيث قال تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[71]}[سورة آل عمران] .
وأما الضرر العملي: فحسبك عليه منبهاً قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[107]}[سورة التوبة]. وتأمل حولك اليوم لترى كم من مساجد الضرار، وكم من هيئات الضرار، وكم من فتاوى الضرار.. يطلع علينا بها عُبَّاد الأهواء من المنظرين لجماعات الافتراق والتفريق، الذين قطَّعوا الأمة إرباً إرباً تحت شتى رايات البدع والضلال.
وإذا عجبت فالعجب لا ينقضي ممن يكيل التهم لأهل الحق، ويتهمهم ببذر بذور الفتنة والشقاق حين ينبهون أهل الأهواء من غفلتهم، أو يفضحونهم حين يصرون على ما هم سادرون فيه، ويتجاهل عمداً، أو سهواً الإنكار على المتسبب في وقوع الفرقة أصلاً، فمثل هؤلاء كمثل من ينكر على من صاح على القاتل، ولا ينكر على القاتل نفسه!
وأما اجتماع الخطرين: فيحدث حينما تكون لأهل الافتراق المنهجي شوكة تعكر على جماعة المسلمين صفو دينهم وأمنهم، ولعل الطامة الكبرى تكون حين يلجأ بعض أهل الفرقة والهوى اليوم إلى التماس الشوكة من أعداء الإسلام المتربصين كجحافل الصليب المستأسدة، فيرتمون في أحضانها طلباً للشوكة والمنعة، ويتجاهلون استحالتهم أدوات طعن في جسد هذه الأمة التي يزعمون الانتساب إليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
القاعدة الثالثة: أتباع منهج صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمتحنون الناس: قال الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ ...[94]}[سورة النساء]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَلَا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ]رواه البخارى. قال الحافظ ابن حجر في شرحه:' وفيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر, فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك'.
فالحاصل أن أتباع منهج الصحابة يأخذون بظواهر الناس التي قررها الشرع، ولا ينقبون عما في قلوبهم، وهذا كله حيث بقيت هذه البدع مستورة في قلوب حامليها فلا ينقب عنها، أما إذا أظهر أهل البدعة بدعتهم، فذاك مقامٌ آخر من حيث الإنكار الشرعي بضوابطه المعروفة.
القاعدة الرابعة:توعد أهل الافتراق والبدع بالنار لا يستلزم كفرهم: فقوله صلوات الله وسلامه عليه في حديث افتراق أمته كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً] رواه ابن ماجه وأحمد . من باب الوعيد . فإذا عُلم هذا فليعلم كل مسلم أن أهل النجاة هم أتباع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في فهم وتطبيق الكتاب والسنة، وكل من عداهم قد سلكوا من الضلال مسلكاً قد يقف بهم عند حدود المخالفة والفسق، فيكون وعيدهم بالنار من جنس وعيد عصاة الموحدين من أصحاب الكبائر، وقد يفضي بهم مسلك الضلال إلى مهالك الكفر، فيكون وعيدهم بالنار من جنس ما وعد الله تعالى به الكفار، والمشركين، والمنافقين .. وبهذا يندفع الإشكال المتوهم من أن أتباع منهج السنة والجماعة يكفرون غيرهم من المنتسبين إلى القبلة.(/2)
القاعدة الخامسة:مكافحة أهل الأهواء والبدعة والفرقة علمية وعملية: وهذا مهم جداً ويدور مع طبيعة الافتراق الحاصل كما بينا في القاعدة الأولى، فحيث كانت الفُرقة علمية منهجية كانت مجاهدتها بالحجة والبيان، وحيث كانت الفُرقة عملية حسية كانت منازلتها بالشوكة والسنان، ولا يستلزم القتال والقتل في الأخيرة تكفيرًا ولا خروجًا عن الملة، وإن كان يحتمله بحسب حال الأصل البدعي المفارَق عليه.
ومنهج التعامل مع أهل الفرق والأهواء إنما ينطبق في أكمل صوره على حالة الاستقرار السياسي العقدي للأمة بحيث يكون للأمة إمام تقوم به شوكة الدين، ويعلو به عَلَمُ السنة، أما والحال كما ذكرنا من سياقات ضاعت فيها الإمامة الشرعية، واستباحت بيضةَ الدين فيها جحافلُ الحربيين الكفرة في جزء من بلاد الإسلام، وتربصت جحافل أخرى بما تبقى منها، فكيف يكون مسلك مكافحة البدعة والفرقة، وأين أولوية قتال أهل الافتراق حفاظاً على أمن الأمة السياسي من قتال جحافل الكفر التي تتهدد الكيان السياسي للأمة برمته؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات تقوم على أساس التمييز بين ما يختص بالثوابت العقدية الراسخة القائمة على التوقيف المطلق، وبين ما يتعلق بفقه السياسة الشرعية القائم على أساس موزانة المفاسد والمصالح درءاً وجلباً على الترتيب.
والأصل فيما سنعرض له من معالم هذا المنهج يقوم على التفريق بين مقام النهي في قوله تعالى:{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ[8]وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ[9]}[سورة القلم]، وبين مقام الرخصة في قوله تعالى:{ ...إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ...[28]}[سورة آل عمران]، إنه التفريق بين مقام المداهنة المنهي عنها شرعاً، ومقام التألف، والمداراة المرخص به شرعاً ، وفيما يلي تقرير بعض معالم منهج التعامل هذا:
أولاً: لا مداهنة في مسائل الاعتقاد: إذ أن الغاية من كل ما نجاهد لأجله هو الحفاظ على هذا المعتقد، وكل ما نسعى إلى تحقيقه من الاجتماع الحسي السياسي، وإقامة قلعة الإسلام وأمة الإسلام إنما هو من جنس الوسائل، وإنه لمن السفه بمكان أن نفرط في شيء من المقصد وهو مجموع مفردات العقيدة بحجة المحافظة على وسائل حمايتها .
فكلمة التوحيد هي مناط النجاة، ولو انفرط عقد الجماعة، ولو ضاعت معالم الأمة بحيث لم يبق منها إلا أطياف من البشر متناثرين هنا وهناك، ولن تجد نصاً في الكتاب ولا السنة يشير إلى مجرد اجتماع الناس في صورة أمة، أو جماعة، أو دولة يحقق لهم النجاة بمنأى عن العقيدة؛ ولهذا يجب أن يستقر في أذهاننا أن مفردات العقيدة ثوابت راسخة لا يصح أن تكون مجال مداهنة، أو تنازل، مهما كانت الحجة والمبرر كالتذرع بالمحافظة على الجماعة، وعدم تشرذم الأمة، ونحو ذلك مما يسمى المصلحة الوطنية والوحدة الوطنية .
ومهما أمكن الموزانة بين تحقيق الاجتماع الحسي والسلامة في المعتقد، فقد وجب ذلك، وأنه مهما ألجأ الواقع إلى التفريط بأحدهما دون الآخر، فلا مندوحة عن تفويت كل ما عدا ثوابت العقيدة في سبيل الحفاظ عليها .
وتأمل معي كلام الله تعالى حكايةً عن إنكار موسى عليه السلام واقعَ الشرك الذي تلبَّس به بنو إسرائيل :{ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا[92]أَلَّا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي[93]قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي[94]}[سورة طه] فها هو نبي الله هارون عليه السلام يرجح كفة الاجتماع، ويحاول قدر الإمكان استيعاب بدعة الشرك التي جاء بها السامري .
ولربما عذر موسى عليه السلام لأخيه هارون عليه السلام اجتهاده، ولكنه لم يقره عليه البتة حيث انصرف للتو يطهر هذه الجماعة من رجز الشرك ولوثة العقيدة ، تأمل :{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ[95]قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي[96]قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا[97]إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا[98]}[سورة طه].
فلم يراع موسى عليه السلام أمام تهديد أمن العقيدة أي شيء آخر فالسامري صاحب فكرة وأتباع يُخشى بمجابهته انفراط عقد الجماعة، ولكن إذا تعين ذلك لحفظ العقيدة؛ فلا ضير، والعجل له عُبّاده ومريديه-وما أكثر عجول اليوم- وربما أدى تحريقه إلى انفراط عقد الجماعة ولكن لا ضير.(/3)
ألا فليعلم كل مسلم أن لو استلزم الأمر التضحية بكل سامري، وخسارة كل عابد عجل في مقابل تحقيق أمن العقيدة ألا فليكن، ألا ولبئس الجماعة التي تحتضن شاكلة السامري وأتباعه بل أي معنى يبقى للجماعة إذا كان مدار تأليف القلوب الإقرار بالشرك بالله، أو السكوت عليه على أقل تقدير.
ثانياً: المداراة مشروعة لدفع الضرر ودرء المفسدة فتقدر بقدرها: وهذا من أبجديات فقه السياسة الشرعية، ولتعلم أن الضابط في مشروعية المداراة: غياب شوكة أهل الحق، وأن الضابط في حد المداراة ومداه: ما يندفع به الأذى والضرر عن جماعة المسلمين فحسب.
فتنبه لهذا فإنه دقيق جداً، وبالغفلة عنه ينجرف البعض في تيارات المداهنة والتمييع والملاطفة ليصبح حاله حال من غصَّ فكاد يختنق فشرعت له شربة خمر متعينة لتذهب غصته فإذا به يسترسل في زجاجة الخمر سادراً متمتعاً! والحاصل أنه لا يجوز أن يتحول الإذن بالمداراة المرتبط بالضرورة الملجئة إلى مجال تنازل عن شيء من الثوابت العقدية التي إنما فارق أهل البدعة أهلَ السنة بتركها .
ففرق بين أن تداري وتتألف قلوب فرقة ضالة، لها شوكة يُخشى أن يتضرر منها جماعة المسلمين، وبين أن نلغي هذه الأسس العقدية التي افترقنا عليها، ونعلن للناس أنه اختلاف بسيط لا يفسد للود قضية، وأن التقارب والتقريب بين الفريقين مشروع، بل مطلوب بحجة وحدة الصف، وحسبك مثالاً واضحاً اليوم ما تزل به أقدام العديد من حملة العلم المنتسبين إلى السنة من الإعلان بمشروعية ومندوبية – بل ربما وجوب - التقريب مع أهل الرفض، ولا أعني بأهل الرفض عوامهم بل منظريهم وعلماءهم وسادتهم ممن يعلمون حقيقة الفساد العقدي الذي يُضلون الخلق به.
وقريب من هذا المجال من يتمادى مع منظري وكبراء العلمانية بحجة وحدة الصف الوطني، ثم يتخذ من مشروعية المداراة ذريعة لذلك.
وغفل هؤلاء، أو ما دروا أن هذه المداراة ما شُرعت إلا حيث تعينت طريقاً للحفاظ على سلامة أهل السنة باعتبارهم حملة منهج الحق لا باعتبار ذواتهم وأشخاصهم، فمهما أفضت المداراة إلى تمييع منهج الحق، أو تضييع شيء من ثوابته؛ لم تعد مشروعةً البتة.
وهذا كله يعود إلى الأصل القرآني فيما أبيح للضرورة حيث قال تعالى:{ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[173]}[سورة البقرة]، فمن تجاوز المدارة إلى المداهنة، فقد بغى، واعتدى، وخرج عن حد الإباحة قولاً واحداً.
فمبدأ المداراة يقوم في الجملة على ترك الاستعداء، وترك الإعلان بالعداوة والبغض في الله لأعيانهم، وذوي الشوكة منهم لا لمناهجهم وأصولهم التي لا تنقطع مجاهدتها بالبيان الأولى بالأولى، ولا يقوم أبداً على الاستخذاء، والاسترضاء لرءوس البدعة ودعاتها، إن المداراة في حقيقتها أقرب إلى التحييد المؤقت لهذه الفئة حتى يُتفرغ لمن هو أعظم خطراً منها، وإن مشروعية المداراة والتألف مع هؤلاء يجب أن تقتصر على هذا التحييد ولا تتجاوزه إلى شيء من العلاقة الإيجابية، اللهم إلا ما دخل في جنس التعاون على البر والتقوى والمعروف مما لا شرط له كدفع صائل، ونصرة مظلوم، ونحو ذلك مما تتطلبه طبيعة المرحلة، وهذا وفق قاعدة ' للمسلمين نفعه وعليه وزره '.
ثالثاً: مداراة وتألُّف أهل البدع والافتراق ليست تقريراً لهم على بدعتهم وضلالاتهم: إن استحضار هذا الأصل يقي من الانجراف وراء أوهام التقريب التي قد تكون أوقات الفتنة مروجةً لها؛ ولذا نؤكد على ما سبق في الأصل السابق، وهو أن مداراة هؤلاء لا يُقصد منها سوى دفع الضرر الأكبر عن المسلمين وعنهم، ولا يراد بها تقريرهم على بدعتهم البتة . فالتألف والمداراة دفع لأعظم الضررين بالنسبة لكل من أهل الحق وأهل البدعة، وإرجاء للتعامل الحاسم مع أهل البدعة إلى حين انطفاء نار الفتنة، وعودة الشوكة لأهل الحق .
رابعاً: إن مداراة أهل البدعة زمن الفتنة لا يعطل جهادهم بالبيان: فزمن الفتنة أدعى لانحسار السنة، وافتتان الناس بباطل التأويلات، وزيف البدع والضلالات؛ فكان الواجب المرابطة على ثغور السنة بالعلم والبيان والمحاجة العلمية بالدليل، فيجب على أهل العلم وحملته أن يجتهدوا ويشمروا في بيان معالم الحق، والكلام في كل ما يشكل على الناس من أصول دينهم، لا سيما ما له علاقة بطبيعة الفتنة الحاصلة كأن يدهمهم العدو، أو يشغر الزمان عن إمام، ونحو ذلك.
خامساً: مراعاة الترتيب الشرعي، وسياق الحال في مكافحة البدعة:فمن البدعة ما هو مكفر، ومنها ما هو مفسق، ومن البدعة ما هو أقرب إلى الواقع العملي، ومنها ما هو أقرب إلى التأصيل العلمي النظري، ولا يصح في الأذهان الانشغال بما هو أقل ضرراً عما هو أشد ضرراً، ولا الانشغال بما هو نازلةٌ واقعة بما هو نظري تأصيلي يحتمل التأخير.(/4)
وهذا مأخوذ من أصول الشرع الدالة على وجوب الانشغال بالأهم كما صح في حديث بعث معاذ رضي الله عنه إلى أهل الكتاب حيث أمره صلى الله عليه وسلم بدعوتهم إلى التوحيد، ثم إلى الصلاة، ثم إلى الزكاة كما هو معروف.
فعلى سبيل المثال: نجد اليوم إحياءً لمفهوم الإرجاء من زاوية خفية قاتلة هي زاوية تعطيل الولاء والبراء، والتدليس على الناس بمفهوم التسامح الديني المغلوط؛ إذ أن ترويج مفهوم الإرجاء يقدم قاعدة وأرضاً خصبة لبذر بذور تولي الكفار، وخذلان المؤمنين طالما أن إيمان أهل الإرجاء لا يختل بذلك، فمن المهم حينما ننكر على بدعة الإرجاء اليوم ألا ننحصر في سياقاتها التاريخية، وأعيان رجالاتها الذين أفضوا إلى ما قدموا، ولكن نبرز خطورة بدعة الإرجاء من خلال ثمرات الحنظل المرة المتمخضة في واقعنا اليوم .
فنبين للناس كيف أن دعوى سلامة الإيمان، وتحققه مع اجتماع النواقض العملية للإيمان؛ دعوى هدامة قد جرَّت على المسلمين الويل والثبور، فوطأت بلادهم بل وفرشهم أقدام العدو الكافر بتعاون خياني حقير من هؤلاء الذين لم يروا بأساً في مد يد العون إلى كافر محارب، ولا في خذلان مسلم مقهور، وأخذوا يخدرون حس المسلم الذي آلمه ذلك كله بجرعات من الإيمان الإرجائي الذي لا يضر معه معصية، ولا كفر عملي طالما أن القلب يعرف لا إله إلا الله – بزعمهم - واللسان يتمتم بها دون وعي، ولا أثر عملي في حياة قائلها.
وقل مثل هذا في أصحاب بدعة العلمانية، والاعتزال، والرفض، والخروج: نعم إن لهذه البدع جذوراً تاريخية يهم العالم والباحث معرفتها ودراستها، ولكننا نتحدث عن نشر علم السنة بين أبناء المجتمع عوامه ومتعلميه وعلمائه، فينبغي الربط بالواقع ما أمكن، وتأصيل الجزئيات ما أمكن، وتخصيص النواحي العلمية التخصصية بأهل العلم المتخصصين ما أمكن.
فالناس لا يهمها كثيراً أن تعرف الجعد بن درهم، ولا واصل بن عطاء، ولا القاضي عبد الجبار، ولكن يهمها أن تعرف رموز العلمانية وأذناب الاستعمار والاستشراق، وزنادقة العصر، وتعرف أن الذين يقتحمون بيوتهم، وينتهكون أعراضهم من الكفار المحاربين قد جاءوا بعون من هؤلاء على اختلاف وتفاوت في مقدار العون بين منظِّر وناعق بوق لأفكار الهدم والتضليل، وبين ماد يد العون العملية بفكر ووشاية وردء وتوجيه، وبين مشاركة حسية عملية عسكرية في مد يد العدوان الأثيم على حرمات المسلمين مع التستر بشتى أنواع التبرير والتضليل المنتسب إلى العلم والإسلام وفتاوى التدجين، فتأمل.
سادساً: تحرير مناط استحلال السيف في رقاب المنتسبين للبدعة إن اضطر إليه:مهما قلنا عن ضرورة استفراغ الوسع في جهاد أهل البدعة بالبيان فإن سياق الفتنة قد يفرز واقعاً يتمحض فيه ضرر بعض المنتسبين إلى البدعة وخطرهم العظيم على أهل الإسلام بحيث يكون السكوت عنهم واحتمالهم في جسد المسلمين الواحد أشبه بالصبر على عضو مسموم في الجسد أخذ يبث ذيفاناته وخبثه في باقي الجسد، ويوشك أن يأتي عليه، وفي هذه الحالات المتعينة قد لا يكون أمام الجماعة المسلمة بدٌ من توجيه السنان وتسليط السيف حيث لم تنجع المداواة بالحجة، والقرآن، والسنة،
وهنا ينبغي التنبه إلى أمور:
منها: ضرورة عدم التوسع في هذا المسلك اتقاء الفتنة.
ومنها: ضرورة تحرير مناط استباحة دماء هؤلاء، وبيان ذلك بما لا يوهم أن سبب استباحة دمه مجرد انتسابه للبدعة، وليس الأمر بسبب الخجل، أو الخوف من الحكم الشرعي، وإنما الخوف من التعميم في الحكم، والتوسع فيه بدون مبرر شرعي .
ولنتذكر أننا نتحدث عن واقع الفتنة لا عن واقع الاستقرار وظهور الشوكة، فتلك حالة أخرى يتسنى فيها للإمام المسلم، أو موكله أن يقيم الحجة، ويحكم بالحكم الشرعي القضائي في هؤلاء، إن متأولين تائبين، أو أهل أهواء مصرين، أو زنادقة أو مرتدين.
فعلى سبيل المثال: إذا ظهر في واقع الفتنة أن بعض المنتسبين إلى البدعة يستحلون تقديم الردء والمظاهرة للكافر المحارب على المسلمين، وقرر أهل العلم والخبرة أن إراحة المسلمين من هؤلاء متعينة؛ فيجب أن يكون العذر الشرعي في استباحة دماء هؤلاء هذه المظاهرة والخيانة لله ولرسوله لا مجرد انتسابهم للبدعة، وهذا مهم جداً لتقليل الهرج والفوضى في زمن الفتنة، وحتى لا يتهاون الناس في دماء معصومة، فتنبه لهذا كله فإنه دقيق .(/5)
سابعاً: قاعدة جليلة في رد التنازع إلى الله ورسوله:ولقد تركنا المسك للختام حيث إنه مهما أعيت المُنَافِحَ عن السنة الحيلةُ في رد الخصوم، وبيان تهافت الضلالات؛ فإن له ملاذاً آمناً لا يخذله البتة، ألا وهو قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[59]}[سورة النساء] . قال الإمام أحمد رحمه الله:'أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم'[أصول السنة].
ولهذا: فإنك مهما وجدت صاحب فرقة وهوى يزعم الانتساب إلى الكتاب والسنة، فإنك لن تجده ينتسب إلى منهج الصحابة البتة، بل إن علامة أهل الفرقة ترك منهج الصحابة، وأمامك تاريخ الفرق وأهل الأهواء تأمله وراجعه؛ لتوقن أن أحداً منهم لا ينتسب إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، فمهما لبَّس عليك هؤلاء بتأويل آية متشابهة، أو حمل حديث على غير وجه الحق؛ فخاصمهم بسنن الصحابة رضوان الله عليهم، فإن كان لهم فيهم سلف وإلا، فهم صدر هذه الأمة ؛ إجماعهم حجة لازمة، واختلافهم رحمة واسعة، ولن تجد الحق خارجاً عن مجموع أقوالهم البتة، فتأمل.
وبعد، فإن هذا الموضوع من المواضيع الدقيقة والحرجة، ولا شك أن حيثيات كل جزئية من الواقع قد تتعلق بها من الملابسات ما يحتاج مزيد نظر وتأمل واجتهاد وتدقيق، وأذكر نفسي وإخواني في كل مكان سواء المرابطين على الثغور، أم المنشغلين في التنظير والتوجيه لعموم الأمة بضرورة التشاور والتريث، وعدم استعجال الأمور، ولنتذكر نحن أهل السنة والجماعة عظم المسئولية الملقاة على عاتقنا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من :' منهج التعامل مع أهل البدعة في وقت الفتنة ' للدكتور/ وسيم فتح الله(/6)
نواقض الإسلام
عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
دار الوطن
نواقض الإسلام
لسماحة الشيخ/ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فاعلم أيها المسلم أن الله سبحانه أوجب على جميع العباد الدخول في الإسلام والتمسك به والحذر مما يخالفه، وبعث نبيه محمداً للدعوة إلى ذلك، وأخبر - عزّ وجلّ - أن من اتبعه فقد اهتدى، ومن أعرض عنه فقد ضل، وحذر في آيات كثيرات من أسباب الردة، وسائر أنواع الشرك والكفر، وذكر العلماء رحمهم الله في باب حكم المرتد، أن المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله، ويكن بها خارجاً عن الإسلام، ومن أخطرها وأكثرها وقوعاً عشرة نواقض ذكرها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وغيره من أهل العلم رحمهم الله جميعاً ونذكرها لك فيما يلي على سبيل الإيجاز، لتَحْذَرَها وتُحَذِّر منها غيرك، رجاء السلامة والعافية منها، مع توضيحات قليلة نذكرها بعدها:
الأول: الشرك في عبادة الله تعالى، قال الله تعالى: إن الله لا يغفر أن يٌشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [النساء:116]، وقال تعالى: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار [المائدة:72]، ومن ذلك دعاء الأموات، والاستغاثة بهم، والنذر والذبح لهم كمن يذبح للجن أو للقبر.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط؛ يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، فقد كفر إجماعاً.
الثالث: من لم يُكَفِّر المشركين، أو شَكَّ في كفرهم، أو صحّح مذهبهم كفر.
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول ولو عمل به فقد كفر، لقوله تعالى: ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [محمد:9].
السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول أو ثوابه، أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [التوبة:65-66].
السابع: السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر، والدليل قوله تعالى: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [البقرة:102].
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [المائدة:51].
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر؛ لقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [آل عمران:85].
العاشر: الإعراض عن دين الله، لا يتعلمه ولا يعمل به؛ والدليل قوله تعالى: ومن أظلم ممن ذٌكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون [السجدة:22].
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطراً، وأكثر ما يكون وقوعاً. فينبغي للمسلم أن يحذرها، ويخاف منها على نفسه، نعوذ بالله من موجبات غضبه، وأليم عقابه، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم. انتهى كلامه رحمه الله.
ويدخل في القسم الرابع: من اعتقد أن الأنظمة والقوانين التي يسنها الناس، أفضل من شريعة الإسلام، أو أنها مساوية لها، أو أنه يجوز التحاكم إليها، ولو اعتقد أن الحكم بالشريعة أفضل، أو أن نظام الإسلام لا يصلح تطبيقه في القرن العشرين، أو أنه كان سبباً في تخلف المسلمين، أو أنه يحصر في علاقة المرء بربه دون أن يتدخل في شؤون الحياة الأخرى.
ويدخل في القسم الرابع: أيضاً من يرى أن إنفاذ حكم الله في قطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن لا يناسب العصر الحاضر.
ويدخل في ذلك أيضاً : كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات، أو الحدود، أو غيرهما، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة، لأنه بذلك يكون قد استباح ما حرم الله إجماعاً وكل من استباح ما حرّم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالزنى، والخمر، والربا، والحكم بغير شريعة الله فهو كافر بإجماع المسلمين.
ونسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يرضيه، وأن يهدينا وجميع المسلمين صراطه المستقيم، إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.(/1)
نوايا الشيعة تجاه أهل السنة في العراق
أحمد فهمي
سُئل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر عن نظرته إلى العراق ، فقال : " العراق طائر بثلاثة أجنحة ، أحدها يمنعه من الطيران " وهذا القول يعبر بدقة عن حقيقة الأوضاع العراقية على مشارف الانتخابات ، ومن الطبيعي أن كلا من الأجنحة العراقية الثلاث : الأكراد ، العرب السنة ، الشيعة ، ينظر إلى أحد الجناحين الباقيين باعتباره مُعوقا عن الطيران ، وحسب معطيات الأحداث فإن الآراء قد أجمعت بين الإدارة الأمريكية وإيران والأكراد والشيعة على أن العرب السنة هم الجناح المعوق للعملية السياسية العراقية ، والتي يعلق كل طرف من هذه الأطراف على إجراءها قائمة من الآمال والطموحات والأهداف الخفية .
ويهمنا هنا أن نرصد موقف الشيعة من السنة في العراق الأوسط ، وحتى لا نُتهم باعتماد نظرية المؤامرة مدخلا وحيدا في تحليل العلاقة بين الشيعة والسنة في العراق ، فإننا سنكتفي برصد بعض الوقائع والتصريحات وطرح بعض التساؤلات ، ونترك لذهن القارئ عملية استنباط النتائج من كل ذلك .
ومن خلال الرصد الدؤوب للعلاقة الشائكة بين الطائفتين أو بالأحرى الأداء الشيعي تجاه سنة العراق يمكن تحديد ثلاثة اتجاهات متباينة ، أولها يمثله تيار الصدر الذي يسعى لترسيخ وتأكيد معاني الود والتعاون بين الشيعة والسنة ، وثانيها يمثله السيستاني ومن يتحالف معه من الأحزاب الشيعية ، وثالثها يمثله الأجنحة العسكرية للأحزاب الشيعية وفي مقدمتها فيلق بدر التابع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي يتزعمه عبد العزيز الحكيم أبرز المرشحين على قائمة الإئتلاف الموحد التي يباركها السيستاني ..
أولا : نموذج تيار الصدر في التعامل مع سنة العراق :
يتضمن الخطاب الديني لتيار الصدر منذ تأسيسه شعارات وطنية انطلاقا من رغبته في العودة بالمرجعيات الشيعية إلى طابعها العروبي القديم بدلا من التغلغل الفارسي الحالي ، ولذلك كان حريصا على أن يُؤمِّن جهة العلاقة مع العرب السنة ، وقد حرص رموز التيار محمد صادق الصدر ومحمد باقر الصدر على التأكيد على هذا الخطاب رغم العلاقة الحرجة مع نظام البعث في العراق ، ولكن بعد الاحتلال الأمريكي للعراق وبعد أن برز مقتدى الصدر زعيما حدث تحول كبير في قناعات التيار نتيجة تأثره وخضوعه للتأثير الإيراني ، وأصبح التوجه الصدري يعكس حالتين متناقضتين في خطابه وأداءه : الحالة الأولى تعتبر الامتداد الطبيعي للمفاهيم القديمة ، والحالة الثانية تعكس الرؤية الإيرانية تجاه العرب السنة وهي رؤية عدائية لا شك في ذلك ، وقد حرص قادة التيار ورموزه على إخفاء كل ما يدل على الحالة الثانية العدائية ، وأكدوا على تمسكهم بعلاقات طيبة مع السنة وقدموا في سبيل ذلك عددا من العروض البطولية الدعائية التي ساهمت ولا شك في موازنة الأداء المتحفز ضد السنة الذي ميز الخطاب الشيعي لأحزاب وتيارات أخرى ..
ومن المشاهد التي لا تخلو من طرافة رغم كآبتها تعرض مساجد السنة في بعض المناطق لهجمات ينفذها عناصر من فيلق بدر ، وفي إثرها يعلن مقتدى الصدر في تصريحات عنترية :" إني أبدي استعدادي لحماية إخواني أهل السنة وجوامعهم وكذلك إخواني الشيعة ، لا فرق بين الأخوين إطلاقا إلا بتقوى الله " وطبعا لا يخفى تأثير العلاقة العدائية بين تيار الصدر والمجلس الأعلى الذي يتبعه فيلق بدر في إطلاق مثل هذه التصريحات ..
وفي المقابل فإن هذه الروح الودية من مقتدى الصدر تجاه السنة لم تمنعه من التعبير عن رؤيته الخاصة بأن يحكم العراق رجل مثل الخميني : " أريد أن يحكم العراق رجل دين شيعي سواء كان عراقيا أو إيرانيا ، وأفضل أن يحكمه شخص مثل الخميني من أي عراقي علماني " يعني السنة مستبعدون تماما من خيارات الرئاسة ، وصحيفة إشراقات التي تتحدث باسم التيار ويرأس تحريرها فتح الله غازي الإسماعيلي الذي تربطه علاقة قوية بمقتدى الصدر ، كتبت في إحدى افتتاحياتها تستنكر وتقول " هل من المعقول أن يرضى شعب ضرب وتحمل الكثير من نظام صدام حسين أن يحكمه رجل سني " تقصد غازي الياور ..
ثانيا : نموذج السيستاني في التعامل مع سنة العراق:(/1)
وصف الصحفي الأمريكي فريد زكريا رئيس الطبعة الدولية من مجلة النيوزويك المرجع الشيعي علي السيستاني بأنه يتبنى سياسة " الحياد الإيجابي " في دعمه للاحتلال ، أي أنه يكثر من ذكر التصريحات الرافضة للاحتلال ، ولكنه في من الناحية العملية فإنه يوجه أتباعه دوما بطريقة تتناغم مع مصالح الإدارة الأمريكية في العراق ، ويتبع السيستاني سياسة مشابهة في تعامله مع القضايا السنية ، ولكن مع فارق أنه لا يتناول عادة القضايا السنية في تصريحاته ، بينما توجيهاته لأتباعه تتضمن ترسيخا لحالة العدائية والانتقام ، كما أنه يتجنب دائما التدخل أو التعليق على سياسة الاحتلال مع العرب السنة حتى أنه لم يصدر تصريحا واحدا بالإدانة أو الشجب ضد الهجوم الأمريكي الوحشي على الفلوجة ومقتل المئات وتدمير المدينة بأسرها ، وفي نفس الوقت فإن السيستاني يترك أتباعه يوجهون الانتقادات والتحذيرات لأهل السنة ، ولكن ذلك لم يمنع بعض أتباع السيستاني من يتبجحوا بكون الرجل زعامة لكل العراقيين ، إذ يقول رئيس قسم الدراسات الفكرية والدينية في "مركز الثقلين للدراسات الاستراتيجية" فاتح آل كاشف الغطاء أن المرجعية "تطمح إلى أن تكون عراقية تمثل الجميع , وبالتالي فإنها لن تخوض في حصة السنّة أو الشيعة, لأن ذلك يعني إنها مثلت طائفة من دون أخرى, الأمر الذي تنأى المرجعية بنفسها عنه " .
وقد لوحظ مؤخرا كثرة تداول مصطلح " الحرب الأهلية " على ألسنة التابعين أو المتحالفين مع السيستاني ، وذلك بقصد تخويف السنة من موقفهم الرافض للانتخابات ، يقول وزير المال العراقي عادل عبد المهدي (وهو الرجل الثاني في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) :" إن الداعين إلى تأجيل الانتخابات بسبب الأوضاع الأمنية يدركون احتمالات مزيد من التدهور في هذه الأوضاع " وحذر مستشار الأمن العراقي موفق الربيعي وأحد المدرجين ضمن قائمة السيستاني الانتخابية من اندلاع حرب أهلية في العراق في حال تأجيل إجراء الانتخابات العامة المقررة في 30 يناير/ كانون الثاني الجاري ، وطبعا من الواضح أن طرفا هذه الحرب هم : السنة والشيعة ، وهذا يعني أن الشيعة يعتبرون موقف السنة الرافض للانتخابات موقفا عدائيا ضدهم ، وقد عبر عن ذلك بوضوح صدر الدين القبانجي رجل الدين الشيعي البارز وخطيب الجمعة في النجف ، إذ قال تعليقا على موقف السنة : " هذا تخوف تتحدث عنه بعض الجهات المذهبية التي تشكك بكل شيء كما شككت بمجلس الحكم والحكومة.. ماذا تريدون؟ هل تريدون الكفاح المسلح ام مقاطعة الانتخابات؟ وما الفائدة لأنها ستكون من دون جدوى " وقال مخاطبا السنة دون التصريح باسمهم : " هل تريدون قطع الشيعة وقتلهم مرة أخرى؟ إذا حكم الشيعة وفق الانتخابات فهذا حقهم لأنهم الغالبية ولهم حقوقهم التي ستظهر عبر هذه الانتخابات " ..
وقد اتضح موقف حزب السيستاني أكثر من خلال ردود أفعالهم تجاه الإعلان الأمريكي عن احتمال تخصيص نسبة ثابتة للسنة في المجلس ، ورغم رفض هيئة علماء المسلمين أيضا لمثل هذا الإجراء ، فالرفض في الحالتين مختلف ، فالهيئة تعتبر ذلك تحايلا على المقاطعة السنية وترسيخا للاحتلال ، بينما يعتبره الشيعة سلبا لبعض حقوقهم التي يدعونها ، ويقول فاتح كاشف الغطاء أن سعي أمريكا إلى " إيجاد موازنة بين مكونات البرلمان العراقي المقبل بعيداً عن نتائج الانتخابات , يعني فقدانها دعم الأكراد والشيعة والتركمان " .
ثالثا : نموذج فيلق بدر في التعامل مع سنة العراق:
يمثل فيلق بدر الجناح العسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الوجه السافر للعداء الشيعي لأهل السنة، فهو ينفذ المخططات الخبيثة لاغتيال الرموز السنية وتنفيذ سلسلة من العمليات الإرهابية في الجنوب بدعم أمريكي بغرض إجبار السنة على الرحيل إلى وسط العراق ، ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة ، إلا أن الفيلق نفذ حتى الآن عشرات العمليات التي راح ضحيتها عدد كبير من الشخصيات السنية المؤثرة ، ولا يزال أعضاء هيئة علماء المسلمين يتعرضون إلى حملة تصفية مستمرة لا تخفى أصابع الفيلق من وراءها ، وقد اتخذ الفيلق من الحرس الوطني العراقي ستارا لممارسة جرائمه تحت شعار حفظ الأمن وتنفيذ القانون الذي وضعه المحتل الأمريكي وأيده المرجع السيستاني ..(/2)
خلاصة الأمر أن هذه التعددية في التعامل مع سنة العراق أحدثت أثرها ولا شك ، فهناك تشتت في استراتيجية مواجهة المخططات الشيعية لدى العرب السنة في العراق ، وأصبح الحذر من نشوب حرب أهلية هو العامل الأهم الذي يحكم أي رؤية للتعامل مع الشيعة ، ورغم محاولة هيئة علماء المسلمين تبني مسلكا غير عدائي إلا أنها لا تُعامل بالمثل من قبل المرجعية الشيعية ، وقد وصف الشيخ عبد السلام الكبيسي المتحدث باسم الهيئة ذلك بقوله إن " قوى سياسية شيعية حالت دون لقاء الهيئة مع المرجعية في النجف, وعملت على استثمار صوت المرجعية وراحت تروج لكثير من الأمور التي ترفضها المرجعية, ورأى أن بعض القوى الشيعية يصر على اتهام الجهات الرافضة للانتخابات بمحاولة ضربها والنيل منها , كما حدث في محاولة اغتيال الحكيم, وهذا عيب ودس "(/3)
نور الإسلام ورسالته إلى الهند
بقلم الدكتورعدنان علي رضا النحوي
أَ "جَهَان ُ" ! هَاتِيكَ الرُّبَى ! أَسأَلْتها
مَنْ جَالَ في سَاحَاتِها و الأَنْجِدُ
مَنْ عَطَّرَ السَاحَاتِ فيها ؟! مَنْ رَوى
تِلْكَ المَراَبعَ بالدَّم المُتَجَدِّدِ
أَسَمِعْتَ وَشْوشَةَ الزُّهُورِ وهَمْسَها
وَرَفِيفَ أَطْيَارٍ وطَلْعةَ فَرْقَدِ
كُلّ يَقُولُ أَجَلُّ مَا حَمَلت لنا الدُّ
نيا رِسَالةُ مُؤمِنٍ مُتَهجِّدِ
المُؤمِنونَ على الزَّمَان تَواصَلوا
مَدَداً وجادوا بالهَوَى المُتَفَرِّد
نَسَبُ أَيرُّ على الزَّمَانِ ولحْمَةُ
مَوْصُولَةٌ وَعَزَيمةٌ لْم تَقْعُد
غَرَسُوا هُنَا أَحْلَى الوُرُود فَفَوَّحَتْ
مِنْهَا الدُّنا وزَهَتْ بحُسْنٍ مُخْلَدِ
كَمْ جَوْهَرٍ نَبغَتْ مَعَادِنُه بِهَا
أَلْقاً وكمْ مجْدٍ زَكَا أَو محْتدِ
في كُلِّ نَاحيَةٍ هُنالكَ جَوْلَةٌ
لله صَادِقَةٌ وَوَثُبَةُ أَمْجَدِ
فانْهضْ لِعِزَّةِ أُمَّةٍ مَا غَرَّها
عَرَضُ الحَيَاةِ وَلا ضَلالَةُ مُفْسِدِ
* *
*
* *
1415هـ
1994م ... ... ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· ملحمة الإسلام في الهند .(/1)
*نور الدين الشهيد
(1)
" محمود بن عماد الدين زنكي "
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
وهل تحسب يا أخي القارئ أن الربانيين تحدهم مقصورة العبادة التوفيقية المباركة ، أو ساحة الزهادة والتبتل فحسب !! لا والذي قال في كتابه [كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا] (2) [ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون] (3).
ففضله جل شأنه لا تحده حدود ، وعطاؤه دائم لا ينفد ، وكم للعبادة في ديننا من محاريب ، وما دام الإسلام هو النور الذي لابد أن يضيء جنبات الحياة كلها ، فكل من يحمل هذا النور للناس بصدق وإخلاص فله من فضل الله ، وله من العطاء الذي لا تنفد خزائنه القسط الأوفى ، والأجر بغير حساب .
ولعل الذي يكون على مورد من موارد السلطان مما تخضع له النفوس ، وتزل عنده الأقدام ، ويحوم حوله الشيطان ليبيض ويفرخ يكون أدعى للحكم على صاحبه بأنه أكثر قرباً إلى الله من ذاك الذي ليس على مورد الامتحان ولم تنفتح أمامه أبواب الشهوة والسلطان وأن يأمر فيطاع ولا نزكي على الله أحداً ..
لذلك كان هذا الرجل ـ نور الدين الشهيد ـ رحمه الله الذي أبلى في مقارعة الباطل ، ورسم الخطة المثلى لطرد الصليبيين من على أرضنا ، وجاهدهم بنفسه وماله وسلطانه ، وكان على الصراط السوي في علاقته بالله عز وجل وبالناس ، لذلك كان هذا الرجل وهو يمثل عاتق الميزان يومذاك ، ممن يتوجب على الأمة أن تضعهم موضع الأسوة والريادة ، وتفتح بصر الجيل وبصيرته في كل مصر على صدقهم مع الله ، وجهادهم ، وإخلاصهم ، وطاعتهم لله وحرصهم على دينه ، فكل شيء لديهم مجند لخدمة هذا الإسلام .
لقد كان من سيرة نور الدين رحمه الله وأجزل الله مثوبته ، أنه كان يدعو دائماً إلى الانقياد إلى أوامر الشرع وأحكامه ، دون تفريق بين أبناء الرعية ، وكثيراً ما كان يقول :
لا فرق أمام الشرع بين صغير وكبير،
واشتهر ذلك عنه ، حتى أصبح كل أولئك الذين هم في موضع المسؤولية أو الغنى والجاه .. وما إلى ذلك لا يتردد الواحد منهم لحظة في حضور مجالس الحكم الشرعي والامتثال لما تأمر به الشريعة .
فكان ذلك طابع المساواة بين الناس أمام ما يحكم به الله تبارك وتعالى .
وفي يوم من أيام التدريب على السلاح في مواجهة الصليبيين ونور الدين يقوم بواجبه في ذلك .. رأى رجلاً يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين . فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه ؟ فإذا هو رجل معه رسول من جهة القاضي ، فلما رجع الحاجب إلى نور الدين رحمه الله وأعلمه بذلك ، ألقى ما بيده من سلاح التدريب ، وأقبل على خصمه ماشياً إلى القاضي ، وأرسل نور الدين إلى القاضي ينبهه أن لا يعامله إلا معاملة الخصوم سواء بسواء .
وحين وصل ـ وهو صاحب السلطة ـ مع خصمه إلى مجلس القاضي وقف مع خصمه بين يدي القاضي ، شأنه في ذلك شأن أي واحد من المتخاصمين من أبناء رعيته ، وظل واقفاً حتى فصل القاضي في الخصومة والحكومة . ولم يثبت للرجل على نور الدين حق ، بل ثبت حق السلطان نور الدين مع الرجل ، فلما تبين ذلك قال ـ أحسن الله ذكره مع الآخرين ـ إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه ، فإنما نحن معاشر الحكام خدم لرسول الله ، وحراس لشرعه ، وقائمون بين يديه ، وطوع ما يريد ، فما أمر به امتثلناه ، وما نهى عنه اجتبناه ، وأنا أعلم أنه لا حق له عندي ، ومع هذا أشهدكم أني ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له .
أرأيت -يا أخي - إلى هذا الرجل الرباني ، أرأيت كيف أن الطرق إلى مرضاة الله مفتحة الأبواب ، وأن من يرد الله به خيراً يجعل له واعظاً من نفسه ، وعندها ـ أيضاً ـ لا يقرب إلا بطانة الخير، التي تذكره إذا غفل ، وتنصحه إذا مال عن الصراط السوي . إن نور الدين الشهيد مثل مشرق مضيء في تاريخنا يعطي الدليل على أن الذي يراد له أن ينقذ الأمة من وهدتها ، ويقودها إلى ساحة الكرامة ومرضاة الله لابد أن يكون هو في نفسه كذلك ، وأن تكون الزلفى إلى الله أغلى عنده من كل ما يملك من وسائل الظهور والاستعلاء .
إن نور الدين بما جعل للشرع من سلطان على نفسه وقلبه ، وبما زان أعماله من العبودية الخالصة لله عز وجل ، وبما كان يرى أن ما أعطيه من متاع الدنيا وسلطانها ظل زائل ... إن نور الدين بما كان له من ذلك كله ، بوأه هذه المكانة ، وكتب الله على يديه أن يعبد طريق الأمة للتحرر من هجمات الصليبيين وما كان من حملاتهم الشرسة على ديارنا ومقومات وجودنا ..
جزى الله نور الدين الشهيد عن الأمة خير جزائه وأعلى مقامه في الآخرين .. وهكذا يعلم الربانيون .
الهوامش :
• " حضارة الإسلام " السنة 17 العدد 4 جمادى الآخرة 1396 حزيران 1976 .(/1)
(1) هو محمود بن زنكي " عماد الدين " الملقب بالملك العادل ، كان أعدل ملوك زمانه وأجلهم وأفضلهم ، صالحاً متعبداً يحتكم إلى الشرع ويقدر العلماء ، وكان متعيناً بمصالح رعيته ، مداوماً للجهاد ، يباشر القتال بنفسه ، موفقاً في حروبه مع الصليبيين أيام زحفهم على بلاد الشام ، وله الفضل ـ بعد الله ـ في نشر العلم وبناء المدارس ، والتمهيد لما حققه المجاهد الكبير صلاح الدين الأيوبي من نصر على الصليبيين أعداء الله والحق . وكان يتمنى أن يموت شهيداً فمات بعلة (الخوانيق) في قلعة دمشق سنة 569 هـ فقيل له الشهيد . واشتهر بـ (نور الدين الشهيد) وقد بني بجانب قبره مسجد ، ويقع اليوم في سوق الخياطين بدمشق .
(2) سورة الإسراء : 20 .
(3) سورة النحل : 96 .(/2)
نور القرآن د. الحبر يوسف نور الدائم*
للحياة دروب متشابكة, و مسالك متشابهة و طرائق قددا , فإن ترك الإنسان فيها من غير ما هاد يقود , ولا دليل يرشد, ولا نور يضيء ضل فيها وضاع. قال أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أوصني يا رسول الله ) قال (عليك بتقوى الله فإنها رأس الأمر كله ) قال (زدني يا رسول الله ) قال: (عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض ذخر لك في السماء)....نور لك في الأرض و إنه لنور , نور يكشف عن الحياة ظلامها وإن لها لظلاماً بل ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور....نور ينير للسالكين سبيلهم فإذا هم في ضوء كاشف ونور مبين ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا . فأما الذين آمنوا بالله و اعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه و فضل و يهديهم إليه صراطا مستقيما) .
هناك صراط مستقيم واحد هو الذي يلتزمه الهداة المهديون بتوفيق من الله و إحسان , وهناك سبل كثيرة متفرقة معوجة متعرجة على رأس كل منها شيطان يدعو أصحابه ليكونوا من أصحاب السعير ( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم و صاكم به لعلكم تتقون) صراط مستقيم واحد هو الذي يبشر به القرآن الكريم, و يأخذ بأيدي سالكيه (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض و ليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ) .
صراط مستقيم واحد من أبصره مؤمناً به, ملتزماً له, حريصاً عليه, مجاهداً في سبيله فقد أولي رشده, وألهم حجته, وبلغ غاية رغيبه, وحظاً وافياً, ونصيبا غير مجذوذ.
(قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيما ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . قل إن صلاتي و نسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون . وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم).
هذا الصراط المستقيم لا سبيل إلى اكتشافه أولاً والالتزام به ثانياً, و الثبات عليه ثالثاً إلا بتوفيق من الله ولذلك فإن القرآن يعلمنا الوقوف مرات ومرات سائلين مبتهلين : (إهدنا الصراط المستقيم . صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين) . و الصراط ذلك أن تقارن وتوازن بين من يستضيء بنور القرآن فيسير على صراط مستقيم, ومنهاج واضح, وبصيرة مفتوحة, وبين من يضرب في تيهاء مظلمة, يخبط فيها خبط عشواء معصوبة (أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراط مستقيم) .
فكن من ذوي البصيرة الماضية, و البصر النافذ, و القلب المشع تكن من الفائزين... إن عند المسلمين كتاباً نيراً يقرءونه اليوم غضاً طرياً كما أنزل أول مرة لم تشبه شائبة, ولم يلابسه باطل, (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) , من ابتغى الهدى في غيره أضله الله , ومن تركه من جبار قصمه الله , من حكم به عدل , ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم. وإنك لتجد على من يستمسك به من الحق شعاعاً, ومن النور قبساً, ومن الرحمة ظلالاً ذلك لأنه حق ( ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين) وإنه لنور( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) وإنه لرحمة ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) فإلى الحق ندعو وبه نستمسك و إلى النور نقتبس منه ونهتدي به, وإلى الرحمة نتفيأ ظلالها, ونستروح نسيمها.(/1)
نوعيّة الحياة
د. عبد الكريم بكار 20/7/1426
25/08/2005
وصفوا القرن التاسع عشر بأنه كان قرن (التفاؤل) بسبب كثرة الفتوحات العلمية التي حدثت فيه. ووصفوا القرن العشرين بأنه كان قرن (التشاؤم) بسبب اشتماله على حربين عالميتين وأكثر من مئة حرب إقليمية ومحلية. أما القرن الحادي والعشرون -والذي ما زلنا في بدايته- فلا ندري الاسم الذي سيكون لائقًا به في نهاية المطاف، لكن بعض أصحاب الرؤى الإستراتيجية يرون من الآن المسارعة إلى تسميته بقرن (التعقيد). وأعتقد أنهم محقون في هذه التسمية. والسبب في وجاهة هذا الاسم هو أن أبرز ملامح التطورات المتسارعة التي نشاهدها على كل صعيد هو (التنوّع): تنوّع في الطُّرز وتنوّع في العناصر المكونة للمصنوعات، وتنوّع في الفهم وفي التفسير للنصوص والأحداث، وتنوّع في الأمراض والمشكلات والأزمات، يصحبه تنوّع في الحلول والأدوية والعلاجات... وإذا تساءلنا عن أكثر الأشياء ملازمة للتنوع فسنجد أنه (التعقيد). وإذا تساءلنا مرة ثانية: ما الذي يترتب على التعقيد أو ما الذي يلازمه؟ لوجدنا العديد من الأشياء التي يمكن أن نتحدث عنها؛ لكن لعل ما يهمنا منها ثلاثة، هي:
1- ارتباك الوعي؛ إذ إن الوعي الأكثر قدرة على استيعاب الأمور المعقدة هو الوعي الذي تشكل ونما في بيئة صناعية. أما الوعي الذي تشكل في بيئة رعوية أو زراعية، فإنه يجد صعوبة بالغة في فك رموز التركيبات الشديدة التعقيد. وهذا هو حال الوعي لدى معظم المسلمين؛ إذ إنه ليس هناك أي دولة إسلامية يمكن أن توصف بأنها (دولة صناعية) بمعنى الكلمة!
2- صعوبة العجز عن إدارة الأشياء المعقدة والتحكم التام بها. خذ مثالاً على ذلك السيطرة على التدفق الثقافي الأجنبي. وخذ السيطرة على موضوع (الاستنساخ)، هذا العمل البالغ الخطورة والذي يمكن أن يتم في شقة مستأجرة! وخذ السيطرة على تلوث البيئة وارتفاع حرارة الأرض. إن كل هذه الأشياء ومئات الأشياء على شاكلتها باتت خارج السيطرة، وهذا شيء مقلق ومخيف.
3- المرونة؛ إذ إن من شأن كثرة العناصر التي أدّت إلى التعقيد أن تتيح قدرًا كبيرًا من المرونة في التعامل مع الأشياء على صعيد إيجاد تكوينات جديدة، وعلى صعيد إيجاد حلول للمشكلات القائمة. إن بعض العطور اليوم مكوّن مما يزيد على ستين عنصرًا كيميائيًا، وهذا التعقيد والتنوّع يتيح الحصول على مئات الروائح من خلال التغيير في كميات العناصر المكوّنة. ولهذا فالتنوع يأتي بالتعقيد ويأتي بالمرونة في آن واحد، وهذه معادلة غير مألوفة.
الذي نخلص إليه من وراء هذه المقدمة هو أن العيش في عصر سِمته (التعقيد) يتطلب منا أن نطوّر منهجيات معقدة إذا أردنا القيام بمواجهة ناجحة للمشكلات التي أخذت تغير ملامح حياة الإنسان المسلم، وتسبب له الكثير من الألم والأذى. إن ما نواجهه من مشكلات لم يحدث بمحض الصدفة، ولا بوصفه ناتجًا طبيعيًا لتفاعلات بريئة هي جزء من ثمن التحضر... إن هناك جهات كثيرة تسعى إلى تحقيق مصالح خاصة، وطبيعة تلك المصالح تقتضي إدخال تغييرات سيئة على الحياة الشخصية لأعداد كبيرة من البشر. وتلك الجهات تستثمر أموالاً وخبرات عظيمة وهائلة في سبيل الوصول إلى أهدافها، ومن ثمّ فإن ردود الفعل العشوائية والخجولة التي تصدر من هنا وهناك، ستكون قليلة الجدوى. إن التخريب الواعي والمنظم يجب أن يُقابل بإصلاح على شاكلته، وإلا كنا كمن يحاول علاج السرطان بـ (الإسبرين) أو إسقاط طائرة بمسدس. نحن في حاجة إلى قيام مشروع وطني في كل قطر إسلامي يكون همه الأكبر مراقبة (نوعية الحياة) ورصد التطورات الإيجابية والسلبية التي تطرأ على سلوكات الناس وعاداتهم ومواقفهم المختلفة. هذا المشروع يحتاج حتى يخدم الأغراض التي أُنشئ من أجلها إلى تشكيل عدد كبير من الهيئات والجمعيات والأنشطة المتخصصة. وستكون المهمة محاولة بلورة معايير ومواصفات للحياة الطيبة التي تليق بالمسلم المعاصر على المستوى الروحي والخلقي والاجتماعي والصحي والمعنوي... ثم العمل على نشر الوعي بها في أوساط الجماهير بشتى الوسائل والسبل المتاحة. أما المهمة الثانية فهي العمل على تنظيم حملات متتابعة وأنشطة مستمرة لمقاومة أنواع الأخلاق والسلوكات السيئة التي يسببها العيش في هذا الزمان؛ إذ المحرك الأساسي لسلوك البشر هو المادة والمتعة واللهو والإرواء المباشر للرغبات، وسيكون على تلك اللجان أيضًا متابعة التقصير في الواجبات الشرعية والخلل في التواصل الاجتماعي وما شابه ذلك مما هو مشاهد اليوم.(/1)
نحن في حاجة إلى جمعيات تتابع إعراض الشباب عن الذهاب إلى صلاة الجماعة في المساجد، والإعراض عن القراءة واقتناء الكتاب، وجمعيات تتابع التغيرات الثقافية والسلوكية مثل: الإدمان على التدخين والخمور والمخدرات والإسراف في الإنفاق وسوء استخدام الموارد مثل: الماء والكهرباء بالإضافة إلى العادات الشخصية السلبية مثل: السهر والنوم المتأخر والأكل في المطاعم والبدانة واستخدام المنبهات والمنشطات..... إن هذا ما هو إلا عادة محدودة للأشياء الكثيرة التي تحدّد نوعية الحياة لدى الأمة والتي تحتاج إلى الاهتمام.
السؤال المطروح هنا هو: لمن نقوم بتوجيه هذا الكلام؟
الحقيقة أنني أوجه الكلام لكل أولئك الذين يملكون الوعي والغيرة على مستقبل هذه الأمة، وهم بحمد الله كثر. الأمة تتملك اليوم ملايين الشباب التوّاقين لعمل شيء إيجابي يصب في المصلحة العامة، وإن على الكهول والشيوخ أن يوفروا لهم الأطر والمؤسسات والجمعيات التي يتمكنون من خلالها من عمل شيء جيد. إن رصد الواقع وقراءته عن طريق المسح والإحصاء والاستبيان عمل كبير وحيوي في هذا المشروع، وإن في إمكان مجموعة مكونة من خمسة شباب أن تقوم بعمل مسحي منظم ومنهجي لظاهرة من الظواهر تحت إشراف أستاذ متخصص، ثم تقوم بنشر نتائج ذلك المسح على الإنترنت وغيره من أجل إيقاظ وعي الناس ورفعهم للاهتمام بتلك الظاهرة والتعامل معها بما يلائم. ولابد من التنسيق مع الجهات الإعلامية والتربوية في كل خطوة من خطوات مشروع (نوعيّة الحياة). إن الإصلاح الذي تحتاج إليه الأمة له ألف رأس وألف ذراع وألف ذيل، وإن من المهم أن نمتلك القناعة بأن التقدم الشامل لا يتم من خلال عمل كبير يقوم به فلان أو فلان أو هذه الدولة أو تلك...، وإنما يتم من خلال ملايين المبادرات الصغيرة التي تصدر عن ملايين الأبطال الصغار، وأعتقد أننا نستطيع أن نتعلم من الغرب في هذا الشأن الكثير من الدروس البليغة والمفيدة.(/2)
نوى الحج بعد ارتكابه لكبائر الذنوب
رقم الفتوى
10940
تاريخ الفتوى
26/12/1425 هـ -- 2005-02-06
السؤال
السلام عليكم
انا شاب ارتكبيت معاصي مثل الزنا وانا ناوي الحج وانوي بان اتوب توبه نصوحه ان شالله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الإجابة
الحمد لله رب العالمين وبعد
يقول الله تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا
إنه هو الغفور الرحيم )
فإن كنت كما قلت بأنك تائب من هذه الكبائر توبة نصوحا فأبشر فإن الله يفرح بتوبتك ويغفر لك والحمد لله
ولكن هل تعلم أن للتوبة شروطا لا يقبل الله توبة العبد إلا بها ؟
إنها ثلاثة شروط الأول : الندم الشديد على ارتكابك الذنب
الثاني : الإقلاع الفوري من الذنب و مجانبة أهله من جلساء السوء وأهل الشهوات
الثالث : التعهد بعدم التوبة إلى الذنب مرة أخرى والاستعانة بالله عز وجل على ذلك
وهناك شرط رابع لا بد منه إذا كان الذنب يتعلق بحقوق الخلق وهو إرجاع الحقوق إلى أهلها والتحلل منها(/1)
نيرون
محمد المجذوب
"لا بد قبل قراءة هذا النشيد من تصور الواقع الذي خلفته كارثة حزيران 1967"
نيرونُ!.. يا فرحَ الغواةِ ويا شقاء المؤمنينا
رفقاً بآمال الذين فَضَحْتَهم دنيا iiودينا
* * ii*
قالوا "استقلت. وأيُّ مهزلةٍ وراء iiالاستقالة!
أفتستقيل وفي ربوع الضاد من رمقٍ iiثُماله!
* * ii*
الأرض مُذ قيل استقلتَ بأهلها كادت iiتميدُ
يا من له في كل قلبٍ مؤمن جرحٌ iiجديدُ
* * ii*
وعلام مثلك يستقيل – وأين مثلك – أو iiيُقال!
وهو المنيل يهود من أعراضنا ما لا iiيُنال
* * ii*
أم هالك الإخفاقُ سقتَ به على العربِ iiالقواصِمْ!
فنسيتَ أنك لم تَكُن يوماً سوى بطلِ iiالهزائم!
* * ii*
هذي الألوف من الضحايا، والزحوف من الأسارى
أدنى تكاليف الزعامة في قوانين السكارى
* * ii*
أما الجياعُ الظامئون الهائمون على iiالرمالِ
فاحجُب أنينهم بتصخابِ الأناشيد iiالثِقالِ
* * ii*
أغرودةٌ مِن أم كلثومٍ تزلزلُ تل iiأبيبا
والآهُ من عبد الحليم تحيل ضحكتها iiنحيبا
* * ii*
وكليمةٌ من (هيكل) أو صرختان من ii(السعيدِ)
تكفي لدكِّ قوى العدو على الأثيرِ وفي iiالصعيدِ
* * ii*
فدع الجنودَ تخوض في سيناء دُفَّاع العذابِ
فجيوشُ مثلك لن تكون سوى أغانٍ أو iiسبابِ
* * ii*
وإذا عجزتَ عن الوقوف بوجه أحفاد iiالقرود
فعليك بالمستضعفين العُزل في اليمن الشهيد
* * ii*
فاحصد بغاز الموت إخوان العروبةِ iiوالعقيدة
وذرِ اليهودَ فحسبهم منك التصاريح iiالمبيده!
* * ii*
ومتى سُئلت عن المضيق وغزةٍ وعن iiالخليلِ
والمسجد الأقصى وما يشكوه من رجس iiالدخيل
* * ii*
فاهتف بكل جراءةٍ: أفليس يكفيكم iiبقائي!
كل الوجودِ، وبعضُه أنتم، لنا بعضُ iiالفداء
* * ii*
(الظافرُ) الجبارُ أين؟.. وأين إخوته iiالقواهر!
ألعلها سقطت مع الأسلاب في أيدي iiالعواهر!
* * ii*
أم تلك من نسجِ الخيالِ بها استثرتَ iiالجاهلينا!
حتى إذا دُعيتْ نزالِ تحولتْ كذباً iiمبينا!
* * ii*
وزعمت أنك كنت تنتظر المُغير من iiالمشارق
فأتاك من قبل الغروبِ فكانت النوُّبُ iiالمواحق
* * ii*
وصدقت. كان على عدوك لو درى أدب iiالقتالِ
أن يستشيرك للعبور من اليمين أو iiالشمالِ؟
* * ii*
بدَعٌ لعمرك من فنون الحرب أعيت كل iiقائد
وبها أقر الكون أنك للعروبة خير iiرائد
* * ii*
أفكلُّ هذا الوحي من (تيتو) مدربك الأمينِ!
أم أُمرُ (جونسن) إذا أتاك عليه خاتمُ ii(كوسجين)!
* * ii*
قل ما تشاء ولا تهب رداً، فقولك لا iiيردُ
أفلا ترى الغوغاء من أنصارِ غيك لا iiتُعدُّ!
* * ii*
في كل صوبٍ يهتفون لمن أذلهم وأخزى!
حتى الأُلى دمرتهم زعموك للأمجاد iiرمزاً
* * ii*
فاصنع غداً ما تشتهيه وسمِّ عار اليوم iiنصرا
فوراء خَطوِك من يرى الإيمان – إن تجحده – iiكفرا
* * ii*
نيرونُ!.. عرشك لا تدعه، ولا تخف غضب الشعوب
أفتستقيلُ.. وبعض رومة لم تنلهُ يدُ iiاللهيبِ!(/1)
نَظَراتٌ في حَديثِ الأعمالُ بالنيات)
د. محمد عمر دولة*
لحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرفِ المرسَلِين، وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين. وبعد،
فقد كَتَبتُ في أهمِّيةِ النِّيةِ مَراتٍ.. وذَكَرْتُ حديثَ (الأعمال بالنيات)، واستَشهَدتُ به في مُناسباتٍ.. ولكنَّني أشعُرُ اليومَ.. كأنَّنِي ألقاهُ أولَ مَرةٍ.. وأسْمَعُ كلماتِه لأولِ وَهْلَة!
فأنا أقِفُ عنده وِقْفةَ الرجلِ الذي ينظرُ مِن أسْفلِ الجبلِ إلى أعلاه! مُستَعِيناً باللهِ أن أتبيَّنَ مِن مَعانِيهِ فِقهاً جديداً لم أعرِفْهُ مِن قَبلُ، فإنْ أصَبتُ فبِفَضلِ الله، وإن كانت الأخرى فهي مُحاولةُ العاجزِ القاصِرِ ذي البضاعةِ المزجاة!
فقد روى أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب الملهَمُ المُحَدَّثُ[1]رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم على المنبرِ قال: (إنَّما الأعْمالُ بالنِّيات، وإنَّما لِكُلِّ امرىءٍ ما نَوَى؛ فمن كانت هِجرتُه إلى الله ورسولِه؛ فهجرتُه إلى الله ورسولِه، ومن كانت هِجرتُه لدنيا يُصِيبُها أو امرأةٍ يَنكِحُها؛ فهِجرتُه إلى ما هاجرَ إليه).[2]
وتأمَّلْ هذه الكلماتِ العَذْبَةَ.. (إنَّما الأعْمالُ بالنِّياتِ، وإنَّما لِكُلِّ امرىءٍ ما نَوَى).. ما أبدَعَها وأرْوَعَها! وما أجْمَلَها وأجْمَعَها!
إنها كَلِماتٌ مُبارَكةِ.. مِن عِلمِ النُّبوةِ ونُورِ الهدايةِ وفَيضِ الرسالةِ! قالَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبلَ أربعةَ عشرَ قرناً مِن الزمان؛ فلم يَخْبُ نُورُها على تَعاقُبِ القُرُون، ولم يُطْفِىءْ بَرِيقَها تَوالي الأيامِ والسِّنين؛ بل بَقِيَتْ كما هي على الدَّوامِ.. نُوراً وضِياءً وحِكْمةً وإشْراقاً؛ فصَلَّى الله وسَلَّمَ وباركَ على مَن أُوتِيَ جَوامِعَ الكَلِم؛ فَشَفَى وكَفَى ونَصَحَ فأوْفَى؛ (وما يَنْطِقُ عن الهوَى إنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى)![3]
1) عناية العلماء بحديث (الأعمال بالنيات):
لقد اهتَمَّ أهلُ العِلمِ بهذا الحديثِ الجلِيلِ، واعتَبَرُوه مُتضَمِّناً ثُلُثَ العِلمِ أو رُبعَه. واستَحبُّوا أن تُستَفْتَحَ به الكُتبُ؛ لاشتِمالِه على رأسِ الأمرِ وأساسِ الدِّينِ وبابِ القَبول: وهو الإخلاصُ لله عزَّ وجَلَّ.
فقد ذَكَرَ البيهقي في (السُّنن الصُّغرى) "أنَّ محمد بن اسماعيل قال: قال عبد الرحمن بن مهدي: مَن أراد أن يُصنِّفَ كتاباً؛ فليبدأ بحديثِ الأعمال بالنيات. وقد استعملَه محمد بن اسماعيل البخاري رحمه الله؛ فبدأ الجامع الصحيح بحديث (الأعمال بالنيات)، واستعْمَلْناه في هذا الكتابِ فبَدَأْنا به. وكان الشافعي رَحِمَه الله يقول: يَدخُلُ في حديثِ (الأعمال بالنياتِ) ثُلُثُ العِلم؛ وهذا لأنَّ كسبَ العبدِ إنما يكون بِقلبِه ولِسانِه وبَنانِه، والنيةُ واحدةٌ مِن ثلاثةِ أقسامِ اكتِسابِه، ثم لِقِسمِ النيةِ تَرجِيحٌ على القِسْمَين الآخَرَين؛ فإنَّ النيةَ تكون عِبادةً بانفرادِها، والقولُ العاري عن النيةِ والعملُ الخالي عن العقيدة لا يكونان عِبادةً بأنفسِهما؛ ولذلك قيل: نيةُ المؤمنِ خيرٌ مِن عَمَلِه".[4]
قال ابن حجر رحمه الله: "وكلام الإمام أحمد يَدلُّ على أنه أرادَ بِكَوْنِه ثُلثَ العِلمِ أنه أحدُ القواعدِ الثلاث التي تُرَدُّ إليها الأحكامُ عِندَه، وهي هذا الحديث و(مَن عَمِلَ عَملاً ليس عليه أمْرُنا فهو رَدٌّ) و(الحلالُ بيِّنٌ والحرامُ بَيِّنٌ)".[5]
وقد ألَّفَ السيوطي رحمه الله في هذا الحديث كتاب: (منتهى الآمال في شرحِ حديثِ إنما الأعمال). وقال الشوكاني رحمه الله: "في الحديث فوائد مبسوطة في المطوَّلات لا يَتسِعُ لها المقامُ؛ وهو على انفِرادِه حَقِيقٌ بأن يُفرَدَ له مُصَنَّفٌ مُستَقِلٌّ".[6]
وقال الحافظ ابنُ حجر: "تواترَ النقلُ عن الأئمةِ في تعظيمِ قَدرِ هذا الحديث. قال أبو عبد الله: ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة من هذا الحديث. واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي ـ فيما نقله البُويطي عنه ـ وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أنه ثلث الإسلام، ومنهم مَن قال: رُبعه، واختلَفُوا في تعيِينِ الباقي. وقال ابنُ مهدي أيضا: يدخلُ في ثلاثين باباً من العلم. وقال الشافعي: يدخل في سبعين بابا. ويحتمل أن يريدَ بهذا العَددِ المبالَغة.[7] وقال عبدُ الرحمن بن مهدي أيضا: ينبغي أن يُجعَلَ هذا الحديثُ رأسَ كلِّ باب".[8](/1)
وقد رواه ابنُ خُزَيْمة في باب (إيجاب إحداثِ النيةِ للوضوءِ والغُسل).[9] وفي باب (إيجاب إحداثِ النيةِ للاغتِسالِ مِن الجنابة، والدليل على ضِدِّ قولِ مَن زعَمَ أنَّ الجنبَ إذا دخَلَ نَهرا ناوِياً للسباحةِ فماسَّ الماءُ جميعَ بَدَنِه ولم ينو غُسلا ولا أراده؛ إذا فرض الغسل ولا تقرُّباً إلى الله عزَّ وجلَّ أو صُبَّ عليه ماءٌ وهو مُكْرَهٌ، فماسَّ الماءُ جميعَ جَسدِه أنَّ فَرْضَ الغَسلِ ساقطٌ عنه).[10] وفي باب (إحداث النِّيةِ عند دُخولِ كلِّ صلاةٍ يُرِيدُها المرءُ؛ فيَنْوِيها بِعَينِها فريضةً كانت أو نافلةً؛ إذ الأعمالُ إنما تكون بالنية).[11] وذَكَرَه ابنُ عبدِ البر في تَحْلِيلِ المطلَّقةِ ثَلاثاً لِزَوجِها؛ فإنَّ التيسَ المستَعارَ "إذا نَوَى أنْ يُحِلَّها لِزَوجِها كان مُحَلِّلا لِقَولِه: (الأعمال بالنية). وقد رُوي عن عمر بن الخطاب في هذا تَغلِيظٌ شَدِيدٌ: قوله: لا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ ولا مُحَلَّلٍ له إلا رَجَمْتُهما، وقال ابن عمر: التحليلُ سِفاح".[12]
وجاء في المدونة الكبرى: "في الجنب يغتسل ولا ينوي الجنابة: قال: وقال مالك: من أصابته جنابةٌ فاغتسلَ للجمعةِ ولم ينو به غسلَ الجنابة، أو اغتسلَ مِن حَرٍّ يجده لا ينوي به غسل الجنابة، أو اغتسل على أيِّ وَجهٍ كان ما لم ينو به غسل الجنابة؛ ليس ذلك من غسل الجنابة... قال مالك: وإن توضأ من حَرٍّ يجده أو نحو ذلك ولا ينوي الوضوء لما ذكرت لك؛ فلا يجزئه مِن وُضوءٍ للصلاة ولا مِن مَسِّ المصحفِ ولا النافلة ونحوه".[13]
2) من الناحية الإيمانية:
يتضمَّنُ هذا الحديثُ وَصِيةَ الله تعالى للأوَّلِين والآخِرِين بالإخلاص. كما نقل ابنُ حجر عن أبي العالية الرياحي في قولِِه تعالى: (شرَعَ لكم مَن الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً)،[14] قال: "أوْصَاهم بالإخلاصِ في عِبادَتِه".[15]
فحديثُ (الأعمال بالنيَّات) أصلٌ عَظيمٌ في هذا الدِّين؛ لأنَّ أعمالَ العِبادِ كلَّها مُعلَّقةٌ بالنيَّة، (وما أُمِرُوا إلا لِيَعبُدُوا الله مُخْلِصِين له الدِّين).[16] فلا تُقبَلُ أعْمالُهم إلا إذا صَلحتْ نِيَّاتُهم؛ فكانت خالِصةً لِوَجْهِ الله عَزَّ وجَلَّ؛ لم تَشُبْها أغراضٌ غيرُ شَرعيةٍ: مِن رِياءٍ أو سُمْعةٍ أو حَمِيَّةٍ أو عَصَبِيةٍ. وقد نَصَّ البخاريرضي الله عنه على أهمِّيةِ النيةِ وصَرَّحَ بِعَلاقَتِها بالعقائدِ الإيمانية، حيث ترجَمَ رَحِمَه الله في كتاب الإيمان: (ما جاء أنَّ الأعمالَ بالنِّيةِ والحسْبة، ولكلِّ امرىءٍ ما نَوَى؛ فدَخَلَ فيه الإيمانُ والوُضوءُ والصلاةُ والزكاةُ والحجُّ والصومُ والأحكامُ، وقال الله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شاكِلَتِه): على نِيَّتِه، و(نفقةُ الرجلِ على أهلِه يحتسبها صَدَقة)، وقال: (ولَكِنْ جِهادٌ ونِية).[17] وروى البخاري في هذا البابِ عن أبي مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أنفَقَ الرجلُ على أهْلِه يَحْتَسِبُها؛ فهو له صَدَقة).[18] وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أخبرَه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنك لن تُنفِقَ نَفقةً تبتغي بها وَجْهَ الله إلا أُجِرْتَ عليها؛ حتى ما تَجْعَلُ فِي فِي امرأتِك).[19]
ومَن تدَبَّرَ حديثَ (الأعمال بالنياتِ).. عَلِمَ أنه ليس قاصِراً على الإخلاصِ في الأعْمال؛[20] بَلْ هو أوْسَعُ في دَلالَتِه وأعْظمُ وأجَلُّ، فهو في الحقيقةِ قاعِدةٌ شَرْعِيةٌ ومَدرسةٌ تربويةٌ تَنْبَنِي عليها كثيرٌ من الأحكامِ الفقهية، وتتفرَّعُ منها ما لا يُحْصَى مِن الأعمالِ والخصال. قال ابنُ رجب رحمه الله: "لَما ذَكَرَ صلى الله عليه وسلم أنَّ الأعمالَ بِحَسَبِ النِّياتِ، وأنَّ حظَّ العامِلِ مِن عَمَلِه؛ نِيَّتُه: مِن خَيْرٍ أو شَرٍّ، وهاتان كلِمَتان جامِعَتان وقاعِدَتان كُلِّيَّتان لا يَخْرُجُ عنهما شَيْءٌ؛ ذَكرَ بعد ذلك مَثلا مِن الأمثالِ والأعمالِ التي صُورَتُها واحِدةٌ، ويَختَلِفُ صَلاحُها وفَسادُها باختِلافِ النِّيات؛ وكأنه يقولُ: سائرُ الأعْمالِ على حَذْوِ هذا المثالِ".[21](/2)
وحَدِيثُ (الأعمال بالنياتِ).. يَعنِي أنَّ الأعمالَ كلَّها مُفتَقِرةٌ إلى النِّيةِ؛ افتقارَ الجسدِ إلى الرُّوحِ! وعلى قَدْرِ صَلاحِ النيةِ وبَرَكتِها ونَفعِها؛ يكون صلاحُ العملِ وبَركتُه ونَفعُه. و"مَن أراد عُلوَّ بُنيانِه؛ فعَليه بتوثِيقِ أساسِه وإحْكامِه وشِدةِ الاعتِناءِ به؛ فإنَّ عُلوَّ البُنيانِ على قَدْرِ تَوثِيقِ الأساسِ وإحْكامِه؛ فالأعْمالُ والدَّرجاتُ بُنيانٌ، وأساسُها الإيمانُ؛ ومتى كان الأساسُ وَثِيقاً حَمَلَ البُنيانَ واعتلَى عليه، وإذا تَهدَّمَ شيءٌ مِن البُنيانِ سَهُلَ تدارُكُه، وإذا كان الأساسُ غيرَ وَثِيقٍ لم يَرتفِع البُنيانُ ولم يثبت، وإذا تَهدَّم شيءٌ من الأساسِ سَقطَ البُنيانُ أو كاد؛ فالعارِفُ هِمَّتُه تَصحِيحُ الأساسِ وإحكامُه، والجاهِلُ يَرفعُ في البناءِ عن غيرِ أساسٍ؛ فلا يَلبثُ بُنيانُه أن يسقطَ قال تعالى: (أفمَنْ أسَّسَ بُنيانَه على تقوى مِن الله ورضوانٍ خيرٌ أمَّن أسَّسَ بُنيانَه على شَفا جُرُفٍ هارٍ فانْهارَ به في نارِ جَهَنم)؛ فالأساسُ لِبناءِ الأعْمالِ كالقُوةِ لِبَدنِ الإنسان... فاحْمِلْ بُنْيانَك على قُوةِ أساسِ الإيمانِ؛ فإذا تَشَعَّثَ شَيْءٌ مِن أعالِي البناءِ وسَطْحِه كان تَدارُكُه أسْهَلَ عليك مِن خَرابِ الأساس"![22]
قال ابن تيمية رحمه الله: "قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنما الأعمال بالنيات) كلمةٌ جامعةٌ كاملةٌ؛ فإن النية للعمل كالروح للجسد؛ وإلا فكل واحد من الساجد لله والساجد للشمس والقمر قد وضع جبهته على الأرض فصورتُهما واحدة، ثم هذا أقرَبُ الخلقِ إلى الله تعالى، وهذا أبعَدُ الخلقِ عن الله".[23]
وحَدِيثُ (الأعمال بالنياتِ).. يَعنِي كذلك أنَّ النِّيةَ هي التي تُبارِكُ الأعْمال؛ وهي التي تَبعَثُ الأنفاسَ الطيِّبةَ الربَّانيَّةَ؛ التي تُثْمِرُ أحْسَنَ الخصال. ورَحِمَ الله ابنَ القيم؛ ما أحْسَنَ قولَه: "السَّنةُ شَجَرةٌ، والشُّهورُ فُرُوعُها، والأيامُ أغصانُها، والساعاتُ أوراقُها، والأنفاسُ ثَمَرُها؛ فمن كانت أنفاسُه في طاعةٍ؛ فثمرةُ شَجرتِه طَيِّبةٌ، ومَن كانت في مَعصيةٍ فثَمرتُه حَنظلٌ... والإخلاصُ والتوحِيدُ شَجرةٌ في القلبِ فُرُوعُها الأعمالُ، وثَمَرُها طِيبُ الحياةِ في الدنيا والنعِيمُ المقيمُ في الآخرة، وكما أنَّ ثِمارَ الجنةِ لا مقطوعةٌ ولا ممنوعةٌ؛ فثمرةُ التوحيدِ والإخلاصِ في الدنيا كذلك. والشركُ والكذبُ والرياءُ شجرةٌ في القلبِ ثَمرُها في الدنيا والخوفُ والهمُّ والغَمُ وضِيقُ الصدرِ وظُلمةُ القلبِ، وثَمرُها في الآخرةِ الزقُّومُ والعذابُ المقيم".[24]
3) مِن الناحِيةِ النفسية:
يُفيدُ حديثُ (الأعمال بالنياتِ).. أنَّ شَرَفَ الأعمالِ مِن شَرَفِ النفوسِ،[25] وأنَّ الشرَّ الذي يعتري الأعمالَ إنَّما سَببُه شَرُّ النفوسِ؛ فالنفسُ مَنْبَعُ الأعمالِ! وقد صَرَّحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بذلك في دُعائه: (نَعُوذُ بالله مِن شُرورِ أنفُسِنا ومِن سيئاتِ أعْمالِنا)؛ فجَمَعَ صلى الله عليه وسلم في الاستِعاذةِ بين شُرُورِ الأنفُسِ ومِن سيئاتِ الأعْمالِ! ولله دَرُّ ابنِ القيم ما أحْسَنَ قولَه: "ليس في الدنيا والآخرةِ شَرٌّ أصلا إلا الذُّنوبُ وعُقوباتُها؛ فالشرُّ اسمٌ لذلك كُلِّه، وأصْلُه مِن شَرِّ النفسِ وسيئاتِ الأعمالِ، وهما الأصْلان اللَّذان كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذُ منها في خُطْبتِه بقولِه: (ونَعُوذُ بالله مِن شُرورِ أنفُسِنا ومِن سيئاتِ أعْمالِنا). وسَيِّئاتُ الأعْمالِ مِن شُرورِ النفسِ؛ فعادَ الشَّرُّ كلُّه إلى شَرِّ النفسِ؛ فإنَّ سَيئاتِ الأعمالِ مِن فُروعِه وثَمَراتِه".[26]
وحديثُ (الأعمال بالنياتِ).. يعنِي كذلك.. أنَّ الأعمالَ لا تزكُو وتَصْفُو إلا إذا صَفَتْ النياتُ وزَكَتْ المقاصِدُ؛ فالأعمالُ الصالِحةُ الطيِّبةُ مُعَلَّقةٌ بالنياتِ الصالِحةِ الطيِّبة، فإنَّ صَفاءَ العَملِ فَرْعٌ من صَفاءِ القَلب، فإذا صَفا القلبُ؛ زَكا العملُ، وأثْمَرَ القولُ؛ (إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُه).[27] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يَقبلُ إلا طيِّباً).[28]
كما قال ابنُ الجوزي: "قال أبو سليمان الداراني: مَنْ صَفَّى صُفِّيَ له، ومن كَدَّرَ كُدِّرَ عليه... وكان الفضيل بن عياض يقول: إني لأعصي اللهَ؛ فأعرف ذلك في خلقِ دابَّتي وجاريتي"![29] "فرُبَّ شخصٍ أطلقَ بصرَه؛ فحُرِمَ اعتبارَ بَصِيرَتِه، أو لِسانَه؛ فحُرِمَ صفاءَ قلبِه، أو آثرَ شُبهةً في مطعَمِه؛ فأظلَمَ سِرُّه وحُرِمَ قيامَ الليل وحلاوةَ المناجاة... إلى غير ذلك. وهذا أمْرٌ يَعرِفُه أهلُ مُحاسبَةِ النفوس".[30](/3)
وإنَّ سعادةَ القلوب وراحتَها وانشِراحَها رَهِينةٌ بِوُجُودِ الإخلاصِ فيها؛ فإذا أخْلَصَ العبدُ لله عزَّ وجَلَّ ذاقَ السعادةَ في الدنيا قبل الآخرة. كما قال الله عز وجل: (فمَن يُرِدِ اللهُ أنْ يَهْديَه يَشْرَحْ صَدرَه للإسلام ومَن يُرِدْ أن يُضِلَّه يَجْعَلْ صَدْرَه ضَيِّقاً حَرَجاً كأنَّما يَصَّعَّدُ في السَّماء)،[31] وقال تبارك وتعالى: (أفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدرَه للإسلامِ فهو على نُورٍ مِن ربِّه فَوَيْلٌ للقاسِيَةِ قُلُوبُهم).[32] وقال جلَّ جلالُه: (أوَمَنْ كان مَيْتاً فأحْيَيْناه وجَعَلْنا له نُوراً يَمْشِي به في الناسِ كَمَنْ مَثَلُه في الظلماتِ ليس بِخارجٍ منها).[33]
قال ابنُ القيم رحمه الله: "القلوبُ على قلبين: قلبٌ هو عرشُ الرحمن، ففيه النُّورُ والحياةُ والفَرَحُ والسرورُ والبهجةُ وذَخائرُ الخير، وقلبٌ هو عَرشُ الشيطانِ؛ فهناك الضِّيقُ والظُّلمةُ والموتُ والحزنُ والغَمُّ والهم؛ فهو حَزينٌ على ما مَضى، مَهْمُومٌ بما يَسْتَقْبِلُ، مَغمومٌ في الحال... والنُّور الذي يدخل القلبَ مِن آثارِ المثلِ الأعلى؛ فلذلك يَنفسِحُ ويَنشَرِحُ، وإذا لم يكنْ فيه مَعرفةُ الله ومَحبَّتُه؛ فَحَظُّه الظُّلمةُ والضِّيق".[34] وقد "قال مكحول: ما أخلصَ عبدٌ قط أربعين يوماً؛ إلا ظَهَرَتْ ينَابِيعُ الحكمةِ مِن قَلبِه على لِسانِه... وقال أبو سليمان الداراني: إذا أخلصَ العبدُ انقطعتْ عنه كثرةُ الوساوسِ والرياء".[35]
وقد أبطلَ العلماءُ بحديث (الاعمال بالنيات) الحيلَ النفسية، كما قال الشوكاني رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم (إنَّما الأعمالُ بالنِّيات) أصلٌ في إبطالِ الحيلِ؛ فإنَّ مَن أراد أن يُعامِلَه مُعامَلةً يُعطِيه فيها ألفاً بألفٍ وخمسمائة إنما نَوَى بالإقراضِ تَحصِيلَ الرِّبحِ الزائدِ الذي أظهرَ أنه ثَمنُ الثوبِ؛ فهو في الحقيقة أعطاه ألفاً حالةً بألفٍ وخمسمائة مُؤجَّلةً".[36]
وقال ابن كثير رحمه الله: "قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه: (لعنَ الله اليهودَ؛ حرمت عليهم الشحوم فجَمَلُوها فباعُوها، وأكلُوا أثْمانَها) وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما (لعن المحلل) في تفسيره قوله (حتى تنكح زوجا غيره) قوله صلى الله عليه وسلم (لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه)، قالوا: وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صُورةِ عَقدٍ شَرعي، ويكون داخله فاسدا لا بصورته لأنَّ الأعمال بالنيات. وفي الصحيح (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) وقد صنف الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية كتابا في إبطال التحليل تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل وقد كفى في ذلك وشفى فرحمه الله ورضي عنه".[37]
والنياتُ وإنْ أمْكنَ أن تَتَنكَّرَ وتتوارى خَلْفَ بعضِ الأعمال في الظاهرِ؛ فلا بُدَّ مِن كَشفِ حقيقتِها ولو بعد حينٍ؛ كما قال الله عزَّ وجلَّ: (أم حَسِبَ الذين في قُلوبِهم مَرَضٌ أنْ لَن يُخْرِجَ الله أضْغانَهم ولو نَشاءُ لأرَيْناكَهُمْ فلَعَرَفْتَهم بِسِيماهم ولَتَعْرِفنَّهم في لَحْنِ القَول).[38] قال ابن الجوزي رحمه الله: "(ولَتَعرِفَنَّهم في لَحنِ القولِ): أي في فَحوى القول؛ فدلَّ بهذا على أنَّ قولَ القائل وفعلَه يَدلُّ على نِيَّتِه".[39]
وقال ابنُ كثير رحمه الله: "أيعتقد المنافِقُون أن الله لا يكشف أمرَهم لِعِبادِه المؤمِنين؛ بلى سيوضح أمرَهم ويجلِيه حتى يفهمَهم ذوو البصائر، وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة براءة؛ فبَيَّنَ فيها فضائحَهم وما يعتمِدونَه من الأفعالِ الدالة على نِفاقِهم؛ ولهذا كانت تسمى الفاضحة. والأضغان جمع ضغن: وهو ما في النفوسِ من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره، وقوله تعالى (ولو نَشاءُ لأرَيْناكهم فلَعَرَفْتَهم بِسِيماهم)، يقول عزَّ وجَلَّ: ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصَهم فعرفتَهم عياناً... (ولَتَعْرِفَنَّهم في لَحنِ القول) أي فيما يبدو من كلامِهم الدالِ على مَقاصِدِهم... كما قال أميرُ المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه : (ما أسَرَّ أحدٌ سريرةً إلا أبْداها الله على صَفحاتِ وَجهِه وفَلتاتِ لِسانِه، وفي الحديث (ما أسَرَّ أحدٌ سَريرةً إلا كساه الله تعالى جِلبابَها إن خيراً فخيرٌ، وإن شراًّ فشَرٌّ)".[40] وما أحسنَ قولَ زهير:
فعَلَى العاقِلِ أن يُصْلِحَ نِيَّتَه، ويُصحِّحَ قصدَه؛ قبل أن يَكشِفَ الله سِترَه، أو يُمِيتَه على سُوءِ الختام والعِياذ بالله! ولله درُّ ابن رجب ما ألطفَ ما استنبطَه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في الصحيحين: (إنَّ الرجل ليعملُ بعمل أهلِ الجنَّة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار)، فقال: "قولُه (فيما يبدو للناس) إشارةٌ إلى أنّ باطنَ الأمرِ يكون بخلافِ ذلك؛ وأنَّ خاتمةَ السوءِ تكون بِسَببِ دَسِيسةٍ باطِنةٍ للعبد لا يطَّلِعُ عليها الناس"![41]
وللهِ دَرُّ مَن قال:(/4)
4) مِن الناحيةِ الفِكرية:
اعتبرَ العلماءُ حديثَ (الأعمال بالنيات) أصلاً في أولِ قاعِدةٍ فقهيةٍ؛ فقد قال السيوطي رحمه الله في (الأشباه والنظائر): "القاعدة الأولى: الأمُور بمقاصدها".[42]
ومما يُفِيدُنا حديثُ (الأعمال بالنياتِ).. أنَّ رُوحَ الأعْمالِ في سَلامةِ القَلبِ والجوهَرِ؛ لا في القالَبِ والمظهَر! ولذلك قال الله عز وجلَّ: (إلا مَن أتَى الله بِقَلبٍ سَلِيم). قال القرطبي رحمه الله: "خُصَّ القَلبُ بالذِّكرِ لأنه الذي إذا سَلِمَ سَلِمَت سائرُ الجوارحِ، وإذا فسَدَ فَسَدت سائرُ الجوارِح".[43]
فلا عِبْرَةَ بالأفكارِ الرَّنانة والعِباراتِ الطنانة؛ إذا كانت القُلُوبُ خَرِبَةً مُقفِرةً من الإخلاص لله ربِّ العالمين! ولله دَرُّ البخاري رضي الله عنه حيث ترجَمَ في كتاب العلم: (باب العِلم قبلَ القولِ والعَمل؛ لقولِ الله تعالى: فاعْلَمْ أنه لا إله إلا الله؛ فبدأ بالعلم).[44] فمَن وُفِّقَ للإخلاصِ وتجريدِ التوحيدِ الحقيقي؛ فإنه يُوفَّقُ لأحْسَنِ الأقوالِ والأعمال. ورَحِمَ اللهُ مَنْ قال:
وأما مَن حُرِمَ العِلمَ النافعَ الخالِصَ الربَّاني؛ فأنَّى يُحَصِّلُ القولَ السَّديدَ والعَملَ الرَّشِيد؟! ولا يَخْفَى أثَرُ النِّيةِ الصالِحةِ في تحصيلِ العلوم النافعة وإنجازِ الأعمالِ الصالحة (والبلدُ الطيبُ يخرج نباتُه بإذنِ ربِّه والذي خبث لا يخرجُ إلا نَكِداً).[45] وقال الله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لا يَستَوِي الخبيثُ والطيِّب)، قال القرطبي: "اللفظ عامٌّ في جميعِ الأمور، يُتصَوَّرُ في المكاسِبِ والأعمالِ والناسِ والمعارفِ مِن العلومِ وغيرِها؛ فالخبيث من هذا كله لا يفلحُ ولا ينجبُ ولا تحسن له عاقبةٌ وإن كثر! والطيِّبُ وإنْ قَلَّ نافعٌ جميلُ العاقِبة، قال الله تعالى: (والبلدُ الطيِّبُ يَخرُجُ نَباتُه بإذنِ ربِّه)".[46]
ومَن تَدَبَّرَ قولَه صلى الله عليه وسلم : (إنَّما الأعْمالُ بالنِّياتِ؛ وإنَّما لِكُلِّ امرىءٍ ما نَوَى)؛ أدركَ أنَّ النِّياتِ ليست قاصِرةً على الصُّوَرِ والأشْكالِ الجسمية؛ بَلْ تَشمَلُ العقائدَ والأفكارَ والمذاهبَ النظريةَ والعَمَلِية. فكَم مِن الناسِ قد اغتَرُّوا بفِكْرةٍ ضارَّةٍ، أو فِرْقةٍ ضالَّةٍ؛ فأسَرَتْهم الأشْكالُ والأثوابُ ولم ينظُروا إلى الجوهَرِِ واللُّباب، وقد عَبَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المعنَى أحْسَنَ تعبيرٍ في حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (إنَّ اللهَ لا يَنظرُ إلى أجْسامِكم ولا إلى صُوَرِكم؛ ولكنْ يَنظرُ إلى قُلُوبِكم وأعْمالِكم).[47]
فالهجرةُ التي مَثَّلَ بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تُمثِّلُ سَفَراً جَسدياً.. ورِحْلةً بَدَنِيةً في صُورَتِها، ولكنها في الحقيقةِ سَفَرٌ رُوحِيٌّ ورِحْلةٌ إيمانيةٌ؛ فمَن كانت نِيَّتُه في الهجرةِ دِينيةً، فهو المهاجِر، ومَن كانت نِيتُه من الهجرةِ طَلبَ الدنيا والنِّساء؛ فليس له مِن الهجرةِ شيءٌ وإنْ سافرَ ورَحَلَ وجابَ الفِيافي والقفار وخاضَ المعارِكَ والأخطار! ورَحِمَ الله ابنَ رجب حيث قال: "أصلُ الهجرةِ هجرانُ بلدِ الشركِ، والانتِقالُ منه إلى دارِ الإسلام كما كان المهاجِرون قبل فتح مكة يهاجرون منها إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد هاجَرَ مَن هاجرَ منهم قبلَ ذلك إلى أرضِ الحبشةِ إلى النجاشِي؛ فأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ هذه الهجرةَ تختلِفُ باختِلافِ المقاصِدِ والنِّياتِ بها؛ فمَن هاجَرَ إلى دارِ الإسلامِ حُباًّ لله ورسولِه ورغبةً في تعلُّمِ دينِ الإسلامِ وإظهارِ دينِه؛ حيث كان يَعجَزُ عنه في دارِ الشِّركِ؛ فهذا هو المهاجِرُ إلى الله ورَسولِه حقاًّ، وكَفاه شَرَفاً وفَخْراً أنْ حَصلَ له ما نَواه مِن هِجرتِه إلى الله ورسولِه؛ ولهذا المعنَى اقتَصَرَ في جَوابِ هذا الشرطِ على إعادتِه بِلَفظِه؛ لأنَّ حُصولَ ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدنيا والآخرة. ومَن كانت هِجرتُه مِن دارِ الشركِ إلى دارِ الإسلامِ ليطلبَ (دُنيا يُصِيبُها أو امرأة ينكحها) في دارِ الإسلام؛ (فهِجرتُه إلى ما هاجرَ إليه) مِن ذلك، فالأولُ تاجرٌ، والثاني خاطِبٌ وليس بواحد منهما مُهاجر".[48]
ومِن فوائدِ حديثِ (الأعمال بالنيات) الإشارةُ إلى فضيلةِ الزهدِ في الدنيا، كما تُفِيدُه العبارةُ النبويةُ الشريفة: (ومَن كانت هِجرتُه إلى دُنيا يُصِيبُها أو امرأةٍ يَنكِحُها؛ فهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه)! قال ابن رجب رحمه الله: "وفي قوله (إلى ما هاجر إليه) تحقيرٌ لما طلبه من أمرِ الدنيا واستهانة به حيث لم يذكر بلفظه".[49](/5)
فمَن كان كلُّ هَمِّه إصابةَ الدنيا ونِكاحَ النساء؛ فقد أسَرَتْه الدنيا بِشَهواتِها؛ حتى صارَ عبداً لها! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (تَعِسَ عَبدُ الدينارِ والدِّرهمِ والقَطيفةِ والخميصة؛ إنْ أُعْطِيَ رَضِي، وإن لم يُعْطَ لم يَرْضَ)".[50] ولهذا المعنى أخرجَ ابنُ ماجه رحمه الله هذا الحديثَ في كتاب (الزهد) باب (النيّة).[51]
وقال ابنُ رجب رحمه الله: "قد ذَمَّ الله عزَّ وجَلَّ مَن كان يريدُ الدنيا بِعَمَلِه وسَعْيِه ونِيَّتِه؛ وقد سَبقَ ذِكرُ ذلك في الكَلامِ على حَديثِ الأعمال بالنيات. والأحاديثُ في ذَمِّ الدنيا وحَقارتِها عند الله عزَّ وجَلَّ كثيرةٌ جدا، ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (مرَّ بالسوقِ والناس كنفيه فمر بجدي أسك ميتٍ فتناوله فأخذ بأذنه، فقال: أيُّكم يُحِبُّ أنَّ هذا له بدرهم، فقالوا: ما نُحِبُّ أنه لنا بشيءٍ وما نَصنعُ به قال: أتُحِبُّون أنه لكم، قالوا: والله لما كان حياًّ لَما رَغِبْنا فيه لأنه أسَكُّ فكيفَ وهو مَيتٌ؟ فقال: والله للدنيا أهْوَنُ على الله مِن هذا عَلَيكم)".[52]
وهذا ما يُفسِّرُ لنا سببَ انحطاطِ العلمِ في زمانِنا؛ تبعاً لانحطاطِ النياتِ في تحصيلِه! حتى عَسُرَ علينا تذوُّقُ بَرَكةِ العِلمِ وثَمرتَه ونُورَه وسَمتَه؛ فصار زَبداً رابياً لا نَفعَ له؛ ذلك أنَّ "الحقائق المُجَرَّدة الباردة لا تؤثر في المشاعر، ولا تستجيشُ القلوبَ للاستجابة!"[53]
ورَحِمَ الله صاحِبَ الظِّلال حيث قال: "وَرِثُوا الكِتابَ ودَرَسوه؛ ولَكِنَّهُمْ لمْ يَتَكَيَّفُوا به، ولم تتأثَّرْ بهِ قُلوبُهم... شأنَ العقيدةِ حين تتحوَّلُ إلى ثقافةٍ تُدْرَسُ وعِلْمٍ يُحْفَظُ... هُمْ دَرَسُوا الكتابَ وعَرَفُوا ما فِيهِ، بلى! ولكنَّ الدِّراسةَ لا تُجْدِي ما لم تُخالِطْ القُلُوب[54] وكَمْ مِن دارِسِينَ للدِّينِ وقُلوبُهم عنهُ بعيد؟...وهل آفةُ الدِّينِ إلا الذين يَدْرُسُونَهُ دِراسةً ولا يأخُذُونَهُ عَقيدةً؟!"[55]
وما أحْسَنَ ما قال شيخ الإسلام الهروي في (منازل السائرين) أنَّ البصيرة "تُفَجِّر المعرفة، وتُثبت الإشارةَ، وتُنبت الفراسة" فشرح ذلك ابنُ القيم بقوله: "يريد بالبصيرة في الكشف والعيان أن تتفجرَ بها ينابيعُ المعارف من القلب؛ ولم يقل (تفجر العلم) لأن المعرفة أخصُّ من العلم عند القوم، ونسبتُها إلى العلم نسبةُ الروحِ إلى الجسد، فهي روحُ العلم ولُبُّه. وصدقَ رحمه الله؛ فإن بهذه البصيرة تتفجر من قلب صاحبها ينابيع من المعارف التي لا تُنال بكسبٍ ولا دراسة؛ إنْ هو إلا فهم يؤتيه الله عبداً في كتابِه ودينِه على قدرِ بصيرةِ قلبِه".[56] ذلك "نُور الوحي والإيمان ينضافُ إلى نُورِ الفراسة والاستعداد؛ فيصير نُوراً على نُورٍ؛ فتقوى البصيرةُ ويعظم النُّور، ويدوم بزيادةِ مادَّتِه ودَوامِها، ولا يزال في تزايدٍ حتى يُرى على الوجهِ والجوارحِ والكلامِ والأعمال".[57]
ورُبَّ رجلٍ صادِقٍ؛ يتلفَّظ بالكلمةِ اليسيرةِ فتصِيرَ حِكمةً، ينتفع بها الناسُ في حياتِه وبعد مماتِهِ! وما أحسنَ ما قال التهامي:
فصِدْقُ النيةِ وصَلاحُ النُفوسِ لهُ أعظمُ الأثرِ في صلاحِ الأعمالِ؛ وإنما تكونُ الثمارُ في قُلوبِ الناسِ على قدرِ غَرْسِها الطيِّبِ في قَلْبِ صاحِبِها! وما أصدقَ ما قيل:
وقال ابن تيمية رحمه الله: "العبدُ مُفتَقرٌ إلى الله في أن يَهديَه ويُلهِمَه رُشدَه... وقد يكونُ الرجلُ من أذكياءِ الناسِ وأحَدِّهم نظراً ويُعْمِيه عن أظهرِ الأشياء، وقد يكون من أبلد الناسِ وأضعَفِهم نظراً ويَهدِيهِ لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنه؛ فلا حول ولا قوة إلا به فمن اتكل على نظره واستدلاله أو عقله ومعرفته خذل... وهذا في العلم كالإرادات في الأعمال؛ فإن العبد مفتقر إلى الله في أن يحبب إليه الإيمان ويبغض إليه الكفر؛ وإلا فقد يعلم الحق وهو لا يحبه ولا يريده فيكون من المعاندين الجاحدين، قال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا)،[58] وقال (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم)؛[59] فكما أنَّ الإنسانَ فيما يكتسبه من الأعمالِ مُفتقرٌ إلى الله مُحتاجٌ إلى مَعُونَتِه؛ فإنه لا حولَ ولا قوة إلا به كذلك فيما يكتسِبه من العلوم".[60](/6)
ولله درُّ الذهبي حيث قال: "فأخْلِصْ تُفْلِحْ؛ وتَمَنَّ دائماً وأبداً صَفاءَ النية، قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله: لو صَفا لي تهليلةٌ ما باليتُ بعدَها. وسَلِ اللهَ أن يُعافيَك مِن سُوء النية؛ فإنَّ عاقبةَ ذلك وَخِيمةٌ جدا... واعلمْ أن العملَ كلَّه هباءٌ إلا بالإخلاص، وأن ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل؛ فاصدُق النيةَ مع الله تعالى؛ فمن صَدَقَ اللهَ علا، قال سفيان بن عيينة رحمه الله: ما أخلصَ عبدٌ لله أربعين يوماً إلا أنبتَ اللهُ الحكمةَ في قلبِه نباتاً وأنطقَ لسانَه بها، وبصَّرَه عُيوبَ الدنيا: داءها ودواءها؛ وهذه ثمرةٌ من ثمرات الإخلاص. سُئل حمدون القصار: ما بالُ كلامِ السلف أنفع من كلامِنا؟ فقال: لأنهم تكلموا لعزِّ الإسلام ونجاةِ النفوسِ ورضا الرحمن؛ ونحن نتكلم لعزِّ النفوسِ وطلبِ الدنيا ورضا الخلق"![61]
5) من حيث النواحي الإدارية:
أوضحَ العلماء أهميةَ صَفاءِ القلبِ وصَلاحِ النفسِ، وأثرَ ذلك على الأعمال، فالأعمالُ ثِمارُ النيات، كما قال ابنُ رجب رحمه الله: "قال بعضُ العارِفِين: إنَّما تفاضَلُوا بالإرادات، ولم يَتفاضَلُوا بالصَّومِ والصَّلاة".[62] وقال ابن القيم رحمه الله: "إنَّ العملَ السِّيءَ مصدرُه عن فسادِ قصدِ القلب، ثم يعرضُ للقلبِ مِن فسادِ العملِ قسوةٌ؛ فيزدادُ مَرضاً على مَرضِه حتى يموت، ويبقى لا حياة فيه ولا نورَ له".[63]
ولو تدبرنا حديث (الأعمال بالنيات)؛ لوجدنا أنه يؤسس منهجاً تربوياً وإدارياً عظيماً؛ فإن الرجل يبلغ من النجاح ما بلغت نيتُه؛ لأن النية هي الدافع إلى الخير والباعث على العمل مما يقتضي صلاحَ القلب واستقامةَ المنهج واستحضارَ الأجر؛ فإذا صلحت النية صلح عمله كلُّه، وإذا فسد فسد كلٌّه. قال ابن تيمية رحمه الله: "لا ريبَ أنَّ الاعتقاداتِ تُوجِبُ الأعمالَ بحسبِها؛ فإذا كان الاعتقادُ فاسدا أورثَ عملا فاسداً؛ ففسادُ العملِ وهو الفرعُ يدلُّ على فسادِ أصلِه: وهو الاعتقاد".[64] وقال ابنُ القيم رحمه الله: "خَلَقَ الله سُبحانه النَّفسَ شَبِيهةً بالرَّحَى الدائرة التي لا تَسْكُن؛ ولا بُدَّ لها مِن شيءٍ تَطْحَنُه... فمِن الناسِ مَن تطحَنُ رَحاه حَبّاً يخرج دقيقاً؛ ينفع به نفسَهُ وغيرَه، وأكثرُهم يطحَن رملاً وحصى وتِبْناً ونحو ذلك؛ فإذا جاء وَقتُ العَجْنِ والخبز تبيَّنَ له حقيقةُ طَحِينِِهِ"![65]
فبِحَسبِ صِحةِ النيةِ وسَلامةِ القصد؛ يكون حظُّ المرءِ من سلامةِ القولِ والعملِ والفِكرِ والسلوكِ؛ وإنَّ توفيقَ الله للعَبد إلى النجاحِ والفَلاحِ؛ على قَدرِ سلامةِ نيتِه ونقاء سريرته وصفاء قلبِه وصلاحِ نفسِه، وقد قال عز وجل: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيراً مما أُخِذَ منكم).[66] وقال جل جلاله في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : (لقد رضي الله عن المؤمنين إذْ يُبايِعُونك تحت الشجرة فعَلِمَ ما في قلوبِهم فأنزلَ السكينةَ عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرةً يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً).[67]
فحديث (الأعمال بالنيات).. يُرشِدُنا إلى مُراعاةُ المقاصدِ والمصالِحِ الشرعية في سائرِ حياتِنا. قال الشوكاني رحمه الله في بيانِ أثرِ النياتِ على اللباسِ: "إنَّ الأعمالَ بالنياتِ؛ فليس المنخفِضُ مِن الثيابِ تواضُعاً وكَسراً لِسَوْرةِ النفسِ التي لا يؤمَن عليها من التكبُّرِ إنْ لبست غالِيَ الثيابِ من المقاصِدِ الصالحةِ الموجِبةِ للمَثُوبةِ من الله، ولبس الغالي من الثياب عند الأمنِ على النفسِ من التسامي المشوبِ بنوعٍ مِن التكبُّرِ لِقصدِ التوصُّلِ بذلك إلى تَمامِ المطالبِ الدينيةِ مِن أمرٍ بمعروفٍ أو نهيٍ عن مُنكَرٍ عند مَن لا يلتفت إلا إلى ذوي الهيئات كما هو الغالبُ على عوامِ زمانِنا وبعض ِخواصِّه لا شك أنه من الموجباتِ للأجرِ؛ لكنه لا بد من تقييدِ ذلك بما يَحِلُّ لبسُه شرعاً".[68](/7)
ولذلك نصَّ الراسِخُون في العِلمِ على أثَرِ النيةِ على عامةِ عملِ الإنسانِ؛ قال ابنُ رجب رحمه الله: "وسائرُ الأعمالِ كالهجرةِ في هذا المعنى؛ فصَلاحُها وفَسادُها بحسبِ النيةِ الباعِثةِ عليها: كالجهادِ والحجِّ وغيرِهما، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن اختلافِ الناسِ في الجهادِ، وما يقصد به من الرياء وإظهار الشجاعة والعصبية وغير ذلك أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)؛ فخرج بهذا كل ما سألوه عنه من المقاصد الدنيوية ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن قاتل في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَن قاتَلَ لِتَكونَ كلمةُ الله هي العُليا فهو في سَبيلِ الله)، وفي رواية لمسلم (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فذكر الحديث)، وفي رواية له أيضا (الرجل يقاتل غَضَباً ويقاتل حميةً)، وخرَّجَ النسائي من حديث".[69]
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير قولهِ تعالى: (ومَن يخرجْ من بيتِه مُهاجراً إلى الله ورسولِه ثم يدركه الموت فقد وقَعَ أجرُه على الله): "أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق؛ فقد حصلَ له عند الله ثوابُ مَن هاجرَ كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن... عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى...)، وهذا عامٌّ في الهجرة وفي جميعِ الأعمالِ ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم أكمل بذلك العابد المئة، ثم سأل عالما: هل له من توبة؟ فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشدَه إلى أن يتحولَ مِن بَلدِه إلى بلد أخرى يعبدُ الله فيه، فلما ارتحل مِن بلدِه مُهاجِراً إلى البلدِ الأخرى أدركه الموتُ في أثناء الطريق؛ فاختصَمَت فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذابِ فقال هؤلاء: إنه جاء تائباً، وقال هؤلاء: إنه لم يَصِلْ بعدُ؛ فأُمِرُوا أن يقيسُوا ما بين الأرضين فإلى أيِّهما كان أقرب فهو منها؛ فأمرَ الله هذه أن تقتربَ من هذه وهذه أن تبعد؛ فوجدوه أقربَ إلى الأرضِ التي هاجرَ إليها بشبرٍ؛ فقبضته ملائكة الرحمةِ! وفي رواية أنه (لما جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها)، وقال الإمام أحمد... عن عبد الله بن عتيك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن خرجَ مِن بيتِه مُجاهِداً في سبيلِ الله ـ ثم قال: وأين المجاهدون في سبيل الله؟ ـ فخرَّ عن دابتِه فمات؛ فقد وقع أجره على الله، أو لدغته دابة فمات؛ فقد وقع أجره على الله، أو مات حتف أنفه؛ فقد وقع أجره على الله) يعني بحتف أنفه على فِراشِه".[70]
وقال السيوطي رحمه الله: "عند البيهقي في سُنَنِه من حديث أنس: (لا عمل لمن لا نية له)، وفي مسند الشهاب من حديثه (نية المؤمن خير من عمله)، وهو بهذا اللفظ في معجم الطبراني الكبير من حديث سهل بن سعد والنواس بن سمعان وفي مسند الفردوس للديلمي من حديث أبي موسى، وفي الصحيح من حديث سعد بن أبي وقاص (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت فيها حتى ما تجعل في في امرأتك)، ومن حديث ابن عباس (ولكن جهاد ونية)، وفي مسند أحمد من حديث ابن مسعود (رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته)، وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة وجابر بن عبد الله (يُبعَث الناسُ على نياتهم)، وفي السنن الأربعة من حديث عقبة بن عامر: (إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة) وفيه: (وصانعه يحتسب في صنعته الأجر)، وعند النسائي من حديث أبي ذر: (مَن أتى فراشَه وهو ينوي أن يقومَ يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح؛ كُتب له ما نوى)، وفي معجم الطبراني من حديث صهيب (أيما رجل تزوج امرأة؛ فنوى أن لا يعطيها من صداقها شيئا مات يوم يموت وهو زانٍ، وأيما رجل اشترى من رجلٍ بيعا فنوى أن لا يعطيه من ثمنه شيئا مات يوم يموت وهو خائن)، وفيه أيضا من حديث أبي أمامة: (من أدان دَيناً وهو ينوي أن يؤديه أداه الله عنه يوم القيامة، ومن أدان دَيناً وهو ينوي أن لا يؤديه فمات قال الله يومَ القيامة: ظننتَ أني لا آخُذُ لعبدي بِحَقِّه فيؤخَذُ مِن حَسناتِه فتجعلُ في حسناتِ الآخر؛ فإن لم يكن له حَسناتٌ أُخِذَ مِن سيئاتِ الآخَرِ فجُعِلَت عليه).[71](/8)
فالفائدةُ العظمى مِن حديثِ الأعمالِ بالنياتِ أن نتوجَّهَ إلى إصلاحِ القَلبِ والقَصدِ؛ وقال ابن القيم رحمه الله: "قال أبو الدرداء رضي الله عنه : (يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، والذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين)! وهذا مِن جَواهرِ الكَلامِ وأدلِّهِ على كمالِ فِقهِ الصحابةِ وتقدُّمِهم على مَن بَعدَهم في كلِّ خيرٍرضي الله عنهم فاعلم أن العبد إنما يقطع منازلَ السير إلى الله بقلبِه وهِمَّته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح قال تعالى: (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)، وقال (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (التقوى هاهنا)، وأشار إلى صدره؛ فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعافَ أضعاف ما يقطعه الفارغُ من ذلك مع التعبِ الكثيرِ والسفرِ الشاق؛ فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقةَ وتطيب السيرَ والتقدمَ! والسبقُ إلى الله سبحانه إنما هو بالهممِ وصدقِ الرغبةِ والعزيمةِ؛ فيتقدم صاحبُ الهمة مع سُكونِه صاحبَ العملِ الكثير بمراحلَ؛ فإنْ ساواه في هِمتِه تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل يوافق فيه الإسلام والإحسان. فأكملُ الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مُوَفِّياً كلَّ واحدٍ منهما حقه فكان مع كمالِه وإرادتِه وأحوالِه مع الله؛ يقوم حتى تَرِمَ قدماه ويصوم حتى يقال لا يفطر ويجاهد في سبيل الله ويخالط أصحابه ولا يحتجب عنهم، ولا يترك شيئا من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر والله تعالى أمر عباده إن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم وحقائق الإيمان على بواطنهم".[72]
فـ(العقائد) العظيمة و(الأفكارُ) الناجحة و(الأعمال) المثمرة إنما تقوم على (النيات) الصالحة؛ ولله دَرُّ سيِّد قطب فقد بَيَّنَ هذا المعنى أحسنَ بَيانٍ حين قال: "إنَّ المبادىءَ والأفكارَ في ذاتِها بلا عقيدةٍ دافعة؛ مُجَرَّدُ كلماتٍ خاويةٍ، أو على الأكثرِ مَعانٍ مَيِّتة! والذي يمنحُها الحياةُ هو حَرارةُ الإيمانِ المشِعَّةُ مِن قَلبِ إنسان.. لن يؤمِنَ الآخَرُون بمبدأ أو فِكرةٍ تنبُتُ في ذِهنٍ بارِدٍ، لا في قَلبٍ مُشِعٍّ.. آمِنْ أنتَ أولاً بِفِكْرتِك، آمِنْ بها إلى حد الاعتقاد الحار؛ عندئذ فقط يؤمنُ بها الآخَرُون؛ وإلا فستَبقَى مُجرَّد صِياغةٍ لَفظيةٍ خاليةٍ مِن الروح والحياة.. لا حياةَ لِفِكْرَةٍ لم تتقمَّصْ رُوحَ إنسانٍ، ولم تُصبِحْ كائناً حَيّاً دَبَّ على وجهِ الأرضِ في صُورةِ بَشَرٍ... كلُّ فِكرةٍ عاشَتْ قد اقتاتَتْ قلبَ إنسان! أما الأفكارُ التي لم تُطْعَمْ هذا الغذاءَ المقدَّس؛ فقد وُلِدَت مَيِّتة، ولم تدفَعْ بالبشرية شِبراً واحداً إلى الأمام"![73]
----------
[1] هو شيخ الإسلام عمر بن الخطاب بن نُفيل العدوي "أسلم بمكة قديما، وهاجر إلى المدينة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله . وولي الخلافةَ عشرَ سنين وخمسةَ أشهر". تهذيب الكمال لأبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمان المِزِّي21/316-317. وقال ابن عبد البر: "كان إسلامه عزّا ظهر به الإسلام بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم ". الاستيعاب لابن عبد البر3/1145 نقلا عن تحقيق الشيخ بشار عواد لتهذيب الكمال 21/322. وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وحدّثَه عن قصرٍ له فيها, كما شهد له بالدِّين والعلم حيث قال: (عُرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميصٌ يَجُرُّه. قالوا: فما أوّلتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين) رواه البخاري. وجيءصلى الله عليه وسلم بقدحِ لبنٍ قال:(فشربتُ منه حتى رأيتُ الرِّيَّ يخرج من أظفاري ثم أعطيتُ فضلي عمر. قالوا: فما أوّلتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم) رواه البخاري. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون فإن يكن في هذه الأمة أحدٌ فعمر بن الخطاب) رواه البخاري. قال أبو الحجاج المزّي: "نزل القرآن بموافقته في أسرى بدر, وفي الحجاب, وفي تحريم الخمر, وفي مقام إبراهيم" تهذيب الكمال 21/324. وهو الذي نشر الله الإسلام على يديه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قائلاً: (فلم أرَ عبقريا يفري فَرِيَّه)! قال ابن عبد البَرّ: "فتح الله له الفتوح بالشام والعراق ومصر, ودوَّن الدواوين في العطاء, ورتَّب الناس فيه على سوابقهم, وكان لا يخاف في الله لومةَ لائم, وهو الذي نوَّر شهر الصوم بصلاة الأشفاع فيه, وأرّخ التاريخ من الهجرة التي بأيدي الناس إلى اليوم, وهو أول مَن سُمَّيَ أمير المؤمنين, وهو أول من اتخذ الدِّرَّة, وكان نقش خاتمه: (كفى بالموت واعظاً يا عمر!)" الاستيعاب لابن عبد البر 3/ 1145 – 1150.(/9)
[2] رواه البخاري في سبعة مواضع: الأوّل.في مطلع الصحيح. والثاني: في كتاب (الإيمان) باب ما جاء إنّ الأعمال بالنيّة والحسبة ولكل امرىء ما نوى. حديث 54. والثالث: في كتاب (العتق) باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه، ولا عتاقة إلا لوجه الله تعالى. حديث 2529. والرابع: في كتاب (مناقب الأنصار) باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة. حديث 3898. والخامس: في كتاب (النكاح) باب من هاجر أو عمل خيرا لتزويج امرأة فله ما نوى. حديث 5070. والسادس: في كتاب (الأيمان والنذور) باب النيّة في الأيمان. حديث 6689. والسابع: في كتاب (الحِيَل) باب في ترك الحِيَل وإنّ لكل امريء ما نوى في الأيمان وغيرها. حديث 6953. ورواه مسلم في كتاب الإمارة (باب قوله صلى الله عليه وسلم : (إنما الأعمال بالنيّة، وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال).شرح النووي 13/53-54. ورواه أبو داود في كتاب (الطلاق)باب (فيما عُني به الطلاق والنيّات). حديث 2201. ورواه الترمذي حديث 1647. ورواه النسائي 1/58و6/158و7/13. ورواه ابن ماجه في كتاب (الزهد) باب النيّة. حديث 4227.
[3] النجم 3-4.
[4] السنن الصغرى للبيهقي 1/20.
[5] ذكر ذلك كله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح.
[6] نيل الأوطار للشوكاني 1/165.
[7] وقد ردَّ السيوطي رحمه الله في (الأشباه والنظائر) و(منتهى الآمال في شرح حديث إنما الأعمال) على هذا الاحتمال الذي أوردَه ابنُ حجر، وذَكَرَ سبعين باباً يدخل فيها حديث الأعمال بالنيات في المسائل الفقهية المختلفة.
[8] المرجع السابق.
[9] صحيح ابن خزيمة 1/73، حديث 142.
[10] صحيح ابن خزيمة 1/114.
[11] صحيح ابن خزيمة 1/232، حديث 455.
[12] التمهيد لابن عبد البر 13/235.
[13] المدونة الكبرى 1/32. دار صادر، بيروت.
[14] الشورى 13.
[15]فتح الباري 1/ 17.
[16] البيِّنة 5.
[17] صحيح البخاري 1/129.
[18] صحيح البخاري 1/30، حديث 55.
[19] صحيح البخاري 1/30، حديث 56.
[20] راجع كتاب (نحن بين المظاهر والجواهر: قراءة معاصرة في فقه الإخلاص).
[21] جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 14.
[22] الفوائد لابن القيم ص 155-156.
[23] السياسة الشرعية 1/49.
[24] الفوائد لابن القيم ص 164. قال: وقد ذكرَ الله هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم.
[25] قال ابن القيم رحمه الله: " فلو كانت النفسُ شريفةً كبيرةً؛ لم تَرْضَ بالدُّونِ، فأصْلُ الخيرِ كلِّه بِتَوفيقِ الله ومَشيئته، وشَرفِ النفسِ ونُبلِها وكِبَرِها، وأصْلُ الشرِّ خِسَّتُها ودَناءتُها وصِغَرُها، قال تعالى (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها): أي أفلحَ مَن كَبَّرَها وكَثَّرَها ونَمَّاها بطاعةِ الله، وخاب مَن صَغَّرَها وحَقَّرَها بِمعاصي الله؛ فالنفوسُ الشريفةُ لا ترضَى من الأشياءِ إلا بأعْلاها وأفْضلِها وأحْمَدِها عاقبةً، والنفوسُ الدنيئةُ تَحُومُ حولَ الدناءاتِ، وتقعُ عليها كما يقعُ الذبابُ على الأقذارِ، فالنفسُ الشريفةُ العَلِيةُ لا ترضَى بالظُّلمِ ولا بالفواحِشِ ولا بالسرقةِ والخيانةِ؛ لأنها أكبرُ مِن ذلك وأجَلُّ".
[26] الجواب الكافي 1/80.
[27] فاطر 10.
[28] صحيح مسلم 2/703، وسنن الترمذي 5/220، وسنن البيهقي 3/346.
[29] صيد الخاطر لابن الجوزي ص12-13.
[30] صيد الخاطر ص36.
[31] الأنعام 125.
[32] الزمر 22.
[33] الأنعام 122.
[34] الفوائد لابن القيم ص36.
[35] الرسالة للقشيري ص207-210.
[36] نيل الأوطار 5/319.
[37] تفسير القرآن العظيم 1/329.
[38] محمد 30.
[39] زاد المسير 7/411.
[40] تفسير القرآن العظيم 4/181.
[41] جامع العلوم والحِكَم لابن رجب ص 78. جمعيّة إحياء التراث الإسلامي. ط1. 1419هـ.
[42] الأشباه والنظائر للسيوطي 1/8. دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1403 هـ.
[43] الجامع لأحكام القرآن 13/114.
[44] صحيح البخاري 1/37.
[45] الأعراف 58.
[46] الجامع لأحكام القرآن 6/327.
[47] رواه مسلم.
[48] جامع العلوم والحكم ص 14.
[49] جامع العلوم والحكم ص 14.
[50] رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في صحيحه 3/1057، حديث 2730.
[51] حديث 4227.
[52] جامع العلوم والحكم ص 289.
[53] في ظلال القرآن 28/3530.
[54] وما أحسنَ التعبير عن ذلك في حديث هرقل الطويل: (وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب)!
[55] في ظلال القرآن 9/1387.
[56] مدارج السالكين لابن القيم 1/129.
[57] المرجع السابق 1/130.
[58] سورة النمل 14.
[59] سورة البقرة 146.
[60] درء التعارض 9/34-35.
[61] سير أعلام النبلاء، للذهبي: 7/152.
[62] جامع العلوم والحكم ص 14.
[63] إغاثة اللهفان 1/347.
[64] بيان تلبيس الجهمية 1/456.
[65] الفوائد لابن القيم ص 194.
[66] الأنفال 70.
[67] الفتح 18-19.
[68] نيل الأوطار للشوكاني 2/110-111.
[69] جامع العلوم والحكم ص 14.
[70] تفسير القرآن العظيم 1/544.
[71] الأشباه والنظائر للسيوطي 1/8-9.(/10)
[72] الفوائد ص 141-143.
[73] أفراح الروح لسيد قطب ص 13-14.(/11)
نُخبٌ أشدُّ نكوصاً من إبليس!!
د. محمد بن سعود البشر 21/10/1426
23/11/2005
ما يشهده مسرح الأحداث في العالم الإسلامي اليوم هو مواجهة شاملة بين الأمة بعقيدتها وإيمانها، وبين الأجنبي المحتل بجنوده وفكره وثقافته.. هي امتداد للمسير المواجهي الطويل الذي بدأ في المدينة المنورة، وفصّلت مشاهده وحقائقه سورة (آل عمران).. نراه اليوم يتكرر، باختلاف في الوسائل والأدوات، وثبات في الأهداف والغايات.
هذه المواجهة (العامة) يبذل فيها الأجنبي كل جهد، ومكر، ومكيدة، ليُلبس الحق بالباطل، ويبث الشكوك في المعتقد والثوابت.
إذا اضطُر إلى السلم والمهادنة وجه النهار، فإنه يكفر بذلك آخره، وإذا اضطُر أن يلوي لسانه بما ظاهره الخير (للإنسان) فإنه يضمر الشر والضرر، والقوس الواحدة التي يرمي بها الأجنبي وأعوانه هدفها الإصابة المتفق عليها.
هذه سنة الله في الصراع بين الحق والباطل ليستفيد منها المسلمون دروساً تتجدّد صورها وتبقى أصولها.
ومن الدروس المؤلمة صور للنخب التي كانت أشدّ علينا في هذه المواجهة العامة من إبليس يوم بدر، يوم بدر أعلن إبليس إجارته للعدو ونصرته إياه، فما لبث أن نكص على عقبيه، فخذله، وتركه يلاقي مصيره وحده (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ...)[لأنفال: من الآية48].
أما النخب المهزومة في مواجهة اليوم فلم تكتف بالذل، والحياد المستلب للقيمة والهُوِيّة، وإنما استوت في صف العدو، واتخذته مؤيداً وظهيراً، وهُرِعت إليه زرافات ووحداناً، فهو نكوص وانحياز.. نكوص عن الأمة، وانحياز للعدو!!
كم هي المسافة شاسعة والمفارقة كبيرة بين هؤلاء وبين من قال الله تعالى عنهم:(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173].
صور تتجدّد، وأصول تبقى، ليعلم الله والمؤمنون: مَن يتبع الرسول مِمّن ينقلب على عقبيه!!(/1)
نِعم الدنيا والآخرة د. محمد عمر دولة*
لو فكَّرَ العبدُ وتدبَّرَ: أيُّ نِعَمِ الله عليه أعظمُ وأجلُّ؟
فاستعرَضَ نِعْمةَ المالِ الذي يعيشُ به، ونِعمةَ الزوجةِ التي ترعاه، ونِعمةَ الأبناء الذين يبرُّونه، وغير ذلك من النِّعَمِ الدنيوية التي يُمكِنُ أن يَستَعين بها في الطاعات؛ فتصير بالنيةِ الصالحةِ من العبادات، كما جاء في الحديث الشريف: (لا حَسَدَ إلا في اثنَتَيْن: رجلٌ آتاه الله القرآنَ؛ فهو يَتلُوه آناءَ الليلِ وآناءَ النهار، ورجلٌ آتاه الله مالا؛ فهو يُنفِقُه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ).[1]
ولكنه إذا تذكَّرَ نِعمةَ الهدايةِ إلى الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ؛ ونعمةَ العلمِ والمعرفةِ، وما يتعلقُ بها مِن عَوْنِ الله وتَيسِيرِه الأسبابَ مثل مَحبة الأخيار وصُحبة العلماء، وتذلِيلِه الصِّعاب النفسية والاجتماعية والاقتصادية؛ إذِ الفَقرُ مانِعٌ، والكَسَلُ قاطِعٌ؛ أيقنَ أنَّ النِّعَمَ الأُخْرَوِيةَ أعْظمُ النِّعَمِ وأفْضَلُها وأجْزَلُها، وما عَداها تابِعٌ لها ومُكَمِّلٌ! كما قال تبارك وتعالى: (ولا تشتروا بعهدِ اللهِ ثمناً قليلاً إنما عند الله هو خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون ما عِندَكم يَنْفَدُ وما عِندَ الله باقٍ ولَنَجْزِيَنَّ الذين صَبروا أجرَهم بأحْسَنِ ما كانوا يعملون).[2]
فكلُّ النعمِ من عند الله؛ وله الحمد في الأولى والآخرة؛ ولكنَّ النِّعمَ الأخروية أعظمُ وأجلُّ؛ لأنَّ فيها سعادةَ الدنيا والآخرة، قال ابن كثير رحمه الله: "قال القرطبي في تفسيره: وفي (نوادر الأصول) عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنَّ الدنيا بحذافيرها في يدِ رجلٍ من أمتي، ثم قال: الحمد لله؛ لكان الحمدُ لله أفضلَ من ذلك)، قال القرطبي وغيره: أي لكان إلهامُه (الحمد لله) أكثر نِعْمَةً عليه مِن نِعَمِ الدنيا؛ لأنَّ ثوابَ الحمدِ لا يفنَى، ونعيم الدنيا لا يبقى؛ قال الله تعالى: (المالُ والبنون زِينةُ الحياةِ الدنيا والباقياتُ الصالِحاتُ خيرٌ عند ربِّك ثَواباً وخيرٌ أمَلا)[3]".[4]
وقال ابنُ رجب رحمه الله: "روى ابن ماجه من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ...[5] وكتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: إني بأرض قد كثرت فيها النعم؛ حتى لقد أشفقتُ على أهلِها من ضعفِ الشكر! فكتب إليه عمر: إني قد كنتُ أراك أعلمَ بالله مما أنت! إن الله لم ينعم على عبدٍ نعمةً؛ فحمد الله عليها؛ إلا كان حمدُه أفضلَ من نِعمتِه؛ لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل قال الله تعالى (ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضَّلَنا على كثيرٍ مِن عبادِه المؤمنين)،[6] وقال تعالى: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها) إلى قوله (وقالوا الحمد لله الذي صَدَقَنا وَعْدَه).[7] وأيُّ نعمةٍ أفضل من دخولِ الجنة؟! وقد ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر عن بعض العلماء أنه صوب هذا القول أعني قول من قال: إن الحمد أفضلُ من النعمة، وعن ابن عيينة أنه خَطَّأ قائلَه؛ وقال: لا يكون فعلُ العبدِ أفضلَ مِن فِعلِ الربِّ عزَّ وجلَّ؛ ولكن الصواب قولُ مَن صَوَّبَه؛ فإنَّ المرادِ بالنعم النعم الدنيوية: كالعافيةِ والرزقِ والصحةِ ودفعِ المكروه ونحو ذلك، والحمد لله هو مِن النِّعَم الدِّينية، وكلاهما نعمة من الله؛ لكن نعمة الله على عبده بهدايته لشكرِ نِعَمِه بالحمد عليها أفضلُ من النعمةِ الدنيوية على عبدِه؛ فإن النعمَ الدنيوية إن لم يقترِنْ بها الشكرُ؛ كانت بَلِيَّةً، كما قال أبو حازم: كل نعمة لا تُقرِّبُ من الله فهي بَلِيَّةٌ، فإذا وَفَّقَ الله عَبدَه للشكرِ على نِعَمِه الدنيوية بالحمدِ أو غيرِه مِن أنواعِ الشُّكرِ؛ كانت هذه النعمة خيراً مِن تلك النِّعَمِ و أحَبَّ إلى الله عزَّ وجَلَّ؛ فإن الله يُحِبُّ المحامِدَ ويرضى عن عبدِه (أن يأكلَ الأَكْلةَ فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها).[8] والثناء بالنِّعمِ والحمدُ عليها وشكرُها عند أهلِ الجودِ والكرمِ أحَبُّ إليهم من أموالِهم؛ فهم يبذلونها طَلباً للثناءِ، والله عزَّ وجلَّ أكرمُ الأكرمِين وأجودُ الأجوَدِين فهو يبذُل نِعمَه لعبادِه ويطلبُ منهم الثناءَ بها وذكرَها منهم والحمد عليها؛ ويرضى منهم بذلك شكرا عليها، وإن كان ذلك كلُّه مِن فَضلِه عليهم محتاجاً إلى شُكرِهم؛ لكنه يحب ذلك مِن عبادِه حيث كان صلاحُ العبدِ وفلاحُه وكمالُه فيه. ومن فضلِه سبحانه أنه نسبَ الحمدَ والشكرَ إليهم، وإن كان مِن أعظم نِعَمِه عليهم؛ وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم مِن الأموال، واستقرض منهم بعضه، ومدحَهم بإعطائه؛ والكلُّ مِلْكُه ومن فضله!)".[9](/1)
والحقُّ أنَّ العبدَ يطلب النِّعَمَ الدِّينيةَ والدنيويةَ معاً، ويستعيذ بالله من شُرورِ الدنيا والآخرة، كما كان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يستعيذُ بالله مِن فتنة المحيا والممات ومن فتنة الغنى والفقر!
وقد أثنى الله عزَّ وجَلَّ على (من يقول ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذابَ النار أولئك لهم نَصيبٌ مما كَسبُوا والله سريعُ الحساب).[10] وقال نبيُّ الله يوسف عليه السلام: (ربِّ قد آتيتَنِي من الملكِ وعلَّمتَنِي مِن تأويلِ الأحاديثِ فاطرَ السموات والأرضِ أنت ولِيِّي في الدنيا والآخرةِ توفَّنِي مُسْلِماً وألْحِقْنِي بالصالحين).[11]
- - - -
[1] صحيح البخاري 1/39، وصحيح مسلم 1/558-559.
[2] النحل 95-96.
[3] الكهف 46.
[4] تفسير القرآن العظيم 1/24.
[5] قال: وروينا نحوه من حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد مرفوعا أيضا. وروي هذا عن الحسن البصري من قوله.
[6] النمل 15.
[7] الزمر 73-74.
[8] رواه مسلم.
[9] جامع العلوم والحكم ص244-245.
[10] البقرة 201-202.
[11] يوسف 101.(/2)
نِعمة الهداية والثبات
د. محمد عمر دولة*
يُكْثِرُ الصالِحُون مِن الدُّعاءِ المأثور الذي وَرَدَ ذِكْرُه في القرآن: (ربَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بعد إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لنا مِن لَدُنْك رَحْمَةً إنك أنتَ الوَهَّاب).
وما ذاك إلا لِعِلْمِهم بشِدةِ حاجَتِهم إلى هِدايةِ قُلُوبِهم وتَثْبِيتِها على الإيمان، قال الطبري رحمه الله: "(لا تُزِغْ قُلُوبَنا) لا تُمِلْها فتصرفها عن هُداك (بعد إذْ هَدَيْتَنا) له؛ فوَفَّقتَنا للإيمانِ بِمُحْكَمِ كتابِك ومُتشابِهِه، (وَهَبْ لنا) يا ربَّنا (مِن لَدُنْك رحمةً)... يعني بذلك: هَبْ لنا مِن عِندِك توفيقاً... (إنك أنتَ الوهاب) يعني: إنك أنت المعطي عبادَك التوفيقَ والسداد للثباتِ على دينِك وتصديقِ كتابِك ورُسُلِك".[1]
ومِن أجلِ تحصيلِ هذه النعمةِ الجليلةِ وإدراكِ عَظمَتِها؛ شَرَعَ الرحمنُ لِعِبادِه أن يَسْألُوا الله الهدايةَ في كلِّ صَلاة.. وفي كلِّ ركعةٍ.. مِن لَيلٍ أو نَهار! فما وَقَفَ العَبدُ بين يَدَيْ ربِّه خاشِعاً خاضِعاً إلا توجَّهَ إلى ربِّه داعياً بقلبِه ولسانه: (اهدنا الصراطَ المستقيم). قال ابنُ القيم رحمه الله: "يَتضَمَّنُ طلبَ الهدايةِ ممن هو قادِرٌ عليها وهي بيده؛ إن شاء أعْطاها عبدَه، وإنْ شاء مَنعَهَ إياها. والهدايةُ مَعرِفةُ الحقِّ والعَمَلُ به؛ فمَن لم يَجْعَلْه اللهُ تعالى عالِماً بالحقِّ عامِلاً به؛ لم يكنْ له سَبِيلٌ إلى الاهتِداء؛ فهو سُبحانه المُنْفَرِدُ بالهدايةِ الموجِبةِ للاهتداء التي لا يتخلَّفُ عنها، وهي جَعْلُ العَبدِ مُريداً لِلهُدَى مُحِباً له مُؤثِراً له عامِلاً به. فهذه الهدايةُ ليسَتْ إلى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ ولا نبيٍّ مُرْسَلٍ، وهي التي قال سبحانه فيها: (إنك لا تهدي مَن أحببتَ ولكنَّ اللهَ يهدي من يشاء)، مع قولِه تعالى: (وإنك لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُستقيم). فهذه هِدايةُ الدعوةِ والتعليمِ والإرْشادِ. وهي التي هَدَى بها ثمودَ فاستحبُّوا العَمَى عليها، وهي التي قال الله تعالى فيها: (وما كان اللهُ ليضلَّ قوماً بعد إذْ هداهم حتى يُبَيِّنَ لهم ما يتقون)؛ فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حُجَّتُه عليهم، ومَنعَهم الهدايةَ الموجِبةَ للاهتداء التي لا يضلُّ من هداه اللهُ بها؛ فذلك عدلُه فيهم، وهذه حِكمتُه فأعطاهم ما تقوم به الحجةُ عليهم، ومنعَهم ما ليسوا له بأهلٍ ولا يليق بهم".[2]
فالقرآنُ يُقرِّرُ إذن حقيقةَ أنَّ أصلَ الهداية، وهي هدايةُ التوفيقِ ليست لأحدٍ إلا لله ربِّ العالِمِين، فالأنبياءُ يَهْدُون الناسَ هِدايةَ البيان؛ وأما هِدايةُ التوفِيقِ فلِلَّهِ وَحْدَه تبارك وتعالى، وقد قال الله عزَّ وجَلَّ: (إنك لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولكنَّ الله يَهْدِي مَن يشاء).
وقد عَبَّرَ الله جَلَّ جَلالُه عن فِقْدانِ الهدايةِ بالعَمَى والصَّمَم؛ لعَدمِ الفائدةِ وانتفاءِ الإجابة، فقال عزَّ وجَلَّ: (إنك لا تُسْمِعُ الموتَى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا ولَّوا مُدْبِرِين وما أنتَ بِهادي العُمْيِ عن ضَلالَتِهم إن تُسْمِع إلا مَن يؤمِنُ بآياتِنا فهم مُسلِمُون). وقال سبحانه: (أفأنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أو تَهْدِي العُمْيَ ومَن كان في ضَلالٍ مُبِين). وقال تبارك وتعالى: (ومِنهم مَن يَستمِعُون إليك أفأنتَ تُسمِعُ الصُّمَّ ولو كانوا لا يَعْقِلُون)؟! قال الطبري رحمه الله: "هذا إعْلامٌ مِن الله عِبادَه أنَّ التوفِيقَ للإيمانِ به بيدِه، لا إلى أحدٍ سِواه".
فالمحرومُ من الهداية؛ قد أعْرَضَ عنها وامتنعَ عن إجابةِ دَاعِيها، واستَحَبَّ العَمَى على الهدى؛ فلِذلك استحَقَّ الطَّرْدَ مِن رحمةِ الله، كما قال تعالى: (أولئك الذين لَعَنَهم الله فأصَمَّهم وأعْمَى أبصارَهم). وذلك هو الخسرانُ المبِينُ، كما قال جلَّ جَلالُه: (أولئك الذين اشتَرَوْا الضَّلالةَ بالهدى فما رَبِحَتْ تِجارَتُهم وما كانوا مُهتَدِين).
وقد جاء صريحُ القرآنِ مُقَرِّراً أنه (مَن يَهْدِ الله فهو المهتَد)، أي: "مَن يُوفِّقُه الله للاهتداء بآياته وحُجَجِه إلى الحقِّ التي جعلها أدلة عليه... فهو الذي قد أصابَ سَبيلَ الحقِّ... ومَن أضَلَّه الله عن آياتِه وأدلتِه فلم يُوَفِّقْه للاستدلالِ بها على سبيلِ الرشادِ؛ (فلن تجدَ له وَلِياًّ مُرشِدا)... خليلا وحَلِيفاً يُرْشِدُه لإصابَتِها؛ لأنَّ التوفِيقَ والخذلانَ بِيَدِ الله يُوَفِّقُ مَن يشاء مِن عِبادِه ويَخذلُ مَن أراد".[3](/1)
فالهدايةُ مِن رحمةِ الله بالصالِحِين، والخذلانُ مِن عَدْلِ الله بالظالِمِين الذين استَحَبُّوا العَمَى على الهدى، كما قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرِ قولِ الله تعالى: (وماذا عليهم لو آمَنُوا بالله واليومِ الآخِرِ وأنفَقُوا مما رَزَقَهم الله وكان الله بهم عَلِيما): "أي: وهو عَلِيمٌ بِنِياتِهم الصالحةِ والفاسِدةِ، وعَلِيمٌ بمن يَستَحِقُّ التوفِيقَ منهم؛ فيُوَفِّقُه ويُلْهِمُه رُشْدَه ويُقَيِّضُه لِعَملٍ صالِحٍ يَرضَى به عنه؛ وبِمَن يستحقُّ الخذلانَ والطَّردَ عن جَنابِه الأعْظمِ الإلهي الذي مَن طُرِدَ عن بابِه؛ فقد خابَ وخَسِرَ في الدنيا والآخِرةِ عِياذاً بالله من ذلك".[4]
وإننا لنذكر قصة أبي طالب، فنتعجب من عدم إيمانه؛ مع نصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكننا حينما نُحاكِم عَواطفَنا بميزانِ الشرع، ونتأملُ هذه المحبة؛ نجدُها مَحبةً ناقِصةً؛ لأنها تفتقِرُ إلى الموافَقَةِ والإجابةِ وصِدقِ المتابعة! فشتان بين حبِّ أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم وحب الصحابة الكرامِ رضي الله عنه.
ولو تدبَّرنا سِرَّ نُصرةِ أبي طالب للرسول صلى الله عليه وسلم لألفيناها عَصَبيةً وحَمِيةً ودِفاعاً عن ابنِ أخيه؛ وليست نُصرةً مؤسسةً على اعتقادٍ في الدِّين ولا اقتِناعٍ بفكرةٍ ولا اعتِناقٍ لقضيةٍ! ولذلك فقد قدَّمَ دينَ أجداده وعقيدتَه وفكرَه على دِين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وفِكرِه وعقيدتِه! فما كان يدافع عن نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم باعتبارِه صاحِبَ رسالةٍ؛ ولكنه كان يدافع عن ابن أخيه فحسب؛ ولو كانت نُصْرَةً صادقةً رشيدةً واعيةً؛ لكان أولَ من يتبعه على ما يقول ولكان مثل حمزة والعباس وعلي رضي الله عنهم! ولذلك حينما قال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أغنيتَ عن عمِّك؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: هو في ضَحْضاحٍ من نارٍ؛ ولولا أنا لكان في الدركِ الأسفلِ من النار)! [5]
ورحم الله ابن حبان فقد أشار إلى هذه المعاني المهمة في التفرقة بين هداية البيان وهداية التوفيق، حين ترجم لقصة امتناعِ أبي طالب عن إجابة النبي صلى الله عليه وسلم بـ(ذكر ما يجب على المرءِ مِن الاقتصارِ على حَمدِ الله جلَّ وعَلا بما مَنَّ عليه من الهداية، وترك التكلفِ في سؤال تلك الحالةِ لِمَن خُذِلَ وحُرِمَ التوفيق والرشاد)، وروى عن سعيد بن المسيب قال: (لما حضر أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عم قل (لا إله إلا الله)؛ أشهد لك بها عند الله، قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملةِ عبد المطلب؟ قال: فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويُعِيد له تلك المقالةَ؛ حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم هو على ملةِ عبد المطلب، وأبى أن يقول (لا إله إلا الله)؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأستغفرنَّ لك ما لم أُنْهَ عنك! فأنزل الله (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم)، وأنزلت في أبي طالب (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين)".
------------
[1] جامع البيان 3/187.
[2] شفاء العليل ص52-53. نقلا عن بدائع التفسير 1/108 جمع يسري السيد.
[3] جامع البيان للطبري 15/213.
[4] تفسير القرآن العظيم 1/498.
[5] رواه البخاري 3/1408، ومسلم 1/194-195.(/2)
نِعمَ المالُ الصالحُ للعبدِ الصالح
د. محمد عمر دولة*
لقد طَبَعَ الله عزَّ وجلَّ الإنسانَ على حُبِّ المالِ، وجَعلَه من زينةِ الدنيا، كما قال عزَّ وجَلَّ: (المالُ والبَنُون زِينةُ الحياةِ الدنيا)،[1] وقال تعالى مُبيِّناً حِرْصَ الإنسانِ على المالِ: (إنَّ الإنسانَ لربِّه لكنودٌ وإنه على ذلك لشهيدٌ وإنه لِحُبِّ الخيرِ لَشَدِيدٌ).[2] وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (قَلبُ ابنِ آدم شابٌّ على حُبِّ اثنَتَيْن: طُولُ العُمرِ والمال).[3]
وللهِ ما أحسنَ تعبيرَ النبي صلى الله عليه وسلم عن ارتِباطِ صَلاحِ المالِ بِصَلاحِ العَبدِ، كما رواه عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (يا عمرو! نِعْمَ المالُ الصالِحُ مع الرجل الصالِحِ).[4]
فلا تعارُضَ بين صلاحِ العبدِ وتقواه وبين غِناه عن الناسِ؛ إذْ لا يلزَمُ أن يكونَ العابدُ التقيُّ فقيراً مُحتاجاً إلى غيرِه؛ فقد كان عثمانُ وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما مِن أغْنَى الصحابةِ ومِن المبشَّرِين بالجنة! ورَحِمَ الله القرطبي حيث قال: "لا يُنكَرُ أن يكونَ لِلوليِّ مالٌ وضَيعةٌ يَصُونُ بها مالَه وعِيالَه؛ وحَسبُك بالصحابة وأموالِهم مع ولايتِهم وفَضلِهم وهم الحجةُ على غيرِهم، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجلٌ بِفَلاةٍ مِن الأرضِ فسمعَ صَوتاً في سَحابةٍ: اسْقِ حديقةَ فلانٍ! فتنحَّى ذلك السحابُ، فأفرغَ ماءه في حَرة؛ فإذا شَرْجةٌ[5] مِن تلك الشِّراج قد استوعبَتْ ذلك الماءَ كلَّه، فتتبع الماءَ فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقتِه يُحَوِّلُ الماءَ بِمِسْحاتِه، فقال: يا عبدَ الله ما اسْمُك؟ قال: فلان: الاسم الذي سمعه في السحابة، فقال له: يا عبدَ الله لم سألتَنِي عن اسمي؟ قال: إني سمعتُ صوتاً في السحابِ الذي هذا ماؤه يقول: اسْقِ حديقةَ فلان: لاسمك فما تصنع فيها؟ قال: أما إذْ قلتَ هذا؛ فإني أنظرُ إلى ما يَخرُجُ منها فأتصدَّقُ بِثُلُثِه وآكلُ أنا وعِيالي ثلثه وأردُّ فيها ثلثه وفي رواية وأجعل ثلثه في المساكين وابن السبيل)".[6]
وما أحْسَنَ المالَ الصالِحَ.. الذي يتصدقُ منه صاحبُه على المحتاجين ويرحم به الفقراء، وينفّسُ به كُرباتِ المساكين؛ ولقد أدركَ الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنَى؛ فقال فُقَراؤهم: (فازَ أهلُ الدُّثُورِ بالأُجُور)![7] لأنهم استعانوا بِمالِهم على زيادةِ طاعاتِهم!
فلا خيرَ في الفَقرِ المدقِع؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله مِن فِتنةِ الغِنَى والفقرِ، وصَدقَ يحيى بن أكثم حيث قال:
إذا قلَّ مالُ المرءِ قلَّ بَهاؤه *** وضاقتْ عليه أرضُه وسَماؤه
وأصبحَ لا يدري وإنْ كان حازماً *** أقدامه خيرٌ له أم وراؤه؟
ولم يمضِ في وجهٍ من الأرضِ واسعٍ * من الناس إلا ضاق عنه فضاؤه!(/1)
وقد ردَّ العلماء على من ذهبَ إلى التقلُّلِ من المالِ وإن أعانَ على الطاعاتِ، فقال القرطبي رحمه الله: "قال أبو حامد:[8] فمَن راقبَ أحوالَ الأنبياءِ والأولياءِ وأقوالَهم لم يَشُكَّ في أنَّ فَقْدَ المالِ أفضلُ مِن وُجُودِه، وإن صُرِفَ إلى الخيرات؛ إذ أقلُّ ما فيه اشتغالُ الهمةِ بإصلاحِه عن ذِكرِ الله؛ فينبغي للمُريدِ أن يخرجَ عن مالِه حتى لا يبقَى له إلا قَدرُ ضَرُورتِه؛ فما بقي له درهم يلتفت إليه قلبه فهو محجوبٌ عن الله تعالى. قال ابنُ الجوزي: وهذا كلُّه خِلافُ الشرعِ والعقلِ وسوءُ فهمِ المراد بالمالِ وقد شرَّفَه الله وعظَّمَ قدرَه وأمرَ بِحفظِه إذ جعلَه قواماً للآدمي؛ وما جُعلَ قواماً للآدمِي الشريفِ فهو شريفٌ، فقال تعالى: (ولا تؤتوا السُّفَهاءَ أموالَكم التي جَعلَ الله لكم قياماً)،[9] ونهى جلَّ وعزَّ أن يسلم المال رشيد فقال (فإنْ آنَسْتُم منهم رُشْداً فادفَعُوا إليهم أموالَهم)،[10] ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعةِ المالِ قال لسعد: إنك أن تذر ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذرَهم عالةً يتكفَّفُون الناسَ... وقال لعمرو بن العاص: (نِعْمَ المالُ الصالِحُ للرجلِ الصالح)، ودعا لأنس وكان في آخر دعائه: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه، وقال كعب: يا رسول الله إنَّ مِن توبتِي أنْ أنخلِعَ من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال: أمسك عليك بعض مالك فهو خيرٌ لك. قال ابن الجوزي: هذه الأحاديث مُخرَّجةٌ في الصحاحِ، وهي على خلاف ما تعتقده المتصوفة من أنَّ إكثارَ المالِ حِجابٌ وعقوبةٌ، وأنَّ حبسَه يُنافي التوكُّلَ، ولا يُنكَر أنه يخاف مِن فِتنتِه وأنَّ خلقاً كثيرا اجتنبوه لخوف ذلك... فأما كَسْبُ المالِ فإنَّ مَن اقتصرَ على كَسْبِ البُلْغَةِ مِن حِلِّها؛ فذلك أمرٌ لابد منه، وأما مَن قَصَدَ جمعَه والاستكثارَ منه من الحلال نُظِرَ في مَقصُودِه؛ فإنْ قَصَدَ نفسَ المفاخرة والمباهاة؛ فبئس المقصود، وإنْ قَصَدَ إعفافَ نفسِه وعائلتِه وادَّخَرَ لحوادثِ زمانِه وزمانِهم وقصدَ التوسعةَ على الإخوانِ وإغناءَ الفقراء وفِعلَ المصالح؛ أُثِيبَ على قَصدِه، وكان جَمْعُه بهذه النيةِ أفضلَ مِن كثيرٍ مِن الطاعات. وقد كانت نِياتُ خَلْقٍ كثيرٍ من الصحابةِ في جمعِ المالِ سليمةً لِحُسنِ مَقاصِدِهم بِجَمعِه؛ فحَرِصُوا عليه وسألوا زيادته".[11]
ولكنْ لا بُدَّ مِن الحذرِ مِن فِتنةِ المال؛ فقد يكون نِقمةً وبَلاءً على العَبدِ يَشغَلُه عن العِبادةِ ويَصُدُّه عن الواجِبات، ويدفَعُه إلى الغُرورِ والخيلاء، فيصير المالُ عذاباً لصاحبِه كما قال تعالى: (فلا تُعجِبْك أموالُهم ولا أولادُهم إنما يريد الله لِيُعَذِّبَهم بها في الحياة الدنيا وتزهَقَ أنفسُهم وهم كافِرُون).[12] وفي مثلِ هذا أنشدَ أبو الدرداء رضي الله عنه:
يريدُ المرءُ أن يؤتَى مُناهُ *** ويأبَى اللهُ إلا ما أرادا
يقولُ المرءُ فائدتي ومالي*** وتقوى اللهِ أفضلُ ما استفادا"[13]
فالمالُ يُحْمَدُ ويُذَمُّ بِحَسبِ الغرضِ من جمعِه؛ قال ابن كثير رحمه الله: "حُبُّ المالِ تارةً يكونُ لِلفَخْرِ والخيلاءِ والتكبُّرِ على الضعفاءِ والتجبُّرِ على الفقراء؛ فهذا مذمومٌ، وتارة يكون للنفقةِ في القُرُباتِ وصِلةِ الأرحامِ والقَراباتِ ووُجوهِ البِرِّ والطاعاتِ؛ فهذا مَمْدُوحٌ مَحمودٌ شرعا".[14] وقال ابنُ تيمية رحمه الله: "المالُ لا يُحمَدُ مطلقاً ولا يُذَمُّ مُطلقاً، بل يُحمَد منه ما أعان على طاعةِ الله، وقد يكون ذلك واجباً؛ وهو ما لابد منه في فعلِ الواجبات، وقد يكون مستحباًّ؛ وإنما يُحمَد إذا كان بهذه النية، ويُذَمُّ ما استعين به على مَعصيةِ الله أو صد عن الواجبات فهذا مُحرَّمٌ".[15]
ورَحِمَ الله ابنَ حجر، فقد قرَّرَ في حديثِ استعاذةِ النبي صلى الله عليه وسلم من (شَر فِتنةِ الغِنَى وشَر فِتنةِ الفَقر) أنَّ "التقييدَ في الغِنَى والفقرِ بالشرِّ لا بد منه؛ لأنَّ كلا منهما فيه خيرٌ باعتبارٍ؛ فالتقييدُ في الاستعاذةِ منه بالشرِّ يخرج ما فيه من الخير سواء قلَّ أم كثر، قال الغزالي: فتنةُ الغِنَى: الحرصُ على جمعِ المالِ وحبه حتى يكسبه بغيرِ حِلِّه، ويمنعه من واجباتِ إنفاقه وحقوقه، وفتنة الفقر يراد به الفقر المدقع الذي لا يصحبه خيرٌ ولا وَرَعٌ حتى يتورط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الدين والمروءة ولا يبالي بسبب فاقَتِه على أيِّ حرامٍ وَثَبَ ولا في أيِّ حالة تورَّطَ، وقيل: المرادُ به فقرُ النفسِ الذي لا يَرُدُّه مُلْكُ الدنيا بِحَذافِيرِها".[16](/2)
ولا ريبَ أنَّ حالَ السلفِ الصالحِ يَشهَدُ لهذا الفِقهِ في جَمعِ المالِ، كما قال القرطبي رَحِمَه الله: قال ابنُ الجوزي: "كان سعيدُ بن المسيب يقول: لا خيرَ فيمن لا يطلب المالَ يَقضِي به دَينَه ويَصُون به عِرضَه؛ فإنْ مات تَرَكَه مِيراثاً لِمَن بَعدَه! وخلَّفَ ابنُ المسيب أربعمائة دينار، وخلَّفَ سفيانُ الثوري مائتين، وكان يقول: المال في هذا الزمان سلاحٌ، ومازال السلفُ يَمدَحُون المالَ ويجمعونَه للنوائبِ وإعانةِ الفقراء؛ وإنَّما تحامَاه قومٌ منهم إيثاراً للتشاغُلِ بالعباداتِ وجمعِ الهمِّ؛ فقنعوا باليسير".[17] قال القرطبي رحمه الله: ومِما يَدُلُّ على حِفظِ الأموالِ ومُراعاتِها: إباحةُ القتالِ دونَها وعليها، قال صلى الله عليه وسلم : (مَن قُتلَ دون مالِه فهو شَهِيد)".[18]
وقال ابنُ حَجَر رحمه الله: "مَن لا شيء له فالأوْلَى في حَقِّهِ أنْ يتكسَّبَ لِلصَّونِ عن ذُلِّ السؤالِ... صَحَّ عن أحمد مع ما اشتهرَ من زُهدِه ووَرَعِه أنه قال لمن سأله عن ذلك: الْزَم السوق، وقال لآخر: استَغْنِ عن الناس؛ فلم أرَ مثلَ الغِنَى عنهم، وقال: ينبغي للناسِ كلِّهم أن يتوكلُوا على الله وأن يُعَوِّدُوا أنفسَهم التكسُّب. ومن قال بتركِ التكسُّبِ فهو أحمق؛ يريد تعطيلَ الدنيا! نقلَه عنه أبو بكر المروزي، وقال: أُجرةُ التعليمِ والتعلُّمِ أحَبُّ إلَيَّ مِن الجلوسِ لانتظارِ ما في أيدي الناسِ، وقال أيضاً: من جلسَ ولم يحترفْ؛ دَعَتْه نفسُه إلى ما في أيدي الناس. وأسند عن عمر كسب فيه بعض الشيء خير من الحاجة إلى الناس، وأسند عن سعيد بن المسيب أنه قال عند موته وترك مالا: اللهم إنك تعلمُ أني لم أجْمَعْه إلا لأصُونَ به دِينِي. وعن سفيان الثوري وأبي سليمان الداراني ونحوهما من السلف نحوه، بل نقله البربهاري عن الصحابة والتابعين، وأنه لا يُحفَظُ عن أحدٍ منهم أنه ترك تعاطِيَ الرزقِ مُقتصِراً على ما يفتحُ عليه".[19]
فالحاصِلُ أنَّ المالَ نعمةٌ من نعمِ الله على عبادِه؛ فجَمْعُه مَحمُودٌ إذا كان بنيةٍ صالحةٍ؛ وإنما يُذَمُّ المالُ إذا كان المرءُ عَبدًا له، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تَعِسَ عبدُ الدينار وعبدُ الدِّرهَمِ وعبدُ القطِيفة وعَبدُ الخميصة؛ إن أُعْطِيَ رضي، وإن مُنِعَ سخط).[20] وروى أبو هريرة رضي الله عنه كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمةٌ لأخيه: من عِرضِه أو من شيءٍ؛ فلْيتحَلَّلْه منه اليومَ قبل أن لا يكونَ دينارٌ ولا دِرهم؛ إنْ كان له عملٌ صالحٌ أُخِذَ منه بقدرِ مَظْلَمَتِه، وإنْ لم يكنْ له حسناتٌ أُخِذَ من سيِّئاتِ صاحبِه؛ فحُمِلَ عليه)![21] وروى أبو أُمامة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَن اقتطعَ حقَّ امرىءٍ مسلمٍ بيمينِه؛ فقد أوجَبَ اللهُ له النار، وحرَّمَ عليه الجنة، فقال رجلٌ: وإنْ كان شيئاً يسيراً يا رسولَ الله؟ فقال: وإنْ قَضِيباً من أراكٍ) [22]
--------
[1] الكهف 46.
[2] العاديات 6-8.
[3] صحيح ابن حبان 8/13، في باب (ذكر البيان بأن حب المرء المال والعمر مركب في البشر عصمنا الله من حبهما إلا لما يقربنا إليه منهما)، حديث 3219.
[4] صحيح ابن حبان 8/6، حديث3210. باب (ذكر الإباحة للرجلِ الذي يَجمعُ المالَ من حِلِّه إذا قام بِحُقوقِه فيه).
[5] الشَّرْجة: مسيل الماء.
[6] الجامع لأحكام القرآن 11/32.
[7] صحيح البخاري 1/289، حديث 807، وصحيح مسلم 1/417، حديث 595.
[8] هو الغزالي رحمه الله.
[9] النساء 5.
[10] النساء 6.
[11] الجامع لأحكام القرآن 3/418-419.
[12] التوبة 55.
[13] تفسير القرآن العظيم 1/58-59.
[14] تفسير القرآن العظيم 1/352.
[15] كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية 20/144-145.
[16] فتح الباري 11/177.
[17] الجامع لأحكام القرآن 3/420.
[18] المرجع السابق.
[19] فتح الباري 11/276-277.
[20] صحيح ابن حبان 8/12، حديث 3218. باب (ذكر الزجر عن أن يكون المرء عبد الدينار والدرهم)
[21] رواه البخاري.
[22] رواه مسلم.(/3)
نِعْمة الذرية الصالحة
د. محمد عمر دولة*
لو سَألْنا عن الذُّرِّيَّةِ.. رَجُلاً رَزَقَه الله أولاداً، وسَألْنا آخرَ عَقِيماً.. لقال كلاهما: إنَّ الأبناءَ رَيْحانةُ القَلبِ وجَمالُ الكَونِ وزينةُ الحياةِ وعنوانُ السعادة والهناء
فالولَدُ الصالِحُ مِنَّةٌ عظيمةٌ ونِعْمةٌ جَسِيمةٌ، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابنُ آدم انقَطعَ عَمَلُه إلا مِن ثلاثٍ: صَدقةٍ جارية، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالِحٍ يدعو له).[1] فأبناؤنا زادُنا الذي لا يفنَى، وكَنْزُنا الذي يبقَى بعد مَوتِنا؛ ولله دَرُّ من قال:
والمرءُ يُحْيِي مَجْدَه أبناؤه ** ويَمُوت آخَرُ وهو في الأحياء [2]
وتأمَّلْ مَحاسِنَ البيانِ ومَكامِنَ الجمالِ في قولِ الله تعالى: (المالُ والبَنُون زِينةُ الحياةِ الدُّنيا).[3] قال القرطبي رحمه الله: "وإنَّما كان المالُ والبنون زينةَ الحياة الدنيا؛ لأنَّ في المالِ جَمالا ونَفعاً، وفي البَنِين قُوةً ودَفعاً؛ فصارا زِينةَ الحياة الدنيا".[4]
وقد كان الولدُ دعوةَ إبراهيم عليه السلام حين قال: (رَبِّ هَبْ لي مِن الصالِحِين)؛ قال تعالى: (فبَشَّرْناه بِغُلامٍ حَلِيم).[5] ودعوةَ زكريا عليه السلام (إذْ نادى ربَّه نِداءً خَفيّاً قال ربِّ إني وَهَنَ العَظمُ منِّي واشتَعلَ الرأسُ شَيْباً ولم أكن بدعائك ربِّ شَقِياً وإنِّي خِفتُ الموالِيَ مِن ورائي وكانت امرأتي عاقِراً فهَبْ لي مِن لَدُنْك وَلِيّاً يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يعقوبَ واجعَلْه ربِّ رَضِياً".[6]
وكانت الذُّرِّيةُ الطيِّبةُ بُشرَى للصالِحِين مِن عِبادِ الله، كما قال عزَّ وجلَّ عن إبراهيم عليه السلام: (وبشَّرْناه بإسحاقَ نبياً مِن الصالحين وبارَكْنا عليه وعلى إسحاق ومِن ذُرِّيتِهما مُحْسِنٌ وظالِمٌ لِنفسِه مُبِين).[7] وقال عن زكريا عليه السلام: (فنادته الملائكةُ وهو قائمٌ يُصلِّي في المحرابِ أنَّ الله يُبَشِّرُك بيحيى مُصَدِّقاً بكلمةٍ من الله وسَيِّداً وحَصُوراً ونبياً من الصالحين).[8] وقال عن مريم عليها السلام: (إذ قالت الملائكة يا مَريَمُ إنَّ الله يُبَشِّرُكِ بكلمةٍ منه اسمه المسيحُ عيسى بنُ مريم وَجِيهاً في الدنيا والآخرةِ ومِن المقَرَّبِين).[9]
فالأبناءُ نِعْمةٌ بالغةٌ ومِنَّةٌ سابغةٌ لِمَن وَفَّقَه الله إلى التربية الصالحة، كما قيل:
وإنَّ مَن أدَّبْتَه في الصِّبا ** كالعُودِ يَقِي الماءَ في غَرْسِه
حتى تراه مُورِقًا ناضِراً ** بعد الذي أبصَرْتَ من يُبْسِه[10]
ولله درُّ مَن قال:
حَرِّضْ بَنِيك على الآدابِ في الصِّغَرِ كيما تَقَرَّ بهم عَيناك في الكِبَرِ
وإنما مَثَلُ الآدابِ تَجمَعُها ** في عُنفُوانِ الصِّبا كالنَّقشِ في الحجر
ولكنَّ الأولادَ فِتنةٌ لِمَن لم يَتَّقِ الله فيهم؛ فأهْمَلَ تَربِيتَهم ولم يُعَلِّمْهم مَكارِمَ الأخلاق، أو انشَغلَ بهم عن واجِباتِه الشرعية، كما قال تعالى: (واعْلَمُوا أنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتْنةٌ)، قال ابنُ الجوزي رحمه الله: "أي بَلاءٌ وشُغلٌ عن الآخرة؛ فالمالُ والأولادُ يُوقِعان في العَظائم إلا مَن عَصمَه الله... وقال الفراء: قال أهل المعاني: إنما دخل (مِن) في قولِه تعالى: (إنَّ مِن أزواجِكم)؛ لأنه ليس كلُّ الأزواجِ والأولادِ أعداءً، ولم يذكر (مِن) في قولِه تعالى: (إنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتْنة)؛ لأنها لا تخلو مِن الفِتنةِ واشتِغالِ القلبِ بها".[11] وقد قال بعضُ الظرفاء:
قالوا تزوَّجْ فلا دنيا بلا امرأةٍ ** وراقِب الله واقرأْ آيَ ياسينا
لما تزوجتُ طابَ العيشُ لي وحَلا ** وصِرتُ بعد وُجودِ الخيرِ مِسكينا
جاء البنون وجاء الهم يتبعهم ** ثم التفتُّ فلا دنيا ولا دينا
هذا الزمان الذي قال الرسول لنا خفوا الرحال فقد فاز المخِفُّونا [12]
وقال ابن كثير رحمه الله: "وقوله (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)[13] كقوله: (زُيِّنَ لِلناسِ حُبُّ الشهواتِ من النساءِ والبنين والقناطيرِ المقنطَرةِ من الذهبِ) الآية،[14] وقال تعالى: (إنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتنةٌ والله عنده أجر عظيم): أي الإقبالُ عليه والتفرُّغُ لِعبادتِه خيرٌ لكم مِن اشتِغالِكم بهم والجمعِ لهم والشفقةِ المفرِطةِ عليهم؛ ولهذا قال: (والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عند ربِّك ثواباً وخيرٌ أملا)".[15]
وفي التنزيلِ آياتٌ من رحمةِ الآباءِ بالأبناءِ ووَصاياهم ومَواعِظِهم، كما قال عزَّ وجَلَّ: (ونادى نوحٌ ابنَه وكان في مَعزَلٍ يا بُنَي ارْكَبْ مَعَنا ولا تَكُنْ مع الكافِرين)،[16] (وإذْ قال لُقمانُ لابنِه وهو يَعِظُه يا بُنَيَّ لا تُشرِكْ بالله إنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيم).[17]
وأما مَن قصَّرَ في تربيةِ أبنائه؛ فإنَّ الله عزَّ وجَلَّ يُعاقِبُه بأن يُذِيقَه ثَمرةَ إهمالِه عُقوقَ وَلَدِه، حتى يشتكي ويقول:
فيا عجباً لِمَن رَبَّيْتُ طِفْلا ** ألَقِّمُه بأطْرافِ البَنانِ(/1)
أُعَلِّمُه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ ** فلما اشتَدَّ ساعِدُه رَماني
أُعَلِّمُه الفُتُوَّةَ كلَّ وقتٍ ** فلما طر شارِبُه جَفانِي
وكم علَّمْتُه نَظمَ القوافي ** فلما قال قافيةً هَجاني [18]
وهذا التقصِيرُ في التربيةِ هو الذي حَملَ بعضَ المتشائِمِين على كراهةِ النسلِ، حتى قال ابنُ سِنان الخفاجي:
ضَلَّ الذين رأوا في النَّسْلِ فائدةً ** ولو أصابُوا لما ربُّوا ولا حَضَنُوا
وقال المتنبي:
هل الولدُ المحبوب إلا تِعِلَّة ** وهل خلوةُ الحسناء إلا أذى البَعلِ
وما الدهر أهلٌ أن يؤمَّلَ عندَه ** حياةٌ وأن يُشتاقَ فيه إلى النَّسلِ
وقال أبو العلاء المعري:
أرى ولدَ الفتى كلاًّ عليه ** لقد سعد الذي أمسى عقيماً
أما شاهدتَ كلَّ أبي وَلِيدٍ ** يؤمُّ طريقَ حَتفٍ مُستقيماً
فإمَّا أنْ يُربِّيَه عَدُواً ** وإما أنْ يُخَلِّفَه يتيماًًًً
وإنَّ ما نَراه في هذه الأيامِ.. مِن تَضْيِيعِ أمانةِ الأبناءِ والبناتِ، وإهْمالِ رِعايَتِهم وعَدَمِ العِنايةِ بهم؛ لا يَجعلُنا نَزهَدُ في الذُّريةِ، بل نحرصُ على القِيامِ بِواجِبِنا الدِّينِي في رِعايةِ أُسَرِنا وتربيةِ أبنائنا؛ ورَحِمَ الله شوقي؛ فقد أحسنَ تصويرَ إهمالِ كثيرٍ من الأُسَرِ بقولِه:
ليس اليتيمُ مَن انتهَى أبواه مِن ** همِّ الحياةِ وخلَّفاه ذليلاً
فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما ** وبِحُسنِ تربيةِ الزمانِ بديلاً
إنَّ اليتيمَ هو الذي تَلْقَى له ** أُمًّا تَخَلَّتْ أو أباً مَشغُولا
- - - -
[1] رواه مسلم.
[2] البيت للشاعر عَدي بن الرقاع.
[3] الكهف 46.
[4] الجامع لأحكام القرآن 10/413.
[5] الصافات 100-101.
[6] مريم 3-6.
[7] الصافات 112-113.
[8] آل عمران 39.
[9] آل عمران 45.
[10] البيتان لصالح عبد القدوس.
[11] زاد المسير 8/285.
[12] كشف الخفاء للجلوني 2/110.
[13] الكهف 46.
[14] آل عمران 14.
[15] تفسير القرآن العظيم 3/86.
[16] هود 42.
[17] لقمان 13.
[18] الشعر للميداني.(/2)
نِعْمة الذرية الصالحة د. محمد عمر دولة*
لو سَألْنا عن الذُّرِّيَّةِ.. رَجُلاً رَزَقَه الله أولاداً، وسَألْنا آخرَ عَقِيماً.. لقال كلاهما: إنَّ الأبناءَ رَيْحانةُ القَلبِ وجَمالُ الكَونِ وزينةُ الحياةِ وعنوانُ السعادة والهناء
فالولَدُ الصالِحُ مِنَّةٌ عظيمةٌ ونِعْمةٌ جَسِيمةٌ، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابنُ آدم انقَطعَ عَمَلُه إلا مِن ثلاثٍ: صَدقةٍ جارية، أو عِلمٍ يُنتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالِحٍ يدعو له).[1] فأبناؤنا زادُنا الذي لا يفنَى، وكَنْزُنا الذي يبقَى بعد مَوتِنا؛ ولله دَرُّ من قال:
والمرءُ يُحْيِي مَجْدَه أبناؤه ** ويَمُوت آخَرُ وهو في الأحياء [2]
وتأمَّلْ مَحاسِنَ البيانِ ومَكامِنَ الجمالِ في قولِ الله تعالى: (المالُ والبَنُون زِينةُ الحياةِ الدُّنيا).[3] قال القرطبي رحمه الله: "وإنَّما كان المالُ والبنون زينةَ الحياة الدنيا؛ لأنَّ في المالِ جَمالا ونَفعاً، وفي البَنِين قُوةً ودَفعاً؛ فصارا زِينةَ الحياة الدنيا".[4]
وقد كان الولدُ دعوةَ إبراهيم عليه السلام حين قال: (رَبِّ هَبْ لي مِن الصالِحِين)؛ قال تعالى: (فبَشَّرْناه بِغُلامٍ حَلِيم).[5] ودعوةَ زكريا عليه السلام (إذْ نادى ربَّه نِداءً خَفيّاً قال ربِّ إني وَهَنَ العَظمُ منِّي واشتَعلَ الرأسُ شَيْباً ولم أكن بدعائك ربِّ شَقِياً وإنِّي خِفتُ الموالِيَ مِن ورائي وكانت امرأتي عاقِراً فهَبْ لي مِن لَدُنْك وَلِيّاً يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يعقوبَ واجعَلْه ربِّ رَضِياً".[6]
وكانت الذُّرِّيةُ الطيِّبةُ بُشرَى للصالِحِين مِن عِبادِ الله، كما قال عزَّ وجلَّ عن إبراهيم عليه السلام: (وبشَّرْناه بإسحاقَ نبياً مِن الصالحين وبارَكْنا عليه وعلى إسحاق ومِن ذُرِّيتِهما مُحْسِنٌ وظالِمٌ لِنفسِه مُبِين).[7] وقال عن زكريا عليه السلام: (فنادته الملائكةُ وهو قائمٌ يُصلِّي في المحرابِ أنَّ الله يُبَشِّرُك بيحيى مُصَدِّقاً بكلمةٍ من الله وسَيِّداً وحَصُوراً ونبياً من الصالحين).[8] وقال عن مريم عليها السلام: (إذ قالت الملائكة يا مَريَمُ إنَّ الله يُبَشِّرُكِ بكلمةٍ منه اسمه المسيحُ عيسى بنُ مريم وَجِيهاً في الدنيا والآخرةِ ومِن المقَرَّبِين).[9]
فالأبناءُ نِعْمةٌ بالغةٌ ومِنَّةٌ سابغةٌ لِمَن وَفَّقَه الله إلى التربية الصالحة، كما قيل:
وإنَّ مَن أدَّبْتَه في الصِّبا ** كالعُودِ يَقِي الماءَ في غَرْسِه
حتى تراه مُورِقًا ناضِراً ** بعد الذي أبصَرْتَ من يُبْسِه[10]
ولله درُّ مَن قال:
حَرِّضْ بَنِيك على الآدابِ في الصِّغَرِ كيما تَقَرَّ بهم عَيناك في الكِبَرِ
وإنما مَثَلُ الآدابِ تَجمَعُها ** في عُنفُوانِ الصِّبا كالنَّقشِ في الحجر
ولكنَّ الأولادَ فِتنةٌ لِمَن لم يَتَّقِ الله فيهم؛ فأهْمَلَ تَربِيتَهم ولم يُعَلِّمْهم مَكارِمَ الأخلاق، أو انشَغلَ بهم عن واجِباتِه الشرعية، كما قال تعالى: (واعْلَمُوا أنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتْنةٌ)، قال ابنُ الجوزي رحمه الله: "أي بَلاءٌ وشُغلٌ عن الآخرة؛ فالمالُ والأولادُ يُوقِعان في العَظائم إلا مَن عَصمَه الله... وقال الفراء: قال أهل المعاني: إنما دخل (مِن) في قولِه تعالى: (إنَّ مِن أزواجِكم)؛ لأنه ليس كلُّ الأزواجِ والأولادِ أعداءً، ولم يذكر (مِن) في قولِه تعالى: (إنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتْنة)؛ لأنها لا تخلو مِن الفِتنةِ واشتِغالِ القلبِ بها".[11] وقد قال بعضُ الظرفاء:
قالوا تزوَّجْ فلا دنيا بلا امرأةٍ ** وراقِب الله واقرأْ آيَ ياسينا
لما تزوجتُ طابَ العيشُ لي وحَلا ** وصِرتُ بعد وُجودِ الخيرِ مِسكينا
جاء البنون وجاء الهم يتبعهم ** ثم التفتُّ فلا دنيا ولا دينا
هذا الزمان الذي قال الرسول لنا خفوا الرحال فقد فاز المخِفُّونا [12]
وقال ابن كثير رحمه الله: "وقوله (المال والبنون زينة الحياة الدنيا)[13] كقوله: (زُيِّنَ لِلناسِ حُبُّ الشهواتِ من النساءِ والبنين والقناطيرِ المقنطَرةِ من الذهبِ) الآية،[14] وقال تعالى: (إنَّما أموالُكم وأولادُكم فِتنةٌ والله عنده أجر عظيم): أي الإقبالُ عليه والتفرُّغُ لِعبادتِه خيرٌ لكم مِن اشتِغالِكم بهم والجمعِ لهم والشفقةِ المفرِطةِ عليهم؛ ولهذا قال: (والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عند ربِّك ثواباً وخيرٌ أملا)".[15]
وفي التنزيلِ آياتٌ من رحمةِ الآباءِ بالأبناءِ ووَصاياهم ومَواعِظِهم، كما قال عزَّ وجَلَّ: (ونادى نوحٌ ابنَه وكان في مَعزَلٍ يا بُنَي ارْكَبْ مَعَنا ولا تَكُنْ مع الكافِرين)،[16] (وإذْ قال لُقمانُ لابنِه وهو يَعِظُه يا بُنَيَّ لا تُشرِكْ بالله إنَّ الشِّركَ لَظُلمٌ عَظِيم).[17]
وأما مَن قصَّرَ في تربيةِ أبنائه؛ فإنَّ الله عزَّ وجَلَّ يُعاقِبُه بأن يُذِيقَه ثَمرةَ إهمالِه عُقوقَ وَلَدِه، حتى يشتكي ويقول:
فيا عجباً لِمَن رَبَّيْتُ طِفْلا ** ألَقِّمُه بأطْرافِ البَنانِ(/1)
أُعَلِّمُه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ ** فلما اشتَدَّ ساعِدُه رَماني
أُعَلِّمُه الفُتُوَّةَ كلَّ وقتٍ ** فلما طر شارِبُه جَفانِي
وكم علَّمْتُه نَظمَ القوافي ** فلما قال قافيةً هَجاني [18]
وهذا التقصِيرُ في التربيةِ هو الذي حَملَ بعضَ المتشائِمِين على كراهةِ النسلِ، حتى قال ابنُ سِنان الخفاجي:
ضَلَّ الذين رأوا في النَّسْلِ فائدةً ** ولو أصابُوا لما ربُّوا ولا حَضَنُوا
وقال المتنبي:
هل الولدُ المحبوب إلا تِعِلَّة ** وهل خلوةُ الحسناء إلا أذى البَعلِ
وما الدهر أهلٌ أن يؤمَّلَ عندَه ** حياةٌ وأن يُشتاقَ فيه إلى النَّسلِ
وقال أبو العلاء المعري:
أرى ولدَ الفتى كلاًّ عليه ** لقد سعد الذي أمسى عقيماً
أما شاهدتَ كلَّ أبي وَلِيدٍ ** يؤمُّ طريقَ حَتفٍ مُستقيماً
فإمَّا أنْ يُربِّيَه عَدُواً ** وإما أنْ يُخَلِّفَه يتيماًًًً
وإنَّ ما نَراه في هذه الأيامِ.. مِن تَضْيِيعِ أمانةِ الأبناءِ والبناتِ، وإهْمالِ رِعايَتِهم وعَدَمِ العِنايةِ بهم؛ لا يَجعلُنا نَزهَدُ في الذُّريةِ، بل نحرصُ على القِيامِ بِواجِبِنا الدِّينِي في رِعايةِ أُسَرِنا وتربيةِ أبنائنا؛ ورَحِمَ الله شوقي؛ فقد أحسنَ تصويرَ إهمالِ كثيرٍ من الأُسَرِ بقولِه:
ليس اليتيمُ مَن انتهَى أبواه مِن ** همِّ الحياةِ وخلَّفاه ذليلاً
فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما ** وبِحُسنِ تربيةِ الزمانِ بديلاً
إنَّ اليتيمَ هو الذي تَلْقَى له ** أُمًّا تَخَلَّتْ أو أباً مَشغُولا
- - - -
[1] رواه مسلم.
[2] البيت للشاعر عَدي بن الرقاع.
[3] الكهف 46.
[4] الجامع لأحكام القرآن 10/413.
[5] الصافات 100-101.
[6] مريم 3-6.
[7] الصافات 112-113.
[8] آل عمران 39.
[9] آل عمران 45.
[10] البيتان لصالح عبد القدوس.
[11] زاد المسير 8/285.
[12] كشف الخفاء للجلوني 2/110.
[13] الكهف 46.
[14] آل عمران 14.
[15] تفسير القرآن العظيم 3/86.
[16] هود 42.
[17] لقمان 13.
[18] الشعر للميداني.(/2)
ها هو رمضان قد جاء
جاء سيد الشهور
والتاج على مَفْرِق الأيام
فهنيئاً لمن عَمَره بالذكر والقرآن والصدقة والإحسان
هنيئاً لمن عَظَّم شعائر الله
فراعى حرمة رمضان
واجتهد أن يُرضي الرحمن
فما يدريك يا أخي ويا أختي لعله آخر رمضان
أسأل الله أن يعطيكم أطيب ما في الدنيا
"محبة الله"
وأن يريكم أحسن ما في الجنة
"نعيم الله"
وأن ينفعكم بأنفع الكتب
"كتاب الله"
وأن يجمعكم بأبر الخلق
"رسول الله"
مبروك عليكم شهر الطاعة والقرآن
شهر قال فيه الحبيب المصطفى
في خطبة رمضان
أنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة، والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات،
هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله جعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب- فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه.
فإن الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم ووقروا كباركم وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتنحن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم، فإنها أفضل الساعات- ينظر الله فيها إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه.
أيها الناس- إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم، ففكوها باستغفاركم- وظهوركم ثقيلة بأوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين وأن لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أيها الناس، من فطر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه- فقيل يا رسول الله: ليس كلنا نقدر على ذلك فقال: اتقوا الله ولو بشربة من ماء.
أيها الناس، من حسَّن منكم في هذا الشهر خُلقه كان له جوازاً على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن خفّف في هذا الشهر عما ما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضاً كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه الصلاة عليَّ ثقل الله ميزانه يوم تخفف الموازين، ومن تلى فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور.
أيها الناس:- إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم وأبواب النيران مغلقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم.
قال علي رضي الله عنه بعد الخطبة: فقمت فقلت: يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله.(/1)
هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
المحتويات
مقدمة
القرآن يطالب الناس بالبرهان والدليل
أولا: المطالبة بالحجة والبرهان عند الدعوى
ثانياً : ذم المقلدين
ثالثاً : المطالبة بالحجة في قصص الأنبياء
رابعاً: الحديث في القرآن عن الجوارح
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
فلعلنا أن نقف وقفات قد تطول حول آية من كتاب الله عز وجل وهي قوله تعالى: [هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين]، وهي أمر للناس جميعاً بأن يكون منطق الحجة والبرهان ولغة الدليل هي السائدة، فلا يدعي أحد دعوى إلا بدليل وبرهان وحجة، وهي السائدة في النقاش والحوار.
وحين حاولت أن أورد بعض الآيات التي تشير إلى هذا المعنى رأيت أنها آيات كثيرة جدًّا، وهذا دليل على أهمية هذه القضية وكونها قضية مرتبطة بالمنهج.
إن وقوعنا في خطأ في قضية جزئية واحدة أمر قد يتجاوز، فهو من طبيعة البشر وقصورهم، إما أن يكون الخلل في المنهج فإن هذا مدعاة لتوالد الأخطاء وتكاثرها وتعاظمها، ومن هنا كان لابد من الحديث عن المنهج.
القرآن يطالب الناس بالبرهان والدليل
إن القرآن يطالب بالبرهان والدليل، وهذا الأمر نراه في كتاب الله عز وجل كثيراً، يتمثل من خلال أمور وجوانب عدة:
أولا: المطالبة بالحجة والبرهان عند الدعوى
وهذا نجده في كتاب الله عز وجل كثيراً، بل مع فئاتٍ لا يشك أحد في بطلان دعواها وأنها لا تعدو أن تكون دعوىً صادرة عن الهوى والتشهي وعارية عن الدليل والحجة، ومع ذلك يطالبهم الله سبحانه وتعالى بالبرهان.
أ - فالله عز وجل قد طلب البرهان من الذين اتخذوا من دونه آلهة وهل يشك عاقل في بطلان هذه الدعوى؟ ]أمّن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أ إله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين[. وفي سورة القصص يقول سبحانه وتعالى: [ و من يدع مع الله إله آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون].
ومن يشك في بطلان ألوهية غير الله؟ لكن من ادعى خلاف ذلك فليأت بالبرهان والدليل والمنطق، والذي يحمل الحق لا يخشى مطالبة الناس بالدليل والبرهان، إنك تستطيع أن تطرح أي قضية –أياً كانت هذه القضية- على بساط البحث بكل وضوح وكل صراحة، وتستطيع أن تتحدى كل من يعارض ويناقش في هذه القضية التي تدعو الناس إليها ولو كانت قضية بدهية، حين تملك الحجة والبرهان،و هل هناك قضية أوضح وأجلى من قضية تفرد الله سبحانه وتعالى بالألوهية؟ ومع ذلك يطالب الله عز وجل أولئك الذين تنكبوا الطريق وعارضوا بالبرهان.
و هكذا شأن من يحمل فهو لا يخشى من الحوار والنقاش، ولا يخشى من الجدل لأنه يملك الحق الذي لا لبس فيه ولا غموض، فما دام لديه برهان فليطالب الناس بالبرهان والحجة.
ب - طلب الله البرهان من الذين اتخذوا الولد معه سبحانه وتعالى، مع شناعة هذه القضية قال تعالى: [و قالوا اتخذ الرحمن ولداً * لقد جئتم شيئاً إداً * تكاد السموات يتفطرن منك وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًّا * أن دعوا للرحمن ولداً * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً * إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد حصاهم وعدهم عدًّا] ومع ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في سورة يونس: [ و قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون[. وفي سورة الصافات قال تعالى: ]ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * ما لكم كيف تحكمون * أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين * فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين].
و في سورة الكهف يقول سبحانه وتعالى: [ و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا].
ج - طالب الله عز وجل بالدليل والبرهان أولئك الذين جعلوا الملائكة إناثا، يقول سبحانه وتعالى في سورة الزخرف: [ و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون * وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون * أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون].(/1)
د - طالب الله عز وجل بالبرهان والحجة والدليل أولئك الذين جادلوا في آيات الله عز وجل يقول تعالى في سورة غافر: [الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا]. وقوله تعالى: [إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه[. وفي سورة الحج: ]و من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير[. وفي سورة لقمان يقول سبحانه وتعالى: ]ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير].
إن العلم في شريعتنا ليست قضية لا يدركها إلا خاصة من الناس، قد يسوغ هذا الأمر عند النصارى الذين يرون أن رهبانهم لهم الحق وحدهم في فهم الكتاب المقدس وفي تفسيره وبيان مراد الله عز وجل، وقد يكون هذا الأمر سائغاً عند أولئك الذين يجعلون لهم أئمة عدد شهور العام هم وحدهم المؤهلون لمعرفة الدين وهم وحدهم الذين يفهمون مراد الله عز وجل، وقد يكون هذا سائغاً عند أهل الخرافة الذين يرون أن التلميذ ينبغي أن يكون عند شيخه كالميت عند مُغسّله يقبله كيف شاء، أما المسلمون فهم يقرؤون في كتاب الله عز وجل [و لقد يسرنا القرآن لذلك فهل من مذكر][ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ][ كتابٌ أنزلناه إليك مباركاً ليدبروا آياته].
هـ – أولئك الذين ادعوا المساواة بين المجرمين والمؤمنين، وبين المسلمين والكافرين طالبهم الله سبحانه وتعالى أيضاً بالحجة والبرهان [أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون * أم لكم كتاب فيه تدرسون * إن لكم فيه لما تخيرون * أم لكم إيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون * سلهم أيهم بذلك زعيم].
و - طالب الله عز وجل أيضاً بالبرهان والحجة إخوان القردة (اليهود والنصارى) وأولئك لا يعرفون منطق الدليل ولا البرهان والحجة، أولئك لا يحسبون لكلماتهم أي حساب، فهم إما قوم مغضوب عليهم قد لعنهم الله عز وجل وطبع على قلوبهم أو قوم ضالون.
فاليهود قوم قد غضب الله عز وجل عليهم وطبع سبحانه وتعالى على قلوبهم وصاروا لا يحسبون للكلمة حساباً أليسوا هم القائلون: إن الله فقير ونحن أغنياء تعالى الله عما يقولون؟ أليسوا هم القائلون -أخزاهم الله- يد الله مغلولة؟ يلعنهم الله عز وجل في كتابه لعنات متتابعة إلى يوم القيامة، ومع سخف مقالتهم وشناعتها، ومع سخف مقالة إخوانهم من الضالين النصارى الذين لم يعرفوا منطق الحجة والبرهان فهم الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، هم أولئك الذين أعاروا عقولهم لطغاة الرهبتة والقساوسة حتى يفكروا في النيابة عنهم وحتى يفهموا الكتاب المقدس في النيابة عنهم وحتى يمسخوا عقولهم ويقولون ليس لكم حق في فهم كتاب الله عز وجل وكلام الله، مع ذلك يدعي اليهود والنصارى دعوى عريضة دعوى مضحكة، [وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى] فيجادلهم القرآن بالحجة والبرهان والدليل يقول الله سبحانه وتعالى حاكياً مقالتهم: [و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين].
إن كل ما سبق يعطينا دلالة على أنه لا يحق لأحد أن يدعي دعوى إلا ببرهان وحجة وسلطان مبين، وأيضاً أنه لا يحق لامرئٍ أن يجادل أو يناقش أو يبطل دعوى أخرى إلا بالبرهان والحجة والسلطان، ويتنوع الحديث عن الدليل في القرآن تارة يأتي بالبرهان وتارة بالحجة وتارة بالسلطان وتارة بالعلم وكلها معان تدور حول معنى الحجة بعيداً عن العاطفة، وبعيداً عن الأحكام المسبقة، وبعيداً عما سماه الله عز وجل أماني ودعاوى كاذبة.
ثانياً : ذم المقلدين
يتكرر ذم التقليد وأهله في كتاب الله عز وجل، ومن ذلك:
أ - عاب الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يقلدون الآباء والأجداد يقول عز وجل في سورة الزخرف: [ بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون * وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثرهم مقتدون].(/2)
إن لكل أمة تراث ورثوه من آبائهم وأجدادهم ويعتزون به وينافحون عنه، أما وقد وصلت القضية إلى مبدأ الاعتقاد والدين فينبغي أن يطرح ما عليه الآباء والأجداد، وأن يكون الدليل والبرهان والحجة هو السائد في التلقي، وهو السائد في التعبد لله عز وجل، وهو السائد في منطق الحجة والبرهان، وعليه فإن من ينعى عليك أنك قد خالفت أمراً ألفه الآباء والأجداد، أو أنك أتيته بأمر لم يعهده فإن هذا قد سلك منطق أولئك الذين قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة، ولو كان يملك دليلاً وبرهاناً وحجة على ما يقول لساقه، ولهذا صار يضرب في وجه كل من يدعوا إلى إحياء سنة قد أميتت، أو إلى إنكار منكر ألفه الناس بأن هذا أمر لم نعهده، وهذا أمر جديد، أو بعبارة أخرى: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.
ب - أيضاً ينعى الله عز وجل على أولئك الذين قلدوا الأحبار والرهبان، يقول سبحانه وتعالى في سورة التوبة: [اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إله واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون] ،وتأمل في هذه الآية الكريمة كيف ربط الله سبحانه وتعالى الأمر بعبادته والخضوع له؛ فمقتضى العبودية لله سبحانه وتعالى تعني أن يسلم المرء أمره لله عز وجل بعيداً عما ورثه عن آبائه وأجداده، وبعيداً عما تلقاه من فلان وفلان من الناس؛ فيسلم الأمر لله سبحانه وتعالى فلا يتعبد الله عز وجل إلا بما جاء في كتابه سبحانه وتعالى وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ج -ينعى عز وجل أيضاً على أولئك الذين يقلدون السادة والكبراء كما نعى على الذين قلدوا آباءهم وأجدادهم، وعلى الذين قلدوا الأحبار والرهبان، يقول الله عز وجل في آيات كثيرة تحكي ذاك الحوار الذي يجري يوم القيامة بين أهل النار عافانا الله وإياكم منها يقول سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب: [ وقالوا ربنا إنا اطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيرا].
إن من يسير وراء سادته وكبرائه مغمضاً عينيه ينبغي أن يضع نصب عينيه هذه الآية الكريمة حتى لا يكون من أولئك الذين يقولون هذا الكلام، وفي سورة غافر يقول سبحانه وتعالى:[ و إذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار. قال الذين استكبروا إنا كلٌ فيها إن الله قد حكم بين العباد]. نعم لقد حكم الله سبحانه وتعالى بينهم بالعدل والقسط وما كان الله سبحانه وتعالى ليظلم أحداً، لقد كان على أولئك الذين استضعفوا أن يحكموا عقولهم وأن يفكروا مليًّا وطويلاً فيما ورثوه عن أولئك الذين استكبروا، وأن لا يغمضوا عيونهم ويسيروا وراء أولئك ويتبعوهم دون حجة أو برهان، ألم يخلق الله لهم عقولاً؟ ألم ينزل الله سبحانه وتعالى كتباً؟ ألم يرسل الله سبحانه وتعالى رسلاً يدعون الناس لكمة الحق؟ فلماذا يغمض أولئك عقولهم ليسيروا وراء كبرائهم ويتبعوهم وتكون النهاية أن يتبرؤوا منهم يوم لا تنفع البراءة.
و مع مشهد آخر في كتاب الله عز وجل يحكي أيضاً هذا الجدل والتعاتب في سورإبراهيم : [ وبرزوا الله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لوهدانا الله لهديناكم سواءً علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص].
و في سورة سبأ [ و قال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لو لا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين* وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن تكفر بالله ونجعل له أنداداً وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعلمون].
نعم هذا عملهم لقد كان باستطاعتهم أن يكفروا بهم، كان باستطاعتهم أن يتبعوا الهدى الذي آتاهم الله إياه يقرؤونه في كتاب الله عز وجل، ويسمعونه من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم والله عز وجل يقول :[ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً].
إذاً تقليدهم لكبرائهم وأسيادهم وطغاتهم أولئك الذين دعوهم إلى أن يمرغوا جباههم أمام أضرحة يرجون منها التبرك، وتقليدهم لكبرائهم الذين أفتوهم أن الصلاة قد تسقط عنهم وأن الصيام لا يعدو أن يكون كتم أسرارهم، وتقليدهم لكبرائهم وطغاتهم الذين أصبحوا يفسرون كلام الله عز وجل على ما لا يحتمل فيسيرون وراءهم، أو تقليدهم لكبرائهم الذين يدعونهم إلى الشهوات قادهم إلى هذه المؤمل عافانا الله وإياكم، إلى أن يتخاصموا ويتجادلوا يوم القيامة في النار لكن حين لا ينفع الجدل ولا تنفع الخصومة، ولم يجزهم الله عز وجل إلا بما كانوا يعملون، وما كان الله سبحانه وتعالى ليظلم أحداً.(/3)
وحين ينتهي جدلهم وحوارهم يقول الشيطان كلمة الفصل [ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل].
نعم لم يكن للشيطان سلطان عليهم، ولم يكن حتى لكبرائهم وأسيادهم سلطان عليهم، لكن اتباع الهوى بعد أن آتاهم الهدى هو السبب لأن يصيروا إلى ما صاروا إليه، وإلى أن يصلوا إلى هذه النهاية.
ثالثاً : المطالبة بالحجة في قصص الأنبياء
لقد ساق الله تبارك وتعالى قصص الأنبياء ومطالبتهم بالحجة والبرهان، حتى تكون عبرة وعظة وقدوة وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :[أولئك الذين هدى الله بهداهم اقتده]، ومن جوانب الاقتداء في الأنبياء الاقتداء بهم في منهج الدعوة ومخاطبة الناس، وها هي بعض الأمثلة التي تبين أن الأنبياء أيضاً كانوا في دعوتهم لأقوامهم وخطابهم معهم يطالبونهم بالحجة والبرهان.
هود عليه السلام يطالب قومه بالحجة والبرهان ،قال عز وجل في سورة الأعراف :[قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما نَزَّلَ الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين].
و يوسف عليه السلام يقول الله عز وجل عنه في سورة يوسف: [ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل الله من سلطان إن الحكم إلا الله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون].
و إبراهيم عليه السلام يقول الله عز وجل عنه: [ وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون * وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل عليكم سلطاناً فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون].
و محمد صلى الله عليه وسلم يأمره الله عز وجل أن يطلب الحجة والبرهان [قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتاب قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين]. ولو استطردنا في ذكر قصص الأنبياء ومطالبتهم قومهم بالحجة والبرهان لطال المقام، والمقصود أنه كما أن الله سبحانه وتعالى طالب المكذبين والمعرضين المعاندين بالحجة والبرهان والدليل فكذلك أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يطالبون أقوامهم بالحجة والبرهان والدليل، مع أن دعوى أقوامهم كانت دعوى فاسدة.
رابعاً: الحديث في القرآن عن الجوارح
و هو حديث كثير فالحديث عن الجوارح يأتي في القرآن حديثاً فيه الإشارة إلى قضية الدليل والبرهان والحجة.
أ- يمتن الله سبحانه وتعالى على عباده بأن سخر لهم هذه الجوارح. يقول سبحانه في سورة النحل :[ و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة] ،وفي سورة المؤمنون :[ و هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون]، وفي سورة السجدة : [ ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون] ،و في سورة الملك: [قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون].
ماذا يعني امتنان الله عز وجل على خلقه بأن جعل لهم السمع والبصر والعقل؟ إن تعطيلها من تغيير خلق الله، ولا يجوز تغيير خلق الله.
فلماذا يخلق الله للناس سمعاً وأبصاراً وأفئدة وعقلاً إذا كانت سنة الله في الناس أن يتبعوا غيرهم وأن يسيروا وراءهم، فلم لم يخلق الله سبحانه وتعالى لنخبة خاصة من الناس عقولاً وسمعاً وأبصاراً، ويترك البقية كالذي ينعق بما لا يسمع يسيرون وراءهم؟
أما وقد خلق الله للناس سمعاً وأبصاراً وأفئدةً وأمتن بها عليهم فهذا يعني أن يحكموها وأن يستخدموها في البحث والوصول إلى الحق.
ب - أمر الله عز وجل خلقه باستخدام هذه الجوارح، يقول سبحانه في سورة الحج: [أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور].
أرأيت الذي يتلقف ما يسمع من فلان أو فلان دون أن يفكر ودون أن يتأمل ودون أن يسمع أو يبصر، أرأيت هذا قد أتى بما أمره الله به؟ أرأيت الذي ترفع له راية ويدعى بصوت فيسير وراء الداعي دون أن يعي أو يستخدم جوارحه؟ أترى هذا وذاك قد التزم أمر الله أم تراه ممن عابه الله سبحانه وتعالى؟
ج- أخبر الله عز وجل أن الطبع على هذه الجوارح عقوبة يعاقبهم الله بها، يقول الله عز وجل في سورة البقرة :[ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة]. ويقول أيضاً :[أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم] عجباً لأولئك، يخبر الله سبحانه وتعالى أن الطمس على هذه الجوارح عقوبة يعاقب بها بعض عباده فكيف يطمس العبد جوارحه كيف يطمس قلبه ويطمس سمعه ويطمس بصره ليصبح بعد ذلك إمعة يقوده الناس فينقاد؟(/4)
د –أخبر الله عز وجل أنه سيحاسب الناس على هذه الجوارح قال تعالى :[ ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا] ، الذي أمره الله أن يسمع وأمره أن يبصر وأمره أن يتفكر ويفكر ولم يلتزم أمر الله عز وجل ،ألن يسأل عن هذا؟.
هـ - لقد عاب الله عز وجل في القرآن على أولئك الذين لم ينتفعوا بهذه الجوارح ولم يستفيدوا منها، يقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة :[ صم بكم عمي فهم لا يرجعون] ويقول :[ومثل الذين كفروا كمثل الذين ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صم بكم عمي].
و هذه الآية فيها أمران: الأمر الأول: بأن الله عابهم بأنهم صم بكم، الأمر الثاني: أن الله شبههم بالذي ينعق بما لا يسمع، ومن الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء؟ إنه الراعي فالبهيمة لا تسمع إلا الدعاء والنداء، لكنها لا تفقه ما يقوله الراعي، تفهم أن هذه الكلمة كلمة زجر، تفهم أن هذه الكلمة دعوة للطعام، وأن هذه الكلمة دعوة للشراب ، وأن هذه الكلمة دعوة إلى للمراح والمبيت.
إذاً فالذي يعطل جوارحه عن سماع كلمة الحق وعن سماع الحجة والبرهان لا يسوغ أن يمتدح بأن يسير على الجادة، بل هو ممن قال الله عز وجل فيهم: [ صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم] .
والإفاضة في الحديث عن آيات القرآن الكريم يطول، أظن أن فيما تحدثنا عنه كفاية في دعوة الناس إلى أن يتعبدوا الله عز جل بما في كتاب الله سبحانه وتعالى، وأن يتعبدوا لله بما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، بعيداً عما ورثوه من آبائهم وأجدادهم، وبعيداً عن تلك التقاليد والرسوم التي عهدوها وألفوها، وبعيداً عما يسمعونه من رأي فلان وفلان من الناس، سواء أكان علماً متبوعاً أم سيداً مطاعاً.
إن هذا كله أيضاً دليل على أن أولئك الذين يسيرون ويعطلون عقولهم ليسوا أهلاً للمدح والثناء، بل أشبه بأولئك الذين ذمهم الله عز وجل وعابهم وأخبر أنهم ضالون، والسلف لهم مقالات طويلة في العيب على المقلدة وذمهم ونقدهم ليس هذا وقت حصرها لكني أورد أبياتاً لإمام المغرب ابن عبدالبر رحمه الله يقول:
يا سائلي عن موضع التقليد *** خذ عني الجواب بفهم لب حاضر
و أصغي إلى قولي دون فصيحتي *** و احفظ على بوادري ونوادري
لا فرق بين مقلد وبهيمة *** تنقاد بين جنادل ودعاثر
تباً لقاض أو لمفت لا يرى *** عللاً ومعنى للمقال السائر
فإذا اقتديت فبالكتاب وسنة *** المبعوث بالدين الحنيف الظاهر
ثم الصحابة عند عدمك سنة *** فأولئك أهل نهي وأهل بصائر
و لا يزال المصلحون يعانون من هذا الصنف من الناس الذي يحتج عليه دائماً بما ورثه عن آبائه وأجداده، أو بما قلده عن فلان وفلان، وهي معاناة لا تعدو إلا أن تكون امتداداً لمعاناة الأنبياء الذين حين يجيبهم قومهم بقولهم ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.
عذيري من قوم يقولون كلما *** طلبت دليلاً هكذا قال مالك
فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب *** وقد كان لا تخفى عليه المسالك
فإن زدت قالوا قال سحنون قبله *** ومن لم يقل ما قاله فهو آفك
فإن قللت قال الله ضجوا وأكثروا *** و قالوا جميعاً أن قرن مماحك
و إنه قلت قد قال الرسول فقولهم *** أنت مالكاً في ترك ذلك المسالكُ
فهذا المنذر بن سعيد رحمه الله كان مصلحاً وكان يدعو للإصلاح ولهذا يحكي معاناته مع قومه فيها رواة عنه ابن عبدالبر يقول:
نعم كان يعاني من أولئك الذين يحتجون عليه بقول الرجال، فإن قلت قال الله عز وجل ضجوا، وإن قلت قال النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إن فلاناً أعلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يترك ذاك إلا وقد أنته الحجة والبرهان في هذا.
و بعد هذا السرد الطويل لهذه الآيات في كتاب الله عز وجل، ولما لبعض ما روي عن سلف الأمة من عيبهم لأولئك، لا بد من الاعتماد على الحجة والبرهان في اعتقادنا، فلا يسوغ أن نعتقد أمراً في ذات الله سبحانه وتعالى إلا وعندنا فيه حجة وبينة وبرهان وإلا كنا مثل أولئك الذين حينما يأتيهم نبي يقولون ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
و في عبادتنا أيضاً فلا يسوغ حين يدعونا فلان من الناس ومعه حجة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعونا أن نترك أمراً مبتدعاً في دين الله، لا يسوغ أن نحتج عليه بأنه أمر ورثناه واعتدنا عليه ولم نشهد له نكيراً.
ولا يسوغ حين ينكر علينا منكر أو حين تؤمر بأمر لم نعهده، لا يسوغ حين ندعي لذلك بدليل وبرهان أن نحتج بما لقيناه وورثناه عن آبائنا وأجدادنا أو ما سمعناه من فلان وفلان من الناس.
وفي دعوتنا فحين تدعو الناس ينبغي أن ندعو بالحجة والبرهان والدليل، وهكذا كان أنبياء الله.(/5)
وفي المحاجة والمخاصمة؛ فحين نجادل ونحاج الناس أيًّا كان خطؤهم فلا بد أن نحاج بالدليل والبرهان والحجة، أليس الله عز وجل قد حاج الذين اتخذوا من دونه آلهة وطالبهم بالبرهان؟ أليس قد طلب البرهان من الذين جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، ومن الذين ادعوا أنهم وحدهم هم الذين يدخلون الجنة يهوداً كانوا أو نصارى، فغيرهم من باب أولى.
و من هنا فلا مقام في ميدان الجدل إلا للدليل والبرهان، والحجة والدليل لا يقف أمامها أحد، ويخضع لها الناس الصادقون الذين ليس لديهم هوى وميل إلى حظوظ النفس.
وصاحب البرهان والحجة هو وحده الذي لا يتناقض، أما الذي تحكمه العواطف فهو يوماً يقول قولاً ثم تأتيه عاطفة أخرى فيقول بخلافه، ويوماً يقول القول وينقضه غداً.
أما الذي دافعه ورائده الحجة والبرهان فإنه لا يتناقض ولو رأى الدليل في غير ما قاله بالأمس، فإنه يستطيع أن يقوله بكل ثقة وطمأنينة قد كنت أقول هذا القول فبدا لي خلافه والحق ضالة المؤمن، والرجل الشجاع والصادق هو الذي يرجع إلى الحق حين يستبين له.
إن صاحب البرهان هو الذي يستطيع أن يطرح رأيه بوضوح، بعيداً عن الضجيج والصخب و الاتهام والإرهاب الفكري.
إن الذين يحتاجون إلى الألقاب الواسعة والذين يعمدون إلى لغة الصخب والضجيج ورفع الأصوات، وإلى مصادرة أصوات الخصوم هم أولئك الذين لا يملكون حجة ولا برهاناً، أما الذين يملكون الحجة والبرهان فهم يعرضون رأيهم بوضوح وهدوء، وهم على أتم الاستعداد أن يدافعوا عن قولهم وينافحوا عنه، بعيداً عن الاتهام والصخب والضجيج والحديث عن النوايا والألفاظ المنمقة.
و أخيراً: صاحب الحجة والبرهان والدليل هو الذي ينجو يوم القيامة لأن الله عز وجل سيسأل يوم القيامة [و يوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين] ،فالناس جميعاً سيسألون ماذا أجبتم المرسلين فيما أتوكم به من كتاب الله سبحانه وتعالى وفي ما أتوكم به مما قالوه لكم وهم لا ينطقون عن الهوى، فلئن اجتهد المرء في أمر واتبع نصًّا من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم يوفق لاتباع الحق فهو مأجور أجراً على اجتهاده، أما الذين يتبعون البشر دون حجة وبرهان فويل لهم حين يسألون هذا السؤال.
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله في خصامه مع أهل البدع :
لا بد أن نلقاه نحن وأنتم *** في موقف العرض العظيم الشان
وهناك يسألنا جميعاً ربنا *** ولديه حقًّا نحن مختصمان
فنقول قلت كذا وقال نبينا *** أيضا كذا فإمامنا الوحيان
فافعل بنا ما أنت أهل بعد *** نحن العبيد وأنت ذو الغفران
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم إتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجنبنا وإياكم الأهواء ومضلات الفتن؛ إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب، هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(/6)
هارب من الله
' يااااااااه...... اللهم إني أسألك حسن الخاتمة'
مفكرة الإسلام : أنا واثق من أن هذه الكلمات ستخرج تلقائيا من بين شفتيك بعد قراءتك لهذه القصة !!!!
هذه القصة حدثت بالفعل في مصر ورواها أحد الدعاة إلى الله لأنها حدثت معه شخصيا ...........
يقول الشيخ......
' كنت مع بعض الأخوة في طريقنا للصلاة في احد المساجد وعلى مقربة من المسجد رأينا شبابا واقفين على أول الطريق يضحكون ويمرحون بلا حياء فذهبنا إليهم لكي نأخذهم للصلاة معنا, فلما تكلمنا معهم تعللوا بان عندهم درس بعد قليل
-فقلنا لهم 'إن الصلاة لن تأخذ من وقتكم 10 دقائق' ,
-فقالوا 'اذهبوا انتم ونحن سنأتي ورائكم',
قلنا لهم 'بل الآن' فوافقوا جميعا إلا واحد فقط أصر على عدم الصلاة فألح عليه أصحابه فرفض رفضا عجيبا فحملوه عنوة وأدخلوه المسجد ليصلي.
ويكمل الشيخ فيقول 'وعندما دخلنا في الصلاة تسلل ذلك الشاب من بين الصفوف واندفع خارجا من المسجد, وبعد الصلاة خرجنا من المسجد فوجدنا حادثة سيارة وشاب مضرج في دمائه وروحه قد فارقت جسده والمفاجأة أن ذلك الشاب هو نفسه الذي خرج من الصلاة منذ قليل '.
والله إنها لقصة رهيبة يقشعر لها الجسد وتدمع لها العين .
هل صدقت حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه [ إن الله إذا أحب عبدا استعمله, قالوا كيف يستعمله يا رسول الله ؟؟ قال يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه ]
هذا الشاب المسكين كان يهرب من الله عز وجل وهو لا يدري أنه مهما ذهب بعيدا فلن يستطيع ذلك.
وهو أيضا لم يكن يدرك أنه معرض للموت في كل لحظة وأن ملك الموت حين يأتي لا يستأذن من أحد قبل أن يقبض روحه
وبالتأكيد لم يكن يدرك أن الأعمال بالخواتيم وأنه لو ختم له بأنه تارك للصلاة سيكون موقفه يوم القيامة عصيب
أخي الحبيب.....
لا أحد يحب أن يتعرض لهذا الموقف الرهيب وهو أن يفاجأ بملك الموت جاء ليقبض روحه وهو على معصية لله أو تارك لواجب من الواجبات فيختم له بخاتمة السوء وكما قال صلى الله عليه وسلم [ والذي نفسي بيده إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها , وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ].
فحسن وسوء الخاتمة أمر عظيم يغفل عنه الكثير من الناس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم [ لا تعجبوا لعمل عامل حتى تنظروا بم يختم له ] وقال أيضا [ العمل بخواتيمه , العمل بخواتيمه ]
ولنا لقاء في مرة قادمة بإذن الله تعالى مع أسباب سوء الخاتمة حتى نتقيها
فتابعونا
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(/1)
هاك المصحف وأرني أين المخرج! 2/2/1426
أ.د. ناصر بن سليمان العمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين، وبعد:
قد يقول جاهل متشائم بلسان الحال: لقد قلّبت المصحف ورقة ورقة، فلم أجد فيه وصفاً لسبيل خروج الأمة من واقعها أو انتصارها على عدوها، لم يذكر القرآن أمريكا، ولم يبين آلية التعامل مع الأمم المتحدة، ولا ولا...
أقول هذا لأني تأملت حال بعض المتشائمين فرأيتهم يتساءل متسائلهم بلسان الحال أو المقال، فيقول: كيف يخرج بنا الوحي من مأزقنا وما هي الطريق؟ يريد منك أن تضع خطوات شبيهة بخطوات حل المعادلة الرياضية، فتقول: الخطوة الأولى كذا، والثانية هكذا، والثالثة كيت، والرابعة كيت وكيت، ثم الخامسة، فالسادسة وبعدها تجد الواقع قد تغير والحال قد تبدل.
كأنه يتوقع منك أن ترسم طلاسم ثم تهمهم بما لا يفهم ثم تقوم باسطاً ذراعيك مسفراً عن المعادلات الموهومة، وإلاّ... بسط اليأس ذراعيه في صدره! وتلك لعمرو الله نظرة ساذجة في ظل واقع مليء بالمتغيرات والمتباينات والمجاهيل، لا يستطيع أحد من البشر أن يضع له خطوات تحكمه، وإن وضعها سفهاً فلن يستطيع حمل الناس عليها، بل ربما ما استطاع حمل نفسه عليها.
إن هذا الواقع المتداخل المتشابك المعقد لا يملك حله إلاّ رب البشر
"ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"!
"ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر"؟
إن المسلم يستطيع أن يرى بجلاء ويستدل بحجة بالغة على فاعلية ذلك المنهج الرباني بأمور من أظهرها ثلاثة:
- الأول: مقارنة الأحكام والتشريعات السماوية الإلهية، بالأحكام والتشريعات البشرية الأرضية، الشرقية أو الغربية، وقد صنف علماء الإسلام ومفكروه في ذلك المؤلفات التي تدفع الشبه وتبين الفرق الواسع بين الهدى الراسخ المنزل والدساتير المتغيرة المحدثة، سواء أكانت شرقية اشتراكية، أو غربية رأسمالية.
- والثاني: مقارنة واقع من طبق الوحي الإلهي واستقام عليه حق الاستقامة كحال الصدر الأول من هذه الأمة، مع واقع من أعرض فضرب عن الذِّكرِ الذِّكرَ صفحاً وذهل عنه كحال جُلِّ دويلات الإسلام التي تناثرت في عجز الزمان.
- والثالث: مقارنة حال من أخذ به مع حاله قبل الأخذ به، والتاريخ شاهد على حال العرب في الجاهلية مقيد لما صاروا إليه بعيد الإسلام.
ثم إن بإمكان كل مسلم أن يقف ويتأمل حال المجتمعات المسلمة إن استقامت على شرائع الإسلام وشعائره وأحكامه، فتوهم يا أخا الإسلام مجتمعاً فصلت فيه الحقوق وحفظت فيه الحدود، وقام فيه الناس بالوجبات العينية والفرائض الكفائية، وساد فيه الصدق والإخلاص، وشاعت فيه مظاهر الأخوة بين الناس... أوباختصار تصور مجتمعاً كان منهجه القرآن؟ أو يتخلف مثل هذا المجتمع أو يتقهقر؟ إذا قلت: لا والله، فقد أصبت ووفقت لموافقة ما جاءت به النصوص الواعدة بذلك إن حقق الناس شرطها "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض..." " وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا..." " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم..." وغيرها مما تعلم.
ولكن هل تعلم أن من يعيق تحقيق الشرط هو أنت!
نعم أنت فأنت اللبنة الأساسية، التي متى استقامت استقامت أسرتها ثم عشيرتها ثم شعبها ثم أمتها.
فهلا رجعت إلى أحسن الحديث كلام ربك تدبراً وفهماً ثم تمسكاً والتزاماً؟
ولتوقن أخي الكريم بأن هذه هي الخطوة الأولى والأخيرة في طريق تغيير واقع الأمة والخروج بها من مآزقها.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وألئك هم أولى الألباب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(/1)
هامان في القرآن الكريم
مقدمة :
ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أخبار كثير من الأمم السابقة , وخصوصاً تلك الأمم التي أرسل إليهم أنبياءه الكرام , وأخبر تعالى عن المؤمنين منهم والكافرين , وكيف كانت الغلبة لعباده المؤمنين , ومن تلك الأمم قوم فرعون في أرض مصر , وفي طيات هذا الإخبار جاء ذكر بعض الشخصيات في دولة فرعون , ومن تلك الشخصيات وزير من وزراء فرعون , وقد كان هذا الوزير مثالاً لوزير السوء في بلاط الملك الكافر ,هذا الوزير هو هامان , وقد أخبر القرآن العظيم عن هذا الوزير في أكثر من موضع , وأشار إلى بعض أفعاله والمهام التي كان فرعون يكلها إليه , مع العلم بأن هذا الإخبار جاء
في زمن كانت فيه هذه الأخبار قد اندثرت وأصبحت من الغيب الماضي ,فجاء هذا الإخبار ليجلي هذه الحقيقة الغائبة في تلك الحقبة التاريخية من دون إخلال بالتفاصيل الهامة , وسنتكلم في بحثنا هذا عن هامان في القرآن وعن بعض ملامح شخصيته ,وعن علاقته بفرعون .
ذكر هامان في القران الكريم :
جاء ذكر هامان في ستة مواضع في كتاب الله ,وهي على النحو التالي :
1- قال تعالى : ?وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُون? [القصص :6]
2- قال تعالى :? فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ? [القصص :8 ] .
3- قال تعالى :? وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ? [القصص:38 ] .
4- قال تعالى :?وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ ? [العنكبوت :39 ] .
5- قال تعالى :? إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّاب ? [غافر :24 ] .
6- قال تعالى :?وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَاب ? [ غافر :36 ] .
من خلال هذه الآيات الكريمة يظهر لنا مقدار تلك الصلة الوثيقة والرابطة القوية بين هامان وفرعون , فقد ارتبط اسم هامان باسم فرعون في كل تلك الآيات , مما يدل على قوة العلاقة بين هاتين الشخصيتين , فقد اشتركا في التكذيب بنبي الله موسى عليه السلام ,وكان هامان سنداً وعوناً لفرعون .
هامان في ضوء الاكتشافات التاريخية :
لقد تجلت كثير من أمور التاريخ الفرعوني بعد الاكتشافات التاريخية والدراسات التي قامت بها الحملات العلمية , ومن ضمن تلك الاكتشافات ,اكتشاف ما يسمى بحجر رشيد ,وقد كان هذا الحجر مكتوباً عليه بثلاث لغات هي اللغة الهيروغليفية والديموقيطية واليونانية وبمساعدة اليونانية تم فك لغز الهيروغليفية من قبل شاملبيون وبعدها تم معرفة الكثير حول تاريخ الفراعنة وخلال ترجمة نقش من النقوش المصرية القديمة تم الكشف عن اسم ( هامان)
وهذا الاسم أشير إليه في لوح أثري في متحف هوف في فينا وفي مجموعة من النقوش كشفت لنا أن هامان كان في زمن تواجد موسى في مصر قد رُقي إلى أن أصبح مديراً لمشاريع الملك الأثرية , وقد كان هامان رفيق الصبا لفرعون (رمسيس الثاني ) ,كما جاء ذلك في كتاب :
Pharaoh Triumphant the life and times of Ramesses II K.A. Kitchen
ونسخته العربية ( رمسيس الثاني ،فرعون المجد والانتصار، ترجمة د.أحمد زهير أمين ) ويذكر هذا المؤلف أن هامان ترقى وصار قائد المركبات الملكية وناظر الخيل, وهذا مصداق قوله تعالى :? وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُون ? [القصص :6]
فقد جاء في هذه الآية أن هامان كان له جنود يقودهم , ويواصل المؤلف ويقول أن هامان أصبح رسول الملك إلى كل البلاد الأجنبية , وأن هذا المنصب كان مقصوراً على كبار ضباط سلاح العربات الحربية . ويذكر موريس بوكاي أنه وجد اسم هامان في "قاموس أسماء الأشخاص في المملكة الجديدة Dictionary of Personal names of the New Kingdom هو القاموس المستند على مجموعة المعلومات المستقاة من الكتابات المصرية القديمة , وأن عمله هو رئيس عمال المقالع. (1)
وقد شهد القرآن بذلك في قوله تعالى : ? وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَاب ? [ غافر :36 ] .(/1)
فطلب فرعون هذا العمل ـ وهو بناء الصرح ـ من هامان يدل على هذا العمل كان من مهام وزيره هامان .وجاء في قوله تعالى : ? وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ? [القصص:38 ] , أن فرعون حدد لهامان مادة هذا البناء وهي الطين الموقود (المحروق )
وهو ما يسمى الآجر ، و هذا يعتبر من الإعجاز التاريخي للقرآن الكريم فقد ظل الاعتقاد السائد عند المؤرخين أن الآجر لم يظهر في مصر القديمة قبل العصر الروماني و ذلك حسب رأي بعض المؤرخين , و ظل هذا هو رأي المؤرخين إلى أن عثر عالم الآثار بتري على كمية من الآجر المحروق بنيت به قبور ، و أقيمت به بعض من أسس المنشآت ، ترجع إلى عصور الفراعين رعمسيس الثاني و مرنبتاح و سيتي الثاني من الأسرة التاسعة عشر (1308 1184 ق. م ) و كان عثوره عليها في : "نبيشة " و " دفنه " غير بعيد من بي رعمسيس ( قنطير ) عاصمة هؤلاء الفراعين في شرق الدلتا .(2)
خاتمة :
من خلال ما سبق نرى الإعجاز التاريخي واضحاً جلياً في إخبار القرآن الكريم عن شخصية الوزير هامان , فأشارت الآيات إلى الصلة القوية والرابطة الوثيقة بين هامان وفرعون (رمسيس الثاني ) من اقتران اسم هامان باسم فرعون في كل المواضع التي جاء فيها ذكر هامان , وهذا مطابق للكشوف التاريخية التي تجعل من هامان رفيقاً لفرعون في صباه ,ووزيراً له زمن توليه للملك .
وأخبرت الآيات السابقة أن فرعون طلب من هامان أن يبني له صرحاً من الطين الموقود
وهو الآجر , حتى يطّلع إلى إله موسى ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ وكأن هذا العمل من مهام هامان , وفي ذلك مطابقة تامة لما كشفت عنه الدراسات التاريخية من أن هامان كان وزير البناء في مملكة فرعون , وأن الآجر كان معروفاً ومستخدماً في عمليات البناء آنذاك بخلاف ما كان يقوله المؤرخون قبل هذا الاكتشاف .
إعداد/ عادل الصعدي
مراجعة/ عبد الحميد أحمد مرشد
(1)- القرآن والعلم المعاصر لموريس بوكاي.
(2) - كتاب الحضارة المصرية تأليف محمد بيومي مهران ج3 ص429.(/2)
هب أنك مت الان
أخي الداعية
أخي المسلم
هب أنك مت الآن
أخبرني ما هي أثارك بعد الموت
ما هي الاعمال المباركة التي ستنسب اليك بعد موتك
ماهي لمساتك على هذه الحياة
ما هي بصماتك
هب أنك الان في عداد الموتى
ماهي الكلمات التي سيطلقها الناس عنك
ماهو المشروع الذي تريد أن يخلّد في صحيفة عملك بعد وفاتك
كم مسلماً علّمت
كم مسلماً الى طريق الخير هديت
كم كلمة طيبة غرست
كم علمٍ نشرت
كم حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم بلّغت
كم مرةٍ بين متخاصمين أصلحت
أخي المسلم
كن ذلك المبارك في حله وترحاله ، كالغيث أينما وقع نفع :
قلب عامر وعقل يثابر .
تقي خفي ، نقي أبي .
نفعه متعد ، وخيره عام
يتجذر هداه في كل أرض أقام فيها
تنداح جحافل وعظه كالسيل العرم ، تذهب بكل سد منيع جاثم على قلوب الغافلين
إذا قال أسمع ، وإذا وعظ أخضع
أخي كن داعية
دؤوب الخطو ، بدهي التصرف ، إذا اعترضته العوائق نظر إليها شزراً ، وقال : أقبلي يا صعاب ، أو لا تكوني
أخي كن داعية
محمدي الخلق ، صِدّيقيّ الإيمان ، عُمَريّ الشكيمة ، عثمانيّ الحياء ، علويّ الصلابة ، فَضليي العبرة ، حنبلي الإمامة ، تيموي الثبات . <
أخي الداعية
أخي المسلم
مات قوم وما ماتت مكارمهم
وعاش قوم وهم في الناس اموات
يقول جل وعلا {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}
يقول الطبري في تفسيرها . . وقوله: وَاجْعَلْ لي لِسانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ يقول: واجعل لي في الناس ذكرا جميلاً، وثناء حسنا، باقيا فيمن يجيء من القرون بعدي. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: روى أشهب عن مالك قال قال الله عز وجل: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحاً ويرى في عمل الصالحين،
إذا قصد به وجه الله تعالى؛ وقد قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} (طه: 39) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدّاً} (مريم: 96) أي حبا في قلوب عباده وثناء حسنا، فنبّه تعالى بقوله: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } على استحباب اكتساب ما يورث الذكر الجميل. الليث بن سليمان: إذ هي الحياة الثانية. قيل:
قد مات قومٌ وهُمْ في النّاس أحْيَاءُ وقيل والذكر للانسان عمرٌ ثاني
قال ابن العربي: قال المحققون من شيوخ الزهد في هذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب الثناء الحسن، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث»(الحديث) وفي رواية إنه كذلك في الغرس والزرع وكذلك فيمن مات مرابطاً يكتب له عمله إلى يوم القيامة. وقد بيناه في آخر «آل عمران» والحمد لله.
وقال القرطبي في قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي? إِمَامٍ مُّبِينٍ }.
قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} أخبرنا تعالى بإحيائه الموتى ردًّا على الكفرة. وقال الضحاك والحسن: أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل. والأوّل أظهر؛ أي نحييهم بالبعث للجزاء. ثم توعدهم بذكره كَتْب الآثار وهي:
وإحصاء كل شيء وكل ما يصنعه الإنسان. قال قتادة: معناه مِن عملٍ. وقاله مجاهد وابن زيد. ونظيره قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } (الانفطار: 5) وقوله: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } (القيامة: 13)، وقال: {اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر: 18 فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعد الإنسان من خير أو شر يجازى عليها: من أثر حسن؛ كعلم علَّموه، أو كتاب صنَّفوه، أو حبيس احتبسوه، أو بناء بنوه من مسجد أو رِباط أو قنطرة أو نحو ذلك. أو سَيِّىءٍ كوظيفة وظفها بعض الظلاّم على المسلمين، وسكة أحدثها فيها تخسيرهم، أو شيء أحدثه فيه صدّ عن ذكر الله من ألحان ومَلاِهٍ، وكذلك كل سُنّة حسنة، أو سيئة يستنّ بها. وقيل: هي آثار المشَّائين إلى المساجد.
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أموراً سبعة ً يجري ثوابها على الإنسان في قبره بعد ما يموت , وذلك فيما رواه البزار في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته :من عَلّم علماً, أو أجرى نهراً , أو حفر بئراً , أو غرس نخلاً , أو بنى مسجداً , أو ورّث مصحفاً , أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته )) حسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع برقم :3596(/1)
وروى ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره , وولداً صالحاً تركه , ومصحفاً ورثه أو مسجداً بناه , أو بيتاً لابن السبيل بناه , أو نهراً أجراه , أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته ))
حسنه الألباني رحمه الله في صحيح ابن ماجه برقم 198
وروى أحمد والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم (( أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت : من مات مرابطاً في سبيل الله , ومن علّم علماً أجرى له عمله ما عمل به , ومن تصدق بصدقة فأجرها يجري له ما وجدت , ورجل ترك ولداً صالحاً فهو يدعو له )) صحيح الجامع حديث رقم 890 .
أخي الداعية
أخي المسلم
خذ لك زادين من سيرةٍ ومن عملٍ صالح يدّخر وكن في الطريق عفيف الخطا شريف السماع كريم النظر
وكن رجلاً إن أتوا بعده يقولون مرّ وهذا الاثر
هذا وصلي اللهم على محمد وعلى اله وصحبه وسلم
أمير بن محمد المدري
Almadari_1@hotmail.com(/2)
هجرة المسلمين إلى الحبشة
واختلافات النصارى
الحلقة (20) الجمعة 19 ربيع الأول 1396هـ-19 آذار 1976تابع
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
كما أقدر أرجو أن يكون هذا اليوم آخر ما نتحدث عن هجرة الحبشة وتوابعها وقد يكون من المستحسن أو من المفيد أكثر أن نفيض في الحديث أكثر مما أفضنا ولكن تقديري الخاص أن الذي قدمناه حتى الآن يكفي إن شاء الله تعالى، لا ليلقي الأضواء الكافية على كل القضايا التي تتصل بهذه الواقعة التاريخية فذلك غير ميسور، ولكن ليعطي صورة مقاربة للمنهج الذي نأخذ أنفسنا به حينما تتجشم دراسة أي أمر من الأمور التي نهتم لها.
كنا تحدثنا في الأسبوع الماضي حول استحالة التطلع نحو الحبشة لكي تكون مركز انطلاق الدعوة الإسلامية في ضوء غير الضوء الذي تحدثنا عن القضية من خلاله قبل أسبوعين.. في الجمعة الماضية؛ نظرنا إلى المسألة في ضوء القوانين العامة للنبوات ورأينا بحمد الله تعالى أن القوانين العامة للنبوات لا تأذن باتخاذ الحبشة -وما في حكمها- مقراً ومنطلقاً للدعوة، نظراً لافتقاد العنصر الأساسي وهو ووحدة اللغة وحدة اللسان الذي يستتبع بالضرورة استحالة التفاهم واستحالة البيان؛ وهما الشرط الأساسي لنجاح النبوات فمن حيث أن الحبشة تتكلم لساناً غير لسان العرب، ومن حيث أن النبي المرسل بهذه الرسالة عربي اللسان ومن حيث أن الأسس الأساسية العامة والخاصة للدعوة والمتمثلة بالقرآن الكريم وبسنن النبي صلوات الله عليه وآله وهي الوعاء الذي يوصل هذه الرسالة هو وعاء عربي من حيث هذه الأمور جميعاً كان لا بد أن يكون البحث منصباً والجهد موجهاً إلى ترسيخ الرسالة في بلاد العرب لأنها عربية اللسان توجه إلى العرب قبل أي قوم من الأقوام واستشهدنا على ذلك بما كفى إن شاء الله تعالى ووعدنا أننا في الجمعة القادمة -أي هذه الجمعة- سننظر في المسألة على ضوء آخر فالحقيقة أن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله خاتمة الرسالات الإلهية إلى الناس؛ ما بعد محمد من رسول يرتجى وليس بعد محمد من مخلوق يتوكف خبر السماء، ولا بعد القرآن كتاب يحمل أوامر جديدة من قبل الله تعالى إلى الناس، ولكن هذه الرسالة جاءت تتويجاً لنبوات سابقة فمنذ أن فتح الإنسان عينيه على الدنيا رافقته هداية الله تعالى، إظهاراً للمنة وتأكيداً للرحمة السابغة التي اختص الله بها عباده (وإنْ من أمة إلا خلا فيها نذير) (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) ولولا أن الرسالات التي سبقت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان ينقصها من أجل أن تكون قادرة على الخلود والاستمرار -شيء ما- لسقط مبرر الرسالة الإسلامية من الأساس، فطالما أن الرسالة على أي نبي من الأنبياء كانت تنزل قادرة على هداية الناس وقيادة الناس وملء الفراغ الذي يحصل في نفوس الناس ومجتمعات الناس فلا مبرر على الإطلاق لإرسال رسول ولا لإنزال كتاب؛ ولكن الأمر على خلاف ذلك فنحن نجد الله تبارك وتعالى اقتص علينا في القرآن الكريم قصص أنبياء ومرسلين سبقوا نبينا محمداً صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأن الله طوى في علمه ذكر أنبياء آخرين فقال:
)منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص(.
فالأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم ليسوا هم كل مظاهر الرحمة الإلهية التي تجلت في موالاة الهداية إلى الناس ونجد أن الله تبارك وتعالى يذكر في حكمة القصص القرآني قصص الأنبياء والمرسلين، وقصص الأمم التي بادت يذكر فيقول: )لقد كان قصصهم عبرة لأولي الألباب( ويذكر فيقول:
)وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمتقين(.(/1)
فالأنبياء الذين مضوا حين عرض الله جوانب من سيرهم علينا وأوضح بعضاً من معالم رسالاتهم لنا كان ذلك بغرض الاتعاظ والتذكر والتدبر والتثبيت فما هي الدروس التي تمنحنا إياها هذه النبوات السابقة وهذه الرسالات الماضية؟ وما هي الدروس التي يمكن أن نفيدها من تتبع أخبار الماضين من الأمم التي بشرت وأنذرت فمنهم من هدى الله ومنهم من تجبر وعتا وعصى. هنا نقف على رأيين والرأي الأول الذي سأبديه لكم هو الرأي الأشيع والأرجح بين الذين يدرسون هذه الأمور وهو الرأي الذي أرفضه بلا تردد هذا الرأي يقول إن الله تعالى تدرج بالبشرية بواسطة الرسالات التي أنزلت على الأنبياء السابقين، يعني أنهم يعطون للبشرية تصوراً يشبه تصور نشأة الإنسان الفرد فالإنسان الفرد يولد طفلاً ثم يافعاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً ثم يدركه الأجل فيموت فكذلك الإنسانية في طريقها المتطور والسائر أبداً إلى الأمام لها ذات المراحل التي تلحظ على الطفل حين تتدرج به أطوار النشأة فالإنسانية في مراحلها الباكرة لم تكن على درجة من النضج العقلي والعاطفي، يسمح لها بتلقي وتفهم القيم العالية والتشريعات المعقدة والعقائد الرفيعة فالرسالة تأتي في زمن ما على قوم مخصوصين لمرحلة معينة فإذا انتهت هذه المرحلة تكون الرسالة قد استنفدت أغراضها وأصبحت غير قادرة على الوفاء باحتياجات الطور الجديد الطور الأعلى والأكثر تقدماً في حياة البشرة فلهذا يرسل الله تعالى رسالة جديدة بواسطة نبي جديد لكي يتجاوب مع الآمال الأبعد التي وصلت إليها البشرية في مراحلها المتقدمة وهكذا مراً وجراً حتى انتهى الأمر إلى أن أرسل الله تعالى بالرسالة الخاتمة محمداً صلى الله عليه وسلم بعد أن بلغت الإنسانية رشدها وكمالها في ذلك الحين وأصبحت مستعدة لأن تتلقى كلمة الله النهائية والخاتمة لكلامه السابق كله، ربما كان ذلك يدغدغ غرورنا -نحن المسلمين- من حيث أن هذا التفسير والتحليل يعطينا شيئاً من الاستعلاء، الاستعلاء شيئاً يخاطب جانب الغرور في النفس الإنسانية من حيث أننا نمثل قمة النضج الإنساني ولكن الأمر فيما أتصور وفيما أرجح يخالف جملة وتفصيلاً كل هذا الذي أوّله وفصّله معظمُ الدارسين لهذه القضية من بينهم كتاب مسلمون قدماء ومحدثون لهم وزنهم ولهم احترامهم لكننا كما تعلمون حين نكون أمام حقيقة علمية أو تاريخية لا نتردد في الأخذ بها رضي من رضي وسخط من سخط أحب من أحب أو كره من كره وافقت رأي الجمهور أو خالفت رأي الجمهور فالجمهور عندنا هو الحقيقة الناصعة التي لا غبار عليها وسواء التفَّ حولها فرد واحد أو ملايين الأفراد أو لم يستجب لها أحد فذلك لا يقلل بتاتاً من أهمية الحقيقة من حيث هي حقيقة لها وزنها ولها احترامها ويجب أن يأخذ بها الناس.(/2)
أول ما نلاحظه على التأويل الذي طرحناه لكم كما عبر عنه أصحابه هو الإهانة غير المقصودة لأجيال مضت بيننا وبينها عشرات الألوف من السنين نحن نعرف من سيرها ومن تتبع أحوالها من خلال الآثاريات التي كشف عنها البحث ومن خلال المدونات التي تسربت إلينا أنها كانت تتمتع بقدر كبير من السمو الخلقي ومن التقدم الفكري ومن النضج التشريعي ولعل أحداً لا يجهل أن فلاسفة اليونان ومن قبلهم ومن حكماء الهنود والمصريين ممن بيننا وبينهم ستة آلاف سنة أو سبعة آلاف وربما عشرة آلاف سنة من لو عرضنا على أسماعكم بعض إنتاجهم في الفلسفة وفي الأخلاقيات وفي الشعر وفي الأدب والفن بعامة لراعكم أن هذا الكلام قمة من القمم العالية التي تتقاصر دونها همم الكثيرين في هذا الزمان الذي نعطيه سمة التطور وسمة الرقي، أكثر من ذلك نحن حينما نقول هذا وباعتبارنا مسلمين نعتقد أن أبانا الأول هو آدم صلى الله عليه وسلم وأن آدم عليه الصلاة والسلام رسول الله تعالى ونبي، وأن الرسل والأنبياء قمة في الفكر والأخلاق والسلوك، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن آدم عليه السلام لو وزن عقل آدم بعقل أبنائه جميعاً لرجحهم وزاد عليهم، نحن نتجاهل في الواقع بدائه وبسائط لا يجوز أن تغيب عن البال؛ النبوات السابقة ما هو وصفها، وما هو وضعها في القرآن، ثم من أين جاء الالتباس إلى عقول الدارسين، الذين ظنوا الأمور على النحو الذي شرحناه لكم، حين نمسك بالقرآن يا إخوتي من فاتحته إلى خاتمته ونقرأ أخبار الأنبياء الماضين قبل محمد صلى الله عليه وسلم نقف على حقيقة بسيطة ولكنها واضحة بل صارخة كل نبي أرسله الله تعالى قبل محمد صلى الله عليه وسلم فإنما أرسله بالإسلام وأمرنا لنسلم لله رب العالمين؛ ما جاء نبي فقال أرسلت باليهودية ولا قال أرسلت بالنصرانية ولا قال أرسلت بالإبراهيمية ولا بالمانوية ولا بأي شيء من هذا القبيل وإنما تضافر قولهم جميعاً على تقرير هذه الحقيقة الناصعة والصارخة وهي أنهم أرسلوا بالإسلام فلا دين إلا الإسلام مصداق ذلك أنكم تقرؤون في القرآن: (إن الدين عند الله الإسلام) ثم تذكر الآية الكريمة العلل التي فرقت الأمم الماضية عن هذا الإسلام فتقول:
)إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم(.
فالتحاسد الذي ينتج عن مؤثرات شتى نفسية ومجتمعية والذي ينتج عن ضغوط شتى، تأتي من مصادر متعددة هو الذي فرق كلمة الجميع وهو الذي شتت الأمة المجتمعة وهو الذي أعطى لبعض الديانات تسميات وأوصافاً خاصة، وكل ذلك بُعْدٌ عن الحقيقة بسبب البغي والتحاسد والتظالم بين الأمم الماضية لنأخذ لكم مقطعاً معبراً يذكره الله تعالى في سورة البقرة سأقرأه لكم على طوله (ما عليش) يقول الله تعالى بعد قصص طويل عن مآس كانت من أهل الكتاب، ومواقف محرجة ومزعجة ومحزنة وقفها الكتابيون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الدعوة يقول مندداً ومعنفاً وموبخاً:
)ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه(.
أي أضاع حظها من الخير والبر والمعروف (ولقد اصطفيناه في الدنيا) أي اخترناه واختاره الله على علم بقوامه هذه الشخصية وسلامتها ونقاوتها (وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم) ما قال له تنصر ولا قال له تهود (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لله رب العالمين) هل انتهى الأمر عند هذا الحد. لا...
تمضي الآيات فتقص ما كان من بعد (ووصَّى بها) –ماذا- بهذه الكلمة التي هي الإسلام –(ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب)- أي ووصى يعقوب أيضاً بنيه – (يا بنيَّ إن الله اصطفى لكم الدين)- اختار لكم الطريق الواضح والمنهج الموصل إلى بر السلامة في الدنيا وإلى رضوان الله في الآخرة- (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) لاحظوا التنصيص المتكرر على الإسلام (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) ثم يلتفت الخطاب الرباني الكريم إلى الموجودين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى أسلافهم عبر التاريخ من خلالهم من اليهود والنصارى فيتساءل: (أم كنتم شهداء) –أي موجودين حاضرين (إذ حضر يعقوب الموت) يعقوب بن اسحق بن إبراهيم عليهم السلام جميعاً (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلاهاً واحداً –لا ثلاثة- )إلاهاً واحداً ونحن له مسلمون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون(.
بعد هذه الآيات يأتي حجاج:
)قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون(.(/3)
هؤلاء الناس الذين كانوا يَدَّعون يهودية ويدَّعون نصرانية -بيَّنَ الله جل وعلا في هذا المقطع- أن جُلَّةَ الأنبياء برءاء منهم، لأن الدين عند الله هو الإسلام فإذاً أول حقيقة نضعها أمام عيوننا ونحن في صدد هذا البحث هي أن الله لم يرسل رسولاً إلا بالإسلام، فما معنى الإسلام؟ من هناك كان المنزلق الذي ذهب منه بعيداً كثير -بل معظم الكاتبين- الذين تناولوا هذا الموضوع. الإسلام في أصل الوضع اللغوي هو الاستسلام، إعطاء المقادة، الانقياد، الخضوع، فهو رديف العبادة ورديف الدين على تباين في سعة المعنى وضيقه سلباً وإيجاباً. لا داعي لأن أشرح هذا الموضوع سيكون له؛ حديث في يوم آخر فحين نقول إن أصل الإسلام في الوضع هو الاستسلام فهل يكفي في تحقيق الإسلام أن أقول: (أسلمت له رب العالمين)؟
ذهب معظم الباحثين وعلى الأخص الإسلاميين منهم إلى أن الرسالة التي كانت تأتي على نبي سابق قبل محمد صلى الله عليه وسلم هي الإسلام في الواقع لكن بهذا المعنى اللغوي، أما الشرائع والأحكام فقد تضيق وقد تتسع وقد تكون وقد لا تكون هذا في الحقيقة خطأ لأننا لو قلنا (أسلمنا لله رب العالمين) فأول سؤال يتوارد إلى ذهن الإنسان: أسلمتَ لماذا؟ وعلى أي أساس؟ هل انتهت القضية عند قولي أشهد أن لا إله إلا الله أم لهذه القضية توابع هل انتهت القضية عند هذا الكلام أم الكلام هذا مبدأ له مضمون وله محتوى وله إفرازات لا بد أن تتمثل في الواقع المعتقدي للإنسان وفي السلوك الشخصي للفرد وفي النظام الذي يحكم الفرد والجماعة جميعاً وفي النظام الذي يهيمن على المجتمع الإنساني كله لا شك أن الحياة التي تأبى الفراغ وترفضه وتقرر لنا أن الإسلام لا يكون إسلاماً حين أقول لا إله إلا الله وأطيع نزواتي وأطيع أهوائي وأطيع غرائزي وأن الإسلام لا يستقيم لي وأنا أشعر بالرغبة فيما بين أيدي الناس وأنا أشعر بالرهبة من الناس لا شك أن الإسلام لا يستقيم أبداً وأنا أتحاكم فيما يعروني من شؤون إلى أمور لا يرضى عنها الله جل وعلا بل هي تتصادم وتدمر وتخرب ما أراد الله تبارك وتعالى فالمسألة ليست مسالة كلام. وإذا رجعنا إلى وقائع السيرة النبوية نجد أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له يا نبي الله علمني ما أقول لكي أكون مسلماً قال (قل آمنت بالله وتخليت) آمنت بالله وتخليت؛ أمران يتظافران ويتعاونان على تحقيق قضية الإسلام التي تكررت على ألسنة الأنبياء جميعاً إيمان مطلق بالله ووضع للمقادة بين يدي الله وتخل وترك لكل ما كان الإنسان عليه في الجاهلية من عقائد وطبائع وأخلاق وشرائع وآداب وما أشبه ذلك أي تهيئة النفس وتهيئة المجتمع لكي يدخل عالماً جديداً قوامه أنه أوامر تصدر من قبل الله أو من قبل رسوله صلى الله عليه وسلم معزولة تماماً عن كل ما يسيء إلى استقامة الحياة واستقامة الاعتقاد واستقامة الأخلاق واستقامة التشريع.(/4)
من هنا انزلق إخواننا الذين درسوا هذه المسألة فظنوا فعلاً أن البشرية تمشي أطواراً وهذا غلط فالبشرية من حيث هي بشرية فطر الله الناس عليها؛ فطرها كما أخبر في القرآن على هذا الإسلام (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) فهذا الإٍسلام إذاً هو الفطرة وهو الفطرة التي حوت ما يتجاوب معها من عقائد ونظم وتشاريع أي أن الإسلام يأتي معك بكل مستلزماته على صعيد الشعور وعلى صعيد العقل وعلى صعيد الفرد وعلى صعيد الجماعة وعلى صعيد البشرية جميعاً وبغير هذا لا يمكن أن يستقيم الإسلام بصورة بَاتَّة، إذا كان الأمر كذلك؛ فهنا لا بد أن نطرح سؤالاً: هل الرسالات التي جاءت على لسان إبراهيم وموسى وعيسى وسائر رسل الله هي ذات الرسالة التي جاءت على محمد صلى الله عليه وسلم أجازف فأقول نعم في الأعم الغالب. فنحن نعلم أن الله أخبر في محكم الكتاب أن كل رسول دعا إلى الوحدانية، وهذا أصل الأصول في الإسلام الذي نعرفه والذي أبلغنا إياه محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أن الصلاة نداء توجه به كل نبي جاء إلى هذه الأقوام (وأوصاني بالصلاة) ونحن نعلم أن الزكاة شرع نادى به كل نبي قص الله علينا قصصه في القرآن، ونحن نعلم أن الله أخبر أن الصوم فريضة ماضية على أمم القديمة (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) نحن نعلم أن الحج فريضة قديمة إذ قال جل وعلا مخاطباً إبراهيم عليه السلام (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر) هذه هي المحتويات العبادية لرسالة الإسلام حين تطلق الصلاة وتطلق الزكاة ويطلق الحج وما أشبه ذلك فالمراد قطعاً مدلولاتها الشرعية ومدلولاتها الشرعية معروفة؛ عندنا نسب معينة تؤخذ في الزكاة ركوعٌ وسجودٌ يقام في الصلاة، إمساك عن المفطرات يلتزم في الصيام. زيارة لبيت الله على نمط مخصوص يلتزم في الحج؛ فلا يمكن أن نصرف هذه الأشياء إلى معنى غير المعنى الذي تعارفنا عليه عندنا في الإسلام لأن النص جاء مطلقاً ولا نملك أن نقيد هذا النص بل نحن نجريه على المعهود عندنا في شريعة الإسلام هل لهذه العبادات وظيفة تؤديها في المجتمع نقول نعم نحن نخطئ كثيراً إذا ظننا أن جملة عقائد الإسلام مع عباداته مع آدابه وأخلاقه مع تشريعاته على المستوى الشخصي والمستوى الجماعي والمستوى العالمي أمور يمكن أن ينفصل بعضها من بعض لا يمكن حينما يتعطل جانب من جوانب الإسلام ولو صغير ينعكس الخلل على القضية بكاملها حتماً لازماً. ولهذا كانت مواقف النبي صلى الله عليه وسلم متشددة في هذه القضايا التي يتهاون بها الناس اليوم.
جاء رجل فقال يا رسول الله عدد علي شرائع الإسلام فعدد عليه رسول الله شرائع الإسلام قال يا رسول الله أبايعك عليها جميعاً إلا الصلاة والجهاد قال له لا صلاة ولا جهاد فبمَ تدخل الجنة؟ إذا لم تصل فتربط نفسك بالله وتذل له وتخشع، وإذا لم تجاهد أعداء الله تبارك وتعالى لتضع نفسك جندياً مطيعاً بين يدي خالقك؛ فما هو الذي يبيح لك أن تدخل الجنة؟
جاء آخر فقال نفس القول فعدد عليه النبي شرائع الإسلام فقال الرجل:
- يا رسول الله أعفني من الصلاة.
قال له: يا هذا إنه لا خير في دين لا صلاة فيه.(/5)
فالواقع أن الشرائع التي ننظر إليها نظرة غير جدية؛ ذات علاقة وثيقة بجميع شعب الإٍسلام. إن الإسلام بناء. بناء لو اختلت منه لبنة في زاوية من زواياه تعرض للدمار والانهدام فما دامت شرائع الإسلام لها عملها المباشر في ترقية النفس وفي تهذيبها وفي تكملة الشخصية الإنسانية وفي ترقيتها فهي إذاً لازمة من لوازم كل نبوة لا يمكن أن تخلو نبوة من النبوات من شرائع ومن آداب تشد أزر العقيدة كما تشد أزر الجماعة هنا قضية أعتقد أنها مفروغ منها يبقى سؤال حول هذه النقطة "طيب إذا كنا نقول إن هذه الشرائع لازمة، لنقل إنها لازمة لكن هل من اللازم أن تكون هذه الشرائع على هذا الوجه بالذات؟ نقول أيضاً: نعم لأمر بديهي يعرفه كل مسلم يفكر قليلاً. ربما يسأل سائل ما حكمة كون الصلوات خمساً ولم تكن عشراً، لم تكن ثنتين ولماذا يصوم الناس شهراً ولا يصومون شهرين أو يوماً واحداً، ولماذا يحجون إلى بيت الحرام ولا يحجون إلى البيت المقدس و.. و..... إلى آخره وما الفرق بين أن نعطي من أموالنا 2.5 بالمائة ولا نعطي عشرة بالمائة أو واحداً بالمائة نقول بلا تردد وبكل بساطة: إن الوضع الذي شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم هو خير وضع يساعد على أن تبلغ الشخصية الإنسانية غاية كمالها وغاية سموها ورقيها. ولو علم الله جل وعلا أن الزيادة أو النقص في الصلاة أو الزيادة أو النقص في الصيام أو الزكاة أو ما أشبه ذلك أو أي تغيير يحقق مصلحة البشرية بأفضل مما هي عليه الآن؛ لكانت رحمة الله جل وعلا قاضية بإحداث هذا التغيير ولكن في سابق علم الله تبارك وتعالى يجب أن ترتب الأمور بهذا الشكل لأن هذه الصيغة هي الوحيدة من بين جميع الصيغ الأخرى -التي قد تخطر بالبال- هي التي تساعد على إيصال الإنسان إلى المكانة التي أراد الله تبارك وتعالى أن يصل إليها كي يكون إنساناً مسلماً فإذا قلنا إن عبادات الأقوام السابقة كانت مغايرة لعبادتنا، وقلنا إن الرحمة الإلهية تجلت في كون العبادات بالشكل الذي شرحناه والذي نعرفه، فإن الله جل علا قد حجب عن الذين من قبلنا وفقاً لهذا المنطق جانباً من الرحمة كان يجب أن لا يحجبه، وهذا سفه لا يتورط به أحد من الناس بله ربك جل وعلا -العالم بكل شيء المقتدر على كل شيء- إذا كان الأمر كذلك فلماذا إذاً وحين ننظر إلى الديانتين الأقرب إلينا اليهودية والنصرانية، لماذا اختلفت عقائدنا عن عقائدهم وشرائعنا عن شرائعهم وعبادتنا عن عبادتهم وآدابنا عن آدابهم؛ واحد من أمرين إما أن نخضع للتصور السباق وإما أن نقول إن اليهودية والنصرانية على الوجه الذي هما عليه، ديانتان محرفتان من وجهة نظرنا كمسلمين نقرأ القرآن ونسمع أحاديث محمد صلى الله عليه وسلم؛ نقطع جزماً بأن الذين أوتوا الكتاب من قبلنا حرفوا كلام الله حتى وافق أهواءهم وشهواتهم وسايروا الأوضاع التي هم عليها والأمر لا يقف عند هذا الحد كما سأشرح ولكنه يتناول فعلاً حقائق تاريخية يعترف بها اليهود ويعترف بها النصارى. فاليهودية ولندع يعقوب وبنيه ولندع استقرارهم في مصر وهي حقيقة تاريخية تشهد عليها نقوش معبد الكرنك بمصر - لندع هذا كله- ولنقف باختصار وقفة مع موسى عليه الصلاة والسلام؛ ماذا أراد موسى من فرعون، موسى رجل تربى في بلاط فرعون، كان بنو إسرائيل يقاسون عذاباً مراً وهواناً عظيماً، كان فرعون يأمر بأن يقتل أبناؤهم وتُستحيا نساؤهم وكانوا حسب نص التوراة يشتغلون في الطين والأرض يسخرون في أعمال البناء والحرث والزرع كما تسخر الرقيق والدواب والأنعام؛ فجاء موسى المتربي في بيت فرعون بعناية إلهية بعد أن كان قد أمر بأن يقتل جميع الأطفال الذين يولدون للإسرائيليين، جاء بعناية إلهية فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ونشأ موسى في بيت فرعون إسرائيلياً من جملة الإسرائيليين، حتى بلغ رتبة القيادة في جيش فرعون، ثم اختصه الله بالرسالة هو وأخوه هارون عليهما السلام، كان قد مضى على وجود الإسرائيليين في مصر أكثر من سبعة قرون قاسوا خلالها من الظلم والإرهاب ألواناً؛ فكان طلب موسى عليه السلام ينحصر بعد الجهر بوحدانية الله في وجه فرعون الذي يقول يا قوم (أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي كان طلبه (أن أرسلْ معي بني إسرائيل) هذه الحالة من الظلم والإرهاب والقسوة الفظيعة، لا يمكن أن تزكو معها رسالة، هذا الوجود الذي كان عليه بنو إسرائيل لا يمكن أن يسمح بانتشار الرسالة؛ لسبب بسيط هنا عندنا دين يأتي أين؛ ضمن دولة قائمة ومستقرة لها شرائعها ولها قوانينها وسلطاتها ولها آدابها، موسى عليه السلام نبي يتحرك بتحريك الله إياه لا يتحرك من تلقاء نفسه؛ أراد كما أراد محمد صلى الله عليه وسلم أن يستنقذ الدعوة من وسط لا يتوفر فيه أي شرط لنمائها ولزكائها ولتقدمها ولحفظها فقال (أرسل معي بني إسرائيل) اسمح لهم بالهجرة من أرض العسف والظلم والطغيان لأن الطغيان، إذا طال والظلم إذا طال لا سيما(/6)
حين يكون في ظل دولة مستقرة الدعائم ذات شرائع ونظم؛ يمكن بكل بساطة أن يحكم العقيدة وأن يدخل التحريف على صلب الرسالة -فخرج بمعجزة إلهية- أخرج موسى بني إسرائيل فلما جاوز بهم البحر مروا على أقوام يعكفون على أصنام لهم في تلك المناطق في برية سيناء كانت قبائل الكنعانيين العرب منتشرة في ذلك الحين على شكل جماعات من القبائل الرحل، وكانوا أيضاً أصابهم من الانحلال مثل الذي أصاب بني إسرائيل، بعد تطاول الزمن واندراس معالم دين إبراهيم عليه السلام فمروا على أقوام يعكفون على أصنام لهم؛ ماذا كان كلام بني إٍسرائيل الذين يرون الآيات بأم أعينهم والذين يقودهم رسول الله موسى عليه السلام (قالوا يا موسى أجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يصنعون) هذا الذي ترونه من عكوف هؤلاء الأقوام على الأصنام يعبدونها ويقربون لها القرابين؛ باطل أي كريه ومتبر ما هم فيه أي أنه سيهدم لأن ذلك باطل.. وسيظهر على وجه الأرض أنه سوف يدك ويتبر؛ لأن جراثيم الفناء والموت تعيش مع كل كيان الباطل، ولكن بني إسرائيل الذين طالت عليهم عهود الرق وعهود العبودية، ما استطاعوا أن يستوعبوا هذه الفكرة؛ أتاهم الله جل وعلا بالأنعام أنزل عليهم المن والسلوى فقالوا لموسى (ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) من يستبدل الثوم والعدس بالمن والسلوى.. (اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم) أكلاف الكفاح والجلاد ثقلت عليهم؛ بنو إسرائيل كانوا يحملون رسالة هي رسالة التوحيد ورسالة التوحيد أبداً هدف لكل ضال ومضل يوجه إليها كل ما عنده من وسائل الفتك والإفناء والتدمير وكان مطلوباً من بني إسرائيل في ذلك الحين أن يجادلوا ويجابهوا أعداء الله ولكن وهذا أول دروس التجربة تبين أن الأمم حين تعيش قروناً طويلة على الذل وعلى العبودية وعلى تقبل المهانة تفقد جميع خصائص الرجولة وتفرغ من جميع المهيآت لأكلاف الجهاد والجلاد في سبيل الله؛ القضايا العظيمة القضايا الكبيرة لا تحملها إلا النفوس الحرة الكبيرة وهنا أو فارق نضعه أما أعيننا أو نضع إصبعنا عليه بين وضع بني إسرائيل كحملة لرسالة فشلوا في حملها من أول الطريق بسبب العبودية وبين ثبات المسلمين العرب – الذين نشأوا على خلائق الحرية وخلائق التحرر حتى أصبحت حرية الواحد منهم تساوي وجوده بل تفوق وجوده حتى إن الواحد من المسلمين بعد تنزل الرسالة يقول يا محمد ولا يقدم ذلك بسلسلة طويلة من ألفاظ التفخيم والتعظيم والإجلال والتقدير؛ فإذاً لا بد من شرط جوهري لحمل كل رسالة عالمية وعالية هي أن يكون الشعب الذي يحملها شعباً حراً، ومن هنا النظرة غير المستريحة التي ينظر بها الإسلام إلى كل تسلط وإلى كل إرهاب وإلى كل افتئات على حقوق المواطن الفرد فلا يسمح الإسلام بإيذاء الفرد ولا بسلبه ماله ولا بجلده بل يقرر فيقول: (ظَهْرُ المؤمن حِمى) ويقول: (لا تضربوا عباد الله فتذلوهم) لأن الإسلام جاء ليحرر، ومن هنا يرفض الذل والإذلال ويدمدم على الذين يريدون أن يذلوا عباد الله تبارك وتعالى هذه أول الحقائق من أين جاءت ما الذي سببها وجود حملة الرسالة في ظل سلطة لا تقبل الرسالة -نمشي مع الزمان- فنجد أن بني إسرائيل بعد استقرارهم في الأرض المقدسة تعرضوا لهجمات وسُبُوا؛ كان السَّبْيُ البابلي وكان النبي الفارسي والسبي في ذلك الوقت يعني الاسترقاق ويعني قتل الرؤساء، ويعني إحراق الكتب الدينية؛ من أجل هذا ففي السبي الأخير بعد خراب بيت المقدس ضاعت من أيدي الإسرائيليين حقائق التوراة جميعاً، ويذكر أن أحد الملهمين فيهم بعد أن عادوا سمح لهم إمبراطور فارس بالعودة إلى فلسطين، أملى عليهم التوراة من حفظه، وهذه طبعاً فرية لا يمكن أن نقبلها بحال من الأحوال ونسخ التوراة الموجودة الآن بين أيدي اليهود لا يستطيع أي عالم غير متحيز أن ينسبها إلى موسى صلى الله عليه وسلم؛ لأن الحقيقة التاريخية الصارخة تقول إن نسخ التوراة الأصلية ضاعت في حوادث السبي المتكرر التي نزلت ببني إسرائيل.(/7)
دعونا من بني إسرائيل؛ تعالوا على النصارى نشأ عيسى إسرائيلياً من الإسرائيليين ولكنه نشأ في ظل الإمبراطورية الرومانية الإمبراطورية الرومانية، يصدق عليها ما يصدق على مصر كذلك إنها إمبراطورية عريقة ورثت الحضارة الانجيه والايونيه، ورثت حضارة الإغريق واليونان وورثت كثيراً من النظم والعقائد التي وجدتها في المنطقة من أمثال شرائع البابليين والآشوريين وما أشبه ذلك فهي إمبراطورية واضحة المعالم بينة التشريعات لها رأيها الواضح في كل شأن من شؤون الجماعات؛ ولكن الرومان كانوا قوماً وثنيين يعبدون الأصنام فنشأت النصرانية في ظل الإمبراطورية الرومانية كان أن انصب عليها تياران من الإرهاب منذ أول نشأتها، اليهود الذين حسدوا عيسى عليه السلام أصبحوا يطاردونه ويستعينون بالسلطة لضربه وضرب الرسالة التي جاء بها، الإمبراطورية الرومانية حينما لاحظت الانتشار الهائل الذي تحققه النصرانية بدأت ابتداء من عام 64 للميلاد في عهد نيرون باضطهاد المسيحيين ماذا كان الاضطهاد يعني؟ كان يعني السجن وقتل الرهبان، وكان يعني تحريق الكتب، وكان يعني المطاردة في كل مكان. تناله أيدي الرومان في ذلك الوقت في القرن الأول وفي القرن الثاني للميلاد نجد أن أهم الذين برزوا من القديسين كانوا القديس (جوسين جوسيه) والقديس أناغورا والقديس تاتيان هؤلاء الثلاثة عاشوا في أوائل القرن الثاني للميلاد حينما نرجع إلى دراسة أقوالهم وكلامهم واحتجاجاتهم ضد السلطة الرومانية التي تنكل بالمسيحيين نجد أنهم يضربون على وتر –لاحظوا- كانوا ينددون بالإرهاب ويقولون بصراحة إن القسوة والفظاظة والغلظة لا تحل المشكلة، ولكنهم يطلبون من أباطرة الرومان، أن يتحقق بينهم وبين الدولة الرومانية شيء من الوفاق علام يدل هذا يدل على ملل أصبح يتسرب إلى نفوس الدعاة، ما جاء القرن الثالث أو الرابع أوائل القرن الرابع في عام 311 بدأت مراسيم التسامح التي أصدرها الإمبراطور قسطنطين، في وجه الخلافات التي كانت ظاهرة في المجتمع الروماني القديم وأراد أن يشد عرى المملكة في عام 313 أصدر مرسوم ميلان الشهير والذي جعل النصرانية ديناً له حق البقاء على قدم المساواة مع بقية الأديان الوثنية واليهودية وغيرها التي كانت موجودة في ذلك الوقت بعد عشر سنوات من هذا التاريخ أي في عام 323 بالضبط اعتنق الإمبراطور قسطنطين النصرانية في ذلك الوقت ظهر بين النصارى آيوس, آيوس أحد البطاركة والعلماء الكبار في النصرانية أنكر على النصارى ادعاءهم ألوهية المسيح عيسى بن مريم وقال إن عيسى عبد مخلوق لله تعالى، حلت عليه نعمة الله بالرسالة فقط وأما كونه إلهاً فشيء لم تعرفه القرون المسيحية الأول على الإطلاق، ظهر هذا الرجل في الإسكندرية، ولاحظوا الإسكندرية، لأقول لكم بعد قليل ماذا يعني أو ماذا تعني هذه الظاهرة هذا كان متى في عام 323 في عام 325 بالضبط دعا الإمبراطور قسطنطين الرهبان البطاركة ليجتمعوا في مجمع ديني يقررون فيه شؤون العقيدة، ويقبلون ما هو مقبول ويرفضون ما هو مرفوض، وفقاً للعقائد النصرانية فكان (مجمع خلقيدونيا) المعروف في التاريخ النصراني مجمع خلقيدونيا هذا اجتمع وكان معظمه يدين برأي آريوس؛ يقول بألوهية الله الواحد، ورفض ألوهية المسيح أو بنوته لله تبارك وتعالى، كم عدد الرهبان الذين اجتمعوا في ذلك المجمع؟ ألفان وثمانية وأربعون راهباً؛ اجتمعوا فلما اجتمعوا اختلفوا، وكانوا يجتمعون تحت إشراف الإمبراطور قسطنطين الوثني، الذي دخل النصرانية حديثاً يحمل كل موروثات الوثنية؛ فلما رأى أن الأمر هكذا اختار من بينهم ثلاثمائة وثمانية عشر راهباً فقط وجمعهم تحت رئاسته، فلما اجتمعوا أغلق عليهم الباب ووضع خاتمه وصولجانه بين أيديهم، وقال لهم: قرروا ما تقررون وعلي التنفيذ، أين ذهب رأي الآخرين وهم ألفان وثمانية وأربعون، ألف وأكثر من سبعمائة راهب كانوا يخالفون هذه المجموعة الصغيرة؛ لم يشأ قسطنطين أن يأخذ آراءهم وإنما تبني رأي مجمع خلقيدونيا الصغير؛ الذي نص على حرمان كل قائل؛ بأنه مضت لحظة من الزمان لم يكن فيها الابن موجوداً ولم يكن فيها مولوداً قبل الدهور وأن الابن والأب متساويان في الجوهر، كلاهما أزلي قديم، وكلاهما إله حق من إله حق، هذا المجمع أيضاً حَرَّمَ آيوس، وحرم قراءة كتبه، وقرر مطاردة الوحدانية بصورة عنيفة وكتب قسطنطين إلى الآفاق؛ يأمرهم بمطاردة هذه العقيدة؛ لماذا في الإسكندرية ولماذا يا قسطنطين من وراء الدهور ومن تحت أطباق الأجداث لسبب الرومان. صحيح كانوا وثنيين ولكن التاريخ يعي وجود سقراط وأرسطو وأفلاطون؛ وهم قمم من القمم العالية في الفكر البشري ساءهم أن يلاحظوا عند قومهم عبادة الأوثان واعتبروها هواناً وشيئاً لا يليق بالإنسان وأقروا بأن وراء هذا الكون خالقاً قادراً قاهراً هو الذي أوجدها، ولكنهم اصطدموا بعقبة الخالق الواحد الذي لا يتغير، كيف يصدر عنه العالم المكثر هذه الكثرة تقتضي(/8)
الحركة، والحركة تقتضي التغير، فلهذا لا يجوز أن يصدر عن الواحد الكثرة التي تقتضي التغير والحركة فقالوا كما تبلور ذلك على يد أفلوطين الإسكندري في الأفلاطونية الحديثة في مدينة الإسكندرية بأن الكون مؤلف من ثلاثة؛ العلة الأولى التي هي الله وهي علة ثابتة لا تخلق العالم مباشرة ولكن بوسائط تمنعها من التحرك، صدر عن العلة الأولى بواسطة نظرية الفيض؛ التي قال بها أفلاطون الإسكندري صدر عن العلة الأولى العقل الفعال العلة الأولى تقابل ماذا؟ تقابل الله، العقل الفعال الذي هو العلة الثانية تقابل ماذا؟ تقابل الابن الذي هو المسيح، صدر عن العلة الأولى العقل الفعال، وصدر عن العقل الفعال النفس الكلية التي تقابل الروح القدس ومن النفس الكلية تكاثرت حوادث الدنيا وأشياء الدنيا ومخلوقات الدنيا. التثليث الذي ابتدعته فلسفة اليونان كما تمثل في الفلسفة الأفلاطونية الحديثة هو تثليث النصرانية مع فارق جوهري فالأفلاطونية الحديثة تقر بهذه الأقانيم الثلاثة ولكن على تفاوت في المراتب المرتبة الأولى للنفس الكلية للعلة الأولى المرتبة الثانية للعقل الفعال المرتبة الثالثة للنفس الكلية أما النصارى فيقولون أن الأب والابن والروح القدس كلهم بمرتبة واحدة من حيث القدر ومن حيث قيمة الألوهية؛ فإذاً التثليث لم يكن في أساس النصرانية؛ وإنما جاء طارئاً بشهادة التاريخ وشهادة كتبهم بالذات. لكن لماذا تحت ضغط من؟ تحت ضغط السلطة القائمة؟ قسطنطين كان يمثل السلطة. وكما وضع كل ما يستطيع من إمكانيات في خدمة الرهبان الثلاث مئة وثمانية عشر؛ كذلك هؤلاء الرهبان وضعوا في خدمته كل ما يملكون من طاقة وتعاون. الطرفان على تبادل المنافع وكان ما كان مما حدثتكم عنه منذ ثلاث جمع، يوم قلت لكم: إن هذه المهزلة السخيفة توجت بأن قام البابا ليون الثالث في روما بوضع التاج على رأس شارلمان وانفصال الكنيسة إلى شرقية وغربية وانفصال الإمبراطورية إلى إمبراطورية شرقية في بيزنطا وإمبراطورية غربية في روما.(/9)
إذاً نحن أمام واقع راهن؛ إن السلطة بمالها من حدود وبما تفرضه من قيود تتنافى مع الرسالة وإن النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يكن من قانون الرسالات ما يحول بينه وبين هذا التفكير لكفاه، أن ينظر في تجربة النبوات كل تحريف حصل في النبوات السابقة فإنما سببه أن النبوات السابقة رضيت بهيمنة السلطة الزمنية القائمة فوجدت نفسها بعد زمان يطول أو يقصر مضطرة شاءت أم أبت لكي تحافظ على بقائها أن تساير السلطة الزمنية حذفاً وإضافة وما أشبه ذلك؛ والحبشة بلد فيه دولة له سلطان فيه قوانين وفيه ما فيه؛ ولو أن الوقت منفسح لشرحت لكم كل شيء ولكن تكفي هذه الإشارات العابرة لتدلكم على أن رسول الله صلوات الله عليه بما أنه يحمل عقيدة ترفض كل العقائد السابقة (واحد)، وبما أنه يحمل شريعة تطلب أن تخلي الساحة تماماً من كل شريعة أخرى لتحل محلها شريعة الإسلام (اثنين) وبما أنها تطلب شعباً لم تُذَلّلهُ السلطة ولن يعبده الإرهاب، ولن يُذَلّلهُ الاستبداد السياسي (ثلاثة)، بما أن الأمر كذلك فالحبشة غير مؤهلة بما هي عليه في ذلك الزمان لأن تستوعب الرسالة المحمدية لسبب بسيط هو أن هذه الرسالة تريد أرضاً تتأقلم معها، ولهذا فنحن نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما سنحت الفرصة وانطلق إلى المدينة المنورة لم يجد أمامه شيئاً، كانت المدينة تستعد لكي تنهي عهداً طويلاً من التفرق والانقسامات، تستعد لِتُمَلِكَ عليها عبد الله بن أبي بن سلول فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن فشا الإسلام، وأصبح له ذكر في كل دار من دور الأنصار، وهاجر المسلمون المهاجرون من مكة إلى المدينة واستقروا هناك؛ فكان في المدينة فئات؛ كان المسلمون، وكان الذين بقوا على الشرك من الأوس والخزرج؛ وكان اليهود، وحين دخل النبي صلى الله عليه وسلم؛ اتفق الجميع كل الأطراف العرب مسلمين ومشركين واليهود معهم بمختلف قبائلهم، على أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم هو المرجع في كل خلاف يحصل، وهو السلطة التي توضع بين يديها مهمة تصريف شئون المدينة سواء كانت داخلة في اختصاص المسلمين أم كانت تتناول الوثنيين من العرب الذين لم يسلموا بعد، أو كانت تتناول قبائل اليهود الموجودة في المدينة فأول استقرار سبب الازدهار أن الإسلام مارس سلطاته الدستورية ومارس سلطاته التشريعية مباشرة، ولم يحتج أبداً أن يخضع لسلطة أو أن يعيش تحت ظل سلطة. أنشأ سلطته الذاتية لحسابه الخاص، وسار بها لكن بعد ماذا؟ بعد أن قضى مراحل نضجت فيها شخصيات المسلمين في المدينة من خلال العذاب، ومن خلال الصبر الطويل لكن إلى الحد الذي لا يسمح بتخريب النفوس؛ بقي هناك ثلاثة عشر عاماً فقط.. أتصور لو أن الأمر امتد إلى مئة وثلاثين عاماً أو أكثر من ذلك لكان للإسلام شأن آخر؛ اليهودية مضت عليها مئات السنين ستمائة أو سبعمائة أو أكثر من ألف سنة وهي تعيش في ظل سلطات زمنية تسومها الخسف وتذيقها العذاب ألواناً، فاضطرت لأن تلائم بين وضعها وبين متطلبات الطرق اليهودية، بقيت ثلاثة قرون بالضبط وهي تعاني المطاردة والتقتيل والتذبيح والحرق والشيَّ على النار البطيئة وإحراق الكتب ومخلفات الآباء؛ ثم كانت لها سلطة ولكن بعد ماذا، بعد أن دخل التحريف وبعد أن ضاعت معالم الرسالة الأولى لكن هذا الإسلام تحمل العذاب والإرهاق إلى الحد الذي شحذ العزيمة ونمى الشخصية دون أن يسمح بتخريبها بحال من الأحوال هذه هي صورة المسألة -يا إخوة- بقيت للمسألة جوانب أترانا في العصر الحاضر نستطيع أن نطبق ذات الشيء على مجتمعاتنا الحاضرة؛ سؤال مشروع ربما تأذى منه ناسٌ وسُرَّ له آخرون ولكنه سؤال يطرح نفسه بعنف بإلحاح أقول لا أدري؛ أمامي في التجربة الأولى رسالة انتقلت من العذاب إلى جو متحرر أسلمها مقادته بالكامل مئة بالمئة، وأمامي الآن مجتمع أو مجتمعات مسلمة وقوانين الإسلام نحن نعيش في مجتمعات منها من يتحرق شوقاً إلى وضع شرائع الإسلام وقوانين الإسلام موضع التطبيق ومنها قسم هائل وكبير يعيش على هامش الإسلام فقد اهتماماته التي تشده إلى هذه القضية وتجعله عاملاً من أجل الإسلام، ومنها أناس يهاجمون الإسلام بعنف وبشراسة ويريدون تحطيمه والكل يعيش في ظل سلطة زمنية لها قوانين ولها قواعد ولها شرائع وتدعي أشياء ما أنزل الله بها من سلطان طبيعي أن نقول إن دساتيرنا وإن قوانيننا وإن شرائعنا زد على ذلك آدابنا وأخلاقنا تتنافى مع الإسلام وأنه إذا كان الآباء الأولون يريدون من الإمبراطورية الرومانية أن يصلوا إلى صيغة مهادنة أو اتفاق فيما بينهم فنحن لا نملك هذا الحق بصورة من الصور. في الإسكندرية وفي موقع قيصرون بَنَتْ كيلوبترا معبداً -أقامت فيه صنماً- اسمه عطارد، وكان المصريون من أهل الإسكندرية يعملون له عيداً سنوياً، ويقربون القرابين ويقيمون الحفلات؛ ودخلت النصرانية إلى مصر واعتنق أهل الإسكندرية النصرانية، ولكنهم ظلوا يقيمون الأحفال والأعياد لعطارد، وفي زمن البطريرك(/10)
الحادي عشر للإسكندرية أراد أن يهدم الصنم فثار عليه الشعب أي الشعب النصراني قالوا له مضى أحد عشر بطريركاً لم يتعرضوا لهذا الصنم؛ فنحن نمنعك من هدمه، وفعلاً مُنع البطريرك من هدم الصنم وتعايشت النصرانية المحرفة مع الصنمية التي تراها بأم عينيها.
حينما أسلمت ثقيف بعد الحصار الذي ضربه عليها محمد صلى الله عليه وسلم ثم فكه عنها، وجاء إلى المدينة وجاء وفدها يعرض الإسلام طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا له:
يا رسول الله نحن أسلمنا وجئنا نحمل إليك إسلام القوم لكنا نريد منك أن تؤجل هدم صنمنا سنة.
قال: لا.
قالوا: ستة أشهر.
قال لا.
قالوا: شهراً.
قال: لا.
قالوا: ثلاثة أيام.
قال:لا، لا مجال للمساومة أبداً.
قال لهم لا، لا يوجد تأجيل -الإسلام والصنمية لا يتعايشان- قالوا له:
إذاً يا رسول الله نرجو أن تأذن لنا أن يهدم الصنم بيد غيرنا؛ أرسل غيرنا يهدم الصنم.
وفعلاً أرسل المغيرة بن شعبة مع لفيف من الأصحاب فهدموا الصنم، الإسلام لا يمكن بصورة باتة من حيث المبدأ أن يقبل شيئاً يتصادم مع عقائده ومع آدابه ومع شرائعه لكن هل أستطيع أن أنقل التجربة كلها إلى العصر الحاضر بما فيه؟ في هذا العصر مسلمون وفي هذا العصر أناس لا ذنب لهم لأنهم يتمتعون بقصور رؤية، والواجب أن تفتح أعينهم على سعتها نعم هناك أناس يخاصمون هل يمكن لنا أن ننقل التجربة لنقول إن علاج المرحلة الحاضرة هو نفس العلاج الذي كان سابقاً من حيث المبدأ أقول نعم.. نعم، نعم، من حيث المبدأ لكن من حيث التطبيق هل هذا يمكن؟ بين المرحلتين تباين؛ اتفاق من وجه وافتراق من وجه آخر، ولكي يكون القياس سليماً فيجب أن يكون المقيس والمقيس عليه متماثلين من كل وجه؛ إذا كان هناك اتفاق وافتراق فالحقيقة خاضعة لنسب الاتفاق والافتراق في الحقيقة التي هي موضع البحث، ولهذا لا أستطيع ولا أملك أن أعطي الرأي ولا أن أفتي بالموضوع وحسبي أنني أثرت القضية ويهمني يا إخوتي عن حق وعن صدق وبكل حب، ولكم يهمني أن أقول لكم كلاماً أرجو أن يستقر في أعماق قلب كل واحد منكم، هذا الذي تسمعونه رأي قابل للتعديل قابل للتطوير، قد نحذف منه وقد نزيد عليه والمسألة لا أستطيع أن أقضي فيها وبحسبي أنني أثير المشكلات وليس عليَّ كلما أثرت مشكلة أن أطرح جوابها ولكن عليّ وعليكم جميعاً وعلى كل الفاقهين والقادرين أن يتآزروا بالتفكير، التفكير الجاد المؤسس على قاعدة العلم القاعدة الصلبة والمدعم بحقائق التاريخ وحوادثه الثابتة لكي نطبّ لوضع المسلمين اليوم ولكي نعالج مشكلاتهم عند هذا الحد أقف وأظن أنني تركت فجوات كثيرة جداً أنا أدرى الناس بها، وأعرفكم بلا شك بالذي تركته ولكني آمل أن يكون هذا ختام الحديث عما يتعلق بالهجرة اللهم إلا أن يريد أحد من الإخوة أن يسأل سؤالاً معيناً وأنا سأكون سعيداً لو استدرك ذلك علي أحد أو استوضح فحينئذ أنا ملزم بأن أتقدم بالإيضاحات اللازمة وآمل إن شاء الله أن أنتقل بكم في الأسبوع القادم إلى ما هو الأهم عندي إلى النظر في طريقة الإسلام في تدعيم الإسلام في الداخل وفي الخارج على السواء كيف كانت طريقة المسلمين في أول مراحلها كيف كانوا يتلقون العذاب كيف كانوا يتحملون الإرهاق ولأية غايات آية كوى كانت يفتحها الله ويفتحها رسوله صلى الله عليه وسلم أمام المسلمين؛ كل ذلك سنبدأ بإثارته بدءاً من الأسبوع القادم أسبوعين أو ثلاثة لا أدري كل ما أريده أن يعين الله جل وعلا على إتمام ما بدأنا به وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتنا وحسناتكم وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين.(/11)
هدايا الشركات بمناسبة رأس السنة
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ العقائد والمذاهب الفكرية/ البدع/البدع المتعلقة ببعض الأمكان والأزمنة
التاريخ ... 2/11/1424هـ
السؤال
أسأل الله تعالى أن تكونوا وأهاليكم وجميع المسلمين بخير.
السؤال هو أن هناك هدايا تعطى بمناسبة كفرية، وهي رأس السنة الميلادية، وأخرى بدعية وهي مناسبة الهجرة المباركة، وهذه الهدايا تختلف من شركة إلى أخرى:
أ. فبعض الشركات ترسل مذكرات سنوية أو ساعات حائطية أو محافظ أو منتوجات أخرى إشهارية تحمل علامتها التجارية واسمها.
ب. شركات أخرى ترسل هدايا عبارة عن: كؤوس كريستال أو مجموعة صحون أو إبريق شاي أو صينية أو بعض أواني تستعمل للتزيين في المنازل.
ج. شركات أخرى ترسل الحلوى فقط.
فما مدى صحة ذلك؟ بارك الله تعالى فيكم وجزاكم خيراً والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
الجواب
إن كانت الهدية من شركة أجنبية (غير إسلامية) فلا بأس بقبولها، ولو بمناسبة رأس السنة الميلادية أو الهجرية، لأنه ليس بعد الكفر ذنب – أي أن مسؤوليها لا يطالبون بالفروع قبل الأصول –، وأيضاً ثبت في الحديث الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم قبل هدية من (المقوقس) ملك مصر وهو نصراني، انظر ما رواه الحاكم في المستدرك (6901)، والطبراني في الكبير (3497) والنبي – صلى الله عليه وسلم - أكل من شاة مسمومة لامرأة يهودية دعته إلى طعام فيما رواه البخاري (2617)، ومسلم (2190) من حديث أنس – رضي الله عنه-.
أما إن كانت الشركة المهدية (غير أجنبية) يقوم عليها مسلمون فلا يجوز قبول الهدية بهذه المناسبات غير المشروعة، بل المحرمة في الإسلام.
وقبول الهدية بمناسبة رأس السنة الميلادية فيه تأييد للمشركين أو تشبه بهم، وهذا حرام، لقول النبي – صلى الله عليه وسلم – "من تشبه بقوم فهو منهم" أخرجه أحمد (5114)، وأبو داود (4031) من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما - صححه ابن تيمية وقال دلائل الصحة عليه بادية.
وإن كانت الهدية بمناسبة رأس السنة الهجرية فلا يجوز أيضاً، لأن في هذا تشبه بالنصارى وابتداع في الدين، وفي الحديث الصحيح "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718). ولعل الحكم في قبول الهدية من أهل الكتاب في أي زمان دون غيره لقصد تأليفهم ودعوة لدخولهم في الإسلام.(/1)
هدايا الشركات للموظفين
المجيب ... أ.د. سعود بن عبدالله الفنيسان
عميد كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقاً
التصنيف ... الفهرسة/ المعاملات/الهبة والعطية
التاريخ ... 28/2/1424هـ
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فضيلة الشيخ أود أن أستفتيكم في موضوع الهدية، وإليكم المعطيات التالية:
(1) أشتغل بإدارة حكومية تابعة لوزارة المالية، وتعنى بالتأمينات والاحتياط الاجتماعي.
(2) تقوم هذه الإدارة من بين ما تقوم به بمراقبة شركات التأمين الموجودة بالسوق.
(3) في نهاية كل سنة ميلادية تقوم بعض الشركات بإرسال بعض الهدايا لعدد من المسؤولين بهذه الإدارة الحكومية ولبعض الموظفين العاملين بها كذلك.
(4) بعض هؤلاء المسؤولين، وأنا من بينهم، لست مكلفاً بالمراقبة وليس لدي احتكاك دائم أو مباشر مع مسؤولي أو موظفي هذه الشركات.
(5) في نهاية كل سنة ميلادية يقوم عدد من هذه الشركات بإرسال هدايا لعدد من المسؤولين وبعض الموظفين العاملين بهذه الإدارة الحكومية وخصوصاً المراقبين الذين يراقبونها.
(6) هذه الهدايا ترسلها الشركات إلى مقر الإدارة الحكومية في وضح النهار، وتحمل كل هدية اسم صاحبها، وتسلمها لإحدى المصالح بالإدارة التي توقع على التسليم، وتقوم بعد ذلك بإعطائها لمن وجهت إليهم.
(7) هذه الهدايا أنواع:
أ. فبعض الشركات ترسل مذكرات سنوية أو ساعات حائطية أو محافظ أو منتوجات أخرى إشهارية تحمل علامتها التجارية واسمها.
ب. شركات أخرى ترسل هدايا عبارة عن: كؤوس كريستال أو مجموعة صحون أو إبريق شاي أو صينية أو بعض أواني تستعمل للتزيين في المنازل.
ج. شركات أخرى ترسل الحلوى فقط.
الأسئلة:
بعض المسؤولين عن مراقبة الشركات وكذا المراقبين يأخذون هذه الهدايا على اعتبار أنها تأتي في وضح النهار، وأنها لا تؤثر في أدائهم لعملهم بأن يتجاوزوا عن أخطاء بعض الشركات، مثلاً. فهل يجوز لهم ذلك؟
بعض المسؤولين وبعض الموظفين الذين ليست لهم علاقة بمجال المراقبة ولا يتعاملون مع هذه الشركات، بل فقط هي التي تأخذ أسماءهم من الوثائق الحكومية العمومية وترسل إليهم الهدايا، يأخذون هذه الهدايا ولا يرون في ذلك بأساً ما داموا لا تربطهم علاقة مباشرة معها، فهل يجوز لهم ذلك؟
البعض الآخر من المسؤولين أو الموظفين لا يرى بأساً بأخذ الهدايا التي تحمل العلامات التجارية للشركات والتي غالباً ما تكون مواد إشهارية، ويجدون حرجاً في أخذ باقي الهدايا. فهل يجوز لهم ذلك؟
البعض الآخر لا يرى بأساً في أخذ هذه الهدايا ما دامت الشركات التي ترسلها تسجلها في حساباتها التجارية، ويسمح لها القانون المحاسبي بذلك، وتعفى المبالغ المالية المرصودة للهدايا من الضرائب. فهل يجوز لهم ذلك؟
وأخيراً كيف يتصرف الإنسان مع هذه الهدايا إذا كانت مما لا يجوز؟ وماذا يعمل من سبق له أن انتفع ببعض هذه الهدايا في سنوات سابقة؟
جزاكم الله خيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الجواب
يجوز للموظف أخذ الهدايا الرمزية والدعائية، التي تقدمها الشركات، ما دامت الشركات ترسلها للموظفين والمسؤولين في وضح النهار، وهي لا تؤثر على عطاء الموظفين والعاملين في وظائفهم فيتجاوزوا عن أخطاء تلك الشركات التي يقومون بمراقبتها، وما دامت هذه الهدايا يسمح بها القانون المحاسبي للشركة الدافعة، وتعفى المبالغ المالية المرصودة لهذه الهدايا من الضرائب، إذا كان الأمر والحال كما ذكرت يا أخي في سؤالك فلا حرج في قبول هذه الهدية المقدمة من الشركة ما دام عين الهدية حلالاً، لأن هذه الهدايا دعائية (إشهارية) للشركات، وجرت بها العادة للدعاية والمنافسة مع الشركات الأخرى، ولا يدخل هذا في الرشوة المحرمة لجميع من ذكرتهم في سؤالك، والله أعلم – وصلى الله على نبينا محمد-.(/1)
هدايا الغرباء
د. عبد الكريم بكار
في ظل الاتصال العالمي، وفي ظل سيطرة العولمة وانتشار مفاهيمها أخذت مشكلات العالم شرقاً وغرباً في التجانس والتشابه، أي يمكن القول: إن حاجة الإنسان في الغرب على المستوى الروحي والعقلي والأخلاقي لا تبتعد كثيراً عن حاجات مسلم يعيش في الشرق، لكنه ضعيف الالتزام وغارق في شؤونه اليومية. وعلى هذا فإننا يمكن أن نقول –مع شيء من التجاوز والتعميم- : إن ما يمكن أن يقدمه الداعية والمفكر المسلم لإخوانه في ديار الإسلام يقترب شيئاً فشيئاً مما يمكن أن تقدمه أمة الإسلام للأمم الأخرى مع بعض الخصوصيات والاستثناءات. وعلى هذا فإن هدايا الغريب المسلم تتقارب مع هدايا الأمة المسلمة. شيء مهم أن نعرف ماذا نهدي، لكن حتى نعرف ذلك فإن علينا أن نعرف شيئين: ما الذي لا نستطيع إهداءه، وما الذي يحتاجه أولئك الذين سنقدم إليهم هدايانا ومن حسن الطالع أن يكون -في أغلب الأمر- ما لا نستطيع إهداءه هو ما لا يحتاجه الآخرون.
من الواضح أننا لا نملك بإمكاناتنا وأوضاعنا الحالية أن ننشئ دورة حضارية عالمية ذات صبغة إسلامية تعقب الدورة الحضارية الغربية السائدة الآن، وتعكس هيمنة القيم والأفكار والاعتقادات ومناهج العمل والتفكير الإسلامية. نحن لا نستطيع هذا الآن لأننا لا نملك الوسائل والقوى المطلوبة لذلك.
أيضاً نحن لا نستطيع الآن أن نُحدث طفرة علمية وتقنية وبحثية تدفع بما هو متوفر عالمياً نحو الأمام، ونسدي بذلك للإنسانية خدمة تحسِّن في رفاهيتها واستغلالها لخيرات الأرض؛ لأننا لم نستوعب إلى الآن ما هو موجود ولا نسهم إلا على نحو محدود جداً في تطويره.
ونحن اليوم لا نستطيع أن نقدم نظاماً تربوياً أو تعليمياً أو إدارياً يتفوق على النظم الموجودة حالياً، لأننا لم نطور نظمنا القديمة، ولا استخدمنا الموجود بكفاءة. لكن في إمكان الفرد المسلم المتميز أن يقدم لأمة الإسلام أشياء مهمة في كل ما ذكرناه، إذا عرف أن (الغربة) تعني التفوق والتقدم على الصفوف، وليس الضعف والعزلة.
العالم الذي تبنيه العولمة اليوم، وتبشر به الرأسمالية والليبرالية يفتقر إلى رؤية تركيبية توليفية، يشعر الإنسان من خلالها بالاطمئنان إلى مصيره بعد الموت، وتوفر له في الوقت نفسه الإطار التوجيهي في حركته اليومية. ونحن الذين نملك هذه الرؤية.
وعالم اليوم مشبع بالوحشة والنفور واليأس والاستقلال الذاتي العدائي والعنجهية. وهو يحتاج حتى يتخلص من هذه الوضعية البائسة إلى من يقدم له قيم الأخوة والمباشرة والمؤانسة والتواضع والتضحية والتعاون. وهذا ما تؤكده المنهجية الاجتماعية الإسلامية.
عالم اليوم يستثمر أموالاً هائلة في السياحة والترفيه واللهو وكل ما من شأنه خدمة البدن. ولم يخطر في باله أن ينفق أي شيء في خدمة (الروح) وذلك لأنه أسلم قياده لثقافة لا تعرف عن الروح شيئاً، سوى أنهم يعدون (الخمر) مشروباً روحياً!! والمسلمون الملتزمون هم الذين يعرفون كيف يكون غذاء الروح، وكيف يُبنى الإشراق الروحي المسلمون مشغولون بأداء حقوق الله تعالى والبحث عن مراضيه، ويفهمون حقوق الإنسان والحيوان في إطار فهمهم لحقوق خالق الإنسان والحيوان وعلى هدي تعاليمه. أما حضارة اليوم فإنها تتحدث عن حقوق المرأة والطفل والعامل والسجين، كما تتحدث عن حقوق الكلاب والقطط ونظافة البيئة، لكنها لا تتحدث أبداً عن حقوق الله تعالى ولا تقيم لها أي وزن. ونحن نملك الرؤية الكاملة لتوجيه الحضارة في هذا الشأن. العالم الذي اتخذ من الصراع ناموساً للبقاء يملك ويكتسب الكثير الكثير من (العلم)، ويفقد مع الأيام ما تبقى لديه من (حكمة) عالم كثير علماؤه قليل حكماؤه. وما ذلك إلا لأنه لا يعادل غناه بالوسائل سوى فقره في الغايات. وأمة الإسلام وحدها هي التي تعرف الغاية من وجود البشر على هذه الأرض، كما يجب أن تكون المعرفة.
إن قارة (أوروبا) أسست الحضارة الحديثة، وما زال لها موقع متقدم في قيادتها، وهي تقدم الدليل تلو الدليل على قصور البناء الذي وضعت قواعده، وشيدت أركانه. وهل هناك دليل على ذلك أقوى من أن يستحي أي زعيم من زعمائها وأي رئيس من رؤسائها من أن يجري اسم (الله) على لسانه؟!
إن عالم اليوم لا يحتاج إلى التسامح فحسب، لكنه يحتاج أيضاً إلى من يدله على طريق الهداية، ويساعده على أن يقترب من الله تعالى شبراً أو ذراعاً، وهذا ما نملك القيام به.
هذه الوضعية تحملنا مسؤولية كبرى لأننا نملك فعلاً ما العالم في أمس الحاجة إليه.
لكن يجب أن نكون على وعي بأننا لن نستطيع أن نقدم للعالم على طبق من ذهب شيئاً نستخرجه من الكتب، ونسطره على الورق، ثم نذيعه في فضائية أو ننشره على شبكة (الإنترنت)، إننا لو فعلنا ذلك فحسب فإننا نكون كمن لم يفعل أي شيء.(/1)
إن القيم والأسس والمبادئ والمعاني التي لدينا، مهما كانت عظيمة وسامية فإن العالم لن يتقبلها إلا إذا تفاعلنا نحن معها أولاً، وقدمنا البرهان تلو البرهان على أن المنهج الذي استطاع إنقاذ أمة الإسلام وارتقى فعلاً بها، قادر على أن يفعل ذلك مع الأمم الأخرى. إن العالم يحب أن يرى شيئاً على الأرض، ولا يأبه كثيراً للكلام، فلنساعده على أن يرى.
هنا يأتي دور الغرباء، وهنا يتجسد جهادهم العقلي والروحي والسلوكي فهل نستطيع أن نجعل من (الغربة) هوية قادرة على بعث حركة ريادية داخل أمة الإسلام؛ كي نرى الأمة وقد أصبحت القوة العظمى التي تقوم بالدور نفسه على مستوى العالم؟ هذا ما نرجوه ونطمح إليه.(/2)
هدف أميركا تدمير الحضارة الإ سلامية
لقد مرّ عام على احتلال العراق السهل... ولكنه كان عاماً صعباً، تكبّدت فيه أميركا خسائر بشرية معلنة، وأكبر منها غير معلنة، وتكاليف مالية باهظة، وسمعة عالمية سيئة، وأظهر احتلالها، المكرّس في هيئة الأمم المتحدة، وجهها الاستعماري البغيض. فهي لم تترك باباً من أبواب القتل، والتدمير، والتهديد، والإذلال، وانتهاك الحرمات، واحتلال المساجد، وقتل المصلين فيها، وارتكاب أبشع المجازر بحق الشيوخ والنساء والأطفال، وتسخير تفوقها الهائل في المجال العسكري والاستخباراتي، ونفوذها السياسي والإعلامي والمالي في العالم... إلا واستخدمته من أجل أن يتم لها استعمار العالم من خلال احتلال العراق... ولكن أنّى يكون لها ذلك؟!...
إن ما تفعله أميركا تقول إنه من أجل القضاء على الإرهاب، وجعل العالم أكثر أمناً، من أجل نشر السلام العالمي، من أجل نشر أفكار الحرية، ومفاهيمها وقيمها الديمقراطية... ونقول نحن إنه من أجل القضاء على الإسلام، من أجل تحويل المسلمين عن دينهم إلى دين أميركا... نعم هذا هو صعيد الصراع، ويجب أن لا يخفى ذلك على أحد من المسلمين. إما دين الله، وإما دين أميركا. وبالتالي لا يوجد إلا موقفان: إما مع الإسلام وإظهاره، وإما مع كفر الديمقراطية... وما عداه تلبيس للحقائق، وحرف للمفاهيم، يسقط فيه من ضعاف النفوس من يسقط، ومهما تعلّل الساقطون، فإن عملهم يصب في مصلحة الطرف الآخر...
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا تجعل أميركا معركتها مع الإسلام، والعاملين له، وهي المنتصرة، القوية، المتقدمة، المتفوقة بما لا يقاس، بينما الإسلام لا وجود له على المسرح الدولي، ولا دولة له تمثله... أليس في هذا مبالغة كبرى؟ وحتى لا يظنّنّ ظانّ أن هذا التساؤل في محله، ننقل، وبإيجاز يتناسب وهذه الكلمة، بعض النقول من مسؤولين سياسيين، في موقع القرار، علها تزيل الغشاوة عن عيون من يسقط في فخ أميركا، ويفسر الأمور بحسب تفسيرها:
- قال «يوجين روستو» عندما كان رئيساً لقسم التخطيط بوزارة الخارجية الأميركية، ومستشاراً للرئيس جونسون: «ولا تستطيع أميركا إلا أن تقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي، والدولة اليهودية؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك، تنكّرت للغتها وثقافتها، ومؤسساتها. وإن هدف العالم الغربي في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية. وإن قيام إسرائيل هو جزء من هذا المخطط، وإن ذلك ليس إلا استمراراً للحروب الصليبية».
- وقال «كلارس» السكرتير السابق لحلف الناتو: «إن الحلف أقام الإسلام هدفاً لعدوانه مقام الاتحاد السوفياتي».
- وقال «بول وولفوفيتز» نائب وزير الدفاع الأميركي: «صحيح أن حربنا هذه ضد الإرهاب هي حرب ضد أناس أشرار، ولكنها أيضاً، وفي نهاية المطاف، حرب من أجل القيم، كما هي حرب عقول».
- وقال بوش الابن: «تلك الحملة الصليبية، تلك الحروب على الإرهاب، سوف تكون طويلة الأمد».
وما يجدر التذكير به، أن الدول الأوروبية لا تختلف، في عدائها للإسلام والمسلمين، عن أميركا ولكنها تختلف في مشروعها الاستعماري لهم.
إن الذي جعل صعيد الصراع يقوم عند أميركا على العداء للإسلام، أنه الدين الوحيد الذي يحمل فكراً متصلاً بالحياة، والمرشح لأن يكون بديلاً عن فكرها المفلس، وهو الحاجز الوحيد المتبقي في العالم، الذي يمنع امتداد فكرها. وهناك أمر آخر، وهو أن المسلمين بدأوا يصحون على دينهم، ويعتبرونه الخلاص لهم وللعالم كله بعدما أفلست الديمقراطية الفاسدة والمفسدة، وهذا يعني أن المسلمين يحملون مشروعاً مضاداً لمشروعهم، ومن تعاليمه بيان زيف الديمقراطية، ووضع حد لها في الواقع العملي... وهذا هو الموت لها، ولاستعمارها، ولغناها، إذ إنها تغنى على على حساب الآخرين.
هذا هو الصعيد وليس غيره، والمسلمون مطالبون بأن يفهموه جيداً. وإنه من مصلحة أميركما وأوروبا معها أن تلبّس على المسلمين فهم هذا الصعيد. وإزاء هذا الأمر، لا يوجد موقف بين بين، وليس أمام المسلمين إلا موقف واحد: أن يكونوا مع الإسلام. إننا أمام أمر واحد: هجمة أميركية على الإسلام، وعلى المسلمين، ليس فقط في العراق، بل رأيناها في أفغانستان، وفي باكستان، وفي كشمير، وفي جنوب السودان، وفي فلسطين... رأيناها في تصريحاتهم، وفي أعمالهم، وإن الحقد الذي يتصرفون به، والإجرام الكبير الذي يرتكبونه، والانتهاكات لبيوت الله... لا تترك أي مجال لأي مسلم أن يقع في فخ الشيطان، ويعتبر أنه يحق له الاختيار، فيختار المقاومة السلمية، أو المشاركة في مجلس الحكم، أو أن يكون شريكاً استراتيجياً لأميركا... أو يدّعي أنه يحقق، من موقعه، الخير للمسلمين، إذ لا خير يأتي من كل هذا، بل لا يأتي إلا الشر.(/1)
إن المسلمين مهما اختلفت اجتهاداتهم وحتى مذاهبهم، يبقون أهل بيت واحد، ويحرم عليهم أن يفسحوا المجال أمام عدوهم للدخول إليه، وإضرام النار فيه، وإن عليهم أن يقبضوا أيديهم عن التعامل مع عدوهم، وكائناً ما كان عذرهم، فإنه غير مقبول عند الله. إن مثل هذا التعذر، هو فوق مخالفته للشرع، يصب من حيث العقل والواقع في مصلحة أميركا واليهود، وكل أعداء الله، فكفى المسلمين تساهلاً وتفريطاً.
إن المسلمين اليوم يجب أن تكون طروحاتهم على مستوى ما يريده الإسلام منهم. وإن القضية التي يجب أن يتوحد عليها جميع المسلمين هي قضية إظهار هذا الدين، وجعل كلمة الله هي العليا على كل ما عداه.
إننا نتوجه إلى كل المسلمين، بكلمة صادقة، أن ييمموا وجوههم شطر التغيير الجذري، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا هو الصعيد الذي يريدكم الله سبحانه أن تيمموا وجوهكم شطره، وهو الصعيد الذي تخشى منه أميركا، وأوروبا، واليهود، وروسيا بوتين، والصين، والهند، وكل أعداء الله... لقد أثبت الواقع سابقاً أن الجيش الإسلامي لا يقهر، والأحداث اليوم تنطق بمثل هذا، ولا يحتاج الأمر حتى يكتمل إلا دولة إسلامية تجيش الجيوش الإسلامية التي لا تقهر فتفتح البلاد وقلوب العباد، وتدخل الناس في دين الله أفواجاً... وهذا هو الفارق بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.
أما آن للمسلمين أن يشتاقوا لذلك، وأن يتوجهوا إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي» وفي حديث «وعترتي»(/2)
هدي السلف في الاتفاق
د. يوسف محمد صديق*
الحمد لله أهل الحمد والهادي إليه والمثيبِ به، أحمده بأرضى الحمد وأزكاه لديه، على تظاهر آلائه وجميل بلائه، حمداً يكافئ نعمه، ويوافي مِنَنَه ويوجب مزيده، وأسأله أن يُلْهِجَنا بشكره، وينفعنا بحب القرآن المرشد في آيه الكريم للاتفاق (وإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)([1])، وقوله جل جلاله: (إنَّ اللَّه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفّاً كأنهم بنيانٌ مرصوص)([2])، وقوله جل جلاله: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)([3]).
الناهي عن الفرقة والشقاق في قوله جل جلاله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)([4])، وقوله جل جلاله: (وأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)([5])، وقوله جل جلاله: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ)([6])، وقوله جل جلاله: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ)([7]).
كما نسأله اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به في كل هديه، وفى جميع توجيهاته، ونخص منها دعوته للاتفاق والبعد عن الخلاف، كما نسأله أن يجعلنا ممن صمت ليسلم، وقال ليغنم، وكتب ليعلم، وعلم ليعمل،ونعوذ به جل جلاله من حيرة الجهل وفتنة العلم وإفراط التعمق، فكم من طالبٍ حظه العناء، وضاربٍ في الأرض غنيمته الإياب لا غيره، وقد جاب البلاد وفنى التِلاد، وقطع الرحم وضيع العيال على جفا الغربة وطول العزبة وخشونة المطعم.
فإن التقريب بين المسلمين والاتفاق عمل تعبدي بقوله جل جلاله: (ولا تنازعوا فتفشلوا)([8])، وإن وقع خلاف فهو سجال الإخوة وانجذاب المؤمنين.
من الخطأ افتراض أننا نعيش أوضاعاً ليس لها مثيل من قبل، ونخطئ ثانية حين نقترح البدائل من أنصاف الحلول والمواجهة، مقرين أنه يحب أن تختلف الطرق والأساليب، عما كان عليه الأمر في عهد السلف الصالح. وهذه النظرية ليس لها حظ من الصواب بل هي خطأ صراح، فلدينا سيرة نبوية عطرة أصل لحضارتنا وثقافتنا التي عايشت كل الظروف، مواكبة الحلو والمر منها، متجلية في فترة الضعف والتمكين، والكثرة والقلة، ومع الموافق والمخالف، وعايشت اليهود والمنافقين بالمدينة المنورة، والوثنيين بمكة المكرمة وجزيرة العرب، والنصارى في نجران وبلاد الشام، وضعفاء النفوس من المسلمين، كما عايشت الاختلاف في وجهات النظر منذ العهد النبوي الشريف ثم عصور بني أمية وبني العباس والدولة التركية حتى أسقطها كمال أتاتورك بخيانة عام 1924م.
والعبرة في مدارسة هدى السلف في الاتفاق، بشواهد وقواعد الثقافة الإسلامية العامة التي انطلق منها سلف الأمة مطبقين عليها مجمعين حولها، وليست بالاجتهاد الفردي غير الملزم، وإنما الملزم للناس هو الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع الثابت، وليس المدعى.
وليس ثمة حجر وابتداع أن يقع الاختلاف في النظر بين العلماء المجتهدين، مع رعاية أصول الاختلاف وأصول المناظرة والتنازع، فلا تأنيب ولا تدابر؛ وإنما خلاف يعقبه اتفاق، في أدب يكسو المعرفة جلاء ويزينها وضوحاً، يُبينُ عن طيب معدن المختلفين ويبرز مقاصدهم الحسنة، وحرصهم على الهداية، وبعدهم عن الهوى وحظوظ النفس، "قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب"([9]).(/1)
ليس من الفطرة السليمة أن تسعى البشرية إلى الله جل جلاله جادة على هذا الكوكب في تمزق متكئة على الخلاف متوكئة على الفرقة والتفكك والشتات،ولا من العقل الرشيد أن يشتهر علماؤها وعوامها بالتناحر والتناطح، وقد فضلهم الله جل جلاله وكرمهم وميزهم بالعقل وجعلهم من مصدر واحد ((كلكم لآدم))،أبيضهم وأسودهم،عربيهم وعجميهم،بل إن أشد ما يتنافى مع الفطرة،ويتعارض مع العقل، أن يوحد الله عباده في المنشأ والمصدر،ثم يفتعلون الفرقة في المرجع والمصير. ولعل من حكمة الله جل جلاله أن شمل القرآن الكثير من الأسس والأصول والقواعد التي تحمي هذا الكيان من التصدع،وتمكنه من أداء مهمته على الوجه الأمثل.
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ((ما أحب أن أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلفون؛ لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق))([10]). أي الاختلاف الذي يتحرى الصواب ويرصده، ويتحسس الحق في غير مداهنة أو تلبيس، شعاره التسامح لا التعصب، ومرماه التكامل والتقدم ومركزه العلم والتقوى
ويضرب الإمام الشافعي رضي الله عنه مثالاً رائعاًً في أدب الاختلاف الإيجابي البناء، فلم يستنكف أن يؤلف كتابه "اختلاف مالك"، يخالفه فيه ويرجح غير رأى شيخه الكبير إمام دار الهجرة، يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: "إني استخرت الله ونشرت الكتاب لما وجدت الناس افتتنت بمالك، وفضّلت حديثه على السنّة"([11]). وإذا كان الإسلام الحنيف يحث على وحدة الأديان السماوية (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين)، فمن باب أولى أن تتداعى الدعاة من حملة الثقافة الإسلامية، إلى التقارب بينها، سعياً للاتفاق في مسيرتها إلى الله جل جلاله، وهم يحاضُّون على القرآن والسنة ويدافع عن هدى السلف الصالح، والحالة أنهم من الوارثين في الأصول والمبادئ العامة وإن اختلفوا في الفروع اختلاف رحمة بعيداً عن التأثيم.
ولعل مثل هذا المؤتمر المبارك الذي تشهده الساحة الفكرية والثقافية اليوم، أن يثمر الكثير لصالح الإسلام والمسلمين، أقله التحليل الموضوعي لنزعة الاختلاف وحجمه وموضوعاته وأنواعه. ومن المسلمات أن دراسة نزاعات الخلاف وأسبابه وأدبه في ديننا، يساعدان على التقريب المقصود والاتفاق المنشود المحمود، وما أحوج الأمة إليه وهي في عصر الثورة العلمية، التي لا تحتمل التعدد المذهبي المبنى على الاختلاف والعداوة الفكرية الفجة.
نماذج من هدى السلف في الاتفاق
(1) هدى السلف واتفاقهم في فقه الخلافة والسياسية:
تعد مسألة نصب أول خليفة، أول مسألة فقهية خلافية واجهت سلف الأمة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولا تُعرف مسألةٌ فقهية سالت فيها الدماء وحزت رقاب المسلمين وعلقت، إلا في مسألة الإمامة الكبرى، وهي أمضى سلاح في تفرقة المسلمين، فهلا من وقفاتٍ لنستشف كيف تجاوز سلف الأمة رحمهم الله هذه المسألة العصيبة؟ وكيف حصل لهم الاتفاق المبارك على أبى بكر الصديق رضي الله عنه أول خليفة راشد في أول بادرة للنظام السياسي والتراتيب الإدارية لإقامة ونصب الخليفة؟
يقص علينا تاريخ التشريع الإسلامي مسطراً أروع مواقف الاتفاق، على قواعد وثوابت منها: لم ينعزل فقهاء السلف عن الأحداث العظام، مؤثرين البعد والسلامة أو متنسكين متزهدين أو يائسين قانطين، لا بل كان شعارهم ((من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم))، ديدنهم النشاط والمشاركة والتفاعل سواءً في عهد أبى بكر رضي الله عنه أو في عهد بقية الخلفاء الراشدين, فالفرد منهم وإن لم ينصب في منصب إداري أو قضائي أو عسكري إلا أن هديه رضي الله عنه كان التفاعل مع الأحداث، والسهر بجانبها وبذل كل الجهد ليؤدي دوره في الإصلاح والتغيير وفي ترشيد المسيرة وتسديد الأعمال والممارسات، مؤدياً ما عليه من مسئوليات تجاه الدولة وتجاه الأمة. غير مبالٍ بمنصبٍ رفيع أو دونه لا يمنعه من التفاعل والمشاركة والتعاون البناء وفى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((.. وطوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله إن كان في المقدمة كان في المقدمة وإن كان في السَاقة كان في السَاقة إن استأذن لم يؤذن له وإن يشفع لم يشفع..))([12]).
ومن الأصول والقواعد الثابتة في هديهم في جمع الكلمة ولمِّ الشتات أن المصلحة الإسلامية العليا هي الهم الأكبر والأصل الذي يجب أن تنحني إليه كل فروع المسائل الفقهية وغيرها، ويحرم أن ينطلق أي موقفٍ إلا من خلف مصلحة الإسلام والمسلمين الكبرى، فلا يتقدمها رأي ولا يُصغى لاجتهاد أو رأي لا حظ له ملموس في وحدة الدولة والأمة، وإزالة عوامل التوتر والتشنج في علاقات المسلمين وخصوصاً علاقات أهل الحكمة من العلماء أصحاب الدور الأكبر في تجاوز الأزمات وسكون الفتنة.(/2)
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل تنصيب إمام على المسلمين وجد الصحابة أنهم أمام خلافٍ لا بد له من فقهٍ عميق، يواجه منهجاً ورأياً يهدد المصلحة الإسلامية العليا والوحدة الإسلامية، إنها الفتنه بين الخليفة والمعارضين , فقد خلق هذا الخلاف جواً من الاضطراب والتخلخل في تماسك ووحدة الكيان الإسلامي، وفي ظل هذه الأجواء المضطربة الحادة، يظهر فقه السلف في الاتفاق، وتتفتح الآفاق، وتنهض العزائم، ولم ينعزل فقيهٌ ولا عالمٌ عن الأحداث، ولم يفر أحد عن الميدان, وإنما قام كل بواجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كأنه المعنيُّ الوحيد، حفاظاً علي تماسك الكيان الإسلامي، وعلي سلامة تطبيق منهجه الرباني في الاتفاق، من قبل الخليفة والولاة والأمة، فالكل يحاول تهدئة الأوضاع والعلاقات المتشنجة لكي لا تحدث الفتنة وتتوسع فيتمزق الكيان الإسلامي.
ولنقف مع عبارة علي رضي الله عنه مصرحاً بأفصح عبارة في هذا الموقف العصيب مخاطباً خليفة المسلمين أفضل رجل في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما الفرقة فمعاذ الله أن أفتح لها باباً وأسهل إليها سبيلاً, ولكني أنهاك عما ينهاك الله ورسوله عنه, وأهديك إلي رشدك, ألا تنتهي سفهاء بنى أمية عن أعراض المسلمين وأموالهم, والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك"([13]).
(2) هدي السلف واتفاقهم على تعيين بعض الولاة أو بعض قادة الجيش:
لم يحدثنا التاريخ أن السلف كانوا يعترضون علي تعيين الولاة أو قادة الجيش أو المحصلين والجباة، وخصوصا الذين لا يرونهم أهلاً للمسئولية, ولم يتدخلوا في تبديلهم أو عزلهم, ولم يقترحوا تعيين البعض دون البعض الآخر، وحديث ابن اللتبية خير شاهد على ذلك، فقد صبر الصحابة على تعيينه جابياً للزكاة حتى إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عبارته المشهورة "هذا لكم وهذا أهدي لي" مما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((هلا جلست في بيت أمك فيهدى لك))، فأين نحن من هذا الهدي في الاتفاق والبعد عن القيل والقَال، والهمز واللمز بحجة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقديم النصح. وتبرئة الذمة؟ وفى حقيقة الأمر هو نوع من التشويش والفوضى الفقهية، ولقد استمسكنا بهذه المقولة لأنها كانت المخدرة للضمائر والمضللة والمشعرة بعدم التقصير.
(3) هدى السلف واتفاقهم في قتال مانعي الزكاة:
كالتي حدثت مع مالك بن نويرة؛ حيث غلط في فقه الزكاة مع إقراره بالشهادتين وبالصلاة والحج والصوم والجهاد، ودبَّ الخلاف بين الفاروق عمر رضي الله عنه والخليفة الراشد الصديق رضي الله عنه، ولم تمض لحظات حتى وفق الجميع وجمع كلمتهم واتفقوا نابذين الفرقة والشقاق بعيداً.
(4) هدى السلف واتفاقهم فيما ارتكب من أخطاء في حرب مانعي الزكاة:
ولم يغفل سلف الأمة إنكار بعض الأخطاء التي ارتكبت, في حروب مانعي الزكاة، حيث سبيت النساء المسلمات وتزوج خالد بن الوليد رضي الله عنه زوجة مالك بن نويرة بعد أن استبرأها بحيضة واحدة، لقد تجاوز السلف هذه المحنة الفقهية، ولم تنقل كتب السير والمغازى إلا اعتذار خالد بأنه فهم من قول جماعة مالك ابن نويرة أنهم كفروا فقد كانوا يصرخون "صبأنا.. صبأنا" يريدون أننا على دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان المشركون يسمون المسلم بالصابئ، وانتهى الخلاف وحل محله الاتفاق وسارت سفينة الإيمان بالمؤمنين لا تعرف تعثراً ولا توقفاً عن نشر الدين الحق.
(5) هدى السلف في الاتفاق في مسألة كتابة التاريخ:
كان رأي بعض الصحابة أن يكتب من تاريخ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رأي عمر رضي الله عنه أن يكتب من تاريخ المبعث, وكان رأي علي رضي الله عنه أن يكتب من يوم الهجرة إلى المدينة, واستقر الأمر على رأي الإمام علي رضي الله عنه, كما هو مشهور في التاريخ([14]).
(6) هدي السلف في الاتفاق على فقه النظام المالي والاقتصادي:
وحينما وضع عمر رضي الله عنه الدواوين ودوَّنها في سجلاتها وفرق رضي الله عنه بين المسلمين بالعطاء على أساس السبق في الإيمان والهجرة؛ لم يعترض الصحابة عليه خاصة من قلَّ عطاؤه، أو من كان يرى التسوية بين من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربه وبين من قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الإسلام، وكان رأي علي رضي الله عنه التسوية في التوزيع. ولما آلت إليه السلطة وأصبح خليفة للمسلمين، ساوي في العطاء في وقت خلافته كما يذكر جميع المؤرخين, فقد يكون مراعياً للظروف الموضوعية في ذلك, أو عدم رغبته في مخالفة الخليفة أو الصحابة.
وأول بادرة للاستشارة حينما أراد الخليفة معرفة حقه في بيت المال, قال فريق من الصحابة: "ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف, وليس لك من هذا المال غيره"، فقال الصحابة المخالفون: القول قولك واندمل الخلاف([15]).
مجال الثروة:(/3)
وشاور عمر رضي الله عنه الصحابة في سواد الكوفة, فقالوا له: نقسمها بيننا, فشاور علياً رضي الله عنه فقال: "إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجئ بعدنا شيء, ولكن تقرها في أيديهم يعملونها, فتكون لنا ولمن بعدنا"([16]).
المجال القضائي:
(7) هدي السلف في الاتفاق في فقه القضاء والحدود:
أراد عمر رضي الله عنه رجم امرأة ولدت لستة أشهر فمنعه علي رضي الله عنه فرجع عن قراره.
وارتاعت المرأة من عمر وسقط جنينها فأشارت عليه الصحابة أن يضمن الدية, فقال عمر ((صدقتني))([17]).
(8) هدي السلف في الاتفاق في فقه المجال العسكري:
وحينما أراد عمر رضي الله عنه غزو نهاوند نصحه عدد من الصحابة بالبقاء في المدينة المنورة, وقال له علي رضي الله عنه: "أما بعد يا أمير المؤمنين, فأنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلي ذراريهم, وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلي ذراريهم, وإنك إن أشخصت من هذه الأرض انتفضت عليك الأرض من أطرافها وأقطارها.. أقرر هؤلاء في أمصارهم, واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق.. ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم)"([18])، وحصل الاتفاق بعد الخلاف، وينقلب الأمر والخلاف في واقعة أخرى فيشير فريق على عمر رضي الله عنه بالخروج بنفسه, وفريق من الصحابة يرى عدم خروجه، وذلك حينما تحصن المشركون ببيت المقدس وأجابوا إلى الصلح بشرط قدوم الخليفة عمر رضي الله عنه عليهم، فأشار عليه علي رضي الله عنه بالمسير إليهم "ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم"([19]).
وقال له:"إن القوم قد سألوك المنزلة التي لهم فيها الذل والصغار، ونزولهم على حكمك عز لك وفتح للمسلمين.. حتى تقدم على أصحابك وجنودك, فإذا قدمت عليهم كان الأمر والعافية والصلح والفتح إن شاء الله"، فأخذ عمر بمشورته([20]).
(9) هدى السلف في الاتفاق في مسائل الحلال والحرام:
لقد كان لنكاح المتعة، المنسوخ حكمه مثالاً لاتفاق السلف رضي الله عنهم، وأنموذجاً يحتذى به في تجاوز الخلاف بأقل قدر من المشورة والمعالجة المبنية على الدليل الشرعي من الأصلين الكتاب والسنة، فقد أفتى ابن عباس بجوازه، بيد أنه سرعان ما رجع عنه لما ناظرته الصحابة فيه وأبانوا له الدليل، وبعد أن سرت بفتواه العامة، ورجز بها فحول الشعراء:
يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس***هل لك في رخصة الأطراف آنسة
وما كان لينتهي أمر هذا المسألة التي تبيح الفروج والعروض وتصبح في قاموس التاريخ، لولا رغبة السلف في الاتفاق المبني على الدليل، والمستند إلى الفقه المستنير، بعيداً عن الممارسات المتشنجة والداعية إلى التباغض والعداء, والمشجعة علي التمرد والعصيان، ولاشك أن أكبر أسباب الاختلاف المبررات المبنية على رمال التأويل والتفسير بالرأي المذموم.
(10) هدى السلف في الاتفاق في مسائل العبادات:
صلاة عثمان رضي الله عنه في حجه بمنى أربع ركعات وقول ابن مسعود: ((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع وأبى بكر وعمر فصلوا ركعتين))، ثم عمد فصلى بجماعته كصلاة عثمان فلما سئل قال: ((الخلاف أشد)).
مبادئ وضوابط هدي السلف في الاتفاق
من أهم مبادئ سلف الأمة في الاتفاق وإقامة الوحدة وتعزيز أواصر صفها، وامتصاص عوامل الخلاف والقضاء عليها:
(1) مبدأ الحق:
إن قيام العمل الإسلامي على ميزان الحق، وتوازن العلاقات بين الفرد والمجتمع يضمن سلامة الاتفاق والوحدة. أما إذا اختل الميزان؛ فإن كافة العلاقات تتدهور، ويشيع الاختلاف والحقد والفساد. ومن الطبيعي أن يلتزم المؤمن بميزان الحق في كافة تصرفاته ومعاملاته، وأن يتجاوز المنافق ذلك ويقيم علاقاته على أساس من الهوى والمصلحة غير آبه لسخط الله.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((قل الحق وإن كان مراً))، ومن الواضح أن لقول الحق دوراً بيناً في إطفاء نيران المشاكل والخلافات، والقضاء على جذور الصراع؛ فإن من يقول الحق ولو كان على نفسه لا يرتكب الظلم أي أحد، وبالتالي فإنه يحافظ على علاقاته متوازنة عادلة مع الآخرين.
(2) مبدأ المشاركة والبعد عن الاستبداد بالرأي:
الناظر فيما يكتب اليوم في الإنترنت؛ يلحظ جرأة محمودة في الطرح والتناول للقضايا؛ تؤذن بانقراض زمن الصمت, وميلاد عصر المشاركة, والمصارحة, وحوار الآراء. ومن أقوال السلف وتوجيهاتهم في ذلك "من استبد برأيه هلك"([21])، "من شاور الرجال شاركها في عقولها، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ"([22]).
(3) مبدأ محاربة القطيعة والدعوة إلى المحبة والصلة والحوار والوحدة:(/4)
وللمتحابّين في الله أجر عظيم، منها: أن الله تعالى يقول يوم القيامة: (أينَ المُتحابّون بِجَلالي، اليومَ أُظِلُّهُم في ظِلِّي، يومَ لا ظلَّ إلا ظِلّي)([23])، ومنها دخول الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ((وَالَّذي نَفْسي بِيَدِهِ لا تَدْخُلوا الجَنَّةَ حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تَحابّوا، أوَلا أَدُلُّكم على شَيْءٍ إذا فَعَلْتُموهُ تَحابَبْتُم؟ أَفْشوا السَّلامَ بَيْنَكُم))([24])، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله عزّ وجلّ: المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نورٍ، يَغْبِطُهم النَّبِيُّونَ والشُّهَداءُ))([25])، وقال معاذ رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله تعالى: وَجَبَتْ محبَّتي للمتحابّين فيَّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذِلين فيّ)). ومرّةَ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد معاذ وقال: ((يا معاذ والله إني لأحبّكَ في الله، ثم أوصيكَ يا مُعاذ لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كلَ صَلاة تقول: اللّهمَّ أَعِنّي على ذَِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عبادَتِكَ))([26])، ومن وصايا السلف في ذلك: "لا تطلبن مجازاة أخيك وإن حثا التراب بفيك، ولا تصرم أخاك على ارتياب ولا تقطعه دون استعتاب، ولِنْ لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك".
(4) مبدأ محاربة الجدل:
ومن الأمور التي تمزق الوحدة وتزرع البغضاء: المراء والجدال والخصومة وسرعة اللوم، فهذه البلايا التي تمرض القلوب وتشحنها على الإخوان وينبت عليها النفاق. وإذا ما اضطر المؤمن إلى الافتراق والاختلاف مع أخيه وعدم التعاون معه وجب عليه أن يحافظ على لسانه، بل يفارق بحسن، ويخالف بحسن، ولا يتورط في الجدل والمهاترات الإعلامية التي توسع من خندق الشقاق، وتزيد في العداء والتفرقة.و السباب واللعن، والله جل جلاله يبغض اللعان السباب الطعان على المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بشراركم؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((المتفحش اللعان الذي إذا ذكر عنده المؤمنون لعنهم، وإذا ذكروه لعنوه)).
(5) مبدأ التواضع:
الاتفاق من الأمور المهمة التي تتأثر بالتواضع، وغني عن القول أن مبدأ التواضع يقلب حياة الإنسان إلى الأفضل ويجعلها أكثر ليونة وتالفاً واتحاداً مع الآخرين ((لينوا بأيدي أصحابكم))، فإذا كان الداعية متواضعاً اتسم بحب الآخرين والخجل من مدح الذات، والابتعاد عن الرياء والتفاخر والمباهاة وتضخيم الأعمال. يقول الإمام الصادق رضي الله عنه: "لا يصير العبد عبداً خالصاً لله عز وجل حتى يصير المدح والذم عنده سواء، لأن الممدوح عند الله عز وجل لا يصير مذموماً بذمهم وكذلك المذموم، فلا تفرح بمدح أحد فانه لا يزيد في منزلتك عند الله ولا يغنيك عن المحكوم والمقدور عليك ولا تحزن أيضاً بذم أحد فأنه لا ينقصك عنك به ذرة، ولا يحط عن درجة خيرك شيئاً، واكتف بشهادة الله تعالى لك وعليك، قال الله عز وجل: (وكفى بالله شهيداً)". ومن لا يقدر على صرف الذم عن نفسه ولا يستطيع على تحقيق المدح له كيف يرجى مدحه؟ ويخشى ذمه؟ واجعل وجه مدحك وذمك واحداً، وقف في مقام تغتنم به مدح الله عز وجل لك ورضاه.
(4) مبدأ العفو والحلم:
ويلعب الحلم دوراً كبيراً في امتصاص عوامل الفرقة والتوتر والصراع بين الدعاة. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فتعافوا يعزكم الله)).
ولا يزيد الحلمُ المسلمَ إلا عزاً، وعلماء الدين الذين يفترض فيهم أن يكونوا قدوة يتأسى بها الناس من حولهم، هل يتسامحون ويعذر كل منهم الآخر في حالة الاختلاف، أم يلجأ كل واحد منهم لسلاح التشهير والإسقاط؟ فلأننا نفتقد للقدوات التي تمتلك لهذه الروح في مجتمعاتنا أصبحنا غير متسامحين، ومن المسلمات أن النتيجة تتبع أخس المقدمات! وأنك لا تجني من الشوك العنب! فكيف نطلب من الطالب أن يكون متسامحاً وهو يرى بأم عينه، أباه متعصباً؟ كيف نريد منه أن يكون متسامحاً وهو يرى مدرسيه وقد أصبحوا أعداءً؟ فلكي نعيش هذه المفردة الجملية في حياتنا نحتاج إلى ممارستها عملياً طوال الأوقات، في البيت، في المدرسة، في المتجر، في المصنع، وليجعل كل شخصٍ منا من نفسه قدوة في التسامح، مع زوجته، مع أولاده، مع أصدقائه، وأخيراً، ينبغي أن نؤمن بالتسامح كقيمة داخل ذواتنا لا أن نحمله كشعار أجوف فوق صدورنا، وبهذه الكيفية ربما نتفيأ من ظلال هذه الشجرة الباسقة الوارفة الظلال. نعم، قد نكون قاب قوسين أو أدنى من أولئك الذين تحدث عنهم القرآن الكريم، بقوله جل جلاله: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)([27]).
(4) مبدأ الانطلاق من معين الإيمان والثقة بالله:(/5)
فيزرع الداعية في قلوب المؤمنين الود والمحبة، ويقتلع من طريقهم أشواك الحسد والبغضاء من القلب. بعض الناس يقيمون علاقاتهم على أساس المادة والدنيا والمصلحة.. فإذا كان ثمة شيء من ذلك فإنهم يجاملون ويبتسمون ويظهرون الود والملق.. وإذا لم يكن شيء من ذلك.. فإن علاقاتهم يسودها العبوس والتجهم والاحتقار.
(5) مبدأ اعتزل الهوى فيما يريد إصابة الحق فيه:
وأن يعتزل الهوى فيما يريد إصابة الحق فيه، فإن الله جل جلاله يقول: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)، ويقول جل جلاله: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)([28]).
(6) مبدأ الاعتراض السلمي علي آراء الباحثين في المسألة:
وتلعب الأخلاق الحسنة دوراً مهماً في تمشيط الأضغان من القلوب ونثر ورود المحبة على طريق الوحدة، حيث إن الأخلاق الحسنة تنبع من الحب.. فإذا كره المؤمن أخاه غطى الكره ملامح وجهه وعقد لسانه، وخطف البسمة من شفتيه. ولذلك يدعو الإسلام إلى كنس الحقد من القلب، والتصميم على الحب والمبادرة إليه، ولا يسمح للحقد أو الكراهية أن يعشعشا في قلبه.
وعاشر بمعروفٍ وسامح من اعتدى**وفارق ولكن بالتي هي أحسن
سامح صديقك إن زلت به قدمُ**فليس يسلمُ إنسان من الزللِ
(7) مبدأ إعمال الحكمة:
تجاوز الخلاف بالحكمة والنظرة إلى مصلحة الإسلام في تحليل للمواقف بفطنة وذكاء هو طريق السلف في تفسير الأحداث المفضية للاتفاق: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)([29])، ولما دخل عمر على معاوية ابن أبى سفيان رضي الله عنه وكان والياً لعمر على الشام، قال له عمر رضي الله عنه أراك قد بدنت ولبست زي العجم! فقال له معاوية يا خليفة رسول الله علِّمني فإنني جاهلٌ. فسكت عنه عمر رضي الله عنه وخرج معاوية من الخلاف بالحكمة والفطنة.
(8) مبدأ التحكم في الأمور من منطلقات اللامذهبية:
العصبية المنتنة التي تغلب على مستعملها فتبعده عن الحق وتصده عنه، قد كان موقف السلف منها جلياً، وحربهم عليها كمجاهدتهم للمشركين؛ لذا كان لهم الحظ الأوفر في الاتفاق والبعد عن الخلاف (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِين)([30]).
(9) مبدأ الانقياد والطاعة للمصلحة الإسلامية العليا:
تواترت الروايات أن السلف لم يمنعوا الخوارج من الاجتماعات داخل المسجد، ولم يحرموهم من العطاء، ما داموا غير متمردين عسكرياً, وكانت آخر وصايا علي رضي الله عنه: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي, فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه"([31])، وبذلك تمت المحافظة علي وحدة الصف الإسلامي وحرمة وقدسية الخلافة, وللحيلولة دون حدوث تصدع في الجبهة الداخلية ودون حدوث خلل واضطراب في العلاقات بين المسلمين.
الخاتمة
الحمد لله، به تتم الصالحات وتكتمل النعم، ونسأله أن ينفعنا بما كتبنا، وينفع به عامة المسلمين، ويجعلنا ممن قال ــ تعالى ــ فيهم: (إنَّ الْمُتَّقينَ في جَنّاتٍ وعُيونٍ اُدْخُلوها بِسَلامٍ آمِنينَ وَنَزَعْنا ما في صُدورِهِم مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلينَ لا يَمَسُّهُم فيها نَصَبٌ وما هُمْ عَنها بِمُخْرَجينَ)([32]). نسأل المولى عزّ وجلّ أن يهديَنا وإخواننا إلى الحق المبين، وأن يصلح أحوالنا، وينصرنا على أنفسنا وأعدائنا، وأن يتولانا برحمته الواسعة، إنه سميع مجيب.. (رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخْوانِنا الّذينَ سَبَقونا بالإيمانِ ولا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلاَّ لِلَّذينَ آمَنوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحيمٌ)([33]).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
([1]) سور المؤمنون: 52.
([2]) سورة الصف: 4.
([3]) سورة آل عمران: 103.
([4]) سورة الأنعام: 153.
([5]) سورة الأنفال: 46.
([6]) سورة آل عمران: 105.
([7]) سورة آل عمران: 7.
([8]) سورة الأنفال: 46.
([9]) ينسب هذا القول لحكيم الفقهاء وتاجهم الإمام الشافعي رضي الله عنه.
([10]) ذكره صبحي الصّالح، المرجع المذكور ص 81، كذلك ورد في "الاعتصام" للشاطبي: 3/11.
([11]) صبري الأشوح، التفكير عند أئمة الفكر الإسلامي، القاهرة، مكتبة وهبة، 1417هـ/1997، ص 187.
([12]) رواه البخاري.
([13]) البداية والنهاية: 7/55، ابن كثير، دار الفكر، بيروت.
([14]) الكامل في التاريخ: 2/526، وتاريخ المدينة المنورة: 2/758.
([15]) تاريخ الطبري: 2/453، والمنتظم: 4/197.
([16]) تاريخ اليعقوبي: 2/152.(/6)
([17]) انساب الأشراف: 2/178.
([18]) تاريخ الطبري: 2/524، والمنتظم: 4/273.
([19]) البداية والنهاية: 7/55.
([20]) الفتوح: 1/225.
([21]) أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
([22]) أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
([23]) رواه مسلم.
([24]) رواه مسلم.
([25]) رياض الصالحين 178.
([26]) رياض الصالحين 179.
([27]) سورة آل عمران:134.
([28]) سورة النساء: 83.
([29]) سورة النحل: 125.
([30]) سورة القصص: 55.
([31]) البداية والنهاية: 7/288.
([32]) سورة الحجر: 45 ــ 48.
([33]) سورة الحشر: 10.
* الأستاذ بكلية التربية بمكة المكرمة(/7)
هديه صلى الله عليه وسلم في رمضان
رمضان مضمار السباق إلى القربات والاجتهاد في العبادات، ولا يكون ذلك إلا بعد الحفاظ علي الصيام بتحري واجبات هوآدابه. وعليه فإن على المسلم أن تجتنب ما يخدش صيامه من المخالفات حتى يكون الصيام بعيدا عن القوادح.وحاجة المسلم إلى اتباع الهدي النبوي لازم، ومما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم التعجيل بالإفطار، وروى سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر متفق عليه.والحديث يربط الخير بتعجيل الإفطار، مما يدل على أن الشريعة السمحة لا تحمل الصائم المشقة والحرج، بل تطلب من المسلم الاتباع والالتزام بأمر التعبد، والبعد وترك المنهي، لأجل الغاية الوجودية الكبرى:(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وقوله صلى الله عليه وسلم:لا يزال الناس بخير يريد صلى الله عليه وسلم: لا يزالون بخير في أمر دينهم ما فعلوا ذلك على سنة وسبيل بر، وتعجيل الفطر أن لا يؤخر بعد غروب الشمس على وجه التشدد والمبالغة، واعتقاد أنه لا يجزئ الفطر عند غروب الشمس على حسب ما تفعله اليهود.وأما من أخر فطره باختياره لأمر عنّ له مع اعتقاده أن صومه قد كمل عند غروب الشمس، فلا يكره له ذلك،وإلى هذا ذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى إلى أنه لمانع لمن أراد تأخير الأكل لمانع منعه من شغل أو مداواة أو غير ذلك، فليؤخر إلى السحر، ولا يصل بين اليومين، وإن كان زمن الليل لا يصح صومه، بدليل أنه لا يصح إفراده بالصوم دون النهار، ويصح إفراد النهار بالصوم دونه، واستدل رجمه الله بحديث عبد اللّه بن عمر عن أبي أوفى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: +إذا رأيت الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم؛ فجعل مجيء الليل فطراً، لأن تمام الصوم ووقت الفطر، هو انقضاء غروب الشمس، وكمل ذهاب النهار. والدليل على ذلك قوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل).وأرشدنا الرسول الكريم إلى ما يتم تعجيل الفطر به، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء رواه الترمذي وحسنه.و عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور رواه الترمذي أيضا، وفي المذهب الحنفي فإن أي سكر يفي بالسنة.وقد بين العلم الحديث أن التمر سريع الهضم، يمتص سكره بسهولة. والأمر النبوي بالإفطار على التمر من الإعجاز العلمي فهو الأهم لتعويض الكبد مدخراته من الغيلكوجين بسرعة والتي يخسرها أثناء الصيام، على أن لا تكثر المفطر من السوائل.يقول الدكتورحسان شمسي باشا:ووراء التعجيل بالإفطار فوائد طبية وآثار صحية ونفسية هامة للصائمين، فالصائم في أمس الحاجة إلى ما يذهب شعور الظمأ والجوع، والتأخير في الإفطار يزيد انخفاض سكر الدم ويؤدي إلى الشعور بالهبوط العام، وهو تعذيب نفسي تأباه الشريعة السمحاء.ومن سنن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعجل فطره، ويعجل صلاة المغرب، حيث كان يقدمها على إكمال طعام فطره، وفي ذلك حكمة بالغة فدخول كمية بسيطة من الطعام للمعدة ثم تركها فترة دون إدخال طعام آخر عليها يعد منبها بسيطا للمعدة والأمعاء، ويزيل في الوقت نفسه الشعور بالنهم والشراهة، والإكثار من الدعاء. ولمزيد من تشجيع الخير والإحسان في شهر العبادات جعل لنا النبي الكريم أدبا لشكر من أفطر صائما، عن أنس رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة رضى الله عنه فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة). ع.ل(/1)
هذا اجتهادي عقيدة أم عقدة
إبراهيم بن محمد السعوي
</TD
إن مما يعتقده الإنسان في جنانه أنه متى ما بذل جهده ، واستفرغ طاقته في مواطن الاجتهاد ، واستعمل ما أتيح له من الطرق للتوصل إلى الحق المنشود ـ وهذا هو بغيته ـ ؛ فإن أصاب فله أجران ، وإن مال عنه فله أجر واحد ؛ لبذله وحرصه للوصول إلى الصواب مع العقد الجازم أنه متى ما تبين له الحق جنح إليه بلا تردد وتأخير مع انشراح صدره وبهجته لتوفيق الله له .
وكلمة " هذا اجتهادي " أو ما يشابهها في بابها لها ثقلها ومكانتها في الشريعة الغراء ؛ حيث لا يحق لأحد أن ينطق بها أو يدخل تحت لوائها إلا من توفرت فيه شروط الاجتهاد الموضحة في مظانها التي تدل على أنه يصعب توفرها في كثير ممن يدعي الاجتهاد لنوع من الشدة فيها ؛ لتبرهن على عظم الاجتهاد في ديننا الحنيف .
ومع هذه المكانة لهذه الكلمة وما تحتويها ، وثقلها في الشريعة ؛ إلا ونقرأ أو نسمع أو نشاهد من دخل تحت لوائها ، أو اندس في صفوفها ، أو يزعم أنه من أهلها ؛ مع عدم توفر أسهل وأقل شروط الاتصاف بها لا سيما في هذا العصر الذي اتصف بالتطوير حتى في علوم الشريعة ؛ بحجة أنه ليس في ديننا رجال دين أو كهنوت ! . وأنه ليس هناك مرجعية بعد رسول صلى الله عليه وسلم ......! وأن مسائل الاجتهاد ليست حكر على أحد ....
وأن هذا فيه إثراء الساحة الإسلامية بالطرح والرأي ....حتى تكلم في مسائل العلم كل ما هب ودب ...... وليس لهم من العلم سوى " القلم والدواة " ......
وتكلم طبيب الأبدان باختصاص طبيب القلوب .... !
وظهرت الزيادة على أنصباء أهل العلم كواو عمرو ، ونون الإلحاق .....
وشُوهد من لا يعرف كوعه من كرسوعه يُنازل الجهبذ من العلماء ....
قال ابن حزم : " لا آفة على العلوم وأهلها ، أضر من الدخلاء فيها ، وهم من غير أهلها ؛ فإنهم يجهلون ، ويظنون أنهم يعلمون ، ويفسدون ويُقَدِّرُون أنهم يُصلَحُون " .
وانبرأ البعض لمسائل لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر .......وانتشر في أوساط المثقفين من تَزَبَّبَ قبل أن يتحصرم ....
وابتُلي العالم الإسلامي بالخنفشاريين .......
وظهر جلياً في الساحة اجتهاد " ابن الرومي " ...... وباسم الاجتهاد له في كل فن مضرب ...... وبكل طرح مشاركة ...... ولإدلاء بدلوه في كل فكرة ...... ونال العلم شرفاً بطرحه ........وعليه تحقق قول ابن حجر : من تكلم في غير فنه ؛ أتى بالعجائب " ......
والتَّذَبذُب والانفصام ، والتبدد والانقسام .....وتُذكرنا هذه المنادات ببعض الشعارات لتحقيق بعض الأمنيات .......
ومن أجل تطوير باب الاجتهاد أقحم فيه ثوابت ومبادئ ليس فيها حظ للاجتهاد ...... وأبرزت أراء وأفكار ومناهج ..... محفوفة مكرمة تناهض وتخالف قول الحق بحجة عدم الانحياز والميل إلى أحد ......ومن باب سماع الرأي الأخر.....والاتصاف بالانحياد ؟! .
أولم يعلموا أن الميل والجنوح إلى قول الحق هو ملة إبراهيم عليه السلام حنيفاً .....؟!.
وعلى إثر هذه المكانة لكلمة " هذا اجتهادي " أو " هذا الذي أدين الله به " أو ..... يطرب لها قلب كل من ولجت إليه ، وعليه يتعين على كل من رأى أنه من أهل هذه الكلمة أن يعرف متى وأين ينطق بها !. قال الشافعي : " فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا من حيث علموا ، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به ، وأقرب من السلامة له إن شاء الله " .
وقال الغزالي : " لو سكت من لا يعلم لسقط الخلاف "!.....
ويُتمعن في قول سفيان الثوري : " إذا كثر الملاّحون غَِِرقت السفينة "......
وإلى الله المشتكى في زمن كثر فيه " المتعالمون " حتى سامو باعة البُقُوْل عَدَداً ...
إلا أن هذه العقيدة تحولت ـ أيضاً ـ عند البعض منا إلى عُقدة شعرنا بهذا أم لم نشعر . ولهذا كثيراً ما تُسمع عندما يُراجع أو يكاشف قائلها عن رأي ٍ ما ، أو فكرة طُرحت محاولاً تغيير وجهة طرحه أو رأيه مع تبين أسباب هذا التغير من حجة وبرهان ...وما أن تُبْذل هذه الأسباب للوصول إلى الحق الذي هو أمنية الجميع ؛ إلا ويلج إلى مسامعك كلمة الفصل في هذا المضمار " هذا اجتهادي " أو " هذا هو نتيجة بذل وسعي " أو ما شابه ذلك .
وعلى إثر هذه الكلمة ينتهي هذا الفصام بكل بساطة وسهولة على نتيجة لم تُفصل بعد لضعف الحجة والبرهان ، والاتصاف بالإفلاس ؛ التي تجعل الطرف الآخر لا يرضى بهذه النتيجة بلا شك ولا ريب .
وهذه العقيدة إذا صارت عُقدة فهي تشابه أختها إلى حد كبير التي في أوساط العوام وهي" ولو " بجامع أن كلا الكلمتين يراد منهما إنهاء النقاش مع عدم رضى وقبول الوجه الآخر .
وهذا المنهج في إنهاء الحوار الهادئ غير مرضي لدى أوساط العقلاء ، ولا يُجتنى منه أي ثمرة .(/1)
ولهذا نناشد من هو أهلٌ لهذه الكلمة أن يعرف متى وأين يتلفظ بها علمياً وعملياً ، وأن يستعملها في حيزها ، وأن يعلم علم اليقين أنه لا يلزم من هذا الوسام الذي شَرُف به وهو الدخول تحت لواء هذا الكلمة عدم قبول آراء الآخرين إذا كان لها حظ من الصواب . .... أو عدم الإصغاء إلى وجهة نظر الآخرين ...... وكذلك ليس من لوازم هذا الوسام وحده فقط أن يضفي على رأيه أو طرحه الصبغة الشرعية .
ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه .....
فهذه كلمات من مكنون الفوائد بعضها آخذ برقاب بعض ، بقوالب متعاضدة ، أشكالها محيطة بمعانيها ، عسى أن تكون علاجاً لهذه الظاهرة ، سالمة من الفهوم المتعددة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه
إبراهيم بن محمد السعوي
القصيم ـ بريدة(/2)
هذا الطِّيبُ مِنْ ذاك الحَبِيب!
د. محمد عمر دولة*
كثيرٌ من الناسِ يُحِبُّون الطِّيبَ والرياحين، ويستعملون المِسكَ والفُلَّ والياسمين؛ وتلك سُنَّةُ سيِّدِ المرسَلين صلى الله عليه وسلم؛ ولكنْ قليلٌ جِدّاً من الناسِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها الذين جَرَّبوا عبيرَ عبدِ اللهِ بنِ المبارك الذي وصفَهُ بقولِه:
وأقلُّ مِنْ أولئك مَنْ يشتاقُون إلى استنشاقِ عطرِ الشهادةِ في سبيلِ الله حينما يفوح من جراحِ المجاهدين أشرفِ مَنْ يمشون على هذه الأرضِ؛ ذلك أنَّ (اللون لونُ الدمِ، والرِّيح ريحُ المسك)!
ولئن قال النابغة الذبياني مجازاً في رائيّتِهِ المشهورة:
وقال عباس بن الأحنف:
فقد قال أنس رضي الله عنه كما في البخاري: "ما شممتُ مِسْكةً ولا عبيرةً أطيبَ من ريح رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"!
ولئن قال كُثَيِّر:
وقال عبَّاسُ بن الأحنف كذلك مجازاً:
فقد كان يُطيَّبُ الطِّيبُ بعَرَقِ نبيِّنا الحبيبِ صلَّى اللهُ عليه وسلّم حقيقةً لا مجازاً، كما جاء في حديثِ أنس الذي رواه البخاري في كتاب الاستئذان: (باب من زار قوماً فَقَالَ عندهم)[1] ومسلم في كتاب الفضائل (باب طيبِ عرقِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم والتبرُّك به) ـ واللفظ لمسلم ـ أنّ أمَّ سُلَيْم جاءت وقد عرق النبي صلى الله عليه وسلم (واستنقع عرقُهُ على قطعةِ أديمٍ على الفراش، ففتَحَتْ عَتِيدَتَها، فجعلتْ تُنشِّفُ ذلك العرقَ؛ فتعصره في قواريرِها؛ ففزع النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما تصنعين يا أمَّ سُلَيْم؟ فقالت: يا رسولَ الله نرجُو بركتَهُ لصبيانِنا؛ قال: أصَبْتِ!) وفي روايةٍ: (قالت: عَرَقُك أذُوفُ به طِيبِي)[2] قال ابن حجر: "أذُوف ـ بمعجمةٍ مضمومةٍ ثم فاء ـ أي أخلط"[3]
وليتَ شعري هل ينفحُ الطِّيبُ إلا من شَذَى الغصنِ الرَّطِيب؟! فشَتانَ ما بين المصنوعِ والمطبوعِ! وما أبعدَ المكتسَب عن الموهوب!
[1] فتح الباري 12/342. دار الفكر بيروت. ط1-1414هـ.
[2] شرح النووي على مسلم 15/87. دار إحياء التراث العربي. ط 6.
[3] فتح الباري 12/344.(/1)
هذا الطِّيبُ مِنْ ذاك الحَبِيب!
د. محمد عمر دولة*
كثيرٌ من الناسِ يُحِبُّون الطِّيبَ والرياحين، ويستعملون المِسكَ والفُلَّ والياسمين؛ وتلك سُنَّةُ سيِّدِ المرسَلين صلى الله عليه وسلم؛ ولكنْ قليلٌ جِدّاً من الناسِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها الذين جَرَّبوا عبيرَ عبدِ اللهِ بنِ المبارك الذي وصفَهُ بقولِه:
وأقلُّ مِنْ أولئك مَنْ يشتاقُون إلى استنشاقِ عطرِ الشهادةِ في سبيلِ الله حينما يفوح من جراحِ المجاهدين أشرفِ مَنْ يمشون على هذه الأرضِ؛ ذلك أنَّ (اللون لونُ الدمِ، والرِّيح ريحُ المسك)!
ولئن قال النابغة الذبياني مجازاً في رائيّتِهِ المشهورة:
وقال عباس بن الأحنف:
فقد قال أنس رضي الله عنه كما في البخاري: "ما شممتُ مِسْكةً ولا عبيرةً أطيبَ من ريح رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"!
ولئن قال كُثَيِّر:
وقال عبَّاسُ بن الأحنف كذلك مجازاً:
فقد كان يُطيَّبُ الطِّيبُ بعَرَقِ نبيِّنا الحبيبِ صلَّى اللهُ عليه وسلّم حقيقةً لا مجازاً، كما جاء في حديثِ أنس الذي رواه البخاري في كتاب الاستئذان: (باب من زار قوماً فَقَالَ عندهم)[1] ومسلم في كتاب الفضائل (باب طيبِ عرقِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلم والتبرُّك به) ـ واللفظ لمسلم ـ أنّ أمَّ سُلَيْم جاءت وقد عرق النبي صلى الله عليه وسلم (واستنقع عرقُهُ على قطعةِ أديمٍ على الفراش، ففتَحَتْ عَتِيدَتَها، فجعلتْ تُنشِّفُ ذلك العرقَ؛ فتعصره في قواريرِها؛ ففزع النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما تصنعين يا أمَّ سُلَيْم؟ فقالت: يا رسولَ الله نرجُو بركتَهُ لصبيانِنا؛ قال: أصَبْتِ!) وفي روايةٍ: (قالت: عَرَقُك أذُوفُ به طِيبِي)[2] قال ابن حجر: "أذُوف ـ بمعجمةٍ مضمومةٍ ثم فاء ـ أي أخلط"[3]
وليتَ شعري هل ينفحُ الطِّيبُ إلا من شَذَى الغصنِ الرَّطِيب؟! فشَتانَ ما بين المصنوعِ والمطبوعِ! وما أبعدَ المكتسَب عن الموهوب!
[1] فتح الباري 12/342. دار الفكر بيروت. ط1-1414هـ.
[2] شرح النووي على مسلم 15/87. دار إحياء التراث العربي. ط 6.
[3] فتح الباري 12/344.(/1)
هذا العبد
نفس تشبع فهى راضيه و نفس لا تشبع فهى شاكيه خلق الله سبحانه وتعالى عباده وقدر لهم أرزاقهم
فى هذه الدنيا فى كل شئ فلا يخرج العبد منا الا وقد أستوفي نصيبه ورزقه أللذى كتبه الله
جل وعلا ورزقه إياه بما فيه من خير وشر.
قال تعالى: ( وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون ) الذريات
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّه يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَه
إِلَّا هُوَ َ فَأَنَّى تُؤْفَكُون ) فاطر
( أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) الزمر
( اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ) الرعد
والعبد منا لايدرك حكمة الله سبحانه وتعالى فى تصريف الأمور فكم من خير فرحنا به
ورقصنا له طربا فكان هو الشر بعينه,وكم من أمر ظنناه شرا وأقمنا الدنيا ولم نقعدها من
أجله فكان هو الخير بعينه فسبحان من تجلا فى سماه, رزق وأكرم وأعطى ونعمه لا تعد ولا تحصى.
قال تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) البقرة
ونجدان عباد الله هم على صنفين فيما قدر لهم من رزق.....
الصنف ألاول له نفس تشبع فهى راضيه
هذا العبد......
نجده راضيا قانعا بما رزقه الله جل وعلا فى هذه ألدنيا من مال وجاه,من صحة وبنين وبنات, وماعدا ذالك من نعمه سبحانه وتعالى التى لا تعد ولا تحصى.
نراه دائما مطمئن القلب لا يفتر لسانه عن شكر الله سبحانه وتعالى والثناء عليه جل وعلا بكل نعمه الظاهر والباطنة.
هذا العبد.......
أقل القليل يسعده ويرضيه,عيناه لا ترى ما أوتى غيره لآن ن نفسه غنيه شبعه,ترضى بما قسم الله
سبحانه وتعالى لها.
هذا العبد......
الكلمه الطيبة منك ترضيه والآبتسامه فى وجهه تملئه حبا وشكرا,فسبحانك ربى هو راضى
وسعيد من اجل كلمه أو إبتسامه.
هذا العبد........
إن ألححت عليه لكى يأخذ,فهو لا يأخذ,وإن اخذ سجد لربه شاكرا أن سخر له
من أعانه على ما هو فيه.
قال تعالى ( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ
أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ )
البقرة
هذا العبد........
إن أسديت له معروفا جعله طوق فى عنقه,يحاول بكل جهده ان يرد إليك هذا المعروف,ومهما فعل ومهما رد فهو يستشعر بأنه لم يفعل شيئا وأنه مازال مدين لك.
هذا العبد.......
يعلم ان الله جل وعلا قد فضل فى هذه الدنيا عباد عن عباد,وأن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا.
قال تعالى: ( وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْق فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَت أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ) النحل
وهو يعلم أن التكريم عند الله سبحانه وتعالى هو بالتقوى والعمل الصالح فقد قال المصطفى ألامين صلوات ربى وسلامه عليه ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم )فهو لم يغتر بهذه ألدنيا, فعيناه ناظره إلى جنان ربه جل وعلا ,فهو ينتظر نعيم ربه الخالد وفوزه وسعادته,التى ما بعدها شقاء ولاحزن.
هو يعلم ماوعد الله جل وعلا عباده الصابرين
قال سبحانه وتعالى:( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) الزمر
( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ ) هود
( إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) هود
( سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ) الرعد
(الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون ) النحلَ
( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) الكهف(/1)
فهنيئا لك ياصاحب هذه النفس,فأنت ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه,آنت من السعداء
فى الدنيا والآخره بإذن الله,ستجد ماوعدك ربك جل وعلا حقا فإن الله لا يخلف الميعاد.
الصنف الثانى له نفس لا تشبع فهى شاكيه....
نجد أن هذا العبد:
دائم الشكوى لسانه لا يفتر عن الاعتراض على كل شيء فى حياته.
سؤال واحد يؤرقه ويتعسه طيلة حياته,وهذا السؤال هو..... لماذا أنا ؟؟؟
ويعكس هذا السؤال فى حالا ت أخرى فيكون لماذا فلان اوفلا نه ولست آنا؟؟؟
هذا العبد:
تراه دائما عابس الوجه,عاقد الحاجبين,عيناه تلف وتدور فى رأسه لترقب ما حولها بنظرات
زائغه,حزينة,شاكيه.
هذا العبد:
لا تطيق عشرته ولا تتحمل حتى ان تسمع صوته ولو لدقائق معدوده.
أنت تبادره بالسؤال عنه وعن أحواله,وهو يبادرك بالشكوى والتأفف والتذمر.
تحاول ان تقطع شكواه بقولك ( الحمد لله على كل حال ) فيجيبك بإكمال شكواه
وإن استحى منك رد عليك نفس قولك,ولكن على مضض وعدم رضى.
هذا العبد:
نفسه لا تشبع فمهما حاولت أن ترضيه وتسعده,نجده يطلب المزيد والمزيد. ففي رأيه ان هذه هى مهمتك فى الدنيا,وأنك ما وجدت فيها الا لتلبى له طلبته ورغباته وأوامره ألتى لا تنتهي حتى ينتهي هو والعياذ بالله.
هو كجهنم أعاذنا الله وإياكم منها لا يقول إلا ( هل من مزيد ).
هذا العبد:
حمل أسوء صفتين يحملها بشر وهما ( الحسد وعدم الرضى بالقضاء والقدر )
فالحسد.... جعله لا يرى ما رزقه جل وعلا من جل نعمه الظاهره والباطنه.
نفسه لا تريد إلا ماعندك,إن رزق البنات,أراد البنين وقد نسى ان هناك من حرم كليهما.
إن عاش فى منزل جميل كرهه وتأفف منه,لا نه ليس ملكا له ولا ن عيناه ترى انه صغير
فلماذا فلا ن وفلا نه يمتلكون المنازل الجميلة ولست أنا؟؟؟
ونسى أن هناك من لا يجد حتى سقفا يؤويه.
إن أصابه مرض يكرر نفس لماذا أنا؟؟؟
ويضرب ألا مثال بكل من يعرف ممن متعوا بالصحة وهكذا يقضى عمره وهو يسأل نفس السؤال الذى لا يكل منه ولا يمل فهو إنسان حاقد ناقم يتمنى أن لا تؤتى النعم لا أحد غيره وقد تحقق فيه قوله جل وعلا: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ) النساء
أما صفته الثانية المذمومة فهى عدم الرضى بالقضاء والقدر
فنفسه المريضة الحاسده جعلته ينسى ان الله عزوجل قدر لكل منا حياته الرضى بالقضاء والقدر ) وأن العبد منا لا يملك إلا أن يؤمن بالقضاء والقدر فما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن أبي العباس عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال:كنت خلف النبي صلي الله عليه وسلم يوماً، .فقال : { يا غلام ! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك؛ رفعت الأقلام، وجفت الصحف }. [رواه الترمذي:2516 وقال: حديث حسن صحيح].
وفي رواية غير الترمذي: { احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً }.
نسى صاحب هذه النفس التى لا تشبع أن الدنيا هى دار الحزن ودار الكبد وان كلا منا
يحمل شكواه فى صدره ولا يبوح بها إلا لخالقه جل وعلا.
نسى أنه لاسعاده ولا هناء إلا يوم أن يغفر الله لنا,وبرحمته يجعلنا من الفائزين والسعداء ويسكننا
الدرجات العلى.
فياصاحب هذه النفس بئس العبد آنت لا نك حرمت نعمة الرضى فبدلا من ان يمر عمرك وأنت تحمد
تحمد ربك على جل نعمه عليك التى تدركها والتي لا تدركها مر عمرك وأنت تشكوى ربك والعياذ بالله, وقد نسيت قوله صلى الله عليه وسلم ( عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك
لأحد إلا للمؤمن ؛ إن أصابته سرّاء شكر ؛ فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر ؛ فكان خيراً له ) . رواه مسلم .
فيا صاحب هذه النفس لن يملء جوفك إلا التراب,ولن تجنى سوى الذل والمها نه من كل من عرف
نفسك الشاكية ألتى لا تشبع والعياذ با لله.
عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم فقال: ( يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس )؛ فقال: { ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس }. [حديث حسن، رواه ابن ماجه:4102، وغيره بأسانيد حسنه].
اللهم إنى أعوذ بك من قلب لايخشع,ونفس لاتشبع وعين لا تدمع,وعلم لا ينفع,ودعوة لا يستجاب لها.
بقلم أختكم
إيمان غازى فتيحى(/2)
هذا ما جرى العمل به في قرطبة
جمال المعاند -إسبانيا
اصطلاح " هذا ما جرى العمل به في قرطبة " أندلسي المنشأ مالكي المشرب جادت به قريحة علمائنا من السلف و إضافة بارزة في تراثنا الفقهي، قعدت لقاعدة من المصادر يركن إليها فيما يستجد من أمور الحكم والفتيا، ووسيلة تنبئ عن آلية رقي لمجتمع حضاري إسلامي.
ولابد من توطئة استشفاف للجذور ومن ثم الكلام عن إشراقات هذه القاعدة. المذهب المالكي لإمام دار الهجرة أنس بن مالك – رحمه الله تعالى – ربيب البيئة النبوية التي كانت على حداثة عهد بالنبوة لذلك رأى أن عمل أهل المدينة مرجح بين الأقوال وعد من أميز أسس مذهبه حتى عاب على بعض فقهاء عصره عدم اعتمادهم ذلك كما في نص رسالته للفقيه الليث بن سعد – رحمه الله تعالى – حيث قال :
{ إن الناس تبع لأهل المدينة التي كانت الهجرة إليها وبها نزل القرآن } .
وانتشر المذهب المالكي في أصقاع إسلامية عدة، إلا أنه استوطن الشمال الإفريقي . وفي الأندلس ارتبط ارتباط العلة بالمعلول، وفي عهد الأمير الأموي الأندلسي الحكم بن هشام الثالث المعروف بالربضي انتظم غالبية الناس تحت مظلة المذهب المالكي فكان الدستور العام لبلاد تخالطت فيها الأعراق، وحدثت بها الوقائع ،ونبغ خلالها العلماء.
وأول بوادر التميز ما عرف بفقه النوازل. ومن أشهرها نوازل ابن رشد – رحمه الله تعالى– وغدا المذهب المالكي مضمار السباق وغاية التنافس، حتى إن الفقيه عبد الوهاب بن نصر البغدادي – رحمه الله تعالى– ألف كتاباً أسماه { النصرة لمذهب إمام الهجرة} في مائة جزء.
هذا التأطير المذهبي المحدد الحواف دفع فقهاء الأندلس للبحث عن آليات أصولية تتوائم مع الواقع فجنحوا للأخذ بالقول الضعيف ، فإن كان لدرء مفسدة عد من باب سد الذرائع ، وإن كان لجلب منفعة فهو على أصله مصلحة مرسلةٌ تمشياً مع مقاصد الشريعة الغراء.
ولأن قرطبة كانت حاضرة الأندلس ومركز إشعاعه فإن الفقهاء الآخرين كانوا تبعاً لها ، وفي إضاءة تبين أهمية قرطبة ودورها أورد أبياتاً من النظم ، ولمعة من الطرف :
ففي الشعر :
وأين يعدل عن أرجاء iiقرطبة
قطر فسيح ونهر ما به iiكَدَرٌ
يا ليت لي عمر نوح في إقامتها ... ... من شاء يظفر بالدنيا iiوبالدين؟
جفت بشطيه ألفاف iiالبساتين
وأن مالي فيها كنز iiقارون
أما وفرة العلماء القرطبيين فحدث ولا حرج. وفي هذه اللمعة من أسفار الأندلسيين نعطي دلالة واضحة على ذلك، أيام كانت لنا حضارة فإن الصدور من الاتساع ما تقبل معه تجاوز المنهجية الشكلية، فقد حدثت مناظرة بين الإمام ابن رشد القرطبي وأبي بكر الإشبيلي عند ملك المغرب المنصور يعقوب بن عبد المؤمن، فأراد الإمام ابن رشد إنهاء المناظرة فقال { .... ما أدري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلة فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع، وإن مات مطرب في قرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلة ... } .
بهذا الزهو كان علماء قرطبة لذلك لم يكونوا يراجَعون في فتيا!.
وفي بداية القرن الرابع الهجري الثالث الأندلسي تمالأ الفقهاء على الأخذ ببعض الأقوال الضعيفة لاتساع الرقعة وكثرت المسائل وتشعبت وتباينت الظروف، وأول من شهر بذلك الإمام ابن الهندي فلم يسَعْ باقي العلماء إلا الاتباع لعلماء قرطبة كما ورد في (نفح الطيب) حيث كتب :
{اعلم أنه لعِظَم أمر قرطبة كان عملها حجة بالمغرب، حتى إنهم يقولون في الأحكام : هذا ما جرى العمل به في قرطبة}.
ودخل على هذا الاصطلاح كتب الفقه فقد ذكر ابن فرحون في كتابه التبصرة :
{إن نصوص المتأخرين متواطئة على أن ما جرى العمل به مما يرجح به القول الضعيف}.
ولعمر الله أنها للفتة إجماع من علماء كان فقههم للواقع ممارسة ، وذهنهم من الجودة ما جعل الأوليات أمراَ بدهياً، فلا غرو أن يزدهر مجتمعهم وتزال منه الصعاب وتورق الحضارة في عهدهم .
ويعرف اصطلاح ما جرى العمل به في قرطبة على النحو التالي :
{اختيار قول ضعيف والحكم والإفتاء به، وتمالؤ الحكام والمفتين بعد اختياره على العمل به لسبب اقتضى ذلك }.
ولهذه القاعدة شروط من أهمها :
ثبوت جريان العمل به .
معرفة الأئمة الذين أفتوا به .
توضيح سبب العدول عن المشهور أو الراجح.
تحديد زمان ومكان الأخذ به .
لقد كانت هذه القاعدة جسراً من جسور توحيد الكلمة، وإحدى قنوات الالتقاء، وفيئاً يستظله المسلمون، بدأته النخبة من المفكرين العلماء الذين لا يقفون عند رسم الألفاظ، وممن يملكون الرؤية الواقعية الفاحصة ، والقادرون على استشفاف المستقبل . ففي نص رسالة الإمام ابن الهندي – رحمه الله تعالى – يوجه أحدَ القضاة خارج قرطبة قال:
{ العدول عن القول الراجح أو المشهور في بعض المسائل إلى القول الضعيف فيها رعياً لمصلحة الأمة وما تقتضيه حالتها الاجتماعية } .(/1)
أي رجال كان علماء السلف؟. مراعاة مصلحة الأمة والنظر في حالتها الاجتماعية. كم يقلقهم التفرق والشتات؟. وكم نعاني نحن في وقتنا الحاضر من الرؤى الضيقة؟! مئات يموتون لأداء نسك يصر فيه بعض منا على الأخذ بالأحوط، وتروَّع البلاد، ويقلق العباد، لفتوى طالب علم يصر على قول ما؟. وهذا أحد علمائنا الأندلسيين هو الإمام أبو سعيد بن اللب من علماء القرن الثامن يقول:
{إذا كان عمل الناس على قول بعض العلماء، فلا ينبغي الإنكار، لاسيما لما كان الخلاف في كراهته}.
ليت هذا الفقه ينتشر بين الدعاة، لتتسع الصدور ونحمل هَمَّ الأصول التي ضيعت بدلاً من الاختلاف في الفروع والجزئيات، بل زاد صاحب كتاب المعيار :
{ أن ما جرى به عمل بين الناس ينبغي أن يتلمس له مخرج شرعي ما أمكن }
فلا للتقسيم الحاد وعمى الألوان، ولا للمطالبة الملحة والمستمرة بالدليل، لمن لا يفقه اللغة، ولا دراية له بالنواسخ، ولم يجثُ من قبل على ركبتيه أمام السادة العلماء، ولا للاستخفاف بأقوال العلماء والانتقاص من قدرهم وهيبتهم في نفوس العوام لأنه ضرب من ضروب هدم الدين، والسعي الحثيث لوحدة الأمة في مسارب الفقه ودروب السياسة، وكم رفع نبغاء الأمة شعارات التوحد فهذا الإمام البنا يقول :
{ نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه } .
إن تراثنا الفقهي مليء وغني بحيث يجعلنا في غَناء عن استيراد أنظمة قائمة في جوهرها على مثل لا تليق بالمسلم. وكثيرون لا يعرفون أن القانون الفرنسي الذي هو أبو الدساتير الوضعية ارتكز في وضعه واشتقاقه على زخم الفقه المالكي.(/2)
هذا ما جنته أمريكا من العراق بعد مرور ألف يوم على احتلاله
منذ أسابيع مضت ذكرى مرور ألف يوم على الاحتلال الأمريكي الغاشم للعراق . وبهذه المناسبة نشرت عددٌ من الصحف العالمية دراسات وتحليلات وإحصائيات للوقائع ، وقراءةً متأَنِّية تكاد تكون دقيقة للتداعيات التي أدّى إليها الاحتلالُ .
وتناقلت الصحفُ الشرقيةُ ما قالته صحيفةُ "الإندبندنت" البريطانية بهذا الخصوص ، ونشرته من التقرير ، الذي أشار إلى الثمن الباهظ الذي دفعته أمريكا حتى الآن ؛ حيث تكلّفت 204 مليارات دولار ، بينما كانت تكلفةُ الخزانة البريطانية ما يزيد عن 503 مليار جنيه إسترليني . وقد صدق أحد الكتاب الصحفيين العرب ، إذ قال: لوكانت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تريدان حقًّا تحقيقَ عراق مزدهر وديمقراطي ، لانسحبتا من العراق إثر إسقاط النظام ، ودفعتا هذه الأموالَ لإعمار العراق ؛ ولكن لأن هناك أجندة أمريكية لتحقيق إمبراطورية أمريكية وهيمنة صهيونية ، فإنهما تكبّدتا هذه الأموال الطائلة ، التي كان يكفي أقل منها بـ 20? لإعمار العراق ؛ فوفقًا لتقديرات البنك الدولي ، إنما يحتاج العراق إلى 36 مليار دولار لتحقيق إعمار كامل ونهائي .
وقالت "الإندبندنت" مضيفةً : إنّه بعد ألف يوم من الاحتلال ، بلغ عدد القتلى الأمريكيين – وفقًا للإحصائيات الأمريكية الرسمية وناهيك عن الحقيقية – 2339 قتيلاً و 16 ألف جريح ، وبلغ عدد القتلى الريطانيين 98 قتيلاً . ناهيك عن الخسائر لدى القوات الأخرى المتعددة الجنسيّات : البولندية ، والأسترالية ، والبلغارية ، والإيطاليّة ، وغيرها .
وأضافت الصحفية : إن 30 ألف مدني عراقي قد قُتِلُوا بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الجرحى والمعوّقين ، وإن 80? من أطفال العراق يعانون سوءَ التغذية ، ويتسرّب الكثير منهم من المدارس ، وإن 68? من العراقيين يشعرون بأنهم أقلُّ أمنًا من العهد السابق ، وإنّه تمّ اختطاب 251 أجنبيًّا منذ بدء الحرب وإن 5 مدنيين أجانب يُخْتَطَفُون شهريًّا ، وإنّ معدّل التضخّم المالي بلغ 20? في العراق في عام 2005م ، وتتراوح البطالة بين 25 و 40? ، وإن 47? من العراقيين لايحصلون أبدًا على إمدادات كافية من الكهرباء ، وإنّ 70? من العراقيين يعانون سوءَ خدمات الصرف الصحّي .
وأضافت الصحفُ العربيةُ في تحليلها للأحداث العراقية إلى ما قالته الصحيفة ما يأتي :
? هناك عشرات من المدن قُصِفَتْ ودُمِّرتْ بيوتها مع مرافقها وجميع ما فيها . أمثال "الفلوجة" و "الرمادي" و "الحديثة" و "بعقوبة" وأخيرًا – لا آخرًا – "السامرّاء" وكذلك جميع المدن التي تشكل "المثلث السنّي". والمذابح الجماعية يتم تنظيمها على يد القوات العراقية أو الأمريكية أو هما معًا .
? عشرات الألوف من الأسرى والمتعقلين ، إلى جانب ممارسة أنواع شتّى من التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان . وقد تم فضح بعضها ، مثل ما حدث في سجن "أبي غريب" على يد القوات الأمريكية ، أو في سجون وزارة الداخلية و"فيلق بدر" التابع للمجلس الأعلى : "جماعة الحكيم" التي افتضح منها ما حدث في "الجادرية" وغيرها — وبديهيٌّ أنّ ما لم يتمَّ فضحُه وكشفُه أكثر عشرات المرات ممّا تمّ كشفُه . وهكذا فبعد ألف يوم من الاحتلال ، حقوقُ الإنسان التي زعم الأمريكانُ أنهم جاؤوا لتحقيقها هي أكبر ضحاياهم .
? لم يتمّ العثور على أيّ نوع من أسلحة الدمار الشامل التي زعمت أمريكا أنها تتوفّر في العراق ، وأنّها تهدّد أمريكا، وأنها تشكّل خطرًا محتّمًا على العالم ، والتي اتخذها "بوش" المُسَوِّغَ الرئيسَ للعدوان ، ولفّق بشأنها شواهد ودلائل هو و وزير دفاعه "رامسفيلد" و وزارة خارجيته ومندوبوه لدى الأمم المتحدة . وذلك لايعني بصراحة إلاّ أن مسؤولي الإدارة الأمريكية الكبار كاذبون مائةً في المائة .
? المقاومة العراقية تتصاعد مع الأيام ، وقد استطاعت أن تُنْزِل أفدحَ الخسائر على القوات الأمريكية والمتعاونين معها. وتمّ تنظيم عشرات العمليات العسكرية الأمريكية والعراقية والمشتركة للقضاء على المقاومة ؛ ولكنها لم تُجْدِ نفعًا . وهذا يعني أن الشعوب أقوى من الجيوش ، وأن إرادة الشعوب لايمكن قهرُها ، وأن المقاومة العراقية الباسلة هي التي عطَّلت المشروعَ الأمريكيَّ الإمبراطوريَّ والهيمنةَ الصهيونيّةَ في المنطقة . وسوف تصبح نموذجًا يُحْتَذَى لجميع الشعوب المغلوبة على أمرها . وقد ثبت الآن – وبما لايدع مجالاً للشكّ – أنّ من الممكن مقاومةُ أيّ جيش مهما كانت قوتُه حتى ولو كان الجيش الأمريكي – أقوى الجيوش في التأريخ حتى الآن – ولولا تلك المقاومة المشرفة لأصحبت المنطقة في قبضة الحلف الأمريكي الصهيوني ؛ بل لأصبح العالم أكثر خضوعًا للأمريكان ، ولازداد الفساد الأمريكيّ الصهيونيّ في العالم بطريقة هائلة .(/1)
وقد أكّد تقرير دوليّ حديث أن المقاومة العراقية أكثر تطوّرًا وتنظيمًا ، وأشار إلى تغيّر محوريّ في شكل فصائل المقاومة العراقية ؛ حيث تتحرك وفق التطورات السياسية في المنطقة . كشف تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" غير الحكومية أنّ عددًا من كبرى تنظيمات العراق المسلحة التي تستخدم أحدث تقنيات الاتصال تزداد نفوذًا وتفرض هيمنتها على الساحة . وأشار إلى تنامي قوة المقاومة التي يحرّكها العربُ السنةُ وأنّها أصبحت أكثر ثقة وأفضل تنظيمًا وتنسيقًا وإدراكاً للمعلومة .
? الاحتلال الأمريكي للعراق أطلق العنانَ للغرائز الطائفيّة ، وأوجدها وقوّاها ، حينما اكتشف أنه لن ينتصر على المقاومة ، فأراد أن يمهّد العراق ليكون مستنقعًا للطائفيّة . ولم يكن تفجير قبة الضريح في "سامراء" إلاّ وسيلةً إلى إثارة الطائفية بحدّة وسورة مزيدة . وقد قام بذلك الموساد الإسرائيلي و الاستخبار الأمريكي كما تأكّد ذلك لكل من يتابع الموقفَ عن كثب وبعمق .
? جميع الأوراق التي استخدمها الاحتلالُ لم تنفع في إقناع العراقيين بالاحتلال ، ولا في إضعاف المقاومة ، ولا في فضّ الشعب ولاسيما السنة من حولها . على الرغم من أنّ الاحتلال نظّم انتخابات تأسيسيّة ، ثم استفتاءً على مسودة الدستور ، ثم انتخابات تشريعيّة ؛ لكن كل ذلك لم يغيّر شيئًا في حقيقة الواقع . إنّ الشعب متوفّر على مواجهة احتلال أجنبي ، ليس إلاّ.
? العراقيّون تذوّقوا في عهد الاحتلال – ولايزالون – من صنوف العذاب المروّع البشع مالم يذوقوه في التأريخ ، رغم أن العراق تعرّض عبر التاريخ لغارات عديدة وتدميرات شاملة . والموقف بمجموعه يشكّل مأزقًا للأمريكان ، مما جعلهم يفكرون في إيجاد مخلص للانسحاب الكلي والجزئي والهروف من جهنّم العراق التي صنعوها بأيديهم ليحترقوا فيها بإذن الله حتراقًا سيشعرون بلهيبه عبر التأريخ الأطول ، وستوصي أجيالهُم القادمة أجيالَها اللاحقة أن لايقترب من هذه النار للأبد ، إن شاء الله . [التحرير]
(تحريرًا في الساعة 11 من يوم الاثنين : 4/ ربيع الأول 1427هـ = 3/أبريل 2006م)(/2)
هذا ما صرنا اليه نحن وأبنائنا
بسم الله الرحمن الرحيم
دوامة الحياة
إن ما نراه اليوم من إعلام مرئي ومسموع في القنوات العربية يدمي القلب ويبكيه دما ودموعا ذلك إلى ما تدعوا إليه هذه المواد الإعلامية الفاسدة , من الدعوة إلي الفساد عن طريق برامج و مسلسلات وأغاني فيها الدراما وفيها الكوميديان والترجيديا وغيرها , وإنما تدعوا إلي هدف واحد , وهو إحلال الأخلاق والمجتمع , والاهم هو دعوتها إلي العلمانية والعيش للدنيا والتهافت عليها وعلى ملاذاتها.
وتفرض علينا أن نكون في دوامة ليس فيها رحمة ولا خوف من الله سبحانه وتعالي وان نكون تحت حكم شرع الغاب , القوي مباح له كل المحرمات بالإضافة إلي أكل الضعيف وجعله دائما وأبدا تحت قدمه .
إن حياتنا ألان أشبه بكابوس رهيب (إلا من رحم الله) بكل المعني في يقظتنا ونومنا و فينا من هم يعيش على هامش الحياة - تظليل و غدر والمؤامرات الدنئية علي بعضنا وهتك العرض واستباحة الأنفس والأموال والجهد الكثير الذي من بعده نكون كلنا خاسرون وليس فينا من كسب مع الأسف هذا إذا بقينا علي عقولنا
لو تطرقنا إلي تلك المواد وأخذنا في تحليلها ماذا نرى ؟ نرى الفساد والسموم في كل موادها!!................... ومن هو المستهدف فيها ؟ إنهم أبنائنا وبناتنا !!..........................
إن الوضع خطير جدا ..........
فلنقم ولنقف وقفة واحدة ضد هذه المواد المسممة والتي هي بالأساس تطبيق لأهداف ومخططات لتغريبنا تدعو إلى هدم القيم والآداب وتفرز عادات وتقاليد وقيم خارجية لا تمت لنا بأي صلة ويحرمها ديننا وعروبتنا. تدعو إلى نزع الغيرة والحمية والرجولة بل تدعو إلى نزع إنسانيتنا منا بحيث نكون كالأنعام بل أضل منها.
فلما لا نقوم نحن بوضع الأهداف والمواد الإعلامية والتي نري أنها مناسبة جدا لمجتمعنا الإسلامي وتكون هادفة في معناها.
لما لا نقوم نحن بالخطوة الأولي في عمل تلك المواد إذا لابد منها بحيث تكون هادفة وليس هائفة وتافهة.
هادفة إلي التمسك بالدين وبالقيم والأخلاق في تعاملنا مع بعضنا البعض وتعاملنا مع الجيرة وما هي الطرق إلى رضا الله ورضا الأب والأم وكيفية تعامل الإخوان مع بعضهم البعض وكيفية تعامل الأبناء مع آبائهم وغيرها من المواد الهادفة التي هي أساس الأمة العربية الإسلامية.
أننا بحاجة ماسة إلي الصحوة الإسلامية في ظل هذا الهرج والمرج التي تعيش فيه الأمة العربية والإسلامية.
أخواني وأخواتي أبنائي لما لا نستطيع إن نقول لا للتيار المعادي للأمة العربية والإسلامية وينخر فيها مثل السوس في العظم ويضع لها السم الزعاف لتتجرعه في كاس العسل.
مع الأسف الشديد تأتي تلك المواد من ألسن عربية وخليجية تدعوا لا إحلال العقيدة الإسلامية.
إن ندائي لكل من يقدم أو يمارس تلك المواد وترويجها أن يتقى الله فينا ويعلم انه سيقف أمام الله سبحانه وتعالي ليجازى عن ما قدمه للأمة الإسلامية وساهم في تدهور دينها وإحلال أخلاقها ومساهمته في فساد مجتمعاتها وان يتقى الله في أبنائنا وبناتنا.
إننا في حاجة ماسة إلي الصحوة الإسلامية وهي على عاتق علمائنا علماء الأمة الإسلامية الصادقين مع الله .
إن في القلب كثير وكثير فهل نستطيع ؟
يا امة محمد , يا امة محمد إن في القلب لغصة , وغصة , لقد امتلاء القلب بالقهر ,
وكبلت الهمم بالعجز , وصب على هاماتنا الذل , وطاف بنا بحر الفتن , يا امة محمد أين سيوف الحق , أين سيوف الله هل صدئت , ومع النسيان فقدت , أين المسلمين والأسود من أبناء العرب ومن أبناء الحسن والحسين ومن أبناء قريش والصحابة أين آل بيت رسول الله , أم مع الحضارة غيبوا , إن أعداء الله هم أعداء رسول الله قد اعدوا لنا , ما لا عين رأت
ولا أذن سمعت , وقد مكروا لنا ومكروا ناسين أو متناسين أن الله خير الماكرين , وهو اصدق القائلين (( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )) .(/1)
هذا ما قاله كبار المفكرين عن الرسول
محمد صلى الله عليه وسلم
إعداد: محمود أحمد إسماعيل
بين يديك جلة من أقوال بعض المستشرقين الذين أعجبوا بشخصية الرسول العظيم (صلى الله عليه وسلم)، ومع كونهم لم يرتدوا عباءة الإسلام فإنهم قالوا كلمة حق سطرها التاريخ على ألسنتهم وفي كتبهم وتراثهم، وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته قد فاضت بكم من الرقي الشخصي والأخلاقي والحضاري إلى أبعد حد مما جعلهم معجبون به إلى حد جعلهم يسطرون فيه الكتب ويذكرون شخصه في كل وقت. وهذا جزء من كل ما قالوا في عظيم شخصه وصفاته الجليلة.
(1) مهاتما غاندي
"أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر.. لقد أصبحت مقتنعا كل الاقتناع أن السيف لم يكن الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كان ذلك من خلال بساطة الرسول مع دقته وصدقه في الوعود، وتفانيه وإخلاصه لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته. هذه الصفات هي التي مهدت الطريق، وتخطت المصاعب وليس السيف. بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني من حياة الرسول وجدت نفسي أسفا لعدم وجود المزيد للتعرف أكثر على حياته العظيمة".
مهاتما غاندي في حديث لجريدة "ينج إنديا" وتكلم فيه عن صفات سيدنا محمد صلى الله علية وسلم
(2) راما كريشنا راو
"لا يمكن معرفة شخصية محمد بكل جوانبها. ولكن كل ما في استطاعتي أن أقدمه هو نبذة عن حياته من صور متتابعة جميلة. فهناك محمد النبي، ومحمد المحارب، ومحمد رجل الأعمال، ومحمد رجل السياسة، ومحمد الخطيب، ومحمد المصلح، ومحمد ملاذ اليتامى، وحامي العبيد، ومحمد محرر النساء، ومحمد القاضي، كل هذه الأدوار الرائعة في كل دروب الحياة الإنسانية تؤهله لأن يكون بطلا".
البروفسور رما كريشنا راو في كتابه "محمد النبي".
(3) ساروجنى ندو شاعرة الهند
"يعتبر الإسلام أول الأديان مناديًا ومطبقًا للديمقراطية، وتبدأ هذه الديمقراطية في المسجد خمس مرات في اليوم الواحد عندما ينادى للصلاة، ويسجد القروي والملك جنب لجنب اعترافًا بأن الله أكبر.. ما أدهشني هو هذه الوحدة غير القابلة للتقسيم والتي جعلت من كل رجل بشكل تلقائي أخًا للآخر".
(4) المفكر الفرنسي لامرتين
"إذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية والنتائج المذهلة لذلك رغم قلة الوسيلة، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في عبقريته؟ فهؤلاء المشاهير قد صنعوا الأسلحة وسنوا القوانين وأقاموا الإمبراطوريات. فلم يجنوا إلا أمجادا بالية لم تلبث أن تحطمت بين ظهرانَيْهم. لكن هذا الرجل (محمدا (صلى الله عليه وسلم)) لم يقد الجيوش ويسن التشريعات ويقم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروض الحكام فقط، وإنما قاد الملايين من الناس فيما كان يعد ثلث العالم حينئذ. ليس هذا فقط، بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات الباطلة. لقد صبر النبي وتجلد حتى نال النصر (من الله). كان طموح النبي (صلى الله عليه وسلم) موجها بالكلية إلى هدف واحد، فلم يطمح إلى تكوين
إمبراطورية أو ما إلى ذلك. حتى صلاة النبي الدائمة ومناجاته لربه ووفاته (صلى الله عليه وسلم) وانتصاره حتى بعد موته، كل ذلك لا يدل على الغش والخداع بل يدل على اليقين الصادق الذي أعطى النبي الطاقة والقوة لإرساء عقيدة ذات شقين: الإيمان بوحدانية الله، والإيمان بمخالفته تعالى للحوادث. فالشق الأول يبين صفة الله (ألا وهي الوحدانية)، بينما الآخر يوضح ما لا يتصف به الله تعالى (وهو المادية والمماثلة للحوادث). لتحقيق الأول كان لا بد من القضاء على الآلهة المدعاة من دون الله بالسيف، أما الثاني فقد تطلّب ترسيخ العقيدة بالكلمة (بالحكمة والموعظة الحسنة).
هذا هو محمد (صلى الله عليه وسلم) الفيلسوف، الخطيب، النبي، المشرع، المحارب، قاهر الأهواء، مؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقة، بلا أنصاب ولا أزلام. هو المؤسس لعشرين إمبراطورية في الأرض، وإمبراطورية روحانية واحدة. هذا هو محمد (صلى الله
عليه وسلم). بالنظر لكل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)؟
لامرتين من كتاب "تاريخ تركيا"، باريس، 1854، الجزء الثاني، صفحة 276-277.
(5) مونتجومري
إن استعداد هذا الرجل لتحمل الاضطهاد من أجل معتقداته، والطبيعة الأخلاقية السامية لمن آمنوا به واتبعوه واعتبروه سيدا وقائدا لهم، إلى جانب عظمة إنجازاته المطلقة، كل ذلك يدل على العدالة والنزاهة المتأصلة في شخصه. فافتراض أن محمدا مدع افتراض يثير مشاكل أكثر ولا يحلها. بل إنه لا توجد شخصية من عظماء التاريخ الغربيين لم تنل التقدير اللائق بها مثل ما فعل بمحمد.
مونتجومرى وات، من كتاب "محمد في مكة"، 1953، صفحة 52.
(6) بوسورث سميث(/1)
لقد كان محمد قائدا سياسيا وزعيما دينيا في آن واحد. لكن لم تكن لديه عجرفة رجال الدين، كما لم تكن لديه فيالق مثل القياصرة. ولم يكن لديه جيوش مجيشة أو حرس خاص أو قصر مشيد أو عائد ثابت. إذا كان لأحد أن يقول إنه حكم بالقدرة الإلهية فإنه محمد، لأنه استطاع الإمساك بزمام السلطة دون أن يملك أدواتها ودون أن يسانده أهلها.
بوسورث سميث، من كتاب "محمد والمحمدية"، لندن 1874، صفحة 92.
(7) جيبون أوكلي
ليس انتشار الدعوة الإسلامية هو ما يستحق الانبهار وإنما استمراريتها وثباتها على مر العصور. فما زال الانطباع الرائع الذي حفره محمد في مكة والمدينة له نفس الروعة والقوة في نفوس الهنود والأفارقة والأتراك حديثي العهد بالقرآن، رغم مرور اثني عشر قرنا من الزمان. لقد استطاع المسلمون الصمود يدا واحدة في مواجهة فتنة الإيمان بالله رغم أنهم لم يعرفوه إلا من خلال العقل والمشاعر الإنسانية. فقول "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" هي ببساطة شهادة الإسلام. ولم يتأثر إحساسهم بألوهية الله (عز وجل) بوجود أي من الأشياء المنظورة التي كانت تتخذ آلهة من دون الله. ولم يتجاوز شرف النبي وفضائله حدود الفضيلة المعروفة لدى البشر، كما أن منهجه في الحياة جعل مظاهر امتنان الصحابة له (لهدايته إياهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور) منحصرة في نطاق العقل والدين.
إدوارد جيبون وسيمون أوكلي، من كتاب "تاريخ إمبراطورية الشرق"، لندن 1870، صفحة 54.
(8) الدكتور زويمر
إن محمداً كان ولا شك من أعظم القواد المسلمين الدينيين، ويصدق عليه القول أيضاً بأنه كان مصلحاً قديراً وبليغاً فصيحاً وجريئاً مغواراً، ومفكراً عظيماً، ولا يجوز أن ننسب إليه ما ينافي هذه الصفات، وهذا قرآنه الذي جاء به وتاريخه يشهدان بصحة هذا الادعاء.
الدكتور زويمر الكندي مستشرق كندي ولد 1813 ـ 1900 قال في كتابه (الشرق وعاداته).
(9) سانت هيلر
كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي بين ظهرانيها، فكان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية وهما العدالة والرحمة.
العلامة برتلي سانت هيلر الألماني مستشرق ألماني ولد في درسدن 1793 ـ 1884 قال في كتابه (الشرقيون وعقائدهم).
(10) إدوار مونته
عرف محمد بخلوص النية والملاطفة وإنصافه في الحكم، ونزاهة التعبير عن الفكر والتحقق، وبالجملة كان محمد أزكى وأدين وأرحم عرب عصره، وأشدهم حفاظاً على الزمام فقد وجههم إلى حياة لم يحلموا بها من قبل، وأسس لهم دولة زمنية ودينية لا تزال إلى اليوم.
الفيلسوف إدوار مونته الفرنسي مستشرق فرنسي ولد في بلدته لوكادا 1817 ـ 1894 قال في آخر كتابه (العرب).
(11) برناردشو
إن العالم أحوج ما يكون إلى رجلٍ في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات، خالداً خلود الأبد، وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة، وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة (يعني أوروبا).إنّ رجال الدين في القرون الوسطى، ونتيجةً للجهل أو التعصّب، قد رسموا لدين محمدٍ صورةً قاتمةً، لقد كانوا يعتبرونه عدوًّا للمسيحية، لكنّني اطّلعت على أمر هذا الرجل، فوجدته أعجوبةً خارقةً، وتوصلت إلى أنّه لم يكن عدوًّا للمسيحية، بل يجب أنْ يسمّى منقذ البشرية، وفي رأيي أنّه لو تولّى أمر العالم اليوم، لوفّق في حلّ مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها.
برناردشو الإنكليزي ولد في مدينة كانيا 1817 ـ 1902 له مؤلف أسماه (محمد)، وقد أحرقته السلطة البريطانية.
(12) السير موير
إن محمداً نبي المسلمين لقب بالأمين منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه وحسن سلوكه، ومهما يكن هناك من أمر فإن محمداً أسمى من أن ينتهي إليه الواصف، ولا يعرفه من جهله، وخبير به من أمعن النظر في تاريخه المجيد، ذلك التاريخ الذي ترك محمداً في طليعة الرسل ومفكري العالم.
السير موير الإنكليزي في كتابه (تاريخ محمد).
(13) سنرستن الآسوجي
إننا لم ننصف محمداً إذا أنكرنا ما هو عليه من عظيم الصفات وحميد المزايا، فلقد خاض محمد معركة الحياة الصحيحة في وجه الجهل والهمجية، مصراً على مبدئه، وما زال يحارب الطغاة حتى انتهى به المطاف إلى النصر المبين، فأصبحت شريعته أكمل الشرائع، وهو فوق عظماء التاريخ.
العلامة سنرستن الآسوجي: مستشرق آسوجي ولد عام 1866، أستاذ اللغات الساميّة، ساهم في دائرة المعارف، جمع المخطوطات الشرقية، محرر مجلة (العالم الشرقي) له عدة مؤلفات منها: (القرآن الإنجيل المحمدي) ومنها: (تاريخ حياة محمد).
(14) المستر سنكس(/2)
ظهر محمد بعد المسيح بخمسمائة وسبعين سنة، وكانت وظيفته ترقية عقول البشر، بإشرابها الأصول الأولية للأخلاق الفاضلة، وبإرجاعها إلى الاعتقاد بإله واحد، وبحياة بعد هذه الحياة...إلى أن قال: إن الفكرة الدينية الإسلامية، أحدثت رقياً كبيراً جداً في العالم، وخلّصت العقل الإنساني من قيوده الثقيلة التي كانت تأسره حول الهياكل بين يدي الكهان. ولقد توصل محمد ـ بمحوه كل صورة في المعابد وإبطاله كل تمثيل لذات الخالق المطلق ـ إلى تخليص الفكر الإنساني من عقيدة التجسيد الغليظة.
المستر سنكس الأمريكي: مستشرق أميركي ولد في بلدته بالاي عام 1831، توفي 1883 في كتابه: (ديانة العرب).
(15) آن بيزيت
من المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبي العرب العظيم ويعرف كيف عاش هذا النبي وكيف علم الناس، إلا أن يشعر بتبجيل هذا النبي الجليل، أحد رسل الله العظماء، ورغم أنني سوف أعرض فيما أروي لكم أشياء قد تكون مألوفة للعديد من الناس فإنني أشعر في كل مرة أعيد فيها قراءة هذه الأشياء بإعجاب وتبجيل متجددين لهذا المعلم العربي العظيم. هل تقصد أن تخبرني أن رجلاً في عنفوان شبابه لم يتعد الرابعة والعشرين من عمره بعد أن تزوج من امرأة أكبر منه بكثير وظل وفياً لها طيلة 26 عاماً ثم عندما بلغ الخمسين من عمره - السن التي تخبو فيها شهوات الجسد - تزوج لإشباع رغباته وشهواته؟! ليس هكذا يكون الحكم على حياة الأشخاص.فلو نظرت إلى النساء اللاتي تزوجهن لوجدت أن كل زيجة من هذه الزيجات كانت سبباً إما في الدخول في تحالف لصالح أتباعه ودينه أو الحصول على شيء يعود بالنفع على أصحابه أو كانت المرأة التي تزوجها في حاجة ماسة للحماية.
آن بيزينت: حياة وتعاليم محمد دار مادرس للنشر 1932.
(16) مايكل هارت
إن اختياري محمداً، ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ، قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين: الديني والدنيوي....فهناك رُسل وأنبياء وحكماء بدءوا رسالات عظيمة، ولكنهم ماتوا دون إتمامها، كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم، أو سبقهم إليهم سواهم، كموسى في اليهودية، ولكن محمداً هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية، وتحددت أحكامها، وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته. ولأنه أقام جانب الدين دولة جديدة، فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضاً، وحّد القبائل في شعب، والشعوب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها، ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم. أيضاً في حياته، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية، وأتمها.
مايكل هارت: في كتابه مائة رجل من التاريخ.
(17) تولستوي
يكفي محمداً فخراً أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ، ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.
ليف تولستوي «1828 ـ 1910» الأديب العالمي الذي يعد أدبه من أمتع ما كتب في التراث الإنساني قاطبة عن النفس البشرية.
(18) الدكتور شبرك النمساوي.
إنّ البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنّه رغم أُمّيته، استطاع قبل بضعة عشر قرنًا أنْ يأتي بتشريع، سنكونُ نحنُ الأوروبيين أسعد ما نكون، إذا توصلنا إلى قمّته.
--------------
وسبحان الخالق العظيم حين زكاه وقال:
وَإِنَّكَ لَعلى خُلُقٍ عَظِيم
فاللهم صلي على محمد عدد ما صل علية الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون
أسال الله بأحب الأسماء إلية اسأله سبحانه بأرجى أعملنا ألا وهي أننا نحبك يالله
أن لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم
وان لا تحرمنا صحبة محمد صلى الله علية وسلم في الجنة
اللهم لم نصحبه في الدنيا ...اللهم لا تحرمنا صحبته في الجنة
اللهم آمين ... اللهم آمين
*محرر الصفحات المتخصصة على موقع إسلام أون لاين(/3)
هذا ما يريده اليهود فاحذروه!
الكاتب: الشيخ أ.د.عبد الله قادري الأهدل
كان هدف اليهود وأعوانهم من الأمريكان وغيرهم من الدول الغربية، وبخاصة بريطانيا التي هي أساس تمكين المحتل المعدي اليهودي، منذ كانت هي تحتل كثيرا من البلدان العربية، ومنه الأرض المباركة "فلسطين".
كان هدفهم أن يقدموا لما سمي بالسلطة الفلسطينية طعما يغريها بالدخول في صراع واقتتال مع المجاهدين الذين نذروا أنفسهم للجهاد في سبيل الله دفعا لعدوان اليهود الذين احتلوا بلادهم وهدموا بيوتهم وأخرجوهم من ديارهم ومارسوا معهم كل أنواع العدوان، من قتل واغتيال وسجن وتعذيب وحصار، وتدنيس لمقدسات.
جعل ذلك كله شباب فلسطين الذين ولدوا في عهد الاستكبار اليهودي الذي أذل آباءهم وانتهك حرماتهم وظن أنه قد استتب له الأمر وأصبح سيد الموقف ومالك البلاد بدون منازع، جعلهم يتحلقون حول بعض علمائهم ومربيهم في مساجدهم وجامعاتهم، يتلون ويستمعون لسورة الأنفال والتوبة وآل عمران والأحزاب ومحمد والحشر، وهي تذكرهم بجهاد القدوة الأولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفوة أصحابه، وهم ينظمون صفوفهم مجتمعين على كلمة الحق معتصمين بحبل الله، متوكلين عليه، يرفعون راية الإسلام يدفعون عدوان المشركين في غزواتهم وسراياهم.
ويتصدون لكيد اليهود وعدوانهم ومؤامراتهم مع المشركين والمنافقين، فطهروا منهم طيبة الطيبة التي عاثوا فيها فسادا، فأذاقوهم مالا يقوم معوجهم غيره، فطردوا من طردوا وقتلوا من قتلوا، وذلك هو الدواء الناجع لقتلة الأنبياء والآمرين بالمعروف ونهوا عن المنكر.
فأقلق شباب الجهاد في فلسطين اليهود المعتدين الذين امتلأت ترساناتهم ومخازنهم بكل أنواع السلاح الحديث الفتاك، من مقاتلات جوية، وأسلحة برية وبحرية، مدعومة من الصليبية الجديدة في البيت الأبيض، والعواصم الأوربية، وبخاصة لندن، أقلقهم ذلك الشباب بمواقفه الجديدة الغريبة على المحتل ومن يظاهره، لأنه باع نفسه لربه، باذلا نفسه وماله وأهله، يتلقى صواريخ العدو ورصاصه بصدره، لم يكن يملك إلا الحجر يرمي به وجوه هذا العدو بيده أو بمقلاعه، وأحيانا يقع في يده سلاحا خفيفا، جعل فرائص العدو ترتعد، وقلوبه ترتجف، والأرض تتزلزل تحت أقدامه.
فانطلق قادة الأمريكان يمهدون لليهود طوق النجاة من الجهاد الذي أخذ ينمو ويتصاعد، فبدءوا ذلك التمهيد بجر رئيس النظام السابق في العراق، لحرب الخليج الأولى، مع العراق، ثم بعدوانه على الكويت التي كانت تكأة لحرب الخليج الثانية.
ثم رتبت أمريكا مؤتمر مدريد الذي كانت وسائل الإعلام تضج به، وهم يخططون من وراء الستائر لاتفاقية أوسلو، فتم لهم ما ظنوا أنه سينقذ المحتل المعتدي من أطفال الحجارة وشباب الجهاد، عندما تطأ أقدام السلطة الأرض المباركة، فتصطدم بشباب الجهاد، وتوجه كل فئة رصاصها إلى صدور الفئة الأخرى، والعدو يصفق ويقهقه.
ولكن قائد السلطة السابق آنذاك كان يجيد المناورة ويحاول تجنيب الشعب الفلسطيني الانقسام والتقاتل، وقد كنا نرميه بالتآمر معهم ولكن مواقفه أثبتت أنه كان خيرا من مواقف غيره، فوقفوا من ذلك الموقف اليهودي الغادر الذي لا يفي بعهد ولا يتم ما أبرم من عقد، فسجنوه في منزله وحاصروه بدباباتهم وأزعجوه بصواريخهم، ثم لا ندري من قتله بالسم بعد أربع سنوات من حصاره، ولا غرابة إذا كانوا هم وراء تسميميه، لأن ذلك من شيمهم، وقد سممت إحدى نسائهم خير خلق الله محمدا صلى الله عليه وسلم.
وهم اليوم يعقدون الاتفاقات مع السلطة الجديدة بوساطة دول مجاورة، تشتمل على ما تسميه السلطة بالتهدئة، وتحاول إقناع المجاهدين بها، فيستجيبون لذلك وهم يعلمون أن اليهود أهل غدر ومكر لا يمكن أن يلتزموا بتهدئة ولا هدنة مؤقتة أو غير مؤقتة، ولكن المجاهدين يريدون أن يثبتوا للسلطة وللوسطاء وللعالم أن طبيعة اليهود لا تتغير، وأنهم يطلبون أن يعطوا المزيد فيأخذوا وهم يقبضون أيديهم فلا يعطون غيرهم شيئا، وهذا ما حصل ويحصل منهم قديما وحديثا.
فقد حاول رئيس السلطة الاجتماع بزعيمهم الطاغية، لينفذوا شيئا مما تم الاتفاق عليه، ولم يستجب له اليهود منتظرين ما يطلبونه منه ومن سلفه، وهو سلب سلاح المجاهدين، واعتقال قادتهم ومصادرة مؤسساتهم والقضاء على ما يسمونه بالبينة التحتية لهم، وهدفهم من ذلك كله هو أن ينشب القتال بين السلطة وبين المجاهدين، لتستقر أمورهم ويصفو الجو لهم، لأنهم يعلمون أن المجاهدين قد شبوا عن الطوق وتجاوزوا قنطرة الهيمنة عليهم، وإن كانوا لا يرغبون مطلقا، أن يوجهوا رصاصهم إلى صدور إخوانهم الفلسطينيين، سواء كانوا في السلطة أو غيرها.
وقد صبروا كثيرا عندما أدخلوا السجون والمعتقلات، ورشوا برصاص السلطة وهم خارجون من بيوت الله التي يلجئون فيها إلى ربهم لينصرهم على عدوهم.(/1)
واليوم تصر السلطة على استمرار التهدئة من قبل المجاهدين وعدوهم يحتل مدنهم وقراهم، ويغتال أبناءهم ويعتقلهم ليملأ بهم الزنازين إضافة إلى إخوانهم الذين مضت لهم في السجون الأعواد تلو الأعوام.
وبدأ الرصاص الفلسطيني يطلق على الصدور الفلسطينية، وتهديدات السلطة تدوي في وسائل الإعلام، ضد المجاهدين، والعدو يضغط ويشتد، وذلك ما سعى ويسعى إليه منذ اتفاقية أوسلو، ولا ندري كيف تصر السلطة على تهدئة من طرف واحد، وهم الفلسطينيون، بينما عدوهم يعيث فسادا في كل شبر من أرضهم.
هل تنوي السلطة المضي في تنفيذ ما يصر العدو على فعله، ليتحقق له ما أراد؟
إن هذا هو ما يتمناه اليهود، ويغريها به البيت الأبيض الذي يعتدي على العالم كله، وبخاصة البلدان الإسلامية، وبخاصة الشعوب العربية وأبنائها.
لذلك نناشد السلطة الفلسطينية أن تتحد مع أبنائها المجاهدين، وتيأس من الصلح مع اليهود، فلا سبيل إلى رد الحق إلى أهله من قبل اليهود إلا بما تضمنته السور الماضية: آل عمران والأنفال والتوبة والأحزاب ومحمد والحشر وغيرها من آيات الجهاد في سبيل الله.
ألا تكفيكم التجارب التي مررتم بها مع اليهود منذ قرن من الزمان.
كما نناشد رجال الجهاد أن يحاولوا الابتعاد عن المعارك مع السلطة أو مع أي فئة فلسطينية، فلا تطلقوا رصاصكم إلى صدوركم.
http://www.al-rawdah.net/r.php?sub0=allbooks&sub1=a5_pal&p=6
((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا...))
((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [آل عمران(103،105)](/2)
هذا هو الطريق
يتناول الدرس طبيعة الصراع بين الحق والباطل وموقف الباطل من الفئة المؤمنة من خلال ملحمة أصحاب الأخدود وما فيها من عبر، ثم ذكر جزاء المؤمنين على ثباتهم على الإيمان، وجزاء الطواغيت على بطشهم وتنكيلهم بالمؤمنين، ثم عرض لطبيعة الدعوة إلى الله ونماذج من تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على ذلك .
}وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ[1]وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ[2]وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ[3]قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ[4]النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ[5]إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ[6]وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ[7]وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[8]الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[9] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ[10]إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ[11]إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ[12]إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ[13]وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ[14]ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ[15]فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ[16]{ [سورة البروج] .
إن قصة أصحاب الأخدود حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل . فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها، والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها . . كان يخط بها خطوطاً عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله، ودور البشر فيها، واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع - وهو أوسع رقعة من الأرض، وأبعد مدى من الحياة - وكان يرسم للمؤمنين معالم الطريق، ويعدُّ نفوسهم لتلقي أي من هذه الاحتمالات التي يجري بها القدر المرسوم، وفق الحكمة المكنونة في غيب الله المستور .
إنها قصة فئة آمنت بربها، واستعلنت حقيقة إيمانها . ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق ' الإنسان ' في حرية الاعتقاد بالحق والإيمان بالله العزيز الحميد، وبكرامة الإنسان عند الله عن أن يكون لعبة يتسلى بها الطغاة بآلام تعذيبها، ويتلهون بمنظرها في أثناء التعذيب بالحريق .
وقد ارتفع الإيمان بهذه القلوب على الفتنة، وانتصرت فيها العقيدة على الحياة، فلم ترضخ لتهديد الجبارين الطغاة، ولم تفتن عن دينها، وهي تحرق بالنار حتى تموت .
لقد تحررت هذه القلوب من عبوديتها للحياة، فلم يستذلها حب البقاء وهي تعاين الموت بهذه الطريقة البشعة، وانطلقت من قيود الأرض وجواذبها جميعاً، وارتفعت على ذواتها بانتصار العقيدة على الحياة فيها .
وفي مقابل هذه القلوب المؤمنة الخيّرة الرفيقة الكريمة هناك جبلات جاحدة شريرة مجرمة لئيمة، وجلس أصحاب هذه الجبلات على النار، يشهدون كيف يتعذب المؤمنون ويتألمون، جلسوا يتلهون بمنظر الحياة تأكلها النار، والأناسي الكرام يتحولون وقوداً وتراباً .
وكلما ألقي فتى أو فتاة، صبية أو عجوز، طفل أو شيخ، من المؤمنين الخيرين الكرام في النار؛ ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس الطغاة، وعربد السعار المجنون بالدماء والأشلاء !
هذا هو الحادث البشع الذي انتكست فيه جبلات الطغاة وارتكست في هذه الحمأة، فراحت تلتذ مشهد التعذيب المروع العنيف، بهذه الخساسة التي لم يرتكس فيها وحش قط، فالوحش يفترس ليقتات، لا ليلتذ آلام الفريسة في لؤم وخسة !
وهو ذاته الحادث الذي ارتفعت فيه أرواح المؤمنين وتحررت وانطلقت إلى ذلك الأوج السامي الرفيع، الذي تشرف به البشرية في جميع الأجيال والعصور .
في حساب الأرض يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان، وإن هذا الإيمان الذي بلغ الذروة العالية، في نفوس الفئة الخيرة الكريمة الثابتة المستعلية . . لم يكن له وزن ولا حساب في المعركة التي دارت بين الإيمان والطغيان !
ولا تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث،كما لا تذكر النصوص القرآنية، أن الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض بجريمتهم البشعة، كما أخذ قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وقوم لوط، أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر .. ففي حساب الأرض تبدوا هذه الخاتمة أسيفة أليمة !
أفهكذا ينتهي الأمر، وتذهب الفئة المؤمنة التي ارتفعت إلى ذروة الإيمان ؟ تذهب مع آلامها الفاجعة في الأخدود؟ بينما تذهب الفئة الباغية، التي ارتكست إلى هذه الحمأة، ناجية ؟!
حساب الأرض يحيك في الصدر شيء أمام هذه الخاتمة الأسيفة ! ولكن القرآن يعلَّم المؤمنين شيئاً آخر، ويكشف لهم عن حقيقة أخرى، ويبصرهم بطبيعة القيم التي يزنون بها، وبمجال المعركة التي يخوضونها .(/1)
إن الحياة وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام، ومن متاع وحرمان .. ليست هي الغاية والقيمة الكبرى في الميزان .. وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصوراً على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة .
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن السلعة الرائجة في سوق الله سلعة الإيمان، وإن النصر في أرفع صورة هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة .. وفي هذا الحادث انتصرت أرواح المؤمنين على الخوف والألم، وانتصرت على جواذب الأرض والحياة، وانتصرت على الفتنة انتصاراً يشرف الجنس البشري كله في جميع الأعصار .. وهذا هو الانتصار .
إن الناس جميعاً يموتون، وتختلف الأسباب، ولكن الناس جميعاً لا ينتصرون هذا الانتصار، ولا يرتفعون هذا الارتفاع، ولا يتحررون هذا التحرر، ولا ينطلقون هذا الانطلاق إلى هذه الآفاق.
إنما هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده لتشارك الناس في الموت، وتنفرد دون الناس في المجد، المجد في الملأ الأعلى، وفي دنيا الناس أيضاً، إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة الأجيال بعد الأجيال !
لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير، معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد ؟
إنه معنى كريم جداً، ومعنى كبير جداً، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض، ربحوه وهم يجدون مس النار، فتحرق أجسادهم الفانية، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار !
ثم إن مجال المعركة ليس هو الأرض وحدها، وليس الحياة الدنيا وحدها، وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال . إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها، ويزنها بميزان غير ميزان الأرض في جيل من أجيالها، وغير ميزان الأرض في أجيالها جميعاً . والملأ الأعلى يضم من الأرواح الكريمة أضعاف أضعاف ما تضم الأرض من الناس.
وما من شك أن ثناء الملأ الأعلى وتكريمه أكبر وأرجح في أي ميزان من رأي أهل الأرض وتقديرهم على الإطلاق !
وبعد ذلك كله هناك الآخرة، وهي المجال الأصيل الذي يلحق به مجال الأرض، ولا ينفصل عنه، لا في الحقيقة الواقعة، ولا في حس المؤمن بهذه الحقيقة، فالمعركة إذن لم تنته، وخاتمتها الحقيقية لم تجيء بعد، والحكم عليها بالجزء الذي عرض منها على الأرض حكم غير صحيح؛ لأنه حكم على الشطر الصغير منها والشطر الزهيد .
النظرة الأولى: هي النظرة القصيرة الضيقة المجال التي تعنّ للإنسان العجول .
والنظرة الثانية: الشاملة، البعيدة المدى هي التي يروض القرآن المؤمنين عليها؛ لأنها تمثل الحقيقة التي يقوم عليها التصور الإيماني الصحيح .
وعد الله للمؤمنين جزاء على الإيمان والطاعة، والصبر على الابتلاء، والانتصار على فتن الحياة .. هو:
طمأنينة القلب: }الَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[28]{'سورة الرعد' .
وهو الرضوان والود من الرحمن : }إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا[96]{ 'سورة مريم'.
وهو الذكر في الملأ الأعلى : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيَقُولُ مَاذَا قَالَ عَبْدِي فَيَقُولُونَ حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ فَيَقُولُ اللَّهُ ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ' رواه الترمذي وأحمد.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:' يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً' رواه البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد.
وهو اشتغال الملأ الأعلى بأمر المؤمنين في الأرض: }الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ[7]{ 'سورة غافر' .(/2)
وهو الحياة عند الله للشهداء : }وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[169]فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[170]{.
وعيد الله للمكذبين والطغاة والمجرمين:
كما كان وعده المتكرر بأخذ المكذبين والطغاة والمجرمين في الآخرة والإملاء لهم في الأرض والإمهال إلى حين، وإن كان أحياناً قد أخذ بعضهم في الدنيا، ولكن التركيز كله على الآخرة في الجزء الأخير:
} لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ[196]مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ[197]{'سورة آل عمران'.
} وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ[42]مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ[43]{ 'سورة إبراهيم'.
} فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ[42]يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ[43]خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ[44]{ 'سورة المعارج'.
وهكذا اتصلت حياة الناس بحياة الملأ الأعلى، واتصلت الدنيا بالآخرة، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر، والحق والباطل، والإيمان والطغيان . ولم تعد الحياة الدنيا هي خاتمة المطاف، ولا موعد الفصل في هذا الصراع، كما أن الحياة الدنيا وكل ما يتعلق بها من لذائد وآلام ومتاع وحرمان، لم تعد هي القيمة العليا في الميزان .
انفسح المجال في المكان، وانفسح المجال في الزمان، وانفسح المجال في القيم والموازين، واتسعت آفاق النفس المؤمنة، وكبرت اهتماماتها؛ فصغرت الأرض وما عليها، والحياة الدنيا وما يتعلق بها، وكانت قصة أصحاب الأخدود في القمة في إنشاء هذا التصور الإيماني الواسع الشامل الكبير الكريم .
طبيعة الدعوة إلى الله:
هناك إشعاع آخر تطلقه قصة أصحاب الأخدود وسورة البروج حول طبيعة الدعوة إلى الله، وموقف الداعية أمام كل احتمال . لقد شهد تاريخ الدعوة إلى الله نماذج منوعة من نهايات في الأرض مختلفة للدعوات: شهد مصارع قوم نوح، وقوم هود، وقوم شعيب، وقوم لوط، ونجاة الفئة القلية العدد، مجرد النجاة . ولم يذكر القرآن للناجين دوراً بعد ذلك في الأرض والحياة .
وهذه النماذج تقرر أن الله سبحانه وتعالى يريد أحياناً أن يعجَّل للمكذبين الطغاة بقسط من العذاب في الدنيا، أما الجزاء الأوفى فهو مرصود لهم هناك . وشهد تاريخ الدعوة مصرع فرعون وجنوده، ونجاة موسى وقومه، مع التمكين للقوم في الأرض فترة كانوا فيها أصلح ما كانوا في تاريخهم.. وهذا نموذج غير النماذج الأولى .
وشهد تاريخ الدعوة كذلك مصرع المشركين الذين استعصوا على الهدى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وانتصار المؤمنين انتصاراً كاملاً . مع انتصار العقيدة في نفوسهم انتصاراً عجيباً . وتم للمرة الوحيدة في تاريخ البشرية أن أقيم منهج الله مهيمناً على الحياة في صورة لم تعرفها البشرية قط، من قبل ولا من بعد .
وشهد - كما رأينا - نموذج أصحاب الأخدود . وشهد نماذج أخرى أقل ظهوراً في سجل التاريخ الإيماني في القديم والحديث . وما يزال يشهد نماذج تتراوح بين هذه النهايات التي حفظها على مدار القرون .
ولم يكن بدّ من النموذج الذي يمثله حادث الأخدود، إلى جانب النماذج الأخرى، القريب منها والبعيد . لم يكن بد من هذا النموذج الذي لا ينجو فيه المؤمنون، ولا يؤخذ الكافرون ! ذلك ليستقر في حس المؤمنين - أصحاب دعوة الله - أنهم قد يدعون إلى النهاية كهذه النهاية في طريقهم إلى الله، وأن ليس لهم من الأمر شيء، إنما أمرهم وأمر العقيدة إلى الله !
إن عليهم أن يؤدوا واجبهم، ثم يذهبوا، وواجبهم أن يختاروا الله، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية . ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء . وينتهي بهم إلى نهاية من تلك النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان، أو إلى غيرها مما يعلمه هو ويراه .
إنهم أجراء عند الله، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا عملوا وقبضوا الأجر المعلوم ! وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير !
وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب، ورفعة في الشعور، وجمالاً في التصور، وانطلاقاً من الأوهاق والجواذب، وتحرراً من الخوف والقلق، في كل حال من الأحوال .(/3)
وهم يقبضون الدفعة الثانية في الملأ الأعلى وذكراً وكرامة، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة .
ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حساباً يسيراً ونعيماً كبيراً .. ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعاً: رضوان الله .
وهكذا انتهت التربية القرآنية بالفئة المختارة من المسلمين في الصدر الأول إلى هذا التطور، الذي أطلقهم من أمر ذواتهم وشخوصهم . فاخرجوا أنفسهم من الأمر البتة، وعملوا أجراء عند صاحب الأمر ورضوا خيرة الله على أي وضع وعلى أي حال .
التربية النبوية:
وكانت التربية النبوية تتمشى مع التوجيهات القرآنية، وتوجه القلوب والأنظار إلى الجنة، وإلى الصبر على الدور المختار حتى يأذن الله بما يشاء في الدنيا والآخرة سواء :
كان صلى الله عليه وسلم يرى عماراً وأمه وأباه رضي الله عنهم يعذبون العذاب الشديد في مكة، فما يزيد على أن يقول:' صَبْرَاً آَلَ يَاسِرٍ، مَوْعِدكُمْ الجَنَّة ' رواه الحاكم وأبونعيم في حلية الأولياء.
وَعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا قَالَ:' كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ'رواه البخاري وأبوداود وأحمد.
إن لله حكمة وراء كل وضع ووراء كل حال. ومدبر هذا الكون كله، المطلع على أوله وآخره، المنسق لأحداثه وروابطه، هو الذي يعرف الحكمة المكونة في غيبه المستور، الحكمة التي تتفق مع مشيئته في خط السير الطويل .
وفي بعض الأحيان يكشف لنا - بعد أجيال وقرون - عن حكمة حادث لم يكن معاصروه يدركون حكمته، ولعلهم كانوا يسألون لماذا ؟ لماذا يا رب يقع هذا ؟ وهذا السؤال نفسه هو الجهل الذي يتوقاه المؤمن؛ لأنه يعرف ابتداء أن هناك حكمة وراء كل قدر، ولأن سعة المجال في تصوره، وبعد المدى في الزمان والمكان والقيم والموازين تغنيه عن التفكير ابتداء في مثل هذا السؤال، فيسير مع دورة القدر في استسلام واطمئنان . .
قلوب متجردة:
لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة، وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء، وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض، ولا تنظر إلا إلى الآخرة، ولا ترجو إلا رضوان الله، قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية حتى الموت، بلا جزاء في هذه الأرض قريب.
حتى إذا وجدت هذه القلوب، التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض إلا أن تعطى بلا مقابل - أي مقابل - وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للفصل بين الحق والباطل . حتى إذا وجدت هذه القلوب، وعلم الله منها صدق نيّتها على ما بايعت وعاهدت، آتاها النصر في الأرض، وائتمنها عليه، لا لنفسها، ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي، وهي أهل لأداء الأمانة منذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه، ولم تتطلع إلى شئ من الغنم في الأرض تعطاه، وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه .
وكل الآيات التي ذكر فيها النصر، وذكر فيها المغانم، وذكر فيها أخذ المشركين في الأرض بأيدي المؤمنين نزلت في المدينة بعد ذلك . . وبعد أن أصبحت هذه الأمور خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه .
وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية، تقرره في صورة عملية محددة تراها الأجيال، فلم يكن جزاء التعب والنصب والتضحية والآلام، إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !(/4)
وهذه اللفتة جديرة بأن يتدبرها الدعاة إلى الله، في كل أرض وفي كل جيل، فهي كفيلة بأن تريهم معالم الطريق واضحة بلا غبش، وأن تثبت خطى الذين يريدون أن يقطعوا الطريق إلى نهايته، كيفما كانت هذه النهاية . ثم يكون قدر الله بدعوته وبهم ما يكون، فلا يلتفتون في أثناء الطريق الدامي المفروش بالجماجم والأشلاء، وبالعرق والدماء، إلى نصر أو غلبة، أو فصل بين الحق والباطل في هذه لأرض .. ولكن إذا كان الله يريد أن يصنع بهم شيئاً من هذا لدعوته ولدينه فسيتم ما يريده الله . لا جزاءً على الآلام والتضحيات .. لا، فالأرض ليست دار جزاء، وإنما تحقيقاً لقدر الله في أمر دعوته ومنهجه على أيدي ناس من عباده يختارهم ليمضي بهم من الأمر ما يشاء، وحسبهم هذا الاختيار الكريم، الذي تهون إلى جانبه وتصغر هذه الحياة، وكل ما يقع في رحلة الأرض من سراء أو ضراء .
حقيقة أخرى:
هنالك حقيقة أخرى يشير إليها أحد التعقيبات القرآنية على قصة الأخدود في قوله تعالى:} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[8]{ 'سورة البروج' .
حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل:
إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة عقيدة وليست شيئاً آخر على الإطلاق .
وإن خصومهم لا ينقمون منهم إلا الإيمان، ولا يسخطون منهم إلا العقيدة .
إنها ليست معركة سياسية ولا معركة اقتصادية، ولا معركة عنصرية .. ولو كانت شيئاً من هذا لسهل وقفها، وسهل حل إشكالها، ولكنها في صميمها معركة عقيدة: إما كفر وإما إيمان .. إما جاهلية وإما إسلام !
ولقد كان كبار المشركين يعرضون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المال والحكم والمتاع في مقابل شيء واحد ؛ أن يدع معركة العقيدة وأن يدهن في هذا الأمر ! ولو أجابهم - حاشاه - إلى شيء مما أراده ما بقيت بينهم وبينه معركة على الإطلاق !
إنها قضية عقيدة ومعركة عقيدة .. وهذا ما يجب أن يستيقنه المؤمنون حيثما واجهوا عدواً لهم، فإنه لا يعاديهم لشيء إلا لهذه العقيدة:} إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[8]{ 'سورة البروج' . ويخلصوا له وحده الطاعة والخضوع !
معركة عقدية:
وقد يحاول أعداء المؤمنين أن يرفعوا للمعركة راية غير راية العقيدة، راية اقتصادية أو سياسية أو عنصرية، كي يموَّهوا على المؤمنين حقيقة المعركة، ويطفئوا في أرواحهم شعلة العقيدة . فمن واجب المؤمنين ألا يُخدعوا، ومن واجبهم أن يدركوا أن هذا تمويه لغرض مبيت، وأن الذي يغير راية المعركة إنما يريد أن يخدعهم عن سلاح النصر الحقيقي فيها، النصر في أية صورة من الصور، سواء جاء في صورة الانطلاق الروحي كما وقع للمؤمنين في حادث الأخدود، أو في صورة الهيمنة - الناشئة من الانطلاق الروحي - كما حدث للجيل الأول من المسلمين .
خداع الصليبية:
ونحن نشهد نموذجاً من تمويه الراية في محاولة الصليبية العالمية اليوم أن تخدعنا عن حقيقة المعركة، وأن تزور التاريخ، فتزعم لنا أن الحروب الصليبية كانت ستاراً للاستعمار.. كلا.. إنما كان الاستعمار الذي جاء متأخراً هو الستار للروح الصليبية التي لم تعد قادرة على السفور كما كانت في القرون الوسطى ! والتي تحطمت على صخرة العقيدة بقيادة مسلمين من شتى العناصر، وفيهم صلاح الدين الكردي، وتوران شاه المملوكي، العناصر التي نسيت قوميتها وذكرت عقيدتها فانتصرت تحت راية العقيدة !
} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ[8]{ 'سورة البروج' .
وصدق الله العظيم، وكذب المموهون الخادعون !
من كتاب'معالم في الطريق' للأستاذ/ سيد قطب(/5)
هذا هو رمضان
الحمد لله الذي جعل الصّيامَ جُنّة وسببًا موصِلاً إلى الجنّة، أحمده سبحانه وأشكره هدى ويسّر فضلاً مِنه ومِنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، دلّنا على أوضحِ طريقٍ وأقوم سُنّة.
بعد ساعات تهب علينا نسائم شهر الصيام والقيام، شهر الراحة النفسية والسعادة الروحية، شهر الركوع والسجود.
مساجدنا فيه معمورة، ومصابيحنا فيه مشهورة، وذنوبنا فيه بإذن الله مغفورة، وقلوبنا فيه مجبورة. شهر ضياء المساجد، شهر الذكر والمحامد، شهر الطمأنينة ومحاسبة النفس، والتخلص من النزعات الذاتية، والملذات الآنية، في شهوات البطون والفروج، والعقول والأفئدة، والتي شرع الصيام لأجل تضييق مجاريها في النفوس، وكونه فرصة كل تائب، وعبرة كل آيب توّاقة إلى تحصيل ما يُثبت قلوبها،
أيها المسلمون، شهر رمضان المبارك هو شهر القرآن، القرآن الذي لا تنطفئ مصابيحه، والسراج الذي لا يخبو توقده، والمنهاج الذي لا يضل ناهجه، والعزّ الذي لا يهزم أنصاره، القرآن ـ عباد الله ـ هو في الحقيقة بمثابة الروح للجسد، والنور للهداية، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يعمل به فما هو بحيّ، وإن تكلم أو عمل أو غدا أو راح، بل هو ميت الأحياء، ومن لم يعمل به ضل وما اهتدى، وإن طار في السماء أو غاص في الماء، أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام:122].
إن الإنسان بلا قرآن كالحياة بلا ماء ولا هواء، بل إن الإفلاس متحقق في حسّه ونفسه، ذلك أن القرآن هو الدواء والشفاء، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت:44].
إلهنا، يا من ترى مدَّ البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويا من ترى نياط عروقها في نحرها والمخّ في تلك العظام النُحَّل
امنُن علينا بتوبة تمحو بها ما كان منا في الزمان الأول.
رمضانُ شهرُ الرّحمات والبرَكات والحسناتِ والخيرات، تفتَح [فيه] أبوابُ الجنّة وتغلَق أبواب النّار، فيه ليلةُ القدر خيرٌ من ألفِ شهر، مَن صامه وقامَه غُفر له ما تقدّم من ذنبه، ولله تعالى فيه عتقاءُ من النّار. هو شهرُ التّراويح والقيام والاصطِفاف في محاريبِ التهجّد، شهرُ سكبِ العبراتِ وإقالة العثرات. رمضانُ شهر الذِّكريات والانتصارات، فيه كانت غزوةُ بدرٍ التي سمّاها الله يومَ الفرقان، وفيه فتحُ مكّة حين أعلِنَ التّوحيد وهُدِم الشّرك وأزيلَت الأصنام وألقيت في الحضيض شعاراتُ الجاهليّة، وكانت خطبة النبيّ هي إعلان التّوحيد لله حين قال: (لا إله إلا الله وحده، نصَر عبده، وأعزَّ جندَه، وهزم الأحزابَ وحده)، ثم رفِعت راية التوحيد، وأذّن بلال، رضي الله عنه:
الله أكبر.. الله أكبر أشهد ألا إله إلا الله..أشهد أن محمدا رسول الله.
وأرسِيَت معالمُ للدّين وضّاءَة. لقد كان في شهرِ رمضان فتوحات وانتصاراتٌ وغزوات على مرِّ العصور الإسلاميّة المزدهِرة، فهل يعِي المسلمون أسرارَ شهرِ رمضان؟! عبادةٌ وجهادٌ، وهمّة واجتِهاد، فهو شهر الجِدِّ والتّشمير، وهو تذكرةٌ للأمّة لمراجعةِ حساباتها وعلاقتِها بدينِها، وتفقُّد مواضع الخَلَل، فكلّ رمضان دروسٌ وعبَر، في التجرّد والتّوحيد والتوجُّه والالتجاء للخالِق المجيد، واستنزال النّصر من السماء، دروسٌ في وَحدة الأمّة ونبذِ الفرقة والاختلاف، في المواساةِ وشعورِ الجسد الواحد.
هذا هو رمضان، خَلوف فمِ الصّائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، والصّيام والقرآن يشفعان لصاحبهما يومَ القيامة، وللصائم فرحتان: إذا أفطَر فرِح بفطره، وإذا لقيَ ربَّه فرح بصومه، وفي الصحيحين أنّ النبيّ قال: "لا يصوم عبدٌ يومًا في سبيل الله إلاّ باعد الله بذلك اليومِ النّار عن وجهه سبعين خريفًا"، والصيامُ يورث التّقوى، كما أنّ قراءة القرآن تنشئ نورَ الهداية في القلوب، وفي الصومِ تربيةٌ على كسرِ الشّهوة وقطع أسبابِ العبوديّة للأهواء والشهوات، للصّائم دعوةٌ لا تردّ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لي وَلْيُؤْمِنُواْ بي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].(/1)
فأخلِصوا دينَكم لله، وتخلّصوا مِن أدران الذّنوب والمعاصي، واغسِلوها بالتّوبة والاستغفار، فإنّ الذّنوبَ مقعِدة عن الطاعاتِ وحائلٌ عن القرُبات. وإنّ ممّا ينقص الصّومَ سوءُ الخلُق والتذمّر من الصّيام وإظهار أثرِ ذلك على التصرّفات وكأنّما حلّت به مصيبة، وكذا الغيبةُ والكذِب والبَغي على المسلمين بالقولِ أو الفِعل سيّما إن شابَ ذلك حسدٌ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به والجهل فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابه". رواه البخاري، وفي الصحيحين أنّ النبيّ قال: "إذا كان يوم صوم أحدِكم فلا يرفث ولا يسخب، فإن سابّه أحد أو قاتَله فليقل إنّي صائم".
سألت عائشة رضي الله عنها الصديقةُ بنت الصديق رسولَ الله عن قوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60] أهُم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر قال: "لا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصلّون ويصومون ويتصدّقون ويخافون أن لا يُتقبَّل منهم".
أيّها الصائمون، إنّ مقصودَ الصيام تربيةُ النّفس على طاعةِ الله وتزكيتُها بالصّبر واستعلاؤها على الشّهوات، وكما يُمنع الجسَد عن بعض المباحات حالَ الصيام فمن باب أولى منعُ الجوارح عن الحرام. إنّ وقتَ رمضان أثمن مِن أن يضيعَ أمام مشاهدَ هابطة، لو لم يكن فيها إلاّ إضاعةُ الوقت الثّمين لكان ذلك كافيًا في ذمّها، كيف وقنواتها في سِباق محمومٍ مع الشّيطان في نشرِ الفساد والفتنة والصّدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة؟! فهل أنتم منتهون؟!
يا مسلم، يا عبدَ الله، دونَك دعوةُ الجبّار لك بالتّوبة، فأجب النداء: وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، بادِر بالتّوبة غفر الله لي ولك، وإيّاك أن تضعَ في صحيفتِك اليومَ ما تستحي من ذكره غدًا، والرّاحة الكبرى لا تُنال إلاّ على جسرٍ من التّعَب.
أيّها الصائمون، في الأسحار نفحات ورحماتٌ حينَ التّنزُّل الإلهيّ، فعليكم بالدّعاء والاستغفار، فرُبّ دعوةٍ يكتب لك بها الفوز الأبديّ، وعند الفطر أيضًا دعوةٌ لا ترَدّ.
فاسعَدوا بهذا الشهر أيّها المسلمون، وأودِعوا فيه من الصّالحات ما تستطيعون، وتقرّبوا فيه لمولاكم، فللجنّة قد ناداكم، وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس:25].
فان شهر رمضان من الأزمان التي لها عند المسلمين مكانةٌ عظيمةٌ , هذه المكانة ليست مجرد شجون وتقدير لما لا يرتبطون به , لا بل هي مكانةٌ ترتبط بها القلوب والأبدان لما تجده النفوس من بهجةٍ وفرحةٍ واطمئنان وحب للخيرات وفعل للطاعات وتهيؤ عظيم فى القلوب ولين فى الأبدان لفعل الخيرات وترك المنكرات , ولاشك أن هذا يشعر به كل مسلم وان قل ايمانه؛ لأن شهر رمضان هو زمنُ لين القلوب واطمئنانها ولو نسبياً , وزمنُ تعاون الناس على كثير من البر والطاعات , وفعل الخيرات
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
لو أن لك صاحب أو قريب أو رحم عزيز عليك ,غاب عنك أحد عشر شهرا ثم علمت بمجيئه إليك زائرا عما قريب , ماذا أنت صانع لملاقاة واستضافة هذا الضيف الكريم العزيز عليك , ماذا أنت صانع ؟... فاسأل نفسك ما الحال اذا كان هذا الزائر هو شهر رمضان المبارك ؟
إنه الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن .
قال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ......الآية 185 : البقرة
شهر جعل الله منه إلى رمضان ما بعده كفارة:
في مسلم: عن أبي هريرة، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يقول: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر *
إنه الشهر الذي إذا دخلت أول ليلة من لياليه كان ما كان من الخي:
في البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة
وفى رواية عنه أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين*(/2)
إنه الشهر الذي جعل الله فيه لأصحاب الذنوب والخطايا المخرج وللطالبين الجنة؛ فعند البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها. قالوا: يا رسول الله أفلا ننبئ الناس بذلك قال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة"
وفي مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". "ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
شهر فيه العمرة كحجة معه صلى الله عليه وسلم. ففي البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لامرأة من الأنصار: ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: كان لنا ناضح فركبه أبو فلان وابنه لزوجها وابنها وترك ناضحا ننضح عليه قال فإذا كان رمضان اعتمري فيه فإن عمرة في رمضان حجة*
وفى رواية:" عمرة في رمضان تعدل حجة" متفق عليه.
وفى رواية: قال فإن عمرة في رمضان تقضي حجة أو حجة معي*
قوله:{ عمرة في رمضان تعدل حجة } في الثواب، لا أنها تقوم مقامها في إسقاط الفرض. قال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح وهو فضل من الله ونعمة فقد أدركت العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها. وقال ابن الجوزي: فيه أن ثواب العمل يزيد بزيادة شرف الوقت كما يزيد بحضور القلب وخلوص المقصد.
شهر جعل الله فيه ليلة هي خير من ألف شهر في دين العبد المؤمن وعمله. ففي البخاري عن عائشة قالت: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان *
وفي مسلم عن زر قال سمعت أبي بن كعب يقول، وقيل له إن عبد الله بن مسعود يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر. فقال أبي: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ما يستثني ووالله إني لأعلم أي ليلة هي هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة صبيحة سبع وعشرين وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها*
وأنت تعلم قوله تعالى: { ليلة القدر خير من ألف شهر } ....
خير الشهور على المؤمنين وشر الشهور على المنافقين؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله ما مر على المسلمين شهر هو خير لهم منه ولا يأتي على المنافقين شهر شر لهم منه إن الله يكتب أجره وثوابه من قبل أن يدخل ويكتب وزره وشفاءه من قبل أن يدخل ذلك أن المؤمن يعد فيه النفقة للقوة في العبادة ويعد فيه المنافق اغتياب المؤمنين وإتباع عوراتهم فهو غنمٌ للمؤمن ونقمةٌ على الفاجر"...... أحمد...والبيهقي ، عن أبي هريرة .وحسنه الألباني في صحيح الترغيب..
• وإذا نظرت لهذا الحديث الجامع ترى أن ذلك وكأنه واقع المؤمنون يعدون عدة البر يجهز زكاة ماله لينفقها فى رمضان، ويرتبون المال للتوسيع على الأهل والأولاد، ويعدون أسباب إعانة المساكين والفقراء،وكذا إطعام الصائمين. وفى المقابل المنافقون ممن يعدون العدة بالأفلام والتمثيليات والفوازير. فصدق الصادق المصدوق هو غنمٌ للمؤمن ونقمةٌ على الفاجر. إن سعيكم لشتى".....
فلنجعل من رمضان بما فيه من ألوان البر الكثيرة فرصة توبة نتحول فيه من أصحاب معاصي وسيئات إلى أصحاب طاعات وفعل خيرات وليس هناك من الطاعات طاعة جمعت ما في التوبة من خير وفضل من الله تعالى ولذلك أمر الله بها في مواضع :-
قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 8 : التحريم …
وقال تعالى : { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 74 : المائدة....
وقال تعالى: { وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } 3 : هود...(/3)
وقال تعالى: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ } 52 : هود …وقال تعالى: { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } 90 :هود …
وقد شدد الله تعالى على من لم يتب فقال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } 11 : الحجرات..
فيا أخي : إن أردت أن يتوب الله عليك وتنجو من حالك السيئ قبل الموت، فتب قال تعالى: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } 160 : البقرة
يا أخي الكريم: إن أردت أن يحبك الله فتب قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } 222 :البقرة …
وإن أردت أن يغفر الله لك ويرحمك، وأنت صاحب الذنوب التي كالجبال والتي لعلها تكون سبب الهلاك والعياذ بالله، إن أردت ذلك فتب قال تعالى: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 89 : آل عمران...
و قال تعالى: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } 146 : النساء...
إن أردت الخير كل الخير فتب قال العلى الكبير: { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُنْ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } 74 : التوبة..(/4)
هذه أمتي
عمر أبو ريشة
"ألقيت في حفلة افتتاح دار الكتب في حلب بعد العدوان الفرنسي
وخروج الشاعر من السجن".
ما صحا بعدُ من خُمار زمانه فليرفِّهْ بالشدوِ عن iiأشجانهْ
ما وعى الأمنيات إلا طوفاً خفقت وانطوت على iiأجفانهْ
غمزته عرائسُ العيش إغراءً فلم تستبحْ حمى iiعنفوانهْ
شاعر لو شكا الحياة لكانتْ سرواتُ الملوك من ندمانهْ
أقسم المجد أن يمر على الأرض ونجوى الآباء خلف iiلسانهْ
فالعبي يا عواصف الدهر ما شئتِ فلن تجرحيه في iiوجدانهْ
ربَّ شادٍ على الظَّما أسلم الروحَ وروَّى الأجيال نبع iiبيانهْ
* * ii*
ما دهى الشعر بعد رقص لياليه النشاوى على صنوج iiقيانهْ
وخشوع السُمَّار في الندوة المعطار بين الأبكار من iiألحانهْ
تلك أوتاره مفجَّعة الأصداء منثورة على iiعيدانهْ
لامستها أنامل، يرعف العوسج لو أطبقتْ على iiأغصانهْ!
فهوى الشعر عن مشارفه الزُّهر وأغفى على رؤى iiأحزانهْ
كان وقفاً على النبوغ وكانت روعة الشيء وضعُه في iiمكانهْ
عاد للدوح عندليبك يا شعرُ ومات النعيبُ في iiغربانهْ
وتغنَّى حنانُه فتمشّى في ضمير الشهباء رجعُ iiحنانهْ
فاشرأبتْ وفي تساؤلها شوقٌ تضيق الأحناءُ عن iiكتمانهْ
وأطلّتْ على الزمان وما أقساه في عرفه وفي iiنكرانهْ
لمحتْ فوقه معين نعيم يستقي المؤمنون من فيضانهْ
فتجلَّى لها شباب علاها يا لَوردٍ يرفُّ بعد iiأوانهْ
يا لذاك الصِّبا وما زرَّت الأنجمُ من عروةٍ على iiأردانهْ!
تلك فتيانها أباحَ لها المجدُ ركوبَ الخطوب في iiميدانهْ
وأبو الطيِّب التفاتةُ إدلالٍ إلى الصِّيد من بني iiحمدانهْ
يخلع الخلدَ زأرةً وهديلاً من مزامير زهوه وافتتانهْ
وعلى السرج سيفُ دولته النّدب يموج الجهاد في iiطيلسانهْ
وغبار الحروب تجبله الأيدي وساداً يلفُّ في iiأكفانهْ
هكذا العِلْية الرجال فلا صفَّق في موطنٍ فؤادُ iiجبانهْ
* * ii*
ذاك عهد لولا ذهولك يا شهباء لم تقدري على iiنسيانهْ
عزَّت الأمُّ بالبنين اعتزاز الروض بالباسقات من iiأفنانهْ
عثرات الأجيال قاصمة دكَّتْ بناء الفخار من iiأركانهْ
إنما ينفض الغبارُ ويبقى الجوهر الحر في صفا iiلمعانهْ
ما انتهى إرثنا الرفيع ولا سُلَّتْ طيوف النبيِّ من iiقرآنهْ
يا لذكرى تلفَّت المجد ما بين يديها إلى ربيع iiزمانهْ
يوم هزَّ البدْويّ معوله الصلدَ وأهوى به على أوثانهْ
والمروءات وهجُ جبهته السمراء والأمنيات فيض iiبنانهْ
فتهاوتْ على عباءته الدنيا ورفَّتْ على صهيل iiحصانهْ
فإذا الشرقُ للعروبة طودٌ تتشظَّى النجومُ فوق iiرعانهْ
كل صرحٍ للحق في الأرض باق نحتته العلياء من iiصوَّانهْ
* * ii*
يا لذكرى أغفى على خجل منها كريم النجار من عدنانهْ
مزَّق الدهر شملَه وطوى ما كان من عزِّه ومن iiسلطانهْ
ورماه إلى وجوم الليالي وسؤال الغريب عن iiأوطانهْ
أين –لا أين- موئلٌ عربيٌّ يسرح الحرُّ في ظلال iiأمانهْ
تعب البغي وهو يضرب فيه ويروِّي ثراه من iiأضغانهْ
وتعايى خزيانَ عن هدم حب تتلاشى الأبعاد في iiميزانهْ
أي جرحٍ ضج العراقُ عليه ما تلقَّى الأساةَ من iiلبنانهْ
* * ii*
يا بلادي ناجاك من وقف الخلد وأصغى إلى صدى iiتحنانهْ
كاد أن يرخص المدامع في الأرزاء لولا الحياء من iiإيمانهْ
ما الجبان الذي حنوت عليه وسكبت العزاء ملء iiجنانهْ
عرفته الهيجاء، أنذل من فرَّ وأشقى من جرَّ ذيل iiهوانهْ
قام في فيئك الكريم حييّاً ودموع المتاب في iiأجفانهْ
يشتم الغفلة التي ذقت منها ما يذوق القطيع من ذؤبانهْ
ليس يدري الجزار ما الخنجر المسنون إلا إن حزَّ في iiشريانهْ
* * ii*
وسلوا القدس هل غفا الشرق عنها أو طوى دونها شبا مُرَّانهْ؟
أهتافٌ خلف البحار بصهيون وحدب على بناء iiكيانهْ؟
ومن الهاتف الملحُّ؟ أحرٌ؟ أين صدق الأحرار من iiبهتانهْ؟
أين ميثاقه؟ أتنحسر الرحمةُ في دفتيه عن عدوانهْ؟
يا لذلِّ العهود في فم من أجرى على عزها دما iiفرسانهْ
أي فلسطين يا ابتسامة عيسى لجراح الأذى على iiجثمانهْ
يا تثنّي البراق في ليلة الإسراء، والوحي ممسك بعنانهْ
لا تنامي خضيبة الحلم خوفاً من غريب الحمى ومن iiأعوانهْ
إنَّ للبيت ربَّه.. فدعيه ربّ حاوٍ رداهُ في ثعبانهْ
* * ii*
هذه أمتي.. فيا لشراعٍ يتلقّى العبابَ في iiهيجانهْ
علمته الأنواء أن يزدريها ويجرُّ المرساة في iiشطآنهْ
طباعة(/1)
هذه القدس تنادي
شعر: صلاح الدين عزيز
هذه القدسُ iiتنادي
في ملاقاة iiالأعادي
* * ii*
ربّ هبْ لي من لدنكا
وتبكّ البغي iiبكّا
* * ii*
يا أولي الأمر هلّموا
أطهر الناس iiوأمّوا
* * ii*
فرصةٌ جاءتْ iiإلينا
توقظ النخوةَ iiفينا
* * ii*
مسجدُ القدس iiاستجارا
يلقمون الكفر iiنارا
* * ii*
كل قطر من دمائي
أنجُمٌ تحت iiالسماء
* * ii*
يا فلسطينُ iiهلمّي
وإلى الإسلام iiضمِّي
* * ii*
إنّ عيني في iiغضاضهْ
لستُ أرضاها iiإعاضهْ
* * ii*
يا فلسطين استعدي
وبني الصهيون هدِّي
* * ii*
هذه القدس iiتقولُ
هل لواني iiالمستحيل
* * ii*
أين أبناءُ iiالعروبه
قدسُنا تشكو iiالمصيبه
* * ii*
نحن قوم لا iiنلينُ
إن تلقتنا المئونُ
* * ii*
أمة الإسلام iiعودي
واقبري كلّ يهودي
* * ii*
أمة العرب iiتعالي
قد شَرَعنا iiللقتالِ
... أين أبطال iiالجهادِ
لاجتثاثِ iiالأدنياءِ
* * ii*
فتيةً تجتاحُ iiإفكا
في ميادين iiاللقاءِ
* * ii*
وحدّوا الصف iiولمّوا
جمعكم نحو iiالفداءِ
* * ii*
قد طلبناها iiسنينا
تقصم الوضع iiالمرائي
* * ii*
أين شباني iiالغيارى
رغم أنف iiالغرباءِ
* * ii*
كل نبض من iiضيائي
ودليلُ iiالعظماءِ
* * ii*
والدي أنتِ iiوأمي
عزم جيل iiالشهداءِ
* * ii*
وفؤادي في iiانتفاضهْ
عن فلسطين iiالإباءِ
* * ii*
أعلني كلّ التحدي
واقذفيهم iiللفناءِ
* * ii*
سامني الظلم iiالجهولُ
في متاهات iiالنداءِ
* * ii*
أين أساد الكتيبه
بين جورٍ iiوجفاءِ
* * ii*
للعدى أو iiنستكينُ
يا لموت الشرفاءِ
* * ii*
أنهضي مجدي وسودي
في بقاع iiالأدنباءِ
* * ii*
واملأي سوح iiالنضالِ
بسيوف iiالأنبياءِ(/1)
هذه المشكلات ليست من صنعنا
يطرح كثير من المتحدثين حول الصحوة الإسلامية اليوم وجيلها سلبيات وأمراض تنتشر لدى أتباعها، وهي تولد انطباعاً سيئاً وروح إحباط لدى من يستمع لمثل هذه الآراء.
ضعف المبادرة الفردية، الفوضى وقلة الاكتراث بالوقت، ضعف المهارات والقدرات القيادية، الرتابة في أساليب العمل وطرق الإدارة، السطحية وضآلة التفكير، تركز النجاح في الأعمال والمشروعات الفردية أكثر منه في المشروعات والأعمال الجماعية….الخ هذه القائمة من المشكلات.
إنها قائمة طويلة بالأمراض والسلبيات نسمعها عند الحديث حول جيل الصحوة، وبغض النظر عما في التركيز على لغة النقد واحترافها من آثار سلبية، ومن مبالغة في أحيان كثيرة، إلا أن هناك جانباً له أهميته ينبغي ألا يهمل عند تناول هذه القضايا ألا وهو أن معظم هذه المشكلات إنما هي نتاج وإفراز لأوضاع المجتمع وبيئته الثقافية والفكرية السائدة، فهذه المشكلات التي يعاني منها الغيورون على الصحوة موجودة ومتمثلة في كافة مؤسسات المجتمعات الإسلامية.
والنتيجة إن كانت لاتختلف عند تقرير هذه الحقيقة، إلا أن هناك سلبيات على تجاهل هذا الجانب، ومنها:
· تحميل جيل الصحوة نتائج أعمال ليست من مسؤوليته.
· أن هذا يؤدي إلى الشعور بالإحباط، واحتقار كثير من جهود العاملين الخيِّرين حين يحملون مسؤوليات أعمال ليست من صنعهم.
· أن هذا الأمر سينعكس أثره على الحلول المقترحة والمطروحة، فتتمحور حول العلاج المباشر لهذه القضايا، والذي يعتمد على الطرح المعرفي المباشر لهذه المشكلات من خلال قوالب جاهزة يعاد تشكيلها تبعاً لنوع المشكلة (التعريف، المظاهر، الأسباب، العلاج...) وهذا الطرح يفتقد إلى حد كبير للعمق والعلاج الحقيقي للمشكلة، ولا يعدو أن يكون كالوصفات التي يصرفها الطبيب لأي مريض دون الالتفات لما يعاني منه.
· وبغض النظر عن العلاج الذي يقترح لهذه المشكلات، إلا أنه لا بد أن يتضمن التحليل الأفقي لهذه المشكلات وتصنيفها في مجموعات متجانسة؛ إذ إن طائفة منها تعود إلى الضعف الإداري، وأخرى تعود إلى غياب الروح الجماعية في العمل، ومنها ما يعود إلى النمط التقليدي في التفكير… فهذا يسهم كثيراً في اختصار خطوات الحل.
· وعلى اعتبار أن القياديين والمربين هم نتاج المجتمعات المعاصرة، فهم يعانون من المشكلات التي يُفترض أن يعالجوها لدى المدعوين والمتربين، فتدور القضية في حلقة مفرغة، فلا بد أن تكسر هذه الحلقة، ولا بد من تحديد نقطة للبدء في ذلك.
· ومما يعين على تجاوز هذه المشكلات الشعور بأهمية الارتقاء بمستوى التفكير، والبعد عن السطحية في تناول القضايا، وإيجاد البيئة الفكرية الراقية داخل قطاعات الصحوة وبرامجها.
ومهما افترضنا من الحلول والمقترحات فلا بد أن نشعر شعوراً ضرورياً أن هذه المشكلات ليست من صنعنا ليكون التعامل معها تعاملاً صحيحاً، والله الموفق وعليه التكلان.(/1)
هذه صورة للعولمة
د. محمد بن عبد الرحمن أبو سيف الجهني 2/12/1425
13/01/2005
الحمد لله وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
هذه صورة التقطها تصوري من مقروءاته ومسموعاته ومرئياته أعرضها للناظرين:
يراد للعولمة أن تكون ملّة عامة تجتمع عليها جميع شعوب الأرض، تعطيها ولاءها الملِّي العام، تجتمع عليه وتتعايش به.
وهذه مع كونها رغبة تبدو مغرقة في الخيال لاستحالة نزع ولاء مختلف الناس لمعتقداتهم، وجمعهم على ولاء لملّة واحدة، إذ قال خالقهم: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" [هود:118]. إلا أن ذلك استُدْرك بإظهار أخذ الملل المتباينة التي تعتنقها الشعوب بعين الاعتبار، ولكن مع إحالتها إلى ثقافات تظهر خصوصياتها من غير أن تمنع اندراجها في تعايش منضبط بضوابط العولمة، ويتأطر بأطرها ويستبقي الولاء العام لها.
واستُدْرك أيضًا بحركة عملٍ مغرقة في الجديّة والإتقان، تقوم على دراسات تفصيلية تجمع دقائق المعلومات وتستقرئ دلالالتها، وتستجلي أغوارها وتستظهر معالمها وتحلل أبعادها، وتؤلف بين متوافقها وتميز بين متباينها وتستنبط طرق التعامل معها وتستنبئ مختلف المتوقعات، ثم تضع الخطط المتعددة المناسبة لكل حالٍ متوقعةٍ، ثم تتتبع النتائج بدراسات تقريرية توضع عليها خطط عمل تتلافى الأخطاء، وتستدرك الإخفاقات وتستديم النجاحات.
وقد أنشئت لحركة العمل هذه مؤسسات، واستُغلت مؤسسات.
فمما أُنشئ: المؤسسات التبشيرية التي من أهم أعمالها المسح وجمع المعلومات وإعداد البيانات للعمل بعيد المدى، وإشاعة معتقدات التبشير للعمل قريب المدى.
والمؤسسات الإعلامية التي من أهم أعمالها تلقين المبادئ، وإشاعة الأفكار وتهيئة الساحة.
ومما استُغل: هيئة الأمم المتحدة؛ فاستخدمت مؤسساتها في عقد التعهدات والمواثيق وجمع التواقيع عليها ومتابعة الالتزام بها، وفي إقامة المؤتمرات للتمهيد لإقرار التحولات الثقافية والتشريعية.
والمراكز الاستخباراتية؛ فاستخدمت في عمليات المسح، وجمع التقارير وإجراء الدراسات واقتراح الخطط.
وفي الطريق إلى العولمة اتخذت وسائل وركزت دعائم.
أما الوسائل: فاستهدفت أمرين:
الأول: إنشاء روح قبول العولمة والإقبال عليها، وذلك بإشاعة قدر من العلاقات العامة، يجمع مختلف أهل الملل على روح إخاء ومودة متحررة من ضوابط مللهم.
واتُّخذت (الرياضة) وسيلة فاعلة لتحقيق هذا الهدف.
فالرياضة -بدوراتها المختلفة وأولمبياتها المتنقلة بين دول العالم، وما يرافقها من زخم إعلامي فاعل- أحدثت تعايشًا بين شعوب العالم متحررًا من التباين الملي والثقافي، بإشاعة الروح والأخلاق الرياضية التي تنتمي في ولائها لقوانين الفيفا تجتمع عليها وتصدر عنها.
فالمسلم والكافر المسيحي والكافر البوذي وغيرهم يجتمعون في حميمية رياضية، يتنافسون مجتهدين للوصول إلى الكؤوس وتحصيل الميداليات، لا تلحظ فرقًا يميِّز أحدهم عن الآخر أو خصوصية يبرزونها إلا ألوان الأعلام على أجسادهم، ولا شريعة يدينون لها إلا أحكام الفيفا.
وأحكام الفيفا هي الملة الرياضية التي تأخذ بتلابيب الحركة الرياضية في العالم، حتى إنه لا عبرة لأي حركة رياضية في أي مدينة في أي دولة من العالم ما لم تكن مسجلة في كشوفات الفيفا وتحمل تصريحها.
وفي الرياضة يتبلور نموذج حي للعولمة في هيئتها النهائية.
الثاني: نزع روح رفض العولمة والإعراض عنها، وذلك بالتركيز على الفرد، وربطه بشهواته، وتدريبه على التمرد على الروابط الثقافية التي ينتمي إليها وتربطه بأهل ملته خاصة، وإغرائه بروابط تدفعه إلى الانتماء إلى كل ما يشبع شهواته من أي ملَّة كان.
واتُّخذت (الإباحية) وسيلةً فاعلة لتحقيق هذا الهدف.
فأغرق العالم بإعلام إباحي ينشر ثقافة الحرية العاطفية والجنسية المتحررة من قيود الدين والتقليد والعادة إلا قيدًا واحدًا هو قيد التراضي بين طرفي العملية العاطفية والجنسية؛ فلا يُقبل التحرش والاغتصاب، وهو القيد الذي تحل طاقاته الإثارات الصارخة التي تجري مجرى الدم في الطرفين، التي يروجها الإعلام ويلقن الطرفين معها ثقافة الحرية الفردية في ملة العولمة، ويرفد ذلك توفير وسائل ممارسة تلك القاذورات:
- من وسائل اتصال عديدة كالمحادثات في الإنترنت.
- وأماكن ممارسة الرذائل، كالخمارات ودور الدعارة والملاهي الليلية.
- وسن القوانين التي تحتضن هذه الممارسات، وتحرسها بسلطة من سلطان العولمة، كقانون الإجهاض.
وأما الدعائم فاستهدفت أمورًا:
الأول: ربط العالم أجمع بمختلف ملله بمصالح مشتركة لا تقوم حياة الشعوب إلا بها، وتديرها جهة واحدة يبتدئ منها وينتهي إليها سائر شأن هذه المصالح.
واتُّخذ (الاقتصاد) دعامةً ليس ثمة أثبت منها لتحقيق هذا الهدف، إذ هو عصب الحياة.(/1)
وهاهي دول العالم تلهث لهاثًا شاقًا للانضمام إلى (منظمة التجارة العالمية) التي تجمع أعضاءها على الولاء لملةٍ اقتصادية عولمية تلغي كثيرًا من خصائص الملل التي ينتمون إليها، وتلحق ما تتبناه بهوية العولمة، فلا تبقى له خصوصية يتميز بها.
وإنما يدفع دول العالم إلى هذا اللهاث أن المنظمة العولمية هذه أمسكت بزمام الاقتصاد العالمي، حتى بدا أن مصالح الشعوب لا تتم إلا بالانضمام إليها، والولاء لملّتها، وإلا فليصارع الرافض الممتنع البقاء.
الثاني: نشر الحرية الفكرية والدينية في كل مجتمع، ومنع غلبة دين أو فكر في أي مجتمع، ورد الشرائع التي يجري عليها عمل كل مجتمع إلى مجموع ما فيه من ديانات وأفكار.
واتخذت (الديمقراطية) دعامة تُثبت هذا الهدف.
فالديمقراطية نظام ثقافي يقوم على تمكين كل أصحاب دين أو فكر من ممارسة شعائره ونشر تعاليمه والدعوة إلى مبادئه، وتكوين قاعدة شعبية له من أفراد المجتمع، وذلك في ظل حزب يشكله ويتخذ مقرًا له، وهيئة تتولى إدارته وتأسيس مطبوعات دورية ونشرات دعائية، والقيام بسائر النشاطات الثقافية التي يمارس من خلالها عرض ثقافته والدعوة إليها، وفي الديمقراطية مجلس تشريعي يسمى (البرلمان) إليه يرد سنُّ القوانين وتشريع الأحكام التي تكون شريعة المجتمع، تفرض على أفراده يلتزمونها ويتحاكمون إليها. وهذا البرلمان يتكون من مقاعد يشغلها المنتخبون من مرشحي الأحزاب، تقسم بينهم بنسب تعادل النسب التي يشغلها كل حزب في المجتمع. يجتمع هؤلاء ويقترح من شاء ما شاء من قوانين للمجتمع، ويعرض اقتراحه بعد مداولات على التصويت، فإن فاز بأغلبية أصوات أعضاء البرلمان اعتمد قانونًا يخرج للمجتمع للعمل به والتحاكم إليه، يخرج تشريعًا يحمل هوية شعبية مشتركة، لا هوية أي دين أو فكر اقترحه أو أعطى صوتًا له.
وعليه فليس للمجتمع ملة إلا ملة العولمة في نظامها المسمى بالديمقراطية، وكل ملة تنتهي في هذا النظام عند اقتراح تشريعاتها في برلمانه، فإن فازت أو شيء منها بأغلبية الأصوات استحالت شريعة شعبية ديمقراطية.
وأي حزب أراد أن تغلب في المجتمع تشريعات ثقافته فعليه ممارسة أكبر جهد لتكوين أكبر قاعدة شعبية له، لعله يحظى بأكبر عدد من مقاعد البرلمان، فيستطيع تمرير مقترحاته بأغلبية الأصوات، ثم هي بعد هذا لن تنسب إليه ولن تحمل اسمه.
الثالث: تعميم نظام دولة في كل مجتمع يحكم شؤونها بتمكين ثقافة الديمقراطية وممارستها عمليًا ورعايتها وحراستها وحماية حماها، فلا تتمكن أي ملة أو فكر من الإفلات من سلطة هذا النظام وتولي زمام الأمور.
واتخذت (العلمانية) دعامة تثبت هذا الهدف.
والعلمانية هي السلطة التي أقصت سلطة الكنيسة في المجتمع الغربي، وعزلتْ الدين عن الدولة وقيدته بالفرد، جعلته حريته التي لا تتجاوزه إلى غيره، فهي في أصلها حركة تمرد على التدين بدينٍ؛ إذ هي (اللادينية)، وما دام الأمر على هذا فليس خير منها للعولمة في سياسة المجتمعات، وقمع تسلط الديانات فيها، وهي السلطة التي تمنح التصريح لإنشاء الأحزاب أو تمنعه، وهي التي تراقب وتشرف على حركة الأحزاب وممارساتها، وتنظم انتخابات المجلس التشريعي، وتنفذ القوانين التي يصدرها.
الرابع: تمكين تمييع الأديان وإزالة خصوصياتها بضم شعائرها بعضها إلى بعض لتكوين شعائر موحدة للعالم، والتقريب بين شرائعها للخلوص إلى شريعة موحدة للعالم.
واتخذت (وحدة الأديان) دعامة تثبت هذا الهدف.
والدعوة إلى وحدة الأديان والتقريب بينها دعوة غير خافية ولا مجهولة، فهي قائمة على قدم وساق منذ زمن ليس بالقريب، ولا تسل عن كثرة المؤتمرات والندوات الدورية في الشرق والغرب تتوالى فيها الدراسات للتقريب بين المسيحية والإسلام.
وفي الفاتيكان مركز لأرشفة الدراسات في التقريب، وتسهيل الاطلاع عليها واستفادة الباحثين منها.
ولا تسلْ عن شعار (الإبراهيمية) الذي استحدثه دعاة الوحدة، والصلاة الإبراهيمية التي رعتها الأمم المتحدة، وهي خليط من صلاة المسلمين والنصارى اليهود،ولا عن الدعوة إلى طبع القرآن مع الكتاب المقدس في مطبوعة واحدة مجتمعة بين دفتين، ولا عن إنشاء المبنى الواحد المشتمل على المسجد والكنيسة ودار الأوبرا، وشعار "الإبراهيمية" ناشئ عن دعوى أن الأديان السماوية الثلاثة تجتمع في الانتساب إلى إبراهيم -عليه السلام- فلا وجه للتفريق بينها.
هذا، وتقف هذه الصورة للعولمة بوسائلها ودعائمها أمام خلفية تطل من ورائها على النحو التالي:
أصل فكر هذه الملة (العولمة)، ومنشأ منهجها وُلد من رحم معاناة النصارى من سلطان الكنيسة، ولم تكن صورتها في البدء إلا تنحية الدين عن القيادة في المجتمع الغربي في فكر سمي بالعلمانية، ثم أثمرتْ الدراسات الاستشراقية العمل على تعميم هذا الفكر والمنهج في العالم الإسلامي، وتمكين ذلك بخدمته بالوسائل والدعائم المذكورة، وبإدراج بقية العالم فيه ليخلص الكون لهذا المنهج فلا يند منه شيء عنه.(/2)
والدراسات الاستشراقية إنما أنشئت لتخدم أمرين: أحدهما: حاجة الغرب وضرورته لثروات الشرق الإسلامي، ونزعة الغرب بتاريخ قيصريته وغاراته الصليبية للحصول على تلك الثروات بيد عليا عزيزة لا سفلى ذليلة، ولا يكون ذلك إلا بسيادة على تلك الثروات لا تكون بالاحتلال العسكري المباشر؛ لأنه يثير التمرد ويؤدي إلى الصراع، فتتكدر السيادة أو تزال، ولكن بسيادة مستقرة دائمة آمنة، ولا سيادة تحقق ذلك كالسيادة الفكرية الروحية التي تضمن تبعية عقول أصحاب الثروات وسلوكهم للغرب، والسيادة الاقتصادية التي تضمن تعلق أسباب حياتهم بالولاء للسياسات الغربية.
والأمر الثاني في مقاصد الدراسات الاستشراقية هو التوصل إلى وسائل المواجهة الفعّالة لخطر الإسلام على الغرب الصليبي الخطر الذي لا يعوق طموح السيادة الصليبية فحسب، بل ويؤذن بإزالة ثقافتها ووجودها.
وقد سبق في تجارب صراع الصليبية مع عدوها هذا ما أظهر -بجلاء لا ريب معه ولا شك وراءه- أن الجند والسلاح والاحتلال، وإن أزالت في حينٍ دولة الإسلام إلا أنها لم ولن تستأصل شأفته، فهو يبقى حيًا ظاهرًا يغالب ظروفه بقوةٍ ذاتيةٍ شامخةٍ لا يضره من خذله.
وقد تيقنت تلك الدراسات أن خطر الإسلام يكمن في ذاته عقيدة ومنهجًا، فهو حيث كان سليمًا من القوادح كانت قوته واستشرت خطورته، فالحرب معه ذاته، وكلما أمكن تحريفه بالشبهات والصد عنه بالشهوات كلما أمكنت السلامة من خطره، ثم إن من أسرار قوته عالميته، فهو يخاطب كل فرد في كل عصر على كل شبر، ويجد خطابه القبول التام الواثق المتيقن؛ لأنه حاجة كل فرد ومنهج كل عصر وعمارة كل شبر، فكلما أمكن تحييده وتمييعه ومنع تميزه عن أي منهج يضاده، وجعله فردًا في مجموعة له ما لها وعليه ما عليها كلما أمكنت السلامة من خطره.
وأثمرت تلك الدراسات أن معالجة خطر الإسلام إنما تكون بما عولج به سلطان الكنيسة، بالعلمانية اللا دينية، ولما كان الإسلام عالمي المنهج والخطاب جابهوه بعالمية الإقصاء والاحتواء حتى لا تبقى له كوة يطل منها، ولكن من غير إثارة تلفت النظر، ولا صراعٍ يذكي روح المقاومة والدفاع، بل بسحر بيان وكهانة شيطان، بمنهج يعد ويمنّي ويضل ويأتي من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال حتى يغيّر أمر الله ويغوي عن طريقه المستقيم، فكانت (العولمة) بوسائلها ودعائمها ذلك السحر وتلك الكهانة.
وابحث عن الإسلام في ظل العولمة ستجده حرية فردية، فإن ترقّى فحزب في جملة أحزاب، فإن ترقّى فمقعد وصوت في برلمان، ثم ليس له وراء ذلك جنس وجود.
وإذا علمت أن الإسلام دين الله وقد تكفل بحفظه، فاعلم أن (العولمة) حرب مع الله.
وإذا كنت مؤمنًا، وتصوَّرت عاقبة تلك الحرب استبشرت ولا بد.
ولينظر العاقل إلى أي الحزبين يركن.
والحمد لله في الأولى والآخرة لا شريك له(/3)
هذه عقيدتنا
فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسيلماً كثيراً إلى يوم الدين، ثم أما بعد:
فهذه رسالة في بيان بعض ما يعتقده أهل السنة والجماعة، جمعتها من كتب السلف الكرام، ولخصتها في أوراق قليلة، حتى يتسنى لإخواني الاطلاع عليها والانتفاع بها، فأسال مولانا جل جلاله أن لا يحرمنا وإياكم أجرها، إنه سميع مجيب.
إن أعز ما يملكه المسلم هو عقيدته وتوحيده، فمن سلم له توحيده وصفت له عقيدته، فاز ونجا، ومن علقت به بعض أدران الشرك، أو حلت به بعض شوائب البدع، فإنه على شفا جرف هار. فالنجاة النجاة قبل حلول الأجل. ولا يقول قائل نحن في بلاد التوحيد، أو نحن على الفطرة، أو يركن إلى رحمة الله وعفوه، ثم يُعرض عن تحقيق توحيده، وصفاء عقيدته. فإن إبراهيم الخليل- عليه السلام - وهو من أعظم الموحدين قال: (واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام). وإذا كان خليل الله قال ذلك، وهو رسوله إلى الخلق بالتوحيد وعبادة الله ونبذ عبادة غيره، فنحن من باب أولى أن لا نغفل عن تحقيق توحيدنا، وتنقية عقيدتنا من الشوائب التي تخدش فيه.
وفي هذه الأزمان المتأخرة، ومع تقارب البلدان، وتنوع وسائل الإعلام وقدرتها على النفاذ بدون رقيب، استطاعت تلك الوسائل أن تؤثر على عقائد كثير من الناس في سائر البلدان، فضعف جانب الولاء والبراء عند كثيرٍ منهم، بل إن بعض المفكرين المحسوبين على هذه الأمة لا يكل ولا يمل أن يسمي اليهود والنصارى بإخواننا. والله يقول في حق المشركين-بلا استثناء-(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين). ومفهوم المخالفة، فمن لم يتب ولم يقم الصلاة ولم يؤت الزكاة فليس بأخٍ لنا في الدين. ولكن الضعف والخور وغيبة الولاء والبراء وعدم الشعور بعزة الإسلام وراء ذلك كله.
ومن آثار ضعف العقيدة عند بعض الناس، أن بعضهم أصبح يشك هل للسحر وجود، وهل هو حقيقة أم أن ذلك من جملة الخرافات، وكذلك الجن هل لهم وجود، وهل يتلبسون بالإنسي حقيقة؟.وهذا غيض من فيض، ولو سقنا آثار ضعف العقيدة عن الناس لطال بنا المقام، ومن أجل هذا كان لابد لنا من بيان عقيدة السلف، عقيدة أهل السنة والجماعة، وهي عقيدتنا التي ندين الله بها ونؤمن بها، وهي عقيدة الفرقة الناجية التي تدخل الجنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة.قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي).
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله أجمعين.
1- فمن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ قول باللسان وعمل بالجوارح وعقد بالجنان. يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
قال - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. فجعل الله - سبحانه وتعالى -- الإخلاص، والصلاة، والزكاة من الإيمان.
- وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق). فجعل - صلى الله عليه وسلم - شهادة أن لا إله إلا الله وهي قول باللسان من شعب الإيمان، وجعل إماطة الأذى عن الطريق وهي عمل الجوارح من الإيمان.
وقال - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تؤدوا من المغنم الخمس)
- وقال - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4]
وهذا دليل على أن الإيمان يزداد بالطاعات، فإذا ثبتت الزيادة في الإيمان، ثبت النقصان. فإذا كانت الطاعات تزيد الإيمان، فمن لازم ذلك أن المعاصي تنقص الإيمان.
2- فمن معتقد أهل السنة والجماعة: أنهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.(/1)
والإيمان بالله يتضمن، الإيمان بأنه الخالق الرازق المحيي المميت المتصرف… الخ. وهذا ما يسمى بتوحيد الربوبية-أي توحيد الله بأفعاله-، وهذا لم ينازع فيه أحد، ولم ينكره منكر، حتى فرعون الذي قال: (يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري). كان يعلم في قرارة نفسه أن هناك رباً هو المستحق للعبادة وليس هو، ولذا قال له موسى- عليه السلام -: (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً). والإيمان بالله يتضمن توحيد الله بأفعالنا -توحيد الألوهية-، وهو إفراد الله بالعبادة، وصرف العبادات كلها له، لأنه هو المستحق لها فمن كان خالقاً رازقاً محيياً مميتاً معطياً مانعاً، كان هو الذي يجب أن تُصرف له سائر العبادات، كالدعاء، والاستغاثة، وتقديم القرابين، والصلاة، وسائر العبادات، وصرفها لغيره ظلمٌ وبغيٌ وعدوان.
والإيمان بالله يتضمن أيضاً- توحيده بأسمائه وصفاته، فنثبت صفات الله وأسمائه الحسنى على ما يليق به - تعالى -على وجه الكمال، ونثبت لله ما جاء في كتابه وما صحَّ من سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلا نعطل ولا نكيف ولا نمثل ولا نحرف ولا نؤول شيئاً من صفاته وأسمائه الحسنى.
ونؤمن بملائكته، وأنهم مخلوقون من نور، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم كثير ولهم مهام كثيرة، فجبريل - عليه السلام - وهو أعظمهم كان ينزل على الأنبياء والرسل بالوحي، وميكائيل للنبات والقطر، وإسرافيل للنفخ في الصور، ومالك خازن النار، ويقال إن رضوان خازن الجنة، وملك الموت لم يصح أن اسمه عزرائيل. وهناك ملائكة خلقهم الله للعبادة فهم منقطعون لها، وهناك ملائكة لحمل عرشه، وهناك ملائكة يحصون أعمال العباد، وهناك ملائكة يحفظون العباد بأمر الله، وهناك ملائكة لا نعلمهم، الله يعلمهم.
والإيمان بالملائكة إذا تمكن في نفس المسلم، أشعره بعظمة الله الذي خلقهم، وجعله يحرص على عمل الصالحات لأنه يعلم أن أعماله مسطورة (يعلمون ما تفعلون). ثم هو يُشعر المسلم برحمة الله الواسعة أن جعل له ملائكة يحفظونه بأمره.
والإيمان بالكتب، هو أن تؤمن بأن الله أنزل كتباً من عنده ليبين للناس دينهم، وليسيروا على صراطه المستقيم، فالصحف على إبراهيم، والزبور على داود، والتوراة على موسى، الإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. وهذه الكتب ما عدا القرآن أصابها التحريف والتبديل، لأن الله أوكل حفظها لهم، وأما القرآن الكريم فقد تكفل الله بحفظه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). ولذا فنحن نؤمن بنزول الصحف، والتوراة، والزبور، والإنجيل، ولكن لا نعمل بها لأن القرآن ناسخٌ لها، ولأنها أصابها التحريف والتبديل.
والإيمان بالرسل، هو أن تؤمن بأنهم بشر- لا يستحقون العبادة- اختصهم الله ومنَّ عليهم بالرسالة والنبوة: (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشرٌ مثلكم ولكن الله يمُنُ على من يشاء من عباده). فيعتريهم ما يعتري البشر من النسيان والسهو، ولكن لا يخطئون أو يتطرق إليهم النسيان إذا كانوا يبلغون شرع الله، وإن نسوا أو اخطأوا لا يقرون على ذلك بل يذكرهم الله أو يصوبهم. وأما في أمورهم وحياتهم العادية فهم كالبشر سواء. ولذلك يُعدُ صرفُ العبادة لهم أو جزء منها قدحاً فيهم، وظلم لهم، ورفعهم فوق مرتبتهم التي أنزلهم الله إياها. فلهم منا الإيمان برسالتهم، وتعزيرهم ونصرهم، لا عبادتهم ودعائهم من دون الله. وأول نبي هو آدم - عليه السلام - وهو نبي مكلم. وأول رسول هو نوح - عليه السلام -، وآخر الأنبياء والرسل هو نبينا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - وهو سيد ولد آدم. ومقام النبوة والرسالة أعلى المقامات، لا كما يعتقده غلاة الرافضة حيث جعلوا الإمامة منصب إلهي كالنبوة يختارهم الله من سائر البشر، وهم معصومون من الكبائر والصغائر، ولا كما يعتقده الصوفية الغلاة، حيث يقول قائلهم:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
حيث جعل الولي أعلى من مرتبة النبوة والرسالة، وهذا من الضلال المبين نسأل الله العافية.
والإيمان بالقدر خيره وشره، أن تؤمن بأن كل شئ بقدر، وأن ما شاء الله كان ومالم يشاء لم يكن، وأن ما أصابك من نعمة فمن الله تفضل بها عليك، وما أصابك من بلوى ومصيبة فبسبب ذنوبك ومعاصيك: (ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك). وهي بقدر الله وتحت مشيئته.
وضلت في باب القدر فرقتان: القدرية والجبرية، وهدى الله أهل السنة والجماعة فقالوا: إن للعبد مشيئة وإرادة، ولكنها خاضعة لمشيئة الله وإرادته. (وما تشاءون إلا أن يشاء الله).(/2)
والإيمان باليوم الآخر، يتضمن الإيمان بكل ما نطق به الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة من أخبار اليوم الآخر، ومما يكون من أمر المعاد؛ فنؤمن بالشفاعة العظمى لنبينا - صلى الله عليه وآله وسلم -، ونؤمن بحوضه وأنه ترد عليه أمته ويذاد عنه المحدث في دينه، ونؤمن بالصراط، والميزان التي توزن فيه أعمال العباد، ونؤمن بنزول الجبار جل جلاله للفصل بين الناس، ونؤمن بأن الناس ينقسمون إلى فريقين، فأهل السعادة في الجنة جعلنا الله وإياكم منهم-، وأهل الندامة في النار-أعاذنا الله وإياكم منها-، ونؤمن بأن الجنة والنار باقيتان لا تفنيان، فأهل الجنة في نعيم دائم، وأهل النار في عذاب دائم. ونؤمن بأن أهل الجنة يرون ربهم وهو أعظم نعيم الجنة وأعلاه (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، (وجوهٌ يؤمئذ ناضرة إلى ربها ناظرة).
اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلي لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زيّنا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين. آمين.
3- ونعتقد بأن اليهود والنصارى وسائر المشركين، كفار لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً حتى يسلموا ويدينوا بدين محمد- صلى الله عليه وسلم -.
لقوله - تعالى -: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}. و لا يقبل الله من الناس إسلامهم بعد بعثة محمد- صلى الله عليه وسلم - إلا الإسلام الذي جاء به نبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام -، فدينه ناسخٌ للأديان كلها، ودعوى اليهود والنصارى أنهم مسلمون مردودٌ عليهم، لأن كتبهم المنزلة عليهم أمرتهم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واتباعه واتباع شرعه فأبوا. بل من سمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لم يؤمن به فهو خاسر وهو في النار؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار).
ويدافع بعض المفتونين من المسلمين عن اليهود والنصارى، ويقول بأن لهم دين صحيح، ولهم كتاب سماوي، ولهم أنبياء.. الخ. وهم بذلك لا يكفرون ولا نكفرهم.
ونقول لهؤلاء المفتونين ولغيرهم كيف لا نكفِّر من كفّره الله في كتابه، قال - تعالى -: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار}. وقال: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسَّنَّ الذين كفروا منهم عذابٌ أليم}.
وكيف لا يكفر من قال: يد الله مغلولة أو إن الله فقير: {وقالت اليهود يدُ الله مغلولة. غُلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء... الآية}. {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق}.
وكيف لا يكفر من قال عزير أو المسيح ابن الله، أو جعل الملائكة بنات الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- قال - تعالى -ذاكراً إفك اليهود والنصارى: {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون}. وقال - تعالى -ذاكراً إفك المشركين المستكبرين {وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم - سبحانه وتعالى - عما يصفون}. وقال: {ويجعلون لله البنات - سبحانه - ولهم ما يشتهون}.
ولذا قال العلماء: من ثبت كفره وجب اعتقاد كفره والحكم عليه به وإقامة ولي الأمر حد الردة عليه إن لم يتب، ومن لم يكفّر من ثبت كفره فهو كافر إلا أن تكون له شبهة في ذلك فلا بد من كشفها. اهـ. ومن يشك في كفر اليهود والنصارى وقد كفّرهم الله في كتابه في مواضع كثيرة؟!.
تنبيه: يحاول دعاة التقريب بين الأديان أن يروجوا لفكرة إنشاء معبد للديانات الثلاث الإسلام والنصرانية واليهودية. فإذا أراد المسلم الصلاة ذهب إلى المسجد، وإذا أراد النصراني الصلاة ذهب إلى الكنيسة، وإذا أراد اليهودي الصلاة ذهب إلى معبده، وكل أماكن العبادة هذه تكون في مكان واحد أو يحوطها سياج واحد. ولا ريب أن ذلك فيه إقرارٌ للباطل، والتسليم بصحة دين اليهود والنصارى، وهذا مما ترده النصوص الصحيحة الصريحة. وللجنة الدائمة فتوى بهذا الخصوص فقد جاء في سؤال لها: هل يجوز اتخاذ معبد للديانات الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلام؟
الجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
لا يجوز ذلك لأنه باتخاذه مشتركاً بين الثلاث لا يكون مؤسساً على التقوى بل على الشرك وعبادة غير الله فيه.
وليس هناك دين صحيح غير الإسلام لقوله - تعالى -: {ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.(/3)
4- ونعتقد بأن المسلم لا يكفر بذنب، إلا أن يستحله. كشارب الخمر -مثلاً- لا يكفر إلا إذا استحل شرب الخمر، أي قال: إنها حلال، فإنه يكفر، وهكذا الذنوب الأخرى.
-ونعتقد أن من الذنوب من يكفر صاحبها ولو لم يستحلها، كترك الصلاة مثلاً.
ونعتقد أن الكفر يكون بالقلب أو اللسان أو الجوارح. فكفر القلب، ككفر المنافقين الذين آمنوا في الظاهر وكفروا في الباطن. وكفر اللسان كمن يسب الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو الملائكة أو النبيين أو الدين. وكفر الجوارح كمن يلقي المصحف في القاذورات أو يسجد لصنم أو يذبح لغير الله.
والحذر الحذر من ولوغ اللسان في أعراض المسلمين بالتكفير أو التبديع، فإن العواقب وخيمة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أيُّما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) وفي رواية أبي داود: (أيما رجل مسلم أكفر رجلاً مسلماً فإن كان كافراً وإلا كان هو الكافر).
ومرتكب الكبيرة من المسلمين لا يكفر، بل هو فاسق وناقص الإيمان بكبيرته، ولا نكفره ولا نخرجه من الإسلام بكبيرته ولا نخلده في النار كما تزعمه الخوارج والمعتزلة. ومن مات من المسلمين الموحدين وهو مصرٌ على كبيرته ولم يتب منها فأمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه بقدر كبيرته ثم مآله إلى الجنة. لقوله - تعالى -: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء). ومن استحل من ذلك شيئاً ولو لم يعملها فهو كافر واستحق عذاب الكافرين.
5- ونوالي أهل الإيمان، ونعادي أهل النفاق والكفر والطغيان.
المولاة: هي بمعنى المودة والمحبة والنصرة، وضدها العداوة؛ أي البغض والكراهية. فمن كمال الإيمان محبة عباد الله المؤمنين وموالاتهم والخضوع لهم، ومعاداة الضالين الكافرين عبّاد الصليب والوثن.
قال - تعالى -: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم أو ابنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه... الآية}. فنفى الله عن أهل الإيمان أنهم يحبون أهل الكفر والطغيان، ولو كان هذا الكافر والمحاد لله أباً أو ابناً أو أخاً أو العشيرة. ومن قربهم أو والاهم أو أحبهم فليس بمؤمن حقاً، ولم يُغرس الإيمان في قلبه، ولم يؤيد بمدد من الله وإحسانه.
واليهود والنصارى وسائر المشركين، ليسوا بأولياء لنا، بل هم أولياء بعض، وهم يدٌ واحدة على المسلمين. ولذا تحرم موالاتهم ومحبتهم، ومن أحبهم ووالاهم فهو منهم: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.
وهم ليسوا بإخوة لنا لقوله - تعالى -: {إنما المؤمنون إخوة}. فمن دان بدين الإسلام الذي لا يقبل من أحد سواه، واتبع ملتنا، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، فهو أخونا له ما لنا وعليه ما علينا. وأما من رغب عن ملة الإسلام، وعادانا، وتربص بنا الدوائر، وضلّلنا، فكيف نسميه أخانا!.
وموالاة المشركين الكافرين، لا تنحصر في محبتهم أو نصرتهم أو توقيرهم، بل كل ما كان من شأنه رفع مكانتهم، أو تعظيم ما هم عليه، أو تقريبهم دون المسلمين، فهو داخلٌ في موالاتهم ومناصرتهم.
فالمشاركة في أعيادهم وطقوسهم من الموالاة. وإظهار الفرح والسرور في أعيادهم وتهنئتهم بذلك من الموالاة. والفرح بما يصيبهم من نعم أو نصر أو تمكين من الموالاة. وتخصيص يوم السبت أو الأحد بالعطلة أو تعطيلهما جميعاً فيه مشابهة للكفار، وهو تعظيم لهم وموالاة. والتبرع لهم لإقامة حفلاتهم ونحو ذلك فيه إعانة على الإثم والعدوان وموالاة.
تنبيه: لا يدخل في موالاة المشركين والكافرين، البشاشة في وجههم أحيانا، أو مواكلتهم أو الإحسان إليهم بما يرغبهم في الإسلام، فإن هذا ليس من الموالاة في شيء. والمنهي عنه هو التبسط والركون إليهم ومحبتهم وتوقيرهم فهذا مما لا ينبغي فعله أبداً.
6- ونؤمن بأن الدعاء والاستغاثة عبادة لله، وصرفها للمخلوق ظلمٌ وجور.
قال - تعالى -: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. فسمى الله من ترك دعائه مستكبراً عن عبادته. وقال - تعالى -: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين. ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين}. وفي هذه الآية أمرٌ من الله لعباده أن يدعوه وهم متضرعين أي ملحين، غير مجاهرين بدعائهم، بل مخفينه. وأمرهم أن يدعوه وهم وجلين خائفين مشفقين من عذابه، طامعين في رحمته وبره وإحسانه.
وقال - تعالى -: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أُجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}.
و عن النعمان بن بشير-رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} قال: (الدعاء هو العبادة). وقرأ: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} إلى قوله: (داخرين).(/4)
والاستغاثة من العبادة-أيضاً-: قال - تعالى -: {أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون}. وقال - تعالى -: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم}. والنبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده ومن سار على هداهم واقتفى أثرهم كانوا إذا أجدبت الأرض وحُبست السماء عنهم لجئوا إلى ربهم يدعونه ويستغيثون به لرفع البلاء عنهم، ويقولون اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، كما كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يفعل إذا أصابهم الجدب والقحط فإنه كان يرفع يديه ويقول: (اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا). وكانوا إذا حزبهم أمر يفزعون إلى ربهم يسألونه ويجأرون إليه ويستغيثون به.
فانظر إلى حال الموحدين الذين أخلصوا الدين لله في السراء والضراء، ثم انظر إلى حال من دعا غير الله أو استغاث به من مشركي اليوم. بل انظر إلى حال المشركين الأولين فإنهم كانوا أحسن حالاً من مشركي اليوم؛ فالأولون كانوا إذا ضاقت بهم السبل، وحلت بهم الشدائد، تركوا ما كانوا يعبدون من دون الله ولجئوا إلى الله مخلصين له موحدين، قال الله عنهم: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون}.
وأما مشركي اليوم فإنهم إذا حلت بهم الخطوب أو حل بهم البلاء دعوا أوليائهم وساداتهم ومشايخهم يطلبون منهم الغوث، ويسألونهم كشف البلاء. فهذا يقول: مدد يا جيلاني، وهذا يقول: أغثني يا بدوي، وهذا يدعو الحسين، وهذا ينادي شيخ طريقته ويسأله التوبة والمغفرة وهذا كله شركٌ بالله - عز وجل -. فمن يجيب المضطر إلا الله، ومن يكشف السوء إلا الله، ومن يدفع الضر إلا الله، ومن يجلب النفع إلا الله، ومن يشفي المريض إلا الله. قال - تعالى -حاكياً قول إبراهيم - عليه السلام -: {وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيينِ. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين}.
ومنشأ ضلال هؤلاء القوم-والله أعلم- أنهم لما أذنبوا وظلموا أنفسهم ظنوا أنهم ليسوا أهلاً لئن تُقضى حوائجهم أو تُرفع دعواتهم إلا عن طريق وسائط فيهم من الصلاح والتقى ما يكون أدعى لقبول طلبهم وقضاء حوائجهم. وغفل أولئك القوم عن ربهم وأنه - سبحانه - غير محتاج إلى من يرفع إليه حاجات عباده، فهو المطلع عليهم، العالم بخفاياهم {يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور}.
وهو قريبٌ منهم -بعلمه- يسمع كلامهم ويرى مكانهم. فقد روى أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنه معكم إنه سميع قريب تبارك اسمه وتعالى جده).
وخلاصة القول: أن الدعاء والاستغاثة عبادات، والعبادة لا تكون إلا لله الواحد الأحد لا شريك له، ومن دعا أو استغاث بغيره كائناً من كان فقد أشرك؛ ومن أشرك بالله فقد خسر خسراناً مبيناً.
7- ونعتقد أن التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يكون بدعائه وشفاعته وهو حيٌ؛ والمتوسل به بعد موته أو بجاهه-وجاهه عظيم- آثم عند الله.
والوسيلة: هي ما يتقرب إليه[إلى الله] من الواجبات والمستحبات.
وجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاله ابن تيمية.
والتوسل المشروع يكون: إما بالتوسل بالإيمان بالله وبطاعته، أو التوسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وبشفاعته وهو حيٌ، ومن هذا قول عمر بن الخطاب لما أجدبوا، قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.
والتوسل الممنوع هو: التوسل به[بالنبي - صلى الله عليه وسلم -] بمعنى الإقسام على الله بذاته، والسؤال بذاته، فهذا الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره… قاله ابن تيمية.
8- ونؤمن بأن الموتى في قبورهم يفتنون، فينعمون أو يعذبون.
قال - تعالى -: {وحاق بآل فرعون سوء العذاب، النارُ يعرضون عليها غدواً وعشياً. ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب}. فآل فرعون يُعرضون على النار في عالم البرزخ صباحاً ومساءً. والعذاب في البرزخ يكون على الروح؛ لكن قد تتصل الروح بالبدن أحياناً فيقع العذاب على البدن والروح جميعاً. ومما يستأنس به في ورود العذاب على البدن قوله - صلى الله عليه وسلم -: في الميت (ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه).(/5)
وعذاب القبر ونعيمه والابتلاء فيه، وإعادة الروح في الجسد، وسؤال الملكين، وسماع قرع النعال، وتضييق على الكافر في قبره، وتوسيع قبر المؤمن مد بصره... أمورٌ غيبها الله عنّا، فلا نعلم كيفية حدوثها، وعالم الغيب لا يُقاس بعالم الشهادة، ولكن نؤمن بها وما جاء فيها من أخبار وإن لم تقبلها أو أنكرتها عقول الزنادقة، فلا مجال ولا مدخل للعقل في عالم الغيب.
وفي حديث زيد بن ثابت-رضي الله عنه- ما يبين أن هذه الأمة تُبتلى وتمتحن في قبورها، ولولا أن لا يدفن بعضنا بعضاً، لدعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربه أن نسمع الذي سمعه من عذاب القبر. قال - صلى الله عليه وسلم -: (... إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار، قالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر. قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر…).
وفي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته أن يتعوذوا من عذاب القبر في صلاتهم، ما يدل على تحقق ذلك ووقوعه. فعن عائشة و أبي هريرة رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال).
وسؤال الملكين في القبر حقٌ، جاءت به النصوص الصحيحة الصريحة؛ فمنها:
حديث أنس رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (العبد إذا وضع في قبره وتولي وذهب أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فأقعداه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا من الجنة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيراهما جميعا وأما الكافر أو المنافق فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ثم يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين).
وليس العذابُ مختصاً بالكافرين والمنافقين، بل إن العاصي من المؤمنين قد يناله من هذا العذاب. فقد روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: مرَّ بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة… الحديث).
والخلاصة: أن الروح إذا خرجت من البدن فقد انتقلت إلى عالم البرزخ، وهي من أمور الغيب التي لا يمكن قياسها على عالم الشهادة، ولا نخوض فيها بعقولنا، بل نثبت ما جاء في الكتاب والسنة، ونقف حيث وقف السلف.
9- ونعتقد بأن رفع القبور، وتزينها بالرخام ونحوه، وتجصيصها، ووضع القباب عليها، وإسراجها، ووضع الستور عليها، وبناء المساجد عليها، أو دفن المقبور بها. كل ذلك محدث في الدين ومحرم، وهو وسيلة إلى الشرك. ونعتقد أن الطواف على القبور، والاستغاثة بالمقبورين، وسؤالهم ودعائهم شرك يحبط العمل.
وذلك أن الناس إذا رأوا قبراً مزيناً وعليه الستور والسُّرج والقباب، وزُيّن بالرخام ونحوه؛ تعلقت قلوبهم به، ولبّس عليهم شياطين الجن، وشياطين الإنس من السدنة ونحوهم، فأوقعوا في قلوبهم أن هذا الولي أو الرجل الصالح المقبور، يجلب لهم النفع، ويدفع عنهم الضرر، ويشفع لهم عند الله. ثم لا يلبثوا حتى يقعوا في الفتنة والشرك.
ومن أجل ذلك حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد. فعن جندب-رضي الله عنه- قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله - تعالى -قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك). وفي حديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي مات فيه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدا) قالت: ولولا ذلك لأبرزوا قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا. وعنها: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية فذكرت له ما رأت فيها من الصور فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله). فهذه الأحاديث الصريحة الصحيحة، قاضية بتحريم اتخاذ قبور الأنبياء أو الصالحين مساجد، سواءٌ بالبناء عليها، أو بدفن الميت فيها. وأما الطواف على القبور، وسؤال المقبورين، ودعائهم والاستغاثة بهم من دون الله فهو جحدٌ لحق الله، وشركٌ يحبط العمل.(/6)
وكذا يحرم تجصيص القبور، فعن جابر-رضي الله عنه- قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه.
ويحرم أيضاً- رفع القبور حتى يكون ظاهراً وبارزاً. فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته.
ومع صراحة الأحاديث في تحريم رفع القبور والبناء عليها وتزيينها، إلا أن كثيراً من الناس تعلقوا بالمقبورين، فأصبحوا يتقربون إليهم، ويذبحون عند قبورهم، ويقدمون القرابين لهم، ويطوفون بقبورهم، ويسألونهم من دون الله، ويرجون منهم النفع والضر، بل إن بعضهم يعتقد أن الدعاء عند القبر أجوب له من الدعاء في المسجد، والغلاة منهم من يفضل زيارة قبور شيوخهم على حج بيت الله الحرام. والواحد منهم يجد عند قبر من يعظمه رقه وخشوعاً لا يجدها في بيوت الله.
ووضعوا في ذلك أحاديث مكذوبة. كقولهم: إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور. وقولهم: قبر فلان ترياق مجرب. وغير ذلك من الكلام الباطل.
ولم يكن معروفاً عند السلف الصالح البناء على القبور أو شيء من هذه البدع، حتى ضعفت الدولة العباسية، وتسلطت الدولة الفاطمية العبيدية الرافضية- على الحكم، فأظهرت المذهب الشيعي الرافضي، وكان من أبرز ما أظهروه في تلك الفترة هو بناء الأضرحة، وبناء المساجد على القبور، وجعل لها سدنة يقومون على شئونها، ويجبون الأموال من الناس ظلماً وعدواناً. وقد ألف رجل من الرافضة يقال له (ابن النعمان) المعروف بالمفيد كتاباً في (مناسك حج المشاهد) حشد فيه من الأحاديث المكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فضل زيارة الأضرحة وما يقال عندها من الدعوات. وهذا ضلال مبين وخروج عن الصراط المستقيم، ولقد أفسدت هذه الأضرحة عقائد كثير من المسلمين، بما أدخلت عليهم في دين الله مالم يأذن به، وعلقت قلوبهم بالمخلوقين دون الخالق. ووقعوا في الشرك الذي يحبط العمل.
10- ونؤمن بجميع مشاهد يوم القيامة التي وردت في كتاب الله، أو ما صح من سنة رسوله. كل ذلك حق لا نشك فيه، ولا نرتاب.
فنؤمن بنفخة الصور وقيام الناس من مرقدهم إلى ربهم ليقضي بينهم، ولا فرق بين من مات مدفوناً تحت الأرض، أو في الماء غريقاً، أو التهمته النار؛ كل أولئك إلى ربهم يحشرون.
ونؤمن بدنو الشمس من الخلائق في أرض المحشر قدر ميل، ويعرق الناس بقدر أعمالهم (فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً).
ونؤمن بنزول ربنا -جل جلاله- إلى أرض المحشر نزولاً يليق بجلاله، للقضاء والفصل بين الخلق، وأن حملة عرشه يومئذ ثمانية ملائكة، -وهو غير محتاج لهم - {ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}.
ونؤمن بالميزان؛ وأن أعمال العباد توزن فيه على الحقيقة، {فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية. ومن خفت موازينه فأمه هاويه}.
ونؤمن بالحوض المورود، مسيرته كما بين المدينة وصنعاء، وآنيته كعدد نجوم السماء، وعنده نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم -، من مرَّ عليه شرب منه، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً. ومن أحدث في دين الله وغيّر وبدل فإن الملائكة لا تمكنه من ورود الحوض.
روى أنس-رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دوني فأقول أصحابي فيقول لا تدري ما أحدثوا بعدك).
ونؤمن بالصراط المنصوب على متن جهنم، ويمر عليه الناس حتى الأنبياء والرسل: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً . ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}. والناس في مرورهم بحسب أعمالهم، فمنهم من يجتازه كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم من يمشي. وعليها كلاليب كأشواك السعدان تخطف من أُمرت بخطفه، (فناج مُسلَّمٌ، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم).
ونؤمن بالشفاعة التي تكون يوم القيامة وهي كثيرة، ولنبينا - عليه الصلاة والسلام - ستة أنواع من الشفاعة.
فمنها: الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود المذكور في قوله - تعالى -: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً). فيتخلى عنها النبيون ويقوم بها نبينا عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فيأتي ويسجد تحت العرش. قال أنس-رضي الله عنه- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (… فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقال ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع.. الحديث).
ومنها: شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأهل الجنة في دخولها.
ومنها: شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار، فيشفع لهم أن لا يدخلوها.(/7)
ومنها: شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين دخلوا النار بذنوبهم، فيخرجون منها بشفاعته - صلى الله عليه وسلم -. ففي حديث أنس في الشفاعة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي مثله ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الرابعة فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود) قال أبو عبد الله: إلا من حبسه القرآن يعني قول الله - تعالى -: {خالدين فيها}.
ومنها: شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجاتهم.
ومنها: شفاعته- صلى الله عليه وسلم - في تخفيف العذاب عن بعض الكفار، وهذه خاصة بأبي طالب وحده. فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر عنده عمه فقال: (لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه).
ومنها: شفاعة النبيون، والملائكة، والمؤمنون.
ومنها: شفاعة الشهداء. فعن المقدام بن معديكرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (للشهيد عند الله ست خصال يغفر له في أول دفعة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الأكبر ويحلى حلة الإيمان ويزوج من الحور العين ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه).
واعلم أن الشفاعة لا تكون مقبولة إلا بتوفر شرطين: أولهما: أن يأذن الله للشافع في الشفاعة، والثاني: أن يرضي الله عن المشفوع له. وهي في قوله - تعالى -: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}. وقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}.
11- ونؤمن بأن محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب الهاشمي القرشي، نبياً ورسولاً؛ أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس، بشيراً ونذيراً، وهو خاتم النبيين.
لا كما تدعيه النصارى وغيرهم من أنه رسولٌ إلى العرب فقط.
منَّ الله عليه بالرسالة وأكرمه بها، وهي رحمةٌ للعالمين، فهدى الله به من هدى إلى الصراط المستقيم، وضل عن طريقه من قضى الله عليه أنه يكون من الخاسرين.
وهو- صلى الله عليه وسلم - بشرٌ يعتريه ما يعتري البشر من التعب، والمرض، والنسيان؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون.. الحديث) (). ولكنه إذا كان في مقام التشريع والتبليغ عن الله فإنه لا يمكن أن يتطرق الوهم أو الغفلة أو الخطأ عليه - صلى الله عليه وسلم -، وإن أخطأ فإن الله لا يقره على ذلك بل يبينه له.
وله - صلى الله عليه وسلم - من الخصائص لا تكون لغيره، فمن خصائصه أنه يتبرك بآثاره، فيتبرك بشعره، وبريقه، وبعرقه، وبالماء الذي يفضل من وضوءه، وكان الصحابة يلتمسون ذلك ابتغاء الشفاء، وحصول البركة. وهذا في حياته فقط. وأما الآن فلم يبقى شيءٌ من آثاره حتى يُتبرك بها.
ونُعظم نبينا - صلى الله عليه وسلم - حياً وميتاً، ولا نغلو فيه ولا نجفو عنه. فلا نقول إنه رجلٌ عبقري وذكي، كما تقوله الفلاسفة القدماء ومن تأثر بهم في هذا العصر. ولا نغلو فيه كالصوفية الذين يدعونه، ويستغيثون به من دون الله ويسألونه المدد وقضاء الحوائج، وتفريج الكربات.. وغير ذلك من الأمور التي لا تكون إلا لله جل في علاه.
و لا نقول كما قال قائلهم:
يا اكر الخلق ما لي من ألوذ به *** سواك عند حلول الحادث العمم
فمن جودك الدنيا وضرتها ***ومن علومك علم اللوح والقلم
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي *** فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فسبحان الله! ماذا أبقى هذا الضال لله - عز وجل -؟. مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله).
ومحبة رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - واجبة، وهي مقدمة على النفس والمال والأهل والوالد والولد: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين).
ولا نُقيم له مولداً إظهاراً لحبه، لأننا نتبع ولا نبتدع، فلم يأمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - بذلك، ولم يفعله صحابته من بعده وهم أشد الناس حباً له، وأحرص الناس على الخير-، ولم يفعله التابعون من بعدهم، ولا تابع التابعين. فعلم من ذلك أن عمل المولد له - صلى الله عليه وسلم - بدعة في الدين لم يأذن بها الله. وأول من أحدث بدعة المولد رجلٌ يقال له: عمر بن محمد الملا، ثم عمل بها المظفر ملك إربل من بعده. ثم روج لهذه البدعة دولة عبيد بن القداح الدولة الفاطمية الرافضية الباطنية. حيث نشرت هذه البدعة في المساجد وروجت لها.
وأهل التصوف ينقمون علينا في ذلك ويقولون أنتم لا تحبون النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونقول لهم: حبه - صلى الله عليه وسلم - يكون في اتباع هديه والاستنان بسنته، وسلوك سبيله، فنحن متبعين لا مبتدعين.
وكل خير في اتباع من سلف *** وكل شر في ابتداع من خلف
12- ونتولى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأهل بيته، وحبهم من الدين.(/8)
قال الطحاوي في عقيدته: ونحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نُفْرط في حب أحدٍ منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونُبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم. ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان.
قال الله - تعالى -: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان - رضي الله عنهم - ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}. وقال - تعالى -: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}. وقال - تعالى -: {للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون. والذين تبوءوا الدار والإيمان يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أُوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم}. ففي هذه الآيات ثناء الله على المهاجرين والأنصار ومن بايعه تحت الشجرة، وفيه رضاه عنهم؛ ورضى الله عن العبد يستلزم محبته له ونصره وإكرامه بدخول جنته التي أعدها لعباده الصالحين. ثم ندبنا الله إلى الاستغفار لهم وألا نحمل في صدورنا شيئاً عليهم. وحُرم علينا سبهم أو القدح بهم قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه).
ولا نخوض فيما جرى بينهم من فتن وقتال، ولا نجور على أحدٍ منهم، بل ننزلهم منازلهم، وهم ما بين مصيب له أجران، ومخطئ متأول -مغفورٌ له-، له أجرٌ واحد. وهم قومٌ سلمت أيدينا من الخوض في دمائهم؛ فلتسلم ألسنتنا من الخوض في أعراضهم.
وأهل بيته - صلى الله عليه وسلم - لهم من الخصوصية ما ليس لغيرهم من التوقير والنصرة والذكر الحسن. فقد حدث زيد بن أرقم-رضي الله عنه- فقال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فينا خطيبا بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة: (فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي فقال له حصين ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته قال نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال ومن هم قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس قال كل هؤلاء حرم الصدقة قال نعم). والمعنى: أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن من التوقير والنصرة والمحبة مثل ما لآل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس، ولكن ينفرد أولئك عنهن بتحريم الصدقة عليهم وإلا فهن من أهل بيته - صلى الله عليه وسلم - بنص القرآن قال - تعالى -: {يا نساء النبي لستن كأحدٍ من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً. وقرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}.
والرافضة غلت في هذا الباب غلواً كبيراً. فعظمت علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- حتى رفعوه عن مرتبة الصحبة والبشرية، إلى مرتبة النبي المعصوم، والغالية منهم عدوه إلهاً يعبد من دون الله. وفي المقابل كفّرت الرافضة أكثر الصحابة ووصفتهم بالردة ولم يستثنوا منهم إلا عدد يسير. فقاتل الله الرافضة الذين كذبوا بالكتاب والسنة، فالله يثني على صحابة رسوله في كتابه ويرضى عنهم، ورسوله- صلى الله عليه وسلم - بشّر كثيراً منهم بالجنة، ونهى عن سبهم، ثم يأتي أولئك الزنادقة فيسبون خير البشر بعد الأنبياء والرسل.
ولم يسلم بيته - صلى الله عليه وسلم - من طعن الرافضة ووصفهم لعائشة-أم المؤمنين-رضي الله عنها- بالجريمة الشنيعة التي برأها الله منها، ومن كان عنده ذرة من إيمان ويقرأ القرآن فلا يلتفت إلى قول المبطلين ويترك كلام رب العالمين.
وأهل العلم والإيمان يقولون: أهل بيته - صلى الله عليه وسلم - لهم حق النصرة والمحبة والتعظيم اللائق بهم. وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم شرف الصحبة التي لا يدانيها منزلة. فهم قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه، وقاتلوا معه، ونصروا دينه، ونزل عليهم القرآن، وقدموا أنفسهم وأرواحهم وبذلوها لدين الله، وحملوا سنة نبيهم وبلغوها إلى الخلق. فرضي الله عنهم، وجزاهم الله عنا كل خير، وجمعنا الله بنبينا وبهم في جنته؛ اللهم آمين.
13- ونرى أن طاعة ولي الأمر -في غير معصية الله- واجبة.(/9)
قال - تعالى -: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. وولاة الأمر هم العلماء والأمراء. فالعلماء يسوسون الناس ويحكمون فيهم بشرع الله، والأمراء يلزمون الناس ويحملونهم على تنفيذ الشريعة.
قال الطحاوي: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله - عز وجل - فريضة، ما لم يأمروا بمعصية الله، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة. وهذه قواعد عظيمة وأصول جليلة في التعامل مع الولاة. وبيانها كالتالي:
أولاً: أن طاعتهم من طاعة الله - عز وجل - مالم يأمروا بمعصية. فطاعتنا لولاتنا طاعة لله - عز وجل - فهو الذي أمر بطاعتهم والانصياع لهم، فالمطيع لهم مطيعٌ لله ولرسوله مأجور ومثاب عليها، والعاصي عليهم، عاصٍ لله ولرسوله وهو مأزور غير مأجور.. وطاعتهم في غير معصية الله فإن أمروا بمعصية فلا سمع ولا طاعة. قال - صلى الله عليه وسلم -: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).
ثانياً: أن لا نخرج على أئمتنا وولاة أمرنا، والخروج عليهم سبيل أهل البدع، والخارج على أميره متوعد على لسان نبيه بالعقوبة. فعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كره من أميره شيئا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية).
ثالثاً: أن الظلم والجور من الولاة لا يسوغ الخروج عليهم، ما لم يأتوا كفراً صريحاً لا شك فيه ولا ارتياب. فعن عبادة بن الصامت-رضي الله عنه- قال: دعانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرةً علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان.
ولا يجوز لآحاد الناس أن يحكم بكفر الولاة إن صدر منهم شيء من ذلك، بل مردُ ذلك إلى أهل العلم الراسخين فيه، فهم الذين يعلمون كيف تُقام الحجة، وهل هذا الفعل كفري أو لا؟ وهل وجدت الشروط وانتفت الموانع؟. إلى غير ذلك من المسائل التي تجعل الحكم بكفر أحدٍ من الناس عسيراً لا يستطيعه إلا الراسخون في العلم.
رابعاً: أن لا ندعو على ولاتنا إلا بخير. فندعو لهم بالصلاح والمعافاة، فبصلاحهم تصلح الرعية ويسود الأمن والرخاء، وبفسادهم وظلمهم ينال الناس العذاب وضيق العيش. والدعاء عليهم يفسد أكثر مما يصلح، ولا فائدة فيه بل قد يأثم الداعي. ولو اشتغل الناس بإصلاح أنفسهم وإصلاح من حولهم، وأقاموا شعائر الله، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وعملوا الصالحات واجتنبوا السيئات، لكان فيه خيرٌ كثيرٌ لهم، ولصلحت أحوالهم ولما احتاجوا لئن يدعو على حكامهم وولاتهم.
14- ونؤمن بالمعجزات والكرامات.
فالمعجزات والكرامات: أمورٌ خارقة للعادة، تكون للأنبياء وعباد الله الصالحين المتقين. وتطلق المعجزة عادةً على خوارق العادات التي تجري على أيدي الأنبياء، كإنجاء الله لإبراهيم- عليه السلام - وكون النار برداً وسلاماً عليه، وإبراء عيسى - عليه السلام - للاكمه والأبرص-بإذن الله- وإحياء الموتى-بإذن الله-، وانقلاب عصا موسى- عليه السلام - حيةً تسعى بعد أن كانت جماداً لا حراك بها، ونبينا- عليه أفضل الصلاة والسلام -- له معجزاتٌ كثيرةٌ جداً كنبع الماء بين يديه، وتسبيح الطعام وهو يؤكل، وغيرها من المعجزات، وأعظم معجزة له - صلى الله عليه وسلم -؛ هو القرآن العظيم الذي أنزله الله عليه، فهو كلام الله المعُجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فتحدى الله به الثقلين أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة؛ ولم يستطيعوا ولن يستطيعوا.
والمعجزات يأذن بها الله لأنبيائه لتأييد دعوتهم، وإظهار صدقهم، وتقوية إيمان اتباعهم، ولأن أكثر الناس فيهم من العناد والتكذيب لا يزيله إلا مثل هذه الآيات التي تزيل الريب من قلوبهم.
وأما الكرامات: فهي تكون لعباد الله الصالحين المتقين، فيجري الله على أيديهم من خوارق العادات إكراماً لهم، وهي تدل على قوة إيمانهم، وصدق توكلهم على ربهم، وتأييد الله لهم. وكرامات الصحابة والتابعين كثيرة جداً، فمنها: تنزل الملائكة لقراءة أُسيد بن حضير-رضي الله عنه-. ومنها: أن خبيب بن عدي-رضي الله عنه- لما أُسر في مكة كان يأتيه عنب فيأكله وهو موثوق اليدين، ولم يكن بمكة عنبة واحدة. ومنها: أن أويس القرني كان مستجاب الدعوة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حث عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-على أن يطلب من أويس أن يستغفر له إذا رآه، وكذلك فعل.(/10)
ولا تكون الكرامة إلا لأهل الصلاح والتقى، ومن ظهرت عليه خوارق العادات وهو مفرط في الصلوات، منتهك للمحرمات، فهو ليس من أهل الكرامة، بل من أهل الدجل والشعوذة، وما حدث على يده، كان بسبب إعانة الشياطين له، لأن الكرامة تأييد من الله، ودلالة على المحبة، ومنتهك المحرمات ليس محبوباً إلى الله حتى ينال هذه المرتبة. ولذا قيل: إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء، أو يمشي على الماء، فلا تغتروا به حتى تروا وقوفه عند الأوامر والنواهي.
15- ونؤمن بوجود السحر وأن له حقيقة، وأن الساحر مشركٌ بالله أو ظالم معتدي.
قال - تعالى -: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون}. وهذه الآية وغيرها من الآيات تدل على وجود السحر وأنه ابتلاء وفتنة، وأن له حقيقة فيفرق بين الرجل وزوجه وبين المرأة وزوجها، ولكن ذلك تحت مشيئة الله وبإذنه، فإذا أذن الله لشيء كان وإلا لم يكن.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - سُحر؛ سحره لبيد بن الأعصم اليهودي. قالت عائشة-رضي الله عنها- قالت: (سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم قالت: حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله... الحديث). والسحر الذي تعرض له الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان من جنس أنه كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله أي: أنه كان يخيل إليه أنه يأتي أهله ولم يأتهم. ولم يكن هذا الذي تعرض له الرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤثراً على عقله أو مانعاً له من تبليغ رسالة ربه، ولا يقدح هذا في صدق نبوته، بل هذا من أبين الدلائل على صدقه لأنه بشرٌ يعتريه ما يعتريهم من الآلام والمصائب {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إلهٌ واحد... الآية}.
والسحر في الشرع ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: عقد ورُقى، حيث يتوصل الساحر بقراءة بعض الطلاسم والشركيات، والنفث بريقه الخبيثة، إلى استخدام الشياطين في التأثير على المسحور، -وهذا هو الغالب على عمل السحرة الآن.
القسم الثاني: عقاقير وأدوية، تؤثر على بدن المسحور وعقله.
وحكم الساحر ينقسم إلى قسمين أيضاً-: فمن كان سحره بواسطة الشياطين فإنه يكفر، ومن كان سحره بالأدوية والعقاقير ونحوها فلا يكفر ولكنه يعتبر عاصياً معتدياً.
والساحر يُقتل بكل حال-سواءٌ قلنا يكفر بسحره أو لا يكفر- ولا يستتاب؛ لأنه ساعٍ في الأرض بالفساد، فهم يؤذون الناس في أبدانهم، وعقولهم، وأهليهم، ولذا كان في قتلهم دفعاً لشرهم، وردعاً لأمثالهم. فعن أبي الشعثاء قال: كنت كاتباً لجزء بن معاوية، عم الأحنف بن قيس، إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: (اقتلوا كل ساحر... قال: فقتلنا في يوم ثلاثة سواحر... الحديث). قال ابن عثيمين: والقول بقتلهم موافق للقواعد الشرعية؛ لأنهم يسعون في الأرض فساداً، وفسادهم من أعظم الفساد، فقتلهم واجب على الإمام، ولا يجوز للإمام أن يتخلف عن قتلهم؛ لأن مثل هؤلاء إذا تركوا وشأنهم انتشر فسادهم في أرضهم وفي أرض غيرهم، وإذا قتلوا سلم الناس من شرهم، وارتدع الناس عن تعاطي السحر.
وتعلم السحر كفرٌ، لقوله تعالى-حكاية عن هاروت وماروت-: {إنما نحن فتنة فلا تكفر}.
وحلّ السحر يكون بإحدى ثلاث طرق:
الأول: أن يعثر المسحور على مكان السحر، ويحرق أو يتلف السحر.
الثاني: حلّ ا لسحر بالقرآن الكريم والأدعية النبوية.
الثالث: حل السحر بسحر مثله، وهذا محرم. سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النشرة فقال: (هو من عمل الشيطان).
والنشرة: هي حل السحر بسحرٍ مثله.
16 - ونعتقد بأن الكهانة والعرافة والتنجيم إدعاءٌ للغيب؛ وعلم الغيب لا يكون إلا لله - عز وجل -.(/11)
فالكاهن: هو الذي يدعي علم الغيب ويخبر عن الأمور المستقبلة، والعراف: أعم من الكاهن؛ فيشمل الكاهن والرمّال والذي يضرب الحصى والمنجم. وكله من الدجل والشعوذة. والكاهن قد يتكلم ببعض الأمور المستقبلة فتقع كما أخبر، وليس ذلك من علم الغيب ولكن لأن له معيناً من الشياطين يخبره بما قدرت عليه الشياطين من استراق السمع. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء). إذا فالكاهن قد يقول شيئاً ثم يقع؛ لكن يكذب معه مائة كذبة. وإذا عُلم هذا، علمنا أن إدعاء الكاهن للغيب زورٌ وكذب وبهتان، وإنما هي أخبارٌ استرقتها الشياطين فألقتها إلى إخوانهم الكهان.
وإتيان العراف والكاهن محرم. لحديث صفية-رضي الله عنها- عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). وحديث أبي هريرة والحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -). والحديثان ظاهرهما التعارض؛ ولكن عند التأمل يزول الإشكال ولا يكون هناك تعارض. يبين ذلك التقسيم التالي:
أولاً: من أتى الكاهن أو العراف فسأله من دون أن يصدقه، فإنه لا تقبل له صلاة أربعين ليلة.
ثانياً: من أتى الكاهن أو العراف فسأله وصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وهناك قسمة ثالثة: من أتى الكاهن أو العراف لاختباره ومعرفة صدقه من كذبه، وفضح أمره إن كان كاذباً، فهذا مأجورٌ على فعله ولا يدخل فيمن توعد في الأحاديث السابقة، يدل لذلك اختبار النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن صياد، فقال له-النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خبأت لك خبيئا قال: الدخ. قال: اخسأ فلن تعدو قدرك... الحديث).
وأما التنجيم: فهو تفعيل من النجم، ومعنى نجم أي تعلم علم النجوم أو اعتقاد تأثير النجوم. والمنجم هو الذي يزعم أنه سيكون كذا لأن النجم الفلاني صار كذا، أو يقول أن فلان سوف يشقى في حياته لأنه ولد في النجم الفلاني، وغير ذلك من التخرصات والظنون الكاذبة.
تنبيه: كل ما كان فيه إدعاء لمعرفة الغيب فهو كهانة، كالخط على الرمل، والضرب على الحصى، (وقراءة الكف ) فكلها كهانة.
وليس من الكهانة الإخبار عن كسوف الشمس أو خسوف القمر، لأن ذلك يخضع إلى حسابات معينة يقوم بها (الفلكيون) للاستدلال بها على الكسوف والخسوف أو الظواهر الفلكية الأخرى، فهو ليس من علم الغيب. وليس من الكهانة معرفة أحوال الطقس المقبلة، لأن ذلك يستند إلى أمور تدرك بالحس والمشاهدة.
تنبيه آخر: تخصص بعض المجلات صفحة أو بعض صفحة، تروج فيها إفك المنجمين، وتعنون لها بحظك اليوم أو برجك اليوم زوراً وبهتاناً، وحقيقته دجل وتنجيم وتخرص وظنون كاذبة.
والله اعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين
تم الفراغ منه في ليلة السبت الموافق للتاسع من شهر الله المحرم لعام ألف وأربعمائة وإحدى وعشرون للهجرة النبوية الشريفة...
http://saaid.net المصدر:(/12)
هرمجدون والمزايدة على الخرافات
الشريف حاتم العوني * 23/7/1423
30/09/2002
أثار في الآونة الأخيرة كتاب: (هرمجدون آخر بيان يا أمة الإسلام) لمؤلفه أمين محمد جمال الدين، اهتماماً واسعاً لدى الجماهير المسلمة بسبب ما تضمنه من آثار تحدثت عن ظهور المهدي قبل حلول العام 1430هـ، والكتاب المذكور كتاب فيه حق قليل وباطل كثير، فضاع حقه في باطله، وشوهه المؤلف بتفسيراته وتأويلاته البعيدة.
فنحن إذ نقرر صحة بعض ما أورده الكاتب من علامات الساعة وأخبار الملاحم، من خلال الأحاديث الثابتة في ذلك، إلا أن القسم الأكبر من تفاصيل ذلك مما أورده الكاتب باطل مكذوب، وقد استغل الكاتب تلك التفاصيل المكذوبة ليُنزلها على الواقع، وليفسر بها إجمال الأحاديث الصحيحة وهذا منهج خطأ؛ لأنه يوهم أن تلك الأحاديث لا تعني إلا ذلك المعنى الذي أخذه من الأحاديث المكذوبة، وأنها تمثل الحديث عن واقعنا المعاصر فعلاً.
ومن أشنع ما اعتمد عليه الكاتب ذلك الكلام السمج الذي نسبه إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – نقلاً عن كتابٍ لمؤلف أفاكٍ أثيم، ادعى أنه اطلع على مخطوط في تركيا، يتضمن الحديث عن المهدي.
ولا يشك كل من شم رائحة العلم، أن هذا الكتاب المدَّعى كذب وإفك، جازى الله واضعه أسوأ الجزاء، وجلله بالفضيحة والخزي في الدنيا والآخرة.
إن أدلة وضع تلك النقول على رسولنا – صلى الله عليه وسلم – أكثر من أن تحصى: منها انفراد ذلك الكاتب المجهول بها، وانفراد ذلك المخطوط المزعوم بها، وانفراد مؤلفه المجهول بها مع كثرة ما كتبه أئمة الإسلام في جميع عصوره عن المهدي وعلامات الساعة وجمعهم ما صح في ذلك وما ضعف وما بطل، وليس فيها تلك النقول، ثم أين إسناد ذلك المؤلف المزعوم أنه من علماء القرن الثالث؟ حتى ننظر في إسناد خبره ذاك، وهذه هي فضيلة الإسناد! إذ (لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء)، كما كان يقول عبد الله بن المبارك وغيره من أئمة الإسلام، ثم من يخفى عليه ما تضمنته تلك النقول من الركاكة والسماجة في الألفاظ والأسلوب، التي هي أبعد ما تكون عن بيان وجلالة الأحاديث النبوية، فمن أمثلة سماجة هذه النقول النص التالي، وهو في كتاب هرمجدون (ص: 22): "وفي عراق الشام متجبر ... و ... وسفياني، في إحدى عينيه كسل قليل، واسمه من الصدام، وهو صدام لمن عارضه، الدنيا جمعت له في (كوت) صغير، دخلها وهو مدهون، ولا خير في السفياني إلا بالإسلام، وهو خير وشر، والويل لخائن المهدي الأمين".
إلى غير ذلك من النقول (كما في ص: 39 – 40)، مما لا يخفى كذبه على عاقل، فضلاً عن عالم!!
إن اعتماد مؤلف كتاب (هرمجدون) على مثل هذه النقول، يدل على أحد أمرين: إما على جهل بالغ بالسنة، لا يجوز معه أن يتفوه فيها إلا بما صححه الأئمة المعتبرون، أو أنه ضم مع الجهل السابق غرضاً دنيوياً فاسداً، أراد من ورائه الشهرة والمال، أو إفساد دين الأمة وتصوراتها.
المقصود أن المؤلف جاهل - ولا شك - بالسنة، وواضح كل الوضوح أنه ليس من أهل التخصص فيها، لا من قريب ولا من بعيد، ومثله لا يجوز أن يقرأ له في العلم الذي يجهله، ولا أن نسمح له أن يكتب فيه، وأولى بالحكومة الإسلامية أن تقوم بتأديبه وردعه، حتى لا يعود إلى مثل هذا التجرؤ على دين الأمة وإلى مثل هذا التلاعب بعقول المسلمين الجهلة بعلوم دينهم، وسنة نبيهم – صلى الله عليه وسلم -.
والكتاب مشحون بالأباطيل والمناكير، مما نقله عن كتاب (الفتن) لنعيم بن حماد، وإن كان نعيم بن حماد عالماً صادقاً، لكن كتابه هذا أكثره باطل أو من الإسرائيليات وعذر نعيم بن حماد في ذكره لها: أنه كان يذكرها بأسانيدها، ليُحيل قارئ كتابه (من أهل العلم) إلى تلك الأسانيد، ليميز صحيحها من ضعيفها، وهذا العذر غير مبسوط لمؤلف كتاب (هرمجدون)؛ لأنه حذف الأسانيد، بل تجاوز ذلك إلى إيهام القراء بصحة ما ينقله من كتاب (الفتن)، بثنائه على نعيم بن حماد بأنه شيخ البخاري؛ وكأن ذلك وحده كافياً لقبول كل ما أورده في كتابه دون النظر في إسناد!!! بل لقد تجاوز المؤلف ذلك كله إلى اعتماد نصوص كتاب (الفتن) لنعيم بن حماد، وكأنها نصوص في القرآن أو صحيح السنة.
لقد حذر العلماء من الاغترار بأحاديث الملاحم وأشراط الساعة؛ لأن أكثرها لا يصح. كما قال الإمام أحمد "ثلاثة كتب ليس لها أصول .. وذكر منها: "الملاحم". وكتاب "الفتن" لنعيم بن حماد أوضح مثالٍ لهذا الذي ذكره الإمام أحمد.(/1)